رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والرابع والخامس حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج
![]() |
رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والرابع والخامس حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج
هل هذا أنت يافهدى؟ يامن لطوفان عشقك إستسلمت، أم أن هذا هو طيفك، خرج من أحلامى متجسدا، أو توهمت؟ أم هو شبيه لا يمت لك بصلة، ومنه حقا قد نفرت؟
من أنت حقا؟فلتخبرنى، قد حيرتنى الظنون وأتعبتنى، وإن لم تشفى غليلى بإجابة، سأدرك حقا أنى قد جننت.
قال فراس بإبتسامة:
قصتك الأخيرة ورغم ان مبقالهاش يومين معروضة إلا إنها محققة أعلى نسبة مبيعات في تاريخ الدار، ألف مبروك ياجوري.
إبتسمت جورية قائلة بهدوء:
الله يبارك فيك، متتصورش فرحتى أد إيه وأنا بسمع منك الكلام الحلو ده.
إتسعت إبتسامته قائلا:
يلا بقى شدى حيلك وألفيلنا حاجة جديدة بسرعة، عشان معرض الكتاب اللي جاي.
قالت جورية:.
والله يافراس أنا بفكر آخد بريك وأتصل بجدى يجيلى، أهو نقضى مع بعض يومين حلوين كدة أرتاح فيهم من ضغط الأعصاب اللي مريت بيه الفترة اللي فاتت عشان أخلص الرواية، ويمكن ساعتها أفكر فعلا في كتابة رواية جديدة، أو أأجل وآخد بريك السنة دى ومش مهم المعرض.
إتسعت عينا فراس بإستنكار قائلا:
مش مهم إيه ياجوري؟ده إنتى كاتبة الدار الأولى ولازم يكون ليكى رواية جديدة في المعرض، ده غير رواياتك القديمة طبعا.
كادت أن تقول شيئا ولكن طرق على الباب قاطعها، لتدخل منار سكرتيرة فراس وعلى وجهها يبدو التوتر وهي تقول:
أنا آسفة لمقاطعتكم ياأستاذ فراس بس فيه ناس طالبين يقابلوا حضرتك والآنسة جوري دلوقتى فورا ومن غير تأجيل.
عقد فراس حاجبيه قائلا:
ناس مين دول؟
ليدلف خالد إلى الحجرة بهيبته تتبعه شاهيناز و ليلة، نظر خالد إليهم بصرامة وهو يتأمل وجهيهما قائلا:
خالد، خالد نصار.
إتسعت عينا فراس في دهشة بينما أصاب الذهول قسمات جورية لتظهر الصدمة جلية على وجهها، وهي تنهض ببطئ، تتأمل ملامح هذا الرجل الماثل أمامها، بضعف، بشوق، بحنين ظهر في ملامحها، توقن أنها تحلم، ولكن تجاهل خالد التام لها و كلماته التالية والموجهة لفراس جعلتها تدرك أنها في كابوس وليس حلم، وهو يقول بغضب مشيرا إلى تلك الرواية بيده:.
ممكن أعرف إزاي تحطوا صورتى على أغلفة الروايات دى، أنا مش بس هقفلكم الدار، لأ، ده أنا كمان هوديكم في ستين داهية.
ليظهر التحدى على وجه فراس على الفور بينما عجزت جورية عن قول أي شئ تماما، بل دارت بها الدنيا وشعرت بسواد يحيط بها، يسحبها إلى أعماقه لتستسلم له وترحب بأن يضمها بداخله، في صمت.
قالت جليلة بجزع وهي ترى عزيز يمسك بقلبه بعد أن سقط من يده فنجال القهوة ليتحطم بقوة إلى شظايا:
عزيز، مالك، إنت بخير؟
جلس عزيز في مقعده وهو يأخذ نفسا عميقا يهدئ به انفاسه المتسارعة وذلك الألم في قلبه ثم يقول بضعف:
أنا بخير ياجليلة، شوية ألم بسيط في قلبى، والحمد لله بقيت كويس.
قالت جليلة في قلق:.
الموضوع ميطمنش، إنت لازم تروح تكشف عند الدكتور وتشوف سبب الألم ده إيه، ده مش أول مرة يجيلك، وأنا قلقانة عليك، قصدى يعنى، جوري لو عرفت...
قاطعها قائلا بسرعة:
اوعى تقوليلها حاجة، مفهوم ياجليلة؟، جوري فيها اللي مكفيها، ومش حمل توتر ولا قلق علية.
أومأت جليلة برأسها متفهمة، لتقول بعد ثوان:
هي متكلمتش النهاردة؟
هز عزيز رأسه نفيا قائلا:.
كلمتنى انبارح وقالتلى مش هتكلمنى غير بالليل، مشغولة أوى بعرض روايتها الجديدة.
قالت جليلة بفخر:
بعتتلى نسخة منها، منمتش غير لما خلصتها، ما شاء الله عليها، عندها موهبة تجنن وقلم حساس أوى.
شرد عزيز قائلا:
طالعة لجدتها بالظبط، في كل حاجة.
نظرت جليلة إلى ملامح عزيز الشاردة والتي تؤكد أنه هائم تماما داخل ذكرى زوجته الراحلة، لتطرق برأسها في حزن، فعزيز لن يراها أبدا وذكرى زوجته مازالت حية بداخله، كم هي بائسة حقا، أحبته لسنوات طويلة بعد وفاة أختها، حبا صامتا مغمورا داخل طيات قلبها، وهاهو يجعلها تدرك مرارا وتكرارا أن حبها سيظل للأبد، بلا أمل.
أفاقت من أفكارها على صوته وهو يقول:
إيه رأيك ياجليلة لو نروح لجوري القاهرة ونعملهالها مفاجأة؟
إبتسمت جليلة إبتسامة باهتة، وهي تقول:
مفاجأة حلوة فعلا، بس إنت نسيت إنك وعدت عابد إنك هتجوز بنته علا، والفرح الشهر الجاي، يعنى ورانا حاجات كتير عشان نجهزها.
أطرق عزيز برأسه بخيبة أمل قائلا:
فعلا نسيت، بس ده معناه إنى هفضل شهر كمان من غير ماأشوفها.
قالت جليلة تواسيه وقد شعرت بالشفقة عليه، لتقول بحنان:
هون عليك ياعزيز، مش يمكن هي اللي تيجى، ونشوفها كلنا.
رفع عزيز عيون متألمة إليها، مزقت قلبها حزنا عليه وهو يقول بمرارة:
إنتى عارفة إنها مستحيل هتيجى هنا تانى.
أومأت برأسها في أسى، تدرك أنه محق، فقد كرهت جوري هذا الوادى والذي يذكرها، بحبيبها الذي عشقته بكل جوارحها ليختفى ذات يوم من حياتها للأبد، تاركا إياها في أسوأ حال، لا هي بالحية ولا هي ميتة لتقرر الرحيل عن هذا المكان الذي تذكرها جنباته بحبيبها الضائع، ليقاطع افكارها دلوف فتحى المسئول عن مزرعة عزيز قائلا بسعادة:
عزيز بيه، عزيز بيه.
نظر إليه عزيز قائلا:
خير يافتحى.
قال فتحى بإبتسامة:
مهرة بتولد ياعزيز بيه.
لمعت عيون عزيز وإنفرجت أساريره وهو ينهض بسرعة متجها إلى الإسطبل يتبعه فتحى، لتتنهد جليلة وهي تتابعهم بعينيها، تدرك مدى عشق عزيز لمهرة، فرسة جورية، تماما كعشقه لزوجته الراحلة وحفيدتهما من بعدها، تتمنى فقط لو عشقها بنصف القوة التي عشق بها كل هؤلاء، ولكن للأسف ليس كل ما يتمناه المرء، يدركه.
أحست جورية بألم شديد في رأسها والضباب حول عقلها ينقشع تدريجيا، تسمع صوت إمرأة تقول بحدة:
على فكرة بقى، دى تمثيلية بايخة أوى منها عشان تتهرب من الوضع اللي هي فيه وصورة جوزى الموجودة على أغلفة رواياتها كلها.
زوجها، هل قالت فعلا أنه زوجها؟هل حقا فهد متزوج من تلك المرأة؟لتستمع إلى صوت فراس وهو يقول بحدة:
من فضلك يامدام، جوري مش بالشكل ده خالص، دى إنسانة محترمة أوى على فكرة ومستحيل تتصرف بالشكل ده.
قالت المرأة بحدة:
طبعا، ما إنت أكيد هتقول كدة، مش انت صاحب دار النشر اللي طابعينلها الرواية وغلافها.
هدر صوته الذي تحفظه عن ظهر قلب، والذي كانت نبراته تشعل دقات قلبها سعادة وعشقا ولكنها الآن نبرات صارمة خالية من الحنان الذي كان يعبق به صوته، صوته القريب منها الآن تلفحها أنفاسه الساخنة وهو يقول:
خلاص ياشاهى، مش وقته خالص الكلام ده، تفوق الآنسة ونبقى ساعتها نتكلم.
فتحت عيونها ببطئ لتطالعها عيناه، واللتان رغم صرامتهما إلا أن هناك قلق دفين رأته في عمق تلك العيون، لترمقه بنظرة طويلة صامتة حيرته، ورغما عنه وجد نفسه ينجذب بقوة لتلك العينين، يغرق فيهما حرفيا، تأسره نظرتهما، يتساءل بحيرة، هل تحمل نظراتها كل تلك المشاعر التي وصلته، هل تحمل حقا شوقا إمتزج بالعتاب؟نفض مشاعره التي تعجب لها وهو يقول ببرود:
حضرتك دلوقتى كويسة؟
ياالله، هل بات يحدثها الآن وكأنها غريبة عنه؟هل يتجاهلها عمدا؟أم هو رجل آخر كلية وليس حبيبها فهد؟ليطول شرودها، ويكرر خالد سؤاله بصوت أكثر حدة قائلا:
حضرتك بقيتى تمام دلوقتى؟
اعتدلت جالسة وهي تومئ برأسها دون كلمة، ليلتفت خالد إلى فراس الواقف بجواره قائلا:
هي خرسا؟
قال فراس بإستنكار:
لأ طبعا.
ليلتفت فراس إلى جورى قائلا بتوتر:
هي يعنى، عشان بس الصدمة...
صمت فراس وهو يراها ترمقه بنظرة محذرة، ليقول مستطردا بعد ان تنحنح:
إحمم، يعنى حضرتك كنت خيال كاتبة وفجأة إتجسدت أدامها طبيعى إنها تتوتر أو يغمى عليها من الصدمة زي ما حصل مع جوري بالظبط.
لينهض خالد قائلا بحدة:
يعنى إنت عايز تفهمنى إن وجود صورى على الغلاف كان خيال من الكاتبة، وحطيته على الغلاف فطلع بقدرة قادر زي صورتى بالظبط.
توتر فراس وكاد أن يتحدث ليقاطعه صوتها الذي وجدته أخيرا وهي تقول بضعف:.
ده اللي حصل فعلا.
لا يدرى خالد لما دق قلبه بتلك السرعة لسماع نبراتها الرقيقة، يشعر بالألفة تجاه هذا الصوت الملائكي ليلتفت تجاهها ببطئ يتأمل ملامحها بوجه خال من التعبير، ليقول بعد ثوان ببرود:
مين اللي رسم الصور دى؟
أجابته بهدوء ظاهري يحمل اضطرابا بين سكناته:
أنا.
ظهرت الدهشة على ملامحه لثوان ولكنها مالبثت ان إختفت فجأة كما ظهرت فجأة، وهو يقول ببرود:
وانتى مشفتيش لية أي صورة أو لقاء على التلفزيون؟
غشيت عيونها الدموع وهي تومئ برأسها في صمت، هي لا تكذب، فهي فعلا لم تفعل ذلك، ولقاءها به كان مختلفا بالمرة، وهذا مادفع الدموع لتسقط على وجنتيها بصمت أيضا، ليشعر خالد بغصة في حلقه لمرأى تلك الدموع، إنتفضت جورية على صوت تلك المرأة التي تدعى أنه زوجها وهي تقول:
إنت بتصدق الكلام الفارغ ده ياخالد، بتصدق دموع التماسيح دى؟
قال فراس بعصبية:
يامدام أنا مسمحلكيش.
قالت شاهيناز بحدة:.
وإنت مين إنت عشان تسمحلى أو متسمحليش؟
هدر خالد بقوة قائلا:
إنزلى إستنينى في العربية ياشاهي.
قالت شاهيناز بحنق:
بس ياخالد...
قاطعها قائلا بصرامة:
قلتلك إنزلى إستنينى تحت.
نظرت إليه بغضب ثم ألقت نظرات حانقة على الجميع قبل ان تتجه إلى الخارج بخطوات غاضبة، ليلتفت خالد لليلة التي وقفت صامتة طوال الوقت تلعن غبائها الذي تسبب في تلك الفوضى، ليقول بنبرة هادئة:
خليكى معاها ياليلة.
فكرت جورية، هل يحبها لتلك الدرجة؟أيخشى عليها؟تبا، كم يؤلمها هذا؟لتستمع إلى صوت تلك الليلة الرقيق كالنسمة وهي تقول:
حاضر ياخالد، عن إذنكم.
لأول مرة يلاحظ فراس وجود تلك الفتاة بينهم، إنها صهباء فاتنة، قشدية البشرة، هو يعلم أن الصهباوات ناريات الطبع ولكن تلك الفتاة تختلف عنهن كلية، فإلى جانب نعومة صوتها ورقة نبراته، فهناك أيضا تلك الرقة والتي تقبع في عيونها بلا حدود، أرسلتها إلى جورية في نظرة إعتذار تقبلتها تلك الأخيرة بهزة رأس صامتة، لتلتفت ليلة مغادرة الحجرة يتابعها فراس بعينيه يتمنى فقط لو تعرف إليها اكثر ولكن يبدو أنه ونظرا للظروف الراهنة لن يسمح له بذلك، أبدا.
إلتفت ينظر إلى خالد الذي قال بهدوء موجها حديثه إلى جورية:
هفترض دلوقتى حسن النية وان وجودى على أغلفتك من وحي خيالك ورسمك، رغم إنه شئ صعب يتصدق، ورغم إنه يرضى غرورى كراجل شفتيه إزاي معرفش صورة واحدة و مناسبة لكل أبطالك، بس للأسف، مش هقدر أسمح بالموضوع ده، حتى لو حسن النية موجودة.
قال فراس وهو يعقد حاجبيه قائلا:
قصدك إيه؟
نظر إليه خالد قائلا في تحدى:.
يعنى الأغلفة دى، هتتشال صورتى من عليها بأي شكل من الأشكال وإلا هرفع قضية على الدار وأكيد هكسبها.
إزداد إنعقاد حاجبي فراس قائلا:
بس اللي بتقوله حضرتك مستحيل.
قال خالد بسخرية:.
مفيش في قاموس خالد نصار كلمة إسمها مستحيل، أنا مش مستعد بنتي أو حد من عيلتى يتصدموا، و بدل مايشوفوا صورى على مجلات المشاهير ورجال الأعمال، يشوفونى مهرج على أغلفة روايات رومانسية سخيفة، ياتشيلوا صورتى من الأغلفة، ياهوديكم في ستين داهية، أدامكم فرصة لآخر الأسبوع، وده آخر كلام عندى.
ليلقى نظرة على جورية التي ظهر على ملامحها أعتى ملامح الألم، كاد أن يتراجع عن كلماته، ولكن شئ ما في أعماقه رفض هذا الضعف الذي شعر به يعتريه تجاه تلك المخلوقة، ليقرر وبكل حزم أن يوأد هذا الشعور في مهده، لذلك وبكل برود خرج من الحجرة تتابعه عيناها الحزينتان، ليقول فراس بعد إنصرافه ورؤيته لجورية تقف بضعف:
رايحة على فين ياجوري، خليكى شوية عشان ترتاحى، إنتى لسة تعبانة.
هزت رأسها نافية وهي تقول بحزن:.
أنا كويسة يافراس، بس محتاجة أكون لوحدى شوية.
قال فراس في شفقة:
بس احنا محتاجين نتكلم في اللي حصل النهاردة.
أغمضت جورية عيناها قبل أن تفتحهما مجددا قائلة:
من فضلك يافراس، خليها وقت تانى، بعد إذنك.
قال فراس بقلق:
طب تحبى أوصلك؟
هزت رأسها نفيا قائلة:
لأ، أنا كويسة متقلقش، سلام.
غادرت الحجرة بخطوات بطيئة تتابعها عينا فراس في شفقة، فهو يدرك كم كانت صدمة اليوم قوية عليها، إنها صدمة لايتحملها أعتى الرجال فما بالك بفتاة رقيقة كجورية، حقا كم يشفق عليها.
كانت لين تهز قدميها تناغما مع تلك الموسيقى التي يصدح صوتها عاليا في ذلك الحفل، لتقول لها سها بملل:
يلا بينا بقى يالين نروح، أنا بجد مليت.
إبتسمت لين قائلة:
نروح فين بس؟دى الحفلة لسة هتبدأ، والسهرة للصبح.
قالت سها بإستنكار:
صبح إيه بس؟لأ طبعا هي نص ساعة كمان ولو مروحتيش معايا، انا هروح لوحدى، دى حفلة مملة أوى، وانا بجد زهقت.
إتسعت إبتسامة لين قائلة:.
مسمعتكيش نور وانتى بتقولى على حفلتها مملة، كانت ندهت للبودى جارد بتوعها وخليتهم يرموكى برة الفيلا.
قالت سها بسخرية:
تحبى أروح أقولها الكلام ده بنفسى، واهو بالمرة أقولها إنك قلتيلى إنها كانت سمينة أوى في ثانوى وكانوا مسميينها البرميل.
إتسعت عينا لين بصدمة وهي تقول:
بس، يخربيتك، هتفضحينا، هو ده جزاء اللي تدى سرها لعيلة زيك.
قالت سها في حنق:
أنا عيلة يالين، ماشي، طيب أنا ماشية، ومش هتشوفى وشى تانى.
لتمشى سها بالفعل فنادتها لين وهي تضحك قائلة:
تعالى بس يامجنونة، رايحة فين؟أنا كنت بهزر.
لم ترد سها عليها وواصلت سيرها، بينما ضربت لين كف على كف وهي تقول بإبتسامة:
مجنونة والله، بس بموت فيها.
إلتفتت تنوى الإستئذان من صاحبة الحفل ثم المغادرة مع سها، ولكنها مالبثت أن إرتطمت بصدر صلب لرجل يرتدى بذلة أنيقة للغاية، أسندها لثانية ثم تركها وكأنها أفعى لدغته، عبقت رائحته المكان برائحة تبدوا مألوفة لديها، تعشقها وتكرهها في آن واحد، رفعت عينيها ببطئ من صدر هذا الرجل حتى عنقه لتبتلع ريقها بصعوبة تشعر أكثر بأنها تعرف هذا الرجل فمن غيره يمتلك هذا التأثير عليها، يشتت كيانها ويزلزله، ينثره إلى ذرات، وصلت عيناها إلى وجهه ليتوقف الزمان والمكان عند تلك اللحظة، لتتجمد كلية وعيناها تواجهان عيناه، تمتلئ عيناها بصدمة رغما عنها كانت واضحة جلية على محياها كله، بينما عيناه باردتان، تحملان بعض السخرية في طياتهما، كما يحملها صوته تماما وهو يقول:.
إزيك يالين؟
إبتلعت ريقها بصعوبة فأمامها تماما وقف من تتمنى أن ترتمى بين ذراعيه الآن ومن تتمنى في نفس الوقت أن تقتله، وقف أمامها من حاولت مرارا وتكرارا أن تنساه، وعندما ظنت أنها نجحت في ذلك، ظهر أمامها من جديد، إنه معشوقها ومعذبها، زوجها السابق، مؤيد.
رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الخامس
قل للحواجز و المسافات فلتفرقي بيننا
كأنها تتآمر سرا بعد غيابك لأزداد تعلقا
كيف تموت ذكراك و قد أخذت لب الفؤاد
أتسلم روح وتينها معقود بين أضلع الآخر؟
بين أجفان عيني أخبئك صورة لا تتزحزح
كيف أنساك وأنت تجول في كل الخلايا
أودعتك للخلاق يحفظك عسانا يوم نسعد...
بقلم، نور محمد.
إقتربت جورية من سرير هذا المريض الذي تتحدث عنه جميع العاملات بالمستشفى، لقد سمعتهن يتحدثن عن وسامته التي تخطف الأنظار وعيونه التي بزرقة السماء وحالته الغريية تلك، فقد نجا من حادث طائرة، بإصابات بسيطة برأسه وقدمه، ولكنه أفاق لا يتذكر شيئا عن نفسه ولا حتى إسمه، لتطلق عليه الممرضات إسم الوسيم المجهول.
لا تدرى جورية لما إنتابها الفضول لرؤية هذا المريض بعد ماسمعته من هؤلاء الممرضات، ولما لم ترحل على الفور بعد تسليم الهدايا للمرضى في هذا اليوم الذي تقصد فيه جورية المستشفى لبث البهجة في نفوس المرضى بتقديم بعض الدعم المعنوي والمادي لهم، لا تدرى لما أخذتها قدماها إليه؟ بالفعل، هي حقا لا تدرى.
توقفت جورية أمام سرير هذا المريض تماما، لتراه لأول مرة، نائما مستكينا، تأملته بخجل، إنه وسيم حقا، يستحق فعلا كل مايقال عنه، ولكن ليس هذا ماجذبها إليه فحسب، وإنما نسيانه ماضيه هو ما شغلها حقا وأثار شفقتها، فهي لا تتخيل أن ينسى شخص ما ماضيه، ذكرياته، إسمه وأحباؤه، لا تتخيل أن تصحوا هي يوما لا تتذكر جدها عزيز أو خالتها جليلة، أو فرستها مهرة، لا تتخيل هذا مطلقا.
إقتربت من وجهه تلاحظ جرحا في رأسه، مدت يدها لتلمس الجرح ولكن يدها تجمدت في الهواء، وهي تراه قد فتح عينيه فجأة يطالعها، أخفضت يدها، وقد تخضب وجهها بحمرة الخجل، لا تستطيع إبعاد ناظريها عن عينيه الساحرتين واللتان تنافسان في لونهما زرقة السماء الصافية، تجذبها عيناه بقوة خاصة وهو ينظر إليها الآن بحيرة، لتبتلع ريقها بصعوبة وهي تقول:
صباح الخير.
إعتدل قليلا في جلسته ليظهر الألم على ملامحه، ثم إختفى ما إن إستوى جالسا، وهو يقول:
إنتى الدكتورة النفسية اللي قالولى إنها هتابع حالتى؟
هزت رأسها نفيا قائلة بإرتباك:
لأ، مش أنا.
إزداد إنعقاد حاجبيه وهو يقول بحيرة:
لما إنتى مش الدكتورة الجديدة، أمال حضرتك تبقى مين؟
نظرت إليه لا تدرى ماذا تقول، ليشع الأمل في عينيه وهو يقول بلهفة:
إنتى حد من أهلى، صح؟
أصابتها لهفته بالألم في قلبها، هل يشعر بالوحدة؟هل يفتقد أن يكون له عائلة تحتوى حيرته وخوفه من ماض أسدل السواد ستاره عليه؟هل يشتاق إلى عائلة لا يتذكرها؟ربما حقا هذا ما يشعر به الآن، أفاقت من شرودها على صوته يستحثها قائلا:
من فضلك قوليلى إنتى مين؟طمنينى.
نظرت إلى عمق عينيه تشعر بعذابه فيهما، بحيرته وإرتباكه وشعوره القوي بالضياع في خضم ذلك الفراغ الأسود الذي يحيط بعقله، لتتخذ قرارها، ربما كان قرارا متسرعا وغير محسوب بالمرة، ربما قلب جدها الدنيا وأقعدها لإتخاذها مثل هذا القرار، ولكن بداخلها تشعر بأن ما تفعله هو القرار الأصوب في حياتها، قلبها يخبرها بذلك، لتقول بهدوء وبنبرات ثابتة:.
يمكن مفيش بينا قرابة ويمكن دى أول مرة اشوفك فيها في حياتى، وإنت أكيد متعرفنيش زي ما أنا كمان معرفش عنك حاجة، بس قلبى بيقوللى إنك إنسان كويس وحد ممكن أثق فيه، وأنا قلبى عمره ماكذب علية، وعشان كدة هعرض عليك عرض.
نظر إليها في حيرة، لتستطرد قائلة:.
تيجى تشتغل و تعيش معانا في المزرعة، أنا عايشة فيها مع جدى عزيز وخالتى جليلة وشوية عمال، لو ترضى ممكن تعتبرنا زي عيلتك لغاية ما ترجعلك الذاكرة، وساعتها تبقى ترجع لعيلتك.
نظر إليها بشك قائلا:
وإنتى هتعملى كدة ليه؟هتستفيدى إيه يعنى؟
قالت بحيرة:
مش عارفة، صدقنى أنا مش هستفيد حاجة غير إنى أساعد واحد مريض، غريبة يمكن، أنا نفسى مستغربة نفسى بس حاسة انى لازم أعمل كدة.
نظر إلى عيونها في حيرة للحظات قبل أن يقول بهدوء:
طيب ممكن أسألك سؤال تانى؟
أومأت برأسها إيجابا دون أن تنطق بكلمة ليستطرد قائلا:
ليه بتعملى المعروف ده مع حد متعرفيهوش؟
قالت برقة:.
هو مش معروف أوى يعنى، إحنا مزرعتنا صغيرة وفى حتة بعيدة عن العمران، يعنى ممكن تمل فيها بسرعة، بس هدوءها ده ممكن يكون سبب لرجوع الذاكرة ليك، أما عن أسبابى، فصدقنى أنا نفسى معرفهاش، يمكن لإنك بتفكرنى بنفسى، بلحظة في طفولتى مات فيها بابايا ومامتى، وحسيت إنى وحيدة وضايعة من غير حد، ولولا جدي اللي أخدنى في حضنه وراعانى أنا كنت ضعت فعلا، وإنت كمان دلوقتى ومن غير ذاكرة زي طفل صغير محتاج إيد تقف جنبك وتساندك، تحسسك إنك مش لوحدك، ولغاية ماترجعلك الذاكرة دى، هكون أنا وجدى الإيد دى، ها، إيه رأيك؟
أطرق مجهول الهوية هذا رأسه يفكر في كلماتها، ليرفع إليها وجهه بعد لحظات وقد إنفرجت أساريره يهز رأسه موافقا، لتنفرج أساريرها بدورها وهي تنهض قائلة بحماس قائلة:
أنا إسمى جورية الفيومى على فكرة، وهاجى آخدك بكرة الصبح على المزرعة، بس لازم نسميك.
لتفكر وهي تقضم إصبعها بيدها بطريقة محببة قائلة:
ياترى إيه الإسم اللي ممكن يناسبك؟
لتصمت للحظة قبل أن تلمع عيناها قائلة:
فهد، إسمك فهد، لايق كتير عليك.
إبتسم موافقا بصمت لتمد يدها إليه قائلة:
إتفقنا، سلام مؤقت يافهد.
مد يده يضم يدها محييا، ليرتعش جسدها وتتسارع دقات قلبها رغما عنها، لتترك يده على الفور وهي تبتلع ريقها بصعوبة قبل أن تبتسم إبتسامة مهزوزة، وتهز رأسها ثم تغادر بخطوات هادئة تخفى إضطرابها تتابعها عيناه بنظرة حملت إعجابا لم يستطع إخفاؤه.
قال عزيز بحدة:
إنتى إزاي تعملى كدة قبل ما ترجعيلى، من إمتى بتتصرفى بدماغك ياجورى؟
قالت جورية وهي تمسك كتفيه بيديها قائلة:
إهدى بس ياجدى، أنا...
قاطعها وهو ينفض يديها عن كتفيه قائلا في حنق:
إنتى إيه بس؟أنا اللي غلطان، دلعتك زيادة عن اللزوم، وسيبتك تعملى اللي إنتى عايزاه كله، وفى الآخر جاية تجيييلى البيت راجل غريب، منعرفش أصله من فصله.
لينظر إليها بحنق قائلا:.
للأسف، إنتى خدتى من جدتك الشكل بس مخدتيش العقل أبدا.
تدخلت جليلة التي ظلت تراقب ما يحدث بصمت قائلة:
إسمعها بس ياعزيز وبعدين...
قاطعها عزيز قائلا بصرامة:
إسكتى إنتى ياجليلة، مش بعيد تكونى إنتى اللي شجعتيها على الهبل ده.
إتسعت عينا جليلة بإستنكار بينما أسرعت جورية تقول:
خالتى جليلة مكنتش تعرف حاجة عن الموضوع ده ياجدى، هي لسة عارفة حالا وأنا بحكيلك.
أشاح عزيز بيده حانقا، لتترقرق الدموع في عينيها، وهي تقول بضعف:
ياجدى، عشان خاطرى، إسمعنى الأول وبعدين قرر، ولو رفضت وجوده مش هتكلم خالص ولا هعارضك.
أوجعته دموعها، كاد أن يأخذها في حضنه ويربت عليها مواسيا ولكنه توقف في اللحظة الأخيرة رافضا، يبغى سماع سبب تصرفها بتلك الرعونة قبل أن يقرر مايفعل، لتبتلع جورية ريقها بصعوبة وهي تقول:.
أنا لما شفته إفتكرت نفسى وأنا صغيرة، إفتكرت روحى وهي تايهة مش لاقية حد لية، لا مكان يإوينى ولا أهل يساندونى ويقولولى إنتى مش لوحدك، إفتكرت غربتى وأنا جوة بيتى، ولولا وجودك جنبى ساعتها، لولا جتنى وضميتنى لحضنك، كنت ضعت ياجدى، فاكر قلتلى إيه ساعتها؟قلتلى متخافيش، إنتى مش لوحدك، أنا جنبك وهفضل قربك، مش هسيب إيدك ابدا، وطول ما إيدى في إيدك مش هتقعى، وده وعدى ليكى، وفعلا ده اللي حصل، النهاردة لما شفته إفتكرت إحساسى زمان، حسيته محتاج إيد تساعده، بقوله بيها إنت مش لوحدك، وفى وسط السواد اللي انت فيه انا وجدى هنكون شعاع نور، ينورلك طريقك، لغاية ما في يوم شمس زكرياتك تنور حياتك وساعتها هترجع لعيلتك، ولحد ما ده يحصل مش هنسيبك تايه تخبط في طريقك لوحدك، هنكون معاك لآخر لحظة، فاهمنى ياجدى؟
تأملها جدها للحظات ثم ربت على يدها قائلا بحنان:
فهمتك يا بنتي، فهمتك، بس برده ده ميمنعش إنك إتهورتى وطلبتى من حد غريب يكون معانا في المزرعة، إفرضى طلع مش كويس أو هربان من جريمة، إفرضى...
قاطعته جورية قائلة بحزم:.
متقلقش ياجدى، أنا واثقة إنه مش ممكن يطلع مجرم او إنسان وحش، سميها الحاسة السادسة، سميها ثقة في إحساس قلبى اللي عمره ما خيب ظنى، سميها زي ما تسميها، بس صدقنى ياجدى، انا واثقة إن فهد إنسان كويس ومش ممكن يإذينا.
عقد جدها حاجبيه قائلا:
فهد مين ده؟
إبتسمت لأول مرة منذ ان تركت فهد في هذا المستشفى وهي تقول لجدها:
فهد يبقى الراجل اللي حكيتلك عنه ياجدى، وأما بالنسبة للإسم.
فأشارت إلى نفسها بفخر مستطردة:.
فأنا اللي إخترتهوله.
تأمل جدها ملامحها المشرقة ليتسلل إلى قلبه القلق رغما عنه، وهو يشعر أن هذا الفهد قد حاز على إعجاب فتاته الصغيرة حتى وإن لم تشعر بهذا بعد، ليخشى أن تتكرر تجربة إبنته مجددا، ولكن مع حماسها ذلك لا يستطيع أن يرفض لها طلبها، سيوافق على حضوره إلى المزرعة، ولكنه سيضعه تحت رقابة شديدة وإن ثبت له كذب إدعاءاته، إن تأكد من أنه مخادع سيتأكد بنفسه من أنه سيلقى جزاؤه العادل، وسيكون مصيره أسوأ من الموت نفسه.
ذهبت جورية إلى المستشفى فوجدته هناك، أخبرها أنه لم يكن يتوقع عودتها فإبتسمت مخبرة إياه أنها حين تعد لا تخلف وعودها أبدا، ليتأمل إبتسامتها الرقيقة فيبتسم لها بدوره وفى إبتسامته ضاعت هي كلية، غرقت في بسمته تلك والتي إمتدت إلى عينيه الجميلتين فسحرت قلبها ورسمت بداخله طلاسم إحتارت في تفسيرها، تعثر وكاد أن يقع فأسندته بكل قوتها، وهنا وفى تلك اللحظة، مثلما تشابكت أيديهم، تشابكت نبضات قلبهم، ففى تلك اللحظة بالذات والتي إلتقت فيها العيون، أدرك كليهما أن مصيره إرتبط بالآخر وأن ما يحدث بينهما هو شئ فريد، فروحيهما تستكينان فقط بسماع نبض الآخر والذي يصل إلى مسامعهما بكل وضوح، تطرق قلبيهما بقوة دقاته، لتستكين إبتسامة راحة على ثغريهما ويتجهان إلى خارج المستشفى ولدى كل منهما يقين بأنه لم يعد روحا تائهة وحيدة، بل صار هناك من يؤنس وحدته ويطمئن تلك الروح، ربما للأبد، أو هكذا كانت تظن.
، في داخل المزرعة...
كانت تعلم أن جدها لن يرتاح لذلك الغريب على الفور، وأنها ستجد صعوبة في إقناعه بأنه ليس بسئ أبدا، ولكن ما حدث كان عكس توقعاتها تماما، فمنذ اللحظة الأولى لوصولهم إلى المزرعة وإلتقاء جدها بفهد، وجدها يبدو مرتاحا لهذا الضيف الجديد، وكأنه قد توسم فيه الطيبة والرجولة وحسن الخلق، وإزداد إعجابا به مع مرور الأيام، فلم يكن فهد أبدا برجل كسول فما إن سكن في هذا الكوخ بجوار المنزل والذي أعدته له جورية بنفسها وجعلته رائعا حقا، حتى نهض في اليوم التالى باكرا ليشمر عن ساعديه ويعرض على الجد رغبته في العمل مع بقية العاملين بالمزرعة، مظهرا قوة وجلدا وصبرا، ورغم طلب الجد منه الراحة كي تلتئم كل جراحه إلا أنه أبى قائلا أن جراحه بسيطة وقد إلتأمت بالفعل، وأن دواءه هو العمل حتى لا تشغله أفكاره السوداء وحيرته من صفحة ماضيه البيضاء، ليثبت لجدها أنه حقا رجل يعتمد عليه، وليس هذا فقط بل صار صديق جدها الذي يشاركه في لياليه لعبته المفضلة، الشطرنج، يظهر ذكاءا بلا حدود في تعلمها بسرعة بل والتفوق على جدها بها وكأنه يلعبها منذ الصغر.
كانت جورية سعيدة للغاية بوجود فهد في مزرعتهم، وإندماجه السريع، خاصة مع جدها، فقد أضفى فهد على المزرعة جوا رائعا، فلم تعد أبدا مملة كما كانت، كانت تقف بالساعات تعد الطعام مع خالتها جليلة فقط كي يأكل منه فهد، تعد الكوخ كل يوم وتضع فراشه في الشمس فقط كي يرتاح فهد، تفكر وتفكر في أشياء تشغله بالمساء فقط كي لا يمل فهد، وفى لياليها تمسك أوراقها تكتب فقط عن فهد...
لتدرك ذات ليلة أن فهد قد أصبح محور حياتها، وأنها قد وقعت في غرامه، تتساءل دائما هل وقع في عشقها بدوره؟أم أنها مجرد فتاة عادية بالنسبة إليه؟لطالما عاملها بأدب وإحترام، لم يصدر عنه أبدا ما يوحى بالإعجاب بها، ربما هي مرة واحدة ضبطته يتأملها خلسة، ولكن غير ذلك لم ترى منه أبدا أنها تثير إعجابه، أو إهتمامه بأي شكل من الأشكال، حتى كان هذا اليوم الذي إكتشفت فيه مشاعره...
كانت ترتب له الكوخ كعادتها، لتقع يديها على قميصه، مدت يدها تأخذه، ترفعه إلى أنفها تشتم رائحته المميزة والتي يعبق بها هذا القميص الخاص به، إبتسمت وهي تتذكره البارحة وهو يرتديه، كم كان وسيما به وهو واقفا تحت الشمس، تلوح بشرته بأشعتها الحارقة، يمسك الفأس بيده يزرع الأرض، ثم يقف فيمسح عرق جبهته بكمه، ثم يعاود حرث الأرض بكل قوة، وكانت هي تتأمله من بعيد، تتمنى فقط لو إقتربت منه، ولكن ما بين أمنية تحدوها وقيود تمنعها هي حائرة، أسيرة، تود لو تحطم تلك القيود، ولكن ماباليد حيلة.
إنقطعت الكهرباء فجأة لتترك جورية القميص بسرعة فأكثر ما تخشاه هو الظلام، لتتحسس الطاولة بقلق حتى وجدت الثقاب، حاولت أن تشعل عودا، فلم تستطع، حاولت مرارا وتكرارا حتى نجحت بالفعل، ولكن وقع منها عود الثقاب على هذا القميص ليشتعل بسرعة، حاولت أن تطفئه بغطاء جانبي فإشتعلت النيران أكثر، خشيت من ذلك الحريق الذي إنتشر بسرعة، لتندفع مغادرة الكوخ ولكنها تعثرت لتقع أرضا ويرتطم رأسها بقوة ثم لفها السواد الكامل.
كان فهد عائدا إلى الكوخ، ليرتاح قليلا، فأمامه اليوم عمل كثير وهو ينوى أن يكد ويكد حتى يستطيع إنهاء حرث قطعة الأرض الشمالية قبل مساء هذا اليوم، توقف في مكانه حين رأى دخانا متصاعدا من الكوخ كاد أن يتجه إلى الإسطبل القريب لإحضار خرطوم المياه والإستنجاد بالجميع هناك لإطفاء هذا الحريق ولكنه لمح هذا الشال الملقى على المقعد خارج الكوخ، ليتعرف عليه على الفور ويدرك أنه الشال الخاص بها، ليرتجف قلبه رعبا عليها، إنها بالداخل والكوخ يحترق، ربما أصابها مكروها، ليسرع بإقتحام الكوخ دون تفكير لتقع عينيه عليها على الفور، مغشيا عليها ومسجاة على الأرض، أسرع يحملها إلى الخارج، يهرول بها إلى المنزل القريب، حيث إستقبلتهم جليلة بجزع، صرخ بها أن تحضر العطر بسرعة، ثم نظر إلى وجه جورية الشاحب بجزع يربت بيده على وجنتها وهو يقول بهلع:.
فوقى ياجورى، فوقى ياحبيبتى، عشان خاطرى فوقى، انا مقدرش أعيش من غيرك.
جاءت جليلة ومعها العطر وجاء معها عزيز الذي راقب ما يحدث بقلب واجف، لينثر فهد العطر على رسغه ويقربه من أنفها، ليتجعد انفها قليلا، مشيرا إلى أنها على وشك الإستيقاظ، زفر فهد براحة وعيون جورية البنية تنفلج ببطئ، لتراه وتقول بضعف:
فهد.
إبتسم فهد بينما أغروقت عيناه بالدموع قائلا:
قلب فهد وعمره كله.
تجمد الجد تماما وأصابت جليلة الدهشة، بينما إتسعت عينا جورية بذهول، وهي تقول:
إنت قلت إيه؟
تأملها بعشق قائلا:
قلت اللي خبيته جوة قلبى بقالى سنة بحالها، كنت مستنى أعرف أنا مين، وأصلى إيه، بس الظاهر إنه مش باين إنى هفتكر حاجة، وبصراحة اكتر وبعد إحساسى النهاردة، و إنك كان ممكن تضيعى منى، مش مستعد أضيع ثانية واحدة من غير ما أقولك أد إيه بحبك.
أغروقت عينا جورية بالدموع وهي تقول:
أنا كمان بح...
هدر صوت جدها بإسمها يمنعها من الإستطراد في إعترافها بعشقه، لينتبه فهد إلى وجود جدها، وينهض ببطئ ناظرا إليه في ترقب، بينما إعتدلت جورى جالسة ناظرة إليه بوجل ليقترب الجد منهما ينقل بصره بين الإثنين بملامح خالية من التعبير، حتى توقف أمامهما تماما، ليقول بهدوء موجها حديثه إلى فهد قائلا:
وتفتكر آخرة الحب ده إيه يافهد؟
قال فهد بثقة:
الجواز طبعا، انا بحبها ياجدى، ومستعد أعمل أي حاجة عشان تكون مراتى.
لم يهتز لجدها جفن بينما رقص قلب جورية طربا لسماع كلماته الواثقة العاشقة، ليقول الجد بصرامة مقاطعا أفكارها السعيدة:
وهتتجوزها إزاي وإنت مش معاك أي حاجة تثبت إنت مين، أو إسمك إيه؟
ظهرت الحيرة ممتزجة بالحزن وقلة الحيلة على وجه فهد، بينما إنفطر قلب جورية حزنا وهي تدرك مايؤول إليه حديث جدها في النهاية، ولكن كلمات فهد التالية أحيت الأمل في قلبها وهو يقول بكل ثقة:.
يبقى هنزل مصر وهجيب أوراق تثبت هويتى، مش هرجع غير وأنا معايا الورق اللي هيجمعنى مع جورى.
لينظر إلى جورية وقد رقت نظراته قائلا:
وده وعد منى.
إبتسمت برقة، ليعود بنظراته إلى جدها قائلا بقوة:
وعد ياجدى.
وبالفعل سافر فهد بعد يومان وبعد وداع رقيق من جورية، ولكنه لم يعد أبدا، ولم يتصل بها حتى، إنتظرته عاما كاملا، رسمت وجهه في كل صورة قامت برسمها، وجدته في كل كلماتها، لم تيأس أبدا من عودته إليها مجددا، ولكنه لم يعد، لتدرك أن في الامر خطب ما، ربما تذكر ماضيه ونسيها أو ربما لم يحبها من الاساس؟، أحست بالحزن ولكنها لم تترك نفسها أسيرة للألم، بدأت تشغل بالها عن التفكير فيه بكتابة الروايات، لتبعثها إلى دور النشر، وذات يوم جاءها خطاب دار نشر المبدعون يخبرونها بأنهم على إستعداد تام لنشر قصتها إن جاءت إلى القاهرة حيث المكتب الرئيسي للدار، وبالفعل سافرت، تاركة هذا الوادى اللعين الذي يذكرها بفهد، وتاركة جدها الذي أبي ان يترك مزرعته ومنزله، لتلتقى بفراس وتنشأ بينهما صداقة قوية، ومنذ ذلك اليوم وهي تكتب الروايات وتنشرها، تصمم على جعل بطل غلاف رواياتها فهدها، فهي عندما تكتب الرواية تراه أمامها، يلهمها بسحره، بعشقه، بكيانه القابع بوجدانها، أو ربما يوما ما رأى فهد غلاف رواية لها ليدرك أنه مازال بقلبها يحيا، وقد حدث هذا بالفعل اليوم...
لقد عاد لحياتها بقوة، بألم، عاد رجلا متزوجا ولديه إبنة صغيرة، عاد لحياتها ليجبرها ما عرفته عنه أن تخرجه هي من حياتها تلك، من كيانها، من قلبها، من ذكرياتها للأبد، عليها أن تنساه كلية، فهل ستستطيع؟
الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر من هنا
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعلموا متابعه لصفحتي عليها الروايات الجديده كامله بدون روابط ولينكات من هنا 👇 ❤️ 👇


تعليقات
إرسال تعليق