رواية من أنا الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
رواية من أنا الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
في إحدى ليالي الشتاء الباردة، وبينما كانت الأمطار تهطل بغزارة والرياح تعصف بقوة، كانت تركض تحت المطر بكل قوتها.
حينما سمعت اقتراب أصواتهم، زادت سرعتها حتى شعرت بانقطاع أنفاسها وتعثرت، وسقطت عدة مرات بسبب الطين. أثناء ركضها في ظلام الليل وتحت المطر، شعرت بشيء حاد يخترق قدمها دون أن ترى شيئًا. تأوهت بألم مكتوم ثم وضعت يدها على فمها لكتم أنفاسها.
جلست على الأرض متنهدة بقوة ودموعها تنهمر كالشلالات. لمست قدمها بيدها ثم سحبت ما اخترقها، وضغطت على الجرح بيدها شاعرة بألم شديد.
فجأة، سمعت صوتًا يقترب، فحاولت تمالك نفسها ووقفت بصعوبة شديدة، ثم استمرت في المشي رغم الألم الذي كاد يهلكها.
لم تعد تحتمل ما يحدث، فقد نزفت قدمها بشدة وفقدت قوتها من الركض، فصارت تتمايل أثناء المشي، وكلما حاولت أن تخطو خطوة كانت تسقط في الطين، ثم تنهض بمجهود وتستمر في السير.
ولكن في لحظة شعرت بدوار، وتلاشت الرؤية أمامها، وسمعت بعض الأصوات تقترب منها، ومن حسن حظها لمحت ضوءًا قريبًا منها فاتجهت إليه بصعوبة بالغة حتى اقتربت منه ووجدته منزلاً صغيرًا.
طرقت الباب بقوة وهي ترتجف.. ببطء فتح الباب، وظهر شاب من ورائه مغطى الرأس والوجه، حيث لم يكن مرئيًا منه أي شيء، قبل أن تفهم الموقف، سمعت صوتًا يقترب، فهرعت نحو الداخل وتركت الشاب يقف في مكانه.
عندما سمع صوت أقدام تقترب من المكان، أغلق الباب بسرعة واندفع نحو الداخل! وجدها تقف في أحد زوايا الغرفة، حيث كان جسدها يرتعش من برودة الجو والماء يتقطر من ثيابها، وكانت الدماء تغطي قدمها النحيلة.
اقترب من المصباح المتوهج على إحدى القطع الخشبية، ثم أغلق الضوء وجلس يتأمل من خلال النافذة، لكنه لم يرَ شيئًا بسبب الظلام الغامض، ظل ينصت حتى سمع ابتعاد أصواتهم، ثم صاح بصوت مرتفع وقوي، قائلاً:
-أنتِ مين ؟ و مين إللي بعتكّ؟
نظرت له بهلع وهي تعبر عن ألمها بأنين، وهزت رأسها برفض.. اندلع غضبه عندما تجاهلت سؤاله، فاقترب منها بغضب وأضاء المكان، وكلما اقترب منها أكثر، انتفض جسدها ذعرًا، وصل أمامها ولامست أنفاسه وجهها.
ثم أمسك عنقها بقبضته القوية وضغط عليها بعنف، ذرفت دموعها وارتفع أنينها، وهي تشير له بإصبعها على شفتيها محاولةً أن تُبلغه بأنها لا تستطيع التحدث!
بعدما فهم ما تقصده، ترك عنقها وأشاح وجهه بعيدًا عنها، سمع فجأة صوت ارتطام على الأرض، استدار ببطء ووجدها ملقاة على الأرض، وجسدها يرتعش بشدة بفعل برودة الجو القارس، اقترب منها وزفر بحنق من هذه المشكلة، حملها برفق ثم وضعها على سريره وغطاها بعناية، خرج بعد ذلك وأغلق الباب بإحكام.
جمع قليلاً من الحطب ليشعل نارًا صغيرة للتدفئة، كان يود معرفة من هي وما الذي أوصلها إلى هذه الحالة، بعد أن جمع ما يكفي من الحطب، عاد إلى منزله، وعند فتح الباب، صُدم!
******
-أرجوك سيبني أنا ما معرفش عنها حاجه..
تفوهت بذلك إمرأة ذات قوام نحيل، كان جسدها مغطى بالغبار، وهي ترتجف والدموع تنهمر من عينيها، إذ كانت مقيدة إلى عمود خشبي، اقترب منها رجل بتعبير غاضب، واندفع نحوها كعاصفة، ممسكًا بفكها بقوة وصاح بغضب قائلاً:
-فين (الأمانة) إللي سابها "عادل" قبل ما يموت؟ أنا مش هكرر كلامي مرتين.
أطلقت صرخة تعبر عن وجعها وألمها الذي استحكم في قلبها، بينما كانت تذرف الدموع بقهر على فراق أبنائها، مما أشعل نار الحزن في قلبها:
-أنا معرفش صدقني، عادل ما سبش حاجة، أنت وديت بناتي فين؟
-بناتك إنسيهم لحد ما تقولي (الأمانة) فين و إلا مش هتشوفيهم تاني.
تغيرت ملامح وجهه واحتدّت عيناه، ثم صفعها مما جعل صرخة مدوية تنبثق منها، هزت أرجاء المكان، اقترب منها حتى لامست أنفاسه وجهها، وهتف قائلاً:
-لو فضلتي تنكري صدقني هتندمي أنا مش هرحم بناتك خليكِ متأكدة.
أنهى حديثه وخرج من المكان غاضبًا، دون أن يظهر عليه أي تأثر أو يرف له جفن، بينما كانت هي تصرخ وتبكي في آنٍ واحد، وقلبها يحترق على فلذات كبدها. أمالت رأسها ولم تتمالك نفسها فبكت بحزن عميق؛ فقد عاشت منذ وفاة زوجها معاناة تشبه مرارة الصبار، وما يؤلم قلبها أكثر هو قلقها الدائم على بناتها؛ فهي لا تعرف كيف تسير أمورهن وما يتعرضن له..
فجأة انسلّ صوت من خلفها!
-أنا هخرجك من هنا يا "منة"، أنا مش هسكت على الظلم ده.
رفعت رأسها ببطء لتكتشف من يشاركها المكان، وما إن رفعت رأسها ورأت المتحدث، حتى شعرت بصدمة!
-نورهان؟!
**********
شعر بالصدمة عندما لم يجدها في مكانها؛ فكان السرير فارغًا وهي غير موجودة.
زاد من حيرته أنها غيرت مكانها والباب مغلق! نظر في أرجاء الغرفة ثم توجه إلى المطبخ الصغير، ليجدها متكورة في إحدى الزوايا!
كلما اقترب منها؛ كان شحوبها يزداد نظر إلى قدمها التي تنزف بغزارة، ثم هتف قائلاً:
-ما تخافيش، أنا مش هأذيكِ قومي معايا المكان بارد.
خرجت خلفه وهي تشعر بالخوف، ثم جلست في زاوية بعيدة عنه، أشار لها بيده لتقترب من الطعام، بينما ابتعد هو قليلاً. تقدمت نحو الطعام وبدأت تأكل بشغف، استمرت في تناول الطعام بلا انقطاع؛ وكأنها لم تتناول شيئًا منذ زمن طويل، وعندما لاحظ اقتراب الطعام من النفاذ، توجه إلى المطبخ ليحضر لها المزيد. بعد فترة قصيرة، عاد إليها ووضع الطعام أمامها، انتفضت عند شعورها بذلك.
جلس القرفصاء أمامها، ثم نهض وعاد إلى المطبخ، قبل أن يدخل، سمع همهمتها وكأنها تود قول شيئاً، استدار نحوها ليجدها تقف عند الباب؛ ترغب في فتحه! تقدم نحوها وهتف قائلاً:
-هتروحي فين في الوقت ده؟ خليكِ هنا لحد الصبح بعد كده روحي منين ما تحبي ما تخافيش.
أنهى كلماته ثم توجه نحو خزانة صغيرة، حيث استخرج منها ثيابًا قطنية، بعدما لاحظ ملابسها المبللة وبرودة الجو، و وضعها أمامها وقال:
-أنا هنام في المطبخ خذي راحتك و غيري هدومك دي.
على الرغم من مخاوفها، إلا أنها شعرت بصدق كلماته، وقد أخذ هو غطاءه، وذهب إلى المطبخ حيث أغلق الباب بالمفتاح، ثم جلس على إحدى المقاعد، وأزال القناع عن وجهه، وبدأ يلمس وجهه.
مرر يده ببطء على نصف وجهه المخيف، واستند برأسه إلى الوراء، بينما أغمض عينيه متألمًا؛ حيث اجتاح قلبه شعورٌ عميق من الألم في كل مرة يلامس فيها وجهه ،ويستعيد ذكريات يجهد نفسه لنسيانها.
حاول النوم، ولكن لم يتمكن، هرب النوم من جفونه، تململ في مكانه بقلق، وراوده شعور بعدم الارتياح، كانت البرودة تتسلل إليه من النافذة مع تزايد صوت الأمطار واشتداد الرياح.
أزاح الغطاء عن قدمه ونهض ليعد فنجانًا من القهوة. وفجأة، سمع صراخها! مما جعله ينتفض من مكانه بفزع.
ثم وضع قناعه بسرعة، وفتح الباب ليجدها أمامه، تبكي بانهيار. أشار لها للدخول إلى المطبخ ،فركضت نحو الداخل وهي تبكي. ثم توجه نحو الباب، حيث سمع طرقات قوية تكاد تكسر الباب!
من أنا
للكاتبه حليمه عدادي
البارت 2
اقترب من الباب حتى يتحقق من هوية الطارق، وهو يدرك تمامًا أنه لا يتوقع زيارة أحد في هذا الوقت!
ولكن ما يعانيه من قلق هو احتمال حدوث أمر ما للفتاة، فتح الباب ببطء، وعندما انفتح، اندفع شخص مبلل إلى الداخل وهو يصرخ بغضب، نظر إليه الآخر بنظرة يملأها الاستياء من تصرفه غير المقبول، وقال:
-جاي تعمل إيه في وقت زي ده يا "حسام"؟ أنا قولت لك مش عايز حد يجي عندي ..
أخذ "حسام" نفساً عميقاً، جفف وجهه بطرف يده، وهتف قائلاً:
-ده مش وقت كلام! ادخل هاتلي هدوم ألبسها وأكل أنا جعان، وحطب كثير علشان أتدفى، إيه هتبخل عليا يا يويو؟
اقترب منه وأمسك بثيابه قائلاً:
-أنا حذرتك قبل كدا متجيبش الاسم ده على لسانك تاني، اسمي "يونس" أنا مش عارف إنت اتحدفت عليا من أنهي مصيبة! ..
ابتسم "حسام" إذ كان دائماً قادراً على استعداء غضب شقيقه، بعد ذلك، جرى نحو المطبخ، لكن "يونس" حاول منعه، إلا أنه فات الأوان؛ دخل إلى المطبخ ليجدها منكمشة على الأريكة تبكي، نظر إليها ثم صرخ و قال:
-هي دي آخرة تربيتك يا "زينب" ابنك المحترم جايب بنت على بيته؛ سمعتنا راحت ليه كدا يا بني ..
غضب من تسرع شقيقه، ثم قام بدفعه إلى الخارج وعاد إلى الفتاة قائلاً:
-ماتخافيش دا أخويا بس هو مجنون شوية، خليكِ هنا لغاية ما أرجع ..
سمع صوت "حسام" يصدح من الخارج قائلاً:
-أنا سامعك على فكرة؛ بتسوء سمعة أخوك قدام البنت يا ظالم ..
أغلق "يونس" الباب وخرج إلى حيث كان يجلس أخوه، وجده أمام المدفأة، ثم أحضر له بعض الملابس وقال:
-أنا قولت لكَ متجيش هنا مش عايز حد يجي ورايا ..
هتف "حسام" و نظره مثبت على باب المطبخ قائلاً:
-مين البنت دي وليه خايفه بالشكل دا؟! أنت مش النوع إللي بيتعرف على بنات! ..
تنفس الصعداء وبدأ يسرد له كل ما جرى، حتى حين سمع طرقاته على الباب، وعندما أنهى رواية ما حدث، هتف قائلاً:
-أنا مش عارف أتصرف إزاي؟ باين عليها خايفه، و المشكلة إنها مش بتتكلم !..
توقف "حسام" لبرهة، مفكراً في ما قاله شقيقه، ثم تحدث قائلا ً:
-أنا خايف تكون عامله عملة؛ و جاية تستخبى عندك هنا، و تودينا في داهية! ومن جهة ثانية خايف نسيبها وتتأذى، باين عليها إن في حد كان بيعذبها !..
وقف "يونس" أمام النافذة، يراقب الأمطار بتفكير عميق؛ غارقا في حوار داخلي يدور في ذهنه حول ما قاله شقيقه، كان في صراع داخلي، غير مدرك أياً من أفكاره يستمع إليها؟
هل يتوجب عليه أن يتركها معه ويحاول البحث عن أهلها، أم أنه يجب عليه تركها تخرج و تواجه مصيرها وتعود من حيث أتت؟
أوقف صوت المنبه شروده، مُعلناً عن قدوم وقت صلاة الفجر. تحرك من مكانه باتجاه الحمام، فتوضأ وأدى صلاته، ثم جلس يدعو (الله) أن يُرشده إلى الطريق الصحيح.
وعند انتهائه، لاحظ أن شقيقه قد غفا، توجه إلى المطبخ لإعداد وجبة الإفطار، وطرق الباب لتنبيهها قبل الدخول، لكن لم يكن هناك أي رد! حاول مرارًا، ومع ذلك، في اللحظة الأخيرة، انتابه شعور القلق؛ ففتح الباب بسرعة.
ما إن خطى إلى الداخل حتى صُدم، وتوسعت عيناه على مصرعهما على مشهد، وظل متصلبًا في مكانه حين أبصر.....
********
وقفت في صمت، عينيها مثبتتين عليها دون أن تُنطق بكلمة، بينما كانت تدور في ذهنها آلاف الأسئلة حول دافع "نورهان" لإنقاذها، رغم كونها من بين أكثر الأشخاص كراهيةً لها؛ هل هناك خطة مُحكمة وراء ذلك؟ قاطع صوت "نورهان" شرودها قائلةً:
-"منة" دا مش وقت تفكير؛ خلينا نخرج من هنا الأول وأنا هقولك ليه أنقذتك مع إني بكرهك !..
على الرغم من قلق "منة" والخوف الذي يعتري قلبها؛ فإنها تجد نفسها مضطرة لوضع ثقتها في "نورهان" والخروج من هذا السجن الذي تآكلت جدرانه حولها، في حين يشتعل قلبها لفراق أبنائها.
-تمام يا "نورهان" خلينا نمشي بسرعه، بس هنخرج من هنا إزاي وهما بره و الحراسة مشدده؟!
أتمت "نورهان" فك الحبال التي كانت حول "منة"، ثم قالت:
-إنتي ناسيه أنا مين؟ أنا أقدر أدخل أي مكان من غير ما حد يعرف أو يحس! ..
همست "منة" بحديث خافت قائلة:
-لأنك حية هتقولي ليا، مش ناسيه يا ختي ..
أنهت فك الحبال المتشابكة، ثم تحركوا ببطء نحو الباب، نظرت "منة" إليه بحيرة، متسائلةً عن كيفية تمكنهم من الفرار وهو مغلق؟! وفي خضم حيرتها، أخرجت "نورهان" مفتاحًا من سترتها، ثم أقدمت على فتح الباب
ونظرت إلى الخارج، وجدت جميع من كانوا يحرسون المكان نائمين، فمنهم من ركن رأسه إلى الحائط، ومنهم من افترش الأرض الصلبة! نظرت إليهم باستغراب حالهم، ولكن "نورهان" كانت الأسرع، فسحبتها من يدها إلى الخارج، ثم انطلقوا بعيداً عن المكان.
بينما أسرع الاثنتان في خطواتهما، بدأت الشمس تبزغ بنورها المتألق معلنة بدء يوم جديد.
شعرت "منة" بإحساس الحرية، فتوقفت واستنشقت الهواء بعمق حتى ملأت رئتيها، وكانت مفعمة بالسعادة، إلا أن هذه السعادة لم تدم طويلاً، حيث توقفت فجأة سيارة أمامها ونزل منها عدد من الرجال؛ لم تنجح في الهروب، حيث كانوا أسرع منها وتمكنوا من الإمساك بها بسهولة، ثم اقتربت منها "نورهان" وهتفت قائلة:
الثقة الكبيرة مش كويسه يا"منة"؛ وعدوك هيفضل عدوك حتى لو مدلك إيده علشان يساعدك! ..
اجتاحت "منة" مشاعر الغضب بشكل شديد، فصاحت قائلة:
-إنتي فاكره إنك لو أخذتيني هتوصلي للي عايزاه؛ إنسي يا "نورهان" أنا معرفش حاجه عن (الأمانة) ..
تقدمت "نورهان" نحوها، وقد كانت تلمح في عينيها لمعة من الشر، وقالت:
-أنا معايا حاجة تخصك يا"منة" ولما تشوفيها؛ هتعترفي جوزك خبى (الأمانة) فين؟ هاتوها يلا ..
قاموا بسحبها بقسوة إلى السيارة رغم مقاومتها، لكن محاولاتها كانت بلا جدوى أمام قوتهم.
ثم انطلقوا حتى وصلوا إلى مبنى متهالك، حيث أدخلوها داخله وقيدوها بإحكام، في تلك الأثناء، دخل رجل برفقة فتاة صغيرة كانت تبدو في حالة مزرية! نظرت "منة" إليها بصدمة، والدموع تملأ عينيها و قالت:
-إيلول؟!
*********
اجتمع مع أفراد عائلته حول مائدة الإفطار في أجواء من الصمت، حيث كان كل منهم يتناول طعامه بهدوء، كسر هذا الصمت والدهم "أحمد" قائلاً:
-"زينب" هو "حسام" فين أنا مش شايفه؟! و"يونس" لسه ما رجعش من الغابة؟ ..
وضعت "زينب" ما كانت تحمله في يديها، ثم قالت:
-"يونس" لسه مارجعش، و"حسام" راح وراه؛ أنت عارف إنه مش هيرضى يسيب أخوه لوحده بيخاف عليه.
ابتسمت ابنتهم ثم أضافت بسخرية:
-مش عارفه ليه بحس كإن "يونس" لسه عيل صغير الكل خايف عليه، و "حسام" مش بيسيبه ، و انتوا بتسألوا عليه في كل وقت!..
أطلق "أحمد" تنهيدة عميقة، ثم نطق بكلمات لم يفهمها سواه:
-لازم نخاف على "يونس" أوي الفترة دي لأن حياته مهدده بالخطر! ..
نظرت زوجته إليه بدهشة عندما رصدت قلقه، ثم قالت:
-مالك يا "أحمد" ليه كل الخوف دا؟! إطمن "يونس" بقى راجل وهيعرف يحمي نفسه و"حسام" معاه.
بينما كان مشغولًا في الحديث مع عائلته، وصلته رسالة، وعندما قرأ محتواها، انتفض من مكانه بفزع وهتف قائلاً:
-مش ممكن !.
من أنا
البارت 3
دخل "يونس" المطبخ عندها، رأى الفتاة تقف في إحدى أركان المطبخ، وهي تضع السكين على شريان يدها اليسرى، وكان ارتجاف يدها قويًا وصوت بكائها يتصاعد ببطء، ولّدت لديه صدمة كبيرة؛ فاندفع نحوها بسرعة أمسك بيدها بقوة وضغط عليها بشدة، حتى سقطت السكين من يدها. ثم أطلق سراح معصمها ونظر إليها بنظرة غضب قائلاً:
-انتِ مجنونه عايزه تقتلي نفسك؛ فاكره كده هترتاحي تبقي غلطانه!.
لم تصدر منها أي كلمة، بل عبرت عما بداخلها من خلال بكاءٍ شديد، جلست على الأرض، وجسدها يرتعش بقوة، بينما جلس القرفصاء بجانبها محاولاً السيطرة على غضبه، لقد شعر بالشفقة عليها عندما رأى حالتها و قال:
-مش عارف السبب إللي وصلك للحالة دي؟ بس الانتحار عمره ما كان حل، إنتِ عارفه أنه حرام، ما تعسرت إلا و تيسرت، و ما ضاقت إلا فرجت.
أجالت نظرها نحوه، وكانت عيونها تفيض بالدموع، وأشارت بيدها كأنها تحاول أن تتحدث، لكنها لم تنجح في ذلك!
وعندما شعرت بالعجز؛ انهالت بالبكاء، لم يكن يعلم كيف يتصرف وهو يشاهدها تعجز حتى عن التعبير عما يختلج في صدرها، تنفس بعمق وشعر بالحزن، ثم تحدث قائلاً:
-بصي مهما كانت مشكلتك، أنا هساعدك فيها، يالا امسحي دموعك و هجهز لكم فطور، انتِ و "حسام" و هتروحي معانا البيت علشان نعرف ندور على حد من أهلك.
شعرت بالقلق من فكرة الذهاب معهم؛ إذ لم تكن تعرفهم جيدًا، مما جعلها تتساءل كيف يمكنها الوثوق بهم؟!
ومع ذلك، لم تكن تعرف أي طريق تسلكه، فباتت في حيرة من أمرها، في تلك اللحظة، قطع شرودها دخول "حسام"، الذي كان يفرك عينيه من تأثير النوم و تحدث قائلا ً:
-صباح النور يا جماعه "يونس" عملت ايه للبنت مخليها خايفه كده؟!
أكمل "يونس" تجهيز الإفطار وأجاب قائلاً:
-ما عملتش حاجه! اقعد مكانك و انت ساكت، علشان بعد الفطور نروح البيت؛ التليفون بتاعي فصل شحن و أكيد بابا قلقان عليا.
توقف "حسام" عن الكلام، ثم خرج ليغسل وجهه ويجهز المائدة في الخارج، بعد فترة، أنهى "يونس" جميع ما كان يقوم به، وجلسوا يتناولون الطعام في صمت، بعد فترة من السكون، قطع "يونس" هذا الصمت قائلاً:
-مش عارف اسمك بس هيبقى اسمك "تقى" لغاية ما نعرف فين اهلك، و اطمني إحنا مش هنأذيكِ.
ألقت عليه نظرات تحمل الشكر والامتنان، ثم عادت لتتأمل طبقها دون أن تتناول شيئًا، كسر صمت اللحظة صوت رصاصة اخترقت زجاج النافذة!..
*******
شعرت بصدمة عارمة عندما رأت ابنتها في قبضتهم، حالتها كانت مؤلمة للغاية، وكاد قلبها أن ينفطر من شدة الألم، صرخت عليهم تطالبهم بفك قيودها، لكنهم تجاهلوا نداءها وكأن قلوبهم متحجرة، انهالت أدمعها بعد فشل محاولتها، وتحدثت بعبارات مفعمة بالحسرة قائلة:
-اسفه يا بنتي ما قدرتش احميكِ من شرهم انتِ و اخواتك.
انفجرت "نورهان" بالضحك حتى طغى صوتها على المكان، ثم تركت "إيلول" واقتربت من "منّة"، مستمتعةً بمعاناتها دون أن تشعر بأي شفقة اتجاه حالها، فقد تمكن الحقد والكراهية من السيطرة على قلبها.
-بصي يا "منة" السكوت مش في صالحك، اتكلمي بسرعة وساعتها هسيبك انتِ و بنتك تروحي من هنا.
لم تستطع "منة" التحكم في غضبها أكثر، فانفجرت قائلة بصوتٍ غاضب:
-انا قلت ليكم قبل كده، أنا مش عارفه مكانها، و لا عارفه إيه هي (الأمانة) دي! "عادل" ما عرفنيش حاجة عنها، ليه مش عايزه تفهمي أنتِ و جوزك.
سيطر الغضب على "نورهان"، فانطلقت نحو "ايلول " ممسكةً بخصلات شعرها، مما جعلها تصرخ بكامل قواها، فاندفع صراخها ليكسر سكون المكان.
في حين كانت "منة" تشبه طائرًا حبيساً، تحاول جاهدةً التحرر والركض نحو ابنتها، لكن القيود اللعينة كانت تحول بينها وبين ذلك، ثم صاحت بصوت متأثر يعكس شعورًا بالعجز قائلة:
-"نورهان" سيبي بنتي هي مش عارفه حاجة، و لا لها دخل في حاجة، كلامك معايا أنا، انتِ عارفه اذا جوزك عرف إنك خطفتينا مش بعيد يقتلك؟.
أطلقت "نورهان" زفرة من الغضب، ثم دفعت "إيلول" بقوة، مما أدى بها إلى الارتطام بالأرض الصلبة تحتها وهي تبكي بذعر! بعدها التفتت إلى الأشخاص الذين يقفون خلفها قائلة:
-هاتو ليا الكرباج هجلد بنتها أصادها ومش هوقف لغاية ما تتكلم وتقول مكان (الأمانة) فين؟ و إلا هدني أجلدها لغاية ما تموت "إيلول".
انتفضت "منة" بفزع، وصاحت بصوت مفعم بالذعر، وقلبها يكاد ينفطر من الخوف على صغيرتها، قائلة:
-نورهان، بنتي لأ.. صدقيني مش عارفه حاجه لو كنت أعرف كنت قولت لجوزك.
لم تُعطِ "نورهان" اهتماماً لكلمات "منة"؛ إذ كانت مشغولةً فقط بالسعي للحصول على (الأمانة) التي يطمح الجميع إلى استعادتها، والتي اختفت بعد وفاة "عادل" منذ عدة سنوات!
ورغم ذلك، استمر الجميع في البحث عنها؛ لأن الشخص الذي يسعى للحصول عليها هو رجل ثري، وقد أعلن عن مكافأة مالية كبيرة لمن يتمكن من العثور عليها.
-بصي يا "منة".. في الحقيقة أنا زهقت منك و من إنك مصرة ماتقوليش مكانها فين؟
أمسكت السوط، وكان يلمع في عينيها شرٌ واضح، ثم رفعته في الهواء استعدادًا لضرب جسد الطفلة النحيفة! لكن فجأة، شعرت بشيء يعوقه، كأن قبضة قوية تمسك به وتثبته في مكانه!
**********
منذ أن قرأ الرسالة، تجلى عليه الخوف بشكل واضح، وهو يحاول إجراء اتصال دون جدوى، لاحظت زوجته تغير ملامحه وقلقه، فتوجهت إليه بالسؤال:
-"أحمد" مالك قول فيك إيه؟ ساكت ليه كده؟ مين بعتلك الرساله دي؟
هتف بصوت يحمل نبرة من القلق، قائلاً:
-وصلتني رساله من أحد اصدقائي، انهم قدروا يوصلوا لمكان "يونس"! وبتصل بيه تليفونه مقفول، خايف عليه.
غرقت "زينب" في مشاعر الخوف العميق، إذ تغير لون وجهها وبدت عليه علامات القلق، فنادت بقولها:
-"أحمد" اعمل حاجة! أو نروح لهم أنا قلبي مش مطمن مش ممكن اتحمل يحصل لهم حاجة، مستني اية؟!
شعر بالعجز بينما يرى أبنائه في خطر، حيث يقف عاجزاً عن اتخاذ أي إجراء، حتى لو حاول الذهاب إليهم، فلن يتمكن من الوصول في الوقت المناسب، لو كان لديه جناحان، لكان طار إليهم بسرعة
-حتى لو نزلت دلوقت مش هنلحق نوصل لهم، عايزهم بس يردوا عليَّ؛ علشان اقول لهم يغيروا المكان بسرعه، بس مفيش رد "يونس" قافل و "حسام" مش بيرد!
توقفوا في حالة من الحيرة والعجز، بينما الخوف يسيطر على قلوبهم، أمامهم كانت ابنتهم تنظر إليهم بدهشة، تشعر بالقلق من توترهم، وتتبادر التساؤلات في ذهنها حول ما يجري وما الذي يثير قلق عائلتها.
-ماما بابا اية إللي مخوفكم كده و ليه خايفين على اخواتي! ممكن تفهموني ايه إللي بيحصل، انا حاسه إن في حاجة؟!
أخذ والدها نفسًا عميقًا ورد عليها قائلاً:
-مش وقته يا "مريم" روحي لغرفتك مش وقت الشرح دلوقت يالا اسمعي الكلام.
استمعت إلى والدها ودخلت غرفتها، بينما ظل "وليد" مع زوجته محاولاً الاتصال بهم مرة أخرى، ولكن دون جدوى!
وفجأة سمعوا صراخ ابنتهم الذي ملأ المكان و دب الذعر في قلوبهم!
من أنا
البارت 4
انتفضوا من أماكنهم بقلق، بينما تحرك "يونس" لكي يستطلع مصدر تلك الرصاصة، محاولاً تحديد ما إذا كانت مقصودة أم طائشة أطلقها أحد الصيادين!
لكن يد "حسام" منعته من التقدم عندما أمسك بكتفه و هتف قائلاً:
-"يونس" أُقف مكانك؛ دول أكيد إللي بيدوروا عليك عرفوا مكانك، أو ممكن حد عايز ياخذ البنت! ..
توقف "يونس" واستدار نحو شقيقه بحثًا عن حلٍ لهذه المشكل، بينما كانوا يتناقشون في محاولة لإيجاد حلٍ ينقذهم من تعرض أحدهم للأذى، سمعوا أصوات طرقات غير عادية على الباب!
كانت كل ضربه تجعل الباب يهتز، مما جعل "حنين" تشعر بالخوف وتنتفض، إذ انكمشت جسدياً وراحت تبكي، وعندما رأت الباب يهتز، انتفضت من مكانها في ذعر أمسكت بذراع "يونس" بقوة، مشيرة بيدها نحو الباب بخوف، سحبها هو خلفه إلى المطبخ، قائلاً بسرعة:
-"حسام" إفتح الشباك بسرعة خلينا نهرب منه قبل ما يكسروا الباب ..
أسرع "حسام" بفتح النافذة، وقبل أن يتمكن من القفز إلى الخارج؛ انفجر الباب ودخل عدد من الرجال إلى المطبخ، متسلحين بأسلحة نارية يوجهونها نحوهم. في تلك اللحظة، أدرك "يونس" أنه لا مفر لهم من هؤلاء الشياطين، وشعور بالخوف انتابه تجاه شقيقه، حيث كان يعرف أنه هو الهدف المقصود!
أحد الرجال بادَرَ لكسر الصمت المشحون بالتوتر قائلاً:
-"يونس" سلم نفسك؛ وماتجبرناش ناخدك بالقوة، سلم نفسك وبلاش تعرض إللي معاك للخطر، والبنت دي تخص زعيمنا ..
عندما رأتهم "حنين"، اجتاحت مشاعر الحزن نفسها، واحتل الخوف قلبها، و ظلت ممسكة بذراع "يونس" بقوة؛ كأنها ترغب في إبلاغه بأنها بحاجة إلى حمايته منهم.
نظر" يونس" إليهم بتمعن عله يجد مخرجًا، لكنه أدرك أن عددهم كان كبيراً وأنهم بدأوا يتقدمون نحوه، في تلك اللحظة، استشعر أنه لن يتمكن من الخروج من هنا فهتف قائلاً:
-أنا هاجي معاكم لكن سيبوا البنت تمشي مع أخويا، إنتوا جايين هنا علشان تاخدوني أنا هي مالهاش علاقة بيا ..
لم يُعيروا اهتمامًا لكلماته، فتقدموا نحوه وأمسكوه بقوة ثم سحبوه إلى الخارج، بينما تولى الآخرون الإمساك "بحنين"، حاول "حسام" الدفاع عن شقيقه، لكن أحدهم أطلق رصاصة أصابت قدمه، مما أسقطه أرضًا!
تحت وطأة الألم والعجز، وهو يشاهد شقيقه يأخذونه إلى الموت. كان آخر ما سمعه هو صوت صراخ "يونس"، وبعدها فقد الوعي.
*********
شعرت "نورهان" بشعلة الغضب تتأجج بداخلها، واستدارت بغضب لتكتشف من يلوح بالسوط في الهواء ويمتلك الجرأة للقيام بذلك.
لكنها شعرت بالصدمة عندما رأت زوجها خلفها، ينظر إليها بنظرات ملتهبة، واستفاقت من دهشتها عندما تلقّت صفعته القوية أطاحت بها ارضاً ثم انحنى وصرخ قائلاً، وهو يُشدد على كل حرف من عبارته:
-جاتلك الجراءة دي منين يا "نورهان"؟ تلعبي من ورايا تخطفي "منه"؛ كنتي فاكره إني مكنتش هعرف إنتي ناوية على إيه؟ أنا عيني كانت عليكِ من زمان، وأحب أقولك إن الرجالة إللي معاكِ دول كلهم رجالتي! ..
كانت نظراته كفيلة بزرع الرعب في قلبها؛ فقد كانت تدرك تمامًا مدى جبروته وقسوته، وعدم رحمته تجاه من يحاول التلاعب معه.
وعلى الرغم من ارتعاش جسدها، حاولت الوقوف عندما ابتعد عنها وهو يستمتع بخوفها؛ لكن سرعان ما نهضت واقتربت منه، وجثت على ركبتيها أمامه، و هتفت بتوسل قائلة:
_ سامحني.. سامحني يا "وليد" أنا مكنش قصدي ألعب عليك؛ أنا اخذتها علشان أخوفها وأجبرها إنها تتكلم، وتقول على مكان (الأمانة) وهي إيه ؟..
ابتسم ساخراً من كلماتها، مدركاً أنها مجرد أكاذيب؛ تهدف إلى إنقاذ نفسها.
ولكن هيهات، فهو يراقبها منذ فترة طويلة ويعلم بكل تفاصيل تحركاتها، سحب سلاحه من خلف ظهره، ثم وجهه نحوها، ضاغطاً على الزناد و هتف قائلا ً:
-عايزه تقولي إيه قبل ما تموتي؛ شمي آخر نفس ليكي في الدنيا! ..
ارتجف قلبها من الخوف، و ذرفت الدموع من عينيها، مدركةً أنه لا يمزح؛ فهو يقتل بدم بارد دون رحمة أو شفقة.
هزت رأسها بشكل عشوائي وهي تتوسل إليه، لكنه لم يكترث، بل رفع قدمه ودفعها بقوة إلى الوراء حتى أطلقت صرخة مدوية في المكان!
وقبل أن تتفوه بأي كلمة، أطلق رصاصة استقرت في جانبها، لتسقط جثة هامدة بلا حراك!
ماتت وقلبها مليء بالحقد والكراهية، بينما كانت "إيلول" تصرخ بذعر وهلع من هول المشهد، استدار إليها "سعد" وقال:
_ اسكتي أحسن هيكون مصيرك نفس مصيرها، مش عايز أسمع صوتك إنتي فاهمه
اربطوها جنب أمها ومش عايز ولا غلطه ..
انهمرت دموع "منَّة" بحرقة وهي تستشعر عجزها أمام مصيرها المحتوم، بينما كانت ابنتها تعاني من الرعب، ولا تملك من القوة ما يمكنها من مواجهة قسوة "وليد".
-بالله عليك يا "وليد" سيبنا في حالنا؛ صدقني أنا معرفش حاجة عن (الأمانة) دي "عادل" مقاليش حاجة وقولي البنت فين؟! ..
تقدم نحوها بخطوات مدروسة حتى أصبح أمامها مباشرة، ثم رفع فوهة السلاح نحو رأسها وقال:
-إتكلمي يا "منه" أنا صبري بدأ ينفذ؛ عايز أعرف "عادل" كان مخبي إيه؟ وليه كلهم بيدوروا عليه؟! أنا عرفت مكان (الأمانة) ..
بدت على ملامح "منة" علامات الدهشة والاستغراب، حيث كانت لا تزال غير قادرة على فهم مفهوم (الأمانة) ولماذا يتم البحث عنها؟! ثم تحدثت قائلة:
-إيه إللي "عادل" مخبيه و إيه هي (الأمانة) ؟ أنا هتجنن ..
*************
اندفع الوالدان نحو غرفة ابنتهما بفزع وقلق حينما سمعوا صراخها، ثم فتحوا الباب ودخلوا مسرعين تجلى الغضب على وجوههم عندما رأوها واقفة على السرير، ممسكة بالهاتف بيدها، وتقفز فرحًا! فهتفت والدتها بغضب قائلة:
-"مريم" إيه التصرفات دي؟ إنتي شايفه خوفنا على اخواتك! انتي خضيتنا هو دا وقت هزار! ..
أخفضت رأسها خجلاً من تصرفها الطفولي، فهي عندما تشعر بالفرح تندفع للصراخ دون أن تدرك العواقب!
وعندما علمت بقدوم ابنة عمها، انطلقت تصرخ بفرح، عبرت عن أسفها بسبب القلق الذي تسببت به لأهلها قائلة:
-أنا آسفة مكنش قصدي؛ أنا أول ما شوفت رساله من "شهيرة" إنها جايه بكرة من فرنسا فرحت أوي ..
تنفس "أحمد" الصعداء عندما رأى أنها بخير، وكان ذلك كافياً، لكن قلقاً عميقاً كان ينهش داخله.
ثم وجه كلامه إلى زوجته قائلاً:
-"زينب" خلوا بالكم من نفسكم، أنا رايح عند "يونس" و"حسام" قلبي مش مطمن أدعوا إني ألاقيهم بخير !..
-ربنا معاك إن شاء الله تلاقيهم بخير و ترجعوا بالسلامة ..
غادر "أحمد" منزله تاركًا زوجته وابنته في حالة من التوتر والقلق من المجهول, فجأةً، سمعوا صوت سقوط شيء على الأرض، مما دفعهم للخروج بقلق للتحقق مما يحدث!
لكنهم لم يجدوا شيئًا مريبًا، غير أن القلق تملّكهم عندما لاحظوا الباب مفتوحًا على مصراعيه، وشاهدوا ظل شخصًا واقفًا في الخارج!
اقتربت "مريم" من الباب لتتحقق من هوية الشخص الموجود في الخارج، وعندما خرجت، صُدمت وبقيت تحدق في ذلك الشخص دون أن تتفوه بكلمة.
*********
فتح عينيه ببطء، شاعراً بألم يجتاح جسده، نظر حوله فوجد المكان مظلمًا، حيث تواجدت فيه آلات حادة. حاول أن يتذكر ما حدث عندما أخذوه، لكن آخر ما يتذكره هو سقوط شقيقه، ثم شعر بأحدهم يرش شيئًا على وجهه، ومنذ ذلك الحين لم يعد يتذكر شيء!
فجأة تذكَّر "تقى"، فانتفض من مكانه؛ لكنه اكتشف أنه مُقيَّد بسلاسل قوية تعوق حركته.
حرك رأسه بحثًا عنها حتى رآها ملقاة على الأرض، بلا حراك! انتابه القلق، فهتف قائلاً:
-"تقى"..." تقى".. إنتِ سمعاني
من أنا
البارت 5
شعر "يونس" بقلق وخوف من احتمال تعرض الفتاة للأذى بسببه.
حاول النهوض، لكن تلك القيود كانت تعيق وتعرقل حركته، ولم يستطع تحرير نفسه منها؛ رغم محاولاته المستميتة لإجماع قواه والتحرك نحوها.
حاول أن يهتز ويترنح بشكل عشوائي ليجعل المقعد الذي يجلس عليه يتحرك! لكن بسبب سرعته وقوته سقط المقعد أرضًا، تأوه من الألم عند إصطدامه بالأرض، وضغطت عليه القيود.
زحف بالكرسي حتى اقترب منها وفجأةً، سقط القناع الذي كان يخفي وجهه، حاول أن يحرك يده لإسترجاع القناع، لكنه لم ينجح.
لذا ترك أمره لله ثم هتف منادياً:
-تقى، تقى بالله عليك ردي عليا أو إتحركي حتى عشان أطمن.
فتحت عينيها ببطء وحركت بصرها في المكان بعشوائية، حتى وقع نظرها على وجه "يونس" المخيف! إتسعت عيناها بشكل مفاجئ، وانتفضت من مكانها لتصبح جاثية على ركبتيها، بينما انكمشت ملامح وجهها التي عبرت عن خوف عميق.
انعكس بوضوح على تعبيراتها، أدرك "يونس" أنها شعرت بالخوف من مظهر وجهه، لكنه لم يكن معنيًا بذلك، إلا أن هذا الأمر كان يؤلمه دائمًا، رأى كيف أن الناس تخشى الاقتراب منه، فتنفس بعمق ثم قال :
-متخافيش من شكلي، ممكن تساعديني أقوم ؟ إيدي بتوجعني، بسرعه علشان نفكر إزاي هنطلع من هنا؟
عندما أنهى كلماته، نهضت بسرعة وإقتربت منه؛ محاوِلةً دعمه لرفعه عن الأرض، كانت المهمة صعبة نظرًا لجسدها النحيف، ولكنها تمكنت بعد جهد جهيد من رفعه، جلست أمامه تلهث، بينما كان هو يصك على أسنانه من شدة الألم ثم قال :
-أنتي كويسه ؟ في حاجة بتوجعك ؟ عارف أنو كان صعب ترفعي الكرسي بيا!.
رفعت بصرها إليه، و شبه إبتسامة إرتسمت على شفتيها، ثم هزت رأسها في إشارة رفض، بعد ذلك، وقفت وإقتربت منه، وبدأت تتأمل السلاسل، محاولةً إيجاد حل لفكها.
حاولت سحب يده من قبضة السلاسل، لكنه تأذى وأطلق تأوه ألم، فابتعدت عنه بسرعة ونظرت إليه بتعبير أسف، تنهد بضيق مدركًا عجزه عن فك هذه القيود.
سرت في ذهنه آلاف الأسئلة حول سبب ملاحقته وما الذي يريده منه الآخرون، والآن يبدو أن الجميع يتعرض للأذى بسببه، حتى الفتاة التي لجأت إليه، فقد وجدت نفسها في مأزق بسببه،
نظر إليها فوجدها تحدق به في صمت دون أن تصدر عنها أي رد فعل، شعر أنه يتتوق لإفشاء ما في داخله، فاستجمع أنفاسه وقال :
-مش عارف أنا مين؟ وليه دايما بهرب و ليه ديما أهلي بيحاولوا يخبوني؟! و ليه الناس دي بيدوروا عليا؟ أنا بقيت حاسس إني مجرد خطر على أقرب الناس ليا؛ كلهم بيتأذوا بسببي!.
تجلت آثار الحيرة على ملامحها وراودتها تساؤلات داخل ذهنها، رفعت يدها كأنها تسأله، لكنه لم يتمكن من فهم ما تود التعبير عنه.
زمت شفتيها بدافع من الإحباط، وبعد دقائق من الصمت استطاع أن يفهم ما ترغب في قوله، فضحك وقال:
-أسف بجد ..مش قادر أفهمك كويس، إنتي قصدك ليه بهرب ؟
أومأت برأسها تأكيدًا ثم جلست تستمع إليه بإهتمام، لتكتشف سبب وجوده، حيث كان الفضول واضحًا في عينيها للتعرف على هذا الشخص الذي بدا غريبًا.
-هتصدقي لو قلت لك مش عارف ليه بهرب؛ بابا رفض يقولي حاجة حتى عن سبب التشوه الغريب إللي في وشي!
بينما كان يتحدث، كانت هي تنصت له في صمت، وفجأة سمعت صوت خطوات قادمة، فإنتفضت من مكانها وركضت نحوه؛ وقفت خلفه كمن تبحث عن ملاذ، أمسكت به بقوة وجسدها يرتجف من الخوف، وبدأت دموعها تتلألأ في مقلتيها.
شعر بخوفها من حركة يدها التي كانت تتشبث بها في ذراعه، فتحدث إليها محاولاً تهدئتها قائلاً:
-متخافيش ربنا معنا، إهدي متبينيش ليهم إنك خايفه، تمام ؟
فتح الباب ودخل رجلان يرتديان ثيابًا سوداء، يتبعهما رجل يبدو من مظهره أنه طبيب، حيث كان يحمل حقيبة بيده، إقتربوا من "يونس"، وبدأ الطبيب بفحصه بدقة، مشيرًا إلى وجهه بتعبير من الاشمئزاز.
ثم قام برفع ملابسه عن ذراعه، ليشهق بفزع عندما لاحظ ذراع "يونس" الغريبة، حيث كان جلده يشبه جلد الثعبان !
مما أثار الخوف في نفسه، شعر "يونس" بغل شديد يملأ صدره، وإشتدت حدة نظراته حين بدأوا يبعدون ملابسه عنه، وظهرت علامات الاشمئزاز والقرف على وجوههم! لم يستطع تحمل هذا الموقف، فإنفجر هاتفا بغضب :
-شيل إيدك عني إنتوا عايزين ايه مني ؟ إنتوا مين و بتعلموا كده ليه؟
عندما رصدت "تقى" ملامح الغضب على وجه "يونس"، إستجمعت قواها وتركت ذراعه التي كانت تمسك بها بقوة، ثم تقدمت نحو الطبيب ودفعته بقوة إلى الوراء، نظر إليها الطبيب بعبوس قبل أن يقترب منها، ويأخذ خصلات شعرها بين يديه ضاغطًا بقوة، ثم أطلق لها هذه الكلمات :
-بصي لولا إن الباشا طلب مني ماحدش فيكم يتأذي؛ كنت قتلتك.. افضلي مكانك و إلا هفصل دماغك عن جسمك.
إنفجرت مشاعر الغضب لدى "يونس" بشكل قوي فتسبب في تحريك الكرسي بعنف! لكن تم الإمساك به بإحكام، ترك الطبيب "تقى" وتقدم نحو "يونس" مرة أخرى، ثم فتح حقيبته وأخرج منها حقنة تحتوي على سائل، أمسك بذراع "يونس" ليوجه الحقنة نحوه، وفجأة أطلق صرخة و سقطت الحقنة من يده!
**********
وصل "أحمد" إلى الغابة، فنزل من سيارته وقلق كبير يعتصر قلبه، ركض نحو المنزل بقلب ينبض بشدة، وعندما لمح الباب مفتوحًا؛ تملكه الذعر.
دخل المنزل صارخًا بأسماء أبنائه، ولكنه لم يتلقَّ أي رد!
هرع نحو المطبخ، وعندما وصل إلى هناك، كانت الصدمة في انتظاره؛ عندما رأى إبنه يفترش الأرض و تحت قدميه بركة من الدماء، هوى قلبه و تجمدت الدم في عروقه.
تقدم نحوه بجسدٌ يرتعش من الخوف والرعب جثا بجانبه، ثم رفع رأسه عن الأرض وصرخ بذعر قائلاً :
-"حسام".. "حسام" يا بني رد عليا إنت سامعني، استحمل يا بني.
أنهى كلماته وحاول حمل إبنه على ظهره، لكنه لم يفلح فأمسكه من ذراعيه وسحبه ببطء، وكان قلبه يتألم من أجله، وبعد معاناة، تمكن من مساعدته للوصول إلى السيارة، وبعد جهد كبير إستطاع إدخاله فيها، ثم إستقل مقعده وإنطلق بسرعة جنونية.
*********
شعرت "مريم" بالذهول عندما اكتشفت أن من كان في الخارج ليست إلا إبنة عمها "شهيرة".
حدقت بها دون أن تتفوه بكلمة، وكانت عيناها تعكسان سعادة غامرة، استيقظت من حالة الصدمة عندما اقتربت منها "شهيرة" وعانقتها بحرارة، ثم صاحت فرحة:
-وحشتيني أوى أوى يا مريومه قلت أعملها لكم مفاجأة.
فصلت "مريم" بين العناق، ثم مدت يدها لتسحبها إلى الداخل، وهتفت تعبر عن فرحتها قائلة:
-أجمل مفاجأة يا شوكي وحشتيني اوي.. اوي تعالي ندخل عند ماما هتفرح اوي .
دخلوا الغرفة ليجدوا "زينب" جالسةً في حالة من الحزن، حيث كانت تضع رأسها بين يديها ولم تلاحظ دخولهم على الإطلاق؛ إذ كان ذهنها مشغولاً بأبنائها وزوجها.
كانت تشعر بالخوف الذي ينهش في أعماقها، وتعاني من ضيق يكاد يخنقها، فجأة.. إنتشلها من أفكارها صوت "مريم" الذي يتردد في أرجاء المكان، وهي تصيح بسعادة قائلةً:
-ماما.. ماما بصي مين جه! شوكي وصلت أخيرا البيت نور.
رفعت "زينب" رأسها، محاوِلةً رسم إبتسامة على ثغرها، لكن خيوط الألم كانت واضحة في ملامح وجهها، ودموع متلألئة تجمعت في جفونها.
انتاب "شهيرة " شعور بالقلق عندما رأت وجه زينب، حيث إجتاحها الخوف في تلك اللحظة! فإقتربت منها، وحيّتها ثم أمسكت بيدها، وهتفت بقلق متسائلة:
-مالك يا طنط؟ إنتي كويسه .. ليه في دموع في عيونك؟ هو إيه اللي حصل يا "مريم" و ما قلتليش .
لم تتمكن "زينب" من كبح دموعها، فتدفقن على وجنتيها، بينما كان داخلها تعاني من وجع يفتك بها ببطء.. ثم هتفت قائلة:
-"يونس" و "حسام" في خطر و عمك راح كمان و أنا لسه مش عارفه حاجة عنهم خايفه اوي اوي و لا حد اتصل حتى لغاية دلوقتي!.
تبدلت ملامح "شهيرة" وتغلغل الحزن في عينيها، ثم وقفت تلامس وجهها بيدها بشكل متقطع، أخذت نفسًا عميقًا عندما شعرت بصعوبة في التنفس، ثم نطقت قائلةً:
-نبلغ البوليس أو نعمل حاجة ليه قاعدين كده، مش عارفين عنهم حاجة؟!.
قطع حديثهم رنين هاتف "زينب"، الذي أعلن عن استقبال اتصال كانت بانتظاره بشغف.
وعندما لمحت اسم زوجها، أسرعت بفتح الخط ووضعت الهاتف على أذنها للإستماع إلى ما حدث، بينما كان القلق يتسرب إلى قلبها.
انشغلتا "مريم" و"شهيرة" بترقب تعابير وجهها لمعرفة ما وقع. فجأة، تبدلت ملامحها وأنهمرت دموعها، فسقط الهاتف من يدها.
************
تحولت ملامح "وليد" إلى ملامح الغضب، حيث أمسك بفكها بين يديه وضغط عليه بقوة، مما جعلها تتأوه من الألم وتظهر معالم المعاناة على وجهها.
لم تتمكن من النطق، فقد شل حركتها، ثم تحدث قائلاً:
-عاملة نفسك مش عارفه يا "منة" اومال الطفل إللي جوزك كان مخبيه، و بعته لصاحبه أنتي مش عارفة أن إللي هياخد الطفل هيبقى غني؟!.
ترك فكها، ثم ابتعد عنها، وعلى شفاهه ابتسامة تحمل في طياتها شيئاً من المكر، استمر قائلاً:
- هسيبك إنتي و بنتك بس بشرط لو نفذتيه هتتحرري مني.
أخذت أنفاسها المرهقة وهي تتنفس بصعوبة من شدة التعب، ثم قالت متسائلة:
-إيه هو الشرط ده ؟
يتبع


تعليقات
إرسال تعليق