القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية الماسه المكسوره الجزء الثاني العودة (عناق الدم) الفصل السابع بقلم الكاتبه ليله عادل حصريه وجديده


رواية الماسه المكسوره الجزء الثاني العودة (عناق الدم) الفصل السابع بقلم الكاتبه ليله عادل حصريه وجديده 


{" أي وجعٍ أشد من وجع اللقاء بعد الفقد؟ أيفرح القلب حين يلمح ملامح عاشقه القديم، أم يرتجف كطفلٍ ضاع عن أمّه ثم وُجد في حضنٍ لا يُشبه حلمه؟ إنها لحظة يتكسر فيها الزمن: يدٌ تمتد لتُعيدني، وعينان تغمرني بالشوق، لكن بيني وبينه جدارٌ من خوفٍ لا ينهدم، كيف أعود إلى من كان حضني وملجئي، وأنا أحمل في داخلي يقينًا أنه قد يكون سجني؟ أيعقل أن يكون الحنين قاتلي…أم يكون الخلاص؟ ويبقى السؤال يطاردني: أأنا عائدة إلى حبٍّ ضاع، أم إلى وجع يتنكر في هيئة حب؟"}

                ليلةعادل✍️🌹 


                 الفصل السابع♥️🤫


         [بعنوان: عودة على حافة الخوف]


منزل مصطفى، الثالثة مساءً 


نبيلة تجلس على الأريكة تحتسي الشاي وتتابع التلفاز بإهتمام، بينما جلست عائشة على السفرة تذاكر، وإيهاب في غرفته، دقائق معدودة، وأرتفع صوت طرقات هادئة على الباب.


نهضت نبيلة، فتحت الباب فإذا بسليم يقف أمامها، بابتسامة واسعة مرسومة على وجهه، ومكي خلفه كظل ثقيل في تلك الهيئة التي رأيناها في الحلقة السابقة.


سليم بتهذب: مساء الخير يا هانم.


تجمدت نبيلة لحظة، نظراتها مترددة، تضيق عينيها كأنها تحاول التذكر، لم تراه من قبل، لا صورة ولا لقاء، لكن وسامته، حضوره المميز، جعلوها تدرك من يكون.


تمتمت بإستغراب شديد: سليم؟


تبسم ابتسامه صغيره ومال برأسه قليلا بهدوء: ما شاء الله عليكي يا هانم، شكلك ذكية، أو يمكن شوفتيني في صورة قبل كده.


نبيلة بهدوء، وردت بوضوح: لا أنا معرفكش أول مرة أشوفك، بس هيبه حضورك معرفه نفسها.


ابتسم سليم: تبقى ست ذكية فعلًا، تسمحي لي ادخل؟!


نظرت له لحظه بتردد، وابتلعت تلك الغصه، فهي مفاجأه بالنسبه لها ثم هزت رأسها بإيجاب وهي تشير بيديها: اتفضل يا ابني.


تقدم سليم بخطوات وخلفه مكي وهو يقول: أخبارك إيه؟


انتفضت عائشة من على السفرة، بصدمة بعد أن وقعت عينيها عليه: سليم!


أدار نظره إليها، ضيق عينيه قليلًا: أنا عارفك، بس مش فاكر اسمك، أنتِ أخت مصطفى مظبوط؟


أجابته بحدة ممزوجة بخوف مبطن: إيه اللي عرفك المكان ده؟ أنت جاي لمصطفى؟ مش موجود.


أجابها بهدوء: أنا عارف إنه مش هنا، هو في المركز دلوقتي.


تدخلت نبيلة بصوت ثابت لكنه مثقل باللوم: اللي أنت بتعمله ده هو اللي ضيعها منك.


ألتفت برأسه إليها بدهشة: تقصدي إيه؟


رفعت رأسها نحوه، كلماتها خرجت كطعنة: طريقتك دي هي السبب إنها مرضيتش ترجعلك، أنت خنقتها، مش عارف تحتويها، يسوى إيه الحب ولا الفلوس؟! لو  الراجل معرفش يحسس مراته بالأمان؟


ضحك سليم ضحكة قصيرة مبحوحة، تقترب من المرارة: شكلك عرفتي القصة؟! طب اسمعيها مني أنا كمان، علشان متظلمنيش.


نظرات نبيلة كانت أشد من أي حديث قالت بصوت ثابت، كأنها تعاتبه بقساوة: أنا مش ظلماك يا سليم، أنا سمعت منها كل حاجة، وفهمت كل حاجة، حتى من غير متتكلم، وجعها وخوفها وخذلانها وصل لي، أنت ماحتوتهاش، أنت خوفتها، آها، حبتها بس معرفتش تحتويها.


تجمدت ابتسامته للحظة، ارتعشت أنفاسه، كأن كلماتها أصابت الجرح نفسه.


أقترب أكثر، انحنى قليلًا حتى صار في مستوى نظرها، صوته صار أقرب للإعتراف لكن بنبرة مهتزة: صدقيني يا هانم،  السبب إللي خلى ماسة تمشي مش إني معرفتش أحتويها، العكس، أنا احتويتها بزيادة، بس بطريقتي الغلط، كنت فاكر إني كده بحميها، بحافظ عليها، بحافظ على برائتها.


زم شفتيه بحزن وتابع بندم بدمعة متحجرة: بس اللي حصل إن محدش أذاها أكتر مني أنا.


اعتدل واقفًا، أعطاها ظهره لحظة، كأنه يهرب من ثقل كلماته.


عاد يلتفت مبتسمًا ابتسامة حزينة بوعد: بس صدقيني يا هانم، المرة دي مختلفة، المرة دي أنا هعرف أحتويها صح، وهحبها صح، مش هضيع الفرصة دي من إيدي تاني مهما حصل.


نظرت له نبيلة لحظة، وفي عينيها لمعة ترددت بين الشك واليقين، للحظة شعرت أنه صادق في حديثه، ليس إلا رجلًا عاشقًا مجروحًا بسبب بعد زوجته عنه.


انفتح باب الغرفة فجأة، ظهر إيهاب متوترًا وهو يقول بدهشة: إيه ده يا ماما؟! مين ده؟


لكن سرعان ما عرفه، تسمرت نظراته عليه.


ابتسم سليم بخفة وهو ينظر له، كأنه يعرفه منذ زمن: باشمهندس إيهاب، أنا ببلغك تحياتي، حقيقي أنت مهندس شاطر، الشفرات والأكواد، اللي كنت بتستخدمها في المكالمات الهاكرز، اللي عندي معرفوش يوصلوا لها ولا يفكوها، فيه واحدة منهم لما فكناها طلع تمويه كان إرساله من أوروبا.

ضحك بتشجيع حقيقي: أنت بجد شاطر بس كانت فيه مكالمة واحدة، لو كانت اتعملت، كنت وصلت من فترة، بس للأسف شهر ونص مفيش ولا مكالمة واحدة! أنا مستعد أشغلك عندي لإنك كفائة.


إيهاب بإرتباك فهو يحاول أن يصطنع عدم الفهم وكأنه جاء فقط من أجل مصطفى: أنا مش فاهم حضرتك بتتكلم عن إيه؟! مصطفى مش هنا.


هز سليم راسه بهدوء: أنا عارف إنه مش هنا، والدتك لسة متكلمة معايا في الموضوع، فمتحاولش تعمل إنك مش فاهم، بص ياباشمهندس أنا مش عايز حاجة، هستناها وأخدها وأمشي بهدوء.


لمح إيهاب بطرف عينيه السكينة الموضوعة على الطاولة الصغيرة، يبدو أنه يريد أن يأخذها، لكن سليم انتبه له سريعًا، رفع يده محذرًا: أوعى، خليك عاقل يا باشمهندس، الموضوع هيخلص بهدوء، أنت شايف مني أي حاجة؟ رجالتي واقفين تحت في الشارع، وطلعت لوحدي، مكي مفيش اي خوف منه، أنا مش جاي غير عشان اخد مراتي وبس.


إيهاب بحدة: وتفتكر الموضوع سهل كده؟


سليم بنبرة قاطعة: وليه ميبقاش سهل؟! اعتقد لما نقعد هاديين أفضل 


صمت الجميع للحظة ينظرون اليه فهو بالطبع محق لابد أن يكونوا هادئون


ثم تابع بثقة ورجاء:ماسة كلها دقائق وتوصل، هي خرجت من المركز خلاص، يا ريت تقعدوا مكانكم بهدوء، بعد إذنك يا آنسة، اقعدي، وأنت يا باشمهندس، وحضرتك يا هانم أفضلوا مكانكم.


أشار لمكي: لما توصل عرفني فورًا.


هز مكي رأسه ايجابا، ثقل رهيب خيم على الجو، الصمت صار سيد اللحظة، عيون الحاضرين تحيط بسليم، لكن لا أحد يجرؤ على الحركة.


مرت دقائق بطيئة، قبل أن يقترب مكي من سليم ويهمس في أذنه بشيء، انتفض سليم عندها وأتجه بلهفه نحو النافذة، أزاح الستارة قليلًا، نظر من خلف الزجاج.


كانت ماسة تسير بجوار مصطفى، يضحكان ويتحدثان بخفة، ثم تعثرت قدماها فجأة، فأمسكت يده لتتوازن.


كما شاهدنا في الفصل السابق فهذا الموقف من منظور سليم.


اللحظة كانت كفيلة بإشعال النار في قلب سليم، الشوق الذي ظل يغلي داخله ستة أشهر أختلط بغيرة جارفة وغصة قاتلة، شد فكه بقوة، عيناه تحولت لوحش كاسر غامت بسواد خطر، ومع ذلك، حافظ على هدوئه الظاهري، ألتفت نحو الجميع وقال بهدوء: مفيش كلام الكل مكانه.


بعد دقائق أرتفع صوت طرق الباب فجأة، ساد توتر رهيب. 


تقدم سليم خطوة وراء خطوة، أنفاسه تتسارع، وقلبه يسبق خطواته من الشوق الذي زلزل كيانه، ستة أشهر لم يرها، ستة أشهر لم يعرف من وجهها إلا طيفًا يزوره في المنام، وصوتها الذي ظل يتردد في أذنه كأنها لم تفارقه لحظة، عاش على الأحلام، على الخيالات، هي وحدها التي جعلته صابرًا متماسكًا أمام العالم، بينما داخله كان ينهار يومًا بعد يوم.


أقترب من الباب، كل ذرة فيه تصرخ بالحنين، عينيه تكاد تدمع، كفه يرتجف وهو يمده نحو المقبض، أخذ نفسًا عميقًا شد على نفسه ثم فتح الباب..


ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، إبتسامة عاشق مشتاق، صوت خرج عميق، ناعم، مألوف كطعنة في قلب: Aşkım


تجمدت الضحكة على شفتيها، كأن الهواء أنقطع، فقط جملة واحدة تضرب في عقلها "هذا ليس هو" رأسها تحركت ببطء، ثقيل، تهتز كأنها لا تملك السيطرة عليها عيناها تتسعان شيئًا فشيئًا، جسدها كله يرتجف، والصدمة تسري في عروقها مثل كهرباء صاعقة ثم وجدت نفسها وجهًا لوجه  أمامه، سليم حقيقة لا خيال بملامحه التي حفظتها عن ظهر قلب واقف أمامها ببذلته الفاخرة، شعره المرتب بعناية، وسامته التي لم تتغير بل زادت، وابتسامة هادئة تتسع كأن الزمن لم يمر.


صوته انساب دافئًا على غير المتوقع، هادئًا على نحو زاد ارتجافها: وحشتيني يا عشقي الأبدي.


عيناها لم ترمش ظلت معلقة في ملامحه، تحارب أن تصدق ما ترى، ارتعاشتها ازدادت، والعرق البارد سال على عنقها، ولونها انسحب شيئًا فشيئًا، حتى كادت تصبح صفحة بيضاء كل ذلك حدث في ثواني ربما أقل.


في تلك اللحظة نسي سليم العالم من حوله، كأن الوجود قد انحصر فيهما وحدهما، لا أحد سواهما الشوق والرغبة سيطرا على قلبه وعقله، فلم يعد يملك سوى أن يمد يده فجأة، ويسحبها إليه بعنف، كأن صبره إنهار في لحظة واحدة، وخفق قلبه بعنف، وأرتفعت حرارة جسده، شعور يملؤه كليًا بالشوق والاحتياج  ألصقها إلى صدره، إلى قلبه المتيم الذي تفتت من بعدها، شد ذراعيه عليها كأنه يريد أن يزرعها داخله، أن يملئ بها كل خلية، كل نفس أراد أن يطمئن قلبه الممزق أنها عادت إليه، أنها هنا الآن.


ارتجف صوته وهو يهمس بصوت مختنق بالدموع: وحشتيني، وحشتيني أوي، وحشتيني بجنون يا ماسة، ست شهور! ولا يوم فيهم فات من غير مستناكي، ست شهور عدوا عليا كأنهم ست ألاف سنة، بموت في كل ثانية فيهم ألف مرة.


لم يستطع منع دموعه، ففضحته من شدة الشوق، من الفرح المرير بلقائها بعد أن ظنها حلمًا لن يعود.


أبعدها قليلا، ضم وجهها بكلا كفيه، ووجهه قريب من وجهها، حتى اختلطت أنفاسهما، وكأنه يتأكد أنها بين يديه حقًا، غاص بعينيه في ملامحها، يتنقل ببصره بين عينيها اللامعتين، شفتيها المرتجفتين، وجنتيها التي طالما تخيل دفئها، كان ينظر إليها بنهم العطشان، كأنه يشرب ملامحها بعد حرمان طويل، كل جزء فيها كان يناديه، كل تفصيلة فيها كانت حياة افتقدها، وهو الآن لا يصدق أن الحياة عادت له في صورة وجهها بين يديه.


خرجت كلماته عاشقة، مذهولة، تتنفس الحنين: أنا مش مصدق إني شايفك قدامي، وحشتيني يا عشق سليم، ونفسه وحياته، وكل ما فيه، ست شهور! ست شهور كنت بموت فيهم، دلوقتي بس حسيت إن حياتي رجعتلي، أخيرًا قدرت أتنفس وأنا شايفك قدام عيني، وبين إيديا، مش عايز من الدنيا حاجة غيرك.


سحبها مرة أخرى إلى حضنه، وكأن الجوع إليها لا يشبع أبدًا، احتواها بذراعيه كمن يسترد حياته، وأغرق جبينها بقبلاته المتلاحقة، يروي عطش سنوات القحط، كأرض جافة أخيرًا لامسها المطر بعد طول انتظار.


بينما هي كانت يدها متدلية بجانبها، عيناها متسعتان، الصدمة مرسومة على ملامحها، لم يخرج منها صوت، كأنها تحولت إلى جماد يستسلم لكل ما يحدث، فوقع الصدمة مازال أثقل من أن تستوعبه.


بينما هو يعتصرها بين ذراعيه، بدأت عيناها تتحركان بإرتباك، تتسعان شيئًا فشيئًا مع كل نفس يقترب من وعيها، استوعبت أنها بين أحضانه، بين يدي الرجل الذي حطمها، تسللت رائحته إلى صدرها، ارتجف قلبها بلا إرادة، ثم فجأة، كأن قوة خفية اندفعت في جسدها، دفعت صدره بقوة.


تراجع سليم خطوة إلى الخلف، الذهول مرتسم على ملامحه، بينما هي ارتدت للوراء تحدق فيه بعينين متسعتين، يخرج صوتها لاهثًا متهدجًا من بين شفتيها المرتجفتين: سليم.


وهنا ابتسم ابتسامة واسعة، كأن العالم كله توقف لحظة سماع اسمه منها، شعر وكأن تلك الكلمة أعذب لحن طرق سمعه، بعد شهور طويلة من الصمت والجفاء، ارتجف قلبه، وخفقاته تشبه موجات البوسفور المتلاطمة، كعصفور كناري يتراقص في ربيع هادئ، كانت ابتسامته مزيجًا من فرح غامر ووجع دفين، عيناه تغرقان في وجهها، كأنه يعيش أجمل حلم طال انتظاره.


همس بصوت مرتجف بإبتسامة عشق تخرج من عينه قبل قلبه: أيوه سليم حبيبك، سليم، اللي قلبه مات ونفسه راح بسبب بعدك عنه، سليم اللي كان هيتجنن عليكي، اللي روحه اتحرقت في بعادك.


حاول أن يقترب منها، لكن يديها ارتفعت فجأة أمامها كحاجز، كأنها تعلن بصمت قاطع: متقربش.


كانت عيناها تفيض دموعًا، الصدمة لا تزال متحكمة في كل تفاصيلها.


توقف في مكانه، صوته يلين وهو يحاول تهدئتها: أنا هقف هنا، مش هقرب، إهدي، أنا عارف إنك زعلانة، وعارف إنك موجوعة، في حاجات كتير إنتِ متعرفيهاش، حاجات أنا فيها مظلوم، خلينا نرجع مع بعض، ولما نوصل هنتكلم في كل حاجة، أنا جاي لوحدي يا ماسة، أرجوكي صدقيني، أنا فاهم خوفك وصدمتك، بس أنا فعلاً قدامك، أنا مش وهم، ووعد مني مش هأذيكي.


مد يديه نحوها برجاء، صوته ينكسر بحنين: خلينا نرجع بيتنا يا حبيبتي ونتفاهم هناك، انا بقولك يا حبيبتي زي مابتحبي، أوعدك المرة دي كل حاجة هتكون مختلفة.


بدأت ماسة تتحرك أخيرًا، خطواتها بطيئة مثقلة بالصدمة، توقفت أمامه، عيناها الزرقاوان تفتشان ملامحه كأنهما تبحثان عن إجابة ضائعة خرج صوتها خافتًا ممزقًا: عرفت مكاني منين؟


نظر سليم لها بهدوء: بعدين نتكلم وهقولك كل حاجة.


شعرت ماسة وكأن حجرًا ثقيلًا سقط على صدرها، أنفاسها  مكتومه من هول الصدمة، فجأة، شدت الطرحة من على رأسها محاولة استعادة توازنها، فانقطعت وسقط النقاب أرضًا مزقت الأسدال وبسبب انه من كابسيل كان سهل فوقع أرضا، فظهر البنطال والتيشيرت الذي كانت ترتديه أسفله، وانسدل شعرها الطويل على ظهرها كالشلال، لينتشر عطرها الدافئ في المكان.


أول من استنشقه كان سليم ذلك العاشق المشتاق منذ أشهر طويلة، قلبه اهتز، وعينيه أغمضتا للحظة، كأنه أراد أن يحتفظ بالرائحة في صدره، أن يعيشها كما عاش خيالاتها في الليالي الموحشة، شعرها الذي لطالما حلم بلمسه بدى أمامه الآن حقيقيًا يلهب كيانه.


لكن وعيه عاد سريعًا على وقع نظراتها الحادة الممزوجة بالضعف، وهي تحدق فيه بعينين دامعتين، سؤالها ينفجر من بين شفتيها المرتجفتين: رد عليا، عرفت مكاني منين؟


تنهد سليم ببطء، عيناه لا تفارقانها، وصوته منخفض لكنه ثابت: شاغلك أوي تعرفي؟! قولتلك، في بيتنا هنتكلم وهعرفك كل حاجة؟! ليه مستعجله، خلينا نرجع بيتنا اللى بقاله شهور مظلم من غيرك ومستنى رجوعك ينوره ويرد الروح فيا وفيه.


تبادلوا النظرات لثواني بصمت، وهي تحاول أن تستوعب يده الممدودة أمامها، تلك العينان العاشقتان، النظرة التي تعرفها جيدًا؛ نظرة رجاء، واعتذار، وحب، وشوق، التفتت بعينيها نحو مصطفى وعائلته، الذين توقفوا يحدقون فيهما كأنهم يشاهدون مشهدًا من مسلسل رومانسي لرجل تركته زوجته أشهرًا، وها هي الآن بين يديه.


لكن فجأة اقتحمت رأسها فكرة واحدة كالصاعقة: سليم! إن عرف أن مصطفى وعائلته كانوا يعلمون أنها ماسة، سيؤذيهم، خصوصًا أن سليم يعرف مصطفى.


لا بد أن تجمع قوتها وذكائها، لا مجال للاستسلام للصدمة أو الخوف أو الدموع، عليها أن تحمي من حولها، أن توقف أي خطر بأي شكل مهما كان الثمن.


فجأة ارتفعت أنفاسها بصوت مبحوح، تختنق العبرة في حنجرتها، ودموعها تلمع في عينيها وهي ترفع يدها المرتجفة وتشير نحوهم.


خرج صوتها متقطعًا، كأنه يستجدي التصديق: هما، هما ميعرفوش أي حاجة، فاكرين إن اسمي حور، أنا، أنا كذبت عليهم وخدعتهم.


ترددت لحظة، وصوتها يتهدج وهي تحاول أن تتمالك نفسها نظرت له حاولت أن تقنعه بتلك الكذبه فكل ما تريده حمايه مصطفى وعائلته: هما فاكرين إني مرات ظابط، خفت أقولهم أنا مين فيخافوا يساعدوني، بالله عليك ملكش دعوة بيهم، خليك معايا، هما ميعرفوش حاجة.


سليم بهدوء: يعرفوا ميعرفوش، مش فارق.


شهقت بخوف، وارتجف جسدها كله وهي تبكي بصوت مخنوق: يعني إيه؟


اقترب منها بخطوات بطيئة، فارتدت هي خطوة للوراء وهي تضم ذراعيها لصدرها وكأنها تحمي نفسها.


فقال بنبرة حانيه ليطمئنها: يعني حتى لو قولتي إنك مراتي وعرفوا، هيفرق إيه؟ ليه خايفه كدة؟!


هزت رأسها بسرعة والدموع تنهمر على وجنتيها، تحاول إقناعه وصوتها يتقطع: المهم لازم تعرف إنهم ميعرفوش أي حاجة، فاكرني اسمي حور.


ابتسم سليم ابتسامة جانبية وهو يميل نحوها، كأن كلامها لا يعنيه: بس هما عارفين؟! أنا دردشت مع الهانم شوية، فهمت إنهم عارفين وحكيتلهم القصة، عموماً ده مش فارق معايا من الأساس.


ارتجفت شفتيها، ووضعت كفها على فمها تكتم شهقة، ثم همست بصوت متحشرج: يعني، يعني أنت مش هتأذيهم؟


ضيق سليم عينيه متعجباً: أأذيهم ليه؟!


اخفضت رأسها وخرج صوتها مرتجفًا، يفضح خوفها: علشان هما عارفينك وعارفين أنا مين ومراحوش يقولوا لك على مكاني.

ثم رفعت عينيها له بتساؤل: هتأذيهم؟


تبسم بهدوء: لا مش هأذيهم، (مد كفه نحوها) يلا خلينا نمشي.


رمشت بعينيها للحظة وهي تنظر إلى كفه، ثم رفعت عينيها إلى عينيه، اللتين يفيض منهما الشوق والرجاء أن تأتي معه، تعالت أنفاسها وهي ترتجف: لا.


تابعت وهي تهز رأسها بلا بضعف، والدموع تتدفق بغزارة، بنبرة مكتومة: لا مش همشي معاك.


رفع عينيه نحوها، صوته صار مليئًا بالرجولة والحزم: يعني إيه، مش هتمشي معايا؟


تراجعت خطوة للخلف بظهرها، تهز رأسها والدموع لم تتوقف: يعني مش همشي معاك.


حاول مصطفى التدخل، أخيرا وتحدث: سليم خلينا نتكلم.


سليم، بعينين حادتين ووقار مهيب: لو سمحت، محدش هنا هيتكلم غيري، أنا هاخد مراتي من غير كلام.


اتسعت عينا مصطفى، ووقف أمام سليم بحزم: مراتك مش عايزة ترجع معاك، أهي قدامك اسألها، لو قالتلك أنا عايزة أمشي" هتمشي"، لكن طول ما هي مش عايزة أنا مش همشيها معاك.


ضحك سليم بإستهزاء: ده بصفتك ايه بقى!


تحرك مصطفى وتوقف أمامه، جسده مشدود، وقال ببحة رجولية: شوف الصفة إللى تعجبك وسميها، دي واحدة ست استنجدت بيا، وأنا وقفت جنبها، يستحيل أخذلها وأخليها تمشي معاك وهي مش عايزة. 


نظر له سليم لوهلة وهو يرمقه بعينه، لكنه لم يهتم لكلمات مصطفى، وحول نظره لماسة وقال بحسم: يلا يا ماسة.


مد يديه وسحبها بلطف من كفها، لكنها سحبت يدها بشدة، وصاحت بحدة: مش همشي معاك غير لما توعدني إنك مش هتقرب منهم!


حاول سليم طمأنتها، وقال بنبرة هادئة وثابتة: أنا لو كنت عايز أقرب منهم، كنت قربت من ساعة ماجيت، يلا يا ماسة.


ماسة بعينين حادتين وصرامة، قالت برفض وهي تبتعد: قولتلك مش همشي غير لما توعدني، وتقول لي وعد يا ماسة أنا مش هقرب من مصطفى وعيلته!


سليم، بنبرة حازمة: قولتلك مش هقرب منهم، يلا.


عقدت حاجبيها بضيق، فهي تعرفه جيدًا، إذا لم يعد، فهو لن يفعل، جزت على أسنانها، لمحت السكينة الموضوعة على بعد أمتار، درات في خاطرها فكرة، فجأة، في لمح البصر، ركضت نحوها ومسكت السكينة ووضعتها عند رقبتها، الجميع صدموا وأجسامهم تلقائيا تحركت بخضة


بينما اتسعت عينا سليم بصدمة، وارتجف جسده بالكامل وهو يقول: ماسة.


حاول الاقتراب منها، لكنها مدت يدها بطولها بقوة، وقالت بصوت مرتعش: اقف عندك، لو قربت أقسم بالله هموت نفسي، خليك عندك! بقولك.


تجمد سليم في مكانه لكن قلبه كاد يقف من الرعب عليها، عين عليها وعين على تلك السكين الغارزة على عنقها.


بينما مصطفى، رفع يديه قليلًا كإشارة للتهدئة، جسده يميل للأمام قليلًا، عيناه تراقب كل حركة، صوته يرتجف: ماسة أهدي.


رفعت ماسة عينيها نحو مصطفى وهي تقول بنبرة حادة: متقربش أنت كمان.


مصطفى بثبات: بس اللي بتعمليه ده مينفعش.


ماسة بنبرة مشددة وعينيها على سليم، دموعها تهبط بلا توقف، وصوتها مهتز: قولتلك مستحيل أسمح  إن أي حاجة تمسكم ولو بموتي!


حاول إيهاب تهدئتها: طب نزلي السكينة، هو مش هيعمل حاجة أنتِ كدة هتأذي نفسك.


نبيلة بحنانٍ يائس وخوفٍ ودموعها محبوسه في عينيها: نزلي السكينة يا بنتي، الشيطان شاطر.


اقترب سليم بخطوة مترددة، وصوته خرج متهدجا وهو يحدق في النصل الغائر: ماسة، نزلي السكينة، أنا مش هعملهم حاجة صدقيني، مش هعمل حاجة والله.


صرخت ماسة بعنف، صوتها يتقطع بالرهبة: خليك عندك بقولك.


هز سليم رأسه بايجابا، ورفع يده بإستسلام، وتوقف مكانه، وقال بنبرة مهتزة برعب: طيب أنا واقف مكانى اهو قولي عايزة إيه!


ماسة بنظرة حادة قالت بحسم ونبرة متحشرجة: لو عاوزني أنزل السكينة أوعد! أوعد إنك مش هتقرب منهم! قول وعد! أوعدك إني مش هقرب من مصطفى ولا من أهله!"


كانت السكين قد غاصت قليلًا في عنقها، والدم بدأ يسيل في خطٍ رفيع، وعينا سليم كادتا تخرجان من مكانهما من فرط الذعر.


أرتبك سليم، صدره يعلو ويهبط كمن يلهث، رفع يديه مستسلما وصوته خرج متوترا مزعورا بنبرة رجولية: قولتلك مش هقرب منهم!


صرخت ماسة مجددا، وعيناها تقدحان جنونا: قولت أوعــــــد!!!


هز سليم رأسه بسرعة، العرق يتصبب من جبينه، وقال بصوت متحشرج وهو يومئ برأسه متوسلا: وعد! والله وعد، مش هقرب منهم ولا من مصطفى.


ماسة والسكين لا تزال تلامس رقبتها، دموعها تهبط بغزارة وصوتها يرتعش: قولي وعد يا ماسة مش هقرب من مصطفى ولا من أي حد من أهله، ولا هخلي رجالتي يقربوا منهم، ولا هعاقبهم ولا هلمسهم، كإنك متعرفهمش أصلًا!، وهتسيبهم في حالهم.


سن السكينة غرز أكثر في عنقها، قطرة دم سالت، لكنها لم تهتم، فماسة كل همها أن تحافظ على حياه تلك العائلة التي لم تفعل شيء غير المحافظة على حياتها وأن تنفذ وعدها وقسمها لهم أنها ستفديهم بحياتها لو استدعى الأمر ذلك مقابل حمايتهم.


اتسعت عينا سليم برعب، كأن الدنيا تتهدم أمامه: بس بقي كفاية، أنتِ بتنزفي!


تحرك خطوة نحوها، لكنها صرخت بعنف يشق الهواء: متقربش! بقولك أوعى تقرب! أقسم بالله لو قربت هموت نفسي! أنا مش بهزر.


ارتجف قلبه، وانكسر صوته وهو يتمتم برجاء بنبرة غاضبة من الخوف: طب ما أنا وعدتك أعمل إيه تاني سيبى الزفتة دي.


أجابته بصوت متحشرج بين البكاء والذعر بيد مرتعشة: أوعد، قولها تاني!


الدم سال أكثر، وسليم كاد يفقد عقله، عيناه تلمعان بالرعب والدموع، رفع  يده وصوته يتقطع: وعد! ورحمة بنتي وعد! مش هقرب لهم، ولا رجالتي هيلمسوهم، والله العظيم ماهعمل لهم حاجة! ولاحتى بخدش دبوس، بس شيلي السكينة بالله عليكي كفاية! 


شهقت ماسة، ونظرت إليه بعينين غارقتين في الدموع ويدها ترتعش، وهى تنظر اليه بشك: أنت وعدتني.


هز سليم رأسه بسرعه متوسلًا، والدمع يلمع في عينيه: أقسم لك بالله مش هقرب هم لا أنا ولا رجالتي! ولا كان في نيتى أعمل لهم حاجه اصلا، نزلي السكينة بقي ورحمه حور كفاية.


حدقت فيه بضعف واستسلام للحظات تبادلوا فيها النظرات؛ كأنها تتوسله ألاَّ يفعل بهم شيء ويكون صادق في وعده، وهو يتوسلها أن تصدقه وتهبط ذلك السكين 


تنهدت بضعف، ثم بدأت يدها تهبط ببطء وترتعشان، حتى أفلتت السكين وسقطت.


في لمح البصر اندفع سليم نحوها، جذبها بقوة إلى صدره، ضمها كما لو كان يستعيد روحه الضائعة، كأنه يخشى أن تذوب بين يديه، طبع قبلة طويلا مرتجفة على رأسها، ويداه تضغطان على عنقها ليوقف النزيف، شفايفه ألتصقت برأسها وهو يهمس بخوف وشوق وأنفاسه تتلاحق بين الخوف والتوتر: يا ماسة حرام عليكي إزاي تعملي كدة في نفسك؟!.


بينما هي تبكي ويدها جانبها مستسلمة لما يفعله.


ثم صرخ سليم بلهفة تكاد تشق حنجرته عندما فشل في إيقاف النزيف ورأي ضعفها بين يديه: مصطفي، أنت دكتور شوف جرحها بسرعة!


وحينها إندفع مصطفى الذي كان قريبًا، يعرف تمامًا ما يجب أن يفعل، سحب ماسة من بين أحضان سليم، وهي ما زالت واعية، لم تكن مصابة بجرحٍ عميق، لكن الصدمة جعلتها غير متزنة وضعيفة، كأنها على وشك فقدان الوعي.


ألقى مصطفى نظرة سريعة على عنقها، فوجد أن الجرح سطحي، لا يكاد يذكر، ألتقط بعض المناديل وضغط بها على موضع النزيف البسيط، ثم قال مطمئنًا:  مفيش حاجة، متقلقش.


رفع سليم نظره نحوها، عينيه تلمعان بحدة وعتاب، لكنها واجهته بنفس النظرة بشك، وهمست بصوت مرتجف بالكاد يخرج: أنت وعدتني، سليم مش بيخلف وعده.


هز سليم رأسه بصمت ووعد: طب خلينا نمشي.


هزت رأسها بتردد، ورفعت يدها بخجل وكأنها تعتذر للجميع، وصوتها مبحوح مليء بالندم: أنا آسفة، آسفة إني عرضتكم لكل ده، كنت عارفة إن ده هيحصل، علشان كدة كنت بقول لكم سبوني أمشي.


ألتفتت نحوهم واحدًا واحدًا، والدموع تحجب رؤيتها:

أنا آسفة يا ماما نبيلة، آسفة يا عائشة، آسفة يا إيهاب إني عرضتكم لده، حقك عليا يا مصطفى، وبشكرك على كل اللي عملته معايا، وعلى وقفتكم جنبي أنا معرفش لولاكم كان حصلي إيه؟!


تنفست بصعوبة، وكأنها تحاول أن تطمئنهم أكثر مما تطمئن نفسها: ومتخافوش هو مش هيعمل حاجة، علشان لو فكر يعمل حاجة، هو عارف التمن هيكون إيه!


كان سليم واقفًا يستمع اليها، قلبه يصرخ من الداخل، كان يشعر أنه مظلوم، لم يكن ينوي أن يؤذيهم، لم يخطر بباله أن يقترب منهم من الأساس، ومع ذلك وضع في صورة قاتمة، أسوأ صورة، عيناه امتلأتا بدموع مكبوته، فآخر ما بينهما كان بشعًا، لذلك هي محقة فيما تشعر به وتقوله الآن، ومع ذلك ظل عشقه لها حاضرًا.


تحركت ماسة بخطوات مثقلة، وكأن كل خطوة تنتزع من قلبها، بينما مصطفى لم يتحمل المشهد.

فتوقف أمامها بثبات يمنعها، صوته رجولي مفعم بالعزم:

لو مش عايزة تمشي متمشيش غصب عنك، أنا معاكي، مش هايقدر يعمل لك حاجة، وأنا هطلقك منه.


فور سماع تلك الكلمة، كان الأمر بالنسبة لـ سليم كأن أحدهم صفعه بقوة على وجهه، اشتعلت عيناه، كاد أن ينطق، شفتيه تشنجت، لكن ماسة رفعت بصرها إليه بنظرةٍ قاطعة تحمل معنى واحدًا "ألاَّ يتهور".


تبادلوا النظرات للحظة جز على أسنانه، أشاح بوجهه بعيدًا، وهو يمسح عليه بكفه بعصبية، شد أنفاسه في صدره محاولًا أن يتمالك نفسه، يخفي الغليان الذي يعتصره بينما عيناه تلمعان بحدة مكبوتة.


نظرت ماسة إلى مصطفى، وصوتها أنكسر كأنها تستسلم، كتفيها أرتخيا فجأة: مش هينفع خلاص.


تقدم مصطفى خطوة تجاهها ومال بجسده فى مستواها، صوته قوي لكنه يقطر رجاءً، يمد يده قليلًا نحوها دون تلامس: لا مش خلاص، متخافيش منه، هو بيستغلك علشان خوفك، لكن لو واجهتيه مش هايقدر يعمل حاجة هو طول عمره بيستغل خوفك على الناس اللي بتحبيها متخافيش علينا ولا على أهلك أنا هحميكي.


أشار لنفسه بثقة وهو يضيف، وعينيه مثبتة عليها: أنا جنبك، خليكي واثقة فيا، هو برجالته وأسلحته دي كلها ميفرقش معايا، متخافيش يا ماسة أنا جنبك، ثقي فيا.


أغمضت ماسة عينيها، تنفست بإرتجاف، ثم فتحت عينيها المليئتين بالدموع وقالت برجاء متعب، وهي تضم كفيها ببعض: أنا عايزة أمشي معاه.


ألتقط سليم الكلمة بسرعة، صوته أرتفع وفيه نفاذ صبر، وابتسامة خفيفة ساخرة ظهرت على وجهه: سمعت؟ هي عايزة تمشي معايا، خلاص بقى!


مد يده يسحبها نحوه، لكن مصطفى اعترض مرة أخرى، جسده مشدود وذراعه ممدودة أمامه: ماسة أسمعي الكلام، متروحيش معاه، أنا هحميكي منه، بالله عليكي متخافيش، خوفك دى هو للي خلاه يدمرك.


نظر له سليم نظرة حادة، قبضته تغلق وتفتح من العصبية، وقال بنبرة قوية: تحميها من مين؟ دي مراتي.


مصطفى ببحة رجولية، وعروقه بارزة في رقبته: صح مراتك، بس إنت خطر عليها، وأنا هحميها منك ومن أي حد ممكن يأذيها، مش هتاخدها لو على جثتي.


قلب سليم عينيه، حاول أن يبقى متماسكًا رغم غليانه، ذقنه مرفوع بتحدي: دكتور، أنت راجل محترم ومتربي أعتقد عيب إنك تمنعني آخد مراتي، أرجوك بلاش تختبر صبرى أكتر من كده.


أشار مصطفي إليها بنظرة مقصودة، نبرته أكثر ثباتًا: لو فعلًا بتحبها، اسألها: هي عايزة تيجي معاك من قلبها ولا خايفة منك؟ وأنا بأكدلك، إنها خايفة، وإنت عارف ده كويس.


نظر سليم إلى ماسة نظرة طويلة مشبعة بالغضب والضيق، عروقه تكاد تنتفض من شدة توتره، يضغط على أسنانه كأنما يكبح انفجاره القادم، أدركت هي المعنى جيدًا، قرأت مابداخله دون أن يتكلم، ومع ذلك، تقدم خطوة للأمام، خطواته تحمل عصبية تفضحه، فهو في النهاية يرى غريبًا يتدخل بينه وبين زوجته.


كاد أن ينطق، لكن ماسة سارعت لتقف أمامه، ترفع يدها المرتجفة قليلًا وتضعها على منتصف صدره، تقول بصوت متوسل: من فضلك أستنى يا سليم.


هبط سليم بعينيه نحوها، تلك النظرة التي تعرفها جيدًا؛ عينيه المثقلتين بالغليان والحب معًا، لكنها بعينيها توسلته من جديد، دون كلمات كأنها تقول "أرجوك أصبر".


إنفلت منه زفير طويل محمل بالقهر، ثم تنهد بصمت، وأدار وجهه جانبًا ليخفي ما يعصف بداخله.


تنهدت ماسة ورفعت رأسها بضعف، ودموعها لم تتوقف، كأنها تتشبث ببقايا شجاعة ونظرت نحو مصطفى:

مصطفى، أنا عايزة أمشي مع سليم بإرادتي، أنا عايزة ده مش خايفة منه، زهقت من الهروب، لو مكنش جه النهاردة، كانت مسألة أيام وكنت هكلمه أنا بنفسي، لأني تعبت، تعبت من الهروب ومن إني أستخبى، تعبت من القلق ومحتاجة أنام مرتاحة من غير خوف، شكراً على كل حاجة عملتها معايا، بس صدقني هي خلصت، دي النهاية، فلو سمحت أوعى تحاول تقرّب مني تاني لو حقيقي بتعزني.


أبتسم سليم ابتسامة خفيفة، مزيج بين الانتصار والمرارة، ورفع حاجبه بسخرية: سمعت؟ اهي قالتلك بنفسها، لو سمحت أوعى بقي، وشكراً على شهامتك.


مصطفى وكأنه يترجاها، يمد كفه نحوها بخوف: أنا هبقى جنبك، متخافيش.


نظرت ماسة له بصمت، عينيها تتهرب منه، وكأنها استسلمت لسليم.


رد سليم بإبتسامة هادئة لكنها منتصرة، وقبضته تشد على يدها: مش محتاجه إنك تكون جنبها؛ علشان جوزها موجود جنبها.


شبك كفه بكفها وسحبها معه برفق حازم، وخرج بهامستسلمة، ومكي يتبعه، ثم أغلق الباب خلفه بإحكام.


صرخ مصطفى، وكاد أن يركض خلفها، لكن نبيلة أمسكت ذراعه بقوة، وجهها ممتقع بالقلق، فأوقفته، وقالت برجاء: هتعمل إيه؟ دى مراته؟!


صرخ مصطفى في قهر، قبضته تضرب المقعد الباب، عروقه بارزة: إزاي اسيبها تمشي معاه؟! إزاي؟


أجابت نبيلة بحزن عميق، والدموع محبوسه في عينيها:

علشان مراته، مفيش حد يقدر يمنعه ياخدها، وإحنا خلاص، مش هنعرف نعمل لها حاجة أكتر من كده.


وقف إيهاب مذهولًا، عيناه تتنقلان بين الوجوه، يده ترتجف وهو يشير نحو الباب: هو عرف مكانها إزاي؟!


عائشة بإرتباك، والخوف بادي علي ملامحها: معرفش تفتكروا يكون حد قال له؟


مصطفى بضيق وهو يحك جبينه بحدة، ورأسه مطأطأ: معرفش.


جلس على المقعد وهو يشعر بالضجر الشديد، صوته خافت لكنه مليء بالقهر: أنا خايف عليها خايف يأذيها.


نظرت نبيلة للأرض ثم رفعت عينيها ببطء نحوه، وقالت بنبرة واثقة بحكمه: أنا حاسة إنه مش هيعملها حاجة، ولا هيأذيها كان شكله هادي، ومعملناش حاجة، لو كان في ضميره شر، كان أذانا من قبل ماتدخل البيت، هو كان عارف إنها مش هنا ولسة في الطريق، كان قادر ياخدها، بس هو جه خبط على الباب وقعد في منتهى الاحترام وكل عينه فيها ندم، أنا حسيته راجل ندمان وعرف غلطته وعايز يصلح كل حاجة عملها غلط، ومتأكدة إنه مش هيأذيها، سحبتها لحضنه بالطريقة دي، وجنون الاشتياق اللى خرج من عينه، طريقته وهو بيقولها تعالي نرجع بيتنا، ورعبه عليها لما مسكت السكينة؟! أكدت لي إنه مش هيعمل حاجة، مش هيأذيها ده واحد عاشق ماصدق إنه وصل لمراته حبيبته ورجعتله، ده واحد بيحب مراته مش عايز غير إنه يرجعها وتسامحه، فهو ولا هيأذيها ولا هيأذينا، واللي أكد ده؟!  لما وقفت قصاده يا مصطفى، معملكش حاجة، يعني واحد زي سليم باللي إحنا عرفناه عنه، لما تقف كده قصاده وتعمل اللي أنت عملته، كان ضربك، ولا كان طلع مسدسه وإداك رصاصة، حتي مكي وقف متحركش، متقلقش عليها من سليم، أقلق عليها من أهله هما السبب يابني في تدميرهم مش هو.


هزت عائشة رأسها بتأكيد وعقلانية: أنا بقول كدة برضو، إنه مياخدش أي رد فعل للى أنت عملته، دي يأكد إنه فعلا مش هيعمل حاجة، دي كان هينفعل وسكت بنظرة منها، اخدتي بالك يا ماما !


نبيلة بتأكيد: أيوة طبعاً.


هز إيهاب رأسه بتأييد: ماما عندها حق أنا مش قلقان من سليم قد مقلقان من أهله.

جز على أسنانه هو يضيف بضجر: لو بس كنا وصلنا للفيديوهات.


صمت الجميع، العيون متشابكة، والأنفاس متقطعة، فلا كلمات يمكن أن تقال.


مسح مصطفى على وجهه بكلتا يديه، يغلي داخله من الغضب، لكنه لا يعرف ماذا يفعل !


على إتجاه آخر…


في المصعد.


كانت ماسة تقف في المصعد بجانب سليم، عيناها متسعتان، تنظر إلى الأمام يبدو أنها مازالت غير مصدقة أنها الآن تمسك بيده، بينما مكي أمامها بدى وكأن كل شيء انتهى فجأة.


حين وصل المصعد إلى الطابق الأول، خرجت معه بهدوء، ومازالت أصابعها متشابكة في أصابعه، بينما قلبها يرتجف بشدّة.


أما سليم، فكان يعيش لحظة لا تشبه شيئًا مما سبق، ستة أشهر كاملة لم يرها فيها، لم يلمس يدها، لم يسمع صوتها عن قرب، يعيش فقط على بقايا خيالات، على أحلام يسهر بها ويستيقظ عليها، والآن ها هي إلى جواره، يدها بين يديه، حقيقة ملموسة، لا خيال ولا وهم، فهو يعيش أسعد لحظات حياته؛ قلبه يكاد يطير من الفرح، وكأنه استعاد أنفاسه بعد شهور طويلة من الغياب والانتظار، يشعر أن الأرض كلها تضيق وتبقى هي وحدها الأفق الواسع، يشعر بسلام غريب، سكينة لم يذقها من قبل، وكأن كل العواصف التي عاشها توقفت بمجرد أن لمست أصابعه أصابعها، ومع ذلك تماسك وأخفى انفعاله خلف ملامح جامدة، يكسو وجهه هدوء غريب، يخشى أن يكشف أكثر مما يريد.


فتح لها باب السيارة الخلفي بنفسه، كان مكي قد جلس بجانب السائق، دخلت وجلست، ثم لحق بها وجلس إلى جوارها، يراقبها بصمت، يخشى أن يرمش فتختفي، يخاف أن يكون كل هذا حلمًا آخر سيستيقظ منه فجأة.


انطلقت السيارات بعيدًا، وهو يخفي ابتسامة تتوق للخروج، لكنه يتركها حبيسة هدوء ملامحه، فيما قلبه يصرخ فرحًا "لقد عادت".


رفعت ماسة عينيها نحوه، وقالت بصوت هادئ متردد: أنت، أنت عرفت مكاني منين؟


ابتسم سليم بخفة، ورد بنبرة متماسكة لكنها تحمل غصة وهو ينظر أمامه: مسألتنيش غير السؤال ده من ساعةماشوفتيني؟


رفعت ماسة حاجبها، وقالت بنبرة حادة لكنها مرتعشة: من حقي أعرف، أنت عرفت مكاني إزاي؟


مال سليم برأسه قليلًا نحوها، وكان صوته أكثر هدوءًا: لما نوصل بيتنا هقولك.


ظل يتأملها بعينيه المليئتين بالشوق، وكأنه غير مصدق أن عينيه تراها أخيرًا، همس بعاطفة مكبوتة: تعرفي أنا مش مصدق إني شايفك بعيني حقيقي، وإن المرة دي مش هلوسة ولا خيال، لا حقيقة، وإنك رجعتيلي تاني، بين إيدي، وأخيرا نفسي رجعلي، كنت هتجنن عليكي، أنتِ وحشتيني، وحشتيني أووي...

صمت للحظة ثم تساءل بأمل يشوبه اليأس:

هو انا موحشتكيش خالص؟!


ألتفتت ماسة نحوه بسرعة، بنظرات قاطعة، وعينيها تتحرك عليه بحذر، وردت بنبره حادة: لا.


أدار سليم وجهه للأمام فجأة، وزفر بقوة، وقالت بصوت مبحوح قليلًا: بلاش تبصيلي كده


ابتسمت ماسة بسخرية، ثم نظرت للأمام: أنت مينفعش حد يبصلك غير كده أصلًا.


فجأة رفعت صوتها بتوتر وهى تهجم على السائق وتقول: أقف هنا!


السائق ألتفت بخوف: في ايه؟


ماسة بسرعه: لو سمحت، أقف هنا.


رفع سليم حاجبه، وصوته مشحون: هو ايه اللى أقف هنا، في إيه؟


ألتفتت له بحدة: يوووه، لو سمحت، أقف بس وهتعرف.


أشار سليم بيده للسائق: يا عادل، أقف.


توقف السائق، نظرت ماسة حولها، ثم ألتفتت إلى سليم: معاك فلوس كاش؟


سليم بإسترخاء مصطنع: معايا، بس ليه؟


ماسة بإصرار: هاتهم وخلاص. متسألش، بعدين هتعرف.


زفر سليم، ومد يده في جيبه وأخرج محفظته، أخرج مافيها: حوالي خمسة آلاف، مش معايا غيرهم.


نظرت ماسة لمكي في المرآة: أنت معاك فلوس كاش؟


مكي بتردد: تقريبًا معايا حوالي ألفين.


ماسة مدت يدها: هاتهم.


نظر مكي  لسليم في المرآة مستأذنا.


اومأ له سليم برأسه: أديها، أما نشوف آخرتها.


أعطاها مكي المال فتحت ماسة باب السيارة، سليم حاول أن يمسكها بسرعة: راحه فين.


ألتفتت له بعصبية وهي تزيح يده: أكيد مش ههرب.


عبرت الشارع نحو قهوة قديمة، لافتة صغيرة تتدلى فوقها، كان المكان مألوفًا لها.


هبط سليم خلفها ومعه مكي، تبعهم بعض الحراس، لكنهم وقفوا بعيدًا يراقبون.


دخلت ماسة المقهى، رائحة القهوة الثقيلة تملأ المكان، اقتربت من مكتب قديم يجلس خلفه ماهر ذلك الرجل الذي عملت عنده في بداية الراوية، الذى رفع نظَّارته حين رآها.


ماسة بإبتسامة خفيفة: السلام عليكم يا عم ماهر، إزي حضرتك؟


رفع ماهر عينيه نحوها، حاول التدقيق، ثم ابتسم: وعليكم السلام يا بنتي، أنا كويس، أنتِ دينا؟


اومأت ماسة برأسها: أيوه، أنا دينا.


ابتسم الرجل، وقال بملامح دافئة: إزيك يا بنتي؟ معلش العتب على النظر عاملة إيه؟


ماسة بلطف: الحمد لله، إزي حضرتك؟ وإزي أبرار؟


ماهر: الحمد لله يا بنتي، أنتِ فينك كده من زمان؟


مدت ماسة له الأموال بابتسامة متأثرة: موجودة، دي مبلغ لحضرتك، وده للشيخ صالح، معلش مبلغ صغير بس قريب هبعتلك مبلغ كويس تجدد بيه المكان وللشيخ صالح يجدد الجامع.


نظر ماهر لأموال بذهول: ما شاء الله! ايه الفلوس دي كلها؟


ماسة بإبتسامة رقيقة وامتنان: أنا عمري ماهنسي وقفتك معايا، أنت الوحيد اللي قبلت تشغلني وقت اما كان مش معايا ولا ورقة.


توجهت عيون ماهر نحو سليم والسيارات الفاخرة، وقال بنبرة منخفضة وهو يسألها: هما دول تبعك؟


ماسة بإبتسامة صغيرة: أيوه، ده جوزي.


ماهر بإنبهار: ما شاء الله ربنا يباركلكوا تستاهلي والله أنتِ طيبة وغلبانة، ألف مبروك يا بنتي.


ماسة بإبتسامة لطيفة: لو احتاجت أي حاجة انزل القاهرة، اسأل على مجموعة الراوي مكتب سليم بيه، وقوله أنا عم ماهر تبع مدام ماسة وبس.


ماهر: ربنا يسترها عليكي يا بنتي ويبعد عنك شر عبيده.


ماسة بعرفان: دي أحلى دعوة، سلملي على أبرار، السلام عليكم.


خرجت وكان سليم واقف منتظرها، ملامحه متعجبه: مين ده؟


ماسة وهي تدخل السيارة: ده عم ماهر.


دخل سليم بجانبها، وصوته متحشرج: مين بقى عم ماهر ده؟


أغمضت ماسة عينيها لحظة ثم فتحتها: أول ماجيت إسكندرية، محدش كان عايز يشغلني عشان مكانش معايا أي أوراق، هو الوحيد اللي قبل يشغلني، بعد توصية من شيخ الجامع، موضوع طويل، وأنا مش عايزة أتكلم معاك فيه دلوقتي.


مال سليم برأسه قليلًا نحوها، وقال بصوت منخفض وفيه تساؤل: ده عند؟


رفعت ماسة عينيها إليه، ملامحها منهكة، وردت بصوت واهن لكنه واضح: لا، بس مش عايزة أتكلم معاك دلوقتي، لسة بحاول أستوعب إنك لاقيتني وإني راجعة معاك السجن مرة تانية، بحاول أتخيل المرة دي العقاب اللي حتى خيالي مش هيقدر يوصله هيكون ايه؟!.


نظر سليم لها، وقال بعينان صادقتان رغم حزنه، ونبره هادئة حنونة: قولتلك والله ماهعمل حاجة صدقيني، ليه مش مصدقه؟


أطرقت ماسة رأسها، وزفرت ببطء ثم ردت بخذلان وهي تشيح بوجهها بعيدًا: لإني بطلت أصدقك، وأثق فيك.


سقطت الكلمات عليه كطعنة، ظل يرمقها لحظة، ثم أشاح بوجهه نحو الأمام، وهو يطلق تنهيدة ثقيلة، ويزم شفتيه بحزن واضح.


ألتقت نظراته بمكي عبر المرآة، هز مكى رأسه بمواساه وكأنه يرسل له رسالة صامتة "أستنى، لما توصلوا البيت واتكلموا ".


أجاب سليم بهزة صغيرة من رأسه، إقرارًا وصمتًا.


تحركت السيارة، تنساب في طرقات الإسكندرية،كانت ماسة تحدق عبر النافذة، لكن عينيها لم تر الشوارع ولا الناس، كانت غارقة في دوامة شعور واحد: أنها عادت لنقطة الصفر !

كل شيء من جديد لا هروب، لا حرية، لا تغيير.


وفجأة، ألتفتت ماسة نحوه ببطء نظرت إليه نظرة طويلة من أعلى رأسه حتى أسفل جسده، كأنها تفترسه بعينيها بنظرة قاسية، فيها صدمة وخذلان، وكأنها تقول بصمت: "إزاي أنا كنت في يوم بحب الراجل ده؟"


شعر سليم بثقل النظرة، أنقبض صدره وكأنها سهام تخترقه، رمش بعينيه مرتين محاولًا أن يهرب منها، ثم أطرق برأسه قليلًا، غارق في وجع صامت لم يعرف كيف يخفيه.


بدأ عقلها ينسج سيناريوهات لا تنتهي: ماذا سيفعل بها حين يصلان إلى الفيلا؟ تذكرت أول مرة هربت، كيف أعادها وحبسها ثلاثة أيام، في غرفة ليس بها أي شيء سوى جدران تخنقها فقط ولم يرحمها رغم توسلاتها أن يغفرلها خطأها أو حتى يسمعها، ثم تركها عامًا كاملًا خلف الجدران، تذكرت الليلة الأخيرة: الحزام، قبضته على عنقها، محاولته البشعة للإعتداء عليها، صرخاتها التي اختنقت، قلبها بدأ يخفق بجنون، أنفاسها تتعالى، والغصّة تعتصرها.


مازال سليم  يراقبها بطرف عينه رأى ارتجاف يديها، وشحوب وجهها، مسح بكفه على وجهه، ثم قال بصوت متماسك، تخالطه نبرة رجاء وندم: بلاش تبصيلي كده يا ماسة، فيه حاجات كتير أنتِ متعرفيهاش، لما نوصل، هفهمك كل حاجة.


لكن ماسة لم تتحرك، لم تنطق، عيناها ظلتا تطعنه بصمت أشد من الكلام، وكأنها تقول له "مفيش حاجة في الدنيا هيبرر اللى عملته"


وجه جسده في زاويتها ونظر لها، وأخذ نفسًا عميقًا، وأنخفض صوته وهو يضيف: والله العظيم يا ماسة اللي حصل يومها أنا مكنتش واعي، كنت شارب حاجة محطوطة لي في العصير، مكنش قصدي، مش ببرر غلطتى، أنا عايزك تفهمي إني مكنتش في وعيي!


لكنها لم تكن تسمعه، كانت أسيرة لصورته السوداء في رأسها: الضرب، الحبس، الصراخ.


تكررت بداخلها صرخة مكتومة؛ فكل مافي عقلها الآن أن سليم سيفعل بها كما فعل في المرات السابقة، وأنها تعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى: نفس التهديدات لها ولأهلها، ونفس العقاب، ففي المرة السابقة لم تغب سوى ليلة واحدة وفعل كل ذلك؛ فكيف سيفعل بها الآن وقد غابت ستة أشهر؟!


تملك الخوف منها، هزت رأسها بلا، ودموعها تهبط من عينيها وهي تقول بتمتمه: لا أنا مش هرجع! مستحيييل أرجع! مش هخليك تعمل فيا كدة تاني!》


زاد اهتزاز رأسها برفض، عيناها تفيض دموعًا، أنفاسها متقطعة، وفجأة وبحركة مباغتة، اندفعت بكلتا يديها نحو السائق، وضربت رأسه ليسقط على المقود، اهتزت السيارة بعنف، وأرتبك الجميع.


أختل توازن السيارة حاول مكي أن يسيطر عليها هو والسائق وأن يقفها، السرعة هدأت قليلا لكنها مازالت لاتتوقف.


بينما صرخ مكي وهو يحاول السيطرة على المقود: إيه اللى عملتيه دى؟! أنتِ اتجننتي؟!


صاح سليم من مكانه، صوته ممتزج بالغضب والذهول: ايه اللى أنتِ عملتيه دى؟!


مد سليم يده ليقبض عليها، لكنها باغته بلكمة قوية في أنفه، جعلته يصرخ متألمًا ويترنح، لم تنتظر، فتحت الباب بسرعة وقفزت إلى الخارج.


أرتطم جسدها بالأرض بقوة، زحفت على ركبتها وأنجرح كفها، لكن الخوف منحها قوة لا تُوصف، نهضت وبدأت تركض بكل ما أوتيت من طاقة، ودموعها تتطاير مع خطواتها.


اندفع سليم خارج السيارة، ووجهه مزيجا بين الغضب والهلع، وصوته يجلجل في الشارع: ماااسة! اقفي، والله ماهعملك حاجة متخافيش. 


لكن ماسه لم تلتفت اليه واخذت تركض، وسليم يركض خلفها مباشرةً، والحراس يتبعونه بهدوء حذر، بالطبع لم يسمح لأحد برفع السلاح، الجميع يحاولون السيطرة على الموقف بهدوء.


كان  سليم ينادي عليها بصوت جهوري وهو يركض خلفها: ماسة! استنى!


لكنها مستمرة في الركض، عيونها غشيتها الرعب والدموع، يديها متشابكتان مع قلبها المتسارع، الفكرة المسيطرة عليها واضحة: لو عادت معه، سيكون هلاكها أشد مما حدث في المرات السابقة.


ظل سليم يناديها، صوته متقطع بين الغضب والخوف متوسلا: ماسة! والله ماهعملك حاجة صدقيني أقفي.


وهي تركض مرعوبة، عيونها تلمع بالدموع، تحاول التنفس بصعوبة، لا تعرف كيف حصلت على هذه القوة، ولا من أين أتت سرعتها المفاجئة..


كانت تتخبط في الماره والسيارات التي تمر من حولها، لكنها لم تهتم، كل تركيزها على الهرب، كان سليم يركض خلفها، يراعي السيارات العابرة، الحراس يتبعونه بحذر، كأنهم في مطاردة سينمائية..


لكن بسبب بطئ سليم في الركض بسبب قدمه كانت هناك مسافه بينهما لكن هذه المرة لم يكف عن ملاحقتها..


الأزقة والشوارع صارت مسرحًا لهذه المطارده، كل ما كانت ماسه تصطدم بعائق محتمل، كانت تقذفه بعيدًا، سواء كان قفصًا أو دراجه كى تعيق سليم عن الوصول اليها، لكنه كان يتخطى كل هذا باحتراف.


استمروا بالركض في الشوارع، يمينا ويسارا، كانت أنفاس ماسة تتقطع، يديها ترتجف، وسليم خلفها يركض بكل قوته، والحراس يلتزمون بمسافة آمنة


وأخيرًا، وصلوا إلى الحافة المطلة على البحر، مكان مرتفع كتله صخريه، سليم أمامها، الحراس يراقبون من خلفه.


توقفت فجأة، كأن فرملة رهيبة سيطرت على جسدها أخذت نفسًا عميقًا، ترتجف من الخوف والهلع، لا تعرف ماذا تفعل.


عينيها تتسع، تنظر يمينًا ويسارًا، كل شيء حولها يقف ثابتًا، كل شيء متجمد.


رفع سليم يده للأعلى، يصرخ في الحراس: محدش يقرب لها!


حاول سليم تهدئتها، نفسه، الذي يرتفع وينخفض بسرعة، وهو يضع يديه على ركبتيه ليأخذ نفسه، 

و لتخفيف الألم الذي يعصف في قدمه.


مال قليلا للأمام وهو يلهث: اهدي، وخدي نفسك، مفيش حاجة هتحصل.


لكن ماسة، من خوفها الشديد، التقط حفنه من الطوب واخذت تلقيها عليه بقوة.


حاول سليم تجنبها بسرعة، يبتعد عنها: أنتِ اتجننتي؟! بطلي هبل بقي.


كانت تبكي بشدة، دموعها تتساقط، تصرخ وتلوح بالطوب يمينًا ويسارًا، كل حركة فيها قوة لا تصدق، كمحاولة يائسة منها، ربما تستطيع الهروب منه. 


حاول سليم تهدئتها، وكاد أن يقترب: اهدي طيب.


صرخت ماسة: متقربش مني.


وقفت على الحافة، خطوة واحدة فقط تفصلها عن السقوط.


صوتها صار حادًا، تهدد: لو قربت مني، هرمي نفسي من هنا! والله العظيم هرمي نفسي!


مد سليم يده بحذر، يحاول الثبات مكانه وصوته منخفض لكنه مليء بالحب والخوف وأنفاسه متسارعة: ماسة يا حبيبتي، اسمعيني، والله ماهعمل زي المرة اللي فاتت، وعد اقسم بالله وعد،  بعدين صدقيني أنا يومها معملتش كده بوعيي، صافيناز كانت حاطة حباية في عصير المانجا؛ عشان اتضايقت منك، وأنا شربت الكوباية، والحباية دي هي اللي عملت فيا كده، أنا لو كنت واعي كنت عملت زي ماطلبتي مني وصبرت، صدقيني، دي الحقيقة، أقسملك بالله مابكذب في حرف، أنتِ عارفة سليم حبيبك استحالة يكذب، أنا عاقبت صافيناز، أهدى بس وتعالي معايا، ولما نوصل القاهرة هقولك كل حاجة بالتفصيل، فيه حاجات كتير أنتِ مش عارفاها حصلت.


نظرت له ماسة بعينين مليئتين بالغضب والدموع، وردت بصوت متقطع من الإنفعال: أنت فاكر بقى إني هصدق إللي قولته ده؟ حتى لو كلامك صح، مش هرجع.


حاول سليم اقناعها، وصوته يخرج بين الرجاء والخوف: ليه يا ماسة مترجعيش؟ أنتِ عارفة إني بحبك، سامحيني.


صرخت وهي تهز رأسها بدموع وخذلان: عايزني أسامحك على إيه؟ على اللي عملته فيا طول السنة اللي حبستنى فيها؟ ولا اللي في الليلة دي؟ حتى لو كان فيه حباية زي ما بتقول، أنا مش فاكرة غير نظرة عينك اللى كلها قسوة، إيدك دي وهي بتخنقني، وحزامك ده وهو بينزل على جسمي من غير رحمة، وأنا عمالة اترجاك واقولك ارحمني، انا معملتش حاجة، بس غرورك وقلبك الأسود كانوا مسيطرين عليك.

انفجرت بغضب وهي تقول بحسم:

أنا مش هرجعلك تاني! المرة اللي فاتت حبستني ثلاث أيام في الأوضة وخرجتني بالعافية لما تعبت، غير الكلام اللي زي الزفت اللي سمعتهولي، وحبستك ليا في الفيلا سنة كاملة، ضربك لأخويا بالرصاص، وإهانتك لأهلي، ومنعتني أشوفهم، وكنت بتهددني بيهم، أنا عمري ماهنسى كلمة" جثثهم اللي هتنزلي من السما، لو حد فكر ياخدك مني"، مستحيل أعيد نفس السيناريو تاني، أنا عندي الموت أهون منك!


اقسم سليم بعينين دامعتين، وصوت عميق: مش هعمل كده تانى والله، والله العظيم ماهعمل حاجة.


صرخت ماسة بغضب وحزم: مش هرجعلك يا سليم، مش هرجعلك تاني! مستحيل أأمن على نفسي معاك ، أنا بكرهك.


حاول تهدئتها بخوف: طب أبعدي بس عن المكان ده وبعدين نتكلم.


ماسة بنبرة حادة: ملكش دعوة.


حاول سليم اقناعها بصوت حاني، وعينه مركزة عليها:طب هتروحي فين؟ مفيش مهرب، أنا قدامك والبحر وراكي، خلاص يا ماسة لازم تفهمي حتى لو قدرتي تهربي دلوقتي، أنا هوصللك، الحاجة الوحيدة اللي هتفرق بيننا هي الموت.


نظرت له بعينين متوهجتين بالغضب، وصوتها يتصاعد وقالت وهي تأخذ حركه تلقائيه للخلف دون أن تشعر من فرط الغضب: لو الموت هو الحاجة الوحيدة اللي هتفرقنا عن بعض يبقى يا أهلا بالموت!


تعثرت قدم ماسة فجأة، فانزلقت إلى الخلف، شهقة مرتعبة خرجت من صدرها، وصرخة مدوية ترددت بين الصخور والبحر المترامي أسفلها، اتسعت عينيها في هلع، والريح تعصف بشعرها وهي تهوي كطائر جريح لا حول له ولا قوة.


رأى سليم المشهد، فاتسعت عيناه بصدمة، كادت أن تخرج من مكانها، قلبه أنقبض بقوة حتى كاد يخرج من صدره، أندفع بجنون، وهو يقول بنبرة رجولية جهورة: ماســـــــة 


قفز خلفها دون تردد، حيث انفصل جسده عن الأرض وهو يهوي إلى الأسفل.


الهواء يحيط بها، وهي تتأرجح في الفراغ، شعرها يرفرف حول وجهها، وعيونها الممتلئة بالدموع والخوف، ثابته على سليم، الذي يسقط وراءها مباشرة إلى الأسفل.


لايفصل بينهما إلا مسافة قصيرة بالكاد تمنع يده من لمسها.


فنشاهدهما يسقطان معًا بين تلك التلة والبحر، جسدهما يتأرجح في الهواء، والرياح تصرخ حولهما.


كان سليم يسقط خلفها، واحد ذراعيه ممدوده نحوها بكل قوته، يحاول الإمساك بها، وكل نبضة في قلبه وكل نفس فيه يسعى للوصول إليها، رغم أن المسافة بينهما صغيرة لكنها تمنعه من الإمساك بها.


كان ينظر إليها بضعف شديد، وعيناه تدمعان، وهي تسقط أمامه لأسفل، ومع ذلك ظل يحمل الأمل في أن يصل إليها قبل أن تصل إلى البحر، رغم معرفته الداخلية بإستحالة ذلك 


كل ما كان يدور في خاطره: إن تمكن من الامساك بها، فسيحميها قبل أن يبتلعها البحر.


لكنه بطبيعة الحال لم يستطع الإمساك بها؛ فالجاذبية تتحكم في سقوطهما معا، وتلك المسافة اللعينة تمنعه من لمسها.


تلك الثواني القصيرة مرت كدهر، ظلا يتساقطان معا من أعلى التلة إلي البحر، واحدا خلف الآخر، تفصلهما مسافه قصيرة جدا..


وفي النهاية سبقت ماسة سقوطه بثواني، كأنها طائر تهاوى قبل أن يلحق به ظله، فارتطمت بالماء أولا، صرختها انقطعت دفعة واحدة تحت السطح البارد، ودوائر الماء تتسع حول جسدها الغارق.


بعد لحظه خاطفة، اخترق سليم سطح الماء بجسده، اندفع إلى الأعماق، والماء يحيط به من كل صوب، يبحث عنها بعينيه، يسبح بجنون في محاولة أن يجدها، قبل أن يبتلعها البحر.


لكن يبدوا أن التيار دفعها بعيدًا، فاختفت ماسة عن ناظريه في لحظة، كأن البحر ابتلعها.


جحظت عينا سليم وهو يبحث يمينًا ويسارًا بجنون، صوته يعلو بالنداء، باسمها: ماسة ماســـة عشقي 


لكن لا مجيب لم يكن أمامه سوى أن يغوص من جديد، فهي لا تستطيع السباحة جيدًا، والارتفاع قد يجعلها تخاف ويصيبها مكروه.


غطس مرة أخرى بكل ما فيه من قوة، يفتح عينيه تحت الماء رغم الملوحة التي أحرقت جفونه، قلبه يتخبط في صدره بجنون، التيار يدفعه للخلف، لكنه يسبح بعناد، يتلفت يمينًا ويسارًا، فجأة لمح جسدًا يهبط للأسفل ببطء، بلا حراك اندفع كالمجنون حتى أمسك بها، عانقها بذراعيه، هزها برفق، لكنها كانت لا تزال فاقدة للوعي، فسبح بها إلى الأعلى.


خرج وهو يلهث، رفعها بيديه عاليًا فوق الماء، يحاول أن يثبتها ضرب على وجهها بخفة، وهو يقول بصوت مرتجف من الخوف: ماسة عشقي فتحي عينك.


ثم ألتصق بشفتيها ليمنحها نفسًا، لحظة طويلة بدت له دهراً، ثم سعلت ماسة، وخرج الماء من فمها، شهقت شهقة قوية وعادت للحياة ونفسها متلاحق وهي تسعل.


سليم بقلق وهو يركز النظر في ملامحها بخوف: الحمدلله يا حبيبتي، أنتِ كويسة؟


هزت ماسة رأسها بإيجاب بصمت، فهي ما زالت غير مستوعبة ماحدث.


في تلك اللحظة، كان هناك أثنان من الحراس هبطوا مع مكي في الماء وأقتربوا منهم.


حاولوا الاقتراب لمساعدتها، لكن سليم رفض: محدش يلمسها.


ظل ممسكا بها بشدة، فلم يكن هناك أي شاطئ قريب، والشاطئ الحقيقي بعيد عنهما حاول أن يسبح بها رغم المسافة الطويلة.


حاول أن يضمها أكثر، لكنها دفعت صدره بضعف وغضب: ابعد عني، أوعى تلمسني بأيدك دي.


زمجر بنبرة غاضبة، وعيناه تقدحان شررًا: كنتي هتموتي! فاهمة؟! لو مكنتش لحقتك، كنتي خلاص انتهيتي هي وصلت إنك تموتي نفسك!


نظرت له ببرود، ملامحها متصلبة رغم ارتجافها: أنت فاكرني إني رميت نفسي؟! أنا رجلى اتزحلقت ووقعت أنا مستحيل أموت كافرة على واحد زيك.


وأخذت تضربه لكي يتركها: واعي، اوعى ايدك دى عني متلمسنيش.


سليم بحزم وضجر: ماسة بس بقي.


صمته كان أثقل من الأمواج، ظل ممسكًا بها بقوة رغم مقاومتها.


في تلك اللحظة، أقترب لانش وعلى متنه أحد الحراس.


أشار سليم بسرعة، بصوت حاد وهو يلهث: مكي، اطلع أنت الأول، أمسك إيدها.


صعد مكي على عجل، مد يده ليمسك ماسة، رفعها سليم من خصرها ليساعدها على الصعود، حتى استقرت على سطح اللانش، ثم اتبعها بارهاق بعد أن أنهكه السباحة والركض. 


جلست ماسة في زاوية القارب، تضم نفسها بذراعيها، مبللة، شاحبة، والغضب يشتعل في عينيها، لم يكن الإنقاذ بالنسبه لها بطولة، بل خنقًا جديدًا، كانت غاضبه أشد الغضب لأنه استطاع العثور عليها، وأنقاذها.


رفعت عينيها نحوه، وصوتها مشبع بالرفض: لحقتني ليه؟


اقترب منها قليلًا، يقطر ماءً، نظرته حادة لكنها تحمل وجعًا مكتومًا: أنا قولتلك قبل كده، الحاجة الوحيدة اللي هتفرقنا عن بعض هي الموت، وإني هموت بعدك ب3 ثواني؟


ارتجف جفنيها، ونظرت له نظرة حادة، كأنها تريد أن تمحو تلك الذكرى من عقلها، لكن فجأة تدفق المشهد في رأسها…


فلاش باك:

منذ تسع سنوات، تركيا، طرابزون 


على تل شاهق، كان هناك أرجوحة معلقة على حافة جبل، وأسفلها البحر الواسع، سليم وماسة ممسكان بأيدي بعضهما، وهما في غايه السعادة، والرياح تداعب وجهيهما، والجبال تحيط بهما من كل جانب.


ابتسم سليم وهو ينظر إلى الأرجوحة، وعينيه تلمعان بالحماس: إيه رأيك؟ حلوة؟ طلعت زي إللي شوفتيها في الفيلم بتاع امبارح؟


نظرت ماسة للأسفل، المسافة والمياه المخيفة أسفلها جعلت قلبها ينبض بسرعة، وكتفاها يرتجفان: هي زيها بالظبط، بعد اما اتعملت.

رفعت عينيها له، وهي تتابع: بس المنظر مرعب جدًا، فأنا هسمع كلامك بتاع إمبارح، إن مش كل حاجة بنشوفها ينفع ننفذها، التهور بتاعي ده مينفعش، فأنا مش هركبها رغم إني هموت وأجربها بس لا لا..


ابتسم سليم برقة، وضغط على يديها مطمئنا: متخافيش أنا هبقى معاكي.


شددت ماسة قبضتها على الحبل، كتفها يرتفع قليلًا من الخوف: خايفة يا سليم.


أقترب سليم منها، ونظر داخل عينيها ومسح على خدها متسائلا: بتثقي فيا ولا لا؟!


ابسمت برقة: أكيد بثق فيك.


اتبسم وهو يداعب أنفها بأنفه: طب يلا.


ابتسمت ماسة بخجل، حاجباها يرتفعان قليلاً من الارتباك والخوف، جلست بهدوء، أخذت نفسًا عميقًا، ومسكت الحبل بقوة.


سليم بإبتسامة: جاهزة؟


أغمضت ماسة عينيها للحظة، ثم فتحتها، نظرت بطرف عينيها للأسفل، واخدت نفسًا عميقًا، ثم هزت رأسها: يلا يا كراميل.


دفعها سليم بهدوء، جسدها يعلو في الهواء، شعرت وكأنها تطير كالفراشات، قدميها ممدودتان، شعرها يرفرف مع الرياح، وابتسامة كبيرة على وجهها: تحفة يا سليم، لازم تجربها!


ضحك سليم وهو يقول: هجربها بعدك.


ضحكت ماسة بفرحة: أنا مبسوطة أوي، بجد شكراً إنك شجعتني أركب.


راقبها سليم بعينين تلتمعان بالدفء: أنا أهم حاجة عندى إنك تكوني مبسوطه وبس.


ماسة، وهي تهتز قليلاً من الحركة: بس بالراحة، أوعى تزق جامد.


عقد سليم حاحبيه متسائلا: خايفة؟


ضحكت ماسة بخوف: أه، المنظر مرعب بس الإحساس حلو، زق بالراحة.


بدأ سليم يدفعها مرة أخرى، وماسه تغمض عينيها، بابتسامتها عريضة، رأسها يتمايل مع حركة الأرجوحة، لكن فجأة دفع سليم الأرجوحه بشدة، فشعرت بالخوف، قبضت على الحبل بشدة وشهقت وعينيها تتسيعان.


أوقفها سليم وضمها بذراعيه من خصرها، ظهرها ألتصق بصدره، وضع رأسه على كتفها وهمس متسائل: خوفتي؟


ارتفعت أنفاسها بسرعة، بربشت بعينيها: أيوه، خوفت.


ابتسم سليم وهو يقول بصدق ليطمئنها: متخافيش، طول ما أنا جنبك، همسكك زي دلوقتي مستحيل أسمح إنك تقعي.


ماسة بقلق: طب لو وقعت؟


سليم بثقة: همدلك إيدي، وهمسك بكل قوتي وهنقذك.


مالت ماسة برأسها قليلاً ورفعت عينيها نحوه:طب أفرض إيدي فلتت من إيدك ووقعت؟


ابتسم سليم هو ينظر داخل بحور عينيها بوعد صادق: أكيد هارمي نفسي وراكي على طول من غير لحظة تفكير.


ماسة بتوتر ودهشة: طب لو مت؟


سليم، بنبرة حانية وعميقة: هموت بعدك، يا بثلاث ثواني يا بثانية؟!


ضيقت ماسة عيناها باستغراب: أشمعنا ثلاث ثواني وثانية؟ مش فاهمة؟!


ركز سليم النظر داخل عينيها بإتساع بؤبؤ عينه، بعين لا ترمش، بإبتسامة هادية، صوته أقرب لأعتراف دافيء: هموت بعدك بثلاث ثواني؛ لو موتي وأنتِ بعيد عني، أول ثانية لما أعرف الخبر، تاني ثانية أستوعبه، تالت ثانية بعد اما أستوعب مش هتحمل فهموت...إنما بقى بتاعة الثانية، دي لو موتي وأنتِ قصاد عيني، نفس الثانية إللي قلبك هيقف فيها، هي نفس الثانية إللي قلبي أنا كمان هيقف فيها، بس طبعاً اتمنى أنا أموت قبلك.


ضيقت ماسة عينيها بتعجب وهي ممتلئة بمزيج الحب والفرحة بعينين اغرورقت بالدموع: للدرجة دي بتحبني؟


نظر لها سليم بعشق صادق بعين لا ترمش: وأكتر، ماقدرش أعيش من غيرك  لحظة، حياتي ملهاش معنى من غيرك، طول ما أنتِ بتنفسي، أنا بتنفس.


نظرت ماسة له بعينين مترددة، وفيها شرارة تحدي طفولي: طب ولو تُهت منك؟


ضيق سليم عينيه متعجبا وهو يعقد بين حاجبيه متسائلا بإستغراب وابتسامة: هتوهي مني إزاي؟


أطرقت برأسها ثم رفعت حاجبيها بإصرار: أفرض.


سليم، بلهجة واثقة، وعينيه لا تفارقها: هلاقيكي.


ضحكت ماسة بخفة، وهي تهز رأسها: ما هو أنت أصلا مش هتكون عارف المكان.


اقترب أكثر، وصوته منخفض لكنه واثق: مهما كان المكان اللي هتروحي فيه، هفضل أدور عليكي لحد اما الاقيكي.


نظرت له طويلاً، وكأنها تختبر صدقه: متأكد إنك هتلاقيني؟


أجابها سريعًا، بعينين مشتعلة بالثقة: هلاقيكي مهما حصل، ده شيء ملوش أي احتماليه تانيه، هلاقيكي يعني هلاقيكي.


سكتت لحظة ثم نظرت له بفضول: هو أنت أصلا ليه عملت كده؟ كنت بتختبر ثقتي فيك؟ ولا كنت عايز تشجعني؟


هز رأسه نافيا، وصوته عميق موضحاً: ولا ده، ولا ده، أنا عملت كده عشان أوريكي إن مهما حصل هتلاقيني معاكي، مهما وقعتي، إيدي هتتمد ليكي وهنقذك، لو جوه النار، إيدي هتتمد ليكي، وهخبيكي جوه قلبي، ومهما واجهتي من صعوبات ومشاكل، هتلاقيني واقف قدامك، أحميكي بروحي، الموت الحاجة الوحيدة اللي تقدر تفرقنا.


تبسمت ماسة برقة، بعينين لامعتين، بصوت خافت: بس أنت لسه قايل إن حتى لو مت، هتموت بعدي بثلاث ثواني، يعني حتى بعد اما أموت، هنبقى مع بعض في الجنة يعني مش هنتفرق.

ثم نظرت في عينيه بعشق وثقة، بابتسامة رقيقة مرسومة على شفتيها، وأصابعها تداعب لحيته برفق وهي تهمس أضافت: أنا كمان، هموت بعدك بثانية واحدة.

انخفضت يدها بهدوء لتستقر فوق قلبه، وضغطت بخفة كأنها تُقسم أمامه: اللحظة اللي قلبك هيقف فيها، قلبي كمان هيقف. لأني مستحيل أقدر أعيش من غيرك.


ارتسمت ابتسامة حب بينهما، تبادلا نظرات عميقة، اقترب وجهه من وجهها ثم تبادلوا قبلة عميق مليئة بالشوق والعشق مرت لحظات، ثم ابتعدت ماسة قليلًا، وهي تبتسم بخجل.


رفع سليم حاجبه: ها لسة بتثقي فيا؟


هزت ماسة رأسها بابتسامة واثقة: انا مش بثق غير فيك.


ابتسم سليم بتحدي: يبقى متخافيش لو زقيتك جامد زي مابتحبي.


ضحكا معًا، وبدأ سليم يدفع الأرجوحة بقوة كما تحب، هذه المرة، لم تخف، بل أمسكت الحبال بثبات، ووجهها مطمئن، عيونها مليئة بيقين أن سليم مستحيل يفلِتها من إيده، أو يسمح لها أن تقع.


بااااك

عادت ماسة من تلك الذكرى، هي وسليم كأنهما يعيشان اللحظة ذاتها، عينيها مشتعلة بالضيق والغضب، بينما عيناه تحملان بقايا ابتسامة خفيفة، ذكره ذلك الموقف بما كان بالنسبة له حياة، غير أنه لم يجد منها الآن ذلك الشوق أو المحبة التي كان ينتظرها.


ظلت صامتة، كأن الزمن توقف بينهما، وصلوا إلى الشاطئ، كان مكي أول من هبط بينما توقفت ماسة مكانها جسدها متصلّب، وكأن فكرة الهروب تراودها من جديد، رفعت عينيها الحادتين نحوه، نظراتها تصرخ "سأفعل ما أريد"، لكنه يعرف هذه النظرة جيدًا.


رفع يده وأشار نحوها وهو يقول بصرامة: بتفكري تهربي.


لكنها لم ترد.


في لحظة اندفعت ماسة للهرب، ركضت خطوات قليلة، إلا أن سليم أنقض عليها بسرعة، قبض على يدها بعنف، حاولت ضربه، أن تفلت منه، وحتى عضته من أذنه بقوة، افلتها للحظة، لكنها لم تكن قادرة على النجاة، بالكاد ركضت بضع خطوات، لكنه لحق بها مرة أخرى، أمسكها من ذراعها بقوة وهو يهتف بصوت رجولي غاضب: بــس بقي يا ماسة بطلى جنان.


ماسة وهي تحاول أن تتملص منه: أوعي! مستحيل أرجع معاك.


أدارها إليه، صوته حاد: ماسة قولت كفايه بقي.


توقفت أمامه، تتنفس بعصبية، نظراتها متحدية، تكاد تتطاير شررًا: مستحيل أستسلمك، وحتى لو عرفت ترجعني النهاردة، أعرف إني ههرب منك تاني وثالث وألف، لحد ماخلص منك للأبد.


ارتسمت بعينيه نظرة مرعبة، لم يرد فقط صاح بصوت جهور وهو ينظر لها بثبات: مكي هاتلي حبل بسرعة.


تراجعت ماسة برأسها، عينيها متسعة: هتعمل إيه يا مجنون؟!


أجاب بصرامة: مضطر.


أقترب أحد الحراس وأعطى الحبل صاحت ماسة وهي تحاول التملص: أوعى متقربش مني.


لكن سليم أمسكها بقوة من ذراعيها، بينما تولى مكي ربط يديها معًا، رغم محاولاتها العنيفة للإفلات منه.


نظرت إليه بعينين دامعتين، ممتلئتين بالغضب: أنت مقتنع باللي أنت عملته ده؟


قرب وجهه منها، صوته ثابت وهادئ: أنتِ للي اضطرتيني لكده.


ثم أضاف بصرامة: يلا هتمشي جنبي بهدوء ولا أسحبك بالحبل.


اخفضت ماسة رأسها قليلًا، حاول كبح دموعها ثم بدأت تتحرك أمامه، خطواتها مثقلة، يداها مربوطتان، محاطة بالحراس من كل جانب جسدها مستسلم، لكن قلبها يصرخ.


كان الألم مرسومًا على ملامحها، تتكئ على خطاها بصعوبة، وقدمها تؤلمها فتسير ببطء وهي تعرج.


لمح سليم ذلك، نظر إليها بقلق وهو يشير نحو قدميها: رجلك مالها؟


رفعت عينيها نحوه بحدة، وأجابت بصوت جاف: ملكش دعوة.


تابعت سيرها وهي تحاول الصمود، اقترب منها قليلًا ومد يده ليمسك ساقها، لكنها تراجعت للخلف،صارخة: متحطش إيدك عليا أنت فاهم؟!


أصر، بصوت أقل حدة لكنه عميق: خليني أشوف فيها جرح ولا لا.


سارت ماسة أمامه ببطء، يداها مقيدتان، خطواتها مثقلة وهي تحارب دموعها كي لا تنفلت.


قالت كلماتها بمرارة، وكأنها طعنة في قلبه: متقلقش، حتى لو فيها جرح، مش بيوجع قد الجرح اللي جوه القلب، يا ريت كل الجروح تبقى زي كدة.


 باقي الفصل السابع 👇

توقف سليم في مكانه، والتفت إليها ببطء، وعيناه معلقتان بوجهها.


كانت نظراته موجعة وحزينة، كأنها اعتراف صامت بالذنب، وكأن قلبه يحمل سبب كل ما أصابها، مرت بينهما لحظة صمت ثقيلة، تشبه الهواء الذي يثقل الصدر، وكأن الزمن نفسه توقّف.


ونظراتها هي الأخرى لم تخفِ شيئا، عيناها تلمعان بدموع متشبعة باللوم والخذلان.

كأنها تهمس من أعماقها دون صوت: "أنت السبب... أنت اللي كسرتني."


احنى رأسه قليلا بحزن، وكأن الحمل على كتفيه صار أثقل، لم يستطع مواجهة عينيها طويلًا، رمش سريعًا ليخفي دمعة كادت تنحدر، أدار وجهه جانبًا وهو يتنفس بعمق، ثم مشى ببطء، خطواته باردة، مترددة.


تحركت ماسة معه مجبرة، وهي تحاول أن تخفي دموعها التي انسابت أخيرا.


كلاهما يسير في صمت قاتل، الحراس يحيطون بهم من الجانبين، إلى أن وصلوا إلى السيارات المتوقفة عند طرف الشاطئ.


توقفت ماسة لحظة، تنظر للسيارة وكأنها تنظر إلى قفص جديد.

بينما سليم يقف بجانبها، كتفيه منحنيان قليلًا، ووجهه مثقل بالذنب، لكن دون أن ينطق بكلمة واحدة.


صعدت ماسة إلى السيارة بصمت، وتبعها سليم، جلست تنظر إلى يديها المقيّدتين بضيق بينما كانت السيارة تتحرك ببطء وسط الطريق.


نظر سليم إلى مكي قائلا بجدية: شوف لنا محل نشتري لبس، بدل البهدلة دي.


رفعت ماسة حاجبيها بضجر، وهي تهز يديها المربوطتين: هو أنت هتفضل رابطني كده لحد مانوصل القاهرة؟


سليم بهدوء متعمد: آه.


مالت بجسدها نحوه، وهي ترفع حاجبيها مع شفتيها العليا، ثم قلبت وجهها بطفولة ممزوجة بسخرية وهي تقلده: آه... هو إيه الـ(آه)؟! اه إزاي يعني؟!"


ابتسم سليم بخفة، فالعناد الذي تبديه لم يكن إلا متعة خاصة له، أما هي، فكانت ترى في الأمر قيدا خانقا.


اقتربت ماسة منه مركزة النظر في ملامحه: متهزرش! فكني بقي، مش ههرب تاني، اصلا تعبت مش قادرة.


نظر لها سليم بطرف عينيه، ونبرة صوته تحمل مزاحا خفيفا: يعني مشكلتك إنك مش قادرة بس؟!


ماسة بإصرار، وملامحها متحفزة: آه.


شدد سليم على كلماته وهو يبتسم: أعتراف جميل.


ماسة برجاء، وهي تلمس الحبل الخشن على معصمها: فكني بقي.


أدار سليم وجهه نحوها قليلًا بنفاد صبر: لا مش هفكك، أنتِ إللي بتجبريني أعمل كده وأستخدم معاكي الأساليب دي، أنا مكنتش هعمل كده، بس أنتِ كنتِ هتقلبي بينا العربية، إيه الجنان ده؟ المرة دي ربنا سترها، والسواق كان ماشي بالراحة وكنا وسط زحمة، بس بعد كده؟ طالعين على الصحراوي هتموتينا.


رفعت ماسة صوتها برجاء وهي تحدق في عينيه بعناد: قولتلك مش هعمل حاجة! طب فك إيد، وسيب إيد، بجد مش عارفة أقعد براحتي، هضرب السواق يعني بأيد واحدة؟


أمال سليم رأسه ساخرا بنبرة جامدة: آه تعمليها، ما أنتِ بقيتى قوية بقي.


مالت ماسة بجسدها ناحيته، تنظر له برجاء: ياسيدي، ورحمة بنتي ماهعمل حاجة، فك بقى.


صمت سليم للحظه أمام رجائها، عيناه تتنقل بين وجهها ويديها، قبل أن يتنهد ويبدأ بفك يديها، حرر يدا واحدة فقط، لكن قبل أن تكتمل فرحتها، ربط الحبل في يده هو !


رفعت ماسة حاجبيها بدهشة: أنت بتعمل إيه؟


سليم بهدوء مغلف بالعند: علشان يوم ماتفكري تهربي أو تعملي حاجة، تلاقيني وراكي في قفاكي.


التفتت ماسة بعيدا، وهي تزفر بقوة وتعلق بسخرية: والله أنت في قفايا من غير حبل.


أدارت وجهها نحو النافذة، ومع ذلك ظلت بين الحين والآخر تحرك يدها المكبلة، بحرية مقصودة كنوع من العند.


سليم بصوت آمر وهو يراقب حركتها: بطلي فرك


حدقت ماسة فيه بعناد أكبر: مش عاجبك؟ فكني.


سليم بتحدي مماثل: مش هفكك، وأعملي إللي أنتِ عايزاه.


توقفت السيارات أمام أحد المحلات.


قال سليم لمكي بصرامة وهو يفتح باب السيارة: خرجلي كل الناس إللي جوه، أنا عايز المكان فاضي، مش عايز غير بنت واحدة من إللي شغالين بس.


هبط مكي ومعه بعض الحراس، يتحركون بصرامة جعلت الموجودين ينصاعون دون مقاومة، وكأنها سلطة صامتة مفروضة، تحدث مكي مع المدير بحزم، ثم عاد بعد قليل قائلاً: خمس دقايق بس والناس إللي جوه هتطلع، وندخل مكانهم.


سليم: أهم حاجة، المكان فيه كل إللي هنحتاجه؟


هز مكي رأسه ايجابا: اه؛ عندهم قسم رجالي ونسائي.


بعد قليل


دخل سليم وماسة المكان، والحراس يتحركون من حولهم، استقبلتهم فتاة في منتصف العشرينات، جميلة المظهر، بإبتسامة لطيفة.


الفتاة: أهلاً وسهلاً يا فندم، نورتونا، أجيب لكم إيه؟


ماسة بضجر، وهي تطوي ذراعيها: أي حاجة.


سليم: ممكن فستان يومي بس يكون مقفول، (ثم نظر لجسد ماسة سريعا) هاتي لها مقاس مديم (M) .


ردت ماسة فورا بإعتراض حاد: ميديم إيه؟! أنا بلبس اسمول (S).


رفع سليم حاجبيه ساخرا: مين دي إللي تلبس اسمول (S)؟ أنتِ تخنتي.


الفتاة بإبتسامة دبلوماسية: هو فعلاً عنده حق، حضرتك شاطر جدا.


رفعت ماسة حاجبها بسخرية: أنتِ هتقوليلي عن شطارته.


التفتت الفتاة إلى سليم: طب وحضرتك يا فندم؟


سليم: عايز بنطلون وقميص.


حدقت ماسة في جسده وقالت بسخريه: هاتي له لارچ، أصل شكل نفسه كانت مفتوحة الفترة إللي فاتت، فبقي متختخ.


ضحك سليم بخفة من تعليقها ولم يرد، تحركت الفتاة وجلبت لهم بعض الملابس.


قدمت لماسة فستانين: إيه رأيك يا فندم؟ الفستان ده ولا ده؟


أخذت ماسة واحداً بسرعة، دون تفكير: هاخد ده.


أما سليم فأعطته الفتاة بنطالاً وقميصاً، تحركا معًا إلى غرفه القياس لتبديل ملابسهم، ومازالت يده مربوطة بيدها، كأنها وصلة لا انفصام لها.


دخلت ماسة أولا إلى غرفة القياس، ألتفتت نحوه بضجر: متفك إيدي علشان أقيس الهدوم.


سليم ببرود: لا.


ماسة بإستنكار حاد: هو ايه اللى لا؟ اومال هقيس ازاى؟ ما أنا أكيد مش هدخلك معايا!


سليم ساخرا وهو يرفع زاوية فمه بإبتسامة: شكلك نسيتي، أني جوزك.


ماسة بحسم: مش هتدخل معايا.


أرخي سليم الحبل قليلا عن يده، وترك مسافه من الحبل أطول قليلا بين يده ويدها؛ لكى تتمكن من دخول الغرفه بمفردها: ماشي، مفيش مشكلة، اديني طولت الحبل أهو 


دخلت ماسة وهي تتمتم بكلمات غاضبة، بينما بقي هو بالخارج، كانت تقوم بتحريك يدها بعند بطريقة عنيفة؛ لكي تؤلمه.


رفع سليم صوته بضجر: إيه العبط إللي بتعمليه دى؟ دراعي؟


ماسة من الداخل، وهي تشد الحبل بعناد: والله مش عاجبك، فكني.


سليم بحسم: مش هفكك.


ماسة ببرود مصطنع: خلاص اتحمل، اعملك ايه؟ مش بلبس.


ضحك سليم: طيب يا طفله يا عنيدة.


أخرجت ماسة لسانها وهي تقلب وجهها بسخرية، ثم بدأت بتبديل ملابسها، وضغطت على أعصاب سليم وهي ترفع يدها المقيدة بيده وتقول بتذمر بين الحين والآخر: ارفع إيدك ... نزل إيدك!


كانت تشد بعنف أحيانا متعمدة أن تجعله يتألم قليلا، بينما هو يجاهد أن يكتم ضحكتة، مدركا أنها لا تفعل ذلك إلا لتغيظه،

بعد دقائق خرجت من غرفة القياس مرتدية فستان أزرق بلون عينيها، بسيط لكنه أنيق، ينسدل حول جسدها برقة ونعومة.

رفعت ذقنها بتحدي صامت، وكأنها تنتظر تعليقه، لكن عينيه انزلقتا عليها سريعا ثم تحولت لشيء آخر بينما كانت الفتاة العاملة تقف بجانبه تنظر إليه مطولا بإعجاب، نظرة لم تلتقتها إلا عين ماسة. 


فوقفت في المنتصف بينهم وقالت بحدة: بقولك إيه ممكن تجيبيلي كوتشي مقاس٣٧، وهو ٤١.


الفتاة سريعا: حاضر، بس على فكره الفستان جميل عليكي.


ثم التفتت بخجل نحو سليم: وعلى فكرة يا فندم، القميص التاني هيبقى أجمل على حضرتك.


اشتعلت الغيرة في عيني ماسة، فرفعت حاجبيها وردت ببرود مصطنع: لا، هو القميص اللي معاه هيبقى أحلى شكراً، مطلبناش رأيك.


ثم شدت صوتها وهي تشير لسليم: بعدين أنا مراته، وهختار له بنفسي. 


تراجعت الفتاة بخطوة مرتبكة: آسفة يا فندم.


ماسة بحدة: طب يلا، روحي هاتي الحاجة اللي قولتلك عليها.


الفتاة: حاضر يا فندم.


مد سليم يده يفك أول زرار من قميصه، لكن ماسة استدارت له بسرعة وأمسكت يده برفعة حاجب: أنت بتعمل إيه؟


سليم بهدوء: بفك القميص.


رفعت حاجبيها بحد وغيرة: بتفك القميص هنا؟! أمال عاملين أوض القياس ليه؟! لم نفسك احسنلك.


ثم رمقت الفتاة التي ما زالت تتأملهم من بعيد فوقفت أمامه لتحجب الرؤيه عنها، وقالت بصوت حاد غاضب: يلا، ادخل.


ابتسم سليم ودخل غرفة القياس وهو يبتسم بخفة، عيناه تلمعان لأنه يعرف جيدا أن ماسة غيورة جدا، مهما ابتعدت المسافات أو اشتدت المشاكل، الغيرة كانت دوما تفضحها.


ظلت ماسة واقفة مكانها، تقاوم النظرة للفتاة التي عادت بالصدفة تمر من أمامها.


توقفت الفتاة ونظرت إليهما باستغراب ثم تمتمت بفضول: هو أنتم ليه مربوطين كده؟ حاجه غريبة أوي!


ماسة ببرود وهي تطوي ذراعيها: ملكيش دعوة.


الفتاة بابتسامة جريئة: على فكرة، جوزك عسول خالص.


اتسعت عينا ماسة بصدمة، وزفرت بعصبية واقتربت منها: طب بقولك إيه؟! امشي من وشي بدل ما أقسم بالله أجيبك من شعرك! واوريكي العسل اللي على حق.


تحركت الفتاة مبتعدة سريعا بخوف، بينما سليم كان يستمع من الداخل والابتسامة لا تفارقه، الغيرة بالنسبة له كانت الدليل الأوضح أن قلبها ما زال معه، والعودة قريبة لا محال.


رفع سليم يده بعنف فجأة فانشد الحبل بينهما وتألمت


دخلت له قائلة بعصبية: بقولك إيه، متشدش إيدي! شدتك غير شدتي، شوف الحجم والحجم، متستعبطش.


ضحك سليم موضحا: والله غصب عني، أنا مش طفل زيك.


خرجت وهي تضيق عينيها وتقلب وجهها بسخرية، وبعد أن انتهى سليم من ارتداء ملابسه، جلست ماسة على مقعد خشبي تحاول ارتداء الكوتشي، لكن ألم ركبتها والجرح في كفها منعها.


اقترب منها سليم سريعا: استني، أنا هلبسهولِك.


ماسة بعناد: ملكش دعوة بيا.


سليم بضجر: هو إيه اللي مليش دعوة؟ أنتِ مش قادرة تلبسي كوتشي؟ أنا هلبسهولك.


ماسة بصرامة: قولتلك لا.


قلب عينيه بغضب من عنادها الذى لا ينتهي، ثم نظر نحوها مرة أخري، وقال بصوت أجش، بتلك البحة التي تجعل جسدها يرتجف لا إراديا: ماســة


لكن هذه المرة لم تتهرب من نظراته بل واجهته بعينيها مباشرة، وقالت بتحدي واضح: لا


إلا أن سليم أمسك بيدها وأجلسها برفق على المقعد، رفع الفستان قليلًا ليكشف الجرح العميق في قدمها.


قال بنبرة معاتبه لكنها حادة: بصي جرحك عامل إزاي؟ إيه العند ده؟


ماسة بصوت خافت وهي تشعر بألم: مكنتش عارفة إنه كده.


تنهد سليم، وأمسك هاتفه واتصل بمكي ليحضر إسعافات أولية وبعد دقائق جاء مكي ومعه الحقيبه اعطاها لسليم ورحل.


رفع سليم الفستان مره أخرى لكن ماسة منعته وهي تقول: مش عايزة منك حاجة.


سليم بصرامة: اسكتي شوية.


بدأ ينظف جرحها، وهي تحاول أن تكتم ألمها.


سليم بهدوء وحنو: معلش، استحملي شوية.


وفي هذه اللحظه خانتها ملامحها فتغيرت تلك النظرة المتحفزة في عينيها وانقلبت إلى أخرى مختلفة نظرة شوق وحب دفين، فكل حركة منه، وكل لمسة مليئة بالاهتمام والحنان، أعادت لها ذكرى الأيام التي كان يغمرها فيها بنفس الدفء.

شهيقها خرج متقطعا وهي تتابعه، أصابعها ارتجفت بخفة، وكأنها تقاوم رغبة جامحة في أن تلمسه، ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها دون إرادة منها، ابتسامة فضحت الصراع بين قلب يستسلم، وعقل يقاوم.


مدت يدها ببطء، أصابعها تكاد تنغرس في خصلات شعره، عينيها تلمعان بشوق مكتوم، وأنفاسها ترتجف من قربه، لكن فجأة أغمضت عينيها بقوة، كأنها تهرب من ذكرى موحشة اجتاحتها بلا رحمة، ذكرى تركت بداخلها جرحا لم يندمل، تجمدت يدها في الهواء، ثم سقطت ببطء إلى جانبها، بينما هو ظل منشغلا بما يفعل، لم يلحظ العاصفة التي دارت بداخلها.


أنهى سليم تنظيف الجرح، ثم البسها الحذاء بنفسه،وساعدها على الوقوف وهو يتسائل بحنان: قادرة تقفي؟


ماسة بنبرة مكتومه: قادرة.


ارتدى هو الآخر حذاءه، ثم خرجا معا.


تذمرت ماسة أثناء سيرهما: هو أنت ناوي تفضل رابطني كده؟ فكني بقى.


سليم بجمود: مش واثق فيكي.


تنهدت وتبعت خطواته حتى وصلا إلى السيارات، فتح سليم الباب الخلفي فصعدت ماسه اولا وهو خلفها


وكان قد أمر سليم باحضار بعض أنواع الطعام الذي تحبه، فهو يعلم يقينا أنها جائعة ولم تأكل شيئا منذ الصباح، وحتى إن تناولت قليلا، فبعد الركض والوقوع في الماء وماجرى لها، لابد أن الجوع قد اشتد عليها، لم يفكر في نفسه لحظة واحدة، بل انشغل بها وحدها، مع أنه هو أيضا لم يذق شيئا منذ الصباح.


مد إليها كيسا بنيا وهو يبتسم قائلا:امسكي، جبتلك الأكل اللي بتحبيه: شاورما، وشيبسي لايون بالكاتشب، هتاكلي ولا هتعندي


نظرت إليه لحظة بصمت، عضت أسفل شفتيها، ثم مدت يديها وأخذت منه الكيس قائلة بحسم: هاكل عشان جعانة.


جلست تفتح السندويتش بهدوء، وأخذت لقمة صغيرة، ثم ارتشفت العصير، كان المشهد عاديا بالنسبة لها، لكن عيني سليم لم تتركها لحظة، كان يتأمل كل حركة تقوم بها وكأنها لوحة مرسومة أمامه، تلك الطريقة التي ترفع بها شعرها عن وجهها، نظرة عينيها العابرة، حتى ابتلاعها للطعام، كل شيء كان يذيب قلبه.


انتبهت ماسة إلى نظراته، فشعرت أنه ربما يكون جائعا مثلها، فمدت الساندوتش نحوه قائلة: مالك عمال تبصلى كده ليه؟ عايز حتة؟


ابتسم سليم وهز رأسه "بلا" بصمت.


ماسة بنبرة ساخرة في محاولة لإخفاء اهتمامها به: لا خد حتة، بدل متفضل تبصلي في الأكل وبطني توجعني.


ابتسم سليم، وأخذ منها الساندوتش، ثم قسمه نصفين، وأخذ الجزء الذي كانت تأكله وأعطاها النصف الآخر.


علقت ماسة: ده بتاعي أنا، واكله منه، خد التاني.


رد سليم بنبرة مغازله هو يتناول الساندوتش بتلذذ من الموضع الذى تناولته منه: لا، ده أحلى وأطعم بكتير. 


وأخذ يلتهمه بشغف، بينما عيناه لا تفارقها، تبادلا النظرات للحظات، ثم حولت ماسة وجهها إلى الأمام وأكملت طعامها في صمت.


كانت قريبة منه إلى حد يشعر بأنفاسها تلامس بشرته، كلما ارتفعت رموشها ونظرت أمامها، كان يلتفت سريعا كأنه يخشى أن تضبطه متلبسا بالنظر إليها، ومع ذلك لم يستطع منع نفسه من التحديق بها.


ابتسم بضعف وهو يراقبها وأخذ يحدث نفسه بصمت "شكلها جعانة فعلا، بس أنا جعان أكتر منها، جعان قربها، ضحكتها، ريحتها وأنا بضمها لقلبي، ثم نظر إلي السماء برجاء وتمني وهو يهمس في نفسه: يارب صبرنى، لحد ما قلبها يلين ويسامح"

مرت نصف ساعة تقريبا، حتى بدأت عيناها تذبلان من النعاس أسندت رأسها إلى النافذة، وغفت قليلا، ضاق قلب سليم بالحنين، تمنى لو استندت عليه بدلا من الزجاج البارد، وما هي إلا لحظات حتى مالت بجسدها في نومها على كتفه.


سرت قشعريرة دافئة في جسده، كأنها أول مرة يلمسها حقا، شعر أن الدنيا كلها توقفت عند هذه اللحظة، كل نفس يخرج من صدرها كان يتسرب إلى قلبه كأجمل موسيقى، ورائحة شعرها التي لامست وجهه جعلته يغمض عينيه للحظة وكأنه يتنفس حياة جديدة.

أسندت جسدها أكثر، حتى وقعت رأسها على صدره، ضمها بذراعه في حنان، لم يكن مجرد عناق عابر، بل كان كأنه يحتضن دنياه كلها بين ذراعيه فكان احساسه لا يو صف وكان قلبه يضحك من فرط السعاده.

لمح مكي المشهد، فتبادل مع سليم نظرة صامتة وابتسامة خفيفة، ثم أشاح بوجهه بعيدا ليتركهما يتمتعان ببعض الخصوصيه. 

ظل سليم يضمها إلى قلبه طوال الطريق، لم يغمض له جفن، فقط يراقب ملامحها النائمة بعين لا ترمش، كأنه يحاول أن يعوض تلك الأشهر التي غابت فيها عنه.


في أحد النوادي الرياضيه الثامنة مساءً 


ملعب الإسكواش 


تردد صوت الكرة في ملعب الإسكواش، والعرق يتصبب من جبين ياسين ولوجين. ازداد حماسها مع كل ضربة، حتى فازت في النهاية. ارفعت يديها عاليا وتصفق لنفسها، وتقفز في مكانها بفرحة طفولية.


لوجين بسعادة: أخييييرا! أنا مش مصدقة نفسي، شهر يا ياسين علشان اغلبك! 


وظلت تتنطط وتضحك بينما هو يقف يشاهدها والابتسامه لا تفارق وجهه.


اقتربت لوجين منه وهي تقول بحماس: لازم النهارده نوثق الحدث العظيم ده، تعال نتصور! وكمان المفروض يبقي لى جايزه.


رفع ياسين حاجبه ساخرا: كل دى علشان كسبتيني مرة؟!


لوجين: أيوه طبعًا! هو إني أكسبك حاجة سهلة؟ بقالي شهر بحاول.


ضحك ياسين وأشار بيده: طيب ماشي تعالي نخرج بره، نشرب حاجة، علشان عطشان، وبعدين نبقي نشوف موضوع الجايزه دى بعدين.


امسكت يده وهي تقول: تعال هنا، الصور الأول.


اخذت تلتقط العديد من الصور بسعاده، وهو مستسلما لها، وبعد الانتهاء خرجا من الملعب، يمشيان جنبا إلى جنب، كلاهما يرتدي ملابس رياضية أنيقة، حتى جلست لوجين على مقعد حجري تحيط به الزهور والأشجار، وذهب ياسين لإحضار العصير، ثم جاء بعد بضع دقائق وجلس بجوارها، وقدم لها كوب العصير البارد.


لوجين بابتسامة: النهارده كان يوم حلو أوى، أحلى حاجة إننا الصبح عملنا تجديف، أنا عمري مجدفت قبل كده، وحكاية إننا نزلنا نعوم في النيل فكره تحفه، رغم إن كنت حاسة إني هغرق أكتر من مره.


ياسين وهو يحتسي العصير : أيوه ما هو العوم في النيل مش سهل، التيارات شديدة، بس احنا كنا في حتة مش خطر.


لوجين بحماس: تجربة حلوة وتستاهل، عايزين نفكر في تجربة جديده الأسبوع الجاي (صمتت وأخذت تفكر لحظة) أنا عمري مطلعت قمة الهرم، تيجي نطلعها؟


ضحك ياسين، وقال باستنكار: هرم في الصيف؟ بتهزري!


ضحكت لوجين: خلاص، عمرك أكلت أكل شعبي في مكان شعبي؟


هز ياسين رأسه نافيا: مليش في الأكل ده أصلا.


لوجين بابتسامه: ولا أنا، متيجي نجرب؟


ياسين باعتراض: لا شوفي فكرة تانية، الأسبوع طويل، نبقى نفكر سوا.


أخذت رشفة من العصير ثم نظرت له: نالا عاملة إيه؟


ياسين بابتسامة: الحمد لله.


لوجين بأسف: لسه برضو الأمور مع مدام هبة مش قد كده ؟


ياسين بحدة بسيطة: بقولك إيه، إحنا اتفقنا منتكلمش في الموضوع ده خالص


حاولت لوجين اقناعه: ما هو مينفعش برضو يا ياسين، دي مراتك والأفضل إنك تحسن علاقتك بيها.


ياسين بضجر: وهل أنا محاولتش؟ وهي ليه متحاولش زى؟ ليه أنا بس اللي أبذل مجهود؟ وهي لا؟! ده حتى مش بتقدر اللي بعمله ودايما بتواجهه بصد، وعلى ايدك.


سكت لحظة، ثم غير الموضوع فجأة بابتسامة صغيرة: بقولك، هتلبسي إيه بكرة؟


لوجين باستغراب: إيه السؤال الغريب ده؟


ياسين: عادي يعني هتلبسي فستان لونه إيه؟ عشان ألبس الكرافته على لون فستانك.


ضحكت لوجين: حلوة الفكرة، بس لو عملناها هيفتكرونا كابلز وأنت راجل متجوز، فلا مينفعش.


ياسين باصرار: لونه إيه بس؟


لوجين مدت شفتيها: مش عارفة.


ياسين بابتسامه: البسي أسود، أنا كده كده ديما بلبس الكرافته السودا، فمحدش هيركز، هيفتكروها صدفه.


لوجين مازحة: أنت لئيم! طب أنا هلبس أحمر بقى.


ياسين بضحكة خفيفة: اتفقنا.


كادت أن ترد لوجين ولكن قاطعها ارتفاع رنين هاتفها يعلن عن اتصال، نظرت للشاشة، وإذا بها نغم أختها، ردت بسرعة: ألو، إيوه يا نغم؟

ثم انتفضت واقفه بهلع، وقالت بصوت مرتجف: إيه اللي حصل؟ ماما مالها؟ طب أنا جايه حالا.


ثم ركضت بسرعة بخطوات متوترة وياسين يلحقها، وملامح الخوف على وجهها تسبق خطاها.


ياسين باستفسار وهو يحاول ملاحقه خطواتها السريعه: فيه ايه فهمينى، ايه اللى حصل؟


لوجين وهى مستمره بالركض بخطوات سريعه كأنها تسابق الزمن، وبدأت دموعها بالانهمار من فرط خوفها، وردت بصوت متحشرج: ماما يا ياسين ماما تعبانه أوى.


وصلوا عند السيارات 


كادت أن تصعد سيارتها، لكن أوقفها ياسين: أنتِ مش هتعرفي تسوقي وأنت بالحاله دى، تعالي معايا.


امسكها من يديها وساعدها في أن تصعد سيارته وانطلق نحو منزلها بعد أن سألها عن العنوان.


كانت لوجين طول الطريق تبكي وهي تطلب من ياسين أن يسرع وكان يحاول طمئنتها بكلمات هادئه.


فور وصولهما الى شقتها هرعت للداخل إلى غرفة أمها، لتجدها مستلقية على السرير، تتنفس بصعوبة.


لوجين بانهيار: ماما! الأزمة جاتلك تاني؟!


نغم باضطراب: فجأة تعبت اوي، مش عارفة أعمل إيه.


اقترب ياسين، ونظر للحالة بهدوء وحسم: متخافوش هتبقي كويسه إن شاء الله، بس لازم ننقلها للمستشفي فورا.


أشار لحراسه، فدخلوا بسرعة وحملوا الأم بحذر إلى السيارة، جلست لوجين بجوارها، تمسك بيدها وتبكي، بينما ياسين بجانبها يحاول تهدئتها.


وبالفعل وصلوا الى المستشفى الخاصه بعائله الراوى، استقبلهم الطبيب الذي قد سبق وأن تلقي اتصال من ياسين قبل قليل بالاستعداد لاستقبال الحاله، ادخلوها إلى غرفه الطوارئ لكي يقوموا بعمل اللازم لها.


كان ياسين يقف مع لوجين ونغم في الخارج، وكانت كل واحده تحتضن الأخري بانهيار وبكاء.


نظر لهم ياسين، وقال بنبرة مطمئنه في محاوله لتهدئتهم : اهدوا ، وبإذن الله تكون بسيطه.


ابتعدت لوجين عن نغم قليلا وقالت بنبرة متحشرجه: بسيطة ازاى يا ياسين؟! أنت مشوفتش شكلها كان عامل ازاى؟ أنا مليش غيرها بعد بابا الله يرحمه.


انهارت دموعها أكثر، فمد ياسين يده يربت على كتفها، ثم جذبها ناحيته برفق، لم تستطع المقاومة، فانهارت في حضنه تبكي للحظات قصيرة بينما يده تطبطب عليها برفق ومواساه.


خرج الدكتور من غرفة الطوارئ بعد دقائق، رفعت لوجين رأسها من حضن ياسين بسرعة، وهي تمسح دموعها بخجل، ونظرت للطبيب بلهفه: خير يا دكتور، طمني، ماما عامله ايه؟


الدكتور بعمليه: متقلقوش، الحالة مستقرة، دي أزمة صدرية طبيعية، هتفضل الليلة على الجهاز، وبإذن الله تخرج بكرة.


اقترب ياسين منها وهو يربت على كتفها: الحمد لله، مش قولت لك إن شاء الله بسيطه متقلقيش.


هزت لوجين رأسها وهى تحاول تمالك أنفاسها، بعد أن اطمئن قلبها: الحمدلله.


اقتربت نغم منها وهي تقول: انا هخش اطمن عليها


هزت لوجين رأسها بالإيجاب.


بينما نظر ياسين لها وهو يقول: تعالي نشرب حاجه عشان أنت لونك مخطوف خالص.


لوجين بنبرة متعيه: أنا مليش نفس اشرب حاجه.


سحبها من يديها: اسمعي الكلام يلا 


تحركا معا للخارج، جلسا معا في حديقة المستشفى، الهواء كان هادئا ورائحة الزهور تحيط بالمكان.


عاد ياسين يحمل كوب العصير ووضعه أمامها.


تنهدت وهي تمسح دموعها: شكرا يا ياسين، على وقفتك معايا، مش عارفه من غيرك كنت عملت ايه.


ابتسم بهدوء: بطلي عبط، هو أنا عملت حاجه.


ردت بإصرار: آه طبعا، دخلتني مستشفى زي دي، وجبتلها أحسن دكاترة، ولحد دلوقتي مسبتنيش.


ياسين بابتسامة ناعمه: دى حاجة بسيطة، المهم نتطمن عليها وتقوم بالسلامه.


سكت لحظة ثم نظر إليها بجدية: تعرفي إحنا أصحاب من فترة طويلة بس أول مرة أعرف إن والدك متوفي.


تنهدت بحزن وقالت بنبرة مهتزه: متوفي من سنتين، بس لسه وفاته مأثره فيا، بحاول أضحك وأهزر وأبين اني تخطيت بس صدقني فراقه صعب وواجعني، يمكن بضحك علشان أهرب من الوجع، بس اكتشفت إنك مبتنساش مع الوقت، أنت بس بتتعود على الألم، بتفضل عايش والوجع جواك، لحد ميبقى جزء منك.


سكتت لحظة والدموع تعود إلى عينيها: أكتر حاجة مخوفاني إني أفقد أمي هى كمان، أنا مش هقدر اعيش من غيرها، مليش في الدنيا غيرها هي وأختي، مش هقدر أخسرهم، ساعات بدعي أموت قبلهم عشان محسش بوجع فراقهم، بس بعدين أفتكر إن نغم لسه صغيرة، مش هتعرف تعيش لوحدها، زي ماشوفت، كانت قاعدة جنب ماما تعيط ومعرفتش تتصرف، إحنا التلاتة ملناش غير بعض.


ابتسم ياسين وهو يربت على كتفها: ربنا يخليكوا لبعض، ومتتوجعوش في بعض أبدا، وبكرة نغم تكبر وتشد حيلها، وتقدر تواجه المواقف دي، هي عندها كام سنة؟


بهدوء: 18 سنة.


ابتسم: صغيرة اووى، تعرفي إن دي أول مرة نتكلم في حاجه تخصك؟ أنا مش عارف إزاي مسألتكيش عن حياتك، رغم إنك دايما بتهتمي تسأليني.


قالت بخفة رغم الدموع: عادي، أنتم الرجالة أصلا كده.


ضحك ياسين: إيه ده؟ أنا حاسس إني بتشتم دلوقتي.


هزت رأسها: لا، مش بتتشتم، بس أنتم فعلا كده،

مش بتهتموا بالتفاصيل زينا، مع إنها حاجه مهمه.


اقترب منها أكثر وقال: بصي، هنسيب الخناقه ده لبعدين، دلوقتي في حاجة أهم، أنا مش عايزك تقلقي، إن شاء الله هتبقى كويسة، وأنا جنبك، مش هسيبك.


لوجين باعتراض: لا لا، روح، أنا أصلا مش هروح، هفضل معاها لحد متخرج بكرة.


ابتسم وهو ينظر في عينيها: وأنا كمان مش هسيبك وهفضل معاكي، أنتِ ونغم لحد متروحوا بكره، علشان لو احتاجتوا أى حاجه.


ابتسمت له بهدوء، وتبادلا النظرات لثواني قصيرة، وهي تتأمله بابتسامه صامته.


في احد الكافيهات الثامنة مساء


جلست مي مقابل رشدي، على أحد الطاولات، تتأمل الكوب أمامها وهي تحركه ببطء، بينما عينا رشدى تتابعها باهتمام.


رشدي بابتسامة هادئة: اتمنى بقى أكون خلال الفترة اللي فاتت قدرت اكسب ثقتك وأخد فرصة.


رفعت مي عينيها نحوه، وصوتها خرج مترددا: الصراحة آه، ودي حاجة بالنسبة لي غير متوقعة.


أمال رأسه قليلا وهو يسألها باستغراب: ليه غير متوقعة؟


تنهدت، وأخذت لحظة قبل أن تجيب: لأني دايما كنت متخيلة مواصفات لشريك حياتي مختلفة عنك تماما حتى لو أنت بتحاول تتغير، بس يعني كنت ديما متخيلاه مبيشربش، ولا ليه علاقات نسائيه سابقه، اكون أنا اول شخص في حياته، يكون طموح زي، وحنين ميهونش عليه زعلي، والأهم من ده كله إنه يقدر مشاعري، أنا أصلا إنسانة رومانسية وعاطفية جدا.


ثم ضحكت ضحكة قصيرة تحمل المرارة: مع إن الناس بيشفوني من برا بيقولولي "أنتِ عقلانيه جدا يا مي، ديما بتحسبيها بعقلك." بس الحقيقة إني دايما بحسبها بقلبي!


أطرقت برأسها نحو الطاولة، وصوتها صار أقرب للهمس: بس بخبي ده، بخاف، بخاف انجرح واتوجع، عشان زي مقولتلك، أنا إنسانة حساسة جدا عكس الظاهر، وأي حاجة صغيرة ممكن تكسرني.


ابتسم رشدي: معاش ولا كان اللي يكسرك يا ست البنات طول مارشروش موجود.


ضحكت بخجل، بينما هو تابع حديثه بنبرة جادة: أنا كمان انبسطت قوي الفترة اللي فاتت، حسيت إني ببذل مجهود لأول مرة في حاجة وبتمناها، وحاسس إنها هتتم، ببذل المجهود ده من قلبي لإني متأكد إن أنا هلاقي في الآخر الحاجه اللي أنا عايزها، وبعدين انا بقالي فترة مش مبطل شرب 100% بس بيمر عليا أيام مبشربش ولو شربت اخري كاسين.

صمت للحظه ثم تابع بنبرة تحمل الكثير:

عارفة، أنا يمكن أكتر واحد من إخواتي بيشوفوني فاشل، عشان ضيعت مشاريع كتير، ولأني مندفع بزيادة، واسلوبي شويه مختلفه عن أخواتي؛ يعني أنا بالنسبه لهم راجل سوقي وبيئه

مدت وجهه، تابع بمرارة: ساعات بحس إني لو قدمت حاجة مش هاخد الامتنان اللي محتاجه، يعني مفروض لو حد معروف إنه بيغلط كتير لما ينجح حتى لو نجاح صغير يلاقي سيل تشجيع حواليه؟ أنا عمري محسيت بده، يمكن عشان كده بطلت أبذل جهد، عارف إن في الآخر مش هاخد اللي عايزه.


رفعت مي حاجبيها وقالت بعقلانية هادئه: هو أنت ليه تعمل حاجة وتستنى تشجيع من حد؟ اعمل الحاجة لنفسك، ابذل المجهود وحقق الهدف عشانك مش علشان حد تاني، حس بطعم النجاح، وقولي لنفسك أنا مش مستني حد يشجعني، أنا هشجع نفسي، انا استاهل ده، استاهل احب نفسي واقدرها، لكن لو فضلت مستني تشجيع الناس مش هتوصل، هتفضل واقف مكانك، ويمكن ترجع كمان لورا، مش كل الناس بالضرورة يكون هدفهم إنهم يدفعوك لقدام، أغلبهم هدفهم بيكون إنهم ينزلوك تحت، حتى لو أهلك.


سكتت لحظة ثم أضافت بنبرة مترددة: أنا دايما حاسة إن عندك مشكلة مع أهلك، مش قريب منهم.


أومأ ببطء وقال بنبرة صادقة: للأسف ده حقيقي، بس اعتقد يا ست البنات إنك لما تلاقي حد بيشجعك، هيديكي حماس وطاقة تقوي شغفك، لكن لما تعملي زي معملتيش كإنك مش متشافة، ده هيوجعك وهيقتل شغفك، بلاش تقنعي نفسك بكلام مش واقعي، لو الإنسان كان ينفع يعيش لوحده كان ربنا خلق آدم بس، لكن ربنا خلق آدم وحواء عشان يكملوا بعض حواء عشان تشجع آدم وتدعمه وتطبطب عليه، إنما لو فضلت لوحدي، بعمل كل حاجة لوحدي، ومبلاقيش لأي حاجة بعملها نظرة تقدير، هعمل شوية، وبعد كده هكبر.


أمالت مي رأسها قليلا وقالت بهدوء: بص أنا معاك، بس أنا قصدي لو بتحب حاجة، اعملها متبطلهاش لمجرد إن ملقتش اللى يشجعك تكمل فيها، وأكيد في يوم من الأيام هتلاقي الشخص اللي يقدر ده، ويشوف أبسط حاجة بتعملها حاجة عظيمة جدا، ويديك الامتنان والتشجيع اللي محتاجه.


ابتسم رشدي ابتسامة مترددة وقال وهو يرمقها بجدية: اتمنى تكوني أنتِ بصراحة، عشان أنا عندي أمل فيكي.


ساد الصمت لحظة، قبل أن يقطعه رشدي بنبرة أكثر جرأة: طب إيه، بقالنا شهر ونص سوا، ومقولتليش موافقة نرتبط ولا لأ، أنا عن نفسي معجب بيكي، واتعودت على وجودك، مش عارف إذا كانت المشاعر اللي عندي دي حب ولا حاجة تانية، بس أنا بطلت اشرب خمره واسهر مع العيال عشانك، اعتقد دي تعتبر سنه أولى حب، وأنتِ؟


تنفست مي ببطء وقالت: أنا كمان حاسة بحاجة بس مش قادرة أحددها، ممكن نستنى شوية ونشوف، بس يا رشدي أنا مليش في جو الارتباط وكده، يعني مش هعرف.


ابتسم رشدي وهو يقترب بجسده للأمام قليلا: ياستي، لو حابة إننا نتأكد من مشاعرنا وأهلنا يبقوا عارفين أنا موافق.


مي بهدوء: بس على أساس مرتبطين مش متصاحبين أنا معنديش الكلام ده في البيت عندي.


ضحكت رشدي وهي يهز رأسه: متصاحبين، مخطوبين، متجوزين، متفرقش معايا المسميات!


نظرت له باستغراب وهي تضيق عينيها.


فرد على تلك النظرة وهو يغمز لها: أنا بكلمك بجد، شوفي إنتِ حابة إيه؟ نتعرف على بعض، نقرب أكتر، شوفي المسمي اللى يريحك ، وأنا دايس معاكي، المهم نبقى مع بعض.


كانت مي تنظر إلى رشدي بترقب، بينما يلوح في عينيها خليط من الفضول والقلق، ارتشفت القليل من العصير، ثم وضعته برفق على الطاولة.


مي، وهي تميل برأسها قليلا: يعني أنت معندكش مشكله لو اتخطبنا وعرفنا بعض أكتر واتأكدنا من مشاعرنا خلال الخطوبة؟


رشدي بابتسامة هادئة: معنديش أي مانع، المهم نبقى سوا، خلاص، كلمي أهلك وأنا هكلم أهلي، أنا أصلا كنت عايز أعرفك على ماما وأخواتي، وسليم كمان رجع من سفره.


مي بابتسامة صغيرة: حمد لله على سلامته، بس اشمعنا سليم يعني؟


تنهد رشدي بخفة: أصل ده أخويا المقرب.


مي بتعجب: بس أنا فاكرة إنك قولت إنك مش قريب منه؟


ضحك رشدي وهو يحرك يده في الهواء كأنه يدفع اعتراضها جانبا: يا شيخة، أنا قولت كده قبل كده؟ عموما، بصي، هو أنا بنحب بعض عادي، بس دايما في بيننا شد، هو أكبر مني بحاجة بسيطة، شهور قليلة يعني، تقريبا 10أو 11شهر.


فتحت مي عينيها بدهشة طفولية: إيه ده! مامتك بتخلفكوا بسرعة كده ليه؟


ضحك رشدي بصوت عالي بسخرية: آه والله يا ست البنات، أمي دى ست غريبه متفهميهاش، بتقولك إن هي بنت ذوات وتحسيها جايه من عصور العثمانيين بتوع الطرابيش، وهي عامله زى الأرنبة جايبانا ستة ورا بعض، أربع ولاد وبنتين، أمال سابت ايه للفلاحين الأوباش على كلامها دى؟!


ضحكت مي من قلبها: أنت فظيع، أقسم بالله!


أشار رشدي إليها بإصبعه مازحا: أوعي بس لو اتجوزنا تجيبيلي فرقة كبيرة كده، أنا عايز طفل واحد بس.


مي، برقة: بس أنا بحب الأطفال.


رفع رشدي حاجبيه متحديا: طب معاكي لحد اتنين، أكتر من كده لا.


رفعت مي حاجبيها بدهشه: مبتحبش الأطفال؟


ضحك رشدي ضحكة قصيرة ساخرة: مبحبش الإخوات.


مي باستغراب: يعني إيه مبتحبش الإخوات؟


مرر رشدي يده في شعره كمن يعترف بسر دفين: ما أنا بقولك إحنا عيلة مفككة، فمش حابب ولادي يبقوا زي أنا وإخواتي.


مي بنبرة هادئة لكن حاسمة: مع الاحترام الشديد لوالدتك وتربيها ليكم، بس موضوع إنك تتعلق بإخواتك وتحبهم وتبقوا حنينين على بعض، ده مسؤليه الأب والأم، وأنا مستحيل أسمح إن ولادي يطلعوا مبيحبوش بعض أو في بينهم أي ضغينة، حتى لو كانوا ورا بعض زيك أنت وأخوك وأختك، أنا حاسة إنكم ورا بعض، بينكم سنة، صح؟


اومأ رشدي برأسه ببطء: تقريبا آه.


مي وكأنها تحاول تحليل الموقف: طب ممكن تكون مامتك لما كانت بتجيبكم ورا بعض، كانت بتدي اهتمام أكتر للبيبي الجديد وده عمل أثر سلبي وهي مخدتش بالها؟


ضحك رشدي ضحكة مُرة وأشار بيده في الهواء: لا يا ستي، أمي أصلا مكانتش مشاركه في تربيتنا، إحنا تربية دادات، معلش، لازم أكون صريح وواقعي معاكي.


مالت مي بجسدها للأمام مؤكدة: عموماً، أنا مستحيل أسمح ببعدى عن طفوله ولادي، واعتقد اللي أنت عشته مش هتحب ولادك يعيشوه، فأكيد هتكون بتحاول تمنعه أو تصلحه، في مقولة بتقول "فاقد الشيء لا يعطيه". أنا بقى بشوف إن هيعطيه أحسن كمان.


تأملها رشدي للحظات، عيناه يلمعان بخيط من الحزن الممتزج بالإعجاب.


ابتسمت مي بخفة: بس ده لو هو سوي، لأنه حس بطعم بالحرمان، فهيحب قوي إن ولاده يعيشوا ويدوقوا الحاجة اللي اتحرم منها.


ضحك رشدي: ده لو سوي بقى.


رفعت مي حاجبها وتسائلت باستغراب: وأنت مش سوي؟


زفر رشدي ببطء وهو يرسم ابتسامة باهتة على وجهه: والله يا ست البنات، أنتِ اللي تقوليلي.


صمتت مي لحظه، ثم قالت بصوت هادئ لكنه واثق: أنت عندك عيوب أكيد، وحاسة إن عندك تشوهات كده في التربية وفي العيلة، بس برضو حاسة إنك بتحاول تبقى حد كويس.


اتسعت عينا رشدي بدهشة خفيفة: تعرفي إن دي أول مرة أحس إني فيا حتة من سليم؟ أصل سليم زي كده، وبرضو اتغير عشان مراته.


أخذت مي نفسا عميقا، وأسندت كفيها على الطاولة كمن يشرح درسا مهما: بص يا رشدي، الطفل لما بيتولد بيتولد نقي، مفيهوش أي حاجة ملوثة، أكيد بيحمل جينات الشر، لكن لما بيكبر التربيته والبيئة المحيطة هي اللي بتشكل شخصيته، طبعا رقم واحد، الأم والأب، لو الأم فرقت في المعاملة، أو كانوا للأسف زي حالتك كده متكلين على الدادات، ده بيعمل خلل، وكل ما المسافة بين الأولاد والأب والأم تبعد، خاصة الأم، كل ما الخلل ده بيكبر أكتر...

صدقني يا رشدي، مفيش إنسان شرير 100% أو طيب 100%، حتى لو تشوهنا كان سبب إننا نسلك طريق الشر، ففيه وقت من الاوقات استمرارنا فيه هيكون باختيارنا، لإنك لو فضلت طول عمرك سالك نفس الطريق مبتحاولش تغيره يبقى أنت عاجبك الوضع وعايز تفضل عايش في دور الضحيه، لكن لو بتحاول تبعد عنه يبقي أنت فيك بذرة كويسة، بس مش عارف إزاي تخرجها، أو مش لاقي اللي يخرجها لك، أو مش شايف حد يستحق تخرجها علشانه.


صمت رشدي يتأملها، بينما هي تكمل بتركيز: أنا لاحظت في كلامك أكتر من مره، إنك خايف لو عملت حاجة كويسة أو اتغيرت وبطلت الحاجات الغلط اللى بتعملها، محدش يحس بيك، خايف محدش يقولك: الله يا رشدي، إنت بطلت، الله يا رشدي إنت عملت! خايف يواجهوك بالاستنكار والتقليل والسخرية، واضح إنك كل مرة كنت بتحاول تعمل حاجة كويسة كنت بتلاقي ضحكة أو تعليق ساخر من أقرب الناس ليك، وده السبب اللى خلاك مكمل فاللى بتعمله عايز تلفت الانتباه ليك حتى لو بالأفعال المشينه! 


هز رشدي رأسه ببطء وهو يبتسم ابتسامة شاردة: بصي يا مي كلامك حلو ويمكن نسبه كبيره منه صح، بس أنا هفضل مقتنع إن عمر الإنسان مبيتغير الا لو حس إن حد مقدر تغيره دى، إنما التغيير لمجرد التغيير لأ، بعدين احيانا الظروف بتجبرك على الاستمرار في طرق أنتِ مش عايزاها، ولكن مجبره! يمكن علشان وصلتي لمرحله مبقاش ينفع فيها الرجوع ! فات الأوان يعنى..!


نظرت مي له بعينين قلقتين: هتفضل دي مشكلتك يا رشدي، أحنا لو منفعناش مع بعض وبعدنا، للأسف هترجع تاني تشرب كل يوم وتسهر زى الأول وأكتر، هترجع للصفر من تانى، لإنك رابط تغيرك بيا مش علشان خاطر نفسك.


طأطأ رشدي رأسه وقال بصوت منخفض: ده أكيد وقولتلك أنا بعمل كده عشانك، وبتمنى أفضل كده.


مي بصوت منخفض: أنت خايف متعرفش تكمل؟


رشدي بنبرة متوترة: الصراحة آه، هتسامحيني لو ضعفت؟


صمتت مى لحظه تفكر، ثم قالت بحيرة: مش عارفة، اللي بتمناه منك إنك تكون صادق معايا، المسامحة والمغفرة دي مقدرش أوعدك بيها، لأن مش طول الوقت المغفرة بتكون قرار صح.


وضع رشدي يده على صدره، وقال بنبرة صادقه: لا من ناحية الصدق هتلاقيه عندي، بس زي مقولتلك، اللي أنا فيه ده جديد عليا، هو أنا منكرش إني حابه، بس مش عارف هقدر أكمل ولا لأ، بس بحاول، ووجودك في حياتي مشجعنى استمر.


عضت مي شفتها بتردد: رغم إن كلامك يخوف، وعقلي عمال يقول لي اهربي، بس جوايا حاجة بتقول لي اصبري...!


رشدي بابتسامة صغيرة، ونبرة مازحه، وهو يشاور بإصبعه: امسكي بقى في اللي بتقولك اصبري دي، عشان أنا بحبها، لكن الجزمة اللي بتقولك اهربي، خليها تبعد عني بدل ما ازعلها، أنا مهوي.


ضحكت مي بخفة، ثم أمالت رأسها: هو أنت مش قولتلي من شوية إنهم بيقولوا عليك كلامك سوقي؟


اومأ رشدي برأسه، فتابعت مي بتأكيد: على فكرة عندهم حق، أنا لاحظتها في فيك كتير، بس كنت بتكسف اقولك.


انفجر رشدى في ضحكة قصيرة: لا ما أنا عارف إني وقح، بس دمي خفيف.


ساد صمت قصير قطعه رشدي بابتسامة عريضة: بقولك ايه، بفكر اعزمك على العشا عندنا في القصر الملكي.


ضيقت مي حاجبيها بغضب: أنت عبيط ولا إيه؟ مين دي اللي تيجي عندك البيت؟


فتح رشدي ذراعيه مازحا كأنه يقدم عرضا مسرحيا: بسم الله الرحمن الرحيم، ايه اللى حصل، فين مي الكيوت، الله أكبر، انصرف!


ضحكت مي رغما عنها: لا مبنصرفش، محمود مبينصرفش 


رشدي متعجباً: مين محمود؟


تصنعت مي الجدية: العفريت اللي بيركبني اسمه محمود، فاظبط نفسك كده بدل ما اسيبه عليك.


انفجر رشدي ضاحكا: أنت قلبتي سواقة توك توك في ثانيه كده ليه!؟


ضحك رشدي، وهو يلوح بيده موضحا: وبعدين أنتِ ظلمتيني، أنا كنت هخلي أمي فايزة هانم تستقبلك على باب القصر، ومعاها فريدة وأختي الحرباية قصدي صافيناز، شوفتي ظلمتيني ازاى! وأنا بحاول أبقى مؤدب.


هزت مي رأسها برفض: مش هينفع والله، مفيش الكلام ده.


رشدي بابتسامه: لا فيه الكلام ده عادى، مش هجيبك القصر اغتصبك يعني، لو عايز أغتصبك، هغتصبك في أى حته مش هيفرق المكان.


زمت مي شفتيها بغضب: رشدي! بطل وقاحة.


رفع رشدي يديه كأنه يستسلم: أنا آسف، بس بجد لازم تيجي عشان تتعرفي عليهم، بصي إحنا العشا بتاعنا بيبقى الساعة سبعة، أنا هخليه ستة مخصوص عشانك، فايزه هانم بنفسها هتستناكي هي وفريدة على باب القصر علشان تطمنى إنى مش جايبك اشربك حاجه صفرا واتغرغر بيكي، تمام كده؟


زمت مي شفتيها: سيبني أفكر، وأرد عليك.


رشدي بمزاح: تعالي بمزاجك بدل ما اخطفك.


فنظرت له وضحكت بيأس.


الإسكندرية. الثامنة مساءً 

منزل مصطفى 

جلس مصطفى مع إيهاب ونبيلة وعائشة في الصالة، مازالوا يحاولون استيعاب ما حدث، كان الصمت يخيم عليهم حتى دخل محمد وجلس بينهم.


محمد متسائلا بتعجب: يعني هي خلاص مشيت؟


إيهاب: آه، جه أخدها.


محمد بقلق: عمل لكم حاجة؟


تنهد إيهاب: ولا عمل أي حاجة.


عائشه بضجر: شوفت بقى أنت كنت ظالمها إزاي؟ البنت وقفت قصاده، مسكت السكينة على رقبتها، وكانت هتموت نفسها، وهو أصلًا معملش أي حاجة، أهي ماسة اللي كنت شاكك فيها!


إيهاب بحدة: عائشة، ملوش لازمة الكلام ده.


عائشة بضيق: لا، ليه لازمة! كان كل شوية يضايقها بالكلام، ويتهمها إنها هتأذينا.


محمد بحده: أنا كنت خايف عليكوا يا عائشه ومش هقول لك تاني؟! بس هو عرف مكانها منين؟


مصطفى بحنق: محدش يعرف، ولا إحنا عارفين حتى حصل لها إيه، ولا عمل فيها إيه، ولا هنعرف نوصل لها إزاي؟ ثم جز على أسنانه بغضب: غبيه، ما أنا قولت لها هحميكي!


نبيلة بستنكار: كنت هتحميها إزاي هو إحنا قدهم؟


محمد بشدة: بالظبط، أنت عملت اللي عليك وزيادة، ست شهور قعدت في بيتك معززة مكرمه، وواخد بالك منها، فعداك العيب، وأهي خلاص مشيت، ركز بقى في حياتك، لازم تفهم إن دلوقتي سليم بقى عارفك، يعني أي محاولة منك ممكن تأذيك.


مصطفى بعزم: اسمع يا محمد، أنا مبخافش ومفيش حاجة هتوقفني عن حماية ماسة، أنا وعدتها إني هحافظ عليها، هي مشيت من هنا عشان خايفة علينا، خايفة سليم يعمل فينا حاجة، وأنا مستحيل أخذلها.


محمد باندهاش: أنا مش فاهم إيه إصرارك إنك تساعدها؟ لو حبيتها يا دكتور، تبقى رميت نفسك في النار، فوووق!


مصطفى بحزن صادق: هو أنتم ليه كلكم فاكرين إني بعمل كده عشان بحبها؟

سكت لحظة، ثم تابع بنبرة مكسورة: هو حب فعلاً، بس حب من نوع تاني، من غير هدف، من غير سبب، من غير حتى إني أكون عايز تمن أو مقابل، هي بالنسبة لي أخت وصديقة، إنسانه معندهاش أي حد يقف جنبها، إنسانه مكسوره وماده ايديها ليا وبتقولي "ساعدني، أنا مليش حد"، وأنا وعدتها إني هقف معاها.


وقف محمد أمام مصطفى، ونظر إليه بثبات: أنا حقيقي مش فاهمك، ما إنت وقفت وساعدتها بما فيه الكفايه، عايز منها ايه تاني!


مصطفى بحدة: محمد، لو سمحت، ملكش دعوة بالموضوع ده.


محمد بشدة: لا ليا، عشان أنت أخويا وصاحبي! مينفعش أشوفك بترمي نفسك في النار واقف أتفرج عليك، لازم أفوقك من اللي أنت فيه ده.


مصطفى بإصرار ونظرة حادة: وأنا مفيش حاجة هتوقفني عن مساعدة ماسة، ثم نظر إليه بشك: بس يا محمد، أتمنى من قلبي، إنك متكونش السبب في إن سليم يوصل لها.


اتسعت عينا محمد بانفجار: أنت اتجننت! أزاى تشك فيا؟! أنا لو كنت عايز أقوله، كنت قولت من ساعة ماعرفت، أزاى تفكر إن ممكن أعمل حاجه تكون سبب في أذيتكم!؟ بس أنا مش هحاسبك على كلامك دلوقتي، عارف إن دماغك مشغولة، أنا مش واطي للدرجه دى يا مصطفي، صحيح كان نفسي تمشي امبارح قبل بكره، لكن مستحيل أعمل كده، مش عشانها هي، لكن علشان خايف عليكم أنتم.


قاطعهم إيهاب بنبرة جدية: بدل متقعدوا تتخانقوا، لازم تفكروا هتتعاملوا إزاي مع سليم، أكيد المواجهة دي مخلصتش هنا، متنساش يا مصطفى، أنت روحت له لحد عنده وسألته عن مراته لو عندها أخت.


نبيلة بتوتر: عندك حق يا إيهاب، أنا نسيت الموضوع ده والله، هتعمل إيه يا مصطفى؟ بقولك إيه، سيبله المستشفي، ونسيب الشقة دي كمان، نروح مكان تانية.


عائشة بصدومة: إيه اللي بتقوليه ده يا ماما؟!


نبيلة بدموع: بقول الصح، انا خايفه عليكم يا بنتي، رغم إني حاسة إنه مش هيعمل حاجة، بس على رأي المثل حرس ولا تخون.


مصطفى بإصرار: أنا لا همشي ولا هنقل من مكاني، وهروح شغلي عادي جدا، وبكرة هكون في المستشفى، أنا مبخافش، ومعملتش حاجه غلط علشان اخاف منها، أنا حافظت له على مراته، وبعدين باللي ماسة حكته عنه، فسليم مش شخصية بتلعب وبتضرب في الضهر، لو كان عايز يعمل حاجة، كان عملها من أول ما دخل، دى غير أنه ممضيني على شروط جزائيه وهو بيعيني في المستشفي بتاعته كفيله تخليني عايش عمرى كله في السجن، فلو كان عايز يعمل حاجه كان استخدمهم ضدى. 


نبيلة بتنهيدة: ماشي يا ابني بس يعني منروحلوش بيته ونقوله "إحنا أهو" !


مصطفى بهدوء: متقلقيش يا أمي، أنا كل اللي في دماغي دلوقتي حاجه واحده، يا ترى عمل فيها إيه؟


عائشة بصوت مرتعش: قلبي بيقول لي إنه مش هيعمل حاجة، هيعتذر لها.


ساد الصمت لوهلة، والعيون تتبادل النظرات القلقة. 


فيلا سليم وماسة الجديدة تقع على ضفاف نيل المعادي العاشرة مساءً 


تتقدمها مساحة واسعة من الأرض المفروشة بالعشب الأخضر، تتخللها بعض أشجار النخيل والأشجار المتناثرة، يليها امتداد النيل الهادئ، الفيلا مكونة من طابقين كبيرين، وخلفها حديقة فسيحة تضم حمام سباحة واسعا.


سيارة سليم 

وحين وصلوا، مد سليم يده وربت على خدها برفق ليوقظها، فانتفضت فجأة، شهقت بأنفاس مضطربة وحدقت فيه باستغراب، حاجباها معقودان، وعيونها متسعة كأنها تستفيق من كابوس، ارتعشت أناملها وهي تمسح على وجهها بتوجّس، قلبها يخفق بسرعة.


سليم بنبرة هادئة وهو يرفع كفه أمامها كعلامة أمان: إيه يا ماسة، خوفتي كده ليه؟ أنا سليم إحنا وصلنا.


أطرقت قليلا ثم مررت بكفيها على وجهها، وأزاحت شعرها إلى الخلف بحركة مرتبكة، قبل أن تهمس بصوت خافت، منكسر: من ساعة مهربت، أي حد يصحيني وأنا نايمة، بصحى مفزوعة.


تأملها سليم بعينين مثقلتين بالأسى، ارتسمت على وجهه نظرة تحمل أكثر مما قاله صوته: بس خلاص، أنا بقيت جنبك، ولا بتخافي مني؟


رفعت عينيها نحوه ببطء، نظرة جانبية يكسوها الخذلان، وقالت بصوت مختنق بدموع مكتومة: زمان كنت بخاف من كل الناس إلا أنت، إنما دلوقتي مبخافش من كل الناس، بس بخاف منك أنت.


سقطت كلماتها على قلبه كطعنة غادرة، كغصة نبتت في أعماق روحه، فاهتز كيانه بأكمله، غامت عيناه بالدموع، وتثاقلت أنفاسه، كأنها تتسرب من صدر مثقل بجرح لا يندمل.


اتلفتت ماسه الي النافذة، عيناها تمسحان المكان بفضول متوتر: هو إحنا فين؟


سليم بنبرة مكتومه: في فيلتنا.


ترجل سليم من السيارة أولا، ثم لحقته ماسه بخطوات مترددة، يديهما مازالت مكبلة ببعضها لكن عينيها جالت في المكان بذهول، بدي غريبا عليها.


ضيقت عينيها بتعجب: إحنا فين بجد؟!


سليم بصوت ملئ بالوجع: مقولتلك، دي فيلتنا الجديدة، محبيتش نرجع في اللي فاتت، فيها ذكريات مبحبش أفتكرها.


زفرت بسخرية ثقيلة، ارتفع طرف شفتيها بمرارة: آه، تقصد السجن الجديد.


حدق سليم النظر في عينيها مباشرة: لا، فيلتنا الجديدة.


نظرت ماسة حولها ببطء، وكأنها تحاول أن تهضم المكان: بس سجنك الجديد المرة دي أحلى.

ثم رفعت يدها نحو الأفق بإشارة صغيرة، عيناها تلمعان بدهشة صافية: هو ده النيل؟


اقترب منها أكثر، صوته يتهدج بخفة: أيوه، الفيلا دي على النيل مباشرة تحبي تشوفي؟


سارت بجانبه في صمت، لكن عينيها بين الحين والآخر تلمع بخوف يختلط بانبهار !

قالت وهي تنظر نحو قيدهما: هو أنت مش هتفك البتاع ده؟ ولا لسه خايف؟


توقف لحظة، نظر إليها بجدية بالغة: هفضل خايف طول ما أنتِ مش هنا برضاكي.


نظر له ماسة بصمت، ثم خطت إلى الحافة، عيناها انبهرتا بالمنظر الممتد أمامها؛ الأرض الخضراء تعانق النهر


ابتسمت باندهاش صادق، صوتها خرج عفويا: بس المكان هنا تحفة المنظر جميل.


ابتسم سليم، وملامحه تطرقت للحظة إلى الحنين: أنا فاكر مرة قولتيلي نفسك تسكني على النيل.


التفتت إليه وهى رافعه حاجبيها بدهشه: أنا؟


أومأ وهو يسترجع الذكرى بعينين مبتسمتين: أيوه، كنتي قاعدة تتفرجي على التلفزيون، وقولتيلي قصتنا شبه فيلم أفواه وأرانب، وسألتي لو في بيوت زي بيت البطل، فاكرة؟


ابتسمت برفق، وموجة من الذكريات مرت على وجهها: أيوه، كان قبل ما أهرب بفترة صغيرة، قولتلك عايزة بيت شبه ده، وأنت وعدتني إنك هتجيب واحد شبهه.


التفتت بجسدها نحو المبنى، وسليم أشار بيده بحماس : المنظر من الناحية التانية أجمل، فيه جنينة كبيرة، وحمام سباحة

ثم وجه عينيه نحو النيل مشيرا: شايفة الجزيرة اللي في النص دي؟


تبعته بعينيها حتى وقعت على جزيرة صغيرة في قلب النهر: مالها؟


سليم بابتسامة: هي كمان ملكنا، بفكر نعمل فيها بيت صيفي صغير، ونروح له بالمركب.


ارتفع حاجبها بسخرية، وضحكة خافتة مشوبة بمرارة أفلتت منها: ده أنت عندك أمل إني هكمل معاك.


سليم بصوت مختنق بغصة: وليه متكمليش معايا؟


رفعت يديها المقيدة في وجهه بعزم: وليه أبقى معاك وأنا كده؟ وبعد كل اللي حصل؟


قاطعها بنبرة مخلصة، وعيناه تتوسلان: عشان أنا بحبك.


اغرورقت عينيها بالدموع، وشهقت بصوت مكتوم، وصاحت بحرقة: الحب لوحده مش كافي! أنا اتعلمت في الفترة اللي فاتت إننا ممكن نكون بنموت في بعض، بس مينفعش يجمعنا سقف واحد، هنقتل بعض، وده اللي حصل!


اقترب منها خطوة، عينيه تبحثان عن أي خيط أمل في ملامحها: ماحنا المفروض نتعلم من أخطائنا، ونتجنب كل حاجة بتزعلنا من بعض، نشوف المشكلة فين ونحلها، بعدين أنا قولتلك أني كنت واخد حبايه هلوسه ليه مش مصدقاني؟


أشارت نحوه بحدة خافتة، صوتها يرتعش لكنها متمسكة بالقوة: أنت مبتاخدش الكلام ده يا سليم!


رد سريعا بعينين متسعتين، وكأنه يحاول إثبات براءته: اتحطتلي، صافي هي اللي حطتهالي، كانت قصادكي بس أنا اللي شربتها، وعاقبت صافيناز لما عرفت.


ماسة بصوت مخنوق بالدموع: بس أنت كنت عارف بتعمل إيه!


حاول سليم اقناعها بملامح متوترة: هي مش بتخلي العقل مغيب كليا، بس يعني بتخلي الواحد مش عارف يتحكم في نفسه ولا يسيطر على تصرفاته، بتخليه يوصل لقمة فقدان السيطره ويتمادى.


ارتسمت على شفتيها نصف ابتسامة وجع، والدموع تنحدر من عينيها: وأنت اتماديت بزيادة، أوعى تفتكر إني ممكن أسامحك، حتى لو أخدت حباية مش هسامحك، أنا مستحيل أنسى اللحظات دي، ولا هنسى إني خرجت من البيت في نص الليل بقميص النوم وأنا مضروبه علقة موت وخايفه وتايهه لوحدى وسط الصحرا.


هبط سليم على ركبتيه أمامها، عينيه غارقتان في الدموع، نظرت له باستغراب وهو يمسك يدها المرتجفة قائلاً: طب قولي لي أعمل إيه عشان تسامحيني؟ أركع؟ أديني ركعت يا ماسة! وبقولك سامحيني، اغفري لي غلطه ارتكبتها غصب عني ولا أنا كنت قاصدها ولا كنت ناويها حتى.


اشاحت ماسة عينيها لأعلى، وقالت بصوت مكتوم: لو سمحت متعملش كده.


رفع سليم عينيه نحوها وهو يضغط على يديها بدموع تملئ عينيه: هعمل كده عشان أنا غلطت في حقك، ولازم اعتذرلك عن ذنبي، من فضلك بصيلي ... بصيلي يا ماسة، شوفيني بعينك وبقلبك.


أخرجت انفاس ساخنه، ونظرت له بعينين محترقتان بالدموع، وقلب يعصف الما، تابع سليم على نفس ذات الوتيرة بعينين تترقرق بالدموع: بس لازم تفهمي وتصدقي إني مستحيل كنت أعمل كده وأنا واعي حتى 1%، أوعي تكوني فاكرة إني مش بتعذب! أنا كمان فاكر الليلة دي، كل تفاصيلها بتطاردني، أنا كمان مش مسامح نفسي، بس لما عرفت بموضوع الحبايه قلبي ارتاح، قولت لما تعرفي هتسامحيني عشان هتفهمي إني مكنتش واعي، هتعرفي إن سليم حبيبك يستحيل يعمل في ماسته حبيبته كده، عشان أنتِ قلبه ، حته منه، روحه ومستحيل تهوني عليه... انا أضحي بنفسي ولا اضحي بيكي يا ماسه، صدقيني، أنتِ عاقبتيني عقاب شديد، عارفه يعني ايه ست شهور بعيد عن عيني، وعن حضني وعن قلبي، وعقلي اللي فيه مليون سؤال " ياترى ممكن تكوني فين؟! وبيحصل لك ايه؟!" أنتِ متعرفيش أنا حصل لي ايه في فترة غيابك، موت في الثانيه الف مره، اللي خلاني أعيش طيفك اللي كان زي ظلي، وصوت جوايا كان بيقولي "ماسة بخير"، أنا متفهم وجعك ورفضك، بس ارحميني، عقابك أنتِ كان اشد قسوه مني والله العظيم.


ثم رفع يدها إلى شفتيه ووضع قبلة عليها، وصوته يرتجف: سامحيني على كل غلطة غلطتها والله العظيم المرة دي مختلفة، مستحيل اكرر اي حاجه بتزعلك، أنا اتغيرت، وفي حاجات كتير حصلت أنتِ متعرفيهاش، أنا بتت....


قاطعته ماسة بحدة وشدت يدها منه بعنف: ولا عايزة أعرفها! سليم مبيتغيرش، سليم حتى لو اتغير شوية، بيرجع تاني اسوأ من الأول، كفايه كدب بقى، كفايه حرام عليك.


حاول أن يمسك يدها مرة أخري لكنها سحبتها بعنف قالت بدموع ووجع: لو سمحت ابعد عني! أنا تعبانة، كل مبشوفك او بحس بنفسك قريب مني، او إيدك تلمسني، بحس إن جسمي كله بيتوجع نفس الوجع اللي حسيته في الليلة دي، كل مأشوفك قلبي بيوجعني، كفايه.


أضافت وبدموع حارّة بنبره مهتزه بضعف: سواء كنت واخد حباية ولا لا؟! اللي حصل في الليلة دي أكبر من أي اعتذار، واللي حصل لي في فترة هروبي خصوصاً اول ثلاثه يام ميتنسيش، ده أنت خليتني ست شهور بعيدة عن أهلي، ست شهور مرعوبة، مبنامش، بستنجد بناس غريبة يحموني، خلتني خايفة منك! أنت جوزي! اللي المفروض تحميني، بقيت بتحامي في الغريب منك! تصور!


انهارت دموعها أكثر وهي تصرخ: أنت متخيل إحنا وصلنا لفين؟ متخيل؟ 


مسحت دموعها، وحاولت أن تهدأ قليلا قبل أن تضيف بمرارة: وجاي ببساطه تعتذر !! اسمع سواء كنت ظالم أو مظلوم اعتذارك مش مقبول.


رفعت يدها ومسحت وجهها، تحاول أن تمسك دموعها، وقالت بفتور متعب وهي تضع يدها على قلبها: لو سمحت كفايه، لو فعلا بتحبني كفايه كلام مش قادره اتكلم، وجودك قدامي دلوقتي واجعلي قلبي، أنا عايزة أطلع أنام، ممكن تفكني؟


كان سليم يستمع إليها وهو مازال جالسا على ركبتيه، عيناه دامعتان، يترقرق فيهما قهر دفين، كأن الوجع الذي ينخر قلبها قد تسلل إلى صدره أيضا، ورأسه منحني قليلا كأنه يهرب من ثقل الكلمات، كان يتمنى لو تمنحه تلك الفرصة التي يلهث وراءها، غير أنه في أعماقه كان يدرك أن الأمر ليس بتلك السهولة، وأن الطريق إليها محفوف بالأشواك، ولابد أن يحاول مرارا حتى يصل.


تنهد ومسح دموعه بأصابعه، وحاول أن ينهض، لكنه شعر بألم في ركبته، أغمض عينيه، وملامح الألم ارتسمت على وجهه، نظرت إليه ماسة لحظة، ثم مدت كفها نحوه لتساعده على النهوض كما كانت تفعل دائمًا، وقعت عيناه على كفها أمامه، ثم رفع بصره إليها ببطء، فرأى نظرتها الصامتة، كان يستطيع أن ينهض وحده رغم الألم، لكن فعلتها جعلته يتيقن أنها ستكون إلى جانبه، وستسانده دائما، رغم أن من دقائق قليلة مضت كان بينهما توتر ووجع.


قامت بمساعدته في الوقوف ثم سحبت يدها، اقترب منها حتى وقف امامها مباشرة وفك قيودها بهدوء،

تبادل النظرات بصمت، حتى تنهدت ماسة بتساؤل: مش هتقولي مين عرفك مكاني برضو؟


ابتسم متعجباً: شاغلك أوي للدرجه لى تعرفي مين؟


رفعت صوتها بنبرة حزينة: عايزة أعرف مين اللي خاني ومتاكدة إنك مكنتش هتعرف مكاني غير لو في حد خاني، مين يا سليم؟ محمد؟


سليم باستغراب: إشمعنا دكتور محمد؟


ماسة بصوت مبحوح، ودموعها تلمع في عينيها: لأنه أكتر واحد مكنش بيحبني وكان دايما يعاملني وحش، عامة دى موضوع طويل أوى، وأنا تعبانه وعايزه انام .


صمت سليم للحظة، ونظر لها بثبات قبل أن يتنهد ببطء وقال: لما تصحي هبقي اقولك مين؟! هو أنتِ مش عايزة تشوفي أهلك؟


التفتت له بسرعة، ودهشة: أشوف مين؟


ابتسم سليم بهدوء: تشوفي أهلك، ممكن أجيبهملك هنا، أو تروحي لهم.


ماسة بسخريه: طب وايه هي الشروط؟!


هز سليم راسه نافيا بإبتسامة هادئه: مفيش شروط بس عايز كلمة واحدة منك، وعد إنك مش هتحاولي تهربي وأنتِ معاهم.


ماسه بجمود: ولو موعدتكش؟ مش هتوديني؟


سليم بصوت هادي وواثق: هوديكي يا ماسة.


نظرت له ماسه بريبه وشك: السكينة والهدوء اللي أنت فيه ده مخوفني أكتر من وأنت متجنن، شكلك ناويلي على نية سودا !


ابتسم سليم ابتسامة دافئه، وعيناه لم تفارق عينيها: والله خالص، ولا أي حاجه.


ماسة هزت راسها بتعب: طب بجد أنا تعبانه وعايزه انام أنت فرهدتنى خالص النهارده، وريني اوضتي فين 


رفع سليم حاجبيه باعتراض ضاحكا: أنا بردوا اللى فرهدتك،ماشي يا ستي تعالي نطلع.


تحركا معا لداخل الفيلا، كان المكان دافئ، أثاثه يذكرها بعالمها القديم، صورهما معلقه على الحائط، تفاصيل تشبهها، حتى الرائحه بدت مألوفة، لم تشعر بالغربه قط، بل شعرت بالارتياح ولكن داخلها مازال الحذر لا يفارقها.


صعدوا إلى الطابق الثاني


غرفة ماسة.


حين دخلوا الغرفة، اتسعت عينا ماسة بدهشة وهي تدور حول نفسها، كل شيء على ذوقها، الأثاث، التفاصيل، حتى ملابسها مرتبة في الخزانة.


ماسة بصوت مندهش وهي تلمس كم فستان: حتى اللبس أغلبه لبسي!


ابتسم سليم وهو يتابع نظراتها: أنا جبتلك كل حاجة بتحبيها.


رمقته بقلق، وقلبها يرتجف، ثم همست وهي تشيح بوجهها: أنت مش هتنام معايا هنا؟


اشار سليم بصوت هادي نحو باب خشبي جانبي: مطلبتش أنام هنا، لو احتجتي أي حاجة، الباب ده مش باب التواليت، ده باب أوضتي، حبيت اعمل باب مشترك ما بينا، بس الباب ده مش هيتفتح أبدا من عندي طول ما أنتِ رافضة، لكن أنتِ ممكن تفتحيه في أي وقت، وقت متحتاجيني ..ثم أشار إلى الجهة المقابلة: باب التواليت الناحية التانية.


تنهد بخفة، وعينيه تلتمع بحزن: نامي وارتاحي يا ماسة، واتمنى إنك لما تصحي بكرة تبقي قادرة تتكلمي معايا، محتاجين نتكلم بس نسمع بعض بتفاهم، من غير تهديد ولا صوت عالي ولاعند، نتكلم بقلب وعقل، إحنا مكناش كده !!

ارتسمت ابتسامه صغيرة بمرارة على وجهه: ساعات لما أبص ورايا قلبي بيبكي، بيبكي علينا. 


أطرق برأسه قليلا، وانخفض صوته أكثر بارتباك: في حاجة من وقت مشوفتك نفسي أعملها، ممكن تسمحيلي أعملها بس برضاكي؟


نظرت ماسة له بصمت لوهله، فهي تفهم ماذا يريد، أراد أن يضمها الى صدره، لكنه أبى أن يفعل ذلك دون موافقتها، فهي تعرفه عن ظهرك قلب، رمشت بعينيها مرتين، ثم هزت رأسها ببطئ موافقة.


اقترب منها بخطوات ثابتة، ثم جذبها إلى صدره بشوق، كأنه يريد أن يذيبها داخل أضلعه، مرت دقائق وهو يتنفس بهدوء، ولأول مرة يشعر براحة غامرة.


أما هي، فقد أغمضت عينيها؛ في البداية كانت متجمدة في مكانها، لكن شيئا فشيئا بدأت ترتجف، ثم استسلمت لدفء أحضانه، وتركت نفسها تذوب بين ذراعيه، شعرت بالسكينة تتسلل إلى قلبها، مهما كابرت وكذبت على نفسها، ومهما أثقلها الغضب، لا تزال تشتاق إليه، ولا تجد راحتها إلا بين ذراعيه.


وبعد لحظات طويلة، ابتعد سليم قليلا، ونظر إليها بعينين يملؤهما الحب بابتسامة هادئة على شفتيه، ثم رفع كفيه ليحتوي وجهها برفق، وانحنى ليطبع قبلة قصيرة دافئة على جفنيها، وما أن فعل ذلك حتى تراجع فورا، وكأن تلك اللحظة وحدها كانت تكفيه.


ابتلعت ماسة غصتها، تحاول أن تهدئ أنفاسها، وعينيها تتهربان من عينيه، وكأن النظر إليه سيكشف كل ماتحاول إخفاءه من شوق وضعف.


ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه: تصبحي على خير يا قطعة السكر.


خرج سليم تاركا إياها وحدها، لم تفهم لماذا فقدت فجأة قدرتها على المقاومة، كانت تعرف تماما ما يريد، لكنها تلعن تلك المشاعر، وتلعن قلبها الذي يضعف أمامه برغم كل ما فعله.


جزت على أسنانها بغيظ، لائمة نفسها على ضعفها، على أنها تحولت للحظة إلى تلك المرأة التي ما زالت تشتاق اليه، التقطت المخدة بين ذراعيها، ضغطتها بقوة وصرخت فيها، ثم القاتها بجانبها وجلست على السرير، والحزن يكسو ملامحها.


بدأ صوتها الداخلي يهمس وهي تتأمل المكان من حولها،

فقالت بدموع ورجاء: ليه يا رب بترجعني ليه؟ ليه بتخليني أضعف قدامه؟ ليه مش عايز تشيل حبه من قلبي بعد كل اللي حصل؟ بعد كل اللي عمله فيا... ولسه بحبه! انا ليه معنديش كرامه كده؟! بس لا، أنا مستحيل أضعف وأسامحه.


أضافت بقهر، وعيناها تغمرهما الدموع: هو هيفضل زي ما هو، مش هيتغير لازم أفوق، سليم هيفضل سليم، بيوعد شوية ويرجع تاني زي الأول.


همست بنبرة مرتعش بتوجس: وبعدين إيه السكينه والهدوء اللي هو فيها دي؟ أنا حاسة إنه ناوي يعمل فيا حاجة، وخايفة منه.


أخذت تنظر حولها بارتباك، تتفحص الأركان كأنها تبحث عن كاميرات أو ميكروفونات مخفية، فجأة، انسابت إلى ذهنها خاطرة، ذكرى قديمة عادت لتطرق بابها.

(فلاش باك)

كانت تجلس مع إيهاب،في الصالة فيبدو أن تلك الجلسة كانت قبل مشكلة نبيلة، وكان معهما مصطفى ونبيلة.


ماسة بفضول: يعني أنا دلوقتي لو عايزة أعرف المكان ده فيه ميكروفونات أو كاميرات، أعمل إيه؟


ابتسم إيهاب وهو يجيبها: في أجهزة معينة بتكشف الحاجات دي، أجهزة استشعار، بس أكيد جوزك بيستخدم تقنيات عالية جدًا، خصوصًا إنك قولتي إن اللي بيشتغل معاه ناس مافيا على مستوى عالي، فمعتقدش إن الكاميرات أو الميكروفونات عنده بجودة متوسطة.


سكت قليلا ثم تابع: بس ممكن تعملي مكالمه وتقربي من الحيطان، الكتب، النجف، أو أى حاجه موجوده في الاوضه، وتشوفي لو في ذبذبات، أو تستعملي كشاف أشعة فوق بنفسجية بعد ما تطفي النور، ساعات بيبان لو في حاجة، وطبعا لو في كاميرا، أكيد هيكون فيها صوت مزروع معاها.


تنهدت ماسة: وأفرض إن الكلام ده مش متوفر؟


إيهاب: يبقى نشتغل يدوي، تبصي على كل حاجه موجوده في الاوضه حتى لو دبدوب أو عروسة خصوصا في عيونه، لأن ممكن يتزرع فيه حاجات، النسبة مش كبيرة إنك تكتشفي، لكن نجرب.


(عادت ماسة من ذكرايتها+


تتنهدت بعمق، ثم نهضت وبدأت تبحث في الغرفة مثلما أرشدها إيهاب: تفحصت كل شيء يملأ المكان، لكن ملامح الإرهاق بانت على وجهها، فقد أنهكتها مطاردة اليوم،وسقوطها في البحر، والسيارة التي كادت تفتك بها، لم تحتمل أكثر، فسقطت على الأرض وهي تبكي من شدة التعب ليس جسدا بل قلبا.

رفعت عينيها إلى السماء والدموع تتلألأ فيها وهنا قالت بصوت حزين مكسور:

يا رب، لو هترجعنا لبعض، خليه يتغير متخليش يحصل لي كده تاني، أنا تعبت والله تعبت، ليه بيحصل فيا كل ده؟ أنا عملت إيه غلط في حياتي؟ أنا بس حبيته، وكنت نفسي نبقى سعداء مع بعض، معملتش فيه حاجة وحشة يا رب، لو هترجعنا لبعض، غيره بس مترجعناش تاني لنفس الوجع يارب، أنا مش قادرة على الابتلاء ده، أنا أضعف من إني أتحمله، أضعف بكتير.

وضعت يدها على قلبها وكأنها تحاول إخراجه من صدرها:

يا رب، خرجه من قلبي وعلمني إزاي أقسى، يا تهديه وترجعه زي زمان.


ابسمت بوجع للحظة، ثم نظرت للأمام وكأن صورة من الماضي انطبعت أمامها، ابتسامتها تلاشت تدريجيا، لتحل محلها دموع وانهيار، وظلت تبكي بحرقة، لا تقوى على الصمود أكثر.


على اتجاه آخر غرفة سليم 


جلس سليم على الفراش، والابتسامة تملأ ملامحه، أخيرا وجدها، وأخيرا استطاع أن يتنفس بعد طول انتظار. بينه وبينها باب واحد فقط، مجرد باب قد يفتح غدا أو بعد غد، حتى لو بعد شهور، لا يهم، المهم أنها قريبة منه، وهو لن يتوقف حتى تعود إليه باكملها.


مد يده نحو الكومودينو، تناول أدويته، احتسي القليل من الماء، ثم تمدد على ظهره واضعا يديه خلف رأسه، الابتسامة لا تفارق وجهه، رغم علمه أنها حزينة، ورغم عجزه عن مداواة جرحها حتى الآن، كما يدرك أن الأيام القادمة ستشهد شدا وجذبا، وربما صراعا مريرا بينهما، لكن في داخله يقين راسخ أنه قطع نصف الطريق إليها.


الأجمل من كل شيء أن غيرتها عليه مازالت حاضرة، وقد كانت بالنسبة له الدليل الأكبر على أن حبها لم يمت بعد، كل خفقة في قلبه كانت تقول له أنها مازالت ثابتة بجانبه، وأنها مهما ابتعدت، فإنها لن تفلت من بين يديه.


تخيلها بجواره، نائمة على الفراش، ابتسامتها الطفولية تضيء المكان، اقترب منها في وهمه، مد يده ليحيط جسدها الصغير بذراعيه، همس بصوت دافئ متشبث بالحلم: هتبقي حقيقة يا ماسة، حتى لو بعد شهور، هتبقي هنا، في حضني ومش هسيبك أبدا.

ثم أغمض عينيه، مستسلما لخياله، مبتسمًا وهو يضم الفراغ وكأنه يضمها، حتى غلبه النوم.


منزل نانا.


غرفة النوم الثانية عشر صباحا.

كانت نانا على السرير برفقة عزت، حيث عاشا معا لحظات حميمة، كان عزت ينهال عليها بقبلات متنوعة، مستمتعين بليلة مشحونة بالشغف،

وفي أثناء ذلك، يلمح المشهد شخصا يتسلل خلف الشرفة، يراقبهما عبر الكاميرا؛ يبدو من مظهره رجلا غريبا.

ياتري مين ده !!!

رجاءا محدش ينسى يضغط على اللايك عشان تساعدواالرواية تنشهر💞

اللى اللقاء في الحلقة القادمة من رواية الماسة المكسورة2



لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم 



الفصل الاول من هنا



الفصل الثاني من هنا



الفصل الثالث من هنا



الفصل الرابع من هنا



الفصل الخامس من هنا



الفصل السادس من هنا



الفصل السابع من هنا



❤️🌺🌹❤️🌺❤️🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹🛺🛺🛺🛺🛺


الصفحه الرئيسيه للروايات الجديده من هنا


جميع الروايات الحصريه والكامله من هنا


انضموا معنا علي قناتنا بها جميع الروايات على تليجرام من هنا


❤️🌺🌹❤️🌺❤️🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹🛺🛺🛺🛺🛺







تعليقات

التنقل السريع
    close