رواية من ٱنا الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
رواية من ٱنا الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم الكاتبه حليمه عدادي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
قبل أن يغرز الطبيب الحقنة في ذراع "يونس"، شعر بضربة قوية على ظهره؛ جعلته يصرخ من الألم، وسقطت الحقنة من يده.
ضغط على أسنانه وشعر وكأن عظام ظهره قد انكسرت!
وعندما استدار، وجدها تنظر إليه بغضب وبيدها عمود خشبي، حيث أدرك أنها هي من قامت بضربه.
تجلت علامات الغضب على ملامحه، فتقدم نحوها، لكن قبل أن يقترب، شعر بألم شديد يكاد يفتك به.
نظر إلى الرجال الذين كانوا معه بنظرة غاضبة، جراء صمتهم وعجزهم عن اتخاذ أي إجراء! ثم هتف، وقد غلب عليه الألم قائلاً:
_ إنتوا فايدتكم إيه؟ أنا جايبكم علشان تحموني مش شايفين البنت كانت هتقتلني؟!
تقدم أحدهم نحوها، ثم أمسك بذراعها بقوة، مما جعل ملامح الألم تظهر على وجهها وهي تحاول الفرار من بين أنامله، ثم قال:
_ إحنا آسفين ماخذناش بالنا منها، كنا مركزين في شكل الراجل الغريب ده، كمل شغلك ..
نظر إليها بنظرات غاضبة، ثم استدار نحو "يونس" ليواصل ما بدأ به، لكن صدمته كانت كبيرة عندما رأى السائل الذي كان في الحقنة قد سكب على الأرض!
التقط الحقنة بسرعة من الأرض، لكن الوقت قد فات، فتركها هناك واستدار إلى "تقى" غاضباً، حيث ارتفع مستوى غضبه مع ابتسامة "تقى" التي تحمل في طياتها شعور الانتصار.
إذ تمكنت من إحباط ما كان يطمح إليه، كانت ابتسامتها كالسيف الذي جعله يشعر بأن حنجرته قد جُمدت حمل حقيبته، ثم وجه كلماته إليهم قائلاً:
_ يلا نمشي من هنا شغلنا باظ بسببها، الحقنة كانت واحدة بس علشان مايحسش بحاجة ..
خرج الطبيب وهو يعرج، فيما تبعه رجاله، نظرت "تقى" إلى "يونس" الذي كان صامتًا، محدقًا في الفراغ أمامه، وعلامات الحزن تجلت على وجهه.
حرك رأسه ليلقي نظرة على ذراعيه اللتين تم نزع ملابسه عنهما، وكان شكلهما يبعث على القلق، كان يشعر بأنه أصبح مُهملاً ومنبوذًا من الجميع، إذ يسعى الآخرون إلى استغلاله لتحقيق مصالحهم.
لم يكن يرغب في أن يكون بهذه الصورة، فهو لم يختر كيف يكون، بل وُلِد بهذه الطريقة!
وكأن "تقى" أدركت ما يدور في ذهنه، فتوجهت نحوه بخطوات تصدر صوتًا واضحًا لتجذب انتباهه، لم يتمكن من رفع رأسه لكي لا تشعر بالخوف من مظهره، إذ يصبح مخيفًا عندما يغضب، تنهد بحزن ثم قال:
_ أنا كويس متشكر أوي خربتِ الحقنة وخطتهم فشلت ..
لم تصدر عنها أي صوت، بل تحركت وبدأت تدور في المكان، متفحصةً كل زاوية فيه لعلها تجد مخرجًا.
لا تدري من أين اكتسبت هذه الشجاعة، فقد كانت تشعر بالخوف القاتل ومع ذلك، حين رأت قهر "يونس" أمام الطبيب، لم تعرف كيف حصلت على تلك القطعة، لكنها وجهتها نحوه وضربته بكل قوتها.
أثناء تفحصها المكان، كان صراع من مشاعر الارتباك والخوف يتغلغل داخلها، اتجاه ما قد يحدث في المستقبل ومصيرها المجهول مع هذا الشخص الغامض!
أصبحت عاجزة عن توقع الأحداث، وخشيت أن يحدث شيء سيء لها أو "ليونس".
وفي خضم تلك المشاعر، لفت نظرها إلى نافذة في ركن عالٍ قليلاً، فتحركت بحماس وبدأت في نقل القطع الخشبية ووضعها تحت موقع النافذة؛ لتتمكن من الوصول إليها لاحقًا.
وعندما شعر" يونس" بصمتها، انتابه القلق من احتمال حدوث مكروه لها، وعندما رفع رأسه، وجدها تحمل القطع وترصها فوق بعضها البعض، مما أثار إعجابه، فهتف مستفسرًا:
_ "تقى" إنتي بتعملي إيه؟ ليه بتشيلي الخشب وتحطيهم هناك ليه؟ ممكم تتأذي الخشب تقيل!
استدارت نحوه ثم أشارت بيدها نحو النافذة، قبل أن تعود لاستكمال حمل القطع، حينها أدرك أنها قادرة على الوصول، لكن "يونس" لاحظ أن القطع غير مرتبة وقد تسقط في أي لحظة؛ مما قد يُسبب لها أذىً جسيمًا نظرًا لارتفاعها.
لذا، تحرر من صمته وهتف بتحذيرها قائلاً:
_ "تقى" أوعي تطلعي فوقيهم؛ دول مش محطوطين كويس وممكن يقعوا بيكي وتتأذي! خلينا نفكر في حل تاني أحسن من دا ..
لم تعر كلماته أي اهتمام، فهزت كتفيها بلا مبالاة، ثم صعدت بحذر فوق قطع الخشب، ورفعت يدها محاولةً فتح تلك النافذة الصغيرة.
فجأة، شعرت بهزات تحت قدميها، وبدأت تفقد توازنها في محاولة منها للتماسك، ولكن عندما مالت قطع الخشب، لم تجد ما تُمسك به، فسقطت بقوة.
صدمت رأسها بإحدى القطع، ثم انحنت نحو الأرض حتى غُرِس وجهها في التراب، ولم يُسمع منها أي صوت، عدا صوت "يونس" المستمر منذ لحظة سقوطها!
حتى توقفت عن الحركة بلا أي صوت، حاول تحريك الكرسي وهو يصرخ، لكنه كان يشعر بالعجز:
_ تقى..يا تقى.. تقى ردي عليا، إنتي مش بتسمعي الكلام ليه؟ أنا قلتلك بلاش ..تقى
*************
سقط الهاتف من يدها؛ عندما تلقت خبر إصابة ابنها الذي كان يصارع الموت، لم تتمكن من تحمل ما سمعته، فقد كان ابنها، ثمرة كبدها، بين الحياة والموت، و اندثرت دموعها في لحظة من الفزع. ثم أخرجت صوتها بصعوبة قائلةً:
_" حسام" في المستشفى ابني متصاب يارب .. احفظه هو...
لم تكمل منعتها غصة حادة وقفت بمنتصف حلقها، لتعض على شفتيها بأسنانها و تناثرت دموعها على وجنتيها.
اقتربت "مريم" من والدتها وهي تبكي، غير مدركة ما تفعل، حيث تجري دموعها بينما تمسك بيد والدتها محاولةً تهدئتها.
ومع ذلك، كانت والدتها بحاجة أيضًا إلى من يطمئنها، بينما كانت "شهيرة" متسمرة في مكانها، تراقب بلا حركة أو كلمة. استجمعت "زينب" قواها، ثم بدأت بالكلام قائلةً:
_ يلا بينا نروح المستشفى نطمن على "حسام".. يارب إبني يكون بخير ..
تحركت "زينب" و"مريم" بسرعة، بينما ظلت "شهيرة" متجمدة في مكانها، حيث كانت علامات الجمود بادية على وجهها.
ورغم ذلك، كان قلبها مشتعلاً بنار من القلق والانفعال، وقد أخرجها من شرودها صوت "مريم"، التي قالت:
_ "شهيرة" إنتي كويسه؟! بقالي مده بنادي عليكِ يلا نروح المستشفى ..
شعرت الكلمات تتجمع في حلقها كخنجر يجرحها، فتنهّدت ثم أجابت قائلة:
_ روحوا إنتوا أنا مش قادره، أنا هفضل هنا لما توصلوا إبقوا كلموني علشان أطمن على" حسام" ..
عادت "زينب" إليها، وأمسكت بيدها قائلةً :
_ إحنا مش هنسيبك لوحدك؛ تعالي معانا، قلبي هيبقى مشغول عليكِ ..
لم تستطع "شهيرة" العثور على سبب مقنع للرفض، فوافقت على الفور وخرجت معهم، بينما كانت تكافح لوقف دموعها وتحاول إخفاء حزنها، مسبغةً على وجهها ابتسامة زائفة.
*************
حدقت "منة" في "وليد" بتوتر، تنتظر معرفة الشرط الذي قد يفرضه عليها! يكفي أن يتركها هي وطفلتها لتغادر هذا المكان المشؤوم.
جلس "وليد" على أحد المقاعد الحديدية القديمة، مظهراً ابتسامة تفيض بالشعور بنشوة الانتصار، وكأنه اقترب من تحقيق هدفه، ثم هتف قائلاً:
_ الشاب بقى في إيدينا وهو مرتبط مع سر (الأمانة) ..
الشرط الأول تقوليلي أي هو السر إللي يربط "يونس" (بالأمانة) علشان أقدر آخدها ..
أطلقت تنهيدة من الضيق وهي تشعر بالغضب من تصرفه، حيث رجع يسألها وكأنها تدرك كل شيء!
طوال حياتها، كانت بعيدة عن زوجها، ولم يكن يجمعها به سوى أبنائهما، كيف يمكنه أن يخبرها عن هذا السر؟ ومن هو" يونس" الذي يتحدث عنه؟ تلك التساؤلات دارت في ذهنها بلا توقف ثم هتفت قائلة:
_ أنا معرفش مين "يونس" ولا أعرف السر إللي يربطه (بالأمانة)! ، إيه هو شرط التاني؟.
اقترب منها حتى باتت أنفاسه تلامس وجهها، فحرّكت رأسها بعيدًا عنه، مما عكس على ملامحها علامات النفور والاستياء، عند رؤيته لهذا التصرف، تراجع عنها ثم قال:
_ الشرط الثاني يا "منة" إنك تتجوزيني على سنة الله ورسوله ..
شعرت" منة" بالدهشة جراء كلماته، وكأن الكلمات قد اختنقت في حلقها! دار في ذهنها العديد من التساؤلات، لكنها حاولت استجماع قواها وقالت:
_ وأنا مش هتجوزك لو هموت هنا يا "وليد"؛ إنت أكثر شخص أنا بكره في حياتي ولا يمكن أفكر مجرد تفكير إني اتجوزك! ..
غضب من ردها الواضح، ثم تقدم نحو ابنتها وأمسك بها بشدة من ذراعها، مما جعلها تطلق صرخة مدوية في المكان، حاولت "منة" أن تصرخ بفزع لتطالبه بترك ابنتها، لكنه تجاهل صرخات الطفلة ووضع السلاح على رأسها، ثم قال:
_ يا إما تنفذي شروطي وإلا تخسري بنتك للأبد؟ الخيار ليكي وهديكِ وقت علشان تفكري ..
*************
بقلق شديد، أسرعوا في أروقة المستشفى يسألون عن غرفة "حسام"، وبدت عليهم علامات الذعر، قبل أن يتجهوا نحو الغرفة المعنية، حتى سمعوا نداء "أحمد" من إحدى الاروقة حيث كان جالسًا على أحد المقاعد الحديدية، أمام الغرفة التي يتواجد بها "حسام" هرعوا إليه بقلق، وعندما وصلوا، قالت "زينب" بلهجة مفعمة بالقلق:
_ طمني يا "احمد" "حسام" مالوا هو كويس؟ ابني حصله إيه؟! ..
تنهد" أحمد" بعمق حيث كان الحزن والقلق يطغيان على ملامحه، وهو يتأمل يديه الملطختين بدماء ابنه، ثم نطق قائلاً:
_ لسه ماحدش خرج من عنده من ساعة ما وصلنا، بإذن الله "حسام" هيكون بخير ..
ضغطت على شفتيها لتمنع صوت شهقاتها العالية، وقلبها يكاد يتفجر من بين ضلوعها، أي ألم تتحمله هذه الأم قلبها ينفطر على ابنها، مثل سيف يذبحها كلما مرت الدقائق فجأة.
انطلقت شهقات بكائها ملء المكان، وصدى صوتها يتردد في الأرجاء، بدأت عيناها تتجولان بقلق، وعندما تذكرت "يونس"، اهتز قلبها خوفًا مما قد يحدث له؛ فقد باتت غير قادرة على التحمل.
انهارت ساقاها وسقطت على ركبتيها، لكن "شهيرة" و"مريم" هرعتا ليدعماها وتساعداها على الجلوس، ثم تحدثت بصوت خافت قائلة:
_ أومال "يونس" فين إبني فين يا "أحمد"؟ ماتقولش إن حصله حاجة؟! ..
استقام "أحمد" وتقدم نحوها، ثم جلس القرفصاء أمامها ممسكًا يدها، وكأنه يواسيها رغم ألمه، كان يأمل أن يظل قويًا من أجلها، ثم أجابها قائلاً:
_ إطمني هيكونوا بخير الظاهر إنهم خطفوا "يونس" شكلهم وصلوا له؛ أنا بعمل كل جهدي علشان أعرف مكانه ..
لم تتحدث، بل وضعت يدها على فمها وانهمرت دموعها بينما كانا في هذه الحالة عندها، خرج الطبيب من غرفة "حسام"، فتوجهوا إليه بسرعة وقلق، تملؤهم مشاعر متناقضة.
ولكن، عندما نظر إليهم الطبيب، بدت على وجهه تعابير الحزن.
من أنا
البارت 7
شعر بالعجز واليأس، فقد غلب عليه إحساس القنوط، حاول التقدم نحوها، لكن قلة الطعام والشراب أضعفت طاقته، إضافة إلى تلك السلاسل الملعونة التي تعيق حركته.
أطلق زفرة ضيق، وصفعت صرخاته المكان من حوله، وهو يسعى لتحريك الكرسي، لكن دون جدوى.
بينما هو يبذل قصارى جهده، فجأة رفعت رأسها، وتساقطت الدماء من جبهتها على وجهها.
عانت بشدة وهي تقف بصعوبة تحت وطأة الألم، ثم وضعت يدها على جبينها، وعندما شعرت بشيء سائل، رفعت يدها لتكتشف ما بها، وفجأة تبدلت ملامح وجهها، حيث بدت مظاهر الرعب واضحة عليها!
لم تتمكن من السيطرة على خوفها وبدأت تصرخ بشكل هستيري، ثم سقطت على ركبتيها، حيث راحت تفرك يديها بالأرض وهي تبكي بشدة.
سعى "يونس" إلى إيقافها بكلماته عسى أن تستمع له، لكنها لم تعره أدنى اهتمام! استمرت في تمريغ يديها بقوة على الأرض حتى نزفت، بينما كان أنينها يرتفع رويداً.... رويداً ..
وعندما أدرك "يونس" أن محاولاته لن تجدي نفعًا، صرخ بصوت عالٍ قائلاً:
_ "تقى" اهدي مفيش حاجة؛ ده مجرد جرح بسيط قومي كدا هتعوري ايدك.
بمجرد أنهى حديثه، توقفت ورفعت رأسها لتنظر إليه، وقد انهمرت دموعها على وجنتيها، مختلطة بجراحها وعلامات الذعر بادية على ملامحها.
نهضت ببطء، تحتضن نفسها بذراعيها وهي تترنح تحت وطأة الهلع، ثم تقدمت نحوه بنظرات مشوبة بالخوف لم يفهمها، حتى وصلت إلى جانبه وجلست بجانب قدميه!
عندما ابصر رعبها من قطرات الدم؛ أدرك أنها قد عاشت مأساة مؤلمة جعلتها تخشى من الدماء.
تنهدت تنهيدة تحمل في طياتها معاناة وآلامًا، وازداد شعورها بالخوف، لم يعد يفكر سوى في كيفية إبعاد هذه الفتاة عن هذا الخطر، والسعي للعثور على أهلها ليعتنوا بها.
تحدث دون أن ينظر إليها حتى لا يتزايد خوفها من مظهر وجهه، ثم نادى بكلمات ليطمئنها قائلاً:
_ مفيش حاجة تخوف إنتي كويسه ماتخافيش أنا جنبك تمام ..
***********
بين قلقها على ابنتها والتحديات الصعبة التي فرضها الشرط المفروض عليها، اجتاحها شعور من الذعر خوفًا من فقدان ابنتها.
حيث أدركت أنها تجهل الكثير عن هذه (الأمانة) وشرطه الثاني، طلبه للزواج منها، رغم تفضيلها الموت على العيش مع شخص نرجسي خالٍ من الرحمة.
إلا أنها أدركت أن الوقت ليس مناسبًا للعناد والرفض، بل ينبغي عليها أن تواصل المحاولة لبلوغ ما ترغب به، تنهدت بتعب وقالت:
_ أنا موافقه على الجواز يا "وليد" بس؛ سيب بناتي وبالنسبة (للأمانة) فأنا معرفش عنها حاجة صدقني ..
ابتسم بشر واقترب منها، محاولًا الإمساك بيدها، لكنها تحركت بعشوائية، مُبديَةً اشمئزازها منه؛ ولأنه شعر بالاستمتاع بحالتها هذه قال:
_ أنا هصدقك المرة دي يا "منه" رجالتي هياخدوكِ لبيتي وهناك هتجهزي لكتب كتابنا ..
أنهى حديثه ثم اقترب من "إيلول"، وكانت ابتسامة مكر تعلو وجهه! أمسك برفق وجنتيها بيديه، مما جعل جسدها ينتفض بينما سقطت الدموع من عينيها في حالة من الخوف.
قهقه "وليد" عاليا ثم قال:
_ خايفه ليه أنا عمو وقريب هبقى بابا ومش هعذبك تاني ..
ابتعد عنها وهو يضحك بطريقة جنونية، ثم استدعى بعض الرجال الذين دخلوا على الفور واصطفوا أمامه في استعداد لتنفيذ أوامره. ثم أشار نحو "منة" وتحدث قائلاً:
_ فكوا "منه" وبنتها وخودهم البيت عندي جيبولها هدوم جديده وأكل ..
توجهوا بسرعة لتنفيذ طلبه؛ وأطلقوا سراح "منه" وابنتها.
وما إن تم فك الحبال عنهما حتى أسرعت إلى ابنتها، معانقة إياها بقوة، وانفجرت في بكاءٍ مؤثر بينما كانت ابنتها منهارة في أحضانها.
أظهر "وليد" استياءه وتحدث قائلاً:
_ خدوهم بسرعه مش عايز غلطه، أنا ماشي عندي حاجة مهمه ..
أنهى حديثه وانصرف مسرعًا، بينما ابتسمت "منة" وعزمت على تنفيذ ما تفكر فيه، تمسكت بيد ابنتها بقوة وسارت نحو الخارج.
وحين خرجوا، أصرت على إمساك يد ابنتها بشدة، وعندما نظرت إليهم، وجدت أنهم لم يولوا انتباههم لهما!
سحبت ابنتها وركضت بعيدًا بكل قوتها، وفي تلك اللحظة، وقف أحدهم دون حركة، واستخرج سلاحه، وأطلق رصاصة دوّت في المكان!
**********
انتظروا تصريحات الطبيب بقلوبٍ تتراقص فيها مشاعر القلق، وأرواح تكاد تنفصل عن الأجساد من شدة الخوف مما قد يُعلنه.
وبعد لحظة من الصمت الثقيل، نطق الطبيب بأسفٍ قائلاً:
_ الرصاصة دخلت في مكان خطير في رجله؛ للأسف مش هيقدر يمشي لفترة طويله،
يمكن مع العلاج هيرجع يمشي زي الأول ..
انزلقت كلمات الطبيب على مسامعهم كالصاعقة، فاجتاحت قلوبهم بصدمة لا تصدق.
انفجرت "زينب" في نوبة من البكاء، بينما سعى "أحمد" جاهداً للتماسك، و هتف بكل أمل متسائلا ً:
_ يعني مفيش أمل يا دكتور أرجوك إعمل أي حاجة؛ إبني لما يعرف مش هيستحمل ..
أجاب الطبيب قائلاً:
_ إحنا عملنا إللي علينا ربنا يشفيه ..
أنهى الطبيب حديثه وترك المكان، اقترب "أحمد" من زوجته محاولًا تقديم المواساة لها، بينما كان قلبه يتألم من فقد أبنائه، واحد في الداخل والآخر لا يعرف مصيره.
كان يشعر كأنه محاصر بين نارين، ربت على يدها قائلًا:
_ إهدي يا "زينب" "حسام" قوي وهيكون بخير، فترة وهتعدي وإن شاء الله هيبقى كويس ..
أخذت نفسًا عميقًا، محاولًة إخراج صوتها الذي اختنق بالدموع.
كانت الكلمات تتعثر في حلقها، بينما شعرت أن قلبها يكاد يخرج من بين ضلوعها، فكل نفس تتنفسه يذكرها بمعاناة أبنائها.
لم تحتمل أن يتعرض أي من أبنائها للأذى؟ خفضت رأسها إلى الأرض، مغمضة عينيها في محاولة يائسة للسيطرة على دموعها المتدفقة.
تبدو وكأنها لم تعد قادرة على فعل أي شيء سوى الانهيار في البكاء؛ ارتفعت أصوات شهقاتها، وهي تهمس بصوت مفعم بالألم:
_ مش قادره يا "أحمد" ابني لو حصله حاجة أنا هموت ، أنا مستعده أديه روحي بس هو يقوم بالسلامة ..
وضعت "زينب" يدها على خديها لتجفف دموعها، داعيةً بأن يكون أبناؤها بخير.
وكانت "مريم" التي لا تقل حالتها عن حالة والدتها، تذرف الدموع خوفاً على مصير إخوتها.
حاولت "شهيرة" أن تواسيها قليلاً مسكت يدها تربت عليها، وبعد فترة بدت كالسيف الحاد على رقابهم، أقر الطبيب بزيارة "حسام"، وما إن استمعت "زينب" بموافقته حتى اندفعت نحو الباب واقتحمت الغرفة.
اجتمع الجميع حول "حسام"، وكل منهم يسأله بلهجة مشوبة بالقلق عن حالته.
لكن "حسام" كان نظره مشدودًا نحو "شهيرة"، حيث بدت ملامح الغضب واضحة على وجهه.
حاول النهوض لكنه شعر بآلامٍ في جسده، فعاد إلى مكانه متألماً ثم تحدث بنبرة حادة قائلاً:
_ إيه إللي جابك هنا؟ إطلعي بره مش عايز أشوفها طلعوها بره !..
**************
مرت اللحظات وازدادت برودة الجو، وفي كل مرة كان ينظر إليها، يجدها صامتة، لكنها كانت تسرق النظر إليه في كل ثانية، تقترب بجانب قدميه كأنها تشعر بالأمان لوجوده.
فجأة، انتفضت مذعورة عندما سمعت أحدهم يفتح الباب، فاستحكمت في قبضتها عليه، وعينيها مصوبتان نحو الباب!
دخل عدة رجال ومعهم "وليد"، ثم اقترب "وليد" من "يونس"، وضحك بصوت عالٍ قائلاً:
_ وأخيراً لقيتك يا "يونس" وهلاقي (الأمانة) كمان معنديش وقت عايزك تقولي فين (الأمانة) بسرعة. ..
غضب "يونس" حتى أصبح لون عينيه كالمزيج من الدماء، واكتسب وجهه مظهراً مخيفاً يُثير الرعب في نفوس من يراه!.
وعندما لمح "وليد" هيئة "يونس"، ارتدَ إلى الوراء مذعوراً وقال:
_ ده مش بني آدم دا شيطان اربطوه كويس دا مش بني آدم عادي! ..
كانت كلمات "وليد" بمثابة قطع زجاج مكسور، تجثم في قلب "يونس"، تتحرك عشوائيًا مثل طائر جريح داخل قفصه،
اهتز بقوة، مما أضفى عليه منظرًا مريبًا! لم يحرك تلك القيود التي تعيق حركاته، وسقط به الكرسي إلى الأرض، بينما "وليد" يراقبه بخوف.
في تلك الأثناء، كانت "تقى" تقف تراقبه، وعندما سقط، أسرعت نحوه محاولًة إسناده ليستعيد توازنه.
ولكن "وليد" كانت أسرع منها، فأمسك بذراعها ليبعدها عن "يونس" إلا أنها فاجأته بدفعة قوية إلى الوراء كادت أن تفقده توازنه!
ثم نظرت إليه بنظرات مليئة بالكره والغضب، وبدأت تتحرك نحو "يونس"، لكن شعرت به يمسك بمعصمها ويجذبها نحوه، ثم صاح قائلاً:
_ إنتي شكلك نسيتي أنا مين؟ ولا عامله نفسك مش عرفاني؟ كنتي فاكره إنك هتقدري تهربي مني ..
نظرت "تقى" إليه بدهشة، وضيقت عينيها مستفسرة؟!
حاولت سحب ذراعها منه، لكنها فشلت في ذلك أمام قوته، حيث ضغط على معصمها حتى تأوهت من الألم.
ورغم ذلك، تماسكت ونظرت إليه بغضب، في تلك الأثناء، كان "يونس" يحاول النهوض، إلا أنه شعر بالعجز والقهر، لكنه لم يستسلم ولم يرغب في إظهار ضعفه أمامهم.
وفي لحظة اقترب منه اثنان، أعاداه إلى مكانه مرة أخرى. وجه "وليد" أنظاره نحو "يونس"، حيث كانت تلمع في عينيه لمعة شر، ثم تحدث قائلاً:
_ إنت شكلك عنيد يا "شيطان" بس هتتكلم غصب عنك وتقول إيه علاقتك (بالأمانة) وهي فين؟!
ابتسم "يونس" ابتسامة تحمل طابعاً مرعباً، ثم صرخ بصوت قوي قائلاً:
_ أنا معرفش حاجة، ومعرفش إيه هي (الأمانة) إللي بتتكلم عنها ،بس إنت هتندم أوي على إللي إنت عملته دا ..
عبر "وليد" عن استيائه بضغطه على أسنانه، عندما أدرك أنه لن يحصل على أي شيء بسهولة من "يونس".
وقرر أن يلجأ إلى استخدام القوة عله يتمكن من تحقيق ما يرغب، ثم وجه حديثه لأحد رجاله قائلاً:
_ هات الكرباج وأفضل أضربه من غير ما تقف لحد ما ينطق ويقول كل حاجة ..
أنهى حديثه ثم تراجع إلى الخلف وهو يمسك "بتقى" التي كانت تحاول الفرار منه، بينما قام أحد رجاله بمدّ سوطٍ وانهال به على جسد "يونس"!
ومع كل ضربة من السوط، لم يكن الألم يدفع "يونس" إلى الصراخ من شدة الوجع، بل من وطأة القهر الذي يعتصره!
حاولت "تقى" دفع يد "وليد" عنها بكل قوة، وكأنها قطة متوحشة، إذ ازدادت شراسةً وظهرت القوة في عينيها، لتعضّ يد "وليد" بكل ما أوتيت من قوة!
دفع "وليد"" تقى" بعيدًا عنه، ممسكًا بيده وهو يعاني من الألم.
استغلت هي انشغاله، واندفعت نحو الرجل الذي يقوم بضرب "يونس"، حيث أمسكت بذراعه بقوة مما أعاق حركته.
وفجأةً، شعرت بشيء حاد يلامس رقبتها...!
من أنا
البارت 8
توقفت "منة" للحظة لتستوعب أن كل شيء بخير، حين مرت الرصاصة بجانبهما دون أن تصيبهما بأذى!
كادت أن تتوقف أنفاسها عندما سمعت صوت الطلقة النارية، وتجمدت في مكانها، حيث سرت في أوصالها قشعريرة، وجفّ حلقها.
لم تعد قادرة على التحمل و سقطت على ركبتيها وهي تحتضن ابنتها في يديها، تحاول استعادة أنفاسها المسلوبة.
وفجأة، شعرت بفوهة سلاح موجهة إلى رأسها؛ احتضنت "منة" جسد ابنتها النحيل بين ذراعيها، محاولة حمايتها من بطشهم.
عندما أدركت أنه لا مفر لهما، شعرت بكآبة تسكن حلقها، وتجمعت الدموع في عينيها بسبب مرارة الهزيمة التي تذوقها، ولم تستطع الهرب.
لعنت في سرها تلك (الأمانة) التي كانت سبباً في معاناتها. وفجأة انتشلها من تفكيرها عندما انتزعتها قبضة قوية من ذراعها وسحبها بقوة، حتى كادت تسقط ثم تحدث قائلا ً:
_ المرة دي الرصاصة عدت من جنبك، لكن المرة الجايه هتيجي في دماغك فما تحاوليش تهربي مرة تانية ..
أنهى حديثه المليء بالتهديدات، ثم ألقى بها نحو السيارة، و أمسك بابنتها التي كانت تبكي بفزع، ولم يُظهر أي تعاطف، سحبها خلفه كما يُسحب قطعة قماش بلا معنى!
شعرت بالقهر حين عجزت عن فعل أي شيء من أجل ابنتها، وصرخت بصوت يملؤه الألم قائلة:
_ سيب بنتي ماتعملش معاها كدا البنت مريضه أرجوك سيبنا نمشي ..
توقفت الكلمات في حلقها وسقط قلبها هلعًا؛ حين رأت ابنتها تغلق عينيها ويسقط جسدها على الأرض بلا حراك!
صرخت بفزع، ودموعها تتناثر على وجنتيها، حتى كاد صوتها أن ينحبس
_ بنتي "إيلول" إنتي سمعاني اعمل حاجة بنتي بتروح مني؟! ..
دفعها بقوة حتى اصطدمت بالسيارة، دون أن يبالي كأنه يدفع شيئًا غير ذي قيمة، ثم حمل "إيلول" ووضعها في السيارة، وعاد إلى "منة"، سحبها من ذراعها ودفعها إلى الداخل بجانب ابنتها.
بعد ذلك، أشار إلى الرجال الذين كانوا معه، ثم استقل مقعده وانطلقوا.
بينما في الخلف، بكت "منة" بمرارة وفزع، وهي تمسك برأس ابنتها بين يديها، منادية بصوتٍ مفعم بالحزن قائلة:
_ "أيلول"... "أيلول" ردي عليا أنا آسفة يا حبيبتي ماقدرتش احميكِ ..
ازداد بكاؤها حين لم تجد منها ردًا، فأخذت تقلب جسدها الضعيف البارد بين يديها.
************
انتفضت "تقى" خوفًا، ثم استدارت ببطء وهي تحاول طمأنة نفسها بأن كل شيء سيكون على ما يرام.
فوجئت بـ "وليد" خلفها، حاملاً سكينًا حادًا، وعيناه مليئتان بالشر.
ثم اقترب منها، و مرر السكين على وجنتيها، وهتف بغلٍ قائلاً:
_ شكلك نسيتي إللي كنت بعمله فيكي؛ أنا هفكرك بيه يا قطة وهعرف السبب إللي يخليكِ تدافعي عن "الشيطان" دا؟!
نظرت "تقى" إليه بثبات، ولم تتزحزح جفونها رغم مخاوفها الداخلية، إذ كانت ترفض أن تُهزم أمامه.
من جهة أخرى، كان "يونس" يشعر بقلق عميق، ليس بسبب نفسه، بل خشيةً أن تتعرض "تقى" لأي أذى نتيجة وجودها معه، بينما هو مقيد اليدين وعاجزاً عن فعل أي شيء بسبب تلك القيود اللعينة.
وفي تلك اللحظة، نظر "وليد" إليهم بملل، ثم سحب "تقى" بعيداً عن" يونس"، وأمسك بالسوط ورفعه في الهواء.
ثم بدأ ضرب جسد "يونس" بقوة وغضب دون رحمة، حاولت "تقى" الاقتراب نحو "يونس"، لكنهم أمسكوا بها بشدة، وهي تكافح من أجل الإفلات من أيديهم وعيناها تشتعلان غضباً.
إلا أنهم كانوا أقوى منها، فلم يكن بإمكان جسدها الضعيف أن يقاوم، فسقطت على ركبتيها بينما هم يمسكون بها من ذراعيها.
ولكنها لم تستسلم، بل استجمعت كل قواها ووقفت ثابتة، محاولة الصراخ، ولكن صوتها خذلها وكُتمت الكلمات في حلقها!.
حين رأى "وليد" أن "يونس" وقد غطى جسده بالدماء، واستشعر التعب والألم بوضوح على ملامحه؛ توقف عن ضربه.
و ترك السوط من يده وهو يلهث، ثم صرخ قائلاً:
_ ماعنديش وقت أضيعه معاك قول (الأمانة) فين وإيه إللي تعرفه عنها؟
رفع "يونس" رأسه بصعوبة، حيث كان الألم يمزق جسده نتيجة الجروح النازفة، وقد تغير لون وجهه وأصبح مظهره مخيفًا لمن ينظر إليه!
ضغط على أسنانه بألم، ثم نطق بصوت ضعيف قائلاً:
_ أنا معرفش حاجة عنها، ولا أعرف هي فين لو عايز تقتلني أقتلني بس سيب البنت تروح هي ما تعرفش حاجة ..
انفجر "وليد" غضبًا من رد "يونس"، وتقدم نحوه بسرعة، ممسكًا بكتفه وضاغطًا بأظافره على إحدى جروحه، متحدثًا بصوت يسوده الغضب قائلاً:
_ لو متكلمتش؛ هفضل أعذب فيك ليل نهار لحد ماتتكلم ! والبنت مش هسيبها، أنا همشي دلوقتي وهرجع ثاني لما عقلك يرجع لك ..
أنهى حديثه وتوجه نحو" تقى" قائلاً:
_ أنا هرجع بالليل علشان أخذك؛ هرجعك لنفس المكان يمكن عقلك يرجعلك ..
أنهى حديثه ثم أشار إلى رجاله بالخروج تاركين "تقى" خلفهم.
وغادروا المكان بينما تبعهم "وليد" ، حالما خرجوا، انتفضت "تقى" من موضعها، وازدادت عيناها تألقاً، ونظرت بتركيز نحو شيء ما.. و البسمة على ثغرها!
**************
حاولت والدته تهدئته بصعوبة، إذ بدا كأنه أصيب بالجنون منذ أن شاهد "شهيرة".
أمسكت بيده وبدأت تربت عليها، ثم هتفت قائلة:
_ "حسام" اهدى يا حبيبي "شهيرة" مالهاش ذنب! إنت تعبان لازم ترتاح صحتك أهم ..
أدار وجهه بعيدًا عنها، محاولًا كبح جماح غضبه، بينما تلاحقت ذكريات الماضي في ذهنه، وكأنها أعادت فتح جراح كادت تندمل.
وفجأة، انتفض عندما تذكر شقيقه، وهتف بقلق قائلاً:
_ ماما .. بابا ... "يونس" فين؟؟ هو كويس صح إنتوا لقيته صح؟!
خفض "أحمد" رأسه إلى الأسفل، وهتف بحزن قائلاً:
_ لسه منعرفش عنه حاجة؛ مش عارف اخذوه فين قلبي وجعني عليه ربنا يحميه ويحفظه ..
حاول التحرك ولكنه لم يتمكن من تحريك قدمه، فنهض متحركاً بعشوائية، مصمماً على الذهاب إلى شقيقه مهما كانت الظروف، دون أن يعود من دونه.
حاولت والدته وشقيقته تهدئته، وعندما عجز عن ذلك، أطلق صرخة انفعالية قائلاً:
_ إنتوا هاديين كدا إزاي و"يونس" مش هنا؟! مش عارفين إذا كان كويس ولالا هما أكيد بيعذبوه !
أمسكت "مريم" بيده، وهي لا تقل حالاً عنه، والدموع تتجمع في جفونها، ثم هتفت بصوت مبحوح قائلة:
_" يونس" قوي وهيكون كويس وإن شاء الله هيرجع لينا بالسلامة ..
بينما كانا يتبادلان الحديث، ويحاول كل منهما طمأنة الآخر، وقفت "شهيرة" على مسافة بعيدة عنهما، تتابع المشهد بعيون تملؤها الدموع، بينما تسعى للتماسك.
تمنّت لو كانت والدتها ووالدها بجانبها، لترتاح قليلاً، لكنهما رحلا عن الدنيا، مما جعلها تشعر بالوحدة والانكسار في غيابهما.
"تعد الحياة بدون الوالدين كالعالم المظلم الذي يفتقر إلى النور، وهي تشبه الجماد الذي يفتقر إلى الروح، فلا معنى للحياة دون وجودهم، فهم نبضها وجوهرها."
لاحظت "مريم" ما يدور في ذهنها، إذ إنها الأقرب إليها وتعرفها جيدًا، فنهضت نحوها وأمسكت بيدها، ثم قالت:
_ مالك يا شوكي زعلانه ليه تعالي إقعدي معانا ..
_ مش هقدر "حسام" بيكرهني مش عايزني افضل معاكم خليني هنا ..
تنهدت، فهي تدرك جيدًا أسباب كراهية "حسام" "لشهيرة"، وتفهم أنه لا يعكس مشاعر حقيقية، بل هو ناتج عن جروح الماضي. ثم قالت:
_ مش كده يا "شهيرة"؛ "حسام" لسه مجروح من إللي حصل هو مش عارف الحقيقة كلها، تعالي معايا ..
لم تترك لها الفرصة لتعبر عن أي شيء، بل سحبتها معها نحو "حسام"، ثم وجهت إليه الكلمات، قائلة:
_ "حسام" كده مش هينفع ؛ لازم تسمع من "شهيرة" أو من ماما، هي ليه عملت كده؛ ماتحكمش عليها من غير ما تعرف الحقيقة؟!
ضغط على قبضته، محاولًا السيطرة على مشاعر غضبه، ثم نطق بصوت منخفض يحمل في طياته الغضب قائلاً:
_ ليه هربتي يوم كتب كتابتا ليه؟! عايز جواب واحد بس ..
*************
تجلت البهجة في عيني "تقى" عندما لمحت المفاتيح ملقاة على الأرض، حيث سقطت من "وليد" أثناء ضربه "لـيونس" الذي لم يكن مدركاً لذلك.
اندفعت "تقى" نحوها بسرعة، والتقطتهما بفرح، ثم رفعتهما أمام عينيها وهي تحركهما عشوائيًا لإصدار صوت؛ وقد جذب هذا الصوت انتباه" يونس"، الذي رفع رأسه بفضول ليكتشف مصدره. وعندما رأى المفاتيح في يدها، استفسر منها بدهشة قائلاً:
_ "تقى" إنتي جبتي المفاتيح دول منين! وهتعملي بيهم ايه ؟!..
عندما أنهى حديثه، اقتربت منه ووضعت المفتاح في قفل السلاسل وأدارتها ببطء، وهي تدعو أن يفتح القفل وأن ينجوا من هذا السجن.
وفجأة، انفتح القفل، فقفزت بفرحة وكأنها طفلة، وشرعت في فك باقي السلاسل، وكانت مفعمة بالسعادة، وعندما انتهت، وقف "يونس" يتألم، وهتف قائلاً:
_ طلعتي شطوره وذكية وأنا إللي كنت فاكرك جبانه، لازم نخرج من هنا بسرعه قبل ما يرجعوا ..
نظرت إليه وهي تضم يدها إلى صدرها بتعبير متجمد، ثم اتجهت نحو الباب!
رفع حاجبه بتعجب من تصرفها، ثم تبعها ببطء نتيجة لألم جسده. عندما وصل إليها، بدأت تجرب المفاتيح واحداً تلو الآخر، ولأن العدد كان كبيراً، بدت متوترة.
لحسن حظهم، عندما جربت آخر مفتاح، انفتح الباب، ودخل ضوء الشمس إلى المكان، شعرت بسعادة غامرة وفتحت الباب بسرعة، ثم خرجت ببطء!
لكنها عادت مسرعة عندما رأت عددًا من الرجال يراقبون المكان.
تحرك "يونس" ببطء، وكانت خلفه، حتى اقترب من الرجال، ثم التقط صخرة صغيرة من الأرض ورماها في الاتجاه المعاكس؛ ليشوش انتباههم عندما ألقى تلك الحجرة.
تفرق الرجال يبحثون عن مصدر الصوت، هنا استغل "يونس" الفرصة وانطلق مسرعاً اتجاه الأشجار، بينما كانت "تقى" تلحقه، ومع تقدمهم في عمق الغابة، تفاجأوا بظهور صوت من خلفهم ينادي قائلاً:
_ أقف مكانك إنت رايح على فين بالسرعة دي ؟
من أنا
البارت 9
توقفوا على أثر الصوت، وظنوا أنهم وقعوا مجددًا في قبضة "وليد".
توقفت "تقى" في مكانها، وشلّت حركتها، وازدردت لعابها بصعوبة، وعندما استدار" يونس" نحو مصدر الصوت، انتفضت من مكانها، وأمسكت بثيابه بقوة، حتى كادت أن تسقط من شدة خوفها.
نظر إليها "يونس" ليطمئنها، ثم انتقل تركيزه إلى الرجل الذي كان يقف بعيدًا عنهم، لكنه لم يكن قريبًا بما يكفي، بعدها جال بنظره في المكان ثم تحدث قائلاً:
_ "تقى" الراجل بعيد عنا يالا، بسرعة، خلينا نجري وندخل جوا الغابة أكتر علشان نشتت انتباهه ماشي ..
هزت رأسها بالموافقة، لكن عندما حاول "يونس" التحرك، أدرك أنها لا تزال ثابتة في مكانها، تحدق أمامها، لم يكن أمامه خيار سوى أن يمسك بيدها ويجري بها، وإلا فلن ينجوا من هنا.
اقترب منها وأمسك كفها بين قبضته، ثم انطلق بسرعة رغم الألم الذي يشعر به، فهو يعلم أن الوقت ليس مناسبًا للتفكير.
ركضوا بين الأشجار الكثيفة حتى تعمقوا فيها...فجأة، سقطت "تقى" على ركبتيها تاركةً يده.
عاد إليها معتذرًا؛ فقد ركض دون أن يدرك أنها لا تملك القوة الكافية لتحمل كل هذه المسافة، قدم لها يد العون ليساعدها على النهوض ثم قال:
_ أنا آسف جريت من غير ما أعرف إنك مش هتقدري تجري كل المسافة دي إنتي كويسة ؟
قامت بمسح العرق المتصبب من جبهتها، ثم التفتت إليه فجأة، وفتحت فمها بدهشة عندما رأت الدماء تسيل من خلف قميصه!
أشارت له بيدها إلى كتفه، نظر إلى ما تشير إليه ثم قال:
_ ماتخافيش دا جرح بسيط، يلا نتحرك من هنا، يمكن نوصل للطريق ونلاقي حاجة نركبها ونبعد عن هنا....
تحرك ببطء من أجلها، بينما كانت تتبعه بخطوات متعبة تحت أشعة الشمس الحارقة، حتى بدأ العرق يتصبب من جبينها وجف حلقها من العطش.
كانت تتنفس بصعوبة مع كل خطوة، وعندما لاحظ الإرهاق الواضح على ملامحها، توقف عن السير والتفت إليها قائلاً:
_ تعالي نقعد هنا شوية علشان ترتاحي وبعدها نكمل.. إنتي تعبانة أوي ..
حركت رأسها رافضة، وأشارت بيدها إلى الأمام لتستأنف السير.
تعجب من إصرارها على المضي قدماً رغم تعبها، فحاول التواصل معها، لكنها استمرت في المضي قدماً دون أن تلتفت إليه.
تنهد بضيق من تصرفها وناداها قائلاً:
_"تقى" إسمعي الكلام اقعدي علشان ترتاحي شوية ممكن يكون الطريق لسه طويل ..
تجاهلت حديثه واستمرت في سيرها، مما أضفى على وجهه معالم الإحباط من عنادها، مضى خلفها في صمت، حتى كسر هذا الهدوء صوت سيارة تقترب من المكان، فظهرت الابتسامة على وجهيهما وتحركا سريعًا نحو مصدر الصوت!
بعد لحظات قليلة، وجدوا أنفسهم على طريق، لكن لم تكن هناك أي وسيلة مواصلات، حيث كان الطريق يمر عبر الغابة، جلسوا بجانب الطريق على أمل أن يمر شخص ما لمساعدتهم!
في تلك الأثناء، سمعوا صوت هدير يقترب، فانتبهوا بسرعة وترقبوا شاحنة تقترب منهم، أشار يونس بيده للشاحنة لتقف، بينما عادت "تقى" إلى الوراء بخوف!
وعندما اقتربت الشاحنة، توقفت فجأة، ونزل منها رجل في مقتبل العمر، بدت على ملامحه الخوف من منظر" يونس"، لكنه تمكن من استعادة رباطة جأشه وطرح تساؤلاً قائلاً:
-إنت مين و بتعمل إيه في الغابة الكبيرة دي؟! الغابة فيها خطر كبير، على الأقل خاف على البنت إللي معاك ..
أجاب "يونس" بتعب واضح، فقد تمكن منه الألم ولم يعد بإمكانه التحمل:
_ لوسمحت خرجنا من هنا إحنا كنا مخطوفين ممكن تأخذنا معاك على المدينة؟
على الرغم من شعور الرجل بالخوف والرهبة، إلا أنه أبدى تعاطفه مع حالة 'تقى"، وطلب منهم أن يتقدموا، في بادئ الأمر، خافت "تقى"، لكن "يونس" تمكن من إقناعها قائلاً:
_" تقى" يلا تعالي إنتي قوية ماتخافيش من حاجة لازم نطلع معاه علشان ماحدش يمسكنا ونرجع للعذاب من تاني... يلا.
بعد قليل، وافقت "تقى" على الصعود إلى الشاحنة برفقته، فانطلقوا معاً... استرق "يونس" نفساً عميقاً، ثم أمال رأسه إلى الخلف وأغمض عينيه.
بعد مرور فترة طويلة، وما زال "يونس" مغمض العينين، شعرت "تقى" بقلقٍ كبير، واحتارت في كيفية التصرف، بدأت العديد من الأفكار السلبية تدور في ذهنها!
فتساءلت في خفاء إن كان "يونس" قد فارق الحياة، ولهذا لم يفتح عينيه؟! انتابها شعور بالصدمة، لكن سرعان ما خطرت لها فكرة، فاتخذت قرارًا بتنفيذها.
نزعت حذاءها من قدمها، وبيدين مرتجفتين، اقتربت من "يونس" وضربته بقوة؛ عندها انتفض فجأة صارخًا بفزع، في حين اتسعت عينا "تقى" بذهول.
أمسك "يونس" بذراعه متألماً وهو يستطلعها بنظرة مليئة بالدهشة من فعلتها ثم تحدث قائلاً:
_ مالك يا "تقى"؟ في حد يعمل إللي عملتيه دا ضربتيني ليه كنتي هتكسري ايدي! ..
أشاحت إليه بنظرة جانبية وهي تعقد شفتيها، ثم انخفضت برأسها موجهة عينيها نحو الأرض.
تنهد "يونس" وعاد إلى مكانه مستغربًا من تصرفاتها.
**********
استرجعت "شهيرة" ذكرياتها عن الأحداث التي مرت بها في الماضي، والتي كانت وراء هروبها يوم عقد قرانها!
جلست بجوار "مريم"، وانهالت دموعها بينما قالت:
_ أنا هربت غصب عني يا "حسام" يومها عرفت إن "عمر" خطف ماما وطلب مني إني أسافر عنده هناك وإلا هيقتلها ..
شعر "حسام" بقلق وغضب شديدين بسبب المدعو "عمر"، بالإضافة إلى استيائه من عدم إبلاغها له، كما أثار تساؤلاته هدوء عائلته، مما يوحي بأنهم كانوا على دراية بالأمر! تحدث بغضب قائلاً:
_ طب ليه ماقولتيش يا "شهيرة" و انتوا كنتوا عارفين صح اتكلم يا بابا؟!
حاول "أحمد" تهدئة "حسام" لكي لا يتعرض للأذى، فهو بحاجة إلى رعاية واهتمام، حيث أن الوقت والمكان غير مناسبين للنقاش، واقترب منه محاولًا إنهاء الموقف قائلاً:
_ "حسام" مش وقت كلام في الموضوع ده؛ إنت لسه تعبان "زينب" خذي البنات وروحي ..
حاولت" زينب" التحدث، لكن "أحمد" أوقفها بإشارة من يده، مما أضفى صمتًا على الأجواء.
كان "حسام" ينظر إلى "شهيرة" بحزن مختلط بالغضب، حيث كانت نظراته تحمل لومًا وعتابًا.
لم تستطع "شهيرة" تحمل الموقف أكثر من ذلك، فركضت خارجًا ودموعها تتساقط على وجنتيها.
تنهد "أحمد" بحزن نتيجة كل ما يجري، ثم توجه بالكلام إلى "مريم" قائلاً:
_" مريم" روحي وراها ماتسيبيهاش لوحدها، "زينب" روحي معاهم؛ أنا هروح أدور على "يونس" ...
غادر الجميع تاركين "حسام" في صراع داخلي عنيف، حيث كان يتوعد لذاك المدعو "عمر" الذي حرمَه من الفتاة التي أحبها، والتي كان ينوي الاجتماع بها في إطار الحلال.
كانت لديه أحلام عديدة معها، ولكن تلك الأحلام انهارت في لحظة.
حاول تحريك قدمه، لكنه عجز عن ذلك، فأعاد رأسه إلى الوراء متنهداً بألم، حتى أن دخوله الطبيب أنشله من تفكيره :
_ حمدلله على سلامتك ماتزعلش فترة وهتعدي، أنا عارف إنه هيبقى صعب عليك إنك تمشي برجل واحدة ..
نزلت كلمات الطبيب كخنجر حاد في قلب "حسام"، حيث اتسعت عيناه من هول الصدمة كيف يمكن أن يُحرم من القدرة على المشي على قدميه؟ هل ما سمعه حقيقة أم إنه مجرد وهم ناتج عن التعب؟ أخذ نفسًا عميقًا وصرخ قائلاً:
_ دكتور إنت بتقول إيه ؟ إنت متأكد من إللي بتقوله؟ إزاي يعني مش هقدر أمشي على رجلي من ثاني ..؟!
أجاب الطبيب بطمأنينة قائلاً:
_ إطمن مع العلاج هتقدر تمشي عليها من تاني بإذن الله بس الموضوع محتاج وقت طويل ..
أنهى الطبيب حديثه، ثم قام بفحص "حسام"، و غادر بعد ذلك ليتركه غارقاً في دوامة أفكاره، يدعو أن يخرج من محنته سالماً، وكله يقيناً بأن الله قادر على كل شيء.
************
جلست تبكي في ركن الغرفة منذ أن حلت في هذا المنزل، فقد أُخذت ابنتها منها، واضطُرت لتنفيذ جميع أوامرهم لضمان حياة ابنتها، حتى طعامها تناولته رغماً عنها، وارتدت الملابس بالقوة!
تملّكها شعور بالضيق وانهمرت دموعها، فقد استنفدت قواها وصبرها على التحمل.
نهضت من مكانها ودخلت الحمام حيث توضأت، ثم أخذت قطعة قماش فردتها على الأرض وأدت صلاتها ودموعها تتساقط بغزارة. وبعد انتهائها من الصلاة، رفعت يديها إلى الله، متضرعةً له، فهو الوحيد القادر على الرؤية والسماع والقدرة على كل شيء. أطلقت همسة منخفضة قائلة:
«هونها عليا يارب ..لقد ضاقت بي الدنيا، ولا ملجأ إلا إليك، فزدني صبرًا ! ربي لقد أصابني من التعب ما يكفيني، و ما رأيت ثقلًا على قلبي مثل ثقل هذه الأيام اللهُمَّ هَون .. ثُم هَون .. ثُم هَون .. ثُم أَرِح نَفْساً لا يَعلمُ بِحَالِهَا إلَّا أَنتَ، وهون علينا ما لا نستطيع تحمله يا الله.»
أنهت دعاءها وجففت دمعها، ثم عادت إلى مكانها. وفجأة، سمعت صوت صراخ مألوف؛ إنه صوت ابنتها!
نهضت من مكانها بهلع واندفعت نحو الباب، فتحته بسرعة وخرجت تبحث عن مصدر الصوت فجأة، لاحظت قطرات صغيرة من الدم على الأرض، فتبعته حتى وصلت إلى إحدى الغرف، وما إن دخلت، حتى تجمدت قدماها وفتحت فمها في صدمة.
*********
بمجرد وصولهم إلى المنزل، جلس كل فرد في صمت، منشغلًا بأفكاره القاسية، كان من بينهم القلق والحزن، حيث خاض كل منهم معركته بشكل فردي.
وضعت "شهيرة" رأسها بين يديها وشعرت بالاختناق؛ وكأن الهواء قد سُحب من حولها.
لم يكن عقلها يتوقف عن التفكير في الماضي، حيث استرجع ألم الذكريات المؤلمة التي كانت تُمزق قلبها إربًا، وتحطم سكونها.
شعرت بيد تربت على كتفها برفق، وعندما رفعت رأسها، وجدت "زينب" إلى جانبها، مررت يدها المرتعشة على وجهها، وتحدثت بحزن قائلة:
_ ليه ماقولتيش "لحسام" عن سبب هروبي من هنا ؟! "حسام" بقى يكرهني ..
أدركت "زينب" أنها ارتكبت خطأً؛ عندما أخفت عن ابنها سبب هروب "شهيرة"، ومع ذلك لم يكن لديها خيار سوى إخفاء ذلك عنه؛ لتجنب وقوعه في ورطة أكبر... تنهدت ثم قالت:
_ مكنش عندي حل تاني لو كنت قولت ليه؛ أكيد كان قتل "عمر" ودخل السجن أنا عارفه "حسام" متهور ..
توقف حديثهم فجأة إثر طرقات قوية على الباب، مما جعلهم ينتفضون!
أشارت لهم" زينب" بالتزام الصمت، ثم توجهت نحو الباب وفتحته ببطء؛ وما إن رأت الطارق حتى صرخت بصوت عالي قائلة:
_ "يونس".. يونس!
أصيبت بنوبة هلع عندما رأت جسد "يونس" الملطخ بالدماء، وحالته المزرية التي تعكس شدة التعب!
اندفعت نحوه واحتضنته بقوة، وهي تُبكي بحرقة، وقد أرتفع صوت شهقاتها، بينما ركضت الفتيات نحوها، استجابت "مريم" لصراخها، والتحقت بشقيقها ووالدتها، حيث احتضنوه جميعًا باكيين... تأوه "يونس" من الألم، و هتف مازحاً وقال:
_ أنا كويس إبعدي شوية كسرتي عظامي يا مريومه أنا كويس ..
ابتعدت" مريم" عنه وضربت ذراعه برفق، وهي تبدو عابسة.
ضحك على تصرفها الطفولي ثم تقدم إلى الداخل، بينما كانت والدته تمسك بيده، ألقى التحية على "شهيرة" ثم دخلوا.
جلس على أقرب مقعد بتعب، فنظرت "زينب" إلى "مريم" وقالت:
_ بسرعه هاتي علبة الاسعافات علشان أنظف الجرح، واطلعي جهزي له هدوم نظيفة و أكل ..
بمجرد أن أنهت "زينب" حديثها، أسرعت "مريم" وعادت بعد فترة قصيرة تحمل علبة الإسعافات الأولية، وضعتها أمام والدتها، ثم صعدت إلى غرفة شقيقها وتبعتْها شهيرة.
بدأت "زينب" في معالجة جروح ذراعيه، وفجأة انتفض من مكانه حين تذكر "تقى".. وأخذ يلتفت حوله في ارتباك، ثم قال بصدمة متسائلاً:
_ "تقى" فين يا ماما ؟!
من أنا
البارت 10
شعرت وكأن الأرض تدور من تحت قدميها، ولم يعد جسدها قادراً على حملها؛ عندما رأت أحد رجال "وليد" جاثياً على ركبتيه، يضع يده على عينيه والدماء تتساقط منه، وهو يصرخ من شدة الألم!
تحركت في الغرفة بشكل عشوائي بهلع، تبحث عن ابنتها بفزع، خائفة من أن يكون قد أصابها مكروه.
خرجت من الغرفة وهي تركض في ذعر، وجسدها يرتجف وهي تتبع قطرات الدماء، بينما يتسارع تنفسها نتيجة لنبضات قلبها القوية، كادت أن تفقد وعيها من شدة الخوف.
توقفت فجأة عندما سمعت شهقات خافتة تأتي من احدى الزوايا، اتجهت نحو مصدر الصوت بشغف، حتى عثرت على ابنتها، ملتفة حول نفسها في ركن ضيق، اندفعت نحوها بسرعة، واستقبلتها بذراعيها، محتضنة إياها بقوة.
كانت ابنتها تصدر أنينًا وتتوتر جسديًا، في حين كانت تتحدث بصوت ضعيف مفعم بالذعر، قائلة:
-ماما ده كان بيخوفني وأنا مسكت سكينه وضربته في عينه كان في دم في دم !
عندما لاحظت الحالة المزرية التي عليها ابنتها، انتابها القلق خشية أن يحدث لها شيء، فاحتضنت وجهها بين يديها بلطف، وصاحت بصوت ملآن بالحنان قائلة:
-اهدي ماحصلش حاجة يا قلبي يلا بينا نخرج من هنا، خلينا نروح عند "حنين"، هنشوف "حنين" مش عايزاكِ تخافي ..
تحدثت "ايلول" وصدرها يرتفع بشدة نوبات بكائها وكان صوتها مختنقًا بالدموع قائلة:
-بجد يا ماما هنروح عند "حنين" مش هنتعذب ثاني عند عمو الشرير؟ ..
إنتهت "إيلول" من كلماتها، وقبل أن تتمكن "منة" من الرد، سمعت صوت خطوات قادمة، سحبت ابنتها إلى ركنٍ ضيق وعانقتها بشدة، مُكتمةً أنفاسها كي لا يلاحظون وجودهما.
مرت ثوانٍ قليلة حتى اختفى صوت الخطوات، ثم أخرجت "منة" ابنتها من مخبئهما، أمسكت بيد ابنتها بقوة واندفعت نحو الدرجة السفلى بسرعة.
وفجأةً، سمعت أصواتًا في الخارج، فتوقفت لتفكر في ما يجب عليها فعله، لكن شعرت فجأةً بيدٍ تُلقى على كتفها.
**********
قفز منتفضاً من مكانه حين لم يجدها بينهم، وشعر بقلق وخوف واضحين على معالم وجهه، نظرت إليه والدته باستغراب من حالته؛ فلم تكن قد لاحظت وجود "تقى" عند وصوله!
انطلق مسرعاً يبحث عنها خارجاً، والقلق يعتري ملامحه، وقد تنفس الصعداء عندما رآها جالسة أمام الباب، تراقب المكان في صمت، جلس القرفصاء أمامها، ثم سألها بقلق قائلاُ:
-خضيتني عليكِ يا "تقى" قاعدة هنا ليه تعالي ندخل ..
وضعت رأسها بين كفيها، ولم تظهر أي ردة فعل، بينما كانت شهقاتها تتصاعد؛ احتار "يونس" ولم يعرف ماذا يفعل، فحاول تهدئتها قائلاً:
-"تقى" مالك؟ هو في حاجه زعلتك، حد قالك حاجة اهدي طيب، تعالي ندخل عند ماما و اختي ونتكلم بعدين ..
جففت دموعها بطرف يدها، ورفعت رأسها بينما كانت تفكر، وهي لا تدري أين هي أو من تكون؟!
لا تتذكر هويتها، شعرت بألم يكاد يحطمها، ذاكرتها فارغة، فلا تحمل أي شيء من ماضيها سوى ذكريات قصيرة مع "يونس"، واسمها الذي اختاره لها!
كانت "تقى" غارقه في دوامة أفكارها، وكأن عاصفة تعصف بها من الداخل، اقتربت منها "زينب" وجلسة بجوارها، ثم أمسكت بيدها؛ انتفض جسد تقى بفزع عند شعورها بلمسة يد على يدها!
لكن عندما نظرت إلى "زينب"، هدأت روعها وظهر على وجهها ملامح القلق والحيرة، وهي تحاول تذكر أي شيء ينقذها من تلك الدوامة، حينها تفوهت "زينب" قائلة:
-أنا عارفه يا بنتي أنك خايفه، أنا مش عارفه إنتي مين بس مفيش مشكله، تعالي معايا أعرفك على البنات ونتعرف عليكِ ..
نظرت" تقى" إليها بتردد، ثم اتجهت بنظراتها إلى "يونس" وكأنها تستفسر عما إذا كان يوافق على حديث "زينب"، أم ينبغي عليها الابتعاد عن هذا العالم المتوحش؟.
أومأ "يونس" برأسه كأنه يشجعها على الدخول مع والدته، ثم نهض من مكانه وقال:
-تعالي يا "تقى" علشان أعرفك على عيلتي، دي ماما "زينب" وجوا في "مريم" اختي و"شهيرة" بنت عمي و "حسام" أخويا ..
توقف عن الحديث، وبدت على وجهه ملامح الألم والفزع حين تذكر شقيقه وما حدث له!
جالت في ذهنه آلاف التساؤلات حول مكان شقيقه وحالته، ابتلع ريقه بصعوبة ثم نطق بصوت مفعم بالحزن قائلاً:
-ماما "حسام" فين عرفتوا حاجة عنه هو أكيد كويس حد راح شافه في الكوخ؟
أمسكت "زينب" بيد "تقى" و نهضت، ثم اقتربت من ابنها وربتت على كتفه، وقالت:
-اطمن يا حبيبي "حسام" كويس هو في المستشفى ..
أطلق تنهيدة عميقة حين علم أن شقيقه بخير، فقد كاد يموت من القلق عليه؛ فهو ليس شقيقه فحسب بل صديقه المقرب، ورغم أنه الأصغر بينهما، يعتبره بمثابة والده!
كان دائمًا داعمًا وسندًا له في كل تقلبات الحياة، سواء في أحزانه أو أفراحه، وظهرت على وجهه ابتسامة حين تذكر كل اللحظات الجميلة التي قضياها معًا، و تحدث قائلاً:
-الحمدلله إن "حسام" بخير كنت هموت من القلق عليه خلونا نروح عنده ..
-حبيبي أخوك بقى كويس بعد ما ترتاح نبقى نروح المستشفى، أنا هكلم أبوك أطمئنه عليك لأنه راح يدور عليك ..
أنهت حديثها ثم دخلوا إلى الداخل، حيث كانت "زينب" تمسك بيد "تقى"، بينما كان "يونس" يمشي أمامهم.
وقد وجدوا "مريم" و"شهيرة" قد انتهيا من إعداد ما طلبته منهما "زينب".
نظر الاثنان إلى "تقى" باستفسار، إذ لم يسبق لهما رؤيتها من قبل!
أما "تقى"، فكانت تشعر بالتوتر والخجل، وكأنها في عالم جديد مخيف بالنسبة لها، لا تعرف فيه أحدًا سوى "يونس"، الذي جعلها، خلال الأيام القليلة التي قضتها معه، تعتاد على وجوده.
جلس الجميع في صمت، كلٌ في مكانه، حتى كسر "يونس" هذا السكون وهو يشير بيده نحو "مريم" قائلاً:
_ دي عسولة البيت "مريم" أختي هي سعادة البيت و فرحته ..
ثم أضاف مازحاً وهو يتطلع إليها:
-و نكدية البيت كمان لما تزعل تقلب الدنيا وعصبيه ..
ربعت ساعديها معًا و زمت شفتيها، بينما كانت تنظر إليه بعينين ملئتا بالغضب، ثم نطقت قائلة:
-على فكرة دا ظلم مين دي إللي نكدية اعترف إني عسل و سكرة البيت ..
انفجر ضاحكًا على تصرف شقيقته، ثم توقَّف بعد نوبة الضحك وأكمل تعريف عائلته عليها، ثم روى لهم كيف تعرَّف على "تقى" وكل ما حدث لهما.
لم يرغب في إخبار والدته عن التعذيب الذي تعرَّض له كي لا يحزن قلبها، وعندما انتهى من حديثه قال:
-مريومه كلمي بابا خليه يجي، أنا هدخل ارتاح تعبان أوي خذي "تقى" معاكي خليها ترتاح هي كمان ولما اصحى نبقى نتكلم..
أومأت "مريم" برأسها موافقة على ما قاله شقيقها، ثم أخذت "تقى" برفقة "شهيرة"، ولكن" تقى" لم تكن مرتاحة؛ إذ كانت تلتفت كل لحظة خلفها نحو "يونس" حتى اختفى عن أنظارها.
ودخلت معهما إلى إحدى الغرف، حيث جلست على حافة السرير وهي تشعر بالخوف، وعندما لاحظت مريم خوفها، اقتربت منها وبدأت بالتحدث:
-بصي يا سكره اعتبري نفسك في بيتك، تعالي معايا علشان تغيري هدومك وترتاحي وأنا هنزل أجيبلك أكل ماشي ..
اومأت برأسها ببطء، مما جعل ردها واضحًا بالنسبة لها، بينما كان جسدها يرتعش من الخوف!
رغم ذلك، حاولت أن تبدو ثابتة، متجنبةً إظهار الاضطراب الذي يثقل كاهلها، عندما لاحظت "مريم" صمتها، أدركت أنها تشعر بالخوف، فجلست بجانبها وربتت على يدها قائلة:
-ماتخافيش ماحدش هيعملك حاجة أنا نازله هكلم بابا و "شوكي" هتفضل معاكي لحد ما ارجع وننزل عند" يونس" ..
أنهت حديثها، ثم وقفت واتجهت نحو الباب، وقبل أن تخرج، استدارت نحو "شهيرة" وقالت:
-شوكي خلي بالك منها أنا شوية وراجعه، علشان ننزل مع بعض وإنتي يا سكرة ماتخافيش ..
أنهت كلماتها وغادرت الغرفة، في حين قامت "شهيرة" بإخراج بعض الملابس من الخزانة ثم جهزت الحمام، وطلبت من "تقى" أن تدخل إلى الحمام وتخبرها بما تحتاجه.
************
بعد أن انتهى "يونس" من تغيير ملابسه وتضميد جروحه، خرج من غرفته، ليجد والدته جالسة برفقة "مريم" على مائدة الطعام.
تساءل في نفسه عن مكان "تقى"، إذ كانت شقيقته هنا! اقترب منهم وجلس على أقرب كرسي، ثم بادَرهم بتساؤل قائلاً:
_" مريم" فين "تقى" أنا قلتلك خليكي معاها لحد ماتخلص و ترتاح شوية؟! ..
أجابته "مريم" قائلة:
-سبت "شهيرة" معاها ونزلت علشان أكلم بابا وأبلغه إنك رجعت، أنا هطلع عندها علشان تنزل تأكل معانا، وبعدها تقدر ترتاح ..
بمجرد أن أنهت حديثها، نهضت من مقعدها واتجهت نحو غرفتها حيث تتواجد "تقى".
في تلك الأثناء، كانت "زينب" تراقب تعابير ابنها بصمت وحيرة، وفي ذهنها يدور سؤال أرقها، فمنذ وصوله، لاحظت انشغاله وقلقه بشأن هذه الفتاة المجهولة، التي لا يعرفون عنها شيئًا سوى الاسم الذي أطلقه عليها" يونس"!.
أخيرًا، خرجت من صمتها وسألته قائلة:
-"يونس" إنتَ تعرف البنت دي قبل كدا؟
نظر إليها بتعجب واضح، إذ أخبرها عن لقائهما الأول وأنه لم يكن يعرفها مسبقًا! ولكن ما أثار فضوله هو سبب السؤال، فأجابها قائلاً:
-لا يا ماما .. هعرفها منين؛ أنا حكيت لكم عن أول مرة عرفتها فيه! ليه السؤال ده؟!
-لأن خوفك عليها و اهتمامك بيها وقلقك لما مش لقيتها معانا وخوفك الواضح ده، مش غريب شوية؟ ولا إيه!..
أخذ نفسًا عميقًا ثم رد عليها قائلًا:
-ماما أنا لما كنت مخطوف، كانت بتدافع عني بكل الطرق؛ مع إنها كانت خايفه، ساعتها حسيت إنها مسؤوله مني، وإني لازم أحميها لغاية ما ألاقي أهلها وأوصالها ليهم بأمان.
توقف عندما سمع ضجيجًا في الغرفة وصراخ الفتيات! شعر بالقلق ووقف بسرعة وقبل أن يتجه نحو الغرفة، خرجت شقيقته مسرعة، وعلامات الذعر واضحة على وجهها، قالت بصوت مرتجف:
-يونس إلحق "تقى"؟! ..
**********
كان الهدوء يحيط بالغرفة، حيث لا يُسمع سوى صفير الرياح، ولكن في داخله، كانت أفكاره تعج بالضجيج والصراعات المستمرة.
كانت عيناه مفتوحتان تحدقان في سقف الغرفة، تتأملان الفراغ.
جسده كان منهكًا، وروحه مثقلة، وضيق في صدره يكاد يخنقه، أصبح التنفس بالنسبة له شاقًا، وكانت الأسئلة تتكرر في ذهنه كل ثانية:
« هل يجب عليه أن يسامح "شهيرة" ويعيد الأمور إلى ما كانت عليه!، أم أن الأمر قد انتهى ولم يعد هناك ما يهم بعد أن فقد قدمه ولم يعد قادرًا على السير؟!»
أطلق تنهدة من الضيق، وكان قلبه يخفق بسرعة، كأنه يخوض سباقاً لا يرغب في التوقف، حاول إغماض جفنيه للهروب من هذا الضجيج، لكن قلبه رفض الاستسلام للصمت.
فشلت جميع محاولاته، برغم أن لسانه يردد كلمات الفراق؛ إلا أن قلبه يصرخ منادياً بالبقاء.
قطع صراعه صوت طرقات على الباب، ثم دخل الطبيب المشرف على حالته وتحدث قائلاً:
-عامل إيه دلوقتي يا "حسام" حاسس بألم أو تعب؟
أخذ نفسًا عميقًا كما لو كان يستعيد أنفاسه المسلوبة، ثم رد قائلاً:
-الحمدلله يا دكتور الألم خف شوية، لكن رجلي مش قادر أحركها من مكانها !
_دا طبيعي يا "حسام " الجرح لسه جديد، والعلاج لسه في أوله؛ يعني هياخد وقت أصبر ..
تأمل "حسام" في صمته، كأنه كان يتمنى أن يفصح عن مشاعر ألمه، فكان ألم قلبه يمزقه بشدة، وكاد أن يأخذه إلى العزلة.
تذكر أنه لم يؤدي الصلاة في أي وقت، كانت أوقات الصلاة وقراءته اليومية للقرآن سبباً في شعوره بالراحة والطمأنينة، تنهد بعمق وقال:
-دكتور أنا عايز أصلي وعايز مصحف أو تليفون اقرأ منه؛ علشان أطمن وقلبي يهدى شوية
أومأ الطبيب برأسه ثم غادر، ولم تمضِ سوى لحظات قليلة حتى عاد ومعه هاتف، وحجر حتى يتيمم حسام، لأنّه لا يستطيع الوضوء أو الوقوف.
وضع الهاتف جانباً، ثم نظر إلى الطبيب بتعبير من الشكر و الامتنان، وقال:
-شكرا بجد يا دكتور، جزاك الله خيراً.
-الشكر لله، تقبل الله منك.. هسيبك أنا دلوقتي و أرجع لك بعدين.
أنهى الطبيب حديثه وغادر، بينما بدأ "يونس" صلاته وهو يجلس بنصف جلسة بسبب الألم الذي يعاني منه.
وبعد انتهاء صلاته، أمسك بهاتفه وبحث عن أقرب صورة لقلبه، وهي "سورة يوسف"، التي تزرع الطمأنينة في قلبه وتعينه على الصبر في مواجهة كل ما أصابه.
بينما كان يقرأ شعر، بسكينه و راحة داخلية وهدوء عميق.
القرآن راحة للقلب وحياة للنفس حين تداهمك جيوش الهم واليأس ردد الآيات بقلبك، قف عند الآية وتذوقها بقلبك، يا للذة القرآن!!♡
اللهم اجعـل القــرآن العظــيم ربــيع قـلوبــنا
وجـلاء هـمـومنا وغمومنا ونـور أبصارنــا
وهـــدايـتــنــا فــي الــدنــــيـــا والآخــــرة
اللـهم ذكرنـا مـنـه ما نَسيـنا وعلمنا منه ما جهـلنا
اللهم ارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا
يتبع


تعليقات
إرسال تعليق