القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية من أنا الفصل الحادي والعشرين حتى الفصل السادس والعشرين بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج

رواية من أنا الفصل الحادي والعشرين حتى الفصل السادس والعشرين بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 



رواية من أنا الفصل الحادي والعشرين حتى الفصل السادس والعشرين بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 


البارت 21

أغمضت عينيها ثم فتحتهما عدة مرات، تحاول التأكد مما تراه. أهو حقيقة أم مجرد وهم نتج عن مشاهدتها المتكررة لأفلام الرعب؟ اقتربت بحذر من قدميه ولمستهما بيدين مرتجفتين. 

فجأة، تحركت القدمان وسُحبتا بسرعة إلى أسفل السرير! تجمدت مكانها للحظة قبل أن تدرك الحقيقة المُرعبة.

 هناك شخص يختبئ تحت سريرها. شعرت بصدمة هائلة تخترق كيانها، فاندفعت خارج الغرفة وهي تصرخ بأعلى صوتها، تبحث عن النجاة.


-"يونس"! ماما! بابا! إلحقوني! في حد في الأوضة تحت السرير! حد يلحقني!


لم يخرج أحد إليها، فقد اعتاد الجميع سماع صراخها في منتصف الليل بعد مشاهدتها للأفلام المرعبة، مما جعلها تعاني من الكوابيس التي تثيرها تلك الأفلام.

 لذا، لم يخرج إليها أحد سوى والديها. كان والدها غاضبًا من تصرفاتها، وقبل أن يتمكن من توجيه أي كلمة لها، ركضت نحوه واختبأت خلفه قائلةً بصوت مملوء بالذعر:

-تحت السرير... في حد تحت السرير! في راجل في الأوضة، نايم تحت السرير!


 التفت "أحمد" إليها ظنًا منه أنها قد شاهدت كابوسًا، وكان على وشك أن يوبخها لكي تبتعد عن الرعب، لكنه عندما لمح الرعب في عينيها، توقف وقال:

_ تعالي معايا نشوف في إيه، يمكن يكون كلامك صح وأشك طبعا؟ ولا دي كوابيس من الرعب إللي مش عايزه تبعدي عنه.


تحرك "أحمد" وزوجته نحو الغرفة، بينما كانت "مريم" تسير خلفهما، خائفة وقلقة. لم تفارق ذهنها صورة القدمين ذواتي الحذاء الممزق، وكانت تحاول جاهدة التركيز لتتذكر: هل كانت تلك الرؤية حقيقية أم مجرد خيال؟ لكن إحساسها بالواقع ازداد قوة عندما لمست قدميه وشعرت بحركته، مما أثار في نفسها تساؤلاً مرعبًا: "هل هو عفريت من الجن؟"


تسللت هذه الفكرة إلى عقلها وجعلتها ترتعش خوفًا، فتعلقت بذراع والدتها ووقفت خلفها. حينها، فتح والدها الباب بحذر وألقى نظرة دقيقة حول الغرفة، فلم يرَ شيئًا. ثم انحنى ليلقي نظرة تحت السرير، ولكن لم يكن هناك أي أثر لما وصفته "مريم".


أطلق "أحمد" زفرة مليئة بالضيق واستقام قائلًا:

_مريم، كفاية بقى! الموضوع زاد عن حده. كل ده من أفلام الرعب اللي بتتفرجي عليها.. نامي بقى وبلاش رعب تاني، عشان لو فضلتي كده هتشوفي حاجات أكتر. ومفيش حاجة في الأوضة.


 نظرت إليهم بنظرة خالية من أي تعبير، كأنها لم تعرف ماذا تفعل. جالت عيناها في الغرفة، لكنها لم تجد ما يلفت انتباهها. 

تنهدت بضيق وقررت أن تنسى ما حدث، مقنعةً نفسها بأنه مجرد خيال بسبب ما رأته. توجهت نحو سريرها وجلست على حافته، وقالت:


-آسفة يا ماما، مش هتكرر تاني. تصبحوا على خير.


-وإنت من أهله، نامي وارتاحي، بلاش تفكير.


خرج والداها وأغلقا الباب خلفهما. استلقت على سريرها وعيناها تحدقان في سقف الغرفة، حيث أبى النوم أن يأتي إلى جفنيها. كلما أغمضت عينيها، كانت صورة تلك القدمين تطفو في ذاكرتها، مما أثار قلقها وأرقها.


نهضت من مكانها وانحنت لتفقد ما تحت السرير، على أمل أن تعثر عليها مجددًا وتكشف الغموض، ولكن دون جدوى.

 شعرت بإرهاق شديد وألم في رأسها، فبدأت تتحرك عشوائيًا في أرجاء الغرفة، وهي تتنفس بعمق. أثناء تحركها، لمحت شيئًا يلمع على الأرض بالقرب من الباب.


اقتربت منه لتكتشف أنه قلادة غريبة الشكل، بدت وكأنها قديمة. نظرت إليها بدهشة، فقد أدركت أنها لم ترَ شيئًا مشابهًا لها من قبل. هنا، تأكدت أن ما رأته كان حقيقيًا، وهمست قائلة:

«إيه ده؟! ده مش ممكن يكون خيال! يعني اللي شفته كان صح، في حد دخل أوضتي، بس كان بيعمل إيه تحت السرير؟»


استلقت مجددًا على سريرها، غارقة في التفكير، حتى أسلمت نفسها للنوم من شدة الإرهاق.

*********** 

في صباح مشمس، اجتمع الجميع حول مائدة الإفطار في جو عائلي مليء بالبهجة والسرور. 

كانوا يتناولون وجبة الإفطار معًا لبدء يوم جديد، وفي تلك اللحظة، نظر "أحمد" إليهم وقال:

                       

_"يونس" "حسام"، جهزوا نفسكم، هنروح على المطعم. بقالنا مدة غايبين عنه، والشغل قلّ، لازم نرجع ونكبر المطعم.


أجابه "يونس" ونظره متجه نحو "تقى" قائلاً:


_ تمام يا بابا، أنا كنت لسه هقولك نفس الكلام. بعد الفطار، إنت روح الأول ، وانا هحصلك علطول .. بس لو سمحت عايز أتكلم مع "تقى" شوية.


_ ماشي يا ابني، لو هي موافقه، كلمها وتبقى معاكم "إيلول"، ولما تخلص تعال ورايا.


ثم وجه حديثه إلى "تقى" قائلاً:

_ "تقى" يا بنتي، حابة تقعدي معاه ولا لأ؟ لو مش حابة، مفيش مشكلة، اتكلمي من غير كسوف؟


-مفيش مشكلة يا عمو، هقعد معاه شوية نتكلم.


بعد إتمامهم لوجبة الإفطار، انطلق كل فرد إلى عمله، بينما اختار البعض البقاء في المنزل. 

خرج "يونس" مع "تقى"، ومعهما "إيلول"، حتى تتمكن "تقى" من الحديث براحة.

 جلسوا في حديقة المنزل الصغيرة، حيث كانت الأشجار تظلل المكان بضوء الشمس الخفيف، والجو الهادئ يعزز شعورهم بالسكينة.


جلس "يونس" و"تقى" على المقعد الخشبي، والصمت يحيط بهما، بينما كان كل منهما يفكر فيما سيقوله الآخر!


كانت "تقى" قد أخبرت والده أنها تحتاج وقتًا للتفكير بعد طلبه يدها لابنه، بينما كان "يونس" يعرف أنها لم تكن متأكدة بعد من مشاعرها تجاهه.


كان هذا الأمر يشغل ذهنه، وكان يشعر أحيانًا بالحزن على نفسه، خاصة أن ملامحه لم تكن كما يتمنى، لكنه كان يعلم أن مشاعره تجاهها صادقة للغاية.

 وكان هذا اليوم هو اليوم الذي قرر فيه أن يعبر عن هذه المشاعر بشكل صريح.

نظر إليها بتردد واضح، ثم قال:


_ "تقى"، أنا عارف إنك كنتِ بتفكري في الموضوع ده بقالك فترة، وإنك محتاجة وقت علشان تقرري. وأنا مش جاي عشان أضغط عليكِ أو أطلب منكِ حاجة، بس عايز أقولك حاجة بقالها فترة كبيرة جوايا...


رفعت "تقى" رأسها لتلتقي عيناها بعينيه، وقالت بهدوء:


-اتكلم يا "يونس"، أنا سمعاك.


تردد "يونس" للحظة، ثم تحدث بصوت خافت، محاولًا أن يكون صريحًا:

_ أنا... بحبك يا "تقى". وبجد مش قادر أستمر وأنا مش عارف إذا كنتِ بتحسي نفس الشعور ولا لأ. وأنا عارف إن ملامحي مش زي بقية الناس ، وإن الكل ممكن يخاف مني بسبب جلدي وشكلي،  وعلشان كدة  مش عايزك توافقي علشان ساعدتك، ولا علشان بابا وقف معاك، ماتقلقيش حتى لو مش موافقة يا "تقى" عليَّ ، مفيش حاجة هتتغير في علاقة العيلة بيكي وبأسرتك.


فوجئت "تقى" بكلامه، وتوقفت لحظة لتفكر في ما سمعته. كانت تحترم مشاعره بعمق، وتبادله نفس المشاعر، ولم تفكر يومًا في شكله أو ملامحه. حتى حين قالت إنها تحتاج للتفكير، كان ذلك بسبب الخجل الذي كانت تشعر به، ولم يكن في قلبها شك في مشاعرها تجاهه.


لحظات من الصمت مرّت، ثم تحدثت بمشاعر صادقة، وقالت:


-الجمال جمال روح يا "يونس"، وأنا عمري ما شفت ملامحك أن شكلها وحش. بالعكس أنا لما كنت بهرب من أقرب ناس ليَّ اللي أذوني، إنتَ كنت الملجأ إللي بحس فيه بالأمان. أنا موافقة يا "يونس"، وده آخر قراري.


_ "تقى"، عندك وقت تفكري كويس، مش عايزك تندمي بعد القرار ده


نهضت "تقى" من مكانها، ونظرت إليه بعينين مليئتين بالثقة، ثم تحدثت قائلة بجدية:


-انا هندم  لو ما وافقتش يا "يونس". أنا قلت آخر كلمة، أنا موافقة.


أنهت كلماتها بسرعة، ثم تحركت نحو الداخل بخطوات سريعة، وكان وجهها يعبّر عن سعادة كبيرة لا تسعها، وكأن قرارها قد منحها شعورًا بالراحة والاطمئنان.


شعر "يونس" بفرحة عارمة تغمر قلبه، وكأن الدنيا بأسرها قد اجتمعت في لحظة واحدة. حينما سمع منها تلك الكلمات التي طالما انتظرها، تأكد أن كل لحظة من الانتظار كانت تستحق. 

موافقتها كانت أكثر من مجرد كلمات، كانت وعدًا بالأمل، وأملًا بالحياة التي سيبنيها معها. لقد شعر بأن قلبه يرقص فرحًا، كما لو أن أقدار الكون قد التقت لتكتب له بداية جديدة، مليئة بالحب والتفاهم.


قام من مجلسه متوجهًا نحو مطعمهم، وكانت السعادة تملأ قلبه. وعندما وصل، لاحظ والده يعمل على إجراء بعض التعديلات في المطعم، إذ كان يرتب المكان برفقة أحد الشبان. 


بينما كان "حسام" في المطبخ مشغولًا بالتحضير لضمان أن يتمكن "يونس" من استئناف الطبخ بسرعة فور عودته.


ألقى عليهم التحية، ثم توجه إلى المطبخ حيث جلس على إحدى المقاعد، وابتسامة عريضة تعلو وجهه. نظر إليه "حسام" وقال:

_ نقول مبروك؟ شكل البنت وافقت.


تحدث بسعادة، بينما كانت البسمة تضيء وجهه، قائلاً:


_ وافقت يا "حسام"، بجد مش مصدق! بتمنى أقدر أسعدها وأكون سند ليها.


_ ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير، ويرزقكم الذرية الصالحة.


ثم أضاف مازحًا:


_ يلا قوم يا عريس، جهز نفسك! لازم تطبخ النهارده حاجات كتير عشان المطعم بدأت الناس تهل عليه..


قام "يونس" من مكانه وارتدى المئزر، ثم تقدم بحماس نحو ركن الطهي الخاص به ليبدأ في إعداد الأطباق بكل احترافية ومهارة عالية. 

كان "يونس" يتمتع بمهارة فائقة في فن الطهي، بينما كان شقيقه يوفر له كل ما يحتاجه بكل سعادة. 


نتيجة لذلك، بدأ المطعم يستقبل أعدادًا متزايدة من الزبائن، وكلما أنهى "يونس" طبقًا، انتقل إلى العمل على الطبق التالي بحيوية ونشاط. وفي الوقت نفسه، تولى "حسام" وشاب آخر مهمة تقديم الأطباق لكل زائر يدخل المطعم.


---


جلست تفكر فيما شهدته البارحة، وقد غمرتها أفكار شاردة، حتى لفت انتباهها صوت أنين قادم من زاوية قريبة منها!


 انتفضت من مكانها وجالت بنظرها في أرجاء الغرفة، لكنها لم تلاحظ شيئًا غير عادي؟

 ظلت في مكانها، منصتة لمصدر الصوت عسى أن تكتشف مصدره. بعد لحظات من الصمت، أدركت أن الصوت يخرج من خزانة الملابس!

 تقدمت نحوها بحذر وقلق، حتى وقفت أمامها، وقد تسارعت أنفاسها. ثم أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تفتح باب الخزانة بسرعة.


سرعان ما تجمدت في مكانها عندما رأت شابًا داخل الخزانة، مغمض العينين ويصدر أنينًا، وكان في حالة مزرية. تراجعت إلى الوراء وصاحت بقوة حتى كاد صوتها يختنق:

-ماما ماما الحقيتي! في حد في دولابي!


تراجعت "مريم" إلى الوراء وهي ما زالت تصرخ، حتى وصلت إلى الباب. فتحته بسرعة وانطلقت إلى الخارج كالعاصفة، تلهث بذعر!

 وجدت أهلها يتجمعون حولها، يتساءلون عن سبب صراخها، بينما تقدمت والدتها نحوها، وقد لاحظت رعبها الواضح. أمسكت بيدها برفق، محاولة تهدئتها، وابتسمت بلطف قائلة:


-"مريم"، في إيه؟ اهدي شوية، مالك؟ حصل إيه؟

 بلعت "مريم" ريقها بصعوبة، وما زالت تحت تأثير القلق، ثم قالت بصوت متردد:


-في راجل جوه دولاب الهدوم بتاعتي، مش عارفة هو ميت ولا إيه؟!

نظروا إليها بدهشة واستغراب، يتساءلون عن مدى صحة ما تقوله: هل هي حقيقة أم أنها تهذي نتيجة هوسها بالرعب؟ ومع ذلك، كانت حالة الخوف الظاهرة عليها تؤكد صحة حديثها.


اقتربت منها "تقى" وقالت:

-اهدي حبيبتي، تعالوا نشوف في إيه جوا.


توجه الجميع إلى الغرفة، بينما بقيت "مريم" في الخلف. كانت "تقى" في المقدمة، تنظر بحذر إلى كل زاوية. وعندما وصلت إلى خزانة الملابس، ألقت نظرة داخلها بعناية، لكنها لم تجد شيئًا. عاقدةً حاجبيها، بدأت تبحث بين الملابس، لكنها لم تعثر على أي شيء.


ثم استدارت إليهم وقالت:

-مفيش حاجة يا "مريم"، شكلك بتتوهمي!


مسكت "مريم" رأسها بين يديها، تكاد تجن من شدة القلق، وهي متأكدة أنها رأته، لكن أين ذهب؟!

 أصابها الجنون وهي تدور في مكانها. فجأة، تذكرت تلك القلادة، فأخرجتها بسرعة ورفعتها أمام أعينهم، وقالت:


-أنا متأكدة! إن في راجل هنا، ودي السلسلة  بتاعته وقعت منه! دورو، لازم نلاقيه! في حد هنا أنا شفته بقولكم..


سحبت والدتها منها القلادة، بينما كانت تنظر إليها بدهشة، ثم تحدثت بتساؤل:

-حد منكم عنده السلسلة دي ؟ أو ممكن تكون وقعت من حد منكم هنا؟


هز الجميع رؤوسهم نفياً، وما زالت الدهشة تملأ ملامحهم مما يحدث. قطعت حالة الصمت "منة" قائلة:


-جماعة، مفيش وقت للتخمينات، يلا بينا ندور. لو في حد غريب هنا بجد، هتلاقوه لسه مستخبي، مفيش مكان يهرب له. بس خلي بالكم.


 تفرَّق الجميع في الغرفة للبحث عن ما ذكرته "تقى"، لكنهم كانوا يتحركون بحذر، خشية أن يكون أحد رجال "وليد" قد اقتحم المنزل بنية خبيثة.


اقتربت "تقى" من مكتبة صغيرة للكتب، فوجدت خلفها ركنًا ضيقًا. قامت بتحريك المكتبة بعناية، وعندما اقتربت من الركن، اتسعت عيناها بدهشة وصدمة حين رأت شخصًا منكمشًا في الزاوية، ينزف من جانبه، وحالته تبعث على الرعب.

 كانت ملامحه شاحبة، وتحت عينيه هالات سوداء، وملابسه ممزقة. كان ينظر إلى "تقى" دون أي رد فعل.


بلعت "تقى" ريقها وقالت بسرعة:


-تعالوا يا جماعة بسرعة ، الراجل هنا بسرعة!


أنهت كلماتها وتراجعت إلى الوراء بينما هرع الجميع صوبها. تقدمت منه "زينب" بحذر وقالت بتسائل:


-انت مين و بتعمل إيه هنا؟! مين بعتك لينا! اتكلم بسرعة رد؟


نظر إليها، وكان في حالة تمنعه عن الكلام. وعندما حاول تحريك شفتيه، بدا وكأنه يواجه صعوبة شديدة، وبعد محاولات مضنية، تمكن أخيرًا من نطق كلمتين بصعوبة:


_ ساعدوني، أنا في عرضكم.


وبمجرد أن نطق بتلك الكلمات، سقط مغشيًا عليه. نظر الجميع إليه بحيرة وشفقة، متسائلين إذا كان يجب عليهم تركه كما هو أو تقديم المساعدة له؟

 كان شخصًا مجهولًا في وسط بيتهم، مما خلق حالة من الخوف والارتباك جعلتهم عاجزين عن التفكير في تلك اللحظة الصعبة.


فقالت "زينب":


-"مريم"، إنزلي خلي اتنين من الجيران يطلعوا يشيلوه ، نوديه  المستشفى. وانتِ يا "شهيرة"، رني على عمك "أحمد"  يجي بسرعة على البيت أو يحصلنا بسرعة على  هناك؟


 انطلقت "مريم" مسرعة نحو الخارج، في حين توجهت "شهيرة" للاتصال بـ"أحمد". أما الآخرون، فقد ظلوا في أماكنهم يراقبون المشهد، محاطين بالعديد من التساؤلات حول هوية هذا الشاب، وأسباب حالته الراهنة، والدوافع التي جعلته يتواجد في منزلهم.


---


بعد أن انتهى "يونس" من إعداد الطعام وبدأ عدد الزبائن في التناقص، جلس مع شقيقه ووالده لتناول إحدى الوجبات استعدادًا للذهاب إلى المسجد، حيث اقترب وقت الأذان. 

وأثناء حديثهم معًا، رن هاتف "أحمد" الذي أخرجه من سترته. وعندما رأى اسم "شهيرة" على الشاشة، بدا عليه الاستغراب.


تواصل معها ليسألها إن كانت هناك مشكلة. فتح الخط وفعّل مكبر الصوت، وقبل أن يرد، سمع صوتها تقول:

-عمي، تعالى بسرعة على البيت، لقينا في شاب عندنا في البيت وحالته مش كويسة، بسرعة!


-اهدي، أنا جاي، ما تعملوش حاجة لحد ما أجي، ماشي؟


أنهى "أحمد" حديثه ثم أغلق الهاتف ونظر إلى أبنائه بعجل، وهو يركض نحو الخارج قائلاً:


_ هروح البيت بسرعة لازم أشوف في إيه، وانتم كملوا شغلكم لما أرجع، هقولكم على كل حاجة.


شعر الأبناء بالقلق مما قالته "شهيرة"، فنطق "يونس" بقلق قائلاً:

_ بابا استنى، نروح معاك يمكن يكون الراجل ده من طرف "وليد".


رد "أحمد" بسرعة:

_ لا  يا ابني ما اظنش، اطمن وكملوا شغلكم، أنا هشوفه وهعرف ده مين ؟.


فور أن أنهى كلامه، اختفى عن أنظارهم مسرعاً.


أسرع "أحمد" نحو منزله بقلق وبخطوات سريعة؛ فالمطعم لم يكن بعيدًا كثيرًا عن بيته. وبعد لحظات، وصل ليجد سيارة الإسعاف متوقفة أمام المنزل، وبعض الجيران يحملون شابًا إلى داخلها. كانت عائلته واقفة، فاقترب من زوجته وسألها بقلق:


_ انتوا بخير؟ الكل كويس؟


-الحمد لله، مفيش حاجة، عدت على خير.


استدار "أحمد" لينضم إلى سيارة الإسعاف ليتعرف على الشخص المجهول الذي كان في منزله وسبب وجوده هناك.


 خطا خطوتين إلى الأمام، لكن فجأة توقف بصدمة، حينما كسرت رصاصة سكون المكان واخترقت عجلة سيارة الإسعاف برقت عيناه وهو يرى قناصا فوق إحدى البنايات، يوجه سلاحه نحوهم، وكان يبدو أن هدفه أحدهم!

 وقبل أن يصرخ "أحمد" ليحذرهم، انطلقت رصاصة أخرى. آخر ما سمعه كان صراخ أفراد عائلته!

 استدار ببطء، وقلبه يكاد يتوقف من الرعب، لكنه عندما رأى زوجته ساقطة على الأرض، تجمد في مكانه.


""""""

خرج هو وشقيقه من المسجد، وكان شارد الذهن، ويغلب عليه شعور الضيق الذي كان واضحًا على ملامحه، مما جعله يبدو غير مرتاح. نظر إليه "حسام" في حيرة وقال:

_ مالك يا "يونس"؟ في حاجة؟ لسه قلقان من الكلام اللي قالته "شهيرة"؟


_ أيوة يا "حسام"، حاسس إني السبب في الخطر إللي حوالينا. "وليد" والراجل اللي معاه عايزيني أنا..  وعيلتي بتتأذي عشان أنا معاكم . أكيد الشاب ده واحد من رجالته؟.


نظر إليه "حسام" وقال بهدوء مع بعض العتاب:


_ "يونس"، كفاية لوم في نفسك، إنت مش السبب في حاجة. وإحنا عيلتك، معاك على  الحلوة والوحشة.


تنفس "يونس" بعمق، متأثراً بشعور من الضيق والحزن، ثم قال بصوت منخفض، وكأن الكلمات ثقيلة على قلبه:


_ إنت مش شايف الناس كانت بتبصلي إزاي؟ مش كنت حاسس بخوف الناس مني؟ حتى في المطعم، كنت دايمًا قاعد في الزاوية علشان ما أزعجش حد، ولا شوف الخوف في عيونهم. أنا تعبت يا "حسام"، مش عارف أنا مين، وليه كل ده بيحصل؟!

_ "يونس" الناس دول لسه مش عارفينك، لو كانوا عارفينك عمرهم ما كانوا حكموا عليك كده؟ هما مش فاهمين إنك أطيب وأحن واحد. المظاهر خداعة، والناس دايمًا بيحكموا على اللي شايفينه بس.

 "يونس"، مفيش لزوم تهتم بنظراتهم، علتك جنبك، والبنت إللي بتحبها جنبك وبتحبك وراضية ومقدراك..


تنهد "يونس"، وعمَّ الصمت لحظات حتى وصلوا أمام المطعم. توقف فجأة، وتغيرت ملامحه بشكل ملحوظ بسبب ما رآه، مما جعل الدماء تغلي في عروقه. امتلأ قلبه بالغضب حتى أن عينيه كادتا أن تظلم، وأصبحت أنفاسه تتسارع بقوة كما لو أنه بركان على وشك الانفجار.


من أنا

البارت 22


استدار "أحمد" بذعر، ليجد زوجته "زينب" ملقاة على الأرض. تسارعت خطواته نحوها، وعيناه مليئتان بالقلق، وعقله غارق في أفكار مرعبة. في اللحظة الأولى، ظن أنها أصيبت برصاصة.

اقترب منها بسرعة، وقد ارتجف جسده من الخوف. هزّها بلطف، لكنها لم تستجب!

 تطلّع إلى وجهها، فلاحظ شحوبها وجسدها الثابت، ولا شيء يدل على الحياة سوى النفس الخافت الذي كان يصدر منها. تنفّس بعمق حين تأكد أنها لم تُصَب، بل سقطت من شدة خوفها.

-"زينب"! "زينب"، أنتِ كويسة؟


نادى بها بصوت مرتفع، وهو يمسك بكتفيها. في تلك اللحظة، شعر قلبه وكأنّه يختنق؛ ماذا لو كانت قد تعرضت لأذى شديد؟ بدأ يضغط على يديها بشدة، بينما قلبه ينبض بسرعة متسارعة.

ثم، وببطء، بدأت عيناها تتحرك. فتحت عينيها بهدوء، واستقامت واقفة، وقالت:


-"أحمد"... أنا كويسة. بس... الخوف هو إللي خلاني يغمى عليا واقع.


تنهد "أحمد" بارتياح عميق، وعيناه تغرقان في الدموع من شدة الفرح. تنفس بارتياح، ثم رفع بصره بسرعة عندما تذكر القناص، ليتأكد إذا كان لا يزال موجودًا. لكنه لم يجد له أي أثر.


أخذ نفسًا عميقًا وقال:

-الكل يدخل جوه، وحتى الولد ده شيلوه  دخلوه جوه. هنطلب له دكتور هنا، لأنه هو كان المقصود بالرصاصة دي . شكله  في حد عايز يقتله.


تقدّم الجميع إلى الداخل كما أمرهم "أحمد"، وسط أجواء مشحونة بالقلق. تبعه اثنان يحملان الشاب إلى داخل المنزل، بينما انطلق "أحمد" لإحضار أحد الأطباء للكشف عن حالة هذا الشاب.


احتدت ملامح "يونس" واشتعل غضبه وهو يشاهد شخصين أمام مطعمه يقومان بتحطيم المقاعد الخارجية ويهشّمون كل ما أمامهم بأقدامهم، مع ضحكاتهم المستفزة التي زادت من اشتعال غضبه.

 تقدّم نحوهم بخطوات متسرعة، غارقاً في غضبه حتى أنه لم يدرك ما يدور حوله. وعندما شعروا باقترابه، هربوا سريعاً، لكنه لم يتوقف، بل تبعهم!

 وقبل أن يتمكن من اللحاق بهم، استقلوا دراجة نارية وانطلقوا بسرعة كبيرة.


أدرك "يونس" أنه لن يستطيع اللحاق بهم، فوقف في مكانه ليتنفس بعمق، فقد كانت أنفاسه قد انقطعت.

 بعد لحظات، وصل إليه "حسام"، الذي لم يكن قادراً على الركض بسبب قدمه المصابة. 


وقف بجانبه، معبّراً عن غيظه بتنهيدة طويلة، لكنه حرص على أن يبقى هادئاً كي لا يدفع "يونس" للقيام بأي تصرف يندم عليه. ثم ربت على كتفه بلطف قائلاً:


-اهدى يا "يونس"، ربنا ينتقم منهم، مش عارف هما مين؟ وعايزين منا إيه؟!.


-أنا عارف كويس مين دول، وعارف مين إللي بعتهم.


قال "يونس" هذه الجملة بصوت غاضب، والشرر يتطاير من عينيه!.


نظر "حسام" إليه ثم رفع إحدى حاجبيه مندهشاً، ثم قال متسائلاً:

-مين طيب؟ ولو أنت عارف مين بعتهم تعالى نقدم بلاغ في القسم ؟

تنهد "يونس" بضيق، مدركاً أنه لن يستطيع التخلص من همومه ما لم يبتعد عن "وليد" ورجاله. 

فقد شعر أنه سيظل مطاردًا منهم في كل مكان، وأنهم سيؤذون كل من يقترب منه، مما أثر سلبًا على كل فرد في عائلته!

 بدا له وكأن الهواء من حوله قد انعدم، مما زاد من شعوره بالازدحام والضيق.

 -وليد، واللي معاه مفيش غيرهم، طول ما أنا معاكم، هيفضلوا يدايقوا فيكم ويمشوا ورايا!

أنهى حديثه، ثم توجه نحو المطعم وهو في حالة سيئة، حيث كان يواجه صراعًا داخليًا عنيفًا، لم يُترك منه سوى قلب مجروح. خلفه، كان "حسام" يشعر بالشفقة على حال شقيقه، فبدأ يرتب ما تشتت ويجمع ما انكسر.


ثم دخل ليواصل عمله في الطهي، عاقدًا العزم على أن يؤدي ذلك في صمت خارجي، رغم العاصفة الحزينة التي كانت تعصف بداخله.


**************                        

في منزل "أحمد"، اجتمع الجميع في حالة من الترقب والقلق، ينتظرون ما سيقرره الطبيب بشأن الشاب.

 كان التوتر يتسلل إلى قلوبهم بسبب الأحداث المقلقة التي وقعت في الخارج، وأصبحوا يدركون أنهم في خطر لا مفر منه.

 هذا الخطر سيستمر ما دام "يونس" موجودًا، لكنه وعائلته قد عاهدوا أنفسهم على حمايته مهما كلفهم الأمر. لن يكونوا هم سببًا في معاناته، لكن عليهم التزام الحذر.


بهدوء وتركيز، بدأ الطبيب في تحضير المحاليل اللازمة للمريض، يراقب حالته عن كثب. 

ومع مرور الوقت، قام بتوصيل المحلول عبر الوريد، مع مراعاة راحة المريض وطمأنته بعد الانتهاء من الفحص. ثم استدار وقال بجدية:


-باين  عليه ما أكلش  من كام يوم وده السبب في فقدان وعيه. ومن خلال الكشف والأعراض إللي عنده، ممكن يكون شاب مدمن. لازم نعمل تحاليل علشان نتأكد من ده، وبعد شوية هيفوق لما المحلول يخلص.


وقف "أحمد" ولم يظهر على وجهه أي تعبير مما يثير الانتباه، ثم نطق قائلاً:

-شكراً ليك يا دكتور، تعبناك معانا. إن شاء الله يفوق بس وساعتها نشوف هنعمل إيه في التحاليل.

خرج الطبيب، وجلس أفراد العائلة في صمت يترقبون عودة هذا الغريب إلى وعيه، علّهم يعرفون هويته!

 نظرت إليه "زينب"، وأحزنها مظهره؛ كانت ملابسه ممزقة، وحذاؤه بالياً، وملامحه شاحبة، وكأنها ملامح شخص من الموتى، مع هالات داكنة تحت عينيه. كان جسده نحيفاً، فنظرت إلى زوجها وقالت:


-زعلانه عليه بجد، شكله باين عليه  معندوش عيلة ، يمكن يكون صحيح من العيال المدمنين


 أخذ "أحمد" نفسًا عميقًا، ثم نظر إلى الشاب قائلاً:

-مش عارف يا "زينب"، بس اللي متأكد منه إن حد بعته، وكان عايز يخلص عليه، يفوق ونشوف إيه حكايته هو كمان؟!

ربّتت "زينب" على كتفه كنوع من الدعم النفسي، فهي تعرف جيدًا كم هو خائف على عائلته، وكيف أنه يخشى فقدان "يونس" بسبب هؤلاء الوحوش البشرية. 

الخطر أصبح محيطًا بهم من كل جانب، ولا أحد يعلم نوايا "وليد" الشيطانية أو متى سيقوم بما ينوي فعله.


نظرت إليه وقالت، محاولةً طمأنته:

-إحنا هنبقى تمام، ما تخافش، كل حاجه هتبقى تمام إن شاء الله.

بعد فترة من الانتظار، بدأ الشاب يفتح عينيه ببطء محاولاً التكيف مع إضاءة المكان. أحكم إغلاق جفونه وفتحها عدة مرات حتى اعتاد على الضوء، ثم نطق بصوت خافت قائلاً:

-أنا فين؟ انتوا مين؟!

هرع إليه "أحمد" حين سمع صوته ورد عليه قائلاً:

-انت اللي مين يا ابني؟ وإيه إللي دخلك بيتنا وطلعت في اوضة  بنتي إزاي؟ ومين بعتك؟


خفض الشاب بصره عندما استرجع كل ما حدث، وظهر عليه الخجل بوضوح.

 حاول النهوض، لكنه فَقَدَ توازنه وسقط في مكانه. أمسك به "أحمد" وساعده على الاسترخاء، ثم قال:

-اهدأ، إنت لسه تعبان، لو مش قادر تتكلم دلوقتي، ارتاح شوية وبعدين نتكلم وتحكيلنا كل حاجة؟


هز رأسه بنفي، وكان الألم واضح على ملامحه، والخوف جلي في عينيه، وقال بصوت متردد:

-أنا كويس... كويس... بالله عليك ما تطلبش  البوليس، وانا هقولك على  كل حاجة.


-اتكلم، أنا سامعك. اطمئن، مفيش بوليس، المهم تقولي الحقيقة.


 أغمض عينيه بإحكام، وكأنه يحاول الهروب من الألم الشديد الذي يعذب رأسه. ثم فتح عينيه وأخذ يسترجع ذكرياته الماضية، وقال بصوت منخفض:


-اسمي "مؤمن"، ده كل إللي أعرفه عن نفسي، كبرت في ملجأ، ولما وصل عمري اتناشر سنة، هربت من دار الأيتام.

 بدأت أسرق وأنام في الشوارع لحد ما في يوم جه إللي إسمه "وليد" وأخذني وقال لي هشتغل معاه، لكن للأسف كان أسوأ شغل ممكن أعمله!


توقف عن الحديث، وانعكس الألم على ملامح وجهه، بينما ابتلع ريقه الذي كان كأشواك تمزق حلقه. هنا تحدث "أحمد" قائلاً:

-شغل إيه اللي كنت بتشتغله مع "وليد"؟


-كنت باخد أنواع المخدرات وأوصلها لمكان تاني لناس شكلها بتشتري منه، وبعدين أرجع له بالفلوس، وأنا تحت مراقبة الرجالة بتوعه لو أخدت أي جنيه، كنت بتعذب ألف مرة. لدرجة إني بقيت مش قادر أتحملهم، وبقى ده شغلي، واللي بالنسبة لي كان جحيم.


توقف عن الكلام، فابتلع تلك الغصّة العالقة في حلقه كما لو كانت داءً يمزّقه، ودموع محبوسة خلف جفونه تتصاعد كلما استرجع ما مرّ به من مآسٍ في هذا الطريق المليء بالأشواك والشياطين البشرية التي قادته إلى هذه المساحة المرهقة. كان واضحًا، كوضوح الشمس، أن نهايته تلوح في الأفق.


ولما لمح "أحمد" صمته وحزنه الظاهر على ملامحه، سأله قائلاً:


-إيه إللي خلاك تفضل معاهم وانت مش طايقهم؟ كان ممكن تهرب وترجع للملجأ، ليه فضلت معاهم؟


أخذ نفسًا عميقًا، وظهرت غيمة من الحزن والإرهاق على عينيه، وقال:

-علشان بقيت مدمن على السم ده، وبقيت لو بعدت مش هقدر أعيش من غيره، وهرجع لهم تاني. وده إللي خلاني أجي هنا.


 تأملوا فيه، بينما كانت تدور في أذهانهم آلاف الأسئلة في انتظار أن يكمل حديثه ويكشف عن سبب قدومه لهم. كانوا يدركون تمامًا أن "وليد" هو الذي أرسله، لكنهم لم يعرفوا الدافع وراء قدومه.


قام "مؤمن" بمسح جبينه بيده ليجفف عرقه، رغم برودة الطقس، إذ كان يتعرق بسبب شدة الألم الذي يعانيه. لكنه تمالك نفسه، وأضاف قائلاً:

-"وليد" بعتني عشان أقتل بنت اسمها "حنين" هنا، عشان هي السبب في إنه خسر عينه. إداني صورتها وجابني لحد هنا، بس ما قدرتش أعملها. ما قدرتش أقتلها، مش قادر أؤذي حد. عشان كده استخبيت في الأوضه بتاعة البنت دي، ومش عارف أعمل إيه؟


مرر "أحمد" بيده على شعره محاولًا كبح غضبه الذي بدأ يتصاعد داخله كعاصفة. كان يعلم أن "وليد" لن يظل هادئًا إلا إذا حصل على ما يريد. طغى عليه طمعه وجشعه حتى أنه لم يعد يشعر بأنها إبنة شقيقه!. كيف لشخص أن يخون شقيقه ولا يحمل في قلبه رحمة؟ لقد أصبح كشيطان يتبع شهواته، وأعمى عن الحق.


تنهد بضيق، ثم نظر إلى "مؤمن" وقال:


-إنت هتروح مصحة علشان تتعالج من السم ده، وقبل ما أخدك هبلغ البوليس بكل حاجة، و أنت قولهم عن مكان "وليد" واللي معاه علشان نخلص منهم.


انتفض "مؤمن" من مكانه بفزع، حتى أن آهة من شدة الألم انطلقت من شفتيه. أصبحت علامات الخوف واضحة على ملامحه، فصاح برجاء قائلاً:


-بالله عليك ما تبلغش للبوليس، هياخدوني أتسجن وأنا ماليش ذنب، "وليد" هو السبب!


-اهدأ، إنت مالكش ذنب. إنت هتساعد البوليس عشان يقبضوا على "وليد"، هما بيدوروا عليه من زمان. أنا معاك ماتخفش مش هسيبك غير لما تدخل المصحة وتخف.

بعد انتهاء عملهم وحلول المساء، جلس "يونس" على أقرب مقعد أمامه، ممسكًا بفنجان من القهوة ليأخذ قسطًا من الراحة بعد يوم طويل شاق قضاه في الطهي والتنقل من مكان لآخر، حتى بدأ يشعر بتعب قدميه.


جلس "حسام" أمامه في صمت استمر لثوانٍ، حتى كسر "يونس" هذا الصمت قائلاً:

-أنا تعبت النهارده أوي، لازم نروح البيت ونشوف بابا عمل إيه مع إللي حصل هناك.


-يلا نروح علشان ترتاح، اليوم كان طويل.


نهض "يونس" ببطء، وتظهر على وجهه علامات التعب والهم. كان خلفه حزن عميق، رغم محاولته إخفاءه، لكن ملامحه لم تستطع إخفاءه!

 أغلق المطعم ثم انطلق هو وشقيقه في طريقهما إلى منزلهما، سارا معًا في صمت، وكأن الحديث أصبح ثقيلاً على ألسنتهما. 

في تلك اللحظات، كان الكلام مثل الملح على الجراح، مؤلمًا للغاية في حالة الإرهاق التي كانا يشعران بها.


عندما اقتربا من المنزل، لمحا عناصر الشرطة تخرج من مدخلهم، بالإضافة إلى سيارة الإسعاف.

 انقبضت قلوبهما وأصابهما شعور بالذعر، راودتهما أفكار سلبية متعددة. ركض "يونس" بأقصى ما يستطيع، بينما كان "حسام" يسير خلفه بصعوبة حتى وصلا بسرعة. 

وما إن بلغا المكان حتى وجدا "أحمد" يقف أمامهم مع رجال الشرطة الذين كانوا يغادرون.

تقدم "يونس" نحو "أحمد" وسأله بلهفة::

-بابا في إيه؟ البوليس هنا بيعمل إيه؟انتوا بخير؟


ربت "أحمد" على كتف "يونس" برفق، متحدثًا بكلمات تهدئ من روعهم، فقال:

-اطمنوا، الكل تمام. تعالوا جوا وهقولكم كل حاجة.


 تقدموا إلى الداخل، حيث كان الجميع واقفين، بينما كان الأطباء يصطحبون "مؤمن" معهم، توقف "مؤمن" لحظة، ونظر إلى "أحمد" قائلاً:

-شكراً ليك جداً يا "أحمد" بيه، بتمنى أتعافى، وإن شاء الله ييجي يوم أعيش حياة زي ما كنت بحلم بيها. سامحوني لو سببت لكم أي إزعاج.


-على إيه يا ابني، بتمنى لك كل الخير وإن شاء الله تتعافى من السم ده وتبني حياة جميلة. هاجي أزورك وأطمن عليك.


خرج الأطباء مع "مؤمن"، بينما بقيت العائلة في الغرفة جلست أسرة "أحمد" وأبناؤه في انتظار أي خبر عما يحدث داخل المنزل.

 كانت الأجواء مشحونة بالتوتر والقلق، وكل شخص منهم كان في حالة ترقب أخذ والدهم نفسًا عميقًا، محاولا أن يستجمع شجاعته ليروي لهم تفاصيل ما جرى، لكن كان واضحًا في عينيه القلق الشديد الذي لا يستطيع إخفاءه.

 ثم أخذ يقص عليهم كل ما حدث حتى انتهى.


أما "يونس"، فكان جالسا يستمع إلى والده، وقلبه يدق بسرعة لدرجة أنه شعر وكأن صدره سينفجر. كان عقله مشوشا تماما، غير قادر على استيعاب ما حدث.

اللحظة التي اكتشف فيها أن من هاجموا المنزل كانوا يستهدفون محبوبته وأنهم كانوا يخططون لقتلها بسببه، كانت وكأنها صاعقة أصابته. شعور الذنب كان يثقل صدره، ظنا منه أنه السبب، وألمه كان لا يُطاق.

 كان يحاول أن يظهر ثابتًا، لكن كان واضحًا على وجهه الخوف الشديد بلع لعابه بصعوبة وهو يحاول أن يهدئ نفسه، ثم نظر إلى والده وقال بصوت مختنق عينيه مليئة بالقلق:


-طيب، البوليس مسكت "وليد" ولا لسه؟ هو ممكن يهرب في أي لحظة؟


_ اطمن يا ابني، البوليس عرف من "مؤمن" المكان وإن شاء الله هيمسكوه ونرتاح منه. بلاش تفكر كتير، روح ارتاح شوية.


تنفس بعمق وكأن ثقلًا يجثم على صدره، ثم تحدث قائلاً:

-أنا السبب في كل إللي بيحصل، "تقى" كانت هتموت بسببي، و"وليد" بيلاحقني. وأنا في الأول كنت سبب موت والد "تقى" لأنه كان بيحميني، والنهارده عيلته كانت هتموت، أنا السبب، أنا السبب.


أنهى كلماته ثم خرج مسرعًا دون أن يلتفت إلى ندائهم، وكأن أذنه قد صُمت ولم يعد يسمع شيئًا سوى صوت حزنه الذي يعصف داخله.

**********                     

بعد يومين من التقلبات بين السعادة والحزن، ورد خبر القبض على "وليد" ورجاله في المكان الذي كانوا يختبئون فيه.

 وقد ساهم "مؤمن" بشكل كبير في هذا الإنجاز، حيث قدّم للشرطة كافة المعلومات التي كان يمتلكها عنهم، مما سهل مهمتهم.

 أثار هذا الخبر فرحة عائلة "الهلالي"، ولكن سرعان ما تحولت هذه الفرحة إلى قلق عميق بسبب اختفاء ابنهم "يونس"، الذي خرج من المنزل في حالة من الحزن ولم يعد!

 لم يتلقوا أي أخبار عنه، حتى أن هاتفه كان مغلقًا، مما زاد من توترهم وقلقهم مع مرور كل دقيقة.

في الصباح، توجه "حسام" إلى المطعم وعقله مشغول بشقيقه، رغم أن والده أكد له أنه يعرف مكان "يونس"!

 أما "تقى"، فقد كانت منعزلة، تبكي بمفردها، عاجزة عن معرفة ما يجب أن تفعله؟

 كانت تشعر بالحزن الشديد بسبب ما يحدث لهم منذ اللقاء الأول. "يونس" يتعذب، وهو الآن مختفٍ، يلوم نفسه ويشعر بالمسؤولية عن كافة الأحداث التي حدثت.

خرجت من غرفتها، وملامحها شاحبة نتيجة قلة النوم وعمق الحزن الذي يعتريها. تقدمت نحو "أحمد" وهتفت قائلة:


-عمي، ممكن طلب؟ بتمنى ما ترفضش طلبي.


-قولي يا بنتي، إذا قدرت أنفذه ليك، مش هتأخر عليك.

عيونها مليئة بالقلق والدموع تكاد تلمع في عينيها. تنهدت بعمق، ثم قالت بصوت مكسور وكأنها تكبح دموعها:


-أرجوك، عمي، أنا لازم أتكلم مع "يونس". لو سمحت، خدني عنده، أنا مش قادره أستنى أكتر من كده. عايزه أعرف هو فين؟، وأشوفه قبل ما يعمل حاجه في نفسه.


اقترب "أحمد" منها بلطف، ورفع يده ليربت على كتفها بحنان أبوي، ثم قال:


-اهدي يا "تقى"، متقلقيش، "يونس" هيكون بخير. هو في بيت الغابة، وأنا متأكد، يلا نروح له، تعالي يا "مريم" معانا.


أنهى "أحمد" حديثه ثم توجه إلى الخارج، وتبعته "تقى" و"مريم".

 استقلوا السيارة وانطلقوا نحو وجهتهم، في جو من الترقب والقلق، كان "أحمد" يشعر بقلق عميق بشأن غياب "يونس"، وكان قلبه مشدودًا بالهموم، تفكيره يتنقل بين الأمل واليأس.

 أما "تقى"، فكانت تكبح دموعها بصعوبة، وقد استحوذ عليها الخوف والقلق العميق.

 مرَّ يومان كاملان دون أن تذوق طعم النوم، وكلما راودتها فكرة تعرضه للأذى، كانت تلك الفكرة تعصر قلبها وتجد صعوبة في التنفس. في كل سجدة، كانت تدعو له أن يكون بخير وألا يمسه سوء، فهي تعاني من ألم الفراق الذي يكاد يفتك بها.

 نظراتها كانت مشدودة إلى الغابة طوال الرحلة، وعقلها شارد في المجهول، تتمنى لو كانت قادرة على الطيران للوصول إليه بسرعة؛ لتطمئن عليه. كانت تتمنى أن يكون بعيدًا عن الخطر، وأن تعود الأمور إلى مجاريها كما كانت.


بعد فترة من الصمت والقلق، توقفت السيارة فجأة، ليحل التوتر مكانه. ترجلوا من السيارة وتوجهوا نحو المنزل الصغير الذي بدا وكأنه يحمل بين جدرانه ذكريات أليمة.

 توقفت "تقى" لوهلة، تأملته بحزن عميق، وكأنها تسترجع تلك اللحظات التي بدأ فيها كل شيء.

 هنا بدأت قصتها، وهنا وجدته منقذًا لها، وهنا أيضًا اختطف معها. كان هذا المكان هو نقطة الانطلاق لحكاية مليئة بالهموم والمآسي، ومن هنا انطلقت كل تلك الآلام التي طاردتها. 

كل شيء كان قد بدأ من هذا المكان البسيط، لكن الذاكرة لا تُنسى، ولا يمر الزمن دون أن تعيدها إلى حيث الألم.


طرق "أحمد" الباب، ومع كل ضربة، كان التوتر يتصاعد في قلوبهم، وكأن الصوت نفسه يعبّر عن قلقهم الشديد!

كانت "تقى" في حالة يرثى لها، عيونها مغرقة بالدموع، وتمسك موضع قلبها بيدها وكأنها تمنع نفسها من الانهيار. 

أنفاسها كانت تتسارع بشكل غير طبيعي، وكأن الخوف قد استولى على كل خلايا جسدها، يختصر حياتها في لحظة واحدة.

 لو كان الخوف يقتل، لكانت قد فارقت الحياة من شدة الألم.


مرَّ الوقت بطيئًا، وكل شيء كان يسير على أعصابهم، وعندما لم يتلقوا أي رد، اقترب "أحمد" من الباب وقرر أن يضربه بكتفه ليفتحه، لكنه فوجئ عندما اكتشف أن الباب لم يكن مؤصّدًا من الداخل!

 دفعه برفق، ففتح الباب بسهولة. وعندما دخلوا، ارتجف الجميع من شدة القلق، وعندما وطأت أقدامهم الأرض داخل المكان، وجدت عيونهم ما كانوا يخشونه!

اتسعت أعينهم بشكل غير طبيعي، وتجمّدت الكلمات في أفواههم. كانت الصدمة أقوى من أن تتحملها نفوسهم. وفي تلك اللحظة، شقّت صرخة "تقى" هدوء المكان وكأنها صرخة ألم تنبع من أعماق قلبها.


-يوووووونس... يوووونسس!


من أنا

البارت  23

اتسعت عيونهم وامتلأت قلوبهم بالصدمة عندما رأوا "يونس" ملقًى على الأرض. هرعوا نحوه في حالة من الذعر، وتقدمت "تقى" نحوه والدموع تتساقط من عينيها. ركعت بجانبه، وضعت رأسه على فخذها، ونادت بصوت مخنوق بالبكاء:


-"يونس"، "يونس"، رد عليا!


لكنها لم تتلقَّ سوى همسات غير مفهومة، وعرق يتصبب من جبينه بسبب ارتفاع درجة حرارته. وضعت يدها على رأسه وصرخت بصوت عالٍ:


-عمي حرارته مرتفعة! تعالوا بسرعة، شيلوه وحطوه على السرير، نعمل له كمدات بسرعة، وروح جيب له دواء!


حملوه بسرعة ووضعوه على سريره، حيث غطته "مريم" ببطانية ثقيلة لتحميه من البرد القارس الذي كان يخيم على المكان.

 في تلك اللحظة، هرعت "تقى" إلى المطبخ، وهي تسرع الخطى، لتحضر بعض الماء وقطعة قماش نظيفة.

 بعد ثوانٍ معدودة، عادت مسرعة، وألقت نظرة على وجه "يونس" الذي بدا شاحبًا، ثم جلست بجانبه.

 بقلق بالغ، بدأت تطبق الكمادات على رأسه بحذر، في محاولة لتخفيف حرارته المرتفعة.


بينما كان "أحمد" يقف في زاوية الغرفة يراقب المشهد بحزن عميق، كان قلبه ينفطر لرؤية حالته.

 شعر بالعجز، وكأن الزمن قد توقف، فلم يكن هناك شيء يستطيع فعله إلا الانتظار.

 ثم تنهد بعمق وقال بصوت متألم:

-أنا هروح أجيب له شوية أدويه، شكله أخذ برد. وإنتوا خليكم معاه لحد ما أرجع.

عقب انتهاء حديثه، خرج مسرعًا، بينما "مريم"، التي كانت تراقب الوضع، لم تجد ما تفعله سوى التوجه إلى المطبخ لإحضار بعض الحساء لشقيقها.

 وبينما كانت هناك، في المطبخ، كان صوت "تقى" يشق الصمت في الغرفة المجاورة، حيث بقيت بالقرب من "يونس"، تجلس بجواره وتهمس إليه كما لو كان يسمعها، وقلبها مليء بالحزن والهموم.


- ما كفاية عمال كل شوية  تخوفني عليك يا "يونس" كده، إنت مش هترتاح غير لما تموتّني؟ ليه بتعذب نفسك و تعذبني معاك؟ مصر تزعل نفسك دايمًا، كده مفيش فايدة! بص وصلت حالتك لفين؟


كانت كلماتها تتسلل برقة، لكن الألم كان يلوح في صوتها. في تلك اللحظات، كان الحزن يسيطر عليها، وهي تشعر وكأنها عاجزة عن فعل شيء لمساعدة "يونس"، الذي بدا ضائعًا في همومه.


 كان مشغولًا في عمله، لكن أفكاره كانت تائهة في هموم شقيقه، الذي كان يعاني من أمرٍ ما، وكان يشعر بحزن عميق تجاهه. فهو ليس فقط شقيقه، بل صديقه المقرب وسنده في الحياة، رابط قوي يجمع بينهما يتجاوز مجرد صلة الدم. وفجأة، انتزعت رائحة احتراق الطعام انتباهه وأخرجته من دوامة أفكاره، فانتفض من مكانه سريعًا ورفع القدر عن النار، لكن للأسف كان المقبض قد اقترب من اللهب، فتعرّض لحروق بسيطة في يده. وضع القدر جانبًا وهو يشعر بضيق شديد، وفجأة، سمع صوتًا مألوفًا يقطع الصمت، قائلًا:

-الشيف بتاعنا زهق من الطبخ ولا إيه؟


شقت الابتسامة شفتيه، فقد كان يعرف هذا الصوت عن ظهر قلب، حتى لو كان بين آلاف الأصوات. 

استدار إليها ليجدها جالسة على أحد المقاعد، والبسمة تزين وجهها. اقترب منها وقال وهو يحاول إخفاء أثر الحزن في صوته:


-"شهيرة" عندنا يا مرحبا يا مرحبا، وأنا بقول ليه المطعم منور النهارده؟ لا والله مش زهقان، بس تقريبا سرحت في حاجة.


أنهى حديثه وعاد لاستكمال ما بين يديه، مركزًا نظره على ما يعمل فيه، في حين قامت هي من مكانها بسرعة، وارتدت المئزر على خصرها، ثم توجهت إلى جانبه، قاصدة أن تساعده في عمله. وقفت هناك لحظة، ثم قالت له بحنان:


-عارفه إنك بتفكر في" يونس" وقلقان عليه، هو محتاج وقت عشان يرتاح ويبقى لوحده شويه، أنا سبت عمي و"تقَى" راحوا عنده عشان يطمنوا عليه.

أجابها وهو لا يزال شارد الذهن، وكأن كلماتها لم تخرج عن ذهنه:

-عارف يا "شهيرة"، بس بالي مشغول عليه. نفسي يفرح ويبعد عن الحزن، أتمنى طول عمره يعيش بعيد عن أي ألم، لأنه دايمًا حزين، مفيش يوم يعدي عليه من غير ما يكون في حزن في عينيه.

-ماتزعلش ،هو أخيراً  خلص من "وليد" و إن شاء الله هيتجوز هو و "تقى" و تكون حياتهم سعيدة، عقبالك يا استاذ "حسام"


ابتسم "حسام" وهو ينظم الطعام على الأطباق، ثم رفع رأسه وقال بروح مليئة بالأمل:


-عقبالي على إيه؟! أنا لسه مستني المشاكل كلها تخلص، يا آنسة "شهيرة"، علشان نقدر نتجوز ونحتفل مع بعض.


"شهيرة" ضحكت بلطف وقالت:

-إن شاء الله يا "حسام"، كل تأخيره و فيها خيره، الأهم إن "يونس" يكون بخير.


 أخذ "حسام" نفساً عميقاً ثم تابع بنبرة هادئة:

-إن شاء الله. الفرح يتم على خير، بس الأهم إن كل واحد فينا يكون سعيد. "وليد" وخلصنا منه و كده هنطمن.

 ابتسمت "شهيرة" وأومأت برأسها:

-أكيد يا "حسام"، وإللي جاي أحسن. المهم إننا نقف جنب بعض، ومهما حصل، ربنا كبير.


ثم نظر "حسام" إلى الأطباق وهو ينظمها مرة أخرى:

- بإذن الله يا "شهيرة"، كل حاجة هتتحل، وإللي جاي أحسن بكتير.

لا تزال "تقى" جالسة بجانب رأسه، تضع الكمادات على جبينه في محاولة يائسة لخفض الحرارة المرتفعة.

 كان لسانها يردد آيات من القرآن الكريم، حتى عم الهدوء على المكان.

 كانت عيناها تتنقل بين وجهه وجبينه، تراقب تحركاته في صمت.

 فجأة، لاحظت أنه بدأ يحرك رموشه قليلاً، ثم ببطء، فتح جفونه. همس بصوت ضعيف، بالكاد يُسمع:


-ما تعيطيش، أنا كويس.

نطق بهذه الكلمات بصعوبة، وكأن لسانه يثقل من شدة الحرارة. نظر إليها قليلاً، ولاحظ أنها كانت تمسح دموعها بسرعة، فتأثرت نظراته برؤيتها. مسحت دموعها على عجل وابتسمت ابتسامة باهتة على وجهها، ثم قالت بصوت ملئه الأمل:


-أنا مابيطش خالص، إنت كويس؟ إنت سامعني؟ "مريم"! هاتي الشربة بسرعة علشان هأكله.

كان قلبها يخفق، لكنها حاولت أن تُبدي قوتها أمامه، رغبة في أن تطمئنه وتجعله يشعر أن كل شيء على ما يرام.


خرجت "مريم" من المطبخ بسرعة، حاملة وعاء الحساء الدافئ بين يديها. وضعته أمام "تقى" على الطاولة بسرعة، ثم انتقلت إلى الجهة الأخرى من السرير لمساعدتها في إحكام إسناد "يونس" على الوسادة؛ حتى يستطيع الجلوس بشكل مريح ويتمكن من تناول الحساء.

 لكن بالرغم من محاولاته، كان "يونس" ما زال غير قادر على الجلوس بشكل مستقيم بسبب التعب والإرهاق الشديد الذي يشعر به.


بمجرد أن تمكنا من مساعدته قليلاً في رفع رأسه، قامت "تقى" بوضع الملعقة في الحساء وتقديمها له، تطعمه كما لو كان طفلًا صغيرًا، بحرص شديد واهتمام. 

كانت عيناها مليئة بالقلق، بينما "يونس" كان يبتسم بصعوبة، يحاول أن يظهر أنه بخير رغم الألم الذي يشعر به.

وبعد لحظات، رفع يده قليلاً، إشارةً منه ليوقفوا إطعامه، وقال بصوت ضعيف:

-كفايا يا "تقى"... مش قادر... حاسس معدتي بتوجعني.

فأجابته "تقى" بحنو، وهي تضع الملعقة على الطاولة:

-شوية بس يا "يونس"، علشان تخف بسرعة... بابا راح يجيب الدواء حاول تتحمل.


كان وجه "يونس" شاحبًا، لكن نظراته كانت مليئة بالامتنان و الحب.


تناول القليل من الحساء بصعوبة، وكلما حاول يبتلع القليل إلى فمه، كانت ملامحه تتجعد من شدة الألم.

 لحظات قليلة فقط، حتى بدا واضحًا على وجهه أنه لم يعد قادرًا على متابعة الطعام!

 وضعت "تقى" الملعقة جانبًا بحذر، ثم ساعدته على الاستلقاء في مكانه، وضعت الغطاء عليه بهدوء، لكن عندما وضعت يدها على جبهته، شعرت بحرارته المرتفعة مجددًا، فتنهدت بعمق وحزن.

 كانت تشعر بحيرة كبيرة، لا تعرف ماذا تفعل لتخفف عنه الألم أو لتقوي من حالته. جلست بجانبه في صمت، تراقب تنفسه الثقيل وتدقق في ملامحه التي تحمل كل معاناة المرض.


وفي تلك اللحظات من القلق والصمت، فجأة سمعت صوت الباب يفتح. دخل "أحمد" مسرعًا، ممسكًا بيده الدواء، وجلس أمامهم، وقال بسرعة:


-عامل إيه دلوقتي؟ فتح عيونه؟ أنا جبت له الدواء، ساعديني علشان ياخده.


قامت "تقى" بسرعة، وكأنها شعرت أن الوقت يمر بسرعة أكبر من قدرتها على التفكير. بيدين مرتجفتين، ساعدته على أن يتناول الدواء بصعوبة، إذ كان جسده غير متوازن، وكلما حاولوا أن يسندوه قليلاً، كان يسقط مرة أخرى. في النهاية، بعد أن تمكنوا من إعطائه الدواء، وضعوا الغطاء عليه بحرص، وغطوه بالكامل.

عندما تأكدت "تقى" أنه قد استقر أخيرًا، قالت بلهجة محملة بالقلق:

-عمي، أنا هقوم أطبخ لكم حاجة، علشان من الصبح ما أكلتوش حاجة.


توجهت "تقى" إلى المطبخ، وتبعتها "مريم" بخطوات سريعة، بينما جلس "أحمد" بجانب "يونس"، يمرر يديه بحنان على شعره الناعم، لكن وجهه كان غارقًا في الحزن، فقد بدا واضحًا أنه يعاني من الألم ويشعر بثقل ما مر به.

 مرت دقائق ثقيلة قبل أن تعود الفتيات إلى الطاولة، حامِلتَيْنِ قليلًا من الطعام، حيث وضعوهما على المائدة الصغيرة بشكل منظم.

 ثم جلس الجميع حول الطاولة في صمت، بينما كان قلب "تقى" مشغولًا بما يحدث مع "يونس". 

نظرت إليه بعينين مليئتين بالقلق ثم تحدثت بصوت منخفض، محاولًة كسر سكون اللحظة:

-عمي، هو بقى أحسن دلوقتي؟ نقدر نديه شوية أكل؟

تقدم "أحمد" قليلاً من الطاولة وأجابها بصوت هادئ لكنه مليء بالحنو، وكأنّه يحاول طمأنتها:


-سيبيه يا بنتي يرتاح شوية بعد ما أخد دواه، عشان نقدر ناخده بالليل على البيت.


أومأت "تقى" برأسها بصمت، وأعادت النظر إلى "يونس" بقلق، بينما جلسوا جميعًا، يبدأون في تناول وجبتهم في صمت مطبق، كأن الكلمات قد خانتهم في تلك اللحظة.

 لم يفارق نظرها "يونس" لحظة، وكانت مشاعرها تتأرجح بين الحزن العميق والقلق المستمر على حالته التي تبدو أكثر هشاشة من أي وقت مضى.


أما هناك في المطعم

مرت عدة ساعات، وهي تواسيه وتساعده، تحاول تخفيف قلقه المستمر بشأن شقيقه. نجحت في ذلك بشكل كبير، حيث انشغل بالحديث معها، وبدأ ينسى جزءًا من همومه.

 حتى حل المساء، وأصبح الوقت قد مر بسرعة. قامت بتنظيف بعض الأواني، ثم نزعت المئزر عن جسدها وجففت يديها. عندما انتهت، التفتت إليه بابتسامة خفيفة وقالت:

-"حسام"، أنا لازم أرجع البيت، اتأخرت، وإنت خلص إللي باقي، مش باقي كتير.


استدار إليها، وفي عينيه كان هناك نظرة من الامتنان والشكر. لقد خففت عنه الكثير من الهموم والأعباء، وأحس بشيء من الراحة بعد يوم طويل. تقدم نحوها وقال، وهو يحاول العثور على الكلمات:

-مش عارف أقولك إيه يا "شهيرة"، بجد، خفّفتي عنّي كتير. تعبتك معايا أوي انهارده.


هزّت رأسها بنفي خفيف، ثم ابتسمت وقالت بصوت هادئ:

-مافيش تعب يا "حسام"، إحنا واحد في تعبنا وزعلنا. هسيبك دلوقتي، ربنا يسهّل.


ثم نظرت إليه لحظة، وكأنها تحاول إخفاء مشاعرها، لكنها شعرت أنها قدمت له ما تستطيع، ثم غادرت المطعم و إلتفت هو إلى عمله.

*************                        

جلسوا يتبادلون الحديث حول مختلف المواضيع في انتظار أن يستفيق "يونس". كانت "تقى" ترقبه بتركيز، تراقب ملامحه بعناية، ولاحظت ارتخاء عضلات وجهه وظهور الهدوء عليه. شعرت بشيء من الراحة، تنفست بعمق، وتمنت أن يفتح جفنيه ويعود إلى حالته الطبيعية. لم يمضِ سوى لحظات قليلة حتى بدأ "يونس" يفتح عينيه ببطء، ثم أغلقهما مجددًا ليعتاد على الضوء الساطع في المكان. بعد لحظات، تحركت شفتاه، ثم نطق بصوت خافت:

-مايه ... مايه.


هرعت "تقى" إلى المطبخ بسرعة، قلبها ينبض بعجلة، ولم تسمع باقي كلماته. جلبت كأس الماء وعادت إليه مسرعة، ثم مدت الكأس إلى "أحمد" الذي كان قريبًا منه. ساعدوه في أن يستند على الوسادة بشكل مريح، ثم أخذ "يونس" الكأس بيده وأخذ شربة واحدة كبيرة كأنه لم يشرب منذ أيام. تنهد بارتياح، ثم قال:


-الحمد لله، أنا كويس. بلاش نظرة الحزن اللي في عيونكم دي، خليكم مطمنين.

ربت "أحمد" على يد "يونس" بحنان، وقال بابتسامة دافئة:


-إحنا كويسين يا ابني، ناقصنا بس نشوفك بخير.


ابتسم "يونس" ابتسامة خفيفة، وأجاب بهدوء:

-أنا بخير، كفاية عليا وجودكم جنبي. ربنا يحفظكم ليَّ.


قال كلماته وهو يرمق "تقى" بنظرات مليئة بالحب والامتنان. أما "تقى"، فقد خفضت رأسها خجلاً من تلك النظرات، وقد كست حمرت الخجل وجنتيها. ساد الصمت لبرهة، حتى كسرته "مريم" قائلة بصوت يحمل الكثير من القلق:


-الحمد لله على سلامتك يا بيه! قلقتنا عليك، كده تعمل فينا كده ؟ ده توته كانت هتموت من الخوف!


كلمات "مريم"، التي نطقت بها بعفوية، كانت كفيلة بأن تُشعل في قلبه مخاوفه. مجرد فكرة حدوث شيء لـ"تقى" يجعله يشعر بالذعر الذي لا يستطيع أن يتخلص منه بسهولة. نظر إليها بتردد، ثم تنهد بعمق، وحاول أن يخفف عن نفسه بالكلمات، رغم أن قلبه كان ينبض بعنف. قال بصوت منخفض، متحشرج من أثر التعب:

-بعد الشر عليها... أنا كويس، بس تعبت شوية... آسف تعبتكم وزعلتكم.


أحست "مريم" بحجم التوتر الذي يعصف به، فحاولت أن تخفف عن الجو الكئيب الذي يحيط بهما.

 ابتسمت ابتسامة مرحة، رغم قلقها عليه، محاولة أن تبعث بعضًا من الراحة في قلبه وتزيل عن كاهله هذا التعب. ثم قالت بنبرة لطيفة:

-"حسام" ما طمنتهوش عليك المرة دي؟ منكد علينا في البيت؟


-أنا بقيت كويس، يلا نرجع على البيت علشان ماما زمانها بالها مشغول علينا.


بعد مرور بعض الوقت، استمروا في الحديث دون أن يلاحظوا كيف مر الوقت بسرعة.

 ثم استعدوا للذهاب إلى منزلهم. قامت "مريم" و"أحمد" بإخراج "يونس" إلى الخارج حيث كانت السيارة، بينما تبعتهما "تقى" حتى وصلوا إلى الخارج.

 استقلوا السيارة، حيث كان "أحمد" و"يونس" في الأمام، والفتيات في الخلف، ثم انطلقوا نحو وجهتهم..                   

مع غروب الشمس، بدأ عدد الزبائن في المطعم يتناقص، ومرت الدقائق وكأنها ساعات، فلم يكن هناك أي شخص جديد يأتي. كان الجميع قد بدأ يتوجه إلى المساجد استعدادًا لصلاة المغرب، خاصة وأن موعد الأذان قد اقترب. في تلك الأثناء، قرر "حسام" إغلاق المطعم والتوجه إلى المسجد ليصلي قبل أن يعود إلى منزله.


دخل "حسام" المسجد، فوجد أن المكان كان مليئًا بالمصلين. صلى بخشوع وتضرع إلى الله أن يهدئ قلوبهم، وييسر لهم أمورهم، وأن يبعد عنهم كل حزن وهم. كان يشعر في تلك اللحظات بالسكينة والطمأنينة، كما لو أن صلاته كانت تواسيه في أيامه الصعبة.


بعد أن انتهى من الصلاة، خرج متجهاً إلى منزله. وعندما اقترب من باب المنزل، رأى سيارة والده متوقفة أمامه. نزل شقيقه "يونس" من السيارة، بينما كان والده يقف بجواره. شعر "حسام" بلهفة كبيرة، فهرع إليهما، وفور وصوله إليهما، هتف قائلاً بلهجة مليئة بالقلق:

-طمني عليك، إنت كويس كده؟ تخضنا عليك يا "يونس"!


أجاب "يونس" بهدوء، محاولاً تهدئة روعه قائلاً:


-أنا كويس يا "حسام"، متخافش، بس كنت محتاج أرتاح شويه.


-الحمد لله إنك بخير، وخلصنا من "وليد"، خلاص البوليس  مسكه.


ظهرت الفرحة بوضوح على معالم وجه "يونس"، ورفع نظره نحو والده قائلاً بفرح:


-بابا، بجد! خلاص البوليس قبض عليه؟


ابتسم "أحمد" عندما شاهد فرحة ابنه، وعينيه تلمعان من السعادة، وأجاب قائلاً:

-أيوه يا حبيبي، خلصنا منه، اطمن. يلا، ندخل جوه ونتكلم شويه."

تقدّموا جميعًا إلى الداخل معًا، قلبهم مليء بالبهجة والسعادة، وكان الجو مليئًا بالدفء الأسري. استقبلتهم "زينب" بابتسامة واسعة، وعينيها تشعّ حبًا، بينما كانت تساعدهم بكل اهتمام. عندما رأت "يونس"، ضمّته إلى صدرها بحنان بالغ، ودموع الفرح تنهمر من عينيها. بعد لحظة من العناق، ابتعدت عنه قليلاً، ثم نظرت إليه بحب شديد، وهتفت بصوت يملؤه الدفء والحنان:

-أنت كويس يا حبيبي؟ قول لي، ما تشيلش هم، خلاص كله خلص .


الفرحة كانت تغمر المكان، وكان ذلك اللقاء بمثابة بداية فصل جديد من الأمل في حياتهم.


من أنا 

البارت 24


في صباح اليوم التالي، جلس الجميع بعد إفطارهم وسط نقاشٍ عائلي، بعدما طلبت الفتيات إقامة حفل زفافٍ صغير في منزلهم، حفلٍ عائلي بسيط يجمعهم، على أن يُوفَّر المال الذي كان يمكن أن يُنفق على الزفاف لتطوير مطعمهم الصغير كي ينمو. لكن "يونس" اعترض، وقاطع نقاشهم قائلًا:

-أنا مش موافق على ده. أنتم من حقكم تفرحوا ويتعمل  ليكم فرح كبير.


ردت عليه "تقى" بهدوء قائلة:


-"يونس"، الفرح يوم ويعدي. إحنا عايزين حفل بسيط، وفلوس الفرح نكبر بيها شغلنا. لو سمحت، ده طلبي الوحيد.


نطقت "شهيرة" مؤكدة على كلامها قائلة:


-أنا كمان موافقه على كلام  "تقى". مفيش داعي للفرح الكبير، إحنا هنعمل حفله صغير بس.

بعد نقاشٍ طويل بين الجميع، وسط اعتراض "يونس"، استطاعت الفتيات إقناعهم بصعوبة. وحين رأى "يونس" إصرارهم، وافق على كلامهم، ثم تحدث قائلًا:


-بابا، أنا أجرت البيت إللي جنب المطعم هناك، هعيش أنا و"تقى"، وجهزت كل حاجة، وبالليل نروح نشوفه بعد كتب الكتاب.


رد "أحمد" عليه بسعادة واضحة في نبرة صوته الممزوجة بالفرح:

-ألف مبروك يا حبايب قلبي، ربنا يبارك فيكم ويحفظكم. "زينب"، يلا ابدؤا تجهزوا لبليل، نكتب الكتاب ونعمل الحفلة.


قام الجميع، حيث خرج "يونس" وشقيقه لجلب كل ما ينقص الحفل، بينما هرعت الأمهات إلى المطبخ لإعداد طعام الاحتفال في بهجةٍ وسرور. أما الفتيات، فقد ذهبن لترتيب مكان الحفل في حديقة المنزل بكل سعادةٍ وحماس، لكي يتمكنَّ من العودة سريعًا لتجهيز أنفسهن.


أصبح العمل في أوجه، وكل واحد كان يركض في جهة، وامتلأ البيت بالسرور حتى حلَّ المساء. بعدها، توجهت الفتيات إلى غرفهن، وكل واحدة بدأت في تجهيز نفسها.


وقفت "تقى" أمام المرآة بفستانها الوردي، تنظر إلى نفسها بتأملٍ ورضا، وقد لمعت حبّات الدموع في جفونها، بينما ابتسمت ابتسامةً مليئةً بالفرح. دارت حول نفسها كالفراشة التي تحلِّق في السماء، وكأنها لا تستطيع أن تكبح فرحتها.


كانت الغرفة صغيرة، لكن لم يكن فيها ما يحدُّ من تحليقها، كانت تحسُّ بأنها في مكانٍ رحب، يليق بمشاعرها التي لا تكاد تسعها. أغمضت عينيها ببطء، مستشعرةً سكينةً هادئة تنساب في أعماقها، ثم فتحت صدرها لتستنشق هواءً عميقًا، وكأنها تستعدُّ لمغامرةٍ جديدة.


بعد لحظاتٍ قليلة من هذا الهدوء، توقفت فجأة، حين سمعت صوت "شهيرة" قائلةً بنبرةٍ متوترة:

- كفايه دوران يا "تقى"، أنا مش قادرة أتحمل! قلبي بيترعش ومش عارفة مالي؟!


 حين سمعت "تقى" كلمات "شهيرة" المشبعة بالقلق، انتابها خوفٌ مفاجئ. اقتربت منها بسرعة، وقد تبدَّل وجهها من الفرح إلى الذعر. أمسكت بيدها كنوعٍ من الاطمئنان، وبدأت تربِّت على كتفها باليد الأخرى، ثم قالت بصوتٍ يحمل تساؤلًا:

-مالك يا "شهيرة"؟ قلقتيني عليكِ! ده يوم فرحك، إيه إللي مخوفك كده؟!


بلعت "شهيرة" ريقها، ولامست الدموع عينيها، بينما كان عقلها مشوشًا بالأفكار السلبية. شعرت وكأنها في دوَّامةٍ لا تعرف كيف تخرج منها. بدا الحزن واضحًا على ملامحها، وأجابت بصوتٍ يحمل نبرةَ خوف:

 -"تقى" أنا خايفة، ومش عارفة من إيه... كل ما أفكر في إللي حصل قبل كده يوم ما هربت، بترعب... وخايفة يحصل حاجة تاني.


لم تتمالك دمعةً من عينيها، ففرت على خدها، معبِّرةً عن مدى الخوف الذي ينخر في قلبها وعقلها، كما لو كان سكينًا يقطع في داخلها. رقَّ قلب "تقى" لحال صديقتها حين رأتها تبكي، فرفعت يدها لتجفف دموعها بلطف، ثم حاولت الابتسام حتى ترفع عنها بعض الحزن، وقالت:


-بصي يا شوكي... تفائلي بالخير، متخافيش. الماضي انتهى، وده يوم جديد.. مفيش حاجة هتحصل غير اللي كتبه ربنا لينا. يلا، طلعي ابتسامتك خليني أشوف عروستنا القمر!


بينما كانوا يتحدَّثون، فُتح الباب، ودخلت "مريم" ووالدتها برفقة "منة" و"إيلول"، وانطلقت الزغاريد وتصفيق البنات، مما أضفى على الجو حماسًا وفرحة.


تقدَّمت "زينب" نحو "شهيرة" وابتسامة بشوشةٌ تزيِّن ثغرها، ثم رفعت يدها وأمسكت وجنتي "شهيرة" بحنانٍ بين كفّيها. تحدثت بفرحةٍ ممزوجةٍ بدموع الفرح، وقالت:


-أنتِ كنتِ بنتي قبل مرات ابني، ياما اتمنيت اللحظة دي، اللحظة إللي أشوفكم فيها مبسوطين مع بعض. ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير يا قلب ماما.


دمعت عيون "شهيرة" فرحًا، وهي تستمع إلى تلك الكلمات الدافئة التي بثَّت الطمأنينة في روحها وقلبها. لطالما تمنَّت أن تسمع هذه الكلمات من والدتها في هذا اليوم الجميل، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يحدث في حياته. لم يُعوِّض مكان الأم أحد، لكن "زينب" فعلت ما بوسعها لكي تشعر "شهيرة" بوجود أمها إلى جانبها.


اندفعت "شهيرة" إلى حضن "زينب"، وعانقتها بقوة، كأنها تستمدُّ الحنان والدفء الذي حُرمت منه. بينما كانت "منة" تحضن ابنتها "تقى" من جانبها، ومن الجهة الأخرى "إيلول"، وكانت "مريم" تقف وسطهم، ضيَّقت عينيها وهي تنتظر دورها، ثم صاحت بصوتٍ مرح قائلة:

-أنا بنت البطة السودا! كل واحدة أخدت حضن، أنا فين؟! ماما، يلا بقى، بلاش نكد كده العريس هيطفش.


رَجَّت ضحكاتهم المكان عندما نطقت "مريم" بكلماتها، وكان العبوس واضحًا على وجهها وهي تقف وسطهم، واضعةً ساعديها أمام صدرها وتنظر إليهم في صمت.


اقتربت منها "زينب"، وأمسكت وجنتيها وهي تضحك، ثم قالت:


-عقبال لما أفرح بيكِ إنتِ كمان يا روحي، متزعليش، هي عروسة بقى ولازم تاخد حضن.


ردت" مريم"، وهي تضع يدها على خصرها وتحرك عينيها بعشوائية:


-أنا مش عايزة أتجوز، ولا إنتوا عايزين تخلصوا مني؟ وقتها شوفي مين هيملأ البيت عليكم فرحة  وروحي  الجميلة وحسي العالي د؟


قالت "زينب" مبتسمة:


-ماشي يا مريومة، نتكلم في موضوعك بعدين. أنا هروح أشوف إخواتك إذا كانوا جهزوا، وإنتِ و"أيلول " شوفوا زينة الحديقة إذا كانت خلصت، علشان الحفلة  هتبدأ، والمأذون جاي.


أنهت "زينب" كلماتها وخرجت مسرعة، بينما بقيت "مريم" واقفةً في مكانها لدقائق، ثم أمسكت يد "إيلول" وخرجت أيضًا تلحق بها. بقيت الفتيات يُكملن استعداداتهن.


في إحدى الغرف، وقف "يونس" أمام المرآة، وكانت بذلته السوداء قد أضفت عليه مظهرًا جذَّابًا، أكثر من مجرد قطعة ملابس؛ بل كانت تجسيدًا لأحلامه التي بدأت تلامس الواقع. بدأ بتمشيط شعره ببطء، حركاته مدروسة بعناية، وكأن كل خصلة شعر تحمل تفاصيل حياته. ثم وضع المشط جانبًا، وأخذ زجاجة العطر بين يديه، قلَّبها برفق، ورشَّ منها رشةً خفيفة، فانتشرت رائحتها في المكان كلمسةِ أمل.


كانت البسمة لا تفارق شفتيه، وعيناه مشعتان بأملٍ غريب، كأن السعادة نفسها قد تسلَّلت إليه. لم يكن هذا يومًا عاديًا، بل كان بمثابة يوم ميلاده الجديد. فبعد سنواتٍ من الحزن، هبَّت إليه "تقى" كقطرات المطر، فازدهر قلبه مجددًا، وكأن الزهور كانت تتفتح في أعماقه، معلنةً بداية فصلٍ جديد في حياته.


ولكن كانت هناك لمعةُ خوفٍ ممزوجةٌ بسعادته تُعكِّر صفو فرحته. استدار نحو شقيقه، الجالس خلفه على إحدى الأرائك، برفقة "مؤمن"، الذي جاء به والدهما ليحضر حفل زفافهما ثم يعود لإكمال علاجه في المصحَّة:

-"حسام"، إذا خلصت، يلا نطلع بسرعة، اتأخرنا عليهم كتير.


نظر "حسام" إليه ورفع حاجبه حين لاحظ قلقه وتوتره الظاهر من كلماته، ثم قام من مكانه وهتف بتساؤل:


-مالك يا "يونس"؟ مش على بعضك ليه؟، حاسس إنك قلقان رغم الفرحة، في حاجة مخاوفك؟!


تنهد "يونس" وأخفى قلقه ببراعة، ثم تحرك من  أمامهم بظهره وقال:


-مفيش حاجة يا "حسام"، أنا كويس، يلا نطلع، اتأخرنا عليهم.

أنهى كلماته، ومدَّ يده ليفتح الباب، ولكن الباب فُتح قبل أن تمتدَّ يده إليه، ودخلت "زينب"، والفرحة تضيء وجهها. كانت البسمة تزيِّن ثغرها، وسعادةٌ لا توصف تلمع في عينيها.


تقدَّمت نحو "يونس"، وقالت بصوتٍ ممزوجٍ بالسرور:


-ألف مبروك يا قلبي! بجد مش مصدقة. اتمنيت اليوم  ده من زمان، وربنا حققه الحمد لله. ربنا يتمم لكم على خير ويسعدكم ويرزقكم الذرية الصالحة، وتملوا البيت عليا عيال ..


نظراتها كانت كفيلة بأن يفعل من أجلها أي شيء. كانت نظرات والدته تحمل سعادةً كبيرة، تلك السعادة التي جعلته ينسى كل مخاوفه من المستقبل. ابتسامتها كانت كمرهمٍ لقلقه، ولا شيء في الدنيا يمكن أن يعادل سعادة الأم.


ابتسامتها وفرحتها بأبنائها كانتا بالنسبة لها بمثابة إنجازٍ عظيم، حلمٍ تحقَّق، وطموحٍ وصلت إليه. ما يُسعد الإنسان أكثر من رؤية فرحة أبنائه، فلذات كبده؟ يتنهَّد صدرها عندما ترى بهجتهم وسعادتهم.


اقترب منها "يونس"، أمسك برأسها بين يديه، وقبَّل جبهتها، ثم ابتعد عنها قليلًا، ونطق قائلًا:


-الله يبارك لنا في عمرك ويحفظك لينا. فرحتك دي تساوي الدنيا كلها يا نور عيني.


ربتت بيدها على ذراعه، والابتسامة لا تفارق وجهها، ثم قالت بحب وحنان:


-ربنا يسعدك يا قلبي. بجد، النهارده فرحتي كبيرة بيكم.


قاطع "حسام" حديثهم، كما اعتاد دائمًا، قائلاً بمرح:


-مفيش مبروك ليا يا ست الكل؟ ولا أنا مش باين عليا إني عريس؟ بصي على البدله، حلوة صح؟


ضحكت "زينب" بخفة على مرح ابنها الدائم، ثم تقدمت إليه وقالت:


-أجمل عريس يا حبيبي، مبروك. ربنا يحفظك ليا ويسعدكم.


ثم نظرت إلى "مؤمن"، واسترسلت في حديثها قائلة:


-وعقبالِك يا "مؤمن"، إن شاء الله. ربنا يشفيك ويرزقك بالزوجة الصالحة، وتبني بيت وعيلة. المهم إنك ما ترجعش  للسم إللي كنت تأخذه تاني.


أحنَى "مؤمن" رأسه، يحاول إخفاء تلك الدموع التي خانته، والتي كادت أن تسقط من عينيه. اختنق صوته، وتمنَّى لو كان له أمٌّ تحتضنه، لو كانت له حياةٌ أفضل، لو كان لديه عائلةٌ تحتويه.


عاش طفولةً مليئةً بالألم، كبر وسط بيئةٍ سيئة، وتحمل سموم الحياة ووجوه البشر القاسية. لم يعرف معنى حنان الأم، ولا سند الأب. كلمة "ابني" لم تكن تعرف طريقها إلى حياته. كم تمنَّى أن يستيقظ يومًا على سريره، وأن يسمع صوت والدته بدلًا من أصوات الكلاب الضالة والقطط في الشوارع. كم تمنَّى لو كانت له عائلةٌ تحتضنه، بدلًا من أن ينام على الأرصفة، تحيط به قسوة الشوارع وبرودة الشتاء القارس.


مسح "مؤمن" تلك الدمعة الخائنة التي سالت على وجنتيه، ورفع رأسه في محاولةٍ لرسم ابتسامةٍ على شفتيه، محاولًا إخفاء الألم، لكنه لم يستطع، فالألم كالمرض، مهما أخفيته، يظهر تأثيره.


رغم تلك الابتسامة الكاذبة، إلا أنهم لاحظوا حزنه عندما بلع لعابه، ثم قال:

-إن شاء الله يا طنط، ادعيلي أتعالج بسرعة من السم ده.


نظرت إليه "زينب" بحزنٍ، وكأنها قرأت ما يدور في ذهنه، وأشفقت على طفولته الضائعة المؤلمة، لكن لا شيء يتغير. الماضي يبقى عالقًا في ذاكرة الإنسان.


-ربنا يشفيك منه، ويفتح لك أبواب الخير يا ابني، ويعوضك بإذن الله. "حسام".. "يونس" شوية وتعالوا علشان تاخدوا البنات.


أنهت كلماتها بسرعة، ثم خرجت مسرعة. بينما تقدم "يونس" نحو "مؤمن" وسأله قائلاً:


-مالك يا "مؤمن"؟ أنت تعبان، باين عليك الزعل، واتغيرت في الدقائق دي، وشكلك مهموم.


-مفيش يا أخي، بس افتكرت طفولتي وزعلت. بشجد حسيت إني وحيد، من غير أم، ولا أهل.


تكلم" يونس" بصوت محمل بالعتاب قائلاً:


-ليه بتقول كده يا "مؤمن"؟ هو إحنا مش أهلك؟ من يومها بابا اعتبرك واحد منا. إحنا إخواتك يا "مؤمن"، مش لازم تنسى ده. إحنا جنبك، لغاية لما تخف وتوقف على رجليك.


رفع "مؤمن" رأسه، وهو يشعر بالخجل. بعد كل المعاناة، يجد نفسه وسط عائلةٍ دخل منزلهم بنيَّةٍ سيئة، حاول قتل ابنتهم، لكنهم يقفون إلى جانبه.


كم هي غريبةٌ الدنيا! من نظنُّ بهم خيرًا لنا قد يكونون سبب عذابنا، ومن نحاول إيذاءهم، هم شفاءٌ لجروحنا، ونحن لا ندري.

-مش عارف أقولكم إيه، أنا دخلت بيتكم علشان أؤذي آنسة "تقى"، لكن القدر كان له رأي آخر. ماكنتش عارف إنها هتكون بداية لحياتي، وانتو بصيص الأمل اللي كان وسط عتمة حي


اقترب" يونس" من "مؤمن"، وربت على كتفه مبتسمًا، ثم قال:


-إحنا أهلك من اليوم ده، وإن شاء الله أول ما تكمل علاجك هتشتغل معانا.


ابتسم "مؤمن"، وعانق "يونس"، وكاد يبكي من فرط سعادته. فقد منحته هذه العائلة الأمان والسعادة، وشعورًا بالأخوَّة. لأول مرة، يشعر بأنه وسط أشخاصٍ يحبونه بصدق، يعاملونه كإنسانٍ بكل لطفٍ وطيبة. أحيانًا، يأتي العوض على شكل أشخاصٍ يقدِّمون لك ما حُرمتَ منه.


فصل "مؤمن" العناق عن "يونس"، ثم تقدَّما إلى الخارج. وعندما خرجا، شعر "يونس" بإحساسٍ غريبٍ وألمٍ في جسده، وبدأت يده تتحوَّل إلى اللون الأزرق. شعر بصداعٍ يجتاح رأسه وألمٍ يسري في جسده، لكنه تجاهل الأمر كي لا يُفسد سعادة الجميع، وأخفى ما يشعر به، داس على أوجاعه وكأنها شيءٌ يمكن طيُّه في جيب سرواله، حتى وصلا أمام غرفة الفتيات.


وقبل أن يطرقوا الباب، سمعوا صوت "أحمد" من خلفهم وهو يقول:

-يلا روحوا على الجنينه، مكان الحفلة. أنا هجيب بناتي. يلا بسرعة، "مؤمن"، خدهم، المأذون وصل.


رفع" حسام "إحدى حاجبيه كعادته، ثم قال مستغربًا:


-مش كان المفروض العريس ينزل هو والعروسة مع بعض؟ ولا دي عادة جديدة اخترعها بابا؟


مسك "مؤمن" يد "حسام" وسحبه خلفه إلى الخارج قائلاً:


-تعالَ يا ابني، سيب أبوك يعمل اللي قال عليه. إحنا ننزل عند الضيوف تحت.


خرجوا معًا إلى مكان الاحتفال في حديقة المنزل الصغيرة، التي كانت تبدو وكأنها تحفةٌ فنيةٌ بزينتها وترتيبها، وسط شجيرات الورد وخضرة المكان. هناك، كان عددٌ قليلٌ من ضيوف الجيران والأصدقاء يجلسون في راحة. وفي الجانب الآخر، كانت هناك منصةٌ صغيرةٌ للعروسين، وأمامها "المأذون".


جلس كل واحدٍ منهم في مكانه في انتظار العروس، بينما جلس "مؤمن" على إحدى المقاعد يستنشق الهواء، وكأنها المرَّة الأولى. شعر بسكينةٍ وطمأنينة، وكان الهدوء يسكن قلبه لأول مرةٍ في حياته.


بعد دقائق قليلة، دخل "أحمد" ومعه "تقى" و"شهيرة"، كل واحدةٍ منهما في جهة، وخلفهم الباقي، وسط تصفيقٍ حارٍّ وجوٍّ مليءٍ بالفرح. جلست كل واحدةٍ منهما بجانب زوجها استعدادًا لعقد القران.


لم ترفع "تقى" رأسها من شدَّة خجلها، وكانت تشعر أن دقَّات قلبها أصبحت مسموعةً من شدَّة نبضه. لأول مرة، تشعر بهذا الإحساس بين التوتر والسعادة، وتتساءل كيف ستكون حياتها الجديدة. هي تعرف "يونس" منذ فترةٍ طويلة، ولكنها الآن تشعر وكأنها لأول مرةٍ تجلس بالقرب منه.


لم يمر وقتٌ طويلٌ حتى تمَّ عقد قران كليهما، وقال "المأذون" جملته الشهيرة:

"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في الخير بالرفاء والبنين إن شاء الله."


أغلق "المأذون" دفتره، لملم متعلقاته، ثم نهض وبارك لهما مجددًا، وألقى عليهما تحيةً قبل أن يغادر. جمع أشيائه ثم خرج.


نظر "يونس" إلى "تقى"، وسعادةٌ كبيرةٌ تغمره. نظر إلى عينيها طويلًا، وكأنها لأول مرة. كانت نظراتٌ متبادلةٌ بينهما، وكأن عيونهما تبوح بما في قلوبهما. كانت نظراتٌ تحمل كلَّ ما في قلبه.


رفع يديه، وأمسك رأسها بين كفَّيه، ثم قبَّل جفنها قبل أن يبتعد عنها، وقال:


-عشت كل حياتي أهرب وسط الضلمه، ومكنش في  مخرجً لغاية ما لقيتك ، وكنتِ بصيص نور وسط عتمتي. وكل ما  أقرب منكِ، أشوف النور. كنت بدور علشان أعرف أنا مين وعن نفسي لغاية ما لقيتك، ساعتها لقيت نفسي معاكُ.


رفعت "تقى" رأسها، واحمرَّ وجهها خجلًا، وغطَّت وجنتيها حمرةٌ زادت ملامحها رقةً. شعرت أن لسانها قد أصبح ثقيلًا، ولم تجد كلماتٍ تعبِّر بها عمَّا تشعر به، أو كيف تصف ما تحسُّ به في قلبها. فهم "يونس" ما يدور في ذهنها من خجلٍ أمام الجميع.


تقدَّم الجميع، وانهالت عليهما التهاني من الحضور.


أما "حسام"، فلم يكن يقلُّ سعادةً عن الجميع، فقد احتضنها بين ذراعيه وهي تكاد تذوب خجلًا، ثم ابتعد عنها، وقال:

-يمكن اتوجعت كتير علشان أوصل للحظة دي، بس انتي تستاهلي  أكتر. واجهنا صعاب كتير، بس كل حاجة حلوة مش بنوصل لها بسهولة، وحبك  مكنش سهل.


احمر وجهها خجلًا، وتلعثمت قبل أن ترد وهي تهرب من عينيه:


-م.. م.. مش سهل، بس ربنا سهل اليوم وخلانا نلتقي مع بعض.


بدأ الاحتفال، وتم تقديم المأكولات والعصائر للمدعوين. وفي وسط هذا الجو المليء بالفرح، شعر "يونس" بحرقةٍ في جسده، واشتدَّت ملامحه، وأصبح لونه يتغيَّر، وكأنما مزيجٌ بين الأسود والأزرق، وعيناه احمرَّت كالنيران.


أصبح لا يرى أمامه شيئًا، ولا يسمع سوى أصواتٍ غريبةٍ تشبه عاصفةً تكاد تأكل عقله. حاول أن يسيطر على نفسه، لكن فجأة، دون أن يشعر، أمسك بالمائدة التي أمامه، ورفعها ثم دفعها! سقطت على الأرض، وبدأ في تحطيم كلِّ شيءٍ أمامه، وسط صدمة الجميع.


اقتربت منه "تقى" بهلع، وقالت:

-"يونس"! مالك؟ إيه اللي حصل؟ أنت كويس؟ "يونس"!


لكن "يونس" لم يكن يسمع أو يرى شيئًا مما حوله، وراح يكسِّر كلَّ شيءٍ في طريقه. فجأة، سقط على ركبتيه، وانهمرت دموعه، وأصبح نصف وجهه مخيفًا! ثم انهار على الأرض فاقدًا للوعي.


تدافع الجميع حوله في هلعٍ وبكاء، وقد تحوَّلت فرحتهم إلى حزنٍ وذعر. أمسكت "تقى" رأسه بين يديها، وصاحت ببكاء:

-"يونس"! "يونس"! رد عليّ! ماله؟ ماما! حصله إيه؟ ردي عليّ!


فور أن انتهت "تقى" من كلماتها الممزوجة بالبكاء، جاء الرد من شخص خلفها قائلاً:


-أنا عارفة السبب اللي خلا" يونس" كده.


من أنا

25


نزلت كلمات تلك السيدة إلى مسامعهم كقذيفة مفاجئة، فاستداروا نحوها في لحظة واحدة، ملهوفين، يبحثون في حديثها عن بارقة أمل لإنقاذ "يونس". 

كان كلٌّ منهم يتمنّى أن يكون ما تقوله هو الطريقَ الوحيدَ الذي قد يُنقذه. وحين رأوه وبدأوا يتعرّفون على هويّتها، تجمّدت الأنفاس، وتوقّفت اللحظات في أعينهم. 


أما العائلة، فقد وقفوا مشدوهين أمام تلك السيدة التي كانت في سن "زينب"، تقف ثابتة بلا تعبير على وجهها، كأنها تمثال. 

الأبناء لم يتعرفوا عليها، لكن "زينب" فزعت حين رأتها، وعرفت على الفور من هي! 

" أحمد" كذلك، لكن صدمتها لم تدم طويلًا. ابعدوا نظرهم عنها وركضوا بسرعة إلى "يونس". حملوه في عجلة إلى غرفته وسط نحيب "تقى" الذي كان يمزق القلوب... وضعوه على سريره، فركض "حسام" نحو هاتفه وقال: 


-بابا، هكلم الدكتور بسرعة، يجي  يلحق أخويا من اللي صابه 


-"يونس" مش محتاج دكتور يا ابني، "يونس" محتاج قرآن. 


قالت السيدة ذلك وهي تتقدم نحو "يونس" بنظرة جامدة، ثم أضافت: 


-حد منكم يقرب منه، ويحط إيده على رأسه، ويقرأ قرآن بسرعة لو عايزين تنقذوه. 


لم يعطِها "حسام" فرصة لتكمل، فركض إلى جانب شقيقه بدون تفكير، و جلس بجانبه ووضع يده على جبينه، وبدأ يتلو ما تيسر من القرآن بصوت هادئ، بينما قلبه كان ينبض رعبًا خوفًا من أن يحدث شيء لشقيقه. 

كلما ارتفع صوته في التلاوة، بدأ العرق يتصبب من جبين "يونس" كالسيل، وحرارته ارتفعت كأن جسده وسط نيران مشتعلة.. 

جسده بدأ يتحرك بشكل عشوائي، ودموعه تتساقط بغزارة... كان وجهه شاحبًا، جلده أصبح شبيهًا بجلد الثعابين، ونصف وجهه الآخر بدا مخيفاً.... 

كلما ساءت حالة "يونس"، زاد صوت "حسام" قوة في تلاوة القرآن. وبعد فترة قصيرة، بدأ "يونس" يسترخي شيئًا فشيئًا، حتى هدأ جسده وعاد إلى طبيعته. ثم فتح عينيه وحرك جفونه بصعوبة، وقال بصوت خافت: 

-ميه....ميه... 


هرعت "تقى" بسرعة إلى الخارج، ولم تمر سوى ثوانٍ حتى عادت تجري وفي يدها كأس من الماء. جلست بجانب "يونس"، ورفعت رأسه قليلاً وساعدته على شرب الماء.. ابتلع الكأس دفعة واحدة وكأنّه لم يشرب الماء منذ وقت طويل. أبعدت الكأس عنه، فبقي يلهث وكأنّه ركض مسافة طويلة، ثم أعاد رأسه إلى المخدة وقال بصوت خافت: 


-أنا آسف يا "تقى"، أنا آسف. 


بلهفة، احتضنت "تقى" كفه بين يديها، وابتسمت وهي تحاول تخفي مرارة قلقها، وقالت: 


-بتتأسف على إيه؟ المهم إنك تكون كويس، ومفيش حاجة تانية تهم. 


لمعت عينيه، وهو ينظر إليها، وأول مرة يغرق في تفاصيل عينيها ويقرأ ما في قلبها.. فالعين تبوح بما في القلب، وكان يشعر بوحشية الدنيا ومرارة الأيام، وكأن حياته كانت محطمة.... ولكن حين ظهرت هي، كنسمة دافئة، جلبت السكينة إلى حياته، وصارت مرارته حلواً، وحطام حياته ربيعاً مشرقاً. 


طال التحديق في عينيها وكأنهما مغناطيس يجذبهما، ولم يعد يرى شيئاً سوى تلك الكلمات المتحجرة في صدره، التي كانت تبوح بها عيونه. 


ازداد احمرار خجلها، وأمسكت بوجنتيه بين راحتي يديها، وقطعت لحظة الصمت قائلة: 


-ارتاح دلوقتي يا "يونس" علشان تبقى كويس، إنت تعبان. 

وضع يده على يدها التي كانت على خده، وابتسامة عذبة ظهرت على شفتيه، وقال: 


-بس إنتِ دواء تعبي ومسكن ألمي. خليكِ معايا علشان يخف ألمي.. 


احمرت وجنتاها بشدة، ودفء الخجل غمر وجهها حتى كاد يلتهمه.. نظرت إلى الأرض سريعًا، وكأنها تهرب من عيون الجميع التي كانت تترقبها بنظراتها المتسائلة. قلبها كان ينبض بسرعة، وشعرت وكأن الأضواء مسلطة عليها، فكل نظرة من الحضور كانت تجعلها تزداد توترًا. لم تكن تتوقع أن يكون هذا الموقف بهذا الشكل، وكلما حاولت رفع عينيها، شعرت بأن أعينهم تلاحقها أكثر. 


تنبهت "زينب" إلى الموقف سريعًا، وطلبت من الجميع الخروج ليأخذوا قسطًا من الراحة. 


لم ينبس أحد منهم بكلمة، وخرجوا تباعًا، تاركين "تقى" مع "يونس". 

وعندما خرج الجميع، أغلقت "زينب" الباب وراءها ثم توجهت إلى الخارج حيث مكان الجلوس، حيث جلس الجميع في انتظار معرفة هوية تلك السيدة. 

أما "أحمد" و"زينب"، فقد كانا يعرفان هويتها جيدًا، وقد زادت زيارتها قلقًا بالنسبة لهما. 


كسر صمت المكان المشحون بالتوتر صوت تلك السيدة، التي بدأت حديثها قائلة: 


- على  فكرة الأستاذ أحمد ومراته أكيد عارفين أنا مين؟ بس، الأولاد لأ. أنا "فاطمة" أم "يونس". 


نظروا إليها بدهشة وحيرة، متسائلين في أنفسهم: "هل هذه هي أم "يونس"؟ هل هي من تخلت عنه وهو في تلك السن الصغيرة؟ ألم تخشَ عليه من اليتم؟ ألم تخشَ عليه من قسوة الحياة؟ تركته في٨ مصير مجهول؟" 


كل هذه التساؤلات دارت في أذهانهم، وقد أدركت هي ما يفكرون به، فتركت لهم فرصة للاستفسار عما يدور في عقولهم. 


كُسر هذا الصمت المتوتر، حين هتف "حسام" متسائلًا: 


-مستحيل! تكوني أم؟! مش ممكن. إزاي تسيبي "يونس" لوحده كده وترجعي دلوقتي بكل البرود ده؟ 


سؤال "حسام" لم يُحرّك جفنًا من عينيها أو يُشعرها بالندم، بل على العكس، زادت ملامح وجهها قسوة، واسودّت عيناها كأنها تخبرهم عن قسوة قلبها، وأن لا مكان للحنان في داخله. حدّقت بهم، وهي تشبك يديها ببعضهما البعض، ثم بدأت حديثها بصوت بارد: 


-كنت أجمل بنت في القرية، وكانوا كتير عايزين يتجوزوني، بس أنا كنت بحب واحد تاني. لكن القدر فرقنا، لما جوزني أبويا غصب عني لراجل أكبر مني بسنين كتير. عشت معاه أيام سودة، وسط حريمه التلاتة، وكل واحدة كانت بتحارب علشان تاخد ممتلكاته، وبيتباروا مين تخلف الولد  وقتها، حاولت بكل الطرق علشان أخلف، روحت  عند ست كانت دجالة "ساحرة" عشان تساعدني. قالت لي وقتها إن  لازم أدفع ثمن مقابل مساعدتيها دي... 


صمتت لحظة، والجميع كانوا منتظرين تكمل حديثها، ليس بسبب حماسهم لسماع القصة، بل لأنهم كانوا يريدون معرفة سبب اختفائها وتركها ابنها وراءها كأنها رمت قطعة قماش دون قيمة. وكان من المؤكد أن معرفة الحقيقة ستدمرهم. ثم تابعت حديثها بنفس البرود: 


-طلبت مني إن لو خلفت ولد، تاخد مني ذهب كتير، وإن حد من قرايب جوزي يكون هو القربان بعد ما أخلف..... 

لكن لو خلفت بنت، كانت هتاخد البنت مني. وافقت وقتها، لأن كان كل همي أخد كل حاجة من ممتلكات جوزي مهما كان الثمن. كنت بنفذ كل طلباتها، وهي كانت منتظرة الخبر لحد ما في يوم اكتشفت إني حامل، فرحتي كانت كبيرة... مش علشان الحمل، لكن علشان هأخد كل حاجة. 


ثم، بينما كانت تحاول استكمال كلامها، قاطعها "حسام" بنبرة غاضبة مليئة بالكراهية والغضب، وعيناه مليئتان بمشاعر لا توصف تجاه هذه السيدة: 


-بصي، كملي باختصار، عشان بدأت ازهق من حكاياتك الخيالية بسرعة، قبل ما يصحى "يونس". 

رمقته بنظرة غاضبة شديدة بسبب تدخله المتكرر في حديثها. لو كانت النظرات تُحرق، لكان الحريق قد اجتاح المكان من شدة الغضب. كانت مشاعرها ظاهرة على وجهها، والغضب يسيطر على عينيها. ثم، استمرت في سرد قصتها وهي تقول: 


-بعد الحمل، كنت بروح لها كل يوم لحد ما ولدت ابني. كنت فرحانه أوي، وجوزي وقتها قال لهم إن كل الممتلكات هتبقى ليا، لكن زوجاته ما تقبلوش إللي حصل. زوجته الأولى قتلتُه، وبعد موته دخلت السجن، وأنا بقيت لوحدي مع زوجته الثانية، اللي كانت دايمًا بتقابل واحد اسمه "وليد". ما كنتش فاهمة هو عايز إيه. لحد ما في يوم وأنا ماشية في الجنينه ومعايا ابني، لقيت قدامي الدجالة."


فلاش باك: 


وقفت وسط حديقة منزلها الواسعة، تستنشق هواءً نقيًا، تحتضن ابنها إلى صدرها، والبسمة تعلو وجهها. حصلت على كل ما تمنته: طفل، وكل ممتلكات زوجها بالكامل. خلاص، هي كانت في غاية السعادة. كل شيء كان قد تحقق، وكانت مثل الطير الذي يطير في السماء. لكن كما يحدث دائمًا، لا يدوم الحال على ما يرام. بينما كانت تمشي بين الشجيرات، شعرت بشيء غريب، شخص ما يتتبع خطواتها. في لحظة، أصابتها نوبة من القلق، وبدأ قلبها ينبض بسرعة. استدارت بسرعة، محاولةً اكتشاف من يقترب منها، لكنها لم تجد أحدًا. فجأة، هتفت بقلق: 


-في حد هنا؟ مين هنا؟ اطلع بسرعة. 


وفور انتهاء كلماتها، ظهر أمامها آخر شخص كانت تتوقعه. كانت تلك الساحرة العجوز، التي تقدمت إليها بمظهرها المخيف، ثم قالت: 


-هل نسيتِ اتفاقنا يا أم "يونس"؟ فين حقي؟ فين كل إللي طلبته منك؟ 


غضبت أم "يونس" من تلك الساحرة، ولم تكن تنوي منحها أي شيء مما حصلت عليه. الطمع كان قد أعمى عينيها، وأصبح لا شيء يوقف رغباتها. لم تعد ترى سوى ما تملكه. نظرت إلى الساحرة باحتقار، وقالت: 


-روحي من هنا، مالكيش حاجة عندي. بدل ما أطلب لك البوليس، اطلعي من هنا. 


تجهمت ملامح الساحرة، وتحولت إلى شيء مرعب، كما أصبح لون عينيها أسود، وكأن داخلها حريق يخرج دخانه حتى زاد السواد في عينيها. لم تستطع بلع الخدعة التي نصبته لها "فاطمة"، وتجمع في قلبها كل الحقد والشر في لحظة واحدة وهي تحدق في الرضيع، ثم قالت بصوت قوي يثير الرعب في النفوس: 


-هيدفع أبنك ثمن غدرك بيا! هتدمره  بلعنتي وسحري، وهيعيش بنص وش مشوه، وجلده هيبقى زي التعبان السحر هيفضل ملازمه . مش هيرحمه حد! 


تفوهت الساحرة بتلك الكلمات التي كانت محملة بالغضب العارم، والتوعد، والإصرار على تنفيذ ما وعدت به. كانت تحترق من الداخل، ولم تستطع تقبل ما فعلته بها "فاطمة". 

لم تقبل تلك الخدعة التي نُفذت ضدها، فانصرفت غاضبة، حاقدة، ومصممة على هدفها، لن تتوقف قبل أن تنقض على ذلك الصغير الذي كان ضحية طمع والدته. 


ومنذ ذلك اليوم، بعد اختفاء الساحرة، نسيت أم "يونس" أمرها، وعاشت مع ابنها أيامًا جميلة. وفي إحدى الليالي، بينما سكن الليل ونام الجميع، وهدأت النفوس، كانت أم يونس تغفو في سلام، لكنها استيقظت فجأة على صرخات طفلها التي لم تكن عادية. كان يبكي بصوت عالٍ دون توقف. حاولت احتضانه ليهدأ وينام، لكن دون جدوى. قامت بهلع، مسرعة، وأضاءت الغرفة، ثم هرعت إليه لتكتشف السبب وراء بكائه الشديد. وما إن رأت وجه طفلها حتى صُدمت. لقد أصبح نصف وجهه مشوهًا بشكل مريب ومرعب، وجلد جسده أصبح كالثعبان 


تجمدت أم يونس في مكانها، قلبها يكاد يتوقف من الصدمة. لم تستطع أن تصدق ما تراه عيناها. نظرت إلى وجه طفلها المشوه، ثم إلى جسده الذي تحول إلى شيء غير طبيعي. أصابها الذعر الشديد، وشعرت كأن العالم كله انهار أمامها. صوت قلبها كان يدق بسرعة غير طبيعية، وعقلها يحاول أن يستوعب ما حدث. كانت تشعر بخوف لا يوصف، وحيرة تلتهم عقلها. 


كلمات الساحرة كانت كأنها جرس رن في ذهنها، وأيقنت أن الساحرة هي السبب فيما حدث لصغيرها. نظرت إليه لحظة، وهو يصرخ بين يديها. هل تختار صغيرها أم تختار المال الذي تركه زوجها؟ لكن لثانية، طغى الطمع على قلبها، فحملت صغيرها بين يديها وهي تفكر كيف تتخلص منه، وكأنه لم يكن جزءاً منها. 


بعد عدة أيام، تقبلت شكل ابنها، أو بالأحرى، لم يعد يهمها. تركته على حاله، وكان في كل زيارة يأتي "وليد" إليهم، يطيل النظر إلى الرضيع، ويحمله ويداعبه. ولكن لم تكن نظراته نظرات حب، بل كانت تحمل خبثًا كبيرًا وشرًا ونية سيئة. لم تفهم "فاطمة" سبب زيارته لهم، ولا الصلة التي تربطه بضرتها. لكن حتى سمعت في إحدى الأيام حديثه مع ضرتها خفية، قائلًا: 


-أنا هأخذ العيل ده لأنه فيه كل المواصفات اللي قال عليها الدجال، وهطلع بيه الكنز. وأنتِ بيعي كل حاجة حتى البيت، وسافري من هنا، واتخلصي منها كده محادش هيعرف حاجة... 


«باك» 


انهت كلماتها وهي لا تزال على نفس هدوئها وصلابتها، مع تلك الخطوط القاسية التي تميز ملامحها. أخذت رشفة من الماء، وقبل أن تكمل، قطع "حسام" حديثها مرة أخرى متسائلًا: 


-إزاي تكوني عملتي كدة؟ مستحيل تكوني بشر زيينا! إزاي ضحيتِ بابنك عشان الفلوس؟! دمرتي حياته! إزاي لسه عندك ضمير تيجيي بيه هنا؟! 


ردت عليه بكلمات مختصرة، وبكل جمود كما اعتادت: 


-حتى أبويا باعني عشان الفلوس، وحرق قلبي. مش بقي عندي قلب أحب بيه حتى ابني. 


-كملي كلامك بسرعة واطلعي من هنا، عشان مستحيل اسمح لك ترجّعي الحزن لقلب أخويا حتى لو كنت هقف قدامك علشانه. 


رمقته بنظراتها ثابتة، التي تشبه جمود الجليد، ثم اكملت حديثها بنفس نبرة الجمود تلك قائلة: 


-يومها بقيت بدور على أي عيلة اشتغل عندهم،و اسيب "يونس" عندهم و بعدها أهرب بكل أملاك جوزي و مفيش حد هيدور ورايا، كنت عارفه ان "وليد" مش هسيب "يونس"! 

بس الفلوس كانت عندي أهم، جيت و اشتغلت كام يوم هنا وبعدين سيبت ليهم "يونس"، و وقتها بعت كل ممتلكات جوزي و هربت بالفلوس و سبت كل حاجه ورايا حتى مراته سيبتها.. 


توقفت عن الكلام تبتلع لعابها لترطب حلقها الجاف من كثرة الحديث، و تنهدت بعمق ، و كأن ذكريات الماضي تثفل كاهلها، لا ترغب في سرد ما قد حدث سابقاً أو بالأحرى لا يهمها ما مضي كانت تريد الخلاص منه بشتى الطرق، و تضحي بكل شيء مثلما فرطت ب فلذة كبدها و هو لا يدري شيء... 


دام صمتهم لدقائق كل منهم ينتظر أن يبوح أحد منهم بأسئلته التي تمكث في ذهنه و تزعجه، كسرت "زينب" لحظة صمتهم و أنقذت ادمغتهم من تلك الاسئلة التي تلتهم عقولهم في الداخل وتتحجر الكلمات  في أفواههم لا تريد الخروج! 


-ليه رجعتي دلوقتي؟ و إزاي عرفتي إن "يونس" هتجيه الحالة دي في الوقت ده بالذات و ان القران علاجه؟ 


اعادت النظر لهم و تدافعت في ذهنها ذكريات مؤلمة و كل ما علمته حين تخلت عن ابنها من دون ان يرف لها جفن او يتحرك لها قلب، و قد تجمدت كل مشاعرها و أصبحت كتلة جليد لا ينصهر، و ذهب ضميرها و استحوذ عليه طمعها، و كأن ما فعله بها والدها يكون ضحيته ابنها البريء، الذي قد اتى لحياة مشبعة بالطمع و يلتف حوله مثل ثعبان الشر، و لكن الله كان به رحيماً،و سخر له عائلته الجديدة عوضاً 


-أنا رجعت علشان "يونس" يعرف الحقيقة، بعد ما سيبته ليكم رجعت عشت حياة مُرّة مع المرض إللي أخذ مني كل حاجه فلوسي صحتي، بقيت بس بدور إزاي اتعالج و ألقي حل لإبني علشان يتفك من عليه  اللعنة دي، بس عرفت أن هيبقى تيجي له الحالة دي كل ما يفرح و مفيش حاجه هتهديه غير القران. 


نظروا لبعضهم متسائلين و الدهشة أصبحت جالية على ملامحهم، و كأنها ادركت ما يجول في خواطرهم فستطردت قائلة : 


-عارفه هتقولوا إزاي عرفتي، إن "يونس"  هيتعب إنهارده بالذات؟ ،أنا مراقبه "يونس" من زمان و لما عرفت إن انهارده فرحه عرفت انه هتيجي له الحالة دي في أكتر أيامه سعاده. 


فور انهاء كلماتها، انتفض "حسام" من مكانه واقفاً، و الغضب واضحاً على معالم وجهه ثم قال بانفعال واضحا من صوته: 


-واستنيتي لغاية يوم فرحه و فكرتي ترجعي له علشان تشوفيه بالحالة دي، و جايه بالبرود ده روحي لفلوسك يمكن تنفعك و ابعدي عن أخويا. 


نهض "أحمد" أيضاً و وضع يده على كتف ابنه و خاطبه قائلاً: 


-اطمن إحنا مش هنسمح لها تقرب من "يونس".. ده ابننا. 


وقفت هي الأخرى، و مازال ذلك الجمود على ملامحها التي تتخللها خيوط الألم و المرض، ثم قالت بنفس نبرتها الباردة قائلة: 


-أنا رجعت علشان "يونس"، علشان أشوفه في آخر أيامي علشان المرض هدني و الفلوس اللي رميته علشانها لازم يأخذها علشان حقه 

بمجرد أن أنهت كلماتها، خيم صمتٌ لثوانٍ قليلة، حتى كسره آخر شخصٍ لم يتوقعوه. 


-حق أيه إللي آخذه أنا .....ومين أنت؟ 


تملكتهم الصدمة والخوف، واتسعت حدقتا أعينهم خشيةً من أن يكون "يونس" قد سمع ما دار بينهم، سؤاله  قد أصابهم برهبةٍ كبيرة. وكان الخوف من اكتشاف الحقيقة يهدد بتدميرهم جميعًا. 

تزايد قلقهم عندما اقترب منهم ووجه سؤاله إلى "زينب" قائلاً: 

-مين الست دي، و تعرفني منين، و حق ايه اللي بتتكلم عليه؟! 


من أنا 

الفصل 26


ألقى «يونس» كلماته بترقب شديد ليعرف الرد منهم، ونظر إليهم في صمت مشوب بالريبة، مما زاد من قلقه وازدادت ملامحه توتراً. فكلما كان يشعر بالخوف أو القلق، كانت حالته تزداد سوءًا، كما يحدث عندما يكون سعيدًا اقترب من «زينب»وأعاد طرح سؤاله عسى أن يحصل على إجابة مقنعة توضح سبب صمتهم وتوترهم الواضح على وجوههم. 


-ماما ردي عليا في ايه؟ومين الست دي،و بتتكلم على ايه؟


تألقت الدموع في مقلتي «زينب»، وجفت حنجرتها خوفاً من فقدان «يونس»، إذا علم بأنه تم إخفاء الحقيقة عنه طوال هذه السنوات. ولكن لا مناص من الحقيقة، فمهما طالت الأيام، ستظهر عاجلاً أم أجلاً. نهضت من مكانها وتقدمت نحو «يونس»، ثم أخذت تشد وجنتيه بين كفيها، وقالت بصوت حزين يمزج بين الألم والتوتر:


-مش كنت عايزه أخبي عليك بس أنا عملت كل ده علشانك، علشان ما شوفش الحزن في عيونك،و لا تحس في يوم أنك وحيد… بس لازم تعرف الحقيقة دلوقتي.


تزايدت مشاعر الخوف والقلق لديه مع رؤية حال والدته، وراجت في خاطره العديد من التساؤلات حول وضعها، وتساءل عن طبيعة الحزن الذي يكتنفها. ثم انطلق لسانه بنبرة تعبر عن القلق، قائلاً: 


-ماما بالله عليك قولي في إيه بلاش تخوفيني كده.


طلب «أحمد»من «يونس” الجلوس، ثم بدأ يسرد له كل التفاصيل منذ أن تخلت عنه والدته. استرسل في رواية القصة منذ بدء زواج والدته كلما سمع «يونس»كيف تخلت عنه والدته، كان يشعر بتمزق في قلبه وداخل روحه، كما لو أن نيران الحزن قد اشتعلت في أعماقه.تدفقت الدموع من عينيه، وأصبح لسانه معقوداً، فلم يستطع النطق. بينما استمر أحمد في حديثه، ظل «يونس» صامتاً، يراقب ما حوله وصدره يعلو ويهبط، كأنه في حالة من عدم التصديق لما سمعه لتوه. استمع إلى كل ما قاله «أحمد» وكأن كلماته تتردد في أذنه، لكن عقله كان في حالة من الاستياء يرفض تصديق ذلك. أصبحت كلمات «أحمد»تطارده كطيفٍ يتعنّت من تصديق الحقيقة. هزّ رأسه عدة مرات، كأنه يحاول التخلص من تلك العبارات التي أثقلت كاهله، وفجأة أصبح سؤال واحد يتكرر في ذهنه: 

«هل أنا فعلاً ليس ابن هذه العائلة؟ هل كانت مشاعري حقيقية عندما كنت أسأل نفسي من أنا؟ الآن أدركت أنني طفل يتيم، تخلت عنه والدته مقابل المال». 

نهض من مكانه ونظر إلى والدته، فهتف بصوت يملؤه الحزن والخذلان، وتحمل نبرة قهر تعكس مشاعره الجياشة قائلاً:  


-ليه رجعتي ليه علشان تكملي اللي فاضل فيا…. زمان رجعتي علشان تشوفيني حزين، أنا مش زعلان علشان الناس دي  طلعوا مش أهلي بالعكس أنا لو رجع بيا الزمن لورا هرجع اتمنى أفضل معاهم طول العمر،! بصي أنا أمي ماتت في اليوم إللي  سابتني فيه!  فاهمه ماتت بنسبة ليَّ،أمي إللي سهرت و أمي إللي طبخت و أمي إللي فرحت معايا و عيطت معايا و عاشت معايا حياتي لحظه بلحظة هي زينب (ماما زينب).


قال كلماته وتقدم نحو «زينب» التي كانت تبكي في صمت، وعيونها معلقة به. جذبها إلى حضنه وقبّل رأسها، ثم أضاف قائلاً:  


-دي ماما إللي عملت كل حاجة علشاني. ليه  بتعيطي يا أمي؟ إنتي فاكرة  أني هتألم لأنك خبيتي الحقيقة عني؟ لا، أنا سعيد لأني كنت عايز أعرف حقيقة واحدة بس وهي أنك أمي، وأنتي خليتيني أعيش  الحقيقة دي. 


رفعت «زينب» عينيها، ودفقات من الدموع تتساقط منها، ثم قالت بصوت يخالطه البكاء: 


-أنت ابني، و نور عيني، ومفيش  حاجه هتتغير ، هتفضل دايما ابني الغالي حبيبي.


ابتعد «يونس» قليلاً عنها ثم جفف دموعها بأنامله. بعد ذلك، ألقى نظرة على والدته وهرع بعيداً، تتبعه «تقى» التي بدت قلقة من صمته رغم الحزن الذي ارتسم على ملامحه. حتى وجدته واقفاً في الخارج، في حديقة المنزل، وقد اتخذ ظهره منحىً متجهاً بعيداً وتوتر جسده واضحاً. 

اقتربت منه، وعندما نظرت إليه، فزعت وامتلأت عيناها بالدموع لرؤيتها تغيير ملامح وجهه ومعاناته الكبيرة. أمسكت بيده وسحبته خلفها إلى إحدى المقاعد الحديدية، ثم جلسا معاً. 

نظرت بتأثر عميق إلى عينيه، التي كانت تعكس ألمًا وحزنًا لا يوصف. بينما كانت دموعه محبوسة، أمسكت بيده بين كفيها. نظر لها كأنه، استمد منها القوة التي يحتاجها. ثم مال برأسه على كتفها، تنهد بعمق، وكأن آهات النَفَس تحمل أعباء معاناته. تحدث بصوت مفعم بالألم:


-ليه عملت كده؟ ليه سبتني هنا وهجرتني؟ معقول بسبب الفلوس والميراث.. معقول أم  تتخلى عن ابنها؟ ليه عانيت كل السنين اللي فاتت دي من التهميش، لما كان كل الناس بتخاف  من شكلي ؟ 


توقفت «تقى» لحظة، تلمس قلبها الذي يعجز عن العثور على الكلمات المناسبة لتهدئته. كانت تشعر بما يمر به، وبالألم الذي يعصر قلبه. نظرت إليه بحب وحنان، ثم قالت بصوت منخفض، ملؤه الشفقة والاطمئنان:


-«يونس»، مهما كان الألم إللي حاسس بيه، ومهما كانت الجروح إللي ماخفتش واتقفلت لسه، فأنت مش  لوحدك في العالم ده. ساعات بنمر بتجارب قاسية تخلينا نشك في كل حاجه فينا وفي الآخرين. لكن اوعى تفتكر أبدًا أن المعاناة التي عشتها هتحدد إنت مين؟. أنت شخص قوي، وقلبي شافك بكل جمالك الداخلي اللي ماشفهوش   الناس التانيين.

إللي حصل، مهما كان إيه، مش ممكن أنه يقلل من قيمتك أو من حبنا ليك. المال، أو أي شيء مادي، عمره ما يكون سببًا لتغيير مشاعر الأم، لكن الحياة يمكن تكون قاسية أحيانًا، وإحنا مضطرين للتعامل مع ده. وأنا هنا معاك، وهكون دائمًا جنبك عمري ما هسيبك ابداً. أنت الأهم بالنسبة ليّ.


ثم أمسكت يده بقوة أكبر، وكأنها تؤكد له أنها لن تتركه مهما كانت الظروف، وأنه يمتلك القوة لتخطي أي شيء

.

نظر إليها، وكانت عيونه ككتاب مفتوح أمامها، تقرأ ما يختلج في قلبه وما يدور في خاطره من مشاعر وكلمات لا يستطيع أن يعبر عنها. ثم رفع يدها وقبّلها بحبٍ عميق، قائلاً:


-أنا محظوظ في الدنيا دي لأن الله رزقني بأجمل وأحن زوجة. أنتِ خيرُ دعائي واستجابة له، وأنتِ النور إللي أنار حياتي بعد فترة من الظلام. 


تلونت وجنتاها بتلك الحمرة كلما شعرت بالخجل، وقد نبض قلبها استجابة لكلماته، بينما كانت تضغط على كف يده وتبتلع لعابها لتتحدث، إلا أن الكلمات لم تستطع الخروج من بين شفتيها. 


وفجأة، سمعوا صرخة مدوية من «زينب»، مما جعلهم ينتفضون من أماكنهم ويهرعون مسرعين، يتملّكهم الجزع والخوف. ولم يشعر «يونس»بنفسه إلا وهو يركض بكل قوته نحو الداخل، منادياً بلهفة وذعر. 


-ماما ماما مالك أنت كويـ......


توقفت الكلمات في حلقه بينما كانت عيناه تراقبان تلك السيدة، أو ربما والدته، راقدة على الأرض، وحولها من يحاولون فهم ما يحدث. تقدم نحوهم بخطوات بطيئة، وكأن ثقل حزنه يعيق حركته، وكانت عيناها تتلألأ بالدموع. شاهدها ترفع يدها ببطء وتتحرك شفتيها تهمس:


يونس، ابني يونـ.....


لكن حروفها انقطعت في حلقها وسقطت جفونها، فاغمضت عينيها. في تلك اللحظة، دفعه شيء داخلي للشعور بالقلق، فقفز مسرعاً نحوها وأمسك بيدها يهزها، لعلها تستفيق. لم يستطع لسانه النطق في ذلك الحين. اقترب منه «أحمد» قائلاً: 


-يونس ابني مش وقت الكلام شيلها بسرعه ناخدها للمستشفى حالتها مش كويسه.


حملها «يونس»بين ذراعيه دون تردد، وكأنه استشعر في داخله أن الوقت ليس وقت الحزن، بل يتوجب عليه إنقاذها. قرر أن يتجاوز العاصفة التي كانت تعصف بمشاعره، عازمًا على مواجهة ما قد تؤول إليه الأحداث، سواء بالصمود أو أن يكون مجرد ذكريات ممزقة. 


بسرعة، خرج من المنزل حاملاً إياها، تبعه أحمد و زينب، اللذان طلبا من الآخرين البقاء في المنزل. انطلقوا جميعًا بسرعة، وفضلاً عن ذلك، وضعها يونس في المقعد الخلفي، بينما تواجدت والدته «زينب»بجانبها، و أحمد في المقدمة،ثم انطلقوا بسرعة

.

جلس الجميع في المنزل صامتين، كل فرد منهم غارق في أفكاره حول الأحداث التي وقعت والحقائق التي كانت مخفية. كان هناك من يشعر بالقلق على “يونس”، خشية أن تؤثر تلك الحقيقة الصعبة عليه. وبينما كانوا يجلسون، كان أحدهم يجاهد نفسه ليتجنب النظر إليها، لكنه كان يجد نفسه يرفع نظره كلما تحدثت، مما جعل نبض قلبه يتسارع. وعندما يدرك أنه على وشك الانزلاق وراء مشاعره، ويخشى من ارتكاب خطأ، قرر أن يستأذن ويغادر ليستعيد السيطرة على مشاعره ونبضات قلبه التي أصبحت كطبول حرب توشك على الانفجار. نهض من مكانه وقال:  


-أخي حسام أنا هستأذن علشان اروح دلوقتي و لو مكنش عندي جلسة علاج هاجي اطمئن على يونس. 


أدلى بكلماته وهو يلتقط النظرات الموجهة نحو «مريم»، التي لاحظت نظراته وقد شعرت بالخجل يتسلل إليها، لتجد نفسها طوال جلوسهم تسدد نظراتها إليه بين الحين والآخر أما «مؤمن»، فقد كانت مشاعره تكاد تُظهر ما يدور في داخله، لكنه وجد في «حسام» طوق نجاة ينقذه من دوامة مشاعره، حين قال:  


-مؤمن مش هتروح لمكان، هتبات معانا انهارده علشان بكرى عندك آخر جلسة و ان شاء الله هتعيش حياة عادية من غير السم إللي كنت بتاخده.


لم يستطع «مؤمن»الاعتراض على الوضع، إذ كان يتمنى البقاء، حتى لو كان ذلك لمجرد مراقبتها من بعيد طوال فترة وجوده في المستشفى. كانت صورتها تراوده باستمرار، كطيف يلازمه؛ فكلما أغمض عينيه، كانت تظهر أمامه كأنها شبح، تلاحقه حتى في أحلامه. تنهد بعمق. 


عاد مؤمن إلى مجلسه حيث كان يجلس مع حسام، بينما ذهبت «شهيرة» إلى غرفتها لتغيير ثيابها. قامت «مريم» من مكانها وبدأت تتحدث قائلة: 


- هعمل ليكم قهوة يا حسام عايزين حاجه تانيه؟.


-لا هاتي معاك بس عصير ليك وشك شاحب و شكلك تعبانه!

************                  


جلس «يونس» ووالديه في رواق المستشفى المؤدي إلى غرفة «فاطمة»، حيث كانت تغمرهم مشاعر القلق الممزوج بالحزن. تملّكته تساؤلات عميقة حول مشاعره: 

«هل هو خائف عليها أم يشعر بالشفقة؟ لكن كيف يشعر بالشفقة تجاهها، وهي والدته؟ لم تكن هي الأم التي عايش معها طفولته، بل كانت مصدراً للعذاب الذي عاشه، مما جعله يشعر بالاغتراب تجاهها. كيف يمكنه أن يحزن لأجلها وهي لم تكن أكثر من غريبة بالنسبة له؟»


أخذ يُنهي أنفاسه بعمق، بينما كانت مشاعره في حالة من الفوضى. بدا وكأنه عالق في حلم يرغب في الاستيقاظ منه أو الهروب بعيدًا عنه. كان يشعر بنيران تكوي داخله، وتخبطه في دوامة من المشاعر، كأنه في متاهة بلا مخرج. في لحظة صمت مؤلمة، قطع هذه الشرود، وكأن شعاع الأمل قد امتد لينقذه من هذا العذاب صوت أحمد قائلة:


-يونس بلاش ترهق نفسك في التفكير يا ابني و لا حتى تحس نفسك غريب مهما حصل هتفضل في حقيقه واحده أنك ابن أحمد و زينب.


بينما كان «يونس»يحاول جمع أفكاره واستجماع نفسه للرد على أبيه، وجدت الكلمات طريقها إلى صمته حين رأى الطبيب يقترب منهما بخطوات متسارعة قائلاً:


-حالة المريضة متأخرة، والعلاج ماعملش معاها نتيجه، هي دلوقتي بحاجة إلى دعائكم وعايزة أنها تشوفكم في أقرب وقت.


وبعد أن ألقى الطبيب كلماته، انصرف سريعًا، بينما تقدم «يونس» نحو الغرفة، يتصارع داخله شعور بالقلق. كان قلبه يشجعه على رؤيتها في حين أن عقله يعارض ذلك، مدركًا أن هذه المرأة ليست من أنجبته، بل هي التي سهرت ليلًا من أجله، وتمسكت به في كافة مراحل حياته. إنها من بكى على كتفها عندما كان صبيًا وتشاركت معه أحزانه. 


هي الوحيدة التي أمسكت بيده عندما تعثر في خطواته، وهي من ساعدته على مواجهة مصاعب الحياة. كلما اشتدت قسوة الدنيا عليه، كيف يمكن لمن تدعي أنها والدته أن تنجبه وتلقي به إلى مصير مجهول دون أن يرف لها جفن؟!


تخلى عن كل تلك الأفكار وسار نحو غرفة والدته. نظر إليها بحزن، وهي ملقاة على سريرها، لا حول لها ولا قوة، رغم الألم الذي كان واضحًا في ملامح وجهها. اقترب منها ولا يزال صامتًا، ينتظر أن تتفوه بكلمة. حركت رأسها بصعوبة لتنظر إليه، وقد احمرت وجنتاها، ثم قالت بصوت ضعيف:


-أنا ديما كنت مش بحبك أنت و ابوك كنت بحس انكم سبب حزني في حياتي فكرت الفلوس هي مصدر سعادة بس طلعت غلطانه و عشت حياتي كلها مريضه، سبت حته مني علشان أعيش حياتي بس،أنا مش استاهل يكون ليا ابن زيك أنت اهلك الحقيقين دول يا يونس أمك زينب و أبوك أحمد.


حاول كبح دموعه، ليس بسبب حزنه على ما حدث له، فهو يعيش حياة رائعة مع عائلته، بل لأنه رأى تلك التي كرست حياتها من أجل المال. لكن ما كانت تعتقد أنه دواء، تحول إلى داء، ففقدت كل شيء ولم يعد لديها شيء. وقبل أن يتحدث «يونس»، لاحظ تغير ملامح وجهها التي غمرها الألم، ثم نطقت بصعوبة قائلة:  


- يونس، أنا حطيت حقك من ميراث والدك باسمك، وهناك كمان فيلا وسيارة. سامحني يا يونس.  


انتهت من حديثها واشتد سعالها، وبدأ جسدها ينتفض. هرعت زينب لتنادي الطبيب، بينما اقترب «يونس» منها ممسكًا بيدها يهدئ من روعها. فجأة، استكان جسدها، واستراحت يدها بين يديه، وسقط رأسها جانبًا. 


انتقلت روحها إلى خالقها، بينما وقف «يونس» مصدومًا، ودموعٌ متحجرة في عينيه. ثم نطق بصوت متألم: 


-ما لها يا بابا؟! نادِ ماما تيجي بالدكتور بسرعة.


أنهى حديثه وفي اللحظات التالية حضر الطبيب وتأكد من أنها قد فارقت الحياة. رفع الغطاء عن وجهها وطلب من الجميع الخروج ليبدأ استعداداته للدفن. 


ترك «يونس» الجميع، خرج تائهاً وباكياً، غير مدركٍ لما يحدث أو لما يشعر به. في وسط أيامه الجميلة، ظهرت له والدته ثم اختفت بسرعة. حتى دموعه التي لم ترغب بالسقوط، بقيت عالقة على جفونه، تعكس ألمه العميق حين ظهرت «فاطمة» فجأة في حياته، لم يكن مستعدًا لمثل هذا اللقاء، ولا لهذه الحقيقة التي نسفت ما كان يظنه يقينًا. عاش عمره كله معتقدًا أن العائلة التي احتضنته هي أهله، لم يشك لحظة في حبهم أو انتمائه إليهم. لم يشعر قط بالغربة بينهم، بل كانوا له السند والمأوى.وحين عرف أن «فاطمة»، المرأة الغريبة التي ظهرت فجأة، هي والدته التي تركته لأجل المال، شعر وكأن الأرض انسحبت من تحت قدميه. لم يعرف بماَ يشعر... أهو الغضب؟ أم الحزن؟ أم الفراغ؟ كانت مريضة، تحتضر، تطلب المغفرة، لكنه لم يعرفها، لم يعش معها، لم يسمع صوتها تناديه يومًا.ورغم كل شيء، حين رحلت، شعر بشيءٍ انكسر بداخله... لم يكن حبًا بقدر ما كان حزنًا على فرصة ضائعة، على أم لم يعرفها، وعلى أسئلة لن يُجاب عنها أبدًا.لكنه لم يستطع البكاء طويلًا، فقد كانت ذكراها عابرة، وظل قلبه مع أولئك الذين أحبوه بصدق دون أن تربطهم به صلة دم.تراجعت دمعة خفيفة عن عينيه، ثم عاد إلى الداخل ليبقى مع والديه حتى الانتهاء من دفن «فاطمة»، التي غادرت الحياة دون أن أتمكن من قضاء يوم واحد مع ابنها. رحلت بمفردها كما عاشَت، ولم يرافقها في رحيلها المال الذي أحبته، ولم تأخذ معها شيئًا من متاع الدنيا سوى أعمالها. 


عندما انتهوا من دفنها، عاد «يونس» ووالديه إلى منزلهما، وما إن وصلوا حتى هرع إليهم الجميع بقلق. اقتربت منه «تقى» بلهفة وقلق، ثم سألته بصوت يحمل في طياته مشاعر الخوف:  


-يونس أنت كويس أنت بخير طمني عليك.


أخذ بيدها ونظر إليها، وكان التعب واضحاً على ملامحه. ثم قال بتعب:


-عايز بس  أستريح شوية يا تقى، انا هكون بخير.


أنهى كلماته وانصرف معها إلى غرفته، فلم يعد لديه طاقة للحديث أو لتوضيح ما حدث. لقد استنزفت قواه، وكان ذلك أصعب يوم في حياته، على الرغم من أنه كان يعتقد أنه سيكون أسعد يوم، إذ كان قد التقى محبوبته في إطار الحلال. لكن كل شيء قد تعكر بقدوم تلك السيدة التي هدمت سعادته. تحرك نحو الخزانة، وأخرج ثيابه، ثم دخل الحمام الملحق بالغرفة، حيث استحم بسرعة، غير ملابسه، وخرج ليجلس بجانب تقى. فمدت يدها لتأخذ بيده، وقالت بحزن من أجله:


-يونس بلاش تضغط على نفسك أكتر،تعالي ارتاح شوية أنا حاسه باللي أنت بتمر فيه بس بلاش توصل للحالة دي.


مرر يده على وجهه ثم نظر إليها قائلاً:


-أنا مش زعلان علشان حاجه أنا زعلان علشانك أنتِ


نظرت إليه بدهشة واستفهام وقالت:


-ليه زعلان علشاني يا يونس؟ أنا بخير.


تنهد بعمق، وكان ينظر إلى عينيها كما لو كانت ملاذاً يمنحه الراحة. وعندما يغوص فيهما، يشعر وكأنه قد نسي العالم كله، وكأنها عالم سحري يجذبه إليه، إذ يتمنى أن يغمر نفسه في أعماقه. ثم أضاف: 


-علشان اليوم اللي تتمناه أي بنت اليوم السعيد إللي حرمتك فيه حتى من الفرح و بعدها انحرمتي حتى من سعادتك فيه في الأول كسرت فرحتك وبعدها إللي حصل ما لحقتيش تفرحي من  أول يوم شفتيني فيه و أنتِ في مشاكل!

.

ابتسمت تلك الابتسامة التي كانت بالنسبة له ملاذًا من جميع آلامه، ونورًا في ظلمات حياته. كان بريق عينيها يمثل شعاع أمل له. ثم قالت، وهي تحمل في قلبها حبًا كبيرًا: 


-أنا مش زعلانه أبداً علشان سعادتي أنت و حياتي أنت المشاكل المره و أنا  جنبك تبقى حلوه مش عايزه حاجه في الدنيا غير إني أشوفك مبتسم و فرحان 


كأن كلماتها قد خففت عن قلبه أحزانه، وداوت جروحه، وأسكنت آلامه. كم هو رائع أن يأتي العوض في شكل شخص يكون لك الملجأ والأمان ودواء في أوقات الشدة.أمسك يديها بين كفيه، وقال بحب:


-انتِ الحياة اللي كنت مستنيها أنت الحياة اللي كنت اتمنها سكنتي في القلب و استوطنتي روحي و بكِ قلبي اكتفى...


***********                    


في صحن المنزل، اجتمع الجميع بعد أن علموا بما حدث، ثم توجه كل واحد منهم إلى غرفته لينال قسطًا من الراحة. بينما قاد “أحمد” “مؤمن” إلى إحدى الغرف ليتمكن من الاستراحة حتى موعد العشاء.

تمدد «مؤمن» على سريره، وكانت مشاعر متخبطة تعصف به، فهو يرغب في الهروب منها، لكن تلك المشاعر تلازمه ولا يستطيع الفرار. «مريم» قد استحوذت على قلبه، ولا يجد سبيلًا لتحرير نفسه منها. يفكر بها في كل لحظة، وكأن كل أفكاره الأخرى قد تلاشت. «مريم»بالنسبة له حلم بعيد المنال، جوهرة لا سبيل له للوصول إليها. يشعر بأن الفارق بينها وبين متناول يده كالفارق بين السماء والأرض. نهض بضيق يخنقه في صدره، ثم قال مُحدثًا نفسه بصوت مسموع نسبياً:


-حصلك إيه يا مؤمن فاكر هتتزوج مريم؟! بينكم فرق كبير حتى لو كانت بتحبك مستحيل تفكر تظلمها معاك… أنا مش ليا بيت و.لا ليا شغل و لسه مستقبلي مجهول مستحيل اظلمها معايا.


لم يلاحظ «مؤمن» الشخص الذي كان واقفًا عند الباب المفتوح، واستمع إلى كل ما قاله. نهض من مكانه وهو يتنفس بعمق من الضيق، وعندما رفع رأسه، صُدِم برؤية «أحمد» الذي جاء ليحضر له بعض الملابس ليستريح. لكن عندما سمع كلمات توقف مكانه، انتابت «مؤمن» حالة من التوتر جراء نظرات «أحمد»، فتحدث بارتباك محاولًا ترتيب أفكاره قائلاً:


-عمي في حاجه عايزني اساعدك في حاجه


ابتلع «مؤمن» ريقه بقلق بعد أن تأكد من أن «أحمد» قد سمع حديثه، فاستشعر التوتر وأحنى رأسه. ولكنه عندما سمع سؤال «أحمد»، رفع رأسه بسرعة:


-عايز إيه من مريم؟!


يتبع 



الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس من هنا



الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر من هنا



الفصل الحادي عشر حتى الفصل الخامس عشر من هنا




الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون من هنا



❤️🌹🌺💙❤️🌹🌺💙❤️🌹🌺💙❤️🌹🌺💙❤️🌹🌺💙❤️





تعليقات

التنقل السريع
    close