رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الاول حتى الفصل العاشر حصريه وجديده
النيران أشبه بالدمار، تحرق كل ما تطوله ألسنتها، وكأنها غير باقية للحياة، لكن ماذا لو كانت تلك النيران مُتيمة بالعشق!!
حينها سيختلف المعنى وستتغير الأراء مُغيرة مجراها كُليًا، وسيُشَيّد عشق لم ولن ينتهي.
منذ أن وطأ عشقها داخله، أصبح مُتيم بعيناها، تلك الجنية المتمردة التي حطمت أسواره، هي غزله... إسمًا على مُسمى، سلبته بجرأتها وقوتها الغير معهودة.
ليكون هو متيم بجنون عشقها... وهي متيمة بنيران عشقه.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الأول
بخطوات بها من القوة والشموخ دلفت للداخل، طرقت على الأرض السيراميكية بكعب حذائها الرفيع، بقوامها الممشوق وعيناها البُنية التي تُحدج كل من حولها بنظرات ثاقبة، رافعة رأسها بعنهجية، دلفت إلى باحة المحكمة لتقف بتكبر، ناظرة في الأرجاء حولها، لتقف عيناها بتحدي على عدو موكلها الغير برئ بالمرة، وجدته يُطالعها بنظرات كره وتحذير بحت، خطّى عدة خطوات نحوها، ليقف أمامها مباشرة، فرفع سبابته مردفًا إليها بتحذير وقوة: لأخر مرة بحذرك، ابعدي عن القضية دي انتِ مش قدي.
لوت شفتيها بإستنكار، وهي تحدق في هيئته التي تدل على ثرائه الفاحش، ولكنه ثراء بأموال غير مشروعة، أموال أتت نتيجة أعمال نهب وسرقة وجرائم قتل لا عدد لها، لتتشدق بعدها بإستهجان وهي تضع يدها على طرف حجابها السماوي تستمد منه القوة: وأنا سبق وقولتلك يا سليم بيه، القضية دي بتاعتي من ساعة ما موكلي طلب مساعدتي فيها، ولحد ما أكشف أعمالكوا القذرة.
التوى ثغره بسخط، وبدأت بذرة الحقد تنبت في قلبه تجاهها، ليهتف بتهديد واضح وصريح، قبل أن يذهب من أمامها بخطوات غاضبة: خليكِ فاكرة انتِ اللي بدأتي يا غزل أبو زيد.
لم يقل ثباتها، بل زاد أكثر عن ما كان به من قبل، لتعترف بقرارة نفسها أن تلك القضية لن تكون باليسيرة كسابقيها، وضعت يدها على روبها الأسود الخاص بعملها، ثم حتمت رأيها بالإكمال والتوجه إلى قاعة المحكمة العُليا، لكشف الأوراق المخفية،!
استكملت غزل خطواتها نحو الداخل، لتقف على باب القاعة، توزع نظراتها على المكان، حتى توقفت حدقتاها على مكانها الفارغ، اتجهت نحوه بخُطى رتيبة، جالسة عليه بهدوء، ثم بدأت بترتيب أوراقها وملفات براءة موكِلها، تذكرت الحديث الدائر منذ عدة دقائق، لتتمتم بتوعد: كنت فاكرة إن اللي بسمعه عنك كلام مُبالغ فيه، لكن باللي عرفته طلعت متساويش حاجة من المبالغة دي، ونهايتك هتتكتب على إيدي.
شعرت بمن يجلس أمامها من الجهة الأخري، لترفع عيناها الُبنية تجاهه، فوجدته هو سليم المنشاوي، أقذر رجل أعمال في مصر، لديه العديد من العلاقات الهابطة التي تُخفي سوء أعماله، لم تُبالي بنظراته المُحذرة، بل ابعدت نظراتها عنه بلامبالاة مما أشعل فتيل الغضب بقلبه أكثر.
وبلمسة أخير من يدها، وضعت كفها على جيب جاكيتها من الخارج، للتأكد من وجود دليل البراءة بداخله، تذكرت عندما أتت لها جارتها تتوسلها ببكاء حارق للتدخل في إخراج ابنها من التهمة الُملفقة إليه بقتل زميلٍ له.
Flash Back:
كانت تجلس وسط عائلتها في جوٍ من المرح، خاصة بوجود شقيقتها التي تصغرها بعامين، والتي تختلف عنها في جميع الصفات، استمعوا إلى جرس الباب، لتقوم والدتها فوزية بفتحه، وجدت جارتها أمامها بعدما سمحت لها والدتها بالدخول وعيناها منتفختان من البكاء، تسائلت فوزية بقلق عندما واصلت نشيجها المتقطع: مالك يا أم محمود إيه اللي حصل!
هبطت دموع الأخري بشدة وهي تذهب ناحية غزل التي كانت تتابع ما يحدث بجوار شقيقتها ميران، لتردف أم محمود بتوسل ممزوج بالبكاء: أبوس إيدك يا ست المحامية ساعديني.
سحبت غزل يدها بسرعة شديدة عندما كادت الأخرى أن تُقبِلُها، لتتشدق بفزع من هيئتها: قوليلي بس ايه اللي حصل يا أم محمود وأنا مش هتأخر لو بإيدي والله.
اجابتها بنشيج وهي تزيل دموعها بأسي: ابني. حبسوا ابني يا بنتي، متهمينه بتهمة غسيل أموال. وتجارة غير مشروعة في الشركة الكبيرة اللي شغال فيها، وهو على نياته واللهِ ملوش في العوق وماشي جنب الحيط دايمًا.
واستها فوزية وهي تربت على زراعها، تنظر لها بشفقة، فطالما كانت جارتهم خير عونٍ لهم هي وابنها محمود، لم يروا منهم سوا الخير طوال حياتهم، لذلك أردفت بود حقيقي: متقلقيش يا أم محمود، هيطلع منها بإذن، و غزل هتعمل كل اللي في إيديها عشان تساعده يخرج، صح يا غزل!
وجهت حديثها الآخير لها، لتومأ لها غزل بتأكيد وهي تردد: انا هروح ليه يا أم محمود وهفهم منه اللي حصل كله، وإن شاء الله خير.
أتت ميران ممسكة بيدها كوب من المياه الباردة، أعطتها للأخرى علها تهدأ من وصلة بُكائها، فارتشفت منها القليل، مردفة بإمتنان حقيقي: شكرًا أوي يا بنتي، ربنا يقدرني وأرد اللي بتعمليه معايا دا.
ابتسمت لها غزل بود، لتردف بمزاح: هاجي آكل من إيدك الحلوة دي بامية باللحمة زي ما بتعمليها.
عيوني يا حبيبتي والله، بس سايئ عليكِ النبي خرجي ابني، دا الحيلة اللي ليا.
اجابتها بهدوء لطمئنتها: حاضر والله، من النجمة هكون عنده، واعتبري يا ستي القضية دي عندي.
ذهبت أم محمود وهي تمطرها بسيلٍ من الدعوات المحببة لقلبها، داعية لها بالستر والصحة والرزق والزوج الصالح، وكل ما تذكرت حينها، أغلقت الباب لتجد والدتها تقول بقلق: هتعرفي تمسكِ القضية دي يا غزل!
رفعت حاجبها بإستنكار مردفة بغرور مصطنع: انتِ بتشكي في قدراتي يا ست فوزية ولا إيه!
لوت فوزية شفتيها يمينًا ويسارًا بسخط، تزامنًا مع حركات يدها وهي تقول: إيش حال ما كنتِ شايلة مادة القانون يا بنت بطني.
تحطم غرور غزل الزائف لتقول بحرج وهي تنظر لأبيها الذي يضحك بشدة: ما كان الدكتور مستقصدني يا ماما، الله!
قهقه والدها إبراهيم وهو يقول بضحك موجهًا حديثه لزوجته الحبيبة: خلاص سيبي البت في حالها يا فوزية واعملي لينا كوبيتين شاي من إيدك الحلوين دول، وتعالي يا غزل ورايا عايزك.
لوت فوزية شفتيها بسخط، لتقول بحنق موجهة حديثها لزوجها: الله الله، بتخبي عليا يا سي إبراهيم!
غمزها إبراهيم بمشاكسة، ليقول بوقاحة: اخلص بس مع البت دي واجيلك انت يا جميل.
خجلت فوزية من مغازلته وذهبت مُسرعة للمطبخ لصنع كوبين من الشاي كما أمرها زوجها، بينما تشنج وجه غزل بإستنكار وهي تردد: إيه شغل المراهقة المتأخرة دي!
سبقها والدها إلى غرفته وهي تتبعه، لتغلق الباب خلفها كما أمرها ثم ذهبت لتجلس أمامه على الكرسي المقابل له وهي تقول بقلق: خير يا بابا في حاجة!
بدأ أبراهيم حديثه بهدوء وهو ينظر لها بجدية: بصي يا غزل، لو القضية دي فيها خطر عليكِ أو على حياتك يبقي ما بلاش منها يا بنتي، انتِ أهم عندي من مليون قضية ومش مستعد أخسرك مهما حصل.
قطبت جبينها بتعجب من حديثه، فلطالما كان والدها هو خير مشجع لها لمساعدة الآخرين، ولكن حديثه الآن يُخالف سابقه، لتردف له بحيرة: ليه بتقول كدا يا بابا، انت معودني دايمًا إني أساعد الكل، ليه دلوقتي بترجع في كلامك!
نفي حديثها برأسه وهو يُجيبها بخوف صادق: القضية دي مش زي أي قضية تانية، الناس دي ناس مش سهلة لو وقعتي في سكتهم مش هيرحموكِ، دول حيتان.
تفهمت غزل خوف أبيها الصادق عليها، لذلك اقتربت منه بتروي لتقول بحنان: متقلقش عليا يا بابا، القضية دي هتكون زيها زي غيرها.
ياريت تكون كدا فعلًا يا بنتي.
ابتسمت بود له ليبادلها هو الآخر، فأردفت بمشاكسة لإخراجه من قلقه: هروح أنام بقا بدل ما ست فوزية تيجي تطردني.
ضحك بخفة على حديثها حتى اختفت من أمامه، ليرفع عيناه للسماء المُطلة على شرفة غرفته، قائلًا بدعاء: ربنا يحميكِ يا بنتي ويبعد عنك كل شر يا رب.
اتجهت غزل إلى غرفتها المشتركة بينها وبين شقيقتها ميران، لتدلف للداخل مُستمعة إلى صوت بكاء مكتوم يأتي من شرفتها، اتجهت بجزع إلى مصدر الصوت، لتجد شقيقتها تبكي بخفوت ولكن رغمًا عنها كانت شهقاتها تعلو من حولها، اتجهت غزل إلى أختها مردفة بقلق: ميران مالك يا حبيبتي!
رفعت ميران عيناها المملوءة بالدموع إليها لتقول برجاء وهي تمسك كفها: محمود يا غزل، حبسوه يا غزل وهو ملهوش ذنب.
احتضنتها غزل وهي تزفر بشدة وبدأ القلق يتقاظم في قلبها، هي أكثر من تعلم بعشق شقيقتها ل محمود، لذلك تسرب الخوف إليها من عدم الوصول لبرائته، لكنها أردفت بهدوء وثقة لطمئنة أختها: متقلقيش يا حبيبتي، أنا هفضل ورا القصية دي لحد ما أثبت دليل برائته.
رفعت الأخري رأسها بسرعة قائلة بلهفة: بجد يا غزل!
ابتسمت لها وهي تؤكد لها حديثها: بجد يا قلبي، يلا بقا قومي نامي علشان ترتاحي.
BACK.
عادت إلى أرض الواقع عندما استمعت لصوت تابع القاضي وهو يقول بعملية: محكمة.
وقف الحاضرون بإحترام، ليجلس القاضي بتروي ثم جلسوا خلفه قبل أن يقول: ف ليتفضل الشهود.
وقف الخصم ليبدأ في تلفيق الأكاذيب ببراعة لذلك البرئ الذي يستمع له بزهول، فلطالما كان يعمل بِجد واجتهاد مُراعيًا ربه في عمله، لم يخطر على باله بأن يُسجن هكذا، وبأي تهمة! القتل، عن أي قتلٍ تتحدثون! هو بحياته لم يُفكر مجرد التفكير في أذية أي شخص، وها هو الآن مُتهم بالقتل! ويا ليت القضية تقف على ذلك، بل يتهموه أيضًا بغسيل الأموال! نكس رأسه للأسفل بخزى، لا يستطيع حتى الدفاع عن نفسه، فتلك القضية مُحبكة بمهارة، ظل يستمع إلى خصمه وهو يُقدم أدلة مزيفة، لكن من يراها يُقسم بحقيقتها، أغمض عينه بيأس فمن الصعب أن يتم إخراجه إلا بمعجزة إلاهية، رفع رأسه للأعلى وبعض الدموع تتسلل إلى عيناه من الظلم، ثم أردف برجاء: يارب خليك جنبي.
ويد المظلوم لا تُردُ خائبة ابدًا، وكأن الخالق إستجاب لدعائه وفُتحت أبواب السماء لتُمطر ببزخ، أجواء شتوية بحتة يُصاحبها إرتفاع أصوات الرعد لتُفتح أبواب السماء مُنيرة بخطوط ملتوية غير مستقيمة بفعل البرق، ويرفع الخلق أيديهم لدعوة خالقهم بخشوعٍ صادق، ويستجيب لهم الله لصدق دعواتهم، فتبدأ غزل بالدفاع عن موكلها بكل ما تمتلكه من مهارة، مُقدِمة الأدلة والبراهين على برائته، وتتحدث بثقة لم تعهدها من قبل، وكأن الله بثَ فيها القوة لتُظهر برائة موكلها، أوراق تليها أوراق وحديث يُصدق أدلتها، لتختم جلستها بمقطع مصور من أحد الأماكن الشهيرة لحظة وجود محمود به أثناء وقع الجريمة المُلفقة إليه، تزامنًا مع تقديمها للأوراق التي تُثبت صحة حديثها من المعمل الجنائي، آتية بطبيب الطب الشرعي ليقول ما لديه من معلومات صحيحة.
انتهى دفاعها لتنظر لوجه سليم المنشاوي بشماتة وسخرية، بينما هو لم يكن يعلم بأنها بكل تلك البراعة، كل ما يعلمه عنها بأنها فتاة من الطبقة المتوسطة ليس لديها كل هذه الخبرة بعملها، أغاظه تلك النظرة الشامتة التي تحدجها به، جز على أسنانه بغضب جامح وهو يتوعد لها بأشد أنواع الويل، مال على مساعده يُملي عليه بعض التعليمات، لتتجه أعين مساعده إليها للتعرف عليها، شعرت بالريبة من نظراتهم لكنها أدعت الامبالاة الزائفة.
جاء النطق بالحكم لتضغط على أصابعها بقوة، والجميع يجلس على أعصابه، حتى نطق القاضي: بالنظر إلى الأدلة المُقدمة وشهادة الشهود، حكمت المحكمة حضوريًا، على المتهم محمود عبدالهادي نور الدين، بالبرائة.
صرخت غزل بفرحة عارمة وتعالت الزغاريط المهللة من أم محمود وهي تبكي فرحًا، بينما هبط محمود على الأرض ساجدًا لله ودموعه انهمرت بسعادة حقيقية.
يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
بعينين حادتين كالصقر كان يُركز على شاشة حاسوبه بالعمل، كانت أصابعه تضغط على الأزرار بمهارة وحرفية شديدة، التوت شفتيه بإبتسامة عابثة منتصرة قبل أن يضغط ضغطة أخيرة على زر النهاية، فتح عيناه على وسعهما فكادت أن تخرج من محجرها وهو يردف بنواح: يا نهارك اللي شبه وشك يا ريان، يا وقعتك المربربة يا منيل، إيه اللي أنا عملته دا!
ابتلع ريقه بتوجس وهو ينظر مرة أخري تجاه جهاز الحاسوب، متمتًا مع نفسه بصوت خافت: أجبها للمدير إزاي دلوقتي أنا! دا ممكن يروح فيها...
وقف محله ثم قال بجدية وقوة مصطنعة: انا هروح اقولهالوا خبط لزق كدا واللي يحصل يحصل.
استجمع ريان رباطة جأشه، فعدَّل من خصلاته البنية وهو ينظر للمرآة التي آتى بها خصيصًا إلى هنا؛ لمتابعة لياقته كما يقول، ثم هتف بمعاكسة بلهاء لذاته: والنبي قمر. بتاع مشاكل أه بس قمر. قمر.
انتهى من ترتيب ملابسه فخرج من مكتبه بخطوات رتيبة رغم فزعه، إلى أن وصل إلى مبتغاه، مكتب المدير طرق عدة طرقات فسمح الآخر له بالدخول، أخّرَ قدم وتقدم بالأخري فكان يمشي كالملسوع، رفع المدير صاحب الخمسون عامًا رأسه تجاهه، فوضع يده يرتب لحيته البيضاء وهو يقول بإستياء لرؤيته: ريان الطحاوي! يا ترى إيه المصيبة اللي عملتها المرادي!
ابتسم ريان ببلاهة ثم جلس أمامه على المقعد دون أن يأذن الأخير له، فأردف بتبجيل زائد عن الحد: شاكر بيه النويهي باشا، أنا طول عمري أقول عنك إنك في مقام أبويا الله يرحمه، دايمًا كان يحكيلي عنك وعن فضايحك اللي كانت تكسف، ما شاء الله كنت خلبوص صغير.
تهجم وجه شاكر أكثر عن ما كان به منذ قليل، ليتشدق بغضب وهو يضرب بكلتا يداه على مكتبه الزجاجي: اتنيل قول عملت إيه. يلعن أبو معرفتك يا شيخ.
ابتلع ريان ريقه بصعوبة مردفًا له بتذكير: فاكر خير اللهم اجعله خير زمان لما طلبت مننا نخترق شبكات شركات علشان ننجح ونتعين في الشركة!
ظهر السخط على وجه شاكر مردفًا بتهكم: وانت طبعًا فشلت، لولا أبوك الله يرحمه كان زماني رميك ولا إني أشوف وشك.
رمى الآخر حديثه المُهين ضاربًا إياه بعرض الحائط وهو يستطرد حديثه قائلًا: أهو بسبب نيتك الزفت دي، أنا حققتلك أمنيتك واخترقت نظام شركة كبيرة.
تأفف شاكر بضجر وهو يصيح بعصبية: طب يا سيدي شكرًا فيك الخير، إيه تاني!
تلعثم ريان من الحديث القادم فإستكمل وهو يقول بتلجلج: أصل. أصل الشركة دي طلعت بتدير أعمال مشبوهة، والله أكبر طلعت بتتعامل مع ما يا كبيرة، وعاملين نظام تتبع وعرفوا إني اخترقت نظامهم، وتقريبًا كدا هيجوا ويهدوا شركتك على دماغك ودماغنا كلنا.
رمى بحديثه دفعة واحدة ليتخلص من ذلك الثقل الجاثم فوق صدره، بينما الأخير فتح عيناه بصدمة، وشحب وجهه بفزع، شعر بآلام قلبه الشديدة، فوضع يده على قلبه وهو يكاد يشعر بالإختناق وروحه تكاد تُسحب من جسده.
فزع ريان من مظهره فذهب إليه مسرعًا فاتحًا ياقة قميصه وهو يتحدث بفزع: شاكر بيه! مالك! متحسسنيش إن أنا السبب،!
تنفس بصعوبة وهو يشير بيده تجاه البخاخ الخاص به، ولكن كان ريان كالأبله لا يفهم شئ، لذلك أنزل يده وهو يقول له بتهدأة ظنًا منه بأنه يُعاني: إهدى يا شاكر بيه وهتبقى كويس متلقلش.
جحظت عيناه وإحمرَ وجهه بشدة ومازال يُشير إلى بخاخته، وكأن غباء جميع أهل الأرض هبط على الآخر، ليفتح أزرار قميصه ويُدلك موضع قلبه ومازال يواسيه بكلماته: ما هو انت بردو اللي نيتك وحشة، يعني حد يحُط شرط زي دا للعملاء علشان يقبل يشتغلوا في الشركة! علشان كدا تلاقي ربنا مش مباركلك.
دفعه شاكر بقوة ليظن ريان بأنه مازال يغضب عليه، فإقترب منه مرة أخري يُقَبِل رأسه مردفًا بأسف: خلاص يا سيدي وأدي راسك أهي هبوسها، حقك عليا بقا.
تحدث شاكر بوهن وهو يشير لبخاخته للمرة التي لا يعلم عددها: هات البخاخة من على المكتب يا حيوان.
نظر ريان إلى حيث يُشير، ليذهب ويُمسك البخاخة بين يده متحدثًا بتعجب: دا إيه يا شاكر بيه!
ثواني وفتح عيناه بصدمة وهو يستكمل حديثه قائلًا بدهشة: منشطات! بتاخد منشطات يا شاكر بيه!
انتشلها منه الآخر سريعًا ليضعها في فمه ويضغط عليها بضعف حتى دخل سائلها إلى فمه، هدأ قليلًا ليضع يده على قلبه، فعاد تنفسه الطبيعي كما كان، لكن هذا الدوار الذي داهمه جعله يضع يده على رأسه بوهن، ليفقد وعيه في الحال،!
شهق ريان بقوة وهو يقول بخضة: يا مصيبتي دا مات!
مخالفة العالم لأحلامك يجعلك تسلك طريق غير الذي تريده، لربما تكون نهايته الهلاك، أو ربما تكون بداية لقصة جديدة مختلفة عن غيرها،!
جلست على المقعد في أحد المطاعم الشهيرة وهي تلوك العلكة في فمها، عدَّلت من خصلاتها الواقعة على عيناها لترجعهم للخلف، ثم بدأت بالتحدث للذي أمامها: الحالة بقت قحت خالص يا أحمد ومعيش جنيه، شوفلنا أي سبوبة نسترزق منها.
تنهد أحمد وهو يأكل بنهم من طبق البطاطس الذي أمامه، ليقول بداهية بعد أن ابتلع ما في جوفه: ودا اللي أنا جايبك عشانه يا وصال، مُدرِس ثانوي بيقبض في الشهر بألاف الألاف.
تنبهت وصال للحديث واعتدلت في جلستها، معطية إهتمامها الكامل له، لتردف بإهتمام له: لأ فكرة جامدة دي يا واد يا حمادة، بس دا هندخله من أي ناحية! هتبقي صعبة دي.
غمز لها مستطردًا حديثه بقوله: بالحنية كله بيلين، هندخله على أساس إن انتِ لوحدك وبتصرفي على أمك الغلبانة، فيشغلك مساعدة ليه والخازنة تبقى كلها في إيدك.
أردفت بإعجاب من حديثه المقنع: دماغ والله.
قاطع حديثهم صوت هاتفها الذي صدحت نغماته، لتجد إسم والدتها يُنير على شاشته، فأجابت بهدوء وهي تُريح ظهرها للخلف بأريحية: السلام عليكم يا ماما.
نظر لها أحمد بسخرية، ليضحك بخفوت عليها، فتلك التي أمامه ورغم رقتها، إلا أنها أكبر مُحتالة قابلها حتى الآن، جعلت من جمالها سلعة لتلك الأعمال ليقع تحت يدها أعتى الرجال، تسلبهم كما سلبته من قبل، تلك المرة الأولي التي رأى بها عيناها الزيتونية لتسلبه هو الآخر، قابلها في عمله بإحدي الشركات الكبرى، كاد أن يخبرها بإعجابه بها، إلا وصُدم منها عندما علم بإنها مُحتالة كبيرة، حينها كشف هويتها لتترجاه كثيرًا من عدم إخبار أحد عما علمه عنها، ليوافقها ولكن بشرط أن يعمل معها، حينها وافقت على مضض، وبدأوا بالعمل معًا ليقوموا بالنصب على من يملكون أموالًا طائلة، تلك هي أخلاقهم، يحتالون على الأغنياء ولكن الفقراء لا يقتربون منهم، كم هم أبرياء بحق،!
هبت وصال من مقعدها بفزع عندما استمعت لحديث والدتها، لتقول بسرعة وهي تُغلق الهاتف معها: طيب يا ماما اقفلي دلوقتي أنا جاية حالًا.
وقف أحمد أمامها قائلًا بتعجب من حالتها: في إيه يا وصال! حصل إيه!
أجابته بتعجل وهي تُلملم أشيائها من على الطاولة: ماما كلمتني وقالتلي إن بابا تعبان ولازم أروَّح حالًا.
لملم أشيائه هو الآخر وهو يوجه حديثه لها: طيب يلا تعالي هوصلك، وإن شاء الله بباكي هيكون كويس.
أومأت له بالإيجاب لتخرج معه من المطعم بتعجل وتصعد للسيارة التي معه منطلقين بها بسرعة للوصول إلى منزلها بأسرع وقت.
في إحدى الجامعات وخاصةً كلية الصيدلة، كان يقف وسط أصدقائه بفناء جامعته وعيناه تحوم بتسلية على الفتيات من حوله، يُطرب أذانهم بما يشعرهم بأنوثتهم، وللعجب كانوا يبتسمن له، بل يبادلونه الحديث والضحكات النافرة، ليثير نفسه شاعرًا بهيمنته على الفتيات، الجنس اللطيف كما يلقبهم، أكثر ما يُعاملهم برقة، لتكون النتيجة ضحكة، غمزة، تبادل أحاديث، وأخيرًا صداقة خارج نطاق الشرع والمنطق.!
جاءت وقت المحاضرة، ليناديه أحد أصدقائه بصوت عالي علَّه يجذب إنتباهه وهو يقف يتبادل الأحاديث مع أحد الفتيات: شهاب. يلا عشان نلحق السيكشن.
أنهى الحديث سريعًا مع الآخرى وهو راسمًا الأسف على وجهه، واعدًا إياها باللقاء مجددًا، ذهب إلى مكان السيكشن، ليرتدي معطفه الأبيض الخاص بكلية الصيدلة، دخل ليجلس على أحد المقاعد بجانب صديقه وابن عمه معتصم الذي نهره بغلظة: انت مش هتبطل قرف بقا يابني! كل شوية ألمك من حِتة شكل مع جثة شكل!
وضع شهاب ذراعه على كتفه بمزاح وهو يتحدث بمرح: يابني وهو حد يرفص النعمة! دا حتى تزول من وشه.
ورغمًا عن الآخر ضحك معتصم على حديثه المغلف بالوقاحة، ولكن يظل كما هو شهاب النويهي، أصغر فرد بعائلته على الرغم من أنه يكبره ببضعة شهور فقط، ليردف بقلة حيلة: خليك انت كدا لحد ما تقع على بوزك.
هز شهاب حاجبيه بتسلية وهو يجيبه بتكبر زائف ممازحًا إياها: جوزني أختك وانا هبطل يا أبو نسب.
قهقه معتصم عاليًا متشدقًا بحديثٍ لم يعلم أثره على الآخر: أختي! دي إهداء تطيق العمى ولا تطيقك، وبعدين هي دلوقتي مخطوبة انت بتقول إيه!
شعر شهاب بالضيق يطبق على أنفاسه، فعشقه الخفي لحبيبة طفولته مازال عقبة في طريقه، رغم نفورها منه إلا إنه لا يستطيع نسيانها، وجاءت القشة التي قسمت ظهره عندما علم بموافقتها على الخِطبة من شخص غيره، حينها أظهر الامبالاة محاولًا دفنها مع الماضي، ولكن تظل هي من ينبض القلب لأجلها.
أفاق عندما دخل الدكتور المسؤول عن المادة للداخل، ولكن أكثر ما أثار رعبه، هي تلك الكائنات الصغيرة التي يوزعها عليهم طالبٍ منهم، هز ذراع معتصم بخوف وهو يُشير للكائن الموضوع أمامه: م. معتصم إلحق دا، دا فار!
كتم معتصم ضحكته بصعوبة على ملامح وجهه المرتعبة، يعلم كل العلم بخوفه من الفئران، رغم مرور أربع سنوات على وجوده بالجامعة، إلا إنه يهابهم وبشدة كأنهم حيواناتٌ ضارية، ليس بفأر صغير، تحدث معتصم مُدعيًا الثبات وهو يُمسك الفأر من ذيله رافعًا إياه أمام عينه المرتعبة: دا كائن برئ خالث. حتى بص.
صرخ بفزع عندما أنهي معتصم حديثه برمي الفأر على ملابسه، منفجرًا في الضحك عند سماعه لصراخه الهستيري، ظل شهاب يقفز في مكانه خوفًا من الفأر الهارب على ملابسه، ليمسكه أخيرًا، وبسرعة قام بضربه في الحائط بقوة رغمًا عنه بسبب خوفه المتفاقم من تلك الكائنات الرقيقة، لينزل الفأر صريعًا دون تنفس.
تنفس براحة رغم أسفه على ما حدث للفأر، ولكن لا يهم، المهم أنه بخير الآن، استمع مؤخرًا لصوت الدكتور الخاص به وهو يردف لهم بحدة: إيه الصوت دا يا شباب!
صمتوا جميعًا ولم يتحدث فردًا فيهم، ليقول الدكتور قبل أن يخرج من المكان الذي به مفجرًا مفاجئته التي وقعت على رأس شهاب كالصاعقة: اعملوا حسابكم لو الفار مات من حد فيكم يعتبر نفسه شايل المادة.
عِند هذا الحد ولم يحتمل معتصم أكثر، لينفجر في الضحك غير مبالي بنظرات الطلبة من حوله، وكل ما يجول بخاطره هو تعابير شهاب المرتعبة، بينما شهاب شلت الصدمة لسانه، ذهب للفأر مسرعًا ليجثوا بجانبه وهو يُحادِثهُ بهلع يُزيد من هستيريا الضحك لدى معتصم: قوم بالله عليك، قوم وحياة أمك هسقط، وغلاوة المرحومة لتقوم هسقط.
اقترب منه معتصم بعدما هدأ قليلًا من نوبة الضحك التي تلبسته وهو يردف بضحك: شوفه يمكن عايز تنفس صناعي.
رماه الآخر بنظرة نارية ولكن لم يبالي له، بل أكمل ضحكه المتعالي على ابن عمه الذي ينظر بيأس للفأر وهو يكادُ يبكي تحسرًا.
وصلت وصال ومعها أحمد إلى الشارع الموجود به منزلها في أحد الأحياء الشعبية متوسطة الحال، ليقول بعملية: انا همشي بقا دلوقتي، ولما عمي يبقي كويس ابقي طمنيني عليه.
أومأت له دون حديث لتذهب من أمامه على عجالة، سارت عدة خطوات لتصل إلى منزلها القابع على ناصية الشارع ثم دخلت إليه بسرعة لرؤية والدها.
دخلت منزلها البسيط لتجد والدتها جالسة في الصالة الصغيرة بيدها قطعة من الدجاج تتلذذ بها، لتسألها وصال بإستغراب: انتي قاعدة بتاكلي يا ماما وسايبة بابا تعبان!
مصمصت والدتها على شفتيها وهي تقول بسخط متابعة إلتهام قطعة الدجاج: متقلقيش. اللي زي أبوكِ مبيموتوش دول بسبع ترواح.
هزت رأسها بيأس لتدلف لوالدها، فوجدته يجلس على الفراش وهو يقول بضجر: شايفة أمك وطفاستها، خدت مني الورك وسابتلي الصدر وانا مش بحبه.
للحظة كادت أن تصرخ منهم ومن مشاجراتهم الطفولية التي لا تنتهي، لتصيح وهي تشد خصلاتها بغضب: يا ناس ألطم ولا أجيب لطامة! هو دا اللي تعبان يا بابا!
وكأنه تذكر مرضه المزعوم، ليسعُل بشدة وهو يُريح ظهره للخلف بإنهاك: أه صحيح فكرتيني.
تشنج وجهها بإستنكار، وحقًا ودت أن تصرخ بهم ولكن أخلاقها تمنعها فبر الوالدين واجب عليها.!
ذهبت لتجلس جانبه بيأس لترفع يدها في نية منها أن تُعدِل من وضعية الوسادة خلفه، لينكمش علي بخوف مُبتذل وهو يقول: لا متضربنيش أنا معملتش حاجة.
قطبت جبينها بتعجب من خوف أبيها لتقول بقلق على حالته: في إيه يا بابا مالك؟
عاد والدها لوضعه الطبيعي وهو يقول بفخر وغرور: طيب بذمتك مش أنفع ممثل؟
صمت قليلًا ليلوي شفتيه بإمتعاض: لولا البومة أمك وقفالي زي سد الحنك ومستخسرة فيا موهبتي.
كل ذلك وهي تتابعه بصدمة حقيقية، ماذا سيحدث الآن إن قامت بوضع الوسادة على وجهه! هل سيحدث شئ حقًا! بالطبع سترتاح، تحول وجهها للخبث لتقف بطولها عليه ممسكة بالوسادة وهي توجه له ضحكات شريرة: انا دلوقتي عرفت هخلص منكم إزاي.
ابتلع والدها ريقه بتوتر وخوف حقيقي تلك المرة، ليبتلع ريقه بصعوبة متشدقًا: انتِ. انتِ هتعملي إيه!
لتجيبه ببسمتها المخيفة: هريحك من أمي ومن الدنيا كلها.
انكمش والدها على نفسه مردفًا بتأثر واضح على زهرة شبابه التي ستذهب هباءً: لأ أنا لسه صغير، مشوفتش من الدنيا حلاوتها لحد دلوقتي.
رمته وصال بنظراتها المستنكرة، لترمي الوسادة بجانبه متشدقة بإستخاف: يا راجل انت اللي زيك مات وشبع موت.
تحولت تعابير وجهه إلى الحدة وهو ينهرها بعنف: بنت! انتِ إزاي تكلميني كدا! انتِ اتجننتِ!
قلبت عيناها بملل من العرض الهزلي الذي يُقدمه، ليقول بعدها بجدية ظهرت في صوته: المهم مش دا موضوعنا دلوقتي، أنا عايزك في حاجة أهم، بس قبل دا كله عايز أقولك وصيتي.
تنبهت حواسها لحديثه الجاد، اعتدلت في جلستها على الفراش، لتمسك بيده قائلة بخوف ينبع من أعماق قلبها: بعد الشر عليك يا بابا، موضوع إيه اللي عايزني فيه!
تنهد بعمق ليُخرِج حشرجة من فمه مستطردًا حديثه: بصي يا بنتي، مش معنى إنك نصابة أو حرامية يبقي انتِ كده وحشة لسمح الله.! لا يا بنتي انتِ شريفة وبتعملي بلقمة عيشك.
مغفلة هي لتُصدق جدية حديث والدها، ومنذ متى وكان هو يتحدث بجدية من الأساس! الغضب تشكل داخلها، ودت حقًا بأن تقتل شخصًا ما الآن لتُطفئ من ذروة غضبها، لم يلتفت والداها علي لغضبها البادي على قسماتها، ليُكمل لها برجاء: انا عايز اطلب منك طلب واحد بس.
حاولت التحكم بأعصابها أكثر من ذلك، لتجز على أسنانها بعنف مردفة: طلب إيه؟
ليتابع هو بنبرته المتوسلة: عايز آكل جمبري، مدقتهوش من أيام المرحومة أمي.
عند هذا الحد ولم تحتمل بل صرخت بعلو صوتها بنفاذ صبر: بس، أنا غلطانة إني ضيعت وقتي معاك.
أتت والدتها التي كانت تتنصت على حديثهم لتقول بفرحة لم تستيطع مدراتها: أيوا يا وصال وأنا كمان عايزة جمبري.
ليزجرها علي بعنف قائلًا برفض: لا هيكون ليا لوحدي.
صرخت وصال بيأس من حديثهم العقيم لتخرج من المنزل بغضب وهي تلعن وقوعها بتلك العائلة المجنونة، نظر كلًا من علي وزوجته لبعضهم البعض من ثورتها الغير مبررة بالنسبة لهم، ليقول بتفكير عميق: يمكن مش بتحبه عشان كدا زعلت!
الصمت يعم أرجاء المنزل وهذا ما طمئنه، إشرأب بعنقه يمينًا ويسارًا لتأمين المكان، نظر خلفه لشقيقته التي تراقب الوضع بتوتر وهو يقول: تعالي ورايا يا سجود، الدنيا هنا أمان يسطا.
أمسكته سجود من معصمه مردفة بقلق: تعالي نرجع أوضتنا يا عابد، بابا لو شم خبر باللي هنعمله هيعلقنا.
طالعها عابد بإستنكار، وداخله يؤمن بحديثها، فوالده طه إن علم بما هم مقدمون عليه ستكون نهايتهم بالتأكيد، ورغم ذلك رد بتكبر وغرور زائف: طول ما معاكي عابد أبو زيد يبقي متقلقيش.
ابتلعت سجود ريقها وهي تقول بتوتر وصوت خفيض: ربنا يستر.
أكملوا طريقهم لداخل غرفة والدهم، وضع عابد يده على المقبض ليُديره بتروي حتى لا يُصدر صرير يؤدي إلى إستيقاظه، دخلوا على مهل بعدما نجحوا في فتحه ليُقابلهم الظلام الدامس، وهناك خط من النور الرفيع يأتي من شباك الغرفة، استطردوا السير على أطراف أصابعهم حتى وصلوا إلى الخزانة، الخطوة الأصعب على الإطلاق، حاول عابد فتحها لتساعده سجود في ذلك، حتى انتشلوا ذلك الصندوق المُغلف من داخل ضلفة ملابسه.
أصابهم الرعب عندما استمعوا لصوت همهمة والدهم أثناء النوم، لتتخشب أجسادهم محلها ويعود الصمت مجددًا، أعادوا إغلاق الخزانة مرة أخرى على مهل، ليعودوا كيفما جاءوا.
دخل كِلاهما إلى غرفة عابد، متجهين نحو الفراش، ليضع ذلك الصندوق الذي بين يديه ناظرًا له بحماس، و سجود تُطالعه بنفس النظرة، كادت يدها أن تمتد نحوه، لتجد يداه أقرب له وهو يقول إليها بتحذير خطير: بتعملي إيه!
رفعت حاجبها بسخط لتقول بنفس النبرة التي تحدث بها: يلا مش هنقسم!
هز رأسه بالنفي وهو يُتابع إعتراضها، متابعًا حديثه بقوله: أنا اللي هقسم، وإياكِ. ثم إياكِ يا سجود تمدي إيدك على حاجة من غير ما أقولك.
طالعته بحقد وداخلها ودت أن تقف وتمزق وجهه اللعين، لتُجيب على مضض: ماشي. بس كله بالعدل.
بدأ بوضع الصندوق اللامع المُغلف مرة أخري على الفراش، وعيناه تُضيئ بوميض من السعادة الغريبة، فتحه على مهل ليظهر ما داخل الصندوق، قطع من الشيكولاتة المُغلفة بالمكسرات الشهية، كنز العائلة الثمين الذين يتهافتون عليه جميعًا، سال لُعاب سجود هي الأخري وهي تري حلواها المفضلة أمام عيناها، والدهم القاسي دائمًا ما يقوم بتخبئتها ليأكُلها وحده، أحيانًا تتسائل لِما هو بتلك الأنانية! ولكن لا يهم الآن، فها هي حصلت عليها بعد عناءً طويل.
بدأ عابد بتوزيع قطع الحلوي بعدل كما يقول، ليُعطيها واحدة ويأخذ هو اثنتان بالمقابل، استنكرت فعلته لترفع حاجبها بإستهجان وهي تقول: ودا إيه إن شاء الله!
ثم تشدقت بطريقة سوقية بعيدة كُل البعد عن كونها أنثي: حط ياض كمان واحدة بدل ما وديني أشرحك.
نظر لها أخيها مزهولًا، وولحظة فكَّر في إعطائها الصندوق كاملًا خوفًا منها، لكنه أردف ببرود ظاهري: الراجل له ضعف الست ياختي.
أمسكته من ياقة قميصه لتقول ببلطجة: بقولك هات كمان واحدة بدل ما أشُقك وربنا.
هز رأسه بنعم وهو يُعطيها واحدة أخري تجنبًا لغضبها السوقي، نظر لها بقرف وهي تأكل بنهم شديد، فتحولت إلى كتلة من البراءة وهي تأكل الآن، ابتسم بحنان لشقيقته التي لم ولن تتغير ابدًا، يحمد الله كثيرًا على منحه إياها هي وشقيقتها التوأم تسبيح تلك الفتاة النقية بكل ما تحمله الكلمة.
أفاق من شروده على صوت مُزعج يصدر منها، وتلك المرة طالعها بإشمئزاز حقيقي وهو يراها تمتص تلك الورقة التي كانت تحتوي على قالب الشيكولاتة، هل قال منذُ قليل إنها أنثى! ليُقطع لسانه الآن واللعنة.
نظرت له بعدما انتهت من إلتهامها لتردف بحماس شديد بعدما قامت برمي الورقة التي كانت بيدها منذ قليل على أرض حجرته: يلا وزع الباقي يا بيدو.
فتح عيناه على أخرهما، ناظرًا لها بشراسة، متشدقًا بخطورة وهو يُشير على أرضية حجرته: الورقة اللي رمتيها وفيها قرفك دي تشيليها بدل ما أبلعهالك.
أجابته بتحدي ناظرة لعيناه بقوة: ولو مشلتهاش!
أغلق الصندوق من أمامه مُجيبًا بتهديد: يبقي تخبطي راسك في الحيط ومش هتطفحي حاجة.
لا. خلاص. خلاص.
أجابت مسرعة وهي تهبط من الفراش تتناول الورقة بيدها، وبكل بلاهة وحماقة وضعتها على فراشه، لتسمع صراخه: سريري، سريري يا معفنة.
تأففت لتأخذها وترميها بسلة القمامة وهي تنظر له بضجر، ارتاحت تعابيره ليعودا كما كانا منذ قليل، يستمتعان بتناول الحلوي، جاهلين عن ما سيحدث لهم في الصباح.
تم نقل شاكر على الفور إلى المشفي القريبة من مركز الشركة، تعالت الضجة بين الموظفين عندما علموا بتدهور صحة رب عملهم، وقف ريان والذي أتي معه، أمام غرفة العناية وإمارات وجهه حزينة لما حدث لرفيق والده، فكَّر في مهاتفة أحد أبنائه لذلك أخرج هاتفه من جيب بنطاله الأسود، ضاغطًا بعض الأزرار، ليضعه على أذنه بعض الوقت، حتى جاءه الرد من الناحية الأخري: ايوا يا ريان.
أجابه ريان على الفور وهو يقول بحزن: الو يا فارس، تعالي دلوقتي على المستشفي اللي جنب الشركة. أبوك في المستشفي.
رد فارس بقلق وهو يُجيب بفزع: مستشفي ليه! إيه اللي حصل!
أردف ريان بتأثر وصوت حزين للغاية: مش عارف. منهم لله اللي كانوا السبب. هيروحوا من ربنا فين بس!
أجابه الآخير بسرعة وهو يهم بإغلاق الهاتف: طيب انا جايلك حالًا، عشر دقايق وهكون عندك.
مر وقت ليس بالكثير ليصل فارس إلى الردهة الواقف بها ريان، ليمسكه من ذراعه وهو يتسائل بقلق: بابا فين يا ريان! وإيه اللي حصل علشان يتنقل المستشفي!
كاد أن يُجيبه لكن ظهور الطبيب الذي خرج للتو من الغرفة المُحتجز بها شاكر، ليذهب له كلًا من فارس و ريان مسرعين، ليتسابق فارس في السؤال مردفًا بخوف: طمني يا دكتور، بابا عامل إيه!
نظر لهم الطبيب بتقييم، متشدقًا بعملية: خير إن شاء الله، هو بس إنخفاض في ضغط الدم لأن من الواضح إنه مخدش العلاج في وقته.
هدأ فارس قليلًا مردفًا بإبتسامة متكلفة: الحمد لله. شكرًا ليك يا دكتور.
دا واجبي. عن إذنكم.
غادر الطبيب تاركًا الإثنان يزفران براحة، لينظر فارس تجاه ريان بغموض لاحظه الآخر لكنه لم يُعقب.
الشر الكامن في الأرض قضي على الخير الموجود في السماء، قلوب البشر المُفعمة بالحقد ل طالما كانت السبب في هلاك الجميع، نفوسهم الخبيثة تقتل الأبرياء، والنفوس الطيبة تُقتل في دائرة الشر المُحاطة بنا.
ظل يجول في مكتبه ذهابًا وإيابًا رغم تعدي الوقت منتصف الليل، سليم المنشاوي. الراعي الرسمي للهلاك، رجل ممن يحبون القتل كأعينهم، يشعر بالإنتشاء عن رؤية ضحيته تتذلل تحت قدمه تطلب الرجاء، هو هالة من الغموض والنفور.
ظل يُفكر بطريقة تليق بالإنتقام من أنثي ك غزل أبو زيد، المرأة الثانية التي وقفت بطريق أعماله المشبوهة، بعد الأولي التي قام بقتلها لتحديها له، والآن يُفكر بطريقة مُحبكة للتخلص منها، اشتعلت عيناه بالغضب عندما تذكر فعلتها الأخيرة بعد إعلان المحكمة لبراءة محمود، قامت برفع قضية ضده تتهمه بالإدّعاء الكاذب على موكلها، لتتقبل المحكمة قضيتها، لولا أنه استعان بنفوذه لكان الآن يُزج في السجن بين المجرمين، حيثُ مكانه الحقيقي،!
دخل عليه رفيقه وهو ينظر له بهلع ناطقًا بخوف: مصيبة يا سليم وحلت فوق دماغنا.
قطب جبينه بغضب، فاليوم لا ينقصه مصائب زائدة، ليردف بحدة للذي أمامه: خير يا فريد. قول اللي عندك.
تلعثم الآخير في حديثه وهو ينظر لوجهه الغاضب، فلو علم ما حلَّ بهم سيهدم الشركة بما فيها فوق رأسه، أتاه صوت سليم الحاد وهو يزجره بعنف: هتفضل ساكت يا فريد! قول اللي عندك وخلصني.
تردد في إخباره لكنه حسم الأمر ليبدأ في سرد ما حدث بقلق: حساب الشركة الأساسي واللي بندير عليه كل الشُحنات برا وجوا مصر، اتهكر وتم إقتحامه.
قُضي الليل بين آنات القلوب المتوسلة لخالقها تطلب غفرانه، وبين قلوب خائفة من الغد، وأُناس يستغلون الليل في أعمالهم المُحرمة، لتسطع الشمس ببهجتها تفرض سيطرتها على الجميع وأشعتها تتسلل لداخل غرفتها هي تحديدًا، تلك القابعة على فراشها تبكي حتى احمرت عيناها تطلب منها التوقف.
ضحية لزيجة غير راغبة بها، زيجة كانت طلب من والدها القاسي، وعندما أعلنت رفضها أجبرها عليها، وكأنها سلعة يبيع ويشتري بها، دخلت عليها والدتها وهي تقول بأسي: يا بنتي كفاية بقا انفطرتي من العياط، متقعطيش قلبي عليكِ يا نوال يا بنتي.
زادت من بُكائها وهي تنظر لها بإتهام قائلة بغضب: انتِ السبب، لو كنتِ وقفتي له وقولتيله بنتي مش هتتجوزه كان ممكن يوافق.
بررت والدتها مروة وهي تنظر لها بيأس: ومين قال إنه جواز بس! دي مجرد خطوبة على ابن خالتك، و بدر ألف مين تتمناه.
طالعتها نوال بنظرات مستنكرة ولم تُعقِب، هي تعلم بأن والدتها توافق على تلك الزيجة من ابن شقيقتها بدر المقيم في الصعيد، انهت والدتها حديثها وهي تضع بجانبها الثياب المُجهزة للخِطبة ثم تركتها تنعي حظها العثر.
وجدت شاشة هاتفها يُنير بإسمه، ذلك الحبيب الخفي عن الجميع، أجابت بسرعة وهي تنهار في البكاء: الحقني يا جابر عايزين يجوزوني عافية.
ليأتيها صوته المواسي لها وهو يقول بحسم: يبقي هنهرب ونتجوز غضب عنهم كلهم.
انتفضت من مكانها وهي تقول بتخبط: إيه نهرب!
أكد لها الآخر حديثه مردفًا بأصرار: ونتجوز كمان يا نوال.
ثم بدأ بإستعطافها بنبرة أشبه للتوسل يعلم مدي تأثيرها عليها: أنا مقدرش أعيش في الدنيا دي من غيرك يا نوال، مقدرش أشوفك بتتزفي لراجل تاني وأقف اتفرج عليكِ وانتِ بتروحي من إيدي كدا.
نجح في استثارة مشاعرها الحمقاء بحديثه الواهي، اقتنعت بما يرميه على مسامعها، لتهتف وهي تنظر حولها بتوتر: هحاول أهرب يا جابر واجيلك، انا مستحيل اتجوز اللي اسمه بدر دا ابدًا.
ابتسم بإنتشاء، وعقله يرسم له ألف فكرة وفكرة لقضاء ليلة من صُنع يده، رغباته الشيطانية سيطرت عليه ليجذم بالحصول عليها مهما كان الثمن، ذلك الصيد الثمين الذي أوهمه بالحب، لتقع هي في شباكه التي يُحيكها برأسه، انهي حديثه بعدما أخبرها بالمكان الذي سينتظرها به، مردفًا بحنان زائف: هستناكِ يا حبيبتي متتأخريش عليا.
اسبلت عيناها بخجل من حديثه، لتغلق الهاتف وقد عاد لها إبتهاجها مرة أخري، لتتذكر تلك الزيجة مجددًا، فيتحول وجهها للقنوط وهي تفكر في ردة فعل والداها عندما يكتشفان هروبها: انتوا اللي اضطرتوني اعمل كدا.
ثم جلست محلها تفكر في خطة جيدة للهرب، خاصةً وقد اقترب موعد الخِطبة.
صراعات العائلات لا تنتهي منذُ قديم الأذل، الثأر كلمة مازالت تتوالي على مسامعنا حتى الآن، فيؤدي إلى ضحايا متبادلة بين كِلتا العائلتين، وهذا مع حدث مع تلك العائلات، عائلة أبو زيد ضد عائلة النويهي، صراعٌ لا ينتهي بينهم منذ عشرات السنون، ليسير أحفادهم على نهجهم، كلًا منهم يُقاطع أحفاد الآخر، علاقة وطيدة قُطعت بل بُنيت على الكراهية وحتى الآن لأسباب مجهولة، ولم تشفع الجيرة بينهم، ف منزل عائلة النويهي يُقابل منزل عائلة أبو زيد، وحتى الآن الصلة مُنقطعة.
إلا من هؤلاء الإثنان، فقد بنوَّا علاقة وطيدة بينهم، صداقة شديدة منذُ الطفولة ومازالت مستمرة حتى الآن، بين معتصم النويهي و سجود أبو زيد، صداقة لم يمحوها الكره المُشيد بين العائلتين، لو عَلِم أحدٌ من كلا الطرفين ستكون نهايتهم بالتأكيد، كانت مقابلتهم تتعدد من الحين والآخر، هي تبثُ له همومها ويستبدلها هو بطاقة إيجابية، والعكس بينهم.
كانت المنطقة يحيطها حائط كبير، وخلف هذا الحائط منطقة تشبه الهضبة يعجز الآخرون عن رؤيتها، أراد معتصم مقابلتها في أمرٍ هام، لتذهب له خفية وقت شروق الشمس، تحدثت بقلق وهي تنظر حولها بقلق: إيه يا معتصم، حاجة إيه اللي مهمة عايزني فيها الوقت دا؟
وبعيناه العسلية نظر لزيتونتها بإعجاب، فامتزج لون عيناها بسلاسل الذهب القادمة من الشمس لتصبح عيناها لوحة فنية بحق، ليردف أخيرًا ونظره مازال مُسلط على عيناها: تعرفي إن عنيكي حلوة بجد، تسحر.
استنكرت حديثه وبوادر الغضب على وشك الظهور، ليقاطعها وهو يستند بظهر على تلك الصخرة من خلفه: حاسس إني تعبان، عايز أفضفض.
تخلت عن غضبها المؤقت لتقف بجانبه وهي تنظر له بأسي قائلة: لسه بردو يا معتصم! سامح يا معتصم عشان تعرف تعيش، سامحها وإدي لحبكوا فرصة تانية.
سحب شهيقًا قويًا ثم زفره على مهل، هاتفًا بهدوء وهو ينظر أمامه بشرود: هحاول. لولا إني واثق من حبها ليا مكنتش فكرت فيها مرة تانية.
ابتسمت من جانب فمها وهي تقول بثقة: هتقدر أنا واثقة من دا.
صمتت قليلًا لتأخذ نفس وضعيته قائلة بتمني: تعرف! نفسي إني ألاقي اللي يحبني بجد.
حوَّل نظرته إليها وهو يضيف بتأكيد: انتي فعلاً تتحبي يا سجود.
استنكرت قوله وهي تُجيبه بنفور من شكلها: ومين هيبصلي أصلًا بطَّل مُجاملة.
سجود ليست بالقبيحة كما تقول، من حولها جعل ثقتها بنفسها تخفت شيئًا فشيئًا، بشرتها السمراء كانت تعوقها مسببة لها الإزعاج، لا تُحبد مظهرها ابدًا، رغم أنها تعشق عيناها الخضراء، ولكن بنظرها هي لا شئ.
قاطعها معتصم بتصميم وبدأ صوته بالإحتدام: كفاية بقا قلة ثقة في نفسك، امتي هتعرفي إنك جميلة! امتي هتبطلي تكرهي نفسك!
بدأت بالضعف شيئًا فشيئًا وهي تتذكر حديث الناس عنها وعن مظهرها، مُمنين على جمال أختها التوأم تسبيح تاركين إياها تشعر بالقهر وهي تلاحظ نظرات عدم الإهتمام منهم جميعًا، ابتلعت غصة تشكلت في حلقها وهي تُجيب: لما الناس تبطل تتكلم.
أمسكها من معصمها بحذم ناظرًا لعيناها بقوة: والناس هتغير إيه يا سجود! هتغير إيه قوليلي! كلامهم لا بيقدم ولا بيفيد، كلام الناس طول عمره مُحبط، الناس مبتعرفش غير تتكلم وبس، لازم تثقي في نفسك، دا لإنك فعلًا جميلة.
نظرت له بإمتنان حقيقي، وعيناها تتكلم قبل لسانها: كلامك بيريحني يا معتصم، من واحنا صغيرين كنت تيجي تلعب معايا رغم تحذير بباك ليك، عشان كدا أنا فخورة إني ليا صديق زيك، وعمري ما هندم على صداقتنا.
لانت ملامحه وشعر بالإرتخاء، ليبتسم تلقائيًا لحديثها مردفًا بحنان ومزاح: صداقتنا هي أحسن حاجة في أم العلاقة المعقدة بين العيلتين دول، ناس غريبة والله.
علي رأيك عيلة تِشل.
نظرت لساعة معصمها وهي تقول بقلق: يلا نمشي بقا أصل حد يحس بغيابنا.
وافقها الرأي ليمشوا سويًا بضعة خطوات ثم افترقا وذهب كلًا منهم لمنزله غافلين عن زوج العيون التي شاهدتهم معًا.
أعلنت الشمس سيطرتها الكاملة على المنطقة، ليخرج كبير العائلة أبو زيد، الجد الأكبر، صاحب الكلمة الأولي والأخيرة، كلمته سيف على جميع العائلة، قاسي ولكن حنون بنفس الوقت، خطي عتبات منزلهم مستندًا على عكازه الذي يُزيده وقارًا، ليُقابل في طريقه جاره منذُ القِدم، ألقي التحية عليه وهو يقول بخبث: السلام عليكم يا حج.
نظر له وهو يُجيب بهدوء: وعليكم السلام يا حسَّان، خير!
كل خير إن شاء الله.
ثم بدأ حديثه والمكر يتربص في عيناه الماكرة وهو يقول: ألا هي بنت ابنك كانت بتعمل إيه مع ابن النويهي ساعة الصُبحية!
لعب على أوتار الخطر لديه، استغل معرفته بالعداوة التي بينهم ليرسم شباكه ويوقعه به، تحولت عينا أبو زيد لقطعة من الجمر، ليتحول وجهه للقسوة والتجبر، حفيدته مع حفيد العائلة الأكثر عداوة بينهم! ذهب المدعو حسَّان عندما لاحظ تعابيره التي تشتد بغضب، خاف أن يُطاله غضبه لذلك فرَّ هاربًا.
لاحظ أبو زيد خروج الإبن الأكبر لعائلة النويهي. ليُناديه بصوت عالي يُعلن مدي غضبه، قطب بكر جبينه بتعجب، ليوجه أنظاره ناحية الصوت المُنادي عليه بتلك الطريقة التي أثارت غضبه، زاد تعجبه عندما وجده هو من يُناديه، ليراه يتجه ناحيته حتى توقف أمامه متشدقًا بغضب: خلي ابن أخوك يابن النويهي يبعد عن حفيدتي أحسن ليك وله.
تحدث بكر مستفسرًا وقد بدأت بوادر الغضب بالظهور على تعابيره: ابن أخويا مين!
ظن الآخر بأنه يُراوغ أمامه، فضرب بعكازه على الأرض بقوة وهو يردف بتحذير لم يُكلف عناءه بإخفاءه: أنا قولت اللي عندي، وإلا، وإلا وقتها هكشف على المتخبي والعداوة اللي بينا، والبادي أظلم.
كان بكر يملك من الدهاء أوسعه، ليقترب بخطوات رتيبة حتى وقف أمامه، مُجيبًا إياه بتحدي وخبث ماكر: وهتقول لأحفادك إن سبب الكُره بين العيلتين هو قضية نسب،!
ليتوقف الزمن من حولهم، ويبقي السؤال هُنا، عن أي نسبٍ يتحدثون؟
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني
لملمت ما استطاعت تجميعه، وبتوتر وخوف بالغ نظرت لشباك غرفتها، أطلت برأسها لتجد أن المسافة ليست بالبعيدة، ولكن تلك الخطوة ستكون الفارق في حياتها، نقطة تحول ستقذفها لحياة أخرى لا محالة، وكأن الشيطان تلبسها ليُعمي بصيرتها للعواقب الوخيمة التي ستترتب على فعلتها.
أغمضت عيناها بخوف وصوت يهتف داخلها لا تفعلي، لكنها أبت الخضوع له، وبتردد صعدت إلى الشرفة ثم قفزت من المسافة القصيرة التي بين شرفتها والأرض، أمسكت بأشيائها ونظرت حولها بخوف من أن يكون رآها أحد، وعندما اطمئنت للوضع ذهبت إلى المكان المُتفقة عليه مع المدعو جابر.
بعد مدة تعدت النصف ساعة وصلت إلى تلك المنطقة النائية، ورغم خوفها تحلت بالشجاعة المُزيفة لتستكمل سيرها، وقفت عند مكان خالٍ من المارة لتجده يقف منزويًا عند بؤرة معينة، لتذهب إليه بسعادة حمقاء بينما هو لم يَلحظها بعد، وما إن اقتربت منه، إستمعت إلى صوت فتاة خافت، عقدت حاجبها بتعجب سُرعان ما أصدرت شهقة عالية عندما لاحظت وضعهم المُخجل للعين، فزع هو وابتعد عن الفتاة ليتوتر ولا يعلم كيف يُبرر موقفه الأحمق.
تذكر حينما جاء إلى هنا لإنتظارها، وكم ضجر من وقفته تلك، لتمشي من أمامه فتاة بملابس ضيقة للغاية أظهرت جسدها بسخاء، وكعادته ألقى على مسامعها بعض كلمات الغزل الوقحة، لتلتفت إليه بعبث لم يكن يتوقعه، فذهبت إليه بخطوات مائعة راقت له.
وبعدها غاب العقل ومعه الحياء ونسج لهم الشيطان أفعالهم وهم يخطون على خطواته الماجنة.
اقترب منها محاولًا خلق أي كذبة لإسترضائها: نوال حبيبتي، متفهميش غلط.
ابتعدت عنه متحدثة بصوت واهن وحتى الآن لا تصدق ما رأته عيناها: انت. انت كنت. بتعمل معاها إيه!
أنهت حديثها وهي تنظر للفتاة التي تعدل من وضع ثيابها المبعثرة، وما إن انتهت حتى فرّت من أمامهم هاربة، مدَّ يده مرة أخرى للإمساك بخاصتها، لتصرخ بنفور تزامنًا مع رجوعها إلى الخلف: ابعد عني يا حيوان، وأنا اللي صدقتك وهربت من بيتي عشان أجيلك! وانت طلعت قذر.
وللمرة الثانية رسم علامات الحب على وجهه محاولةً بإقناعها: والله ابدًا يا حبيبتي دا سوء تفاهم، خليني أشرحلك.
وهل القسم بالله أصبح هيِّن بهذه الطريقة! لا يكفي بأنه فاسق، بل منافق كاذب أيضًا، هطلت دموعها بكثرة من عيناها التي تميل إلى السُمرة، لتهز رأسها بعنف متشدقة بنفور منه: انت. انت كداب. كداب وحيوان وأنا غلطانة إني صدقت واحد زيك.
ذهبت من أمامه بنيّة الرجوع إلى منزلها، ليسقط قناع البراءة الزائف الذي كان يرتديه، ويحل محله تعابير وجهه الحقيقية، أمسك بها من ذراعها بعنف لإيقافها، لتضرب بيدها على ذراعه بعنف وهي تهدر به بغضب: سيب إيدي، بقولك سيب إيدي يا ز يا.
أسكتها بصفعة قوية من كف يده العريض، لتنظر له بصدمة مشدوهة، وسؤال يتكرر بعقلها، هل هذا هو من كان يُسمعها من عبارات الغزل الكثير! أم إنه كان يرتدي زي النقاء طوال الوقت! وهي الساذجة التي صدقته لتقع في شباكه التي نسجها بمهارة، لم يكفي صدمتها به بما فعلته، بل امتلأ وجهها بأمارات الرعب وهي تستمع لحديثه الماكر وعيناه تجول على جسدها: أسيبك دا إيه، انتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه!
بمنزل عائلة أبو زيد حيث أن المنزل يتكون من ثلاثة طوابق، كل طابق لأبناء الجد الأكبر ومعهم أبنائهم، الطابق الأول خاص ب طه أبو زيد البِكر الأول للعائلة وأبنائه هم عابد، وسجود، وتسبيح، الطابق الثاني خاص ب إبراهيم أبو زيد ومعه بناته غزل وميران، وأخيرًا الطابق الثالث خاص ب خليل أبو زيد ومعه ابنه الوحيد أحمد.
بالطابق الأول الخاص ب طه أبو زيد، كان يقف في صالون منزله، ممسكًا بيده عصى طويلة، وأمامه أولاده الثلاثة وأنظارهم متجهة للأسفل في خوف، منتظرين الحكم الذي سيُلقيه والدهم، ضرب طه بالعصا على الأرض لتصدر صوتًا عاليًا أفزعهم جميعًا، بما فيهم زوجته أميرة التي تُراقب الوضع بشماتة بادية للعِيان.
أردف بصوت مُحذر وهو ينظر لوجوههم بحقد: لآخر مرة هكررها، مين اللي خد الشيكولاتة!
لم يُجيب أحدهم، والصمت مازال يعم المكان، لترفع تسبيح رأسها وكادت أن تتحدث، فإستمعت إلى صياح والدها العالي: أنا قولت لحد يتكلم!
أخفضت رأسها مجددًا وهي تلوي شفتها بإمتعاض ناقمة على أخواتها، تمتمت بصوت خفيض هادئ: يعني مش كفاية إن أنا مكلتش معاهم، لأ بتعاقب زيي زيهم! يخربيت الظلم.
بينما عابد و سجود كادا أن يموتان من الرعب، تلك العصا التي يمسكها أباهم تشهد على الكثير من الصراعات بينهم، ذاقوا منها الويلات، وكم كانت تؤلم بحق، جال ببال سجود خطة دنيئة لهذا المأزق، لذلك رفعت إصبعها بخوف لإستئذان أباها في الحديث، نظر لها بصرامة ثم أمرها بالتحدث، لتقول هي بصوت متلجلج: أنا. أنا عارفة مين يا بابا اللي أكلها.
وفي ثوانِ رسم على وجهه تعابير الحنان الزائفة، ليبتسم بود زائف لها، مردفًا بإبتسامة خافتة: مين يا سوچي يا حبيبة بابا.
عابد يا بابا.
نطقت بها بثقة وهي تنظر لتعابير وجه أخيها المصدوم، فأشاحت بوجهها للناحية الأخري بغرور والشماتة تُزين وجهها، شمر طه عن ساعديه مُسددًا ل عابد نظرات وعيد، ازدرق عابد لعابه بخوف مردفًا بتلعثم: إيه. إيه يا بابا، هتغسل المواعين ولا إيه يا حبيبي!
أردف طه بخفوت تزامنًا مع إمساكه بالعصا مرةً أخري: أه يا روح أبوك هنغسلها سوا.
ومن بعدها صدحت صرخات عابد بألم عندما هبطت العصا على ذراعه، جرى مسرعًا ليلتف حول الطاولة وهو يقول برجاء صارخ: اسمعني بس يا بابا، هفهمك والله، ااااه.
أنزل العصا تلك المرة على ظهره متشدقًا بصراخ: بقا أنا نايم وسايب صندوقي مع شوكلاتي في دولابي، أقوم الصبح ملقهمش! كلت الشيكولاتة كلها يابن المفجوعة!
طه!
خرج اسمه بصراخ من فم أميرة عند لفظه لجملته الأخيرة، لتلين ملامح وجهه وهو يجيبها: عيونه!
أسبلت عيناها للأسفل بخجل من غزله بها، فتراجعت عن التوبيخ الذي كانت ستقذفه في وجهه، متشدقة بصوت خافت: اتوصى عليه شوية.
غمز لها بمشاكسة وهو يُجيب: انت تؤمر يا جميل.
كل ذلك وكان ثلاثتهم يتابعونهم بإستنكار، بينما وجه عابد تشنج عندما استمع لحديث والدته الحنون، وما زاده رعبًا هو وجه أبيه المرعب الذي إلتف إليه الآن، تمتم بحسرة ناظرًا ل سجود بحقد: كله منك يا وجه البرص انتِ، اصبري عليا أخد العلقة التمام وبعدين أفضالك، ااااه.
ليالِ شتوية قارصة، الغيوم مُلبدة في السماء وكأنها على وشك الإمطار، وتيارات الهواء الشديدة تجول من حولهم، برودة تضرب الأبدان، فيمكث الجميع بمنازلهم طامعين لدفئ أجسادهم، صعد أبناء عائلة النويهي إلى أعلى سطح المنزل المكون من خمس طوابق لإشعال النار بحزمة الأخشاب التي أمامهم.
أمسك ريان بالقداحة (الولاعة) ناظرًا للآخرين ببسمة شرسة، لاحظ فارس نظرته تلك ليبتلع ريقه بتوتر مردفًا: يعني مش كفاية كنت عايز تموت أبويا دلوقتي عايز تموتني وتيتم بنتي وتأرمل مراتي!
رد عليه ريان ببرائة وهو يقول بصدمة: أنا! أنا اللي كنت هموت أبوك! إخس عليك إخس.
اقترب منه معتصم ل ُيربت على كتفه موجهًا حديثه له: متزعلش ياخويا متزعلش. هي الناس طول عمرها ظالمة.
سايره ريان في حديثه مردفًا ببكاء زائف: أنا مش عارف ليه الإنسان بيعمل في أخوه الإنسان كدا!
عشان إنسان ابن.
نطق بها شهاب الذي كان ينظر لفارس بعتاب، ثم مصمص على شفتيه كالعجائز وهو يكمل: مش عارف هو رمي جتت وخلاص! ولا إكمنك غلبان يعني!
أمسكه فارس من ياقته ناطقًا بصرامة: ولاااا اظبط كدا بدل ما اظبطك.
يوه! في إيه يا دلعادي. هو أنا جيت يمتك (ناحيتك)!
كاد فارس أن يُجيبه لكن قاطعه صوت طفولي قائلًا بسعادة: بابا.
ارتمى الصغير ذو الست سنوات في أحضان ريان، فإلتطقته الآخير بين ذراعيه وهو يقول بحنان أبوي صادق: روح بابا، عامل إيه يا وَحش!
قبَّله على وجهه بحب مردفًا بإشتياق: الحمد لله يا بابا. وحشتني أوي.
وانت كمان يا قلبي. قولي بقا كنت مختفي فين.
نظر له مُدَّثر ببرائة بعيناه الرمادية التي تُشبه عين أباه ثم أردف بوقاحة مماثلة له: لوجي بنت عمو فارس كانت زعلانة مني وأنا بوستها وصالحتها.
طالعه ريان بفخر شديد مردفًا بغرور: ابن أبوك بصحيح. وهي اتصالحت من بوسة على طول كدا!
هز مدثر رأسه بنفي، ومن ثَم بدأ بشرح ما فعله بيداه كأنه يشرح مسألة علمية شديدة الخطورة: لأ. ما أنا حضنتها الأول. وبعدين شيلتها. وفي الآخر بوستها.
احتضنه ريان بفخر وعيناه تدمع بتأثر واضح متشدقًا: حبيب بابي، الإبن المثالي دا ولا إيه!
كل ذلك و فارس يقف مصدومًا وكأن على رأسه الطير مما سمعه، أشار لذاته مردفًا وهو ينظر للصغير: انت، انت بتتكلم على بنتي أنا!
خرج مُدثر من أحضان والده وهو يومأ له بالإيجاب: أيوا يا عمو، هي لوچي.
الشرف يا بنت ال.
صرخ بها فارس وهو يهبط درجات السلم منتويًا لفتاته المنحرفة بأن يبرحها ضربًا، فتح باب شقته بعنف وهو يهدر عاليًا: انتِ فين يا طاهرة يا شريفة! بت يا لوچي.
خرجت تلك الفتاة القصيرة والتي تبلغ من العمر الخمسةُ سنوات، واضعة على رأسها غطاء حراري لتجفيف خصلاتها القصيرة وبيدها سائل من اللون الأحمر، وهي تقول بتأفف: بتزعق كدا ليه يا دادي!
تشنج وجه فارس عندما رأى هيئتها وما زاد الطين بلة هو متابعتها للحديث بقولها الغاضب: وبعدين كام مرة قولتلك متقوليش بت! أنا إسمي لوجي.
يا زهر.
صرخ بها بغضب حارق وهو ينادي على زوجته التي أتت مهرولة تجاهه، نظرت لإبنتها بشك فعلمت بوجود شجار عنيف بين الأب وابنته كالعادة، فتحدثت بهدوء لتلطيف الأجواء المشتعلة: في إيه يا فارس!
تحدث بغضب وهو يُشير لإبنته التي تتخصر تزامنًا مع تلك النظرات الحارقة التي ترميها إليه من الحين للأخر:.
تعالي يا هانم شوفي بنتك، ربة الصون والعفاف سايبة الواد ابن ريان يحضنها، ومش بس كدا لأ، دا شالها وباسها كمان، بكرا نلمها من الكباريهات بنت ال دي.
خافت زهر من ردة فعل زوجها إن علم أن هي من اقترحت على مدثر بأن يفعل ذلك لمصالحة إبنتها العنيدة، وقبل أن تُبادر بالحديث، سبقتها لوجي وهي تشيح بيدها مردفة بصوت غاضب: دي مبقتش عيشة دي، وفيها إيه يعني لما يبوسني! مش بيصالحني! ولا يسيبني زعلانة مثلًا!
ليصرخ هو بالمقابل: وانتِ شايفة اللي عملتيه دا صح!
أجابته بثقة وقوة نابعة من طفلة قصيرة سليطة اللسان: أيوا صح، ماما أصلًا هي اللي قالت ل مدثر يعمل كدا عشان يصالحني.
الصمت يعم المكان، ولا يوجد سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، خافت لوجي من صمت أباها، لذلك نظرت لوالدتها التي كادت أن تفر هاربة بإستجداء، لحظات وكان فارس يخلع حزامه لاففًا إياه حول يده وهناك بسمة شريرة تتشكل على ثغره، ثم أردف بخفوت خطير: انتوا الإتنين هتتقطعوا دلوقتي.
بالطابق الخاص بمنزل بكر النويهي، كانت إهداء تجلس على الأريكة واضعة عيناها أرضًا، وعلى مقربة منها يجلس مهاب خطيبها المزعوم، كان يتحدث بلا توقف وعيناه تجول عليها، يخبرها كم هو سعيد لموافقتها عليه، يعدها بأن تعيش معه بسعادة مدى الحياة، وظل يتحدث ويتحدث بلا توقف حتى أحست بالملل منه، ما كان عليها سوى الإبتسام لمجاملته، بينما هي كادت أن تصرخ منه.
في نفس الوقت كان شهاب يهبط للأسفل تاركًا ريان يُعلِّم إبنه المبادئ العشرة للتعامل مع النساء، ضحك بخفوت عندما تذكر ما حدث بالأعلى، لتبهت إبتسامته تدريجيًا عندما شاهد هذا السمج كما يلقبه يجلس ببيت عمه، يبتسم بل يضحك بسعادة، تنغصت عليه سعادته ليزعم بتنفيذ ما برأسه.
دخل بخيلاء إليهم، ثم جال بنظراته على مهاب الذي يبتسم له بإستفزاز، ليردف شهاب وهو ينظر إليه بإحتقار: أهلا بعريس الندامة.
نظرت إهداء له بغضب، فحاولت جاهدة ضبط ذاتها حتى لا ينتهي اليوم بمشاجرة عنيفة بين كِلا الطرفين، وجهت حديثها ل شهاب المتعصب والذي يظهر الغضب على ملامح وجهه بقوة: خير يا ابن عمي، جاي ليه!
ورغم إستفزازها له وشعوره بالسخط تجاه الآخر الذي يطالعه بغضب، جلس على المقعد المجاور لهم، واضعًا قدمًا فوق الآخرى متشدقًا بتكبر: جاي بيت عمي يا بنت عمي. خير في حاجة!
جزت على أسنانها بغيظ من حديثه البارد ولم تُعقِب عليه، ولكن ما استثار غضبها بحق، هو وقاحته عند أخذه للمشروب الخاص ب مهاب مبررًا له عند الإنتهاء منه: لموأخذة يا جماعة، كنت عطشان قولت أبِل ريقي.
ثم وجه حديثه ل مهاب وهو يقول بإستفزاز: ولا عندك إعتراض يا عريس!
هبَّ مهاب من مكانه بغضب، هادرًا بصياح: انت بني آدم قليل الزوق. وانا ليا كلام مع عمي بكر لما يجي من برا. ومن غير سلام.
أنهي حديثه ليخرج من المنزل بهياج، فردد شهاب من خلفه: في ستين داهية يا سي الأستاذ.
أتت سميحة والدة إهداء من المطبخ بفزع عندما استمعت لصوت الصراخ بالخارج، لتقول بخوف: إيه الزعيق دا يا ولاد. وفين مهاب.
كادت إهداء أن تتحدث ووجهها ملئ بإمارات الغضب، ليقاطعها شهاب موجهًا حديثه لزوجة عمه: عنده حالة وفاة يا مرات عمي. ادعيله هو كمان.
وبحُسن نية حزنت سميحة فرددت: لا حول ولا قوة إلا بالله، إما أروح أكلم الحاج وأبلغه.
ذهبت من أمامهم لتبقى المعركة مشتعلة بين الإثنان، اقتربت منه وهي تصيح عاليًا: انت اتجننت! إيه اللي انت عملته دا!
وضع يداه في جيب بنطاله قائلًا بجهل مصطنع: عملت إيه!
ظنت إنه جُن بالفعل، فهي بالأصل تمقته، أو ربما تدَّعي ذلك،! أطالت النظر به وبهيئته التي كانت تعشقها سابقًا ولكن الآن حل محله النفور والكره، لاحظ هو نظراتها، ليقول بثقة: عارف إني حلو ومسمسم. بلاش تبصيلي كدا عشان بؤحرج.
لوهلة توترت منه ومن حديثه، لكن سيطرت على ذاتها وتلك المرة طالعته بإشمئزاز حقيقي: متاخدش مقلب في نفسك أو كدا، أنا أصلًا مش بطيقك.
وقف قبالتها مباشرة، حتى أصبح قريب منها للغاية، باتت أنفاسه تضرب بشرتها الخمرية، وعيناه تجول على ملامح وجهها التي يعشقها بحق، تمتم أمامها بصوت هامس قبل أن يذهب من أمامها بل يذهب من المنزل بأكمله: ومالو. بكرا تحبيني زي الأول وأكتر كمان.
بعد ذهابه مباشرة، وضعت يدها على صدرها الذي يعلو ويهبط بعنف، مازال لوجوده تأثيرًا قوي عليها، رغم محاولتها جاهدة بأن تكرهه، ولكن يبدو بأن محاولاتها بائت بالفشل، أدمعت عيناه فتكونت سحابة من الدموع على عيناها، لتردف بهمس باكٍ: حرام عليك. ليه بتعمل فيا كدا! ليه مُصِر تعذبني وتجرحني أكتر!
جميع الصالحين يُخطئون، ولكن ليست كل الأخطاء متشابهة، فهناك أخطاء يَسهُل إصلاحها، وأخطاء أخرى لا تنمحي بسهولة.
ظلت نوال تقاوم جابر بشدة، فلقد تحول عما كان به من قبل، غرائزه الحيوانية أصبحت هي التي تُحركه، لا يريد الآن سوى نيلها، ضربت بقبضتها على ذراعه وهي تصرخ به: سيبني يا حيوان.
ولكن لا حياة لمن ينادي، اقترب منها أكثر، غير عابئ بحرمة الطريق، وأكثر ما اطمئن له هو أن المكان نائي لا يوجد به أحد من المارة، كادت يداه أن تمتد لثيابها فوجد قبضة تُوجه إلى وجهه أزاحته عن تلك المرمية في الأرض.
رفع جابر رأسه بخوف، ليجد رجل بجسد عريض يرتدي جلباب صعيدي ينظر له بشر.
أفزعه، ارتعدت فرائسه ليزحف للخلف من هيئته التي بثت في نفسه الخوف والفزع، شمر الآخير عن ساعديه قائلًا بصوت راعد أرعب نوال قبله: مالك نخيت كيف الحريم إياك. دلوجتي عتعرف الرجالة على حج يا.
حاول جابر أن يستعيد جزء من شجاعته الهاربة ليُعيد من كرامته المهدورة، استند على الغبار ثم وقف معتدلًا، فشعر بتورم وجهه وخاصة أسفل عينه من قبضة الآخر، كاد أن يتحدث ويُهاجمه، ليُناطحه الآخر برأسه فعاد للخلف أثر ضربته القوية ثم وقع أرضًا مرة أخرى، أمسكه الآخر من تلابيبه يهزه بعنف، جابرًا إياه على الوقوف مرة أخرى، ورغم الإنهاك والتعب البادي عليه، إلا أنه لم يهتم فضربة مرة أخري في معدته، ليطلق جابر صراخًا متألمًا دوى من حوله، هبط الآخر لمستواه وعيناه تطلقان شررًا، وأخيرًا تحدث بفحيح مرعب: اللي يچي يَمة حد تبع بدر الأباصيري، تبجى نهايته الموت يا.
علم جابر خطورة الوضع الذي به حاليًا، لم يكن يعلم بالعواقب التي ستترتب على فعلته الفحشاء، لذلك لم يجد مخرجًا من الموقف إلا برجاءه: أبوس إيدك. أبوس إيدك سيبني وأوعدك مش هتشوف وشي تاني، آاااه.
قام بدر بلكمه بعدما أبعد يداه عنه بإشمئزاز كأنه آفة، أمسكه من خصلات شعره الطويل وهو يردد محذرًا: صوتك مسمعوش واصل، اجفل خشمك.
هز الآخير رأسه بهستيريا يُنفذ أمره تجنبًا لغضبه، بينما ذهب بدر ل نوال التي كانت ترتعد من الخوف، ودت لو قتلها جابر أفضل من جحيم بدر الذي ستناله الآن، ابتلعت ريقها بخوف عندما رأت إقترابه منها، وعندما وصل أمامها همس بجملة واحدة جعلتها ترتعش فزعًا وتعلم أن القادم لن يكون يسير بالمرة: أهلًا بالعروسة اللي هربت. چهزي نفسك كتب كتابك الليلة، وبدال ما تكون خطوبتك هتكون دُخلتك يا بت عمي.
أسمعتهم ما قالته للمرة الألف، فخورة بذلك الإنجاز الذي حققته، قد يكون الأمر لا يستحق من وجهة نظر الآخرين، لكن بالنسبة لها فالأمر يستحق الإحتفال، أعدت غزل كعكة الفراولة التي تعشقها لها وللجميع، وللمرة العاشرة تخبرهم ما فعلته في المحكمة، حتى ضجر وتأفف الجميع منها، لتعترض ميران متمتة بسخط وهي تقف: ما خلاص بقا يا غزل، عرفنا يا ستي إن انتِ شوحتي بإيدك كدا وقولتي سيدي القاضي إن موكلي برئ.
رمتها غزل بنظرات حارقة من إفساد حفلتها، لتصرخ بها مُعنِفة وهي تشير تجاه الاريكة: اترزعي يا بت وخليني أكمل.
نفخت ميران بغيظ، لتجلس محلها مرة أخري.
وبعد مرور قرابة الساعة ونصف كانت غزل مازالت تروي لهم تفاصيل ما حدث، تثائب أباها ومالت والدتها عليه وأعين ميران على وشك الإنغلاق، لتصرخ بهم جميعًا محذرة: انتوا نمتوا!
فزع الجميع من صراخها، فما كان على والدتها سوى أن تخلع نعلها وتقذفه في وجهها بغضب: ما خلاص بقا يخربيت خلفتك الهباب، غوري من وشي.
وضعت يدها على وجهها بألم، لتنظر لهم بشك هاتفة بحنق: اوعوا تكونوا زهقتوا!
طالعها الجميع بسخط ووقفوا ذاهبين كلًا منهم لغرفتهم، لم يتبقى سوا غزل وحدها والهواء من حولها، تمتمت مع نفسها ببلاهة: هما زهقوا ولا إيه!
وبداخل غرفة ميران، فتحت شرفتها علها تستطيع رؤيته، تهللت أساريرها عندما رأته يقف في شرفته يدخن سيجارته بشرود، ارتدت حجابها بسرعة وعادت مرة أخري للشرفة، نادته بمشاكسة: بِس بِس.
قطب جبينه بتعجب ونظر تجاه مصدر الصوت ليجدها هي، مقتحمة أحلامه، وحبيبة وجدانه، صديقته منذ الصغر، وملاذه وقت الحاجة، مصدر سعادته الأول والأخير، حلمه البعيد والذي يكاد أن يكون مستحيل.
رغمًا عنه قرر تجاهلها، ابتلع تلك الغصة المؤلمة التي في حلقه رغمًا عنه، لاحظ انطفاء إبتسامتها وهي تسأله: مالك يا محمود!
نظر لها بجمود اصطنعه جيدًا، مجيبًا إياه بجفاء آلمها: مالي يا بنت الناس ما أنا كويس أهو! انتِ اللي طالعة الشباك في انصاص الليالي تكلمي شاب غريب عنك، مش عيب بردو!
صُدمت من تحليله للموقف بهذا الشكل، وأكثر ما صدمها هو حديثه عنها بتلك الطريقة، هو من كان يُعاملها برقة كالفراشة أصبح كالمهاجم لها، إغتصبت ابتسامة وهي تقول بصوت مختنق: معاك حق. عن إذنك.
دخلت ودخل قلبه معها، أغمض عينه بقهر وهو يكاد يبكي ألمًا، تفكيره أوصله إلى أن اللقاء مستحيل، هو فقير. وهي من أصحاب الطبقة المتوسطة، كان هذا لا يهمه فقد كان يسعى من أجلها، ولكن الآن، أصبح رد سجون.! زفر بإختناق عند وصوله لتلك النقطة، اتجه لفراشه مرتميًا عليه بإنهاك، نظر لسقف الغرفة بشرود متمتمًا بحسرة: انتِ كتير عليا أوي يا ميرانِ...
دلفت غزل لغرفة شقيقتها، لتجدها تجلس على فراشها تبكي، جزعت من مظهرها لتذهب إليها مسرعة وهي تقول: ميران حصل إيه يا حبيبتي، مالك!
لم تجبها بل ظلت تبكي على حالها، احتضنتها غزل وهي تربت على خصلاتها بحنان والقلق ينهش بقلبها، فقالت بنفاذ صبر: قولي يا ميران فيكِ إيه متقلقنيش أكتر من كدا.
هدأت قليلًا لتبدأ في سرد ما حدث وملامح غزل ثابتة مُبهمة، هي تقريبًا تفهمت موقف محمود من شقيقتها، كونها محامية جعلها تضع ذاتها في موضع الآخرون، لذلك كان من السهل معرفة سبب تغيره، ربتت على كفها بحنان مُهدأة إياها: متقلقيش وكفاية عياط، و محمود أنا هتكلم معاه. بس الصباح رباح.
هزت رأسها بالنفي رافضة بشدة، متشدقة وهي تُزيل بقايا دموعها عن أهدابها الكثيفة: لا يا غزل. أنا مش هشحت حب منه.
بررت لها غزل حديثها قائلة بتفهم: أنا بس هفهمه غلطه، وبعد ما أديله كلمتين في جنابه صدريله انتِ الوِش الخشب.
ضحكت ميران بخفوت ممتنة لوجود شقيقتها بحياتها، لتستمع لعتاب غزل التي أكملت: وبعدين مش قولتلك تبطلي كلام معاه علشان ربنا يبارك في حبكوا! طول ما انتِ بتغضبي ربنا وبتكلميه وهو مش حلال ليكِ إعرفي إنك هتتعبي أوي، سواء نفسيًا أو جسديًا، عززي نفسك علشان اللي جاي يتقدملك يعرف إنك غالية وإنك تستحقي التعب.
عضت ميران شفتها بخجل مردفة بخفوت: حاضر والله، بس أنا عملت كدا لإنه كان واحشني أوي.
ضربت غزل كفها بالآخر بيأس وهي تقول: أقولها طور تقولي احلبوه، يا بنتي يا بنتي بقولك عززي نفسك أصوت!
نظر أمامه لجسد زوجته المُلقى على الأرض كالجثة الهامدة والدماء تُحيطها من كل مكان، تجمد جسده ولم يقوى على الحراك، يشعر بأن الكون يقف من حوله وصورة الدماء من حولها لا يذهب عن عينه، نعم لقد رأى ذلك المشهد من قبل، عند وفاة والدته كانت بنفس المشهد، يكاد يجزم من يراه بأنه تمثال من تصنمه، أفاق عندما شعر بتجمهر المارة من حولها، ذهب مسرعًا يدعو الله ألا يكون بنفس الموقف مجددًا، انحنى على قدميه رافعًا وجهها بين يديه، يمرر عينه على ملامحها الساكنة المليئة بالدماء، تحجرت الدموع في عينيه قائلًا بهمس يكاد يُسمع من شدة ضعفه: رنا، رنا ردي عليا يا حبيبتي.
لم تجبه بل كانت غارقة في دمائها، استفاق من غفلته على صوت أحدهم يُصيح به: قوم يا استاذ الحق وديها المستشفى.
هز رأسه بهستيرية كأنه وجد طوق النجاة، وبسرعة قام بحملها وأوقف أحد السيارات صارخًا بعجلة: اطلع على أقرب مستشفى بسرعة يسطا الله يخليك.
انطلق السائق بسرعة جنونية، وما هي إلا دقائق قليلة وأوقف السيارة أمام باب المشفى قائلًا بمواساة: وصلنا يا أستاذ، ربنا يطمنك عليها.
لم يجيبه بل أخذها وولج للداخل بسرعة مناديًا للطبيب: دكتور، دكتور هنا بسرعة.
أسرع إليه الممرضين بحملها، وقاموا بوضعها على عربة الترولي مُدخلين إياها إلى غرفة العمليات.
مر ساعة وأخري والقلق ينهش بقلبه ودموع عيناه متحجرة لا يستطيع استيعاب ما حدث حتى الآن، ظل يدعو كثيرًا إلى أن انفتح باب الغرفة، فذهب إلى الطبيب متحدثًا بلهفة: طمني يا دكتور هتفوق امتي؟
نظر إليه الطبيب متحدثًا بأسف: شد حيلك، البقاء لله.
نظر إليه بصدمة لا يستوعب ما قاله الآن، تركه وولج للداخل بسرعة، وقف أمام جسدها الموصل بالأسلاك وجلس على طرف فراشها ممسكًا بيدها الباردة متحدثًا بذهول: رنا! الكلام اللي بيقوله دا أكيد غلط صح؟ انتي قولتي إن عمرك ما هتسبيني، قولتيلي هتفضلي معايا دايمًا، قولتيلي إنك عمرك ما هتمشي، ليه مش بتوفي بوعدك دلوقتي، ليه عايزة تسيبيني.
ظل يهز جسدها لعلها تستجيب له ولكن لا فائدة، فروحها قد غادرت جسدها تاركة زوجها يلتاع من ألم الفراق، تحدث مرة أخري عندما وجد منها الصمت: طيب بلاش عشاني، قومي عشان خاطر مُدثر، قومي عشان خاطر ابننا.
واخيرًا هطلت دموعه بقوة هاتفًا ببكاء: رنا قومي، قومي عشان خاطر ريان حبيبك، قومي متسبنيش كدا يا حبيبتي، عشان خاطري قومي.
ولكن لا حياة لمن تنادي فها هي جثة زوجته الهامدة، يحتضن جسدها التراب تاركة زوجها وفلذة كبدها وحدهم يخوضون الحياة بدونها.
انتفض ريان من نومته متعرق بشدة، وضع يده على صدره الذي يعلو ويهبط بإنهاك، قام من مكانه ليقف أمام الصورة التي تجمعه بزوجته الراحلة ناظرًا إليها بحنين، متذكرًا حنانها وعشقها التي كانت تغدقه به بلا مقابل، وهو أحب روحها، أحب عشقها له، على الرغم من أن زواجهم كان تقليدي، لكنه بُنيَ على الود والإحترام بينهم، إحترام متبادل، وهي. هي أحبته وهو أيضًا أحبها، ولكن استطرد الله أمانته بعد أن وهبته قطعة من روحها، مدثر. والذي يُمثل له الأبن والعائلة.
والحقيقة الصادمة هنا أنه لا يَمُتُ بِصلة لعائلة النويهي، بل هو ريان الطحاوي، لكن ما الذي جمعه بعائلة النويهي! وما علاقته بهم، لغزٌ مفقود وحلقات تدور حول بعضها، علاقة معقدة تتشكل حول حياته، وها هو يشعر بالخطر يحوم من حوله من جديد.
ذهب لغرفة ولده ليجده نائم ببرائة، جلس جانبه بهدوء مُمسدًا على رأسه بحنان، طبع قبلة رقيقة على رأسه وهو يدعي الله أن يحفظه له، يكفي خسارته لزوجته، لن يستطيع خسارته هو الآخر، حينها فقط سيكون وحيدًا، بلا أهل أو أبناء أو عائلة وحتى زوجة، نفض عن رأسه تلك الوساوس ليقف منتويًا الوضوء لطردها.
نهار يوم الجمعة. يوم التجمع العائلي الخاص بجميع العائلات، حيث يتجمع الأفراد وتدور الأحاديث بينهم بود ومحبة خالصة، بمنزل عائلة أبو زيد، تجمع الجميع بالطابق السُفلي الخاص بالجد الأكبر، جلس الرجال ومعهم زوجاتهم بالغرفة، والأحفاد بغرفة متصلة ولكن على بُعد كبير منهم لكي تسنح لهم الفرصة بتبادل الأحاديث، كانت سجود تحاول عدم النظر لجدها بعدما شعرت بأن نظراته تخترقها، ظنت بأنه علم بصداقتها بأحد أفراد عائلة النويهي، لكنه لم يُصرِح لها حتى الآن بذلك، لذلك تجاهلت نظراته وتشاركت الحديث المرِح مع أبناء عمومتها.
كانت عيناها تجولان على ابن عمها أحمد من الحين للآخر، تتشرب تفاصيله بتمعن، تحتفظ بضحكاته في قلبها، لا تعلم متي وأين أحبته، لكنها غرقت به الآن، أصبحت تحب قربه، لاحظ نظراتها فغمز لها بمشاكسة: إيه يا سوچي بتبصيلي كدا ليه!
توترت عيناها خاصةً عندنا وجه الجميع أنظارهم تجاهها، لتقول بتلعثم: ا. ابدًا. أصل. أصل كنت سرحانة شوية.
لم يكن مقتنعًا بكذبتها لكنه لم يُعقب، التفوا بشكل دائرة، فجلست ميران بجانب غزل و تسبيح و سجود بجانب عابد، وأكمل أحمد نهاية الحلقة الذي أردف بمزاح: أربع نسوان على رجلين. شوفوا الظلم.
وافقه عابد في ذلك وهو ينظر لهيئتهم: معاك حق. ومش أي نسوان، دي نسوان قادرة.
رفعت غزل حاجبها بإستنكار وهي تقول بتحذير لهم: اتمسى انت وهو ويلا نلعب كوتشينة.
تحمسوا للفكرة وبدأ عابد بتوزيع الأوراق عليهم ووضع بعضها على الأرض، ثم بداوا باللعب، بعد وقت قليل صاحت تسبيح بإعتراض موجهة حديثها ل أحمد: لا كدا حرام انت غشاش. جبت الولد الخامس دا منين.
هز أحمد كتفه بجهل مُدعيًا البراءة متمعنًا بالنظر إليها: مش عارف إيه اللي جابه.
لوت ميران شفتيها بسخرية مُعلقة: ليكون بيتكاثر ذاتيًا واحنا منعرفش، متظلمهوش يا جماعة.
ضحكت تسبيح بصوت عالي على حديث ميران تزامنًا مع إرتفاع نبضات قلب أحمد لضحكاتها، ولا إراديًا ابتسم معها، فيصرخ القلب بالعشق والعقل يطلب التقرُب، نظر ل عابد بنظرات مُبهمة، فرغم غيرته الشديدة منه والتي لم يستطيع السيطرة عليها منذُ الصِغر، إلا إنه لا يستطيع كرهه، وفشل أيضًا في منع ذاته من حُب تسبيح.
عابد يُعتبر الأخ الكبير لهم، يعمل ك معلم للغة العربية، هو من اقترحه ل وصال للعمل معه، لتشترك معه في النصب عليه، للحظة شعر بالندم يتخلله ولكنه نفض كل تلك الأفكار عن رأسه، هو معلم ناجح ويأتي لديه كثير من الأموال شهريًا، فلا بأس ببعض الأموال التي لن يُلاحِظ غيابها.
أفاق من شروده عندما صعد صوت المؤذن لصلاة الجمعة، بعدما انتهي ورددوا خلفه أظهرت تسبيح خوفها وهي تسأل بخشية: جماعة انتوا متأكدين إن الكوتشينة مش حرام؟
كم هي بريئة بحق تلك الفتاة، لطالما كانت تخشى فعل الذنوب، هي أكثرهم تدينًا هنا، وملابسها المحتشمة مع خمارها الطويل يشهدان على ذلك، أتاها الرد من غزل وهي تبتسم لها بحنان: لأ يا حبيبتي مش حرام. طالما مش بنلعبها بفلوس وبغرض التسلية، لكن لو لعبناها بفلوس دي تبقي شبه القُمار كدا. لكن احنا بنقضي مجرد وقت لطيف سوا مش أكتر.
أومأت لها براحة، لتقف وهي تُعدل من وضع ثيابها قائلة قبل أن تذهب من أمامهم بعجلة: انا هروح اتوضى بقا علشان أصلي في المسجد.
ذهبت من أمامهم لتنظر سجود إلى شقيقها عابد متحدثة بمزاح: وانت يا أبو لهب مش هتروح تصلي!
حدقها بغيظ غير ناسيًا ما فعلته به بالأعلى وكذبها على والده، ليرمي بالورق على وجهها ثم أمسك بذراع أحمد الذي يتابعهم بتسلية وهو يقول: يلا يابني نقوم نصلي بلا هَم.
تجمع الرجال بالمسجد بصفوف متساوية بعدما استمعوا إلى الخُطبة، قلوبهم خاشعة، نادمين على ما اقترفوه بحق الله، صوت الإمام الخاشع جعلهم يبكون تأثرًا وندمًا، جبالٌ من الهموم أُذيحت عن أكتافهم، راحة شعروا بها بأفئدتهم، سجدوا راكعين لله، ومعهم تسقط ذنوبهم، ذنوبٌ مقصودة وغير مقصودة تُمحى من كتابهم، وقفوا مرة أخري ليبدأ الإمام بالتلاوة المؤثرة.
ليبدأ بتلاوة سورة الزمر بصوت وكأنه آتٍ من الجنة، ثم ردد آية معينة بطريقة غريبة: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.
قام بترديدها ثلاث مرات، ومع كل مرة يزداد صوته خشوعًا وحبًا بتلك الآية، أنهى المرة الثالثة ليسقط أرضًا بعدها، سقط وصعدت روحه تُهلل بنيِّل الجنة، وجهه متبسم يشع ضوئًا، ودموع تهبط فرحًا، أكمل إمامًا آخر محله دون تخريب الصلاة وكان هو طه أبو زيد، وبعدما انتهى، تجمهر الجميع من حوله، منهم من بكى تأثرًا ومنهم من بكى لموته، ليأتي طه بجانبه ويهمس بدموع: طلبتها ونولتها يا شيخ إمام، في الجنة إن شاء الله. إن لله وإنا إليه تُرجعون.
رددها الجميع من خلفه، ثم أخذوا يدعون له بالرحمة، فتبقى السيرة الصالحة من خلفه، وانتهت خاتمته بالحُسنى، انتهى مشواره في الدنيا ليبدأ خلوده في الجنة، فاللهم أحسن خاتمتنا جميعًا.
وسط هذه الأجواء الحزينة في الشارع، ذهب الجميع لحضور مراسم الدفن الخاصة بالشيخ إمام، أتت مكالمة غامضة ل غزل فأجابت عليها مسرعة عندما شاهدت إسم والدها يُنير شاشة هاتفها: أيوا يا بابا!
ليأتيها الرد من رجل غريب: حضرتك صاحب التليفون دا في المستشفى.
إيه مستشفى إيه، طيب أنا جاية حالًا.
وعلى الجانب الآخر، أتت مكالمة ل ريان الذي كان يحضر مراسم الدفن، فأجاب على مضض بعدما تكرر الصوت مرارًا وتكرارًا: ألو.
ابن حضرتك عمل حادثة وهو دلوقتي في مستشفى
بتقول إيه، طيب طيب أنا جاي.
ولتخيط مُسبق صعد كلاهما لسيارة التاكسي بنفس اللحظة ليتحدث ريان بسرعة: مستشفى لو سمحت يسطا.
أومأ له السائق بهدوء، لينطلق متجهًا إلى وجهته، فلمح من بعيد عدد كبير من الضباط، فاقترب وعندما حان دوره، همهم السائق للضابط ببعض الكلمات المُبهمة لاحقها توجيه نظره حيث يجلسون، لاحظ علامات الخوف والفزع المرتسمة على وجوههم، ليأمرهم بالنزول، فكاد ريان أن يتحدث فقاطعه الضابط بصرامة: بقولكوا انزلوا ومش عايز شوشرة.
هبط كلًا منهم من السيارة ليأمر الضابط الشرطي بتفتيش أماكنهم، فعل مثلما أمره وجاء بحقيبة سوداء بلاستيكية بها مادة بيضاء، قطبت غزل جبينها بتعجب وكادت أن تتحدث، ليقاطعها الضابط بسخرية: إيه دا يا روح أمك انت وهي، بتتاجروا في المخدرات والصبح كدا،!
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث
صياحٌ وصراخٌ من الطرفين، هو يقول بأنها الفاعلة، وهي تقول بأنه المذنب، ومع قول هذا وذاك اشتد الحديث إلى شجار، ليضرب الضابط على سطح مكتبه بعنف صارخًا بهم بنفاذ صبر وهو يقف من على مقعده: ما خلاص منك ليها مش ناقص صداع أنا.
حدجوا بغضهم بنظرات محتقنة، ليجلس الضابط مرة أخرى محله ممسكًا بقلمه، ثم وجه حديثه إليهم بتحذير: التهمة لبساكوا لبساكوا، فالأفضل تعترفوا علشان تريحوا نفسكم وتريحوني من القرف دا.
نظرت له غزل بغضب، لتتخصر محلها وهي تقول له بعتاب: قصدك إني كدابة! لو سمحت أنا عايزة أمشي.
ضرب على المكتب بحدة وهو يصيح بها: انتِ مفكراني خطيبك علشان تتقمصي وتمشي! اعترفي يابت واخلصي.
رفعت سبابتها بوجهه هاتفة بتحذير خطير: عندك مسمحلكش، أنا محامية محترمة وليا سمعتي، وعيب أوي لما تتهمني إتهام بشع زي دا.
نفخ الضابط بقلة صبر، يكاد يفتك بهم، يُريد سحب الإعتراف من أفواههم حتى لا تسنح الفرصة لأحد أن يُشكك في عمله، جاءت الأوامر من سليم المنشاوي بنفسه، وهو يريد كسب رضاه حتى لو على حساب عمله، نظر ل ريان الذي يُربع ساعديه وينظر له بضجر، ليقول بإستنكار: وانت ساكت ليه! معندكش حاجة تقولها انت كمان!
ظل على وضعيته ورفع أنفه بشموخ قائلًا بغرور: أنا مش هتكلم غير في وجود المحامي بتاعي.
تشنج وجهه وكاد حقًا أن يفتك السلاح في رأس كليهما، ليحاول ضبط نفسه، فجلس مُدعيًا الثبات ناظرًا لهم وهو يقول بتحذير بث الخوف في قلوبهم: على العموم انتوا هتفضلوا مشرفينا هنا لحد ما القضية تعترض على النيابة.
بمنزل عائلة النويهي، تجمعت العائلة مرة أخري بمنزل الجد الراحل، والذي يُعتبر ملجًأ يجتمعون فيه جميعًا يوم الجمعة، أنهوا التعازي والدعوات الحارة لعائلة الشيخ إمام ثم عادوا لمنازلهم، اقترحت عليهم زهر بأن تُجهز لهم أقداحًا من الشاي فنالت الفكرة إعجابهم، دخلت منتوية فعله ليدخل خلفها فارس خلسًة من الجميع.
وبينما هي تضع محتوياته، جاء من خلفها محتضنًا إياها من ظهرها، شهقت بفزع لتنظر له فجأة وقلبها يهرع بشدة، هدأت قليلًا عندما رأته لتضع يدها موضع قلبها وهي تقول: حرام عليك يا فارس خضتني.
قرَّب وجهه منها وهو ينظر لتفاصيلها بعشق متمتمًا بمشاكسة: سلامتك من الخضة يا قلب وكلاوي فارس.
ابتسمت بخجل سرعان ما تحول للغضب عندما تذكرت معاقبته لها بالأعلى بسبب طفلتهم المشاكسة، لتحاول إبعاده ولكن كان كالهضبة لا يتزحزح، فأردفت بنفاذ صبر: ابعد عني يا فارس وملكش دعوة بيا، أنا منستش اللي عملته فوق.
انزل يدها التي تحاول دفعه من على صدره، ليُكتفها مانعًا حركتها بسهولة مردفًا بعبث: إخس عليا، وأنا لازم أصالحك.
كانت وجوههم مقتربة بشدة، فظنت تلك القصيرة سليطة اللسان بأنه يُقبلها، لتشهق بعدم تصديق واضعة يدها على فمها وعيناها تنظر لهم ببراءة: انت بتبوس ماما يا بابا!
ابتعد فارس عن زهر مسرعًا، وكاد أن يُبرر لها ما يحدث، لتخرج لوچي مسرعة من المطبخ وهي تصيح بعلو صوتها: يا جدو. بابا بيبوس ماما يا جدو. بابا بيبوس ماما يا عمو. بابا بيبوس ماما يا عمتو، يا تاتا بابا بيبوس ماما.
لطمت زهر على صدغها وهي تَحثُ فارس المتصنم من الصدمة لإيقاف إبنتهم: بنتك هتفضحنا يا فارس، يالهوي يالهوي يالهوي.
هرع للخارج ركضًا عله يستطيع إيقاف محطة الإذاعة تلك، ليجد نفسه بالصالة وجميع مَن بها ينظر له بعبث ومكر، ومنهم من ينظر له بغضب، بادلهم النظرات بحرج وإبتسامة بلهاء تتشكل على ثغره وهو يلوح لهم بغباء: هاي يا جماعة.
تحدث معتصم بخبث: مش ليكوا بيت يلمكوا يا كبير ولا إيه!
ليرد عليه شهاب بنفس العبث والخبث: بس بقا يا معتصم متكسفهوش، دي هتلاقيها تصبيرة مش أكتر.
زجرهم بكر والذي يُعتبر كبير العائلة بعد وفاة والده: اخرس يا جحش انت وهو مش عايز أسمع نفس حد فيكو.
صمت الإثنان بحرج بينما التفت بكر ل فارس وعلى قدمه تمكث تلك السليطة تنظر لأباها بشماتة: وانت يا بيه مش لاقي غير المطبخ، وذنبها إيه بنتك البريئة دي تشوفك انت ومراتك كدا!
عن أي براءة يتحدث هو بحق الله؟ هل يقصد إبنته بتلك الكلمة! أشار لها فارس بدهشة متحدثًا بعدم تصديق: دي بريئة دي! قصدك على دي!
كتم بكر ضحكته بصعوبة لعلمه بأفعال الصغيرة، ربعت لوچي ذراعيها بسخط، ثم نظرت إلى جدها وهي تقول بعصبية طفولية أضحكت الجميع: شايف يا جدو بيبصلي إزاي! قصده إيه بالكلام دا!
احتضنها وهو يقهقه على حديثها وهو يقول لها: مش قصده حاجة يا حبيبة جدك، متزعليش نفسك بس.
جاءت من خلفهم زهر تُقدم قدم وتؤخر بالآخري، ومن داخلها تتوعد لإبنتها، رأتها لوچي فهبطت من على قدم جدها وذهبت إليها ركضًا قائلة بحسم لا يتناسب مع عمرها، وهي تمسك بيد والدتها: من النهاردة هننام هنا مع جدو يا ماما، وسيبي بابا ينام لوحده علشان يبطل قلة أدب.
فقد فارس آخر ذرة صبر يمتلكها، ليذهب إليها بغضب صارخًا بها بحدة: بت انتِ! هو انتِ تخليص ذنوب!
وقف شهاب أمامه يسد عليه الطريق وهو بالكاد يُسيطر على ضحكاته، فقال له مُهدئًا: اهدى يا فارس، هتعمل عقلك بعقل بنتك!
بنت مين دا هي اللي بتربيني!
صاح به ثم أشار تجاهها وهي تنظر له بسخط مُربعة كلا ذراعيها: شايفها بتبصلي إزاي!
ضربت بقدمها على الأرض وهي تصيح به: دادي لو سمحت متزعقليش قدام الناس.
تشنج وجهه وهو يردد خلفها بصوت خفيض متعجب: دادي!
كان مدثر يُتابع ما يحدث، لينتفض من مكانه ويتجه إلى لوچي الواقفة بجانب زهر، وأمامهم جميعًا قام بإحتضانها مربتًا على ظهرها وهو يقول بتأثر: متزعليش يا لوچي، انتِ عارفة عمو فارس طول عمره قاسي.
ربتت زهر على كتفه قائلة بحنان: مشوفتش في حنيتك على بنتي والله.
بينما كاد فارس أن يُجن وهو يرى دعم زوجته لهذا الفِسق من وجهة نظره، ليصرخ بهم وهو ينتشل الصغيرة من يده: يارب، يعني أم فاسدة وبنت بايظة! دا إيه الحظ دا.
اعترض مدثر وهو يُعيد لوچي بين زراعيه: إشمعنا انت تحتضن يا أناني وأنا لأ!
اقترب مدثر منه قليلًا يطلب منه أن ينزل لمستواه، ليفعل فارس ما يريده وهو يكادُ ينفجر في الجميع، بينما استطرد مدثر حديثه: سيبني أحضنها براحتي وأنا هبعدها عنك انت والمُزة.
انفتح فمه بصدمة وشلت الدهشة جسده، ليُطلق معتصم الذي استمع للحديث صفيرًا عاليًا مردفًا بإعجاب: ابن ريان بحق وحقيقي مش هزار.
قطع عليهم الحديث صوت هاتف بكر الذي دوى صوته في المكان، أجاب عليه وبعد برهة هبَّ بفزع من مقعده متشدقًا بصدمة جلية على قسماته: بتقول إيه سجن! قسم إيه!
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
كانت تلك كلمات المأذون التي صدحت عاليًا بعد أن تم عقد قران بدر على نوال الشاردة، بين ليلة وضحاها تحولت حياتها إلى كابوس مرعب، تعرضت لمحاولة إعتداء على يد من ظنته حبيبًا، وأنقذها ابن عمها الغامض منه، والآن تم عقد قرانها عليه لتصبح على اسمه، أخذت دموعها صفحات وجهها مجرى لها وهي تُفكر بحسرة أن كل ما يحدث الآن بسبب خطأها هي، خطأ غير مقصود سيجعلها تخوض مستقبل غير معروف، مبهم، وغامض، لرجل لم تراه في حياتها سوى مرتين في طفولتها.
لا تعلم كيف ومتى وصلت إلى غرفتها بعدما أعلنت موافقتها على تلك الزيجة، أفاقت من شرودها على أنامل خشِنة تُزيل دموعها بخفة، نظرت لصاحبها لتجده هو، بدر الأباصيري ابن عمها الغريب، رجل بجلباب صعيدي، ذو ملامح خشنة، ليس بالوسيم ولكن أيضًا ليس بالقبيح، ابتعدت عن مرمى يده وهي تصرخ بهياج: ابعد عني.
تنغض جبينه بإنزعاج، فأكثر ما يكرهه بأن يصرخ شخصٌ بوجهه، وهذا الشخص هو امرأة! رفع سبابته مُحذرًا إياها بصوت آجش غليظ: أول وآخر مرة عترفعي حِسك فيا تاني، فاهمة ولا لع يا بت عمي!
تحولت ملامحه للبرود، موليًا ظهره لها وهو يأمرها بجمود خشيته: لِمي خلجاتك عشان هنسافر الصعيد دلوجتي.
شعرت بالهوان، وإحساسٌ بالظلم بدا يُداهمها، رغم أنها المُخطئة منذُ البداية، لذلك يجب عليها دفع ثمن أخطائها، اتجهت نحو خزانتها لتبدأ بلملمة ملابسها، وشريط الساعات الآخيرة يُعرض أمامها يجلدها بلا رحمة، أغمضت عيناها بشدة وهي تهز رأسها بنفي لإبعاد تلك الأفكار عن عقلها، الآن هي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تعيش حياة تعيسة مع المزعوم بزوجها، إما أن تنتظر بعض الوقت وتطلب الطلاق، حسمت أمرها ويبدو بأنها تُخطط لشئ ما في رأسها، لكن هل تلك الأفكار ستحميها من ذاتها أم ستُهلكها مرة أخري!
بعض بضعة ساعات وصلوا إلى الصعيد، أجواء صافية وحياة نظيفة بعيدة عن حياة المدينة، جالت بنظراتها للأراضي الخضراء، أحست بالراحة لوهلة وهي تري نقاء المكان من حولها، لكن حدسها يُنبؤها بأن هناك شئ سئ على وشك الحدوث.
ترجلت من السيارة بسخط عندما سمعت صوته المستنكر: الحلوة هتبيت في العربية ولا إيه!
وقفت أمامه بقوة، وكأنها تخبره بأن ما حدث لم يؤثر بها كأنثي، سارت بجانبه حتى رأت منزله الكبير، والذي يسمونه ب سرايا، شعرت بالخوف ولكن ما بث بها الروح هي رؤيتها لجدها الحنون والقاسي بذات الوقت يقف بإنتظارها، اتسعت ابتسامتها وتركت الحقيبة التي بيدها لتهرول إلى أحضانه، احتضنها هو الآخر بحنان، مردفًا وهو يربت على ظهرها: اتوحشتيني جوي يا حبيبة چدك.
قبلت يداه بإشتياق متحدثة وغمامة من الدموع تتكون على عيناها: وانت كمان وحشتني أوي يا جدي.
استمعت لصوت يأتي من خلفها، ومن الواضح أنها لم تكن سوي والدة بدر، أشار لها جدها بالذهاب لها، لتتجه إليها بتوتر خائفة من تلك المقابلة الأولي، لم يدوم توترها بل تفاجئت بها تجذبها لإحتضانها وهي تقول بسعادة: مرحب بيكي يا مرت إبني، مرحب بيكي يا ضنايا.
للحقيقة لم تظن أن الإستقبال سيكون بتلك الحفاوة، ابتسمت بخفوت وهي تُجيبها: أهلًا بيكِ يا طنط.
عاتبتها برقة وهي تُجعد جبينها: طنط إيه بس، جوليلي ياما زي بدر.
ابتسمت بإستغراب لتلك المرأة العفوية، أحبتها وأحب حنانها، لتمتثل لطلبها قائلة بود: حاضر يا ماما.
لم تعتاد على ذكر تلك الكلمة، لتقول بمزاح: ماما! يلا مش مشكلة.
ضحكت بخفة على حديثها، لتلمح من طرف عينيها فتاتين مقدمتان لها، بدأ بدر في التعريف عنهما وهو يقول: دول أخواتي، غالية و رباب.
في البداية لم ترتاح نوال لنظراتهم، وتأكدت من حدسها عندما بادرت غالية بالحديث وهي تنظر لها من أعلها لأسفلها: أهلًا يا مرت أخوي، نورتي بيتنا.
قاطعها بدر بنظراته الصارمة وهو يُعدل حديثها: وبيتها كمان يا غالية، ولا نسيتي إنها بجت مرتي!
سددت لها نظرة محتقنة، لا تعلم لما لم ترتاح إلى مظهرها، بينما ذهبت إليها رباب لإحتضانها وهي تُرحب بها: كيفك يا مرت أخوي.
الحمد لله بخير.
قاطعهم الجد عندما أطالوا التهاني والترحيبات موجهًا حديثه لوالدة بدر: بكفياكوا بجا يا تهاني ووصلي الغالية لأوضتها.
ثم وجه حديثه ل نوال وهو يحدجها بنظرات ثاقبة: وانتِ يا نوال ارتاحي في مطرحك. ولينا كلام لما تجومي.
توترت من مغزى حديثه، فأومأت له لتنظر للمنزل بجهل لا تعلم إلى أين تذهب، لتسمع زجر تهاني ب بدر وهي تقول: روح يا ولدي وِرِي مَرتك مطرحها، واجف مكانك كدا ليه عاد!
حاضر ياما رايح اهو.
انهي حديثه وهو يحمل الحقيبة بيد واليد الأخري ممسكة بيدها، دُهشت من فعلته ولكنها لم تُعقب، سارت معه حتى آخر الرواق حيث ستقطن بغرفتها معه هو، لم تروقها الفكرة ولكن ليس عليها سوا ذلك.
دخلوا للداخل فوجدت الغرفة واسعة وكبيرة، بها فراش كبير يتوسط الغرفة، وعلى كلا جانبيه يوجد كومود صغير إلى حدٍ ما، وخزانة كبيرة تحتل الحائط الأيمن منها، وأريكة تتسع إلى أربع أشخاص موضوعة على الجانب الحائط وأمامهم شاشة تلفاز متوسطة الحجم، لم تكن تتخيل بأن تكون الغرفة كبيرة لهذا الحد، ورغم أن الأساس ليس بالمبهر ولكنه مُريح للغاية، أثارت الغرفة إعجابها ومع ذلك لم تُبدي له ذلك.
كان يُراقب ردات فعلها عندما جالت بعيناها على الغرفة، كان ينتظر منها أن تتحدث، لكن خيبت ظنونه عندما استكانت على الأريكة دون أن تتحدث ببنت شفة، كم هي غريبة تلك الفتاة، قوية وضعيفة في آنٍ واحد، مثيرة للإهتمام أيضًا، جال ببصره على ملامحها، جسدها ملئ بعض الشئ، قصيرة إلى حدٍ ما، بشرتها تمتاز باللون القمحي، وعيناها بُنية لامعة، عادية، لكن تجذب الإهتمام.
نفض عن رأسه تلك التفاهات، واتجه ناحية الفراش مستعدًا أن يأخذ قيلولة للتخفيف من تعب السفر، وما هي إلا ثواني وذهب في ثباتٍ عميق، تاركًا إياها تُفكر في مستقبلها المجهول معه.
في منزل صغير يقوم بتأجيره قريب من منزله، كان عابد منهمكًا في الشرح لتلاميذه، شهرته في المنطقة التي يقطنُ بها ك مُعلم لغة عربية جعلت كثيرًا من الطُلاب يتوافدون إليه، بعدما تخرج من كلية التربية قام بأخذ التدريس ك وسيلة له رغم أنه كان يمقتها بالبداية، انتهي من الشرح بسلاسة ليخرج التلاميذ مُلقون على مسامعه عبارات الشُكر والمدح، تقبلها بصدر رَحب وهو يبتسم لهم بوداعة، انتهي من تدريسه اليوم مبكرًا، فقرر الذهاب لقضاء اليوم مع عائلته.
أثار فضوله تلك التي تقف على أعتاب المنزل الصغير وكأنها تنتظره، ذهب إليها بتروي فلم تكن ناظرة تجاهه، سألها بصوت هادئ رزين مُتجنبًا النظر لها مُباشرة: أقدر أساعدك في حاجة يا آنسة!
فزعت وصال من حديثه المُفاجئ، لتضع يدها على قلبها قائلة بتلقائية: يخربيتك.
نعم!
نطقها بدهشة وهو ينظر لها، لتحاول إصلاح ما فعلته مردفة بسرعة دون إعطاءه حتى فرصة الرد عليه: أنا. أنا كنت جاية لحضرتك علشان يعني اشتغل مع حضرتك، أو أسيستنت لحضرتك.
كاد أن يضحك على طريقة حديثها، لكنه تمالك نفسه وهو يُجيبها بأسف: بعتذر جدًا. بس أنا مش محتاج مُساعدة معايا.
رسمت إمارات الحزن على وجهها وهي تتصنع الإستسلام: تمام. وشكرًا ليك مرة تانية.
استبقته بعدة خطوات، وهي تعلم بأنه يُغلق الباب من خلفها، ليرن هاتفها وتُجيب عليه بحزن مصطنع: أيوا يا ماما، لا يا حبيبتي لسه ملقتش شغل، أول ما ألاقي هعرفك، إن شاء الله ربنا يقدرني وأجبلك العلاج بتاعك قبل ما يخلص.
استمع عابد لحديثها مع والدتها، وكم شعر بالأسف تجاهها، مشت عدة خطوات ليُناديها بصوت مرتفع نسبيًا حتى يصل لمسامعها: يا آنسة استني لو سمحتِ.
تصنعت عدم الإستماع وأكملت طريقها متجاهلة إياه، ليذهب خلفها حتى أصبح بالقرب منها مُباشرة مُناديًا إياها: يا آنسة استني بعد إذنك.
التفتت له راسمة على وجهها الحزن المزيف، ليشعر بتأنيب الضمير تجاهها، فأردف دون أن يُشعرها بالشفقة: أنا موافق إنك تشتغلي معايا.
هزت رأسها بالرفض وهي تقول له بقوة: لو حضرتك وافقت تشغلني معاك علشان صعبت عليك يبقي أسفة مش عايزة.
حاول إصلاح تلك الفكرة التي وصلت إليها مردفًا بسرعة: مين قال كدا بس! أنا فعلًا محتاج أسيستنت معايا علشان المجاميع كتير وتقيلة، وانتِ هتخففي الحِمل دا عني.
صمتت قليلًا ثم أومأت له بفرحة وعيناها تلتمع بسعادة وهي تجيبه بسرور: بشكرك جدًا يا أستاذ آ...
أجابها بهدوء ورغمًا عنه جذبته لمعة عيناها الخضراء: عابد.
لتُكمل هي جملتها شاكرة إياه: بشكرك جدًا يا أستاذ عابد، متعرفش فعلًا كنت محتاجة الشغل دا إزاي.
وكأنه إستفاق لنفسه ولتحديقه بها، ليقول بدون قصد: استغفر الله العظيم.
قطبت جبينها بإنزعاج عندما سمعت جملته، وما زاد الطين بلة بأنه قام بالتحديق بعيدًا عنها وكأنه يتجاهلها أو يرفض رؤيتها، شعرت بالضيق تجاهه ولا تعلم أنه يغُضُ بصره عنها، لتستمع إلى قوله: ممكن تبدأي شغل من بكرة لو عايزة يا آنسة، عن إذنك.
تركها ورحل من أمامها قبل أن تخونه أبصاره وتتوجه نحو عيناها الجميلتان مرة أخري، وهي تكاد تستشيطُ غضبًا من تجاهله لها.
ذهب بكر ومعه فارس وأولاد عمومته إلى القسم حيث يُحتجز ريان، طلبوا مقابلته والخوف ينهش أفئدتهم، يبدو أن الأمر سيكون معقدًا كما قال له ريان أثناء مهاتفته، جاء إليهم وهو مُكبل بالأصفاد الحديدية ووجهه مُنزعج للغاية، تجمعوا حوله فبادر بكر بالحديث مستفسرًا منه: إيه اللي حصل يا ريان!
زفر مطولًا ثم قام بسرد ما حدث بوجه ممتعض، بداية من مهاتفة أحدهم إليه مُخبرًا إياه بوجود ابنه بالمشفي وركوبه للسيارة مع فتاة، حتى إلقاء القبض عليهم عندما وجدوا أكياسٌ بيضاء من العقاقير المُخدرة بتهمة الإتجار بها، كانوا يستمعوا إليه بإنصات، ناهيك عن ذلك القلق المسيطر عليهم، تحدث معتصم بعدما فكر في الأمر مليًا: الموضوع دا مترتب ومتخطط ليه، مستحيل دا يحصل صدفة كدا.
أثار حديثه إنتباههم، ليفكروا في الآمر، فلم يكن سوا هذا الحل المنطقي، ليؤكد له ريان قوله متشدقًا: ما هي العِرسة اللي كانت معايا قالت كدا برده.
عِرسة!
نطقها الجميع بإستغراب، ليوضح لهم ريان بقوله: أصل مش أنا لوحدي اللي متهم في كدا، في بنت معايا كمان مشتركة معايا، يعني القضية فيفتي فيفتي.
تسائل شهاب تلك المرة بتوجس: ومين البنت دي يا ريان!
غزل أبو زيد...
نعم!
قالوها بصدمة جلية على وجوههم، وإمارات الإنزعاج بدأت تتشكل عليهم، ولأنه يعلم الخلاف القائم بين العائلتين، برر بقوله المستهجن: متبصوش كدا، ما أنا مش هروح أقول للي ملفق القضية لا وحياة أمك جيبلي واحدة تانية اتحبس معاها!
لم يكادوا أن يتحدثوا حتى وجدوا عائلة غزل تقتحم عليهم المكان، نظرات امتعاض ودهشة من العائلتين، خفتت عندما لمح إبراهيم ابنته تأتي عليهم وبيدها الأصفاد هي الآخري، ذهب إليها مُسرعًا وهو يقول بلهفة: إيه اللي حصل يا بنتي!
ربتت على زراعه لتهدأه، رغم أن الأمر صعب للغاية إلا أنها قالت مطمئنة إياه: متقلقش يا بابا سوء تفاهم مش أكتر.
سمعت نواح والدتها ودموعها تنهمر قائلة بتحسر: يا عيني عليكِ يا بنتي، كان مستخبيلك فين دا كله! دا انتي حتى ملحقتيش تتغدي.
نظر لها الجميع بإستنكار ليتحدث ريان بحزن: وأنا والله يا طنط مكلتش أنا كمان.
تلك المرة صاح به بكر يُعنفه بغضب: اخرس يا حيوان وخلينا نشوف حل للمصيبة دي.
وبينما هم يقفون، دخل عليهم الضابط ناظرًا لهم بضجر وهو يصرخ بالعسكري: مين اللي سمح لدول كلهم بالدخول!
ابتلع الآخير ريقه بخوف متمتمًا بتلعثم: ح. حضرتك قولتلي. لو جه من أهل المتهمين يدخلوا.
تقم مدخل دول كلهم!
حاول إبراهيم أن يُهدأ من حدة الاجواء، ليردف بود: أسفين يا باشا. بنتنا وبنطمن عليها.
نظر له ببرود، فالتفت يجلس على كرسيه بهدوء يُنافي الوضع الذي فيه، متحدثًا بجمود: بنتك الاحسن ليها إنها تعترف وإلا مش هيحصل كويس.
نظر الجميع لبعضه بتوتر، الأمر ليس سهل كما اعتقدوا، لتصيح هي بغضب نافية عنها التهمة: بقولك أنا معرفش حاجة عن الزفت دا.
وافقها ريان في الرأي وهو يؤكد حديثها: أيوا وأنا كمان معرفش حاجة عن الزفت دا.
استطرت غزل حديثها وهي تُلوح بيدها: هي عربيتي ولا عربية السواق!
ليوافقها ريان مرة أخري وهو يكرر حديثها: أيوا صح، هي عربيتي ولا عربية السواق!
نهض الضابط بعنف ضاربًا على سطح مكتبه وهو يصيح بهم بغضب: بس انتِ وهو في إيه!
ثم أشار بسبابته تجاههم مُحذرًا إياهم: الإنكار مش هيفيدكم، بكرا الصبح هتتعرضوا على النيابة، السواق هو اللي بلغ عنكم لما لقي المخدرات جنبكم في الكرسي، وانتوا كنتوا مع بعض، يعني التهمة عليكوا مش على السواق.
ثم نادي بعلو صوته: يا عسكري، تعالي خد المتهمين على الحجز.
نفذ العسكري أمره وهو يسحب كلاهما تحت أنظار عائلاتهم العاجزة، خرج بكر ومن خلفه فارس وهو يردد: لله الأمر من قبل ومن بعد، يعني إيه! يعني كدا الواد اللي حيلتنا ضاع!
نفي فارس برأسه، رغم أن الفزع تملك منه بعد حديث الشرطي لكن حاول طمئنته: متقلقش يا عمي. أنا هكلم بابا وهو عنده أصحاب محاميين كتير، يمكن يقدر يساعدونا.
تهجم وجه بكر على ذِكر سيرة عَزام، ليردف بسخط: لا مش عايزين حاجة من أبوك.
حاول شهاب إقناعه بشتي الطرق لركن الخِلاف القائم بينه وبين عمه: يا عمي دا كله في مصلحة فارس، وإلا كدا هيضيع فعلًا.
ومع الضغط منه ومن معتصم أيضًا وافق على مضض، واضعًا حياة ريان أمامه أولًا.
بشموخ ورأسٍ مرفوع جلس على مقعده الوثير في مكانه الفسيح، منزل يشبه القصور في تصميمه، يظهر عليه الترف والبزخ، أمسك سليم بقنينة من الخمر الفاخر ثم صب محتوياته في كوب زجاجي فخم يحتوي على مكعبات الثلج، أمسك بالكوب ثم ارتشفه ببطئ متلذذ بما يسمعه الآن، خطته الدنيئة نجحت وأُلقي القبض على من تحداه، غزل أبو زيد و ريان الطحاوي.
تذكر ليلة البارحة عندما علم بإختراق أحدهم لنظام شركته، ومن الاكيد بأنه علم بتعامله مع كبار التجار ذوي السمعة السيئة، هاج وماج وقام بتحطيم كل ما أمامه بغضب شديد، و فريد يُتابع ثورته بخوف من ردات فعله المتهورة، وقف محله وصدره يعلو ويهبط من إنفعاله الزائد، آمرًا الذي يرتعش أمامه بأن يجلب له كل المعلومات التي تخص ذلك المحتل، وبالفعل قام بجلب كل المعلومات التي تخص محتله، ولسوء حظ ريان كان قد دخل بالحساب الخاص به، فكان من السهل الحصول على جميع معلوماته، وكانت ضربة الحظ له عندما علم بأنه يقطن بنفس المطنقة التي تقطن بها غزل، فقام بالتخطيط والتدبير للإيقاع بهم سويًا.
قلَّب قطع الثلج بإبهامه ثم ارتشف منه بتلذذ، استمع لصوت فريد وهو ينقل له آخر الأخبار، منتشيًا بإنتصاره على خصميه الغبيان من وجهة نظره، وضع الكوب من يده ثم أكد عليه بحديثه: متأكد يا فريد القضية متحبكة كويس! مفيهاش أي غلطة.
أجابة بثقة مؤكدًا: مش أقل من 15 سنة يا سليم بيه.
ظهر على ثغره ابتسامة خبيثة منتصرة، فأمسك بكوب الخمر مرة أخري، ضاربًا به بكوب الآخر مُحتفلين بإنتصارهم، ولكن هل سيتحقق ما خططوا لأجله! أم ستتغير الأحداث!
شعور الظلم يجعلك تشعر بأنك مُحتبس داخل قفص كالطير الجريح، صوت آناتك في الليل لا يسمعها بنو البشر، صرخات قلبك تُنادي للعون، وجسدك ما عليه سوي أن يضعف، وحدتك تقتلك، والجدران صديقتك، أوراقك متناثرة، بها جملة واحدة متكررة في جميعا، البشر كالذئاب.
نظرت حولها لذلك المكان ذو الرائحة العفنة، وجوه النساء من حولها ترتسم بالإجرام، وهي كالطفلة هشة من الداخل، رغم تظاهرها بالقوة ولكنها في النهاية فتاة بريئة، دخلت غرفة الحجز بأقدام متوترة، وقلب يخفق من الهلع، جلست عند الباب بجانبه تحديدًا، أكثر ما أفزعها هي نظرات تلك النساء، حاولت التغاضي عنها، لكن شعرت بالخوف عندما رأت إمرأة كبيرة الحجم تأتي ناحيتها، ادعت بالثبات لتنجي من هذا المأزق، وقفت الأخري قبالتها لتزجرها بقدمها بعنف: قومي يابت دا مكاني.
حسنًا، قلت لكم إنها تشعر بالرهبة، لكن مع تلك المعاملة المُهينة تأجج قلبها بالغضب الحارق، لتقف قبالتها صائحة بعنف: انتِ إزاي تعامليني بالطريقة دي! انتِ اتجننتي!
وبصوت غليظ خرج من حنجرة تلك المرأة تحدثت وهي تضربها في كتفها بعنف: ما الحلوة عندها لسان وبتعرف تتكلم أهو!
جزت غزل على أسنانها بغضب، وتلك المرة لن تتغاضي عن إهانتها، لتشمر كُم بلوزتها السوداء، ثم جذبتها من خصلاتها بعنف وهي تحرك رأسها بين يدها يمينًا ويسارًا قائلة بتحذير: مش أنا قولتلك ابعدي عن خلقتي السعادي يا دكر البط انتي! انتي اللي جيتي لقدرك بقا.
وقعت السجينة على الأرض من الهجوم العنيف من غزل لتجلس عليها ثم ظلت توجه لها اللكمات والضربات كأنها تُفرغ محتويات غضبها اليوم، لتستنجد التي أسفلها بها وهي تردف برجاء: آاااه خلاص، خلاص مش جاية ناحيتك تاني.
وقفت من عليها وهي تنظر لها شمئزاز حقيقي، ثم عدلت من ثيابها وجلست محلها مرة أخري، ولكن تلك المرة جلست بقوة.
علي الجانب الآخر.
كان ريان يستمع لحكايات الرجل الذي تعرف عليه من عدة سويعات والمدعو عطا، ليستطرد عطا حديثه بقوله: قومت بقا يا سيدي طاعنها 12 طعنة لحد ما فطست مني.
مصمص ريان بشفتيه وهو يقول بإستنكار: مسم، 12 طعنة إيه اللي تموت منهم! أما نسوان قموصة بصحيح.
وانقضي ليله يستمع لحكايات المساجين الشرسة وسبب دخولهم السجن، حتى سطعت الشمس بنورها، تدلف من تلك المنطقة الصغيرة من شباك الغرفة المحتجزين بها.
انفتح الباب ليدخل العسكري وهو ينادي اسمه بصوت عالي: ريان الطحاوي.
انتفض من مكانه وهو يجيبه: أيوا يا شويش.
تعالي.
ذهب معه ليدلف إلى غرفة الضابط، ليجد سليطة اللسان تلك تقف أمامه، أمر الضابط بوضع الأصفاد في يد كليهما، حتى أصبحا متشاركين بها، ليقول الضابط بشماتة واضحة: ودلوقتي هتتعرضوا على النيابة يا حلوين.
نظر كلاهما لبعضه بتوتر بالغ، وأول ما جال ببال ريان هو ابنه مدثر، لا يهم أين سيذهب هو، ولكن هل سيترك ابنه وحيدًا!
مشوا حتى وصلوا إلى السيارة التي ستقلهم، ثم صعدوا بها منطلقة بهم إلى مصيرهم، الأفكار تدخل وتتضارب في عقل كليهما، والمخاوف تتزايد كلما اقتربوا من الوصول، هم ضحية لمؤامرة حقيرة ستتسبب في خسارة حياة كلاهما، لا يوجد مفر الآن، يجب الإقتناع بالأمر الواقع.
دلفوا إلى ساحة المُحاكمة، ليجدوا كُلا من عائلاتهم موجودة بالمكان، شعرت غزل حينها بالتوتر البالغ، القضية ليست في صالحهم مطلقًا، كل الأدلة ضدهم، المحامي الموكل لقضيتهم غير قادر على تقديم أدلة كافية، بينما الآخر يُدينهم وبقوة، لا يفصل الآن بينهم وبين العالم الخارجي سوي النطق بالحكم.
نظر القاضي للأوراق وللأدلة، كل ثانية يصمت بها كانت بمثابة خوف جديد يتجدد داخل الجميع، وأخيرًا فتح فمه لينطق بالحكم، متحدثًا برسمية: بالنظر إلى كافة الأوراق والأدلة المُقدمة، حكمت المحكمة حضوريًا على كلا من المتهمين ريان منصور الطحاوي و غزل إبراهيم أبو زيد بالسجن لمدة 15 سنة مع الأعمال الشاقة، رُفعت الجلسة.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع
نُطق القاضي لحُكمه كان بمثابة سكين تالمة تنحر أعناقهم بلا رحمة، يطلبون العفو والرجاء ولكن ها قد قيلت الكلمة الأخيرة، بضعة كلمات كفيلة لتُذيب مستقبلهم، كجمرات بين أيديهم لا يستطيعون إفلاتها، تعالت الشهقات الغير مصدقة، وعويل النساء ملأ الساحة، بينما هم، هم مازالوا متصنمين محلهم، لا يصدقون ما تسمعه أذانهم، بالطبع هذه مزحة، مزحة ثقيلة رُميت على أذانهم لتُصيبهم بالذهول، لكن أصوات البكاء من حولهم كذبت أفكارهم.
نظر ريان لعائلته بتشوش وأفكار متضاربة، هل انتهي هكذا! هل سيقضي بقية عمره بين جدران السجن المتعفنة! هل سيكون وحيدًا مجددًا! وأول ما جال بفكره هو ولده مدثر، وسؤال يتقاذف بين ثنايا عقله، هل سيعيش بدون أب! هز رأسه بنفي هستيري، ودمعة الشعور بالظلم سقطت من عيناهه وهو يصرخ طالبًا الرجاء من القاضي القاسي: لاااااا. والله العظيم ما عملت حاجة يا حضرة القاضي. كله كدب. والله العظيم كله كدب.
وكأن القُضاة أصموا أذانهم عنه وعن صراخه المتألم، لملموا أوراقهم ثم ذهبوا من المحكمة نهائيًا، ذهب فارس إليه وجهه شاحب بشدة، ابتلع ريقه فحاول التحدث وهو يضع يده على كف الآخر الممسكة بالقضبان: ريان! هتطلع يا صحبي، والله العظيم هتطلع حتى لو كلفني الموضوع عمري كله.
نظر له ريان بعجز، وأكتافه متهدلة بيأس، وكأنه قد كبر على أعوامه الثلاثين أعوامًا أخرى، ليتشدق بألم وأنظاره تتجه ناحية وجه إبنه الباكي بين أحضان شهاب: ابني يا فارس، ابني ملوش غيري، لو الحُكم اتنفذ ابني هيعيش وحيد طول عمره زيي بالظبط.
حاول فارس الثبات أكثر، فتحدث بصوت صارم لا يقبل المزاح: ابنك وسطنا واحنا أهله، ولحد ما ترجعله بالسلامة لازم انت تهرب.
بينما هي كانت في أوج صدمتها، أحلامها التي نسجتها في خيالها على أمل تحقيقها انهارت الآن أمام عيناها، وهي عاجزة عن التصرف، لمحت بطرف عيناها ذلك الحقير وهو يشير لها بيده، سليم المنشاوي بحقارته يبتسم لها بإستفزاز، علمت بأنه خلف كل ما حدث لها، سددت له نظرة نارية وقلبها يحترق حقدًا عليه.
أتت لها والدتها فوزية مهرولة ودمعاتها تتسابق على وجنتها لا تتحمل ما سمعته، أخرجت يداها من الفواصل، لتُسمك بيد والدتها المنهارة بالبكاء قائلة بجزع: حاسبي يا ماما.
هبطت الدموع الآخري مردفة بخوف ولهفة تحاول الوصول إليها لإحتضانها: ظلموكِ يا بنتي، ظلموكِ وشبابك هيضيع هدر.
ما كان عليها سوى أن شعرت بالعجز، فهبطت دموعها بحسرة، لتتعالى إلى شهقات، فمهما كانت قوية، تظل هي أنثى، أنثى ضعيفة بمشاعر رقيقة كوريقات الأشجار، أنثى مُغلفة بالقوة ولكن بالداخل هشة، وقف إبراهيم أمام فتاته موجهًا حديثه إليها بتشجيع: مش غزل أبو زيد اللي تضعف كدا. غزل أبو زيد قوية وهتفضل قوية. خليكِ واثقة في ربنا والتيسيير هيجي من عنده.
بأنامل مرتعشة مسحت جفونها، وهي تجيبه: غزل أبو زيد ضعيفة، ضعيفة أوي يا بابا، وانتوا اللي كنتم بتقووني، ودلوقتي هتبعدوا عني وهبقى لوحدي بين حيطان سجن اللي بيدخله مش بيخرج منه إلا لو كان شيطان.
تلك الغصة التي تشكلت في حلق إبراهيم كادت أن تصيبه بنوبة قلبية، لكنه تحامل من أجل صغيرته، تلك الجريحة التي اعتاد منها القوة، الآن أصبحت تنتظر تنفيذ حكمها.
جاء العساكر لأخذهما معًا، وضعوا في يديهم أغلال حديدية، بات ريان مُكبل في جهة، وبالجهة الآخري هي، تم سحبهم وسط تهافت أهاليهم وأصوات البكاء التي تعالت، بينما فارس اختفى من الوسط، صعدوا إلى سيارة الشرطة الزرقاء واحدًا تلو الآخري، وقبل أن تذهب السيارة، انفلت مدثر من يد شهاب مُتجهًا ناحية والده، ليلتقطه ريان ودموعه بدأت بالتسلل لعيناه مرة أخرى.
تحدث مدثر بشهقات عالية متقطعة وهو يرتمي في أحضانه: متسبنيش يا بابا.
رد عليه بخفوت وهو يدفن وجهه به: مش هسيبك يا روح بابا.
قاطعهم صوت العسكري وهو يسحب ريان من أحضان مدثر متحدثًا بغلظة: يلا يابني مش هنفضل واقفين طول النهار كدا.
لم يريد مدثر أن يترك والده، فجاء إليه شهاب ليسحبه عنوةٌ عنه وطبقة من الدموع تتشكل في عيناه، صرخ مدثر ببكاء وهو يمسك يد والده برجاء: متسبنيش يا بابا، متمشيش وتسبني.
انفلتت يده وزاد صراخه الهستيري عندما رأى ريان يصعد للسيارة ومن خلفه صعدت غزل التي كانت تتابع الموقف بتأثر، ورغمًا عنها هبطت دموعها بحزن من أجل الصغير الذي حُرم من والده في ذلك العمر الصغير، كانت حالة ريان لا تقل عن حالة ابنه، لكنه يتحكم بنفسه بصعوبة، رؤيته لولده يبكي بهذا الشكل تُصيبه في مقتل، لكن ما باليد حيرة.
ذهبت سيارة الشرطة والجميع يقف لتوديعهم، دموعهم منسلتة على أوجههم، ومازال مدثر يتلوي بيد شهاب للذهاب لوالده، وآخر ما رآه ريان قبل أن تأخذ السيارة طريقًا مغايرًا لهم، هو مساعدة معتصم ل شهاب في تهدأة صغيره، وضع يده على وجهه بقلة حيلة، ولأول مرة يشعر بالعجز حيال طفله.
أشفقت غزل على حالته، رغم إنها لم تره سوى بضعة مرات في تلك السنوات القليلة التي قضاها مع عائلة النويهي، لم ترَ منه أي مكروه، بل كانت تستمع لمدح العجائز به لمساعدته إياهم، تحشرج صوتها تحاول أن تؤاذره، لتقول بود: متقلقش هيبقى كويس.!
نظر لها بثبات ظاهري، وعيناه تعكس ما يقوله: معتقدش، مدثر ملهوش غيري في الدنيا دي، ومهما كانت العيلة بتحبه بس مش هيعوضوه عن غيابي.
صمت لأنها تعلم أن معه كل الحق، تشعر بغصة في قلبها عندما تنظر ليدها، انتهي بها المطاف لتكون مُكبلة بالأغلال مع شخص مجهول، كلاهما يتقاسمان الحزن، ولكن بطريقته الخاصة.
شعروا بتذبذب السيارة وعدم معرفة السائق السيطرة عليها، تجهز العساكر بأسلحتهم لأي هجوم، ليرتدوا للأمام جميعًا عند توقف السيارة فجأة، اصتدمت رأس كلٌ منهم بالآخر بعنف، ومن أمامهم هبط مجموعة من الملثمين من سيارة نقل رباعية كانت تتعمد الإلتصاق بهم، اتجهوا للخلف حيث يجلسون، وقبل أن يعي الجميع ما يحدث قاموا بتوجيه ذلك السائل ناحية وجوههم جميعًا، ليفقدوا وعيهم دون الشعور بما حولهم.
أمر فارس أحد الرجال الذي قام بتأجيرهم بأن يساعدة في حمل ريان وتلك الفتاة التي معه الغائبين عن الوعي، بما أنهم مشتركين في نفس الأصفاد، وبالفعل قاموا بحملهم ثم وضعوهم على الأرض الأسفلتية من تحتهم، وجه فارس حديثه لأحد الرجال وهو يتسائل: مفعول المخدر هيروح امتي!
ليُجيبه الآخر بثقة: معانا تركيبة تفوقهم حالًا، ومن غير التركيبة هيفوقوا بعد نص ساعة.
نظر فارس حوله بقلق، قائلًا بسرعة: لأ فوقهم دلوقتي، مفيش وقت.
امتثل لأمره، فقام بإمساك زجاجة صغيرة تحتوي على رائحة نفاذة بشدة، وضعها أولًا على أنف ريان، ليُجعد جبينه بإنزعاج متململًا في مكانه: بس بقا سبوني أنام شوية.
نكزه فارس بقوة في ذراعه، مردفًا بغيظ: قوم احنا مش في بيت أبوك الله يخربيتك.
فتح عيناه بكسل، حتى اعتاد على الضوء من حوله، فرأي وجه فارس يُقابله، ليبتسم بخفوت وهو يردظ: الحمد لله. كنت عارف إنه حلم.
شد فارس على خصلاته بيأس من هذا الأبله، ليطلب من الرجل الذي يُطالع ريان بإستنكار أن يبدأ بإفاقة غزل، أومأ له ومازال نظره مرتكز على ريان مرددًا بصوت عالي نسبيًا: بقا واحد أهبل زي دا متهمينه بالقتل!
كاد أن يضع السائل على أنف غزل، فبدأت بالإفاقة وحدها، اضطربت حواس الرجل، فنادي على أحد رجاله بفزع: واااد يا فجلة، الست دي فاقت ليه!
تجعد جبينه وهو يهز رأسه بجهل، لتستعيد غزل وعيها كاملًا، واضعة يدها على رأسها، متحدثة بألم: إيه اللي حصل!
استعاد ريان وعيه هو الآخر وكاد أن يجيب بجهله، حتى استمعوا إلى صوت تأوه العساكر، وقف فارس بفزع وهو يمسك الرجل من ياقة ملابسه، سائلًا إياه بغضب: هو دا اللي نص ساعة وهيفوقوا!
اضطرب الآخير ولا يعلم ما حدث، أو ما الخطأ الذي افتعلوه ليستعيدوا وعيهم بسرعة، أجابه مُبررًا: واللهِ يا باشا ما عارف ايه اللي حصل، دي تركيبة موثوقة.
كاد فارس أن يُجيبه، لكن سيُضيع وقته قبل نفاذ مهمته التي أتى من أجلها، ذهب إلى ريان مُسرعًا، وجذبه من ذراعه ليقف، لتقف من خلفه غزل التي نظرت لهم بضجر، فاتسعت عيناها وهي تسمع حديثه: يلا يا ريان، انتوا لازم تهربوا دلوقتي حالًا قبل ما ياخدوا بالهم ويفوقوا.
اعترضت غزل على حديثه، وهي تُشيح بيدها أمام وجهه، هاتفة بعصبية: أنا مستحيل أهرب، انا هحارب العدالة وأظهر برائتي بنفسي و، آاااه.
لم تكد تُكمل حديثها حتى استمعت لصوت طلقات الرصاص، ليهرع ريان يجري دون النظر خلفه، ساحبًا أياها دون إعطائها أي أهمية، حتى كادت أن تقع عدة مرات، لتصرخ به بنفاذ صبر: هتوقعني الله يخربيتك، اصبر انت ساحب بهيمة!
تحدث دون التوقف عن مواصلة السير: اجري بسرعة قبل ما يقفشونا، اجري وبطلي لَك، منك لله.
حاولت غزل الأبطاء من سرعتها، وذلك بعد مواصلة الجري لنصف ساعة متواصلة، انكبت على وجهها عندما أكمل ريان الجري لتواصل أيديهم بتلك الأغلال، لتسبه بغضب عند وقوعها: استني يا غبي، وقعتني يا بني آدم.
استفزه حديثها ليجز على أسنانه بغضب موجهًا حديثه لها بإستهجان: الف سلامة على الحلوة السنيورة، اتنيلي قومي عشان نكمل ونفك الزفت اللي في إيدينا دا.
ربعت قدماها ويداها معلقة لفوق: حد الله ما قادرة، انا مش هتعتع من مكاني لحد الصبح.
زفر بقلة صبر، ونظر حوله للمكان الفارغ من المساكن ومن المارة، منطقة نائية بعيدة عن ضجيج بنو البشر، ليقول بإستنكار: هما كانوا هيسجنونا في أبو زعبل ولا إيه! المكان مفيهوش صريخ ابن يومين.
لم يجد منها رد، ليوجه أنظاره إليها، فوجد رأسها منكفئة على جسدها، وعيناها منغلقتان، ليهبط لمستواها وهو يهزها برفق: حَجة! انتِ يابت اصحي، انتِ يا هبابة!
لم يجد منها ردًا للمرة الثانية، لينظر إلى السماء ووجهه عابس، كأنه على مشارف البكاء: يارب إيه البلوة اللي بلتي بيها دي يارب!
ثم أعاد أنظاره إليها مرة أخري، وتلك المرة هزها بعنف وهو يصرخ: اصحي بقا.
فزعت من صراخه، لتفتح عيناها بفزع وهي تنظر حولها: كبسة!
التوى فمه بسخرية وهو يحثها على القيام، قائلًا بإستنكار: اه دي اللي هيعملوها مننا لما نتمسك إن شاء الله، تعالي نشوف أي مكان نتقاعص فيه لحد ما الشمس تطلع.
مشت بجانبه وهي تجعد جبينها، متسائلة بإستغراب: نتقاعص! انت خريج لغة عربية!
لا وانتِ الصادقة، تجارة.
واصلوا السير لمدة عشر دقائق أخري، حتى وجدوا صخرة أشبه بالكهف، لم يجدوا حلًا آخر سوى الجلوس والنوم بها حتى الصباح، افترشوا الأرض بأجسادهم المنهكة، والألم يشتدُ بأقدامهم لطول الطريق، مالت غزل على ريان دون وعي منها، فالتعب أهلكها لتذهب في ثباتٍ عميق، ولم يمر سوى القليل من الوقت وكان هو يلحقها نائمًا بإنهاك.
عاد الجميع لمنازلهم بحالة مُزرية للغاية، هذا الحدث أثر عليهم بالكامل، وأكثرهم كان مدثر، ذلك الطفل الذي فقد والده في سن صغير، وضعه معتصم على فراشه بعد أن نام من كثرة البكاء، مرر كفه على خصلاته بحنان وهو ينظر له بأسى، تذكر حينما ظل يصرخ ويُنادي بإسم والده بعد أن ذهب، لم يستطيعوا السيطرة عليه، فطفل مثله كل ما يملكه هو أباه، فقده ليدلف للسجن بقية حياته، قام بتغطيته بعدما تأكد من سباته، ثم خرج لعائلته، وجدهم في حالة حزينة، معالم الآسى تُسيطر على الجميع، كان ريان بمثابة الإبن الغير حقيقي لتلك العائلة، منذ أن جاء إلى هُنا منذ عدة سنوات مع إبنه والجميع يعامله كأنه فرد من تلك العائلة.
نظر بكر ل معتصم وهو يسأله بترقب حزين: مُدثر نام!
أومأ له بتعب وهو يجلس على المقعد المقابل له بإنهاك، مردفًا: نام بالعافية، أنا مش خايف غير من حاجة واحدة، لما يصحى هنعمل معاه إيه!
فرك بكر جبينه بقلة حيلة مرددًا: لله الأمر من قبل ومن بعد، أنا مش عارف إيه اللي حصل مرة واحدة.
صمتوا جميعًا لا يعلمون بما يُجيبون، فحياتهم تحولت بين ليلة وضحاها، زُج ابن تلك العائلة في السجن، ليظل مُدة خمسة عشر عامًا بين جدرانه، تحدث سُلطان والد شهاب موجهًا حديثه لإبنه: أومال فين فارس يا شهاب! مشوفتهوش من ساعة لما خرجنا من المحكمة.
لم يُلاحظ إختفائه، كل ما كان يشغله هو ريان لذلك جهل عن مكانه، هز كتفيه بجهل مُجيبًا: مش عارف والله يا بابا.
كان هُناك من يُراقب الوضع بشماتة نجحت في إخفائها، ورسم معالم الحُزن جيدًا على وجهها، إنها سميحة والدة معتصم، لطالما كانت تكره وجود ريان بينهم، تُعامله وكأنه نكرة، وهو كان يتجنب الحديث معها منعًا للمشاداة الكلامية التي تحدث بينهم كُل مرة، ليس هو فقط، بل فارس هو الآخر، تكرهه وتكره والدته، تلك التي ظلت تَغار منها بقية حياتها لأسباب مجهولة حتى الآن، تمتمت بصوت خفيض مُحملًا بالغِل والحِقد: اللهي ما يرجع لا هو ولا فارس، خلينا نخلص منهم هما الإتنين سوا.
ليقطع أحاديثهم في تلك اللحظة دخول فارس وهو يُصفر بإستمتاع، وملامحه مُرتخية للغاية وكأن شيئًا لم يحدث، وجَّه الجميع وجوههم له بإستغراب، فهم يعلمون مدى توطيد العلاقة بينه وبين ريان، فمن المفترض الآن أن يكون في أسوأ حالاته.
وقف بكر مستندًا على عكازه الخشبي، سائلًا إياه وملامحه مُغلفة بالغموض: كنت فين يا فارس!
كاد أن يُجيبه لكن سماع صوت مدثر وهو يبكي أوقفه عن الحديث، خرج من غرفته وهو يمسح عيناه الناعستان متحدثًا ببكاء: عايز بابا.
ذهب إليه فارس ثم هبط لمستواه، محتضنًا إياه بحنان وهو يُهدهده: بس يا حبيبي، حاضر هوديك لبابا بكرة إن شاء الله.
طالعه الصغير بشك، غير مُصدقًا حديثه، قائلًا بعدم تصديق: بجد يا عمو ولا بتضحك عليا!
نفي فارس برأسه مسرعًا، وهو يُربت على خصلاته بحنان: لأ بجد والله، روح انت نام يا بطل دلوقتي، وبكرا هوديك ليه.
تهللت ملامح الصغير، ليقبله بإمتنان على وجنته قبل أن يذهب للغرفته: حاضر، شكرًا يا عمو فارس.
ابتسم فارس بخفوت، ثم وقف مكانه مرة أخري مستديرًا لعائلته التي كانت تُطالعه بإستغراب، وجه نظره ل بكر الذي تحدث بصرامة: تعالي ورايا يا فارس عايزك.
كان يعلم بما يريده، فهم بالأكيد قد تشككوا بحديثه، وهو سيوضح لهم ما فعله، ولكن المُهمة الأصعب الآن هو عمه بكر.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس
قد يكون النوم هو الملاذ الوحيد من هذا العالم، مجتمع مُتحيز للرجال عن النساء، بإعتقادهم أن الأنثي ليس لديها الحق بإبداء رأيها، ووالدها كان من تلك العقلية الرجعية، ل طالما كان يُريد من والدتها أن تُنجب له ذكورًا، لكن يشاءُ القدر بتوقفها عن الإنجاب، حينها كان إستياء والدها منها واضح، يصرخ بها، يمقتها، ينفر من وجودها، حتى باتت تتأكد من كرهه لها.
تململت نوال من مضجعها بأرق، باتت الكوابيس تُلاحقها تلك الفترة الأخيرة، بالأصح واقعها الذي ابتعدت عنه، واقع أبيها المتجبر، لوهلة غارت من معاملة بدر لشقيقاته، ليلة أمس عندما تجمعوا سويًا بطلب من جدها، رأت حنانه على شقيقتيه، ك حنان أب على صغاره، رغمًا عنها شعرت بالنقص، وقلبها حزين على حاله.
مسحت بضعة دمعات مُتحسرة انسابت من عيناها عندما لمحته يدخل للغرفة، وأشاحت بوجهها للناحية الأخري، لكن لسوء حظها لاحظها هو قبل أن تلتفت، اقترب منها بهدوء حتى جلس قرابتها على الفراش، مدَّ يده تجاه وجهها ليُديره ناحيته، ثم تحدث إليها بحنان كالذي يتعامل به مع شقيقتاه: مالِك يا نوال، على طول مسهمة إجده وحزينة، احكيلي جايز اساعدك، وليه دموعك ديا!
كادت أن تنهار أمام حنانه، تُريد إخباره بأن يكُف عن معاملتها بتلك الطريقة التي تضعفها، ضعفت من قبل وكادت أن تفقد أغلي ما تملكه، لكن الآن هي زوجته! الأمر مُختلف تلك المرة، هل تُخبره! أم تحتفظ بحزنها لنفسها!
وكالعادة فضلت الصمت، متحدثة بصوت مبحوح واقفة من على الفراش: مفيش حاجة، دا بس عشان لسه صاحية من النوم.
تركته واتجهت للخارج بعد أن وضعت حجاب أعلي رأسها لتذهب إلى المرحاض، وقف هو مُتحير لا يعلم ماذا يفعل معها، حكَ رأسه بيده وهو يقول: حكايتك إيه يا بت عمي، عتحيريني معاكِ عاد وانتِ زي الطفلة ياك!
دخلت نوال للمرحاض ومن ثَم وقفت أمام المرآة التي تحتل جزء كبير من الحائط، نظرت إلى بشرتها الشاحبة والهالات التي تُزين أسفل عينيها، لم تكن هكذا من قبل، كانت قوية، قوية ولكن ضعيفة،!
مسحت بقطرات الماء وجهها، ومع كل قطرة تسقط على وجهها تُقسم بأن يكون حاضرها هو آمالها، هي تستحق حياة أفضل، ستتعايش مع زوجها بدر، وعند تذكره تذكرت حنانه، وهي طفلة تحتاج للحنان، تلك المشاعر التي حُرمت منها منذ صغرها، جففت وجهها بالمنشفة وعدلت من حالة حجابها المشعث، نظرت لنفسها برضا، ثم خرجت لهم.
نادتها تهاني بود وهي تقوم بوضع محتويات الطعام على الأرض: تعالي يا مرت ابني، تعالي أنا خلصت من تچهيز الوكل.
أحست بالحرج منها، فمنذ أن أتت لهنا لم تُساعدها ولو بقشة، حملت منها صحن الطعام مردفة بأسف: حقك عليا يا ماما، سايباكِ تجهزي الأكل لوحدك.
قالت معنفة إياها برقة أحبتها: وه! متجوليش إجده يا جلبي، انتِ زي عيالي إياك!
مشاعر الحُب الصادقة التي تنبع من تلك العائلة تجعلها تشعر بالأُلفة، أفعالهم عفوية وتعاملهم مُحبب لها، ابتسمت لها بصدق ثم عاونتها في حمل الأطباق قائلة بأريحية مرحة: ومالو. عيالك برده بيساعدوكِ يا ست تهاني. يلا بلاش دلع ياك!
قالت جملتها الأخيرة بمرح جعلت الأخري تقهقه على حديثها، غافلتان عن ذلك الذي يُتابعهم بصمت، وابتسامة صغيرة متشكلة على ثغره، ودَّ لو يعلم ما يُصيبها من حزن، لكن الأيام قادمة، والفرص كثيرة، وسيعلم ما سببه.
دخل عليهم ممسكًا بجلبابه موجهًا حديثه لوالدته بمرح: نسيتينا ياما وجلبك بجي معا نوال!
اندهشت في البداية من وجوده وأحست ببعض الحرج، ازداد عندما احتضنتها تهاني بحب وهي تقول: بس يا واد، دي بجت غالية عندي زيك بالمللي.
وجه لها نظرة حنونة وهو يُجيب والدته: دي غالية عندنا كلياتنا ياما.
لهنا ويكفي، فقد تمكن منها الحرج، لم تكن تتوقع إجابته تلك، وكزته والدته من كتفه مُردفة بخبث: وه! اتحشم يا ولاا، جليل الحيا أومال!
جعد جبينه بتذمر، واضعًا يده على ذراعه وهو يقول بضجر: جرا إيه ياما! دي مرتي، يعني حبة الجلب.
طالعته تهاني بقلة حيلة، وذهبت هي تتمتم بيأس من أفعال بِكرها الصبيانية، لكنها ابتسمت بحنان وهي ترفع يدها للسماء، داعية بتمني: ربنا يسعدك يابن بطني، وتعيش حياتك مع اللي تستحجها، بدل طليجتك البومة اللي نغصتك عليك عيشتك.
بالداخل. نظرت نوال ل بدر بغضب من حديثه أمام والدته، رغم الحرج الذي تملك خلايا جسدها هتفت بعصبية: إيه اللي انت قولته قدام أمك دا! على فكرة ميصحش كدا.
غضب من إرتفاع نبرة صوتها، وهو الذي حذرها من قبل من فعلهت مجددًا، حاوطها بين ذراعاه وهو يهتف بها مُحذرًا: جولتلك صوتك ميعلاش عليا واصل يابت عمي، والا عتشوفي وش عمرك ما عتشوفيه جبل سابج.
ورغم توترها من قربه، حاولت إستجماع شجاعتها الهاربة متشدقة بتحدٍ سافر: هتعمل إيه يعني يابن عمي!
تحولت عيناه من الغضب إلى العبث، والمكر يتراقص بحدقتاه، بينما اتسعت عينا نوال على آخرهما عندما اقترب منها مُقبلًا وجنتها المنتفخة بخبث، تزايدت ضربات قلبها، ولم يسعها لسانها على الحديث، لتدفعه بقوة هاربة إلى غرفتها للإختباء منه.
ابتسم بتسلية بعد ذهابها، حك مؤخرة رأسه وهو ينظر لأثرها متمتمًا بمكر: بطاية بِدها تتاكل وكل.
الصمت يَعمُ المنزل، وإبراهيم يقف كالعاجز بين أفراد أسرته، وضع رأسه بين يده بيأس وهو يُردد بخيبة أمل: يعني إيه! بنتي كدا ضاعت!
عاونه شقيقه ليشد من أزره، وضع طه يده على كتف شقيقه، لم يجد ما يقوله في موقف كهذا، فإبنته المحبوبة تُسجن الآن بين جدران السجون، غامت عيناه بالحزن عندما تءكر تلك الفتاة المرحة، القوية، المشاكسة، كان يُعاملها كإبنتاه تمامًا، حاول أن يُخىج نبرة صوته قوية حتى يدعم شقيقه، فقال بمواساة: شِد حيلك يا إبراهيم، لو انت هتضعف كدا مين اللي هيقوي بنتك! انت سندها المفروض تكون أقوي من كدا.
نظر إليه أخيه ونظرات التيه في عيناه، ورغمًا عنه تسللت الدموع تحسرًا بعينه، وهو يُتابع حديثه بقوله المتألم: بنتي خلاص، مستقبلها ضاع، وهي كمان ضاعت من إيديا، أول فرحتي وبنت روحي ضاعت يا طه.
غصة مؤلمة تشكلت في حلق الجميع من حديثه المؤثر، جميعهم يعلمون مدي تعلقه ب غزل، ذهب إليه عابد جالسًا بجانبه، ثم وضع يده على قدم إبراهيم وهو يقول بإيمان: لا مضاعتش يا عمي، طالما هي مظلومة ربنا مش هيسيبها ابدًا، ربنا رحيم بعباده الظالمين مش هيكون رحيم بالمظلوم! خلي عندك إيمان إن ربنا هيحميهالك مهما كانت الظروف، غزل طول عمري بعاملها زي أختي، وعارف إن أختي قوية ومش هتضعف، خليك انت كمان قوي عشان تساعدها في محنتها.
هز إبراهيم رأسه بإقتناع، على ثقة تامة بربه، لكن تملك الحزن من رغمًا عنه، عاونه شقيقه الثالث خليل والد أحمد وهو يقول: يلا قوم استعيذ بالله وصلي ركعتين لله، وادخل شوف مراتك وبنتك اللي مقطعين نفسهم من العياط دول، وابقي ادخل لأبوك العيان من ساعة اللي حصل.
استجاب له إبراهيم، ثم دخل منتويًا الصلاة وهو يتمتم بقلة حيلة: لله الأمر من قبل ومن بعد، لله الأمر من قبل ومن بعد، احميلي بنتي يارب.
دخل ونظراتهم تلاحقه بحزن، حتى اختفي عن ناظريهم، وجه خليل نظراته لإبنه بغموض، موجهًا حديثه له: وانت تعالى ورايا، عايزك.
أحس أحمد بعدم الراحة من حديث والده، لكنه رضخ لأمره وصعد خلفه للأعلي.
كالطفل المُذنب الذي يقف أمام أباه كان يقف فارس، ونظرات بكر كانت تحوم حوله مُلتقطة ردود فعله، جلس بكر على مقعده وهو يستند على عصاهُ ومازالت نظراته مُثبتة على الآخر، تمتم فارس بخفوت خائف لنفسه: إيه جو الرعب اللي أنا فيه دا!
غمغم بكر بخفوت وهو يحثه على الحديث، ليقطب فارس جبينه بجهل، لا يفهم إلى ما يرمي إليه، سائلًا إياه ببلاهة: إيه يا عمي! أجبلك مية!
تنغض جبين الآخر بإنزعاج من غباءه والذي يُشبه غباء ريان تمامًا، ليقول بزمجرة: انجز يا غبي قول كنت فين! ما هو مش معقول صاحبك اللي روحك فيه يكون لسه مسجون وانت راجع رايق كدا!
لم يظن فارس أن يُكشف هكذا، حاول قدر الإمكان أن يخفي فرحته، لكن يبدو أنه اتضح للجميع، ابتلع ريقه بقلق وهو يُجيب: ع. عادي يعني يا عمي. م.
وقبل أن يُكمل حديثه ضرب بعصاه على الأرض لتدوي بصوت عالي، فزع فارس من غضب عمه، ليستمع إلى حديثه الغاضب: لو كنت فاكرني أهبل وكبرت والشيب ملا راسي تبقي غلطان يابن شاكر.
هو يمنحه كل الإحترام والتقدير، وحديثه هذا يعني أنه شعر بقلة الإحترام تجاهه، لذلك نكس رأسه للأسفل بخجل وهو يُجيبه بحرج: العفو يا عمي. حضرتك على راسي من فوق.
حثَّه بكر على الحديث وهو يضغط عليه: يبقي تحكيلي كل حاجة، ودلوقتي.
حدجه فارس بتردد، وعندما رأي تلك النظرة المُحذرة بعيناه، بدأ بسرد كل ما حدث، عندما أعلن القاضي حُكمه، خرج هو لا يري أمامه من الغضب، يكادُ أن يُجَن مما حدث، مجرد فكرة بأنه خسر صديقه المُخلص تُصيبه بالجنون، لذلك قام بمهاتفة شخصًا مما له سابقة في الإجرام، كانت معرفته به سطحية عندما قابله صدفةً أول مرة، وعندما أجابه طلب من مساعدته في تهريب ريان عند إنطلاق سيارة الشرطة، وافقه الآخر لكن بعد أن طلب مبلغًا كبيرًا من المال لتنفيذ مهمته، لم يهم فارس كم سيدفع لينال صديقه حريته مجددًا، لذلك قاموا بالإتفاق سويًا حتى نُفذت المهمة لنجاح لكليهما.
كان بكر يستمع له بإنتباه لما يقوله، تتحول ملامح وجهه من الحين للآخر ما بين الغضب، الراحة، الحدة، والخوف، انتهي فارس من سرد ما حدث العمه والقلق ظاهر على وجهه منتظرًا لردة فعله، فزع عندما هبَّ بكر من مقعده بغضب، ضاربًا بعكازه الأرض بقوة وهو يتشدق بغضب: ولو كان حصل أي حاجة ليكو انتوا الإتنين أبقي أعمل إيه ساعتها! ولو الشرطة وصلتلك دلوقتي وقبضوا عليك أقف أتفرج عليك بسبب غبائك!
قطب فارس جبينه بإنزعاج وهو ينظر له، لم يهمه ما كان سيحدث له، كل ما كان يشغب باله هو إنقاذ صديقه، ليُجيب بلامبالاة مفتخرًا بفعلته: كان يحصل اللي يحصل، ما أنا مش هسيب صاحبي يتسجن ظلم وأنا واقف اتفرج عليه!
زفر بكر الهواء المُختنق بصدره، يعلم بمدي تعلق الصديقان ببعضهما، يعلم قوة ترابطهما معًا وكأنهم أخوان من أب وأم واحدة، جلس محله مرة أخري براحة، حاول التصنع بالغضب وعدم إظهار سعادته بهروب ريان من تهمة لم يفتعلها ثم قال: يعني. يعني محدش كشفكم! و ريان كويس!
ابتسم فارس بسعادة ليذهب لإحتضان عمه بإمتنان، مردفًا بفرحة: هو كويس يا عمي يا سكر يا عسل.
ضحك بكر عليه، ثم أبعده بصعوبة، فكان يسد عليه الهواء من ضخامته، ليقول بضجر: ابعد يا بأف هتخنقني.
ابتعد عنه فارس بضحك، ليتسائل بكر بإستفسار: و ريان فين دلوقتي!
هز كتفه بجهل وهو يجيبه: مش عارف. هو هرب وهو والبت اللي معاه. وأكدت عليه يتصل بيا أول ما يوصل لمكان آمن.
استحسن الفكرة فهز رأسه براحة، ثم وقف محله مستعدًا للذهاب: ربنا يطمنا عليه ويرجعه لينا بالسلامة، أنا هدخل أرتاح بقا.
أفسح له فارس الطريق وهو يزفر براحة، اتجه بخطواته نحو الأعلي قاصدًا شقته، ليرتاح قليلًا، دخل لشقته فوجدها تعم بالصمت تمامًا، يبدو أن تلك النشاكسة الصغيرة ذهبت للنوم، دخل لغرفته ليجد زوجته بإنتظاره وعلى ملامحها يرتسم القلق، اتجهت زهر ناحيته مسرعة عندما وجدته يقف أمامها مُحدجًا إياها بإبتسامة عاشقة، تحدثت والقلق ينهش بقلبها: كنت فين يا فارس! كنت هموت من الخوف عليك.
حاوط خصرها ثم عانقها بقوة وهو يهمس في أذنها بعشق تملك من خلاياه: بعد الشر عليكِ يا روح فارس، وحشتيني يا زهرتي.
ببضعة كلمات تبدد الخوف من قلبها، ليحل محله نبضات العشق المتخفية، أحاطته براحة وفؤادها يصرخ بالعشق للمرة التي لا تعلم عددها، تنهيدة حب خرجت من فمها وهي تُجيبه بعتاب: وانت كمان وحشتني. قلقتني عليك أوي.
نظر إليها ليُصبح وجهيهما في مواجهة الآخر ومازالت يداه تحيطان بخصرها، أمسك بيدها ثم طبع قُبلة رقيقة معبئة بالمشاعر على أناملها، هاتفًا بإعتذار: حقك عليا يا حبيبتي، بس كان لازم أهرب ريان.
صُدمت من حديثه لتخرج من أحضانه وهي تردف بدهشة: إيه! تهربه! انت بتهزر يا فارس!
قطب جبينه بتعجب من تحولها بهذا الشكل، فتحدث سائلًا إياها بغرابة: مالك اتصدمتِ كدا ليه!
اقتربت منه خطوتان ثم ضربته على صدره صارخة به: ولما يحصلك حاجة أو تتكشف ويتقبض عليك هتبقي تسألني اتصدمت كدا ليه! انت ليه مبتفكرش غير في نفسك! ليه عايز تضيعنا معاك!
غضب من حديثها المنطقي نوعًا ما ولكنه تغاضي عنه وهو يصرخ بالمقابل: عايزاني أسيب صاحبي يتسجن ظلم وأقف أتفرج عليه! عايزاني أشوف مستقبله بيضيع وأفضل ساكت! لو مكنتش أنا اللي هقف جنبه مين اللي هيبقي معاه! قوليلي! ريان يتيم أب وأم من زمان، حتى أخوات معندوش، وقف جنبي في عز أزمتي وطول عمره في ضهري، وبعد دا كله عايزاني أسيبه! أنطقي!
ارتعشت شفتيها وهي على مشارف البُكاء، لديه كل الحق لكن هي لا تريد خسارته، ماذا كان سيحدث إن تم القبض عليه! سيتركها وحدها هي وابنتها، وهي لن تستطيع العيش بدونه، تعشقه وتلك نقطة ضعفها، كادت أن تتحدث وتُبرر له موقفها، لكنه ابتعد عنها بغضب تاركًا الشقة بأكملها.
جلست زهر مكانها بألم وهي تُتمتم ببكاء: ليه مش عايز تفهمني، ليه مش عايز تعرف إني خايفة عليك!
ببنما فارس هبط درجات السلم بغضب، قاصدًا شقة عمه بكر للمبيت بها تلك الليلة، يبدو أن سيُشارك غرفته مع مُدَّثِر تلك الليلة، طرق على الباب بطرقات خافتة حتى لا يتسبب في إزعاج الآخرين، لتفتح له زوجة عمه وهي تُرحب به بمحبة: تعالى يا فارس يا حبيبي.
حمحم بحرج من مجيئه بتلك الساعة المُتأخرة، ليقول بتبرير كاذب: أنا جيت يا مرات عمي عشان أبات مع مدثر النهاردة بدل ما ينام لوحده.
أفسحت له الطريق وهي تقول له مُعاتبة: البيت بيتك طبعًا. تعالى أدخل يابني.
رمى لها نظرات مُمتنة ثم اتجه ناحية الغرفة الماكث بها مدثر، ظن بأنه لربما نائم الآن، ففتح الباب برفق مُطلًا بجسده كاملًا، ليتخشب مكانه مما رآه،!
ماذا لو كانت الدموع تُخفف من حِدة الألم!
لبكى الجميع قهرًا وظُلمًا، واشتدت أعينهم بكاءً، سيفيضُ الدمعُ بكثرة، ويئن القلب ألامًا، سأشكي كل من ظلمني، ولن أُسامح.
حينها سيخفت الألم، لكن هذا مجرد تخيل.!
فارق النوم جفناه، منذ أن رأي محمود محبوبته ميران تبكِ تأثرًا بما حدث لشقيقتها، وعقله كاد أن يُجن، لم يستطيع عقله التمرد تلك المرة، ليسير خلف رغبة فؤاده الناطق بإسمها، تذكر قبل ما يحدث ل غزل حديثها الصارم معه.
Flash Back
تجهز محمود للهبوط إلى ورشته الخاصة، حيثُ يعمل ميكانيكيًا للسيارات، نادت عليه غزل عندما رأته مُتجهًا إلى محل عمله، توجهت إليه بنظرات غاضبة ونية في توبيخه، لتقف أمامه موجهة إليه حديثها بتحذير قوي: مش عايز أختي يبقي تقولها صريحة بدل ما تعلق نفسها بيك أكتر من كدا، لكن طريقتك اللي اتعاملت بيها معاها إمبارح دي، لو اتكررت أنا مش هعديهالك.
لم يتعجب كثيرًا من معرفتها بالأمر، ف ميران تعتبرها ك صديقة مخلصة قبل أن تكون شقيقتها، ظهر الألم بعيناه عندما تذكر حديثه السخيف معها، ليقول بنبرة غلب عليها الحزن: وتفتكري أنا أنفعلها! لا من مستوايا وكمان رد سجون.
لوت غزل شفتيها إستنكار وهي تُجيبه بسخرية: مستوي إيه يا راجل! دا انت دفعت حق شقة كاملة في تمن شهور بعد ما شقتكوا القديمة ولعت.
رفع كفه أمام وجهها مرددًا بقلق: قل أعوذ برب الفلق. لسه فاضلي شهرين يا فقر.
أديك قولت أهو. مستواك وكويس الحمد لله. وأخلاق المنطقة كلها تشهد بيها. وإذا كان على القضية أنا وأنت وأمك وعيلتك وعيلتي وعم عبده البقال عارفين إنك برئ.
أخرج عم عبده البقال رأسه من الكشك وهو يهتف متسائلًا: بتقولي حاجة يا أبلة غزل!
فزعت من خروجه المفاجئ، لتضع يدها موضع قلبها بخوف، هاتفة: إيه يا عم عبده حد يخض حد كدا! وبعدين ودان دي ولا سماعة ميكروفون!
ضحك محمود بقوة، فوجه حديثه ل عم عبده قائلًا بود: خلاص يا عم عبده ادخل انت. أسفين على الإزعاج.
أدخل الآخر رأسه وهو يحدج غزل بغيظ، قبل أن يقول: ماشي يابني، أي حاجة إحنا في الخدمة.
وجهت غزل حديثها له، وهي تقول بمكر أخفته ببراعة: ها قولت إيه! هتتقدم رسمي ولا أقول لأختي تشوف مستقبلها بعيد عنك!
علمت أن حديثها الماكر سيكون بمحله، قطب جبينه بغضب عندما أكتشف مغزاه، ليردف بحدة: يعني إيه تشوف مستقبلها بعيد عني، إحنا هنهزر!
ما كادت غزل أن تجيبه، حتى وجدت رأس عم عبده تخرج مرة أخري من خلال شباك الكشك الخاص به، ليقول بتساؤل: بتزعق ليه يا سي الأوستاذ! فيه حاجة!
جزت غزل على أسنانها بغيظ، لتقول بنفاذ صبر: ادخل يا عم عبده اللي يكرمك مش نقصاك.
مصمص على شفتيه مُحدجًا إياها بسخط، وهو يتمتم في سره قبل أن يدخل لمحجره مرة أخري: صدق اللي قال. خيرًا تعمل شرًا تلقي.
كتم محمود ضحكته بصعوبة مانعًا ضحكة عالية من الخروج الآن، نظرت إليه غزل بغيظ، ثم تحدثت بعصبية: اخلص قول قرارك قبل ما ألاقيه ناطط لينا تاني.
تحولت ملامح وجهه للغيرة وهو يتخيل ميران في أحضان رجل آخر، هي له وحده، تخصه هو، عشقه الأول والأخير ولن يتخلي عنه أبدًا، ليردف بجدية: ميران مش هتبقي لغيري يا غزل، بحبها وهفضل أحبها لآخر يوم في عمري، وإن شاء الله آخر الشهر هاجي أتقدملها.
استحسنت الفكرة وهي تُقدِّر رجولته في الحصول على شقيقتها لتكون حلالًا له: حلو أوي كدا.
ثم تابعت حديثها بمكر، نواياها الخبيثة أثارت حفيظته، وتأكد منها عندما تابعت حديثها بقولها: بس للأسف مش هتعرف تكلمك تاني.
ليه!
استرسلت بقولها الماكر وهي تري تهجم وجهه للضيق: غير ما تتقدملها رسمي، سلام يا جوز أختي.
تركته ينظر لها بغيظ، لكن قلبه المُرهق عاد لحيويته مرة أخري، فذهب تجاه ورشته لمتابعة عمله بنشاط وقوة غريبة تلك المرة.
Back.
وعند تذكر محمود ل غزل وتلك المحنة التي تمر بها، دعا لها برجاء أخوي: ربنا يفك أسرك يارب وترجعي بسلامة.
استيقظ كلًا من ريان و غزل عندما استمعوا لصوت عويل مُخيف قادم من مكان بعيد، ابتلعت غزل ريقها وهي تنظر حولها بترقب وحذر، لتتمسك بقميص ريان الذي يدَّعي الشجاعة، لتقول بتلعثم: إيه. إيه الصوت دا!
نظر لها بقوة وهو يرفع ياقة قميصه، ثم تمتم بثقة: طول ما انا معاكِ مش عايزك تخافي.
ليأتي صوت العويل مرة أخري ولكن بصوت أعلي وأقرب، ليعود بحديثه وهو يقول بفزع: أو خافي عادي. تعالي نمشي من هنا بسرعة.
وافقته بخوف وكادا أن يتحركا حتى وجداوا ذئبًا كبيرًا ذو فرو كثيف ينظر إليهم بشراهة، ولعابه يسيل جوعًا،!
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السادس
التربية الصالحة تعكس مدي أخلاقك، تكون كالزهرة المشرقة يحبها الجميع، لكن إذا كانت التربية طالحة، تُصبح شبيهة بأشواك تلك الزهرة المشرقة، فالزهرة لها جانبان، وعليك أنت الإختيار فإما أن تكون صالح، أو طالح.
صعد خليل ل شقته وخلفه ولده أحمد، كانت تعابيره قلقة للغاية، خاصةً بعد حديث والده الغامض معه، استشعر بأنه ل ربما عَلِم بعمله الغير أخلاقي، فازداد التوتر على ملامح وجهه أكثر، إذا حدث ما يُفكر به سيكون آخر يوم له هنا بالمنزل، فوالده ورغم حنانه، صارم للغاية، لا يقبل بالخطأ خاصةً وإن كان خطأه كبير، وهو يعلم لذلك، وكم من مرة شعر بحقارته، لكنه يعود لذات النقطة من جديد، يريد أن يتغير بسبب تلك الملاك، تسبيح معذبة قلبه، هي تحتاج لرجل نظيف، لذلك سيُجاهد ذاته على ذلك.
جلس خليل على مقعد الأريكة، فجلس بالمقعد الذي جواره أحمد، نظر خليل لولده بصرامة، ثم تحدث هاتفًا: شكلك مش عاجبني اليومين دول. بتخرج وتيجي آخر الليل على مزاجك ولا كأن ليك بيت ولا أهل يلموك، في إيه يا أحمد!
ابتلع أحمد ريقه بتوتر، لا يعلم بما يُجيبه، لكنه ادَّعي الثبات وهو يقول: مفيش حاجة يا بابا. الشغل بس هو اللي كتير اليومين دول.
نظرات الشك التي يرميها له كانت تُقلقه أكثر، تمني أن يهرب لغرفته الآن قبل أن يُكشف أمره أم والده، وكأن والده استجاب لذلك، فأعطاه الأمر للذهاب، ليُلبي له أحمد على الفور مُنطلقًا لغرفته على الفور، نظر خليل لأثره بريبة، وقلبه يُكذِب حديث الآخر، تمتم بقلق وهو يضغط على جانب الأريكة: يا تري مخبي إيه يا أحمد!
إعتَزِل مَا يخْدشُ دِينَك
وَلاَ تَلتَفِت لِأَحَد.
الآن هما أمام خياران لا ثالث لهما، إما الموت أو الموت!
ابتلع ريان ريقه وهو ينظر للذئب الذي يسيل لعابه بشراهة، يبدو بأنهم سيكونان طعامًا لأحدهم تلك الليلة، ضربت غزل على ذراعه بقوة وهي تصرخ به بفزع: اعمل حاجة واتصرف.
لطم على وجهه وهو يولول كالنساء، مجيبًا إياها: أعمل إيه، أعمل إيه!
اصطكت أسنان غزل بخوف، وزاد الهلع بهم عندما رأوا الذئب يقترب إليهم رويدًا رويدًا، مُصدرًا زئيرًا عالي من فمه، تحدث ريان تزامنًا مع رجوعهم للخلف: أنا لسه صغير ومشوفتش من الدنيا حلاوتها!
اغتاظت منه وودت حقًا لو تُقدمه للذئب ك وجبة أساسية، لكن تلك الأصفاد اللعينة تمنعها عن ذلك، وصلوا إلى الحائط فلم يبقى أمامهم مفر، فالموت هو نهايتهم، وعن أي نهاية يتحدثون! نهاية مآساوية.
أغمض ريان عينه منتظرًا مصيره ناطقًا الشهادة، لتفعل غزل مثله وهي ترتعش من الخوف، مرت ثلاث ثواني واستمعوا إلى صوت عالي أعقبه صوت صراخهم، فتحوا أعينهم بفزع ليروا ذلك الذئب يقع صريعًا، غارقًا بدمائه، وأمام يقف رجل يرتدي جلباب طويل، وعلى رأسه ما يُسمي ب العِمة، وممسكًا بيده بندقية كبيرة مدببة، من هيئته يبدو أنه من البدو الماكثين بتلك المنطقة، وجه البندقية نحوهم وهو يقول بغلظة: انتوا مين! وجيتوا إهني كيف!
وبدلًا من الخوف، تشكلت ابتسامة بلهاء بالنسبة للرجل على ثغر ريان، ذهب تجاهه مُبعدًا فوهة البندقية عن جسده، ثم احتضنه بسعادة وقوة، تعجب الآخر من هذا الغبي وحاول أن يُبعده لكنه كالأحمق تمامًا يُشدد من إحتضانه أكثر، تمتم بفرحة حقيقة: انت. انت أنقذت حياتنا والله. كنا هنبقي وجبة لذيذة للديابة هنا.
طفح كيل الرجل، ليدفعه بعيدًا عنه وهو يصرخ به: ابعد عن خلجتي يا غبي انت، هو رمي جتت وخلاص!
تجعد جبين ريان بإنزعاج، لما يصرخ به بهذا الشكل! أفعل شيئًا هو!
بينما غزل كانت تكتم ضحكتها بصعوبة، رغم أن ريان يبدو ك رجل ناضج وكبير، إلا أنه يمتلك حِث طفولي مُحبب للجميع، تركزت أنظارها على البندقية التي رفعها الرجل مرة أخري عندنا هَم ريان بإحتضانه مجددًا.
صرخ به الرجل بنفاذ صبر مصوبًا سلاحه تجاه ريان وهو يقول آمرًا إياه بضجر: ابعد بدال ما اطخك عيارين في نفوخك، امشي جدامي وانت والولية اللي معاك دي أوديك لَكبيرنا.
استشاطت غزل من نعتها ب «ولية»، فصرخت به وهي تُلوِّح بيدها أمام وجهه، واليد الآخري مكبلة بيد ريان: ولولوا عليك ساعة وانفضوا يا بعيد، إيه ولية دي!
ابتلع ريان ريقه بخوف وهو يري ملامح وجه الآخر المُتهجمة، ليُصيح بها: بس يخربيت معرفتك هيقتلنا. هيقتلنا.
كادت أن تُربع يديها، فإرتفعت يده معها تلقائيًا، سخر منها وهو يجذب يده قائلًا: متتقمصيش الدور أوي، متنسيش في فيه حِتة مني مربوطة بيكِ.
صاح بهم الرجل بقوة متشدقًا بحدة: يلا جدامي من غير حِس.
مشوا أمامه وهو خلفهم مصوبًا سلاحه لهم حتى وصلوا بعد وقت ليس بالقليل، كان هناك العديد من الخيم ورجال مسلحون نفس هيئة الرجل، وللحق مظهرهم مُفزع، ابتلعا ريقهما بخوف حتى وقفا أمام رجل آخر يبدو من مظهره بأنه كبيرهم، كان جالسًا على مقعد خشبي متهالك، ينفث دخان نارجيلته من فمه، نظر لهم نظرة شمولية سريعة، ثم وضع ما بيده جانبًا، ليقف أمامهم فيظهر طوله الفارع، همس ريان لنفسه وهو يرفع رأسه ليري وجهه المُلتحي بشارب كبير: وأنا اللي بقول عليا طويل! أتاري فيه طور واقف قدامي.
خرج صوت الرجل غليظًا مُخيفًا بعض الشئ وهو يتسائل: انتوا مين وجايين هنا ليه!
ليُجيب مساعده بدلًا عنه قائلًا بشك: شكلهم حكومة يا معلم ودا كمين.
عنفه ريان بصراخ وهو يُدافع: اسكت يخربيتك. والله ما حصل يا معلم، احنا أصلًا هربانين.
ضربت غزل رأسها من هذا الغبي، لقد أوقع بهم بسبب بلاهته، جزت على أسنانها بغيظ شديد، لتضربه على زراعه بقوة وهي تهمس له: انت إيه اللي عملته دا هتودينا في داهية منك لله.
ادرك خطأه فأغمض عينه بحسرة، نظر لجميع الرجال فوجدهم ينظرون إليه بملامح مُبهمة، ليُصحح لهم ببلاهة: قصدي هربانين من عيلتنا. انت عارف الحب بقا، بيصنع المعجزات.
لكن قد فات الأوان، فالجميع اكتشفوا خدعته وما عليه الآن سوي الإعتراف، أمسكه كبيرهم من ياقته ثم هزه متحدثًا بسوقية: انت مفكرني أهبل ولا عيل بريالة يلا! أومال الكلبش اللي في إيدك دا إيه! بتلعبوا عسكر وحرامية!
ابتلعا ريقهما بخوف، يبدو انه سيقوم بتسليهم للشرطة، سبَّت غزل ذلك الأبله داخلها، يبدو إنه جلاَّب للمصائب، أجلس الرجل ريان على المقعد وبجانبه غزل، ثم تحدث بحسم: تحكيلي كل حاجة دلوقتي، وانتوا مين وجايين ليه. يا إما قسمًا عظمًا اقتلكم وأرميكم للديابة وانتوا وحظكوا.
تهديده كان واضح وصريح ولا يوجد به أي نبرة مزاح، لذلك بدأ بقص كل ما حدث لهم والظلم الذي عانوه، وتلك القضية التي حُبِّكت ببراعة، انتهي مُنتظرًا ردة فعلهم، لم يجد الجواب لعدة دقائق قليلة، بل كانوا ينظرون لهم وكأنهم حقًا مُجرمين، تلك المرة دافعت غزل قائلة: احنا والله مظلومين، فكرة الهروب مكنتش في دماغنا خالص، بس ربنا سهلها من عنده عشان عارف إن احنا ضحية مؤامرة حقيرة، وهنثبت برائتنا مهما كان التمن.
حكَّ كبيرهم زقنه بتفكير، وتحولت تعابيره من المتهجمة إلى البشاشة، أوقف ريان ثم قال بإبتسامة خفيفة بيَّنت نواجزه: شكلكم صادقين، وصدق اللي قال ياما في الحبس مظاليم، أنا هسيبكم تمشوا، وفي أي وقت إحتاجتونا احنا في الخدمة، احنا هنا مطاريد الجبل، بنساعد أي حد مش انتوا بس، بس كان لازم نبينلكوا الوش الخشب عشان نعرف انتوا حكومة ولا لأ.
انهي حديثه ثم مد يده ل ريان ثم اردف بود: معاك أخوك موسى، لو عوزت أي حاجة أنا في الخدمة.
بادله ريان المصافحة، وارتسمت على ملامحه الإرتياح، متحدثًا: وأنا ريان.
صمت قليلًا ثم تشدق بمزاح: بس إيه جو ذئاب الجبل دا، لأ ممثلين شاطرين.
ضحك موسى وشاركه رجاله في ذلك، ثم تنهد وهو يقول بقلة حيلة: دا اللي لازم نعمله عشان نعرف نعيش.
كان حديثه غامض به لمحة من الحزن، راقب ريان تعابيره، ليسائل بفضول رغمًا عنه: مش فاهم. وبعدين انت إيه اللي رماك في الجبل كدا!
ربت موسى على كتفه مُنهيًا الحديث: دا كلام يطول شرحه، لو شاء القدر واتقابلنا تاني هبقي احكيلك لما تزهق.
أومأ له ريان بعدم إقتناع، ليستمع بعدها إلى صوت موسى وهو يأمر أحد رجاله: وصلهم لحد ما يخرجوا من الجبل خالص، وارجع عشان البوليس ميشمش خبر.
هز الآخر رأسه بالإيجاب، ثم اصطحب ريان و غزل معه، مر نصف ساعة وكلاهما يسيران على الرمال المتشبعة ببرودة الشتاء، وكلاهما يُفكر في حديث موسى الغامض، رغم أنه لم يمر على معرفته سوى بضعة سويعات، إلا أنه أثار حفيظتهم، رجل غامض، شجاع، وسيم، وتلك هي الحقيقة، رجل في ريعان شبابه لما يهرب من العدالة! يبدو أن خلفه سر كبير.
وصلوا إلى الطريق العام، وكان مُفرَّغ من المارة والسيارات، أشار لهم الرجل إلى الطريق المفترض السير به، ثم تحدث قائلًا بلهجته الصعيدية: إجده يبجي تومام، هتمشوا طوالي لغاية ما تلاجوا نفسيكم بجيتم وسط الخلج.
شكره ريان بإمتنان ثم ودَّعه، ليعود الرجل من حيثُ أتى، ثم سار بالطريق الخالي وبجانبه غزل رافعة الأصفاد الحديدية المُكبلة بها يديهم وهي تقول بتأفف: عايزين نشوف أي حد يفكلنا البتاع دي. خلي كل واحد فينا يروح لحاله.
نفي برأسه على حديثها وهو يقول تلقائيًا وبدون وعي: لا أحنا نصيبنا اتكتب ببعض ومينفعش نبعد.
كلمات بسيطة خرجت من فمه ولكن تأثيرها مُهلك، لربما حدث ما حدث ليجتمعوا سويًا، تلك الأصفاد هي القلوب، تتقارب وتتباعد ولكن تظل قريبة، إذا حاول أحدهم الإفلات يكون للآخر رد فعل مختلف.
ربما تتباعد الأجساد، لكن القلوب تظل متعانقة.
انظر لمَن مَلك الدنيا بأجمعها،
هل راح منها بغير القطنِ والكفنِ؟
هبط فارس لمنزل عمه الأكبر بعد تشاجره الأخير مع زهر، لم يكن يظن بأنها ستُفكر بذلك، تعلم أن ريان هو الأخ والصديق، أتطلب منه أن يتركه في محنته! لكن مهلًا فارس فهي مُحقة! لُما ذلك الرد العنيف إذًا، زفر بضيق واتجه نحو غرفة مدثر، ظنه نائمًا ففتح الباب على مهل ليشهق من المفاجأة.
ضرب فارس على صدره مُردفًا بصدمة: يا مصيبتك وشرفك اللي بقا في الأرض يا فارس.
كانت ردة فعل مناسبة لما رآه، ابنته المصونة المُبجلة تحتضن مدثر بل وتُربت على ظهره تخفيفًا لألمه! أين كان هو لينشغل عن تربيتها بحق الله!
يبدو أن الصدمة قد شلته ولم يستطيع التحدث أو الحراك، وقف يستمع إلى حديث لوجي المواسي وهي تقول بحزن: متزعلش يا مدثر، عمو ريان هيرجع تاني زي ما بابي قال.
كرر فارس الكلمة خلفها بوجه متشنج: بابي!
استطردت حديثها متشدقة بحزن لعدم تفاعل الآخر معها: مش بحب أشوفك بتعيط. وحياتي عندك ما تزعل.
رفع مدثر عيناه الباكية إلى لوچي التي تُطالعه بحزن، ثم مسح دمعاته، لتُبادر لوچي مرة ثانية بإحتضانه بلا خجل، عند تلك اللحظة صاح فارس بإنفعال: أعمل في تربية اللي خلفوكي إيه!
فزعا كليهما لتخرج لوچي من أحضان مدثر، رأت والدها يقف على أعتاب الباب الخشبي وكادت أذنيه أن تُخرجا النيران من الغضب، جعدت جبينها بغضب طفولي ثم تأففت قائلة: حد يدخل على حد بالطريقة دي! مش فيه حاجة أسمها باب يا بابي!
شمر فارس ساعديه ناظرًا لكليهما بشر حقيقي، رآه مدثر بتلك الحالة ليبتلع ريقه بتوتر ثم برر قائلًا: و. والله يا عمو فارس. ل. لوچي هي اللي حضتنتي المرة دي مش أنا.
غلت الدماء بعروقه وهو يصرخ بهم: المرة دي! ليه هو فيه مرات تانية غير دي! بتستغفلوني!
حاول ضبط أعصابه، ليُشير إلى لوچي للصعود إلى الأعلي وترك الغرفة في الحال، لتنفخ بغيظ وهي تَهب من على الفراش بغضب متجهة للخارج، لتُتمتم بغضب حاملة عروستها بين ذراعيها: يوووه. دي مبقتش عيشة بقااا.
كان فارس يُتابع خروجها بإستنكار، تلك الفتاة أتت تكفيرًا لذنوبه كما يقول دائمًا، وقحة وذو لسان سليط يحتاج لقطعه، استدار ل مدثر الذي استلقي على فراشه مرة أخري مُدعيًا النوم، لوى شفتيه بسخرية واتجه بخطواته نحوه حتى وقف أمامه، جز فارس على أسنانه بغيظ قائلًا بضجر: ريان ميربيش وأنا اللي أشيل الليلة.
استلقي بجانبه فشعر بحزنه، لا يُراوغ كالعادة، يبدو أن ذهاب والده مازال يؤثر عليه، شاكسه وهو يدفعه قليلًا مردفًا بمزاح: اتزحزح يلا شوية عاوز اتخمد.
ابتعد مدثر قليلًا بهدوء ثم أردف بنفس لكنته: اتخمد يا عمو.
سخر منه وهو يلوي شفتيه، قائلًا بفخر مزيف: ونعم التربية يا ضنايا. ونعم التربية يا غالي.
امتد بجانبه وهو يُربت على شعره القصير، ثم مال على رأسه يُقبلها بحنان خالص، رغم ما يحدث بينهم من مشاكسات إلا أنه يعتبره ك ابنه أو أكثر قليلًا، رفع مدثر عيناه الرمادية له يُحدجه بحزن ثم أردف: بابا هيرجع يا عمو!
ربت على ظهره مُجيبًا إياه بثقة: هيرجع يا حبيبي أوعدك.
بضعة كلمات صغيرة بثت الراحة في قلب الصغير، اغمض عينه براحة ثم ذهب في نومٍ عميق، وكأنه كان ينتظر مَن يُطمئنه ببضعة كلمات ليذهب في النوم، وذلك بعد لوچي بالتأكيد.
بردًا وسلامًا على فلسطين،
وشعبها، وجنودها يا الله.
منذُ أن وُلدت والفقر يُلاحقها، تلك الجميلة المخادعة، جلست على أرض غرفتها تأكل ثمرة التفاح بغيظ وحسرة، تتذكر مُحادثة عابد لها صباحًا يُخبرها بإلغاء عمل اليوم لحدوث بغض المشاكل في منزله، كم اعتاظت وقتها لكن لا بأس، الأيام كثيرة والمال سيكون أكثر.
أغمضت عينها بغضب حينما استمعت لشجار والديها الأحمقان، يعيشان فترة مراهقة متأخرة، عقولهم كالأطفال أو أقل قليلًا، وقفت في مكانها تنتوي الذهاب لغرفتها للإختلاء بذاتها بعيدًا عن تلك الحماقات، وما كادت أن تذهب حتى استمعت إلى صوت نداء والدها لها، أغمضت عيناها تحاول السيطرة على أعصابها منهم، ما تلك العائلة بحق الله! يمتلكون من الجنون ما يكفي لشعوبًا قادمة كثيرة.
حسمت وصال أمرها بالذهاب إليهم عند مناداة والدها لها للمرة الثانية، وقفت على أعتاب الغرفة لتُربع ساعديها معًا ببرود وهي تري تلك المشاحنة القائمة بين والداها، حدقت بها والدتها بغضب وهي تسألها بغيظ: وصال هنسألك سؤال وياريت تُردي بصراحة.
خير؟
نطقت بها بضجر، لتجد والدها علي يمسكها من يدها متشدقًا بحنق: مين أحسن واحد فينا، أنا ولا الولية دي!
هل كل تلك المشاجرات والأصوات العالية بسبب ذلك السؤال الأحمق! بالتأكيد هناك سببًا آخر وإلا ستقتل نفسها الآن، لتسألهم بحذر وهي توزع نظراتها عليهم: هو دا السؤال اللي بتتخانقوا عليه من إمبارح! يارب تقولوا لأ.
أومأت لها والدتها مير ت بالإيجاب وهي تتخصر محلها: آه، الراجل دا شايفني قال إيه كبرت وعجزت، يا أخي عيب على شيبتك، دا أنا لسه بنت خمستاشر سنة.
أنهت حديثها وهي تُملِس على شعرها بدلال والذي يدخل به بعض الخصلات البيضاء، لتستطرد حديثها مُتابعة وهي ترمي بحديثها له: دا أنا لولا إنك لسه عايش كان اتقدملي عرسان بعدد شعر راسي.
لوي علي شفتيه بسخرية وهو ينظر لها، ليُجيبها بخفة وهو يمصمص على شفتيه بإستنكار أصابها في مصرع: وهو فين شعرك دا! أومال لو مكنتيش قرعة كنتِ هتعملي فيا إيه!
فتحت مير ت عيناها على آخرهما بصدمة، لتقول بحدة وهي تُشيح بيدها أمام وجهه: مين دي اللي قارعة يا راجل يا خرفان انت!؟
عند هذا الحد ولم تحتمل وصال تلك الألاعيب الصبيانية، لتشد على شعرها بغيظ وهي تصرخ بقلة الحيلة: الصبر من عندك يارب، أعمل إيه فيكم، أحطكم في دار الأيتام وأخلص!
نظر كلاهما لبعضهما بصمت، ثم نظروا لها بملامح متهجمة، ليصيح بها والدها بحدة: بت احترمي نفسك، الظاهر إني اتهاونت في تربيتي ليكِ.
أيدته مير ت في حديثه ثم حدقت ب وصال بنظرات مستحقرة، لتقول: معاك حق واللهِ يا حج، بعد العمر دا كله وتربيتنا ليها هترمينا في دار الأيتام.
وكأن حديثها أثر به ليضع يده على قلبه وهو يقول بتعب وحسرة: هنترمي في دار الأيتام يا أم وصال، ومن مين! من وصال ذات نفسها!
ربتت مير ت على موضع قلبه لتقول بمواساة: متزعلش نفسك يا حج، تعالى معايا عملالك لقمة تُرم بيها عضمك.
اعتدل في وقفته وذهب المرض منه، ليقول لها بمغازلة: طول عمرك أصيلة يأم وصال. يلا بينا يا جميل.
خجلت منه لتسبل عيناها على الأرض من الحرج، استند عليها علي ليتجهوا للخارج، وقبل أن يتركوا الغرفة رموا وصال المنصدمة بنظرات مستنكرة وكأنها هي المذنبة!
تابعت خروجهم بفاهًا مفتوحًا من الصدمة، كيف وماذا حدث ذلك، منذ قليل كادا أن يقتلا بعضهما البعض، والآن هما مثل عصفورين الكناريا! وبالنهاية هي من أخطئت! حسنًا إذا قررت الذهاب من هنا للأبد فليس عليها حرج، ما كان عليها سوى الذهاب لغرفتها بدلًا من الخروج لهما، فمن الممكن أن يجعلاها إرهابية تلك المرة.
أنتَ جاهي واتجاهي يا اللّه، فَدُلّني.
الشعور بالنبذ من أكثر المشاعر ألمًا، لا تجد من تروي له حزنك سوى جدران حجرتك، مرارة الوحدة كالعلقم، ودموع الألم التي تهبط على صفحات وجهك تُشعرك بالحرقة، زهور قلبي ذابلة، ولمعة عيناي انطفئت، أصبح الفتور يغزو أحلامي، والبشر كالذئاب، تجرح ومن ثَم تضحك، وأنا ابتسم وداخلي يصرخ، متي سأجد من يُعانقني حتى أهدأ؟
سلامًا على فؤادٍ يحملُ من الألم أطنانًا، وسلامًا على ضحكة تخرج من بعد بكاءِ الأطلالِ.
مسحت سجود دمعاتها من على وجهها، لم تكن هكذا من قبل، الجميع كان يشهد لها بالمرح، ومازالت كذلك أمامهم، لكن حين تُغلق عليها غرفتها تُخرج مكنونات صدرها وتبكي، تبكي بقوة حتى يغلبها النعاس وتنام، وكم مرة تمنت أن تكون تلك هي الليلة الأخيرة لها.
حاولت سجود ضبط نفسها أكثر، لكن يزيد الوضع سوءًا حين تذكرت حديث أحمد معها اليوم، وكأن العالم لا يكفيه حُزنها، ليأتي أحمد، آخر آمالها ويخذلها هو الآخر.
Flash Back: -
كان الجميع مُنشغل بقضية غزل التي أخذت كل انتباههم، ليذهب كبار العائلة إلى المحكمة الُعليا منتظرين النُطق بالحُكم، حينها استغل أحمد الفرصة للتحدث مع سجود، توترت ملامحها بخجل خاصةً عند ملاحظتها لتلعثمه، ظنت بأنه سيعترف لها بعشقه لها كما تشعر هي تجاهه، لكن بهتت إبتسامتها حين نظر لها مُردفًا: سجود طبعًا انتِ عارفة إني بعتبرك زي أختي صح!
ابتلعت ريقها بصعوبة، وعلمت أن القادم لن يكون سوا مُبشرًا لها، لاحظ صمتها ولم يُلاحظ شحوب وجهها، فشجعه ذلك على الحديث، فإستكمل حديثه قائلًا: عشان كدا عايزة أعرف رأي تسبيح فيا، بما إنك أختها وكدا، بصراحة أنا بحبها أوي، وعندي إستعداد أبيع الدنيا كلها عشانها، وناوي أتقدملها بس عايز أعرف رأيها.
صمت مُنتظرًا حديثها، بينما هي كانت في وادٍ آخر، أحلامها الوردية كانت سراب، ومحبوبها يعشق شقيقتها، الزهور التي روتها في مُخيلتها تحولت إلى أشواك، أشواك سامة تطعن بها بلا رحمة، طال صمتها ليُعيد سؤاله بتوتر ظنًا منه برفضها: ها يا سجود هتساعديني!
ابتلعت مرارة حلقها، لتبتسم ابتسامة شبه متوترة، قائلة: ه. هساعد أكيد يا أحمد. انت برده زي أخويا، هسألها وأعرف رأيها وأقولك.
تهللت أساريره وعادت الدموية لوجهه، التمعت عيناه بسعادة، فعلمت أن الطريق للوصول إلى قلبه بات مستحيلًا، ردد كثيرًا بشكر وإمتنان: بجد شكرًا شكرًا يا سجود. أنا لو عندي أخت مش هتكون بغلاوتك عندي، بجد شكرًا.
ورغمًا عنها آلمها سعادته، لتطلب منه الذهاب قبل أن تضعف أمامه وتنهار باكية، ثم عادت إلى غرفتها أنيسة وحدتها مرة أخري.
Back: -.
أفاقت من تذكرها وهي تمسح دمعاتها، لا تعلم لِما تسلل إليها شعور الغيرة من شقيقتها، دائمًا يتم المقارنة بينها هي وشقيقتها، وبالطبع تفوز تسبيح بتلك المقارنة، هي الأفضل، هي الأجمل، هي المجتهدة، هي الرقيقة، هي الخجولة، هي الأكثر خُلقًا، هي، هي، هي، تسبيح.
وقفت من على الفراش لتقف أمام مرآتها، نظرت لبشرتها السمراء ومظهرها بحسرة، لتُتمتم ببكاء: إشمعنا هي! إشمعنا الكل بيفضلها عليا! ليه الكل بيحطني في مقارنة بيها! ليه هي أحسن مني! ليه مكونش جميلة! ليه أنا وحشة! ليه كل حاجة حلوة بتمناها بتروح مني!
قالت الأخيرة بضعف وهي تشعر بجدران الغرفة تطبق على أنفاسها، احتاجت للهواء لذلك حسمت رأيها بالصعود إلى السطح، ارتدت حجابها واتجهت للأعلي، وقفت بجانب السور وهي تنظر إلى المارة، لكن عقلها كان شاردًا بشئٍ آخر، وللمرة التي لا تعلم عددها بكت. بكت حتى تهدأ، لكنها تزداد بُكائًا.
كان الطقس عاصف، منتصف الشتاء، وبدأت بعض القطرات تسقط من السماء على وجهها، لتختلط بدموعها فيزداد بُكائها حُرقةً، رآها في ذلك الوقت معتصم الذي كان يجمع الحطب لإشعاله في هذا الجو البارد، اضطرب عند رؤيتها بهذا الشكل، سجود صديقته المخلصة والمحببة له تبكي بكل ذلك الألم! ناداها بقلق فلم تستمع إليه، ليُكرر نداءه مرة أخري بصوت عالي نسبيًا حتى يصل لمسامعها.
وصل صوته لها لتنظر بإتجاه منزلهم، فرأته يطالعها بقلق، ردد متسائلًا بفزع عند رؤيته لإنتفاخ عيناها بهذا الشكل: مالك يا سجود! بتعيطي كدا ليه!
حاولت السيطرة على بكاؤها أمامه لكنها لم تستطيع، في طفولتها كانت تبتعد عن الجميع لتجلس معه رغم تحذيرات عائلتها الكثيفة، كان مصدر دعم لها، يُعيد ثقتها المهدورة، شَهِد ضعفها وحزنها لسنوات كثيرة، لذلك لن تستطيع تخبئة حزنها عنه تلك المرة أيضًا، لكن الطقس يزداد سوءً، لذلك أجابته: بكرا هقابلك يا معتصم وهحكيلك كل حاجة.
لم يُطاوعه قلبه في الذهاب، وظهر القلق على تعابير وجهه، اغتصبت ابتسامة مُردفة: متقلقش أنا بخير.
هز رأسه بالنفي وهو يُجيبها: لا انتِ مش بخير، ومش كويسة، وبكرا هتحكيلي كل حاجة.
أومأت له بتعابير وجه مُبهمة ثم عادت أدراجها بعدما طلب منها الدخول لكثرة الأمطار: ادخلي جوا عشان متاخديش برد.
دخلت إلى غرفتها مرة أخري، وقررت التمدد على الفراش وتنعم بالنوم لنسيان همومها، تاركة الآخر يفكر بها طوال الليل بحيرة.
وعلى طهارة قلبك تُرزق فلا تُبالِ.
طوال اليوم وهم يسيران بطرق مجهولة حتى تألمت أقدامهم بشدة، جلس ريان بتعب، وجاورته غزل التي أردفت بإنهاك هي الآخري: مبقتش قادرة بجد. رجلي ورمت.
أيدها ريان بحديثها متشدقًا بقلة حيلة: انا كمان مش قادر ومش عارف هنروح في، لقيتها.
فزعت من صراخه، لتقول بغضب: يابني انت اهبل ولا عندك خال أهبل، إيه دي اللي لقيتها.
تغاضي عن الجزء الأول بالحديث، ليُجيبها بسعادة: عرفت هنبات فين. قومي تعالي.
امتثلت لحديثه، وطيلة الطريق يخبرها عن هذا الشخص، قاربوا من الوصول حتى وصلا إلى أسفل منزله، دلفا للداخل، ليقف ريان بالمقدمة ومن خلفه غزل التي تتسائل بقلق: متأكد هيرضى يخلينا عنده.
أجابها ريان بثقة وهو يقوم بالضغط على جرس المنزل: بقولك بيموت فيا، بيحبني حب ولا كأني ابنه. و.
وما كاد أن يُكمل حديثه حتى انفتح الباب وظهر من خلفه شاكر الذي حدج ريان بإستنكار، ليردف ريان بترحيب: شاكر بي...
لينغلق الباب بوجه كليهما مرة أخري، نظر ريان ل غزل وهو يقول ببلاهة: شوفتي الفرحة عملت في إيه! مش قولتلك بيعشقني!
كادت أن تُجيبه ولكنهم استمعوا إلى صافرة الشرطة، تصنمت أجسادهم وسرت البرودة بأجسادهم، فالبتأكيد تلك هي نهايتهم،!
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السابع
الخطر بات قريبًا ومستقبلهم على المحك، صافرة الشرطة تستمر في الإرتفاع، زاد الخوف بقلوبهم، وارتفعت نسبة الإدرنالين بأجسادهم عند سماعهم لصوت خطوات كثيرة تصعد على سُلَم العمارة الواقفون بها، ما كادوا أن يصعدوا للأعلي حتى وجدوا باب شقة شاكر يُفتح لهم، ويده تجذبهم للداخل.
أغلق شاكر الباب مُسرعًا ثم التفت ينظر لوجوههم بضجر، مر بضعة ثوانِ حتى أستوعبا الآخران ما حدث، ظنوا بأنهم سيلقوا حتفهم لا محالة، ابتسم ريان بسذاجة وهَم عليه يحتضنه بفرحة، مُرددًا بما جعل الآخر يستشيط غضبًا: كنت عارف إنك هتفتكر أفضالي عليك يوم ما دخلت المستشفى.
حاول شاكر إبعاده بشتى الطرق لكنه كان كاللصق يُشدد أكثر من احتضانه، لذلك صرخ وهو يدفعه بعيدًا: يا أخي ابعد بقا. دا انا قرفت من حياتي بسببك. وبعدين مستشفي إيه دي وأفضال إيه ياخويا، دا أنا كنت هروح فيها بسببك.
تجعدت تعابير ريان بضيق، ثم نظر ل غزل التي تُتابع الموقف بضحكة مكبوتة، فهذا الريان مُسلي بحق، مصمص على شفتيه العجائز وهي يلوح بيده: مسم. شايفة ياختي الراجل! على طول ناكر خيري كدهوت.
وما كاد أن يقول كلمةً أخري حتى استمعوا إلى صوت طرقات عالية على الباب، نظروا لبعضهم بخوف لثوانٍ، حتى لطم ريان على وجهه قافزًا محله، وهو يقول بفزع: هنتحبس. هنتحبس.
توتر شاكر من الوضع، نظر حوله بسرعة ثم دفعهم قائلًا ببلاهة غير مقصودة: استخبوا ورا النجفة. ورا النجفة.
نظرا للأعلي بحماقة حيث يقول، ليدفعهم شاكر لداخل الغرفة المنزوية بالمنزل، خرج ووقف على أعتاب باب شقته وهو يأخذ نفسًا عميقًا، ثم فتح الباب بروية، ليري الضباط متكدسين أمامه، تحدث بهدوء يُنافي التوتر الذي داخله: خير يا حضرة الظابط!؟
نظر الضابط لزوايا الشقة ثم تحدث وهو ينظر تجاه شاكر: حد من الجيران بلَّغ بإنه شاف حرامي بيطلع على مواسير الماية، ف احنا بنفتش الشُقق لعل وعسي يكون مستخبي في واحدة فيهم.
هزَّ شاكر رأسه بالنفي، مُردفًا بهدوء: مفيش حد دخل هنا يا فندم. وأكيد لو شوفته هبلغ حضرتك.
لباقته بالحديث جعل الضابط يُحدِثه بإحترام، ليقول بعدها بذات نبرته اللبقة: تسمحلي حضرتك توريني المطبخ.
أفسح له شاكر الطريق، ليأمر الضابط العسكري بصوت آجش: روح يا عسكري شوف إتجاه مواسير الميا بتودي على فين.
أدي العسكري التحية ثم ذهب لإنجاز عمله المُكلف به، بينما تحدث الضابط بأعتذار: دي إجراءات روتينة وهتنتهي بسرعة.
ولا يهمك يا فندم، أنا تحت أمركم.
بينما ريان و غزل كانا يُتابعاه من فتحة الباب الصغيرة، لتتحدث غزل بإعجاب وصوت هامس: عمك دا معلم وعهد الله.
اعتدل ريان في وقفته ثم عَّل ياقة قميصه الوهمية، متشدقًا بغرور: وأنا طالعله طبعًا، دا أنا مفيش في أخلاقي.
رفعت غزل حاجبيها بسخرية وهي تقول بإستنكار: أوماااال، انت هتقولي!
بالخارج، خرج العسكري من المطبخ، ليقول بإحترام: المواسير بتتجه للشقة اللي جنب الأستاذ يا فندم.
هز رأسه بتفكير ثم أمر الضباط بالذهاب، قبل أن يستأذن من شاكر بلباقة، زفر بإرتياح عند ذهابهم جالسًا على مقعده بإرياحية يُفكر في أمر قضية ريان، خرج ريان من الغرفة هو و غزل مُطلقًا صفيرًا عالي، وهو يُردف بإعجاب: عمهم وعم الناس والله، إيه يا جدع الحلاوة دي! دا أنا صدقتك.
علي الله يطمر فيك.
قالها بحنق ثم أشار للسلاسل الحديدية مُردفًا: هتفضلوا متكتفين كدا! شوفوا أي حاجة تفكوها بيها!
معه كل الحق، فتلك السلاسل حتى ولو كانوا هاربين تُصيبهم بالخوف، وضعت غزل يدها على رأسها بتفكير، لتجد شئ بارز أسفل حجابها، توسعت عيناها، لتصرخ بتذكر: لقيتها.
فزع ريان المُلاصق لها من صوت صُراخها، ليضع يده على أُذناه بألم، لم تلتفت له، بل وضعت يدها أسفل حجابها، ثم خلعت طوقها الحديدي (بنسة)، رافعة إياه أمام أعينهم، مُردفة بثقة: هو دا الحل.
نظر كليهما لها بجهل، فوفرت عليهم التفكير الزائد، لذلك قامت بالبدأ بإدخال مشبك شعرها داخل الفتحة الصغيرة الموجودة بالأصفاد، فشلت تجربتها عدة مرات، حتى زفرت بضيق وقررت المحاولة للمرة الأخيرة، ليقول ريان بسخرية لاذعة: بقي حتة الحديدة دي هي اللي هتفك الكلبشات! مكنش ح...
وما كاد أن يُكمل حديثه حتى انفتحت العقدة، ليصرخ بعدم تصديق: زعيم والله العظيم! عملتيها إزاي دي!
رفعت رأسها بعنهجية، مُردفة بغرور: ما يجيبها إلا ستاتها، أنا برضه محامية شاطرة وعارفة كل حاجة عن المجال.
لوي ريان شفتيه بضجر من غرورها، ثم قال بثقة هو الآخر: ما انا كمان مهندس كمبيوتر أد الدنيا، وليا اسمي وخبرتي في مجالي، حتى شاكر بيه يشهد بكدا.
أنهي حديثه وهو ينظر بإتجاه شاكر منتظرًا منه أن يُؤكد حديثه، نظر شاكر له بإشمئزاز، ثم دخل إلى غرفته قبل أن يُجيبه.
حمحم ريان بحرج ثم نظر تجاه غزل التي تكتم ضحكتها بصعوبة، فقال مبررًا لما حدث متحدثًا ببلاهة: لم تسعه المعاني والكلمات للتعبير عن رأيه، أكيد يعني دا السبب هه.
هزت رأسها وهي تضحك بخفة، ثم قالت ممازحة: بيعاملك زي ضرته مش عارفة ليه.
ادعي التأثر ثم أنزل رأسه متصنعًا الحزن، متشدقًا بدرامية: اكمني يتيم، لا ليا حبيب ولا قريب ولا حد ياخد باله مني.
ورغم أن كلماته مُمازحة تأثرت بكلمته الأولي، يتيم! هي تعلم بأن ريان الطحاوي لا ينتمي لعائلة النويهي، بل انضم لهم منذ سنوات قليلة للغاية، جلست على الأريكة، فجلس بجانبها مع الحفاظ على مسافة كبيرة بينهم، غلبها فضولها لذلك تسائلت بحرج: متزعلش من تدخلي، بس انت إيه علاقتك بعيلة النويهي.!
تفهم حرجها وتوترها، لذلك ابتسم بود ثم تحدث بطريقة عذبة وهو يتذكر ماضيه: ولا أي حاجة. غير إن شاكر بيه كان صاحب أبويا الله يرحمه، بعد ما الدنيا استلمتني وخدت مني كل الناس اللي بحبهم، بقيت لوحدي، فإقترح عليا إني أعيش عندهم في البيت اللي في الحارة، ساعتها أنا رفضت لكن مع إلحاحه وافقت، ودا كان أحسن قرار خدته بعد موت أهلي ومراتي، عاملوني زي ابنهم بالظبط، مفيش فرق في المعاملة نهائي، ابني اعتبروه ابنهم، و فارس بقا أخويا مش صاحبي، أخويا اللي مهما عملت موفيش حاجة من اللي عملها معايا.
أنهي حديثه وهو يبتسم بوداعة لتلك العائلة التي نشأ بها في أخر سنواته أدمعت عيناه بتأثر عند تذكره لعائلته المفقودة، رغم كِبره إلا أنه رجل بمشاعر طفولية، رجل لم تلوثه قساوة العالم، رجل يجمع حنان العالم بقلبه، أكمل وهو يقول بحشرجة أدت إلى بكاؤها: رغم أني كان عندي عشرين سنة لما أبويا وأمي ماتوا، بس أنا مشبعتش من حنانهم، مشبعتش من دعواتهم، محتاج لوجودهم معايا، بإختصار الأب والأم مش بيتعوضوا طول حياتنا.
أيوجد حنانٌ كهذا! رجلٌ تخطي عمره الثلاثون مازال يَحِنُ لأبواه المتوفيان، بل ويتحدث عنهم بكل تلك المشاعر وكأنهم ماتوا بالأمس! تلك الدمعات التي زينت عيناه اللامعة زادته تأثرًا، تحدث بأسف وهي تمسح دمعاتها التي خانوها: أنا أسفة إني فكرتك بيهم.
هز رأسه بالنفي ضاحكًا بخفة: لا بالعكس متتأسفيش. أنا منستهمش أصلًا عشان أفتكرهم، وبصراحة أنا بحب أتكلم عنهم أوي، كأني بستني الفرصة دي عشان أقول إنهم أعظم إنجازات في حياتي.
مشاعره الطاغية طُبعت في قلبها، لذلك اردفت بتلقائية وبدون وعي: انت راجل عظيم أوي.
عارف.
قالها بغمزة وهو يقف مكانه مستعدًا للدخول إلى الغرفة ليرتاح قليلًا، بينما هي خجلت موبخة نفسها بشدة على ما تفوهت به، عادةً يجذب الرجل الحنون الفتاة، وهو جذبها بأخلاقه، ودت حقًا لو ترفع له القبعة لإخلاصه.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن
التراكمات ثقيلة كالجبال، والألم يتزايد ك زخات المطر، أمطارٌ عاصفة مُحملة بالرياح تعصف بالفؤاد، وضرباتٌ تضربُ به حتى يُعلن الإستسلام، نيرانٌ تنبش بالداخل يَصعب إطفاؤها ولا يشعر بها أحد، وما كان على بنو البشر إلا أن يُزيدوا من حجم الضرر.
مُنذُ الأمس وهي لم تنسي حديثه، عقلها لم يتهاون في التخفيف عنها، سجود ضحية الإهمال مازالت تبكي من ليلة البارحة، تنعي حظها العثر الذي أخجلها كثيرٌ من المرات، لم ينصفها ولو لمرة، فجميع تجاربها كانت تبوء بالفشل، تذكرت منذ قليل مهاتفة معتصم لها يطلب منها مقابلته، وهي الآن ليس لديها القدرة للمواجهة، لكن بنفس الوقت تحتاج لصديقها ليُخفف عنها آلامها ولو قليلًا.
تجهزت بروحٌ نازفة، وقلبٌ مُرهق قبل جسدها، مسحت دموعها بقليل من المياه، ثم خرجت من غرفتها لتجد عائلتها تجلس بالصالون، وكعادتها رسمت ابتسامة مرحة على وجهها، ثم جلست بجانب والدها الذي قبلت وجنته مردفة بمرح: بابايا القلب والروح يا عسل.
رفع طه حاجبه بسخرية، ثم تحدث قائلًا: عايزة إيه يا قردة! ما هو كلامك دا مش بيطلع غير لو عايزة حاجة.
حمحت بحرج وهي ترسم ملامح البراءة على وجهها: بصراحة كدا يا حُجيجة أنا عايزة أروح عند واحدة صحبتي شوية.
خلع نظارته الطبية التي كان يرتديها ثم وضعها على الطاولة أمامه، استدار لها وهو يرمقها بتفحص: صحبتك مين دي يا جوجو.
ااا. واحدة متعرفة عليها في الجامعة يا بابا، وعرفت إنها تعبانة حبتين فعايزة ازورها.
صغيرته فاشلة في الكذب، منذ الصغر وهو كان يُدللها فكانت أقرب أولاده إليه، هناك سر كبير تُخبئه، لكنه لم يريد الإلحاح عليها، لذلك سمح لها بالذهاب وهو يقول: ماشي يا حبيبتي، روحي بس نص ساعة بالكتير وتكوني هنا.
تهللت أساريرها لموافقته، وقبل أن تذهب أمسك بكفها ثم أنزل رأسها لمستواه ممرًا يداه على أسفل عينيها: وابقي خبي أثار دموعك كويس عشان مش تبان هاا!
اعتدلت في وقفتها مرة أخري، فأصابها الإرتباك لا تعلم كيف اكتشف بكاؤها، وجدته يقف أمامها ثم نطق بغموض وملامح مُبهمة: متفكريش إني علشان سايبك براحتك يبقي معرفش بنتي فيها إيه أو بتعيط ولا لأ، انتِ قبل ما تكوني بنتي ف انتي حتة مني وجزء من روحي.
ثانية أخري وستنهار أمامه باكية، لكنها لن تستطيع إخباره بما يجيش به صدرها، لا يمكنها إخباره بأنها تُحب ابن عمها، لا تستطيع حقًا، لذلك تهربت منه ومن حديثه مُردفة بسرعة قبل أن تذهب من أمامه: ع. عن إذنك يا بابا، عشان متأخرش.
بعد ذهابها أو هروبها بالمعني الأصح تنهد بضيق وهو يجلس محله مجددًا، نظرت له أميرة بأسى مُردفة بقلة حيلة: قلبي مش مطاوعني يا طه باللي بتقوله دا، إزاي أشوف بنتي كدا ولا أخدها في حضني ولا أطبطب عليها!
الأمر صعب عليه هو الآخر، أغمض عيناه المنهكة بتعب ثم فتحها مرة أخري لينظر لها بحنان وهو يربت على يدها: متقلقيش يأم العيال، سجود مش صغيرة ولا عيلة علشان متعتمدش على نفسها، هي مفكرة إنها لما تكتم جواها يبقي دا صح، سجود عايزة اللي يوجهها، عايزة الحنية، عايزة اللي يرجعلها ثقتها بنفسها ودا اللي فشلنا فيه للأسف.
تشدقت أميرة بيأس ولا تعلم ما يجب عليها فعله مع ابنتها: دي زي القمر. مش عارفة مش واثقة من نفسها ليه بس!
ربت على يدها بحنان للتخفيف عنها، ثم أردف متمنيًا: ربنا يكتب اللي فيه الخير يا أميرة.
اللهم انّك عفوٌ تحبُ العفوُ فَأعفُ عنَا.
لم يَكن بالمنزل إلا غرفتين فقط، واحدة خاصة ب شاكر، والأخري كانت لكليهما، لم يوجد بالصالون أي من الأرائك سوى مقاعد صغيرة لا تتناسب مع أجسادهم الكبيرة، فنامت غزل على الفراش، وتبرع ريان ونام على الأريكة الموجودة بالغرفة.
استيقظ ريان بعد ليلة لم ينعم فيها بالنوم المستقر، نظر حوله بإنزعاج ولحالة نومه المشعثة، لاحظ غزل التي تتقلب على الفراش بأريحة ومن فوقها الغطاء، ليلوي شفتيه بإمتعاض وهو يُردد: ناس هايصة وناس لايصة. اتمطعي يا بنت المحظوظة.
لمح بطرف عينه بعض الأوراق وبجانبهم بعض الأقلام، أمسك تلك الأوراق وإحدي الأقلام ثم بدأ بتدوين بعض الكلمات التي يختنق بها صدره، لطالما كانت الكتابة هي المصدر الوحيد للتنفيس عن ضيقه، لذلك تعلم اللغة العربية بطلاقة ليستخدم الكلمات العميقة المناسبة لحالته.
بعد بضعة دقائق فتحت غزل عيناها ببطئ، تحسست غطاء شعرها لتجده ثابت كما نامت به، فإستندت على ذراعيها للإعتدال، مسحت بأطراف أصابعها عيناها بنعاس لتجد ريان منهمك في الكتابة بتركيز، قطبت جبينها ثم تساءلت بفضول: صباح الخير. بتكتب إيه!
ترك ما بيده ثم وضها على الطاولة مجيبًا إياها بإبتسامة: ولا حاجة، بس أنا بحب أكتب اللي حاسس بيه مش أكتر.
صمت ولم تجد ما تقوله، فبالتأكيد جميع كلماته حزينة مثل حياته، خرج هو من الغرفة قاصدًا المرحاض تاركًا إياها تشعر بالفضول حول تلك الكلمات التي كتبها، وقفت على بُعد مسافة مناسبة من الطاولة التي تحتوي على الأوراق، قضمت أظافرها بتوتر وهي تُحدث نفسها: عيب يا غزل مينفعش اللي بتفكري فيه دا، مهما كان دي خصوصيته وأنا مينفعش أقرب منها أبدًا.
بعد ثواني قليلة كانت تمسك الأوراق بين يديها وتبدأ في قرائتها.
ورغم أنها مجرد أوراق لم يعرف ماهيتها بدأ حديثه بقوله: عزيزتي مذكرتي.
(لا أعلم ما الذي يجري ولكني أجري وراه، فالدنيا ماشية بضهرها وحطت عليا، كل الظروف كانت مُتاحة أمامي لأشرب حشيش، لكن أخلاقي وتربيتي الفاضلة منعتني من ذلك، أنا معروفٌ دائمًا بأنني شاب ذو أسلوبٌ رقيقٌ للغاية، وللأسف رقتي كانت سبب عنائي، وجدت صعوبة في تربية ابني البريئ مدثر، لكن بفضل الله قمت بتربيته أفضل تربية والجميع يشهد بأخلاقه، أتمني أن أجد حياة سعيدة بعد كل ذلك.
المُرسل: رقتي سبب عنائي ريان ).
هل قُلت من قبل بأنه تعلم اللغة العربية ليكتب ما يجيش به صدره! حسنًا أعتذر، فاللغة العربية تنعي حظها بسبب ذلك الريان، لقد تفنن في تعذيبها بكلماته تلك، وعن أي مشاعر يتحدث هو واللعنة!
تشنج وجه غزل بينما كانت كلماته، ظنت بأنها ستري تأثير الليلة الحزينة الماضية في خطابه، فلم تجد سوي ذلك المرض، تمتمت بسخط وهي ترمي بالوريقات على الطاولة مجددًا: قال بكتب اللي حاسس بيه قال، يا أخي ياريتك ما حسيت.
قالت كلماتها ثم خرجت من الغرفة لتجلس على الاريكة الصغيرة الموجودة أمام التلفاز مُنتظرة ريان لتدلف للمرحاض بعده، أمسكت بجهاز التحكم تُقلب بين القنوات بملل، حتى فتحت عيناها فزع وارتفعت نسبة الإدرنالين بجسدها، لتهب من مكانها صارخة بعلو صوتها: يلهوي.
{ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }.
الحياة ليست عادلة معه بالمرة، فكل مرة يجلس ويذاكر بها يتمني لو كان ابنًا لعميد الجامعة التي يدرس بها حتى يضمن نجاحه بكل سهولة، جلس شهاب مرغمًا على مكتبه الخاص، وأمامه العديد والعديد من الكتب، اضطر أسفًا للمذاكرة علَّ وعسى أن ينجح في تلك المادة ويرأف به معلم المادة لقتله للفأر المسكين، قضم أظافره بتوتر، فتلك هي السنة الأخير له بالجامعة، ولو رسب بتلك المادة سيضطر للإنتظار عامًا آخر.
نعى حظه ونعى تلك الجامعة وهؤلاء الأطباء، ليرمي كُتبه جميعها أرضًا وهو يكاد يبكي، دخلت عليه والدته مروة لتجده بهذا المظهر المثير للشفقة، أو للضحك أيهما أقرب، هي الأكثر علمًا بأن ولدها لم يكن يريد دخول تلك الكُلية لصعوبتها، لكن والده أجبره على ذلك قِصرًا.
جلست بجانبه تكتم ضحكتها، لتربت على ذراعه مُدعية الحزن وفضولها يقتلها لمعرفة ما وراء عصبيته المفرطة: مالك يا حبيبي! احكيلي يمكن ترتاح.
زفر شهاب بضيق وهو يُجيبها بإختصار: مفيش يا ماما، ضغط مذاكرة بس.
ألحت مروة في سؤالها لمعرفة ما به، لذلك تحدثت بعتاب: احكيلي يا واد دا أنا أمك، لو مكنتش هتحكيلي هتحكي لمين يعني! احكي يابني سرك في بير.
وخلف إلحاحها استسلم ليبدأ بإخبارها بكل ما حدث في المعمل وموت الفأر بسبب خوفه الشديد منه، وتهديد الطبيب برسوب كل من يموت منه الفار، ومجرد ما إن انتهي من سرد جميع التفاصيل حتى لطمت والدته على صدرها بصدمة: يا مصيبتي! يا مصيبتي. يا مصيبتي. يا مصيبتي.
فزع شهاب من صراخها، وازداد خوفه عند تخيله لمعرفة والده بالأمر، حاول كتم ثغرها لكنها كانت تستمر بالصراخ، حتى نجح أخيرًا في إغلاقه مُردفًا بإرتعاب: ايه بس يا ماما دا! هو دا اللي سرك في بير يابني!
لم يظهر من وجهها إلا عيناها المنفتحتان بصدمة على آخرهما بشكل مُخيف، وعندما لاحظ الأمر وشاهد مظهر عيناها، ابتعد عنها بفزع وهو يُردد بخوف: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، انتي اتلبستي ياما ولا إيه!
تحدثت مروة بهمس وهي تُحدجه بنظرات غريبة أخافته: انت بتقول إيه يا ولااا! هتعيد السنة وتشمت أم عماد فيا! والولية البومة أم عابد هتشمتها فيا! هتحط راسنا في الوحل قصاد عيلة أبو زيد يا ولاااا!
هرع إليها ممسكًا يدها بتوسل: ماما بالله عليكي ما تقولي لحد، أبويا لو عرف هيمرجحني.
ابتلعت ريقها وعادت إلى حالتها الطبيعية وهي تُربت على ذراعه: عيب عليك دا أنا أمك، ومستحيل سرك يطلع لحد أبدًا، سلام بقا أروح أجهز الغدا.
ذهبت وتركته يوبخ نفسه على إخبارها بسره، لكنها والدته وبالتأكيد ستحفظ سره ولن تُخبر به أحد مهما حدث.
وإدمَان الغناء يثقل القرآن على القلب
ويُكرهه إلى سماعِه.!
طوال الليل وهو لم ينام بهدوء، كلماتها تصدح في أذنه، وعتابها يؤرقه، وعندما حلَّ النهار صعد فارس إلى شقته بعدما اطمئن على نوم مدثر لرؤيته زوجته الحبيبة زهر، ظل يفكر في حديثها، فإستنتج أن غضبها ما كان سوى خوفًا عليه، هي معها كل الحق لذلك سيُبادر بالإعتذار، فتح الباب بهدوء، ليسمع صوت همهمات خافتة تأتي من غرفتهم الخاصة.
يبدو أنها تبكي أو ما شابه، كان باب الغرفة مواربًا فكاد أن يفتحه حتى استمع إلى حديثها الصادم مع إحدي صديقاتها، تصنم في مكانه عندما سمع صوت بكاؤها المكتوم وهي تقول: ما انتي عارفة يا ني ين إن جوازي منه كان غصب، وكنت ندمانة على الجوازة دي ووجوده جنبي، جاية دلوقتي وتلوميني!
أُصيبت أطرافه بالبرودة حتى سرت إلى عروق قلبه، قل تنفسه حتى ظن أنه سيصيبه نوبة قلبية الآن، حاول أخذ أنفاسه لكنه لم يستطيع، لذلك فضَّل الخروج من المنزل ويهبط للأسفل مجددًا.
بينما بالداخل هي كانت مازالت تبكي، مسحت دموعها ببطئ وهي تتذكر معاملته الحنونة معه وبسمة صغيرة تشكلت على ثغرها وهي تبدأ بالحديث عنه: بتلوميني إزاي إني حبيته يا ني ين! فارس يتحب من غير أي حاجة، بقى جزء من روحي، بُعده عني بيقتلني وزعله مني مخليني تايهة، مش عارفة أعمل إيه!
وعلي الجانب الآخر كانت ني ين تغلي من الحقد، فكل شئ بحياة الأخري مثالي ويسير على ما يُرام، عكس حياتها هي مع معتصم، ف ني ين هي خطيبة معتصم وحبيبته أثناء نُضجه، علاقتهما مضطربة وهي قد تعرفت عليه عن طريق صديقتها زهر، حاولت بشتى الطرق أن تُفرق بينهم عن طرق بَث السُم في أذن زهر لكن مُحاولاتها كانت تبوء بالفشل.
بعد فشلها في تلك المحاولة مرة أخري، تحولت نبرة صوتها إلى البرود وهي تقول بلامبالاة: خلاص يا زهر، هجيلك بكرا ونفكر سوا.
مسحت زهر دموعها مُردفة بتيهة: ماشي يا ني ين، سلام.
تركت الهاتف من يدها، وباليد الأخري استندت على الفراش لتحاول الوقوف، لكن صداع الرأس الذي داهمها لم يُسعفها في ذلك، فإستندت على الفراش من خلفها وعقلها يفكر ويدور في مسارات مغلقة، إلى أن نامت من الإنهاك.
إن رأيتَ هذا فادعُ لي
أحتاجُ دعواتٍ لا أعرفُ مِن أين أو مَن هو صاحِبُها.
المرء يحتاج لمن يسمعه، لمن يداويه، لمن يُربت على جُرح قلبه حتى يُشفي، عادةً ما تكون الوحدة جزء من الحلول للبُعد عن الجميع، لكن أضرارها مُدمرة، لم تجد من يسمعها منذ الصغر إلا هو، معتصم النويهي صديقها المُخلص والحنون بالوقت ذاته، الصديق الأصدق والأوفى، والأرق!
ذهبت إلى مكانهم المعتاد، صخرة كبيرة تُغطي وجودهم وأمامهم منظرًا خلابًا، وجدته يستند على الصخر وشارد للأمد البعيد، وسيم كالعادة، اقتربت منه حتى انتبه لوجودها، فقابلها ببسمة حنونة كالمُعتاد منه، وتلقائيًا ابتسمت له حتى وصلت جانبه.
خرج من فمها تنهيدة عميقة ثم استندت على الصخرة بجانبه بهدوء، لم تنبث ولو ببنت شفة، يخلو المكان من كل شئ إلا صوت تنفسها المضطرب، لم يجد منها إستجابة أو حتى كلمة واحدة لذلك بادر بالحديث بكلمات بسيطة لكن تحمل في طياتها السؤال عن ما بها: أخبارك إيه يا جوجو!
أجابت بجملة واحدة وتحشرج صوتها بألم وهي تقول بسخرية مريرة: أحمد بيحب تسبيح أختي.
لم يُنكر صدمته فهي كانت تُخبره بكل شئ عنها، وللحقيقة هو لا يُطيق وجود أحمد بجانبها، يراه شخص مُراوغ غير آمين، ورغم إنه أخبرها بإحساسه له، نفت هي وظلت على حبها الخفي له، لم يجد ما يقوله إلا أن يحثها على الحديث مُردفًا بإشفاق: وبعدين!
تائهة هي لا تعلم بما تبدأ أو كيف تتحدث، تابعت مُردفة بإرهاق يتخللها: قالي إنه عايز يعرف رأيها فيه، عايزني أنا أروح لأختي وأسألها لو هي موافقة تتجوزه ولا لأ، غصب عني خلاني أغير منها رغم إنها ملهاش ذنب، بس ذنبها الوحيد إنها أحلي مني.
صمت لثوانٍ ثم تابعت بضحكة تحمل مقدارًا كبيرًا من الألم: وأنا كنت هستناه يبصلي على إيه، أنا مفيش فيا حاجة حلو، لا شكل ولا جمال ولا منظر ولا أي حاجة، كنت مستنية إيه عايزة أعرف!
كل مرة تبدأ بنبذ نفسها كان ينهرها بشدة، لكن تلك المرة تختلف، وقف قبالتها وهو يتحدث بصوت حنون: انتِ مش وحشة. انتِ مميرة، ومش أي حد هيلاحظ التمييز دا غير اللي بيحبك بجد.
رفعت عيناها الدامعتين تجاهه، فأصبحت كاللوحة الفنية بالنسبة له، غابة خضراء مُحاطة بالأشجار تُزينها قطرات الندي لتُعطي لها مظهرًا خاص، ليهمس بدون وعي وهو يقترب منها قليلًا: عيونك بتقتلني بجمالها، وأنا بحبها، وبحبك،!
سرت القشعريرة بجسدها من حديثه المُربك والذي يتحدث به ولأول مرة، بينما صحح حديثه مسرعًا بعد حالة الخدر التي تلبسته قائلًا بتلعثم: ق. بحبك عشان انتي أقرب واحدة ليا وصحبتي.
ابتلعت ريقها وهي تُحاول لم شتاتها ثم غيرت موضع الحديث وهي تتسائل: عملت إيه مع ني ين! كل حاجة كويسة دلوقتي!
ذكرته بسبب شقائه لذلك لوي شفتيه بضجر وهو ينفخ بغيظ شبيه بالأطفال: بصراحة بقا يا جوجي أنا زهقت منها. بومة كدا وسُهنة مش زي ما هي مبينة، وبصراحة كدا بفكر أسيبها.
ضحكت على حديثه ثم قلدته وهي تُذكره بأول مرة يعترف بُحبها: بحبها يا جوجي، بموت فيها يا جوجي. هي اللي هتعوضني يا جوجي. ودلوقتي بتقول عليها بومة!
قهقه على حديثها وشاركته في الضحك، ليسرقا من الوقت ما يُسعدهم، راميين الأحزان جانبًا، وينتهزوا الفرصة للسعادة.
وما الصديقُ للصديق إلا روحٌ يتكئُ عليها، وما هو إلا بعضدٍ يشتدُ به الآخر.
صداقتهم كانت من نوعٍ آخر، علاقة تُثير الفضول، مواجهة ليظلوا معًا لسنواتٍ من العمر، ظلوا يتحدثوا ويتحدثوا كثيرًا حتى مر بهم الوقت، ذلك المكان الذي جمعهم للمرة الأولي، وتلك المرة لم تكن سوي البداية، بداية صداقة. أخوة. أو ربما قصة جديدة ومن نوعٍ آخر.
صلَّى عَلَيهِ اللَّهُ فِي عَليَائِهِ
فعَلَيهِ صَلُّوا يا كِرَامُ وأكثِرُوا.
كان ريان يتحمم ويُدندن مع نفسه بالمرحاض، من يسمعه يُصيبه الشك بأن هذا محكوم عليه بخمسة عشر عامًا وهارب من العدالة.
خرج من المرحاض ويلف حول جسده منشفة كبيرة، ظل يرقص ويدندن ببعض الأغاني ويميل على غنائه: أنا مش مبيناله أنا نوياله على إيه. ساكتة ومستحلفاله و...
أبله هذا أم ماذا! يرقص كأفضل الراقصات وهو واقع بمشاكل ليس لها نهاية! وقف محله ثانية ليُفكر في كلمات الأغنية التي نساها، ليتذكرها ويبدأ بالغناء مجددًا، أمال خصره يمينًا ويسارًا ثم يدور به كاملًا وهو يضع إصبع السبابة على أنفه.
وبعد ربع ساعة تقريبًا حمحم بجدية رافعًا رأسه بعنهجية، ثم ذهب تجاه خزانة الملابس الخاصة ب شاكر، لكن جميعها كانت قصيرة عليه وذلك بسبب طول قامته، جاءته فكرة أنارت بعقله ثم بدأ بتنفيذها والإبتسامة الحمقاء تُزين ثغره.
أما بالخارج.
رأت غزل على القنوات الفضائية بينما كانت تُقلِب بملل في التلفاز صورتها هي و ريان، والمذيع يقوم بتشييع الخبر الصادم وهو يقول بعملية: إرهابيين قاموا بالهروب من قوات الشرطة عند تنفيذ الحُكم عليهم وذلك بالمعاونة مع العصابات الإرهابية التي ساعدت في ذلك، وقد أعلنت الحكومة مبلغ مالي ضخم مُقابل رحلة البحث عنهم وتسليمهم للعدالة مجددًا.
لطمت على وجهها وهي تُصيح بأعلي صوتها: يالهوي، يا فضيحتي. انت يا معرفة الهبابة. يا ريان!
فزع من صراخها ليخرج مُهرولًا لها دون أن يُعير ما يرتديه أي إهتمام، ليقول بفزع: مين مات! مالك بتصوتي كدا ليه؟
أشارت للتلفاز وهي تُجيبه بهلع: احنا اللي هنموت ياخويا. احنا اللي هنموت يا عنيا. بص وشوف بعنيك.
نظر للتلفاز وبدأ بقراءة ما هو مُدون بشريط الأخبار، ثانية. ثانيتان حتى تشكل على ثغره ابتسامة سعيدة وهو يقول بفرحة عارمة: أنا طلعت في التليفزيون! أنا طلعت في التليفزيون. زمان ابني فخور بيا دلوقتي. ألف حمد وشكر ليك يارب. ألف حمد وشكر ليك يارب. صدق اللي قال ربنا بيعوض.
أمسكت موضع قلبها وهي تكاد أن تُصاب بذبحة صدرية، ماذا فعلت في حياتها حتى تُبتلى بشخص به هذا الكم من الغباء!
وعلى باب الشقة بالخارج. كان شاكر يُحادث مديره للإتفاق على الحفلة المُقامة الليلة إحتفالًا بالإنجازات الضخمة للشركة، أردف بإحترام قبل أن يُغلق الهاتف: تمام يا فندم مش هتأخر، سبعة بالكتير وهتلاقيني قدام حضرتك، مع السلامة.
أغلق الهاتف وما كاد أن يضع المفتاح بالباب حتى رن الهاتف مجددًا ليُجيب بعجالة: ألو.
ايوا يا شاكر بيه. البدلة اللي حضرتك طلبتها بعتهالك النهاردة للبيت وفيه واحدة ست استلمتها مني.
وأول من جاء بعقله هي غزل، فهي الفتاة الوحيدة الموجودة بالمنزل، لذلك شكره بسرعة واعدًا إياه بإرسال له إكرامية زائدة في المرة المُقبلة، دخل لشقته بهدوء، فلاحظ المُشاحنة التي بينهم، ليقول بتعجب: مالكم واقفين كدا لي...
لم يكد يُكمل جملته حتى انتبه للملابس التي يرتديها ريان، أشار تجاهه وهو يتحدث بصدمة: مش دي البدلة اللي المكوجي جابها من شوية.
اتسعت ابتسامة ريان أكثر وهو يلتف مُتباهيًا بها، مردفًا بكبرياء: إيه رأيك تحفة عليا صح! لقيتها قصيرة عليا فعملت البنطلون برمودا وقصيت القميص خليته نص كُم عشان الكاجول وكدا.
وبالمقابل صرخ به شاكر وكاد أن يُجَن فعليًا، فما كان عليه أن يُمسك بسكين الفاكهة موجهًا إياه نحو رقبته، متمتمًا بهسيس مُرعب: أنا دلوقتي هخلص عليك، وأقطعك، وأعبيك في أكياس، وارمي لحمك للكلاب تنهش فيه،!
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع
حمل شاكر سكين الفاكهة من على الطاولة، ثم وجهه ناحية ريان متمتمًا بفحيح مُرعب: هخلص عليك النهاردة عشان أنا قرفت منك.
ابتلع ريان ريقه بخوف، فابتعد رويدًا رويدًا مُردفًا بخوف: اهدي وصلي عالنبي يا شاكر بيه، مش هتضيع مستقبلك عشان واحد تافه زيي.
خلع شاكر ياقة عنقه وهو يشعر بالإختناق، رفع عيناه للأعلي وهو يهتف بتضرع: يارب أعمل فيه إيه! هيموتني مشلول منه لله.
تكرر النبأ مرة أخري بالتلفاز، لينتبه له الجميع منصتين له، لتتشكل نفس الإبتسامة البلهاء على ثغر ريان مُفتخرًا بشهرته على النطاق الواسع، بينما وضعت غزل يدها على رأسها مُرددة بعدم تصديق: يادي النصيبة. بقينا إرهابيين وقتالين قُتلة!
جلس شاكر على الأريكة والحيرة تنتابه بشدة، لا شك بأن الخطر يحوم حولهم الآن وقوات الشرطة تقوم بالبحث عنهم في كل مكان، ومن المؤكد بأنه سيتم البحث في منزله هو الآخر بإعتباره من عائلة النويهي، نظر لهم ثم أمرهم بحزم في الجلوس، امتثلوا لأمره رغم الرهبة التي احتلتهم، فتحول وجه شاكر للجدية التامة وهو يُحدثهم: انتوا لازم تمشوا من هنا حالًا، وصول الخبر للصحافة وإذاعة التلفاز دا يعني إن فيه خطر على حياتكم، وأكيد الشرطة هتيجي تدور هنا.
مسح ريان بلسانه على شفتيه بتوتر، ثم تساءل مستفسرًا: طيب والحل! هنروح فين ونيجي منين! دا أنا مقطوع من شجرة.
نظر له شاكر بضجر، ثم أردف موبخًا إياه: يابني اهدي وبطل هزار، إما نشوف حل للمصيبة دي.
كانت غزل تستمع إليهم بتيهة وعقلها في وادٍ آخر تُفكر في شئ ما، قضمت أظافرها ثم رفعت أنظارها بإتجاههم، متشدقة بإعتراض: أنا مينفعش أهرب. فيه قضية مهمة مستنياني ولازم أدافع عن موكلي.
رفع شاكر أنظاره إليها، وللحق هو لم يُطيق مكوثها بهذا المنزل وذلك بسبب تلك المشاجرات التي حدثت في الماضي بين العائلتين، فالكُره الذي نُسج بين العائلتين ليس له نهاية، لم يوجه إليها الحديث بل تحدث ريان وهو يقطب حاجبيه بإستغراب: قصية إيه دي! بقولك احنا محكوم علينا ب 15 سنة تقوليلي أدافع عن موكلي! كنتِ دافعي عن نفسك يا حسرة.
نظرت له بسخط ولم تقبل بتقليله من شأنها، لذلك رفعت رأسها بغرور مُردفة بكبرياء: على فكرة أنا كان ممكن أدافع عن نفسي. بس، بس ملقتش فرصة كويسة.
لوي ريان شفتيه بإستنكار مُردفًا بسخرية: والفرصة دي كنتِ هتلاقيها لما نموت إن شاء الله!
صمتت وربعت يدها أمام صدرها ناظرة إليه بضجر، أدارت وجهها للناحية الأخري وهي تُتمتم ببعض الشتائم الساخطة على الوضع الذي فيه، ثواني واستمعوا إلى صوت جرس الباب، ليعم التوتر المكان فأشار لهم شاكر بالدلوف إلى الغرفة مجددًا، ليمتثلوا لأمره بسرعة، ثم ذهب لرؤية الطارق بعدما أعاد ثباته مرة أخري.
فتح الباب بروية ليجد ابنه فارس يقف على أعتاب المنزل ويمسك بيده مدثر المتلهف لرؤية والده، وباليد الأخري لوچي التي أقسمت على القدوم معهم، ورغم إنصدام شاكر من وجود ابنه أمامه، رحَّب به بحبور، ثم أدخله بعدما احتضنه لبضعة ثواني يمحي لهفة الإشتياق من عدم رؤيته لشهور عديدة.
جلس فارس وبجانبه الطفلين، ليتسائل بتعجب عندما طلب منه فارس رؤية صديقه: وانت عرفت إن ريان هنا إزاي يا فارس!
ليُجيبه بهدوء: ما هو اتصل عليا.
بالداخل. استمع ريان لصوت صديقه، فخرج مُسرعًا من الغرفة ومن خلفه غزل التي تمنت رؤية عائلتها في هذا التوقيت، كم تشعر بالوحدة وهي بعيدة عنهم، لكن بالحقيقة ريان يقوم بتسليتها لطباعه الصبيانية المضحكة.
كان أول من يُبصر ريان هو ابنه مدثر المترقب لرؤية والده، انتفض من على الأريكة قافزًا في أحضان والده الذي انتشله بقوة في عناق طويل ودافئ، لم يحدث من قبل أن يبتعد ريان عن ابنه كل تلك المدة، قد تظهر أنها قليلة لكن بالنسبة إليهم وكأنها أعوام، كلًا منهم يعتبر الآخر ملاذًا له، طوَّق مدثر عنق أباه أكثر بإشتياق كبير، ثم أردف بحشرجة يمنع بكاؤه: متبعدش عني تاني يا بابا.
شدد من احتضانه قائلًا بأسف: أسف. أسف والله مش بمزاجي. أسف.
كان يردد تلك الكلمة ومازال بوضعيتهم التي تُحرك المشاعر لكل من يراهم، وقف ريان ومازال يحمل ابنه ثم نظر ل فارس بنظرات ممتنة شاكرة، أنزل مدثر بهدوء ثم ذهب لصديقه ليعانقه بقوة، ضرب فارس على ظهره وكأنه يُعاتبه على إبتعاده اللا إرادي، مردفًا بإشتياق: وحشتني يا صحبي. وحشتني أوي.
بادله ريان العناق بحب، فقليلًا ما يوجد أصدقاء بمثابة الأخوة، يُعينك على قسوة الأيام ومُرها، ردد بإشتياق مماثل: وانت كمان ياخويا.
وتلك هي الحقيقة، هو بمثابة أخ، ورفيق، وصديق، أحيانًا يعوضك الله بشخصٍ يستثنيك على العالم، و فارس كان ذلك الشخص، تخصرت لوچي محلها وهي تنظر ل ريان بضجر: والله يا عمو ريان! نسيت لوچي خلاص!
استدار لتلك القصيرة وهو يرميها بنظرات ضاحكة، ثم حملها مُقبلًا إياها من خدها: وهو حد ينسي حبيبه برضه! دا انتي القلب يابت!
انتشلها فارس من يده لاويًا شفتيه بسخط، ثم تحدث وهو ينظر ل ريان و مدثر الذي يُطالع لوچي بغضب مضحك: هات البت واترزع جنب ابنك. مش هتبقي انت وهو عليها.
نظر ريان لإبنه بفخر لتربيته الصالحة والتي أتت بثمارها، مردفًا بتبجيل: أنا عرفت أربي صح.
وبعد وقت قليل، جلس الجميع يتحدثون على تلك الورطة الواقعين بها، و مدثر يجلس على أقدام والده مُحتضًا أياه، يعوض ذاته عن تلك الساعات العصيبة التي عاشها بدونه.
بدأ شاكر بالحديث وهو يُربع أصابعه معًا موزعًا أبصاره على الجميع: دلوقتي الشرطة بتدور عليكوا كلكم، بخلاف فارس لسه بيدوروا على اللي هربكم.
توترت أعين ريان، ثم تحدث بقلق وهو ينظر ل فارس من أن يُصيبه مكروه: يعني فارس في خطر دلوقتي! انا. انا عندي إستعداد أسلم نفسي للبوليس بس هو ميحصلهوش حاجة.
وضع فارس يده على قدمه وهو يشد أزره: متخافش يا صحبي مفيش حاجة هتحصل.
رمقتهم غزل بإستنكار وهي تُربع ساعديها معًا: مش عارفة إيه جو العشق الممحون دا. أمال لو مكنوش صحاب!
طالعها ريان الذي كان يجلس بجانبها بغرابة وهو يسألها: بتقولي حاجة يا غزل!
رسمت ابتسامة صفراء على محياها وهي بالكاد تكتم غيظها: لأ ولا حاجة بس بفكر بصوت عالي بس مش أكتر.
طيب القلب هو ليُصدقها، نيته الصافية أجبرته على تصديقها، ثم انتبه مرة أخري ل شاكر الذي بادر بالحديث: المهم دلوقتي إن ريان و غزل مش هينفع يقعدوا هنا، لأن الشرطة أكيد هتيجي وتفتش، فلازم حل عشان منروحش كلنا في مصيبة، لازم تهربوا بأسرع وقت، ومكان ميكونش بعيد اوي لأنكم لازم تلاقوا دليل برائتكم في النفس الوقت، الناس اللي انتوا واقعين معاهم مش ساهلين، ولو وصلوا ليكم قبل البوليس أحتمال كبير جدًا يقتلوكم.
عض ريان على شفتيه بقلق، أسيموت بتلك السهولة، هناك الكثير والكثير من الأحلام لم يُحققها بعد، مثل أن يكون مدرب للسباحة وغيرها، امتعض وجهه وهو يُفكر مليًا في حلمه الذي أصبح صعبًا، سب ولعن السبب وراء عناءه.
انتبه لحديث الشاكر المُتبقي وهو يُشير إتجاه فارس: البوليس أكيد هيروح البيت اللي في الحارة. لازم تنكر وتنفي أي حاجة هيوجهوها، اتصدم خليهم يصدقوا إنك متعرفش حاجة.
اجابه فارس بثقة وهو يضع يده على صدره مُتباهيًا بذاته: متقلقش، كله تحت السيطرة، محسوبك يتوه عشر رجالة في بعض.
لوى شاكر شفتيه مستنكرًا من حديثه، ف لطالما كان هو و ريان الأغبي على الإطلاق، همس متمتمًا بسخرية: اتلم تنتون على تنتن.
بتقول حاجة يا بابا!
اصطنع إبتسامة صفراء على وجهه ثم وقف وهو يُحدثهم: ورايا إجتماع مهم بعد نص ساعة، هدخل ألبس وعلى ما أخرج ملقيش حد فيكم بدل ما ألاقي البوليس طابب في دماغي.
أنهي حديثه ثم دخل لغرفته ناقمًا على ريان بسبب إتلافه لثيابه الثمينة، وبمجرد ما دلف للغرفة التي كان ينام بها الأثنين، وجد ورق الصفقة التي كان يُجهز لها مبعثر وبعض الوريقات مكتوب عليها بعض الكلمات الغبية، ليقرأ آخر سطورها رقتي سبب عنائي فعلم من هو الفاعل، صرخ بعلو صوته حتى كادت أحباله الصوتية أن تُتلف: ريان!
«ومَن يَقتَرف حسَنَةً نَزِد له فيها حُسنًا، إنَّ الله غَفور شَكور».
قال شَقيق بن سلَمة: نِعمَ الربُّ ربُّنا.
يا راجل قوم نروح نشوف بنتك، دي من ساعة ما اتجوزت مروحناش ليها ولا مرة!
كانت تلك الكلمات تصعد من فاه مروة والدة نوال موجهة حديثها لذلك الذي يُنفث دخان نارجيلته ببرود.
طالعها بجمود وهي يُشيح بيده بلا مبالاة: يعني هياكلوا البت يعني ياختي! ما تسيبيها ما هي مرزوعة عند جوزها.
طفح بها الكيل من جحوده، لتصرخ في وجهه بقهر: يا ممدوح كفاية قسوة على البت بقا، مش معني إني خلفتلك البنت بدل الولد اللي كنت عايزه تعاملها بالجحود دا، دي بنتك من لحمك ودمك وهي اللي هتشيلنا بعد ما نكبر ونعجز، خلي عندك رحمة بيها عشان تفتكر حاجة حلوة من اللي عملتها وقت عوزتنا ليها.
نظر ممدوح أمامه بشرود، لكن ليس تفكيرًا بما قالته زوجته، إنما يري بعض الذكريات التي جعلته يكون بتلك الوحشية، هو يحمي ابنته كما يظن هو، ليس عليه حرج في تربيتها كيفما يشاء: أنا بعمل كدا عشان أحميها من نفسها يا مروة.
علمت بما يدور بخلده، خاصةً عند علمه بهروبها من المنزل يوم خطبتها، هو أب وله كل الحق في تربية ابنته، لكن تلك القسوة كان لها نتاج عكسي، فلقد رأت مَن يُعطيها الحنان الذي افتقدته في عائلتها، لتُعطي قلبها لأول من يُعاملها بحنان، حتى ولو كان يخدعها فهي تجهل تلك الأمور، وقفت مروة وهي تنظر له بقوة رامية جُملتها التي جعلته ينظر لها بشكل مخيف: نوال مش زي اختك اللي سابتكوا وهربت زمان عشان تتجوز من عيلة النويهي يا ممدوح.
ذهبت من امامه وهي تعلم أن حديثها يُحرقه من الداخل، تتقاذف أمامه المشاهد الذي حاول دفنها منذ عشرات السنون، جاءت هي وبجملة واحدة ذكرته بما مضي، وتلك الصراعات التي حدثت بسبب شقيقته الماجنة كما في نظره، وكأن حالة من الجمود تلبسته لبضعة دقائق، وهو يُفكر مليًا فيما فعله، فإبنته كانت ستقع بنفس الخطوة التي وقعت بها شقيقته، وكاد ان يقتلها ذلك اليوم لولا وقوف بدر أمامه.
تذكر ذلك اليوم حين استمع لها تُحدث أحد الرجال، حينها اشتعلت البراكين في قلبه، لذلك تحدث مع ابن أخيه المتوفي بدر للزواج منها، لم يوافق بدر في البداية، لكن حينما علم بهروبها كان هو الأكثر تصميمًا على الزواج منها ليُغيد تربيتها، همس بيأس وهو يرمي النارجيلة من بين يديه: بكرة تيجي تشكرني على جوازها من بدر، وإني أنقذتها من ذنب مكناش هتعرف تتوب منه طول عمرها.
فيَا رَحم ن جُد بالعَفوِ إنّي
قَليلُ الزَّادِ تملؤنِي العيوبُ.
والقلبُ يهمسُ ناطقًا أين الخلاص، ويُجيبُ العقل ببرودٍ ليس هناك مناص.
عاد فارس للمنزل ومعه الصغيرين، ليجد قوات الشرطة تحتل المنزل بالكامل، رسم قناع البرود بإتقان وهو يقف أمام الضابط: خير يا باشا!
التفت له وهو يحدجه بنظرات لا يعلم أهي متفحصة أم مُشمئزة، ليتحدث بعدها أمامه وأمام جميع العائلة التي لا تفقه شئ: المدعو ريان الطحاوي و غزل أبو زيد هربوا واحنا دلوقتي بنقوم بواجبنا.
شهق الجميع بصدمة غير مُصدقين لما قاله، ليضع فارس يده على صدره مُتصنع الدهشة بطريقة مُضحكة للبعض: يا مراري! هرب إزاي دا! يالهوي الواد اللي حيلتنا ضاع!
أهذا هو ما أمره به شاكر بحق الله! أهكذا يضلهم! كان معه حق عندما وصفهم بنفس الغباء، نظر له الضابط بإستنكار، وبعد أن كان لديه شك صغير بأن أحدًا من تلك العائلة قام بتهريبه، بات مُتيقنًا تمامًا من ذلك، أمسكه الضابط من تلابيبه وهو يسأله بحده: انت هتستعبط يا روح امك! وديت الواد فين يلااا!
تحول وجه فارس للغضب في ثوانٍ معدودة، نفض يد الضابط وهو ينظر له بإحتقار ثم اردف بسخرية تحمل في طياتها الإهانة: والله دا مش شغلي، المفروض دا واجبكم يا حضرة الظابط، مش حضرتك هتقعد على مكتبك وأنا هنزل أدورلك عليه.
وبحديثه زاد الطين بلة، ليتوعد له في سره بعدما استشعر إهانته، كانت حرب النظرات قائمة بينهم إلا أن تحدث بكر بوقاره المعتاد: احنا منعرفش ريان فين يا حضرة الظابط، وزي ما انت شايف كلنا اتصدمنا بالخبر، وأظن كمان عارف إن ريان مش من العيلة وإنه سكن عندنا من سنتين بس وإيجار في الشقة اللي على السطوح.
هز الضابط رأسه بشك وهو يُطالع الجميع بغموض، إلا أن توقف على فارس الذي كان يحدجه بإستخفاف، استدار للشرطي الذي جاء ليؤدي تحيته ثم قال: مفيش أي حد في الشقة يا فندم.
أمرهم بالهبوط وهو خلفهم، وكاد ان يخرج من المنزل إلا أنه استدار مرة أخري رافعًا سبابته قائلًا لهم بتحذير: لو شوفتوه خلوه يسلم نفسه أسلم ليه.
لم يُجيبه أحد فهبط للأسفل ثم اتجه قاصدًا منزل عائلة أبو زيد.
بعد ذهابه التفت بكر له ينهره بحدة: إيه اللي انت نيلته دا! أفرض كان اتلكك وحط الكلبشات في إيدك كان هيبثي موقفك إيه دلوقتي!
تدخل معتصم في النقاش محاولًا تهدأة أبيه: خلاص يا بابا، فارس أكيد ميقصدش.
ثم نظر لفارس ممسكًا بذراعه ساحبًا إياه تجاه شرفة المنزل الكبيرة تحت نظرات الجميع المتوترة.
وعلي الجانب الآخر.
هبَّ إبراهيم من مجلسه بفزع: بتقول إيه! يعني إيه هربت!
يعني زي ما بقول لحضرتك كدا. بنتك هربت هي والمجرم اللي معاها، ولو مسلمتش نفسها الموضوع هيتطور والعقوبة هتزيد.
أنهي كلماته ثم تبعه رحيله هو والآخرون بعدما قاموا بتفتيش المنزل كسابقه، ونفس النتيجة لم يجد به شئ يُفيده.
نظرت فوزية ل إبراهيم بعدم تصديق وهي تهز ذراعه ليستجيب لها: يعني إيه الكلام دا يا إبراهيم! بنتنا ضاعت خلاص!
تحدث طه يحاول تهدأة الجميع: اهدي يا أم غزل إن شاء الله كل حاجة هتبقي كويسة ومفيش تعقيد.
لم تُجبه بل ظلت تنتحب بصمت وجوارها ميران التي شاركت والدتها في البماء خوفًا على شقيقتها من بطش من لا يرحم، خرج الجد أبو زيد من غرفته مُتخليًا عن مضجعه وهو يستند على عكازه، متشدقًا بنبرة حاسمة قوية: من هنا ورايح مش عايز أسمع كلام في الموضوع دا، حفيدتي هترجع سليمة ويا ويل اللي هسمعه بيولول، احنا مش في جنازة.
نظر ل ميران آمرًا إياها: خدي أمك وادخلي جوه يا ميران
ثم نظر لزوجات أولاده وبناتهم: وانتوا كمان ادخلوا جوه، أنا عايز الرجالة يكونوا هنا بس.
خدعوا لأمره ودلفوا للغرفة الكبيرة، تاركين الاجواء متوترة بين الابناء والحزن يُخيم على الجميع، بادر خليل بالتحدث مع والده وهو يسأل بتعجب: عايزنا ليه يابا!
حام بنظره على وجوههم جميعًا، ثم رمي جملته التي جعلتهم يتصنمون مكانهم في صدمة: تعالوا ورايا لبيت عيلة النويهي...
اللهم أوتد قلوبنا على ما تحب وترضى.
لا نعلم متي ستنتهي تلك المشكلات، ما يهم ألا ينتهي الطعام
كانت تجلس وتغرز العديد والعديد من أصناف الطعام المختلفة وهي تشعر بمعدتها تضور جوعًا، فهي منذُ الأمس وهي لم تأكل ولو بضعة لقيمات، خجلها منه يجعلها تتمني لو تختفي في مكانها، هذا ال بدر يُثير مشاعرها كأنثي، وهي ضعيفة، تخفت مقوامتها عندما يعاملها أحد بحنان.
نوال ضحية الإهمال، باتت تفكر في بدر وفي حنانه، مشاكسته الدائمة لها، وكلمات الغزل التي يرميها بها أمام الجميع دون خجل، كانت تُفكر وتأكل معًا، لترفع عيناها منتوية أخذ زجاجة العصير من أمامها، ليقع نظرها على ذلك الذي يُحدجها بصدمة مُضحكة.
ابتلعت نوال ما بفمها وهي تنظر له بغباء، ثم أشارت له تجاه الطعام المُنتهي كُليًا مُردفة ببسمة بلهاء تُشبه مظهرها الآن: كنت مستنياك عشان ناكل.
رفع حاجبيه بإستنكار وكأنه يقول لها حقًا تنتظريني! ليتجه إليها بخطوات بطيئة وهو يُشير إلى فمها والطعام معًا: نهارك مطين إيه دي ده! عتخلصي على محصول البلد كلياتها إياك!
وضعت قطعة كبيرة من الدجاج وكأنها تُطفي به غضبها، ثم جعدت جبينها بحزن وهي تنظر له بحدة، فكان مظهرها مُضحكًا للغاية خاصةً مع إنتفاخ خديها بسبب الطعام المتكوم بها.
قهقه بمرح ثم وقف قبالتها وهو يُمسك خديها قارصًا إياه بخفة: حتى وانت بتاكلي بتبجي كيف العيال الصَغيرة. بحسك بنتي مش مرتي لاااع.
كان حديثه كفيلًا لتلتمع عيناها بمشاعر متضاربة لم تجد لها تفسير، جسدها يُحثها على إحتضانه إمتنانًا له، وكأن قرأ أفكارها ليحتضنها بحنان، ويده تَمر صعودًا وهبوطًا على ظهرها، متشدقًا بما جعلها تبكي: بجالك كام يوم حزينة يا بت عمي، جوليلي إيه مضايجك يمكن أعرف أساعدك!
ولا إراديًا منها لفت يدها حول خصره لتحتضنه، دفنت وجهها في صدره العريض، لتشعر بالألم الذي حاولت نسيانه يجتاح خلاياها مرة أخري: بابا من ساعة ما اتجوزت مسألش عليا خالص، كأنه ما صدق يخلص مني!
وضع كفه على شعرها يمرر اصابعه به، ثم رفع وجهها بهدوء يمسح دمعاتها وهو يقول مُفترضًا: مش يمكن مشغول علشان إجده مكلمكيش عاد!
هزت رأسها بالنفي وهي تستمر بالبكاء: لأ. هو طول عمره مبيحبنيش أصلًا. عمره ما سأل عليا ولا حتى اهتم بيا. أنا دايمًا آخر إهتماماته. على طول شتيمة وإهانة وصوت عالي وأنا مكنتش ببطل عياط. طول عمره قلبه قاسي عليا كل ده لأني مطلعتش الولد اللي عاش طول عمره يتمناه.
وأخيرًا علم سبب حزنها وإنطفائها منذ أن رآها، لكن حينما طلب منه والدها ان يتزوجها كان خوفه يظهر بشدة للعِيان في صوته، لذلك تحدث مُبررًا: مش يمكن بيعمل إجده عشان مصلحتك!
ابتعدت عنه لتصرخ هي في المقابل بدون وعي: متدافعش عنه. ليه دايمًا عايزين تطلعوني وحشة وغلطانة! ليه أنا اللي تحطوا الذنب عليا! ليه أنا اللي أتعذب لمجرد إني بنت مش ولد!
ورغم عصبيته المفرطة من إرتفاع صوتها وهذا اكثر ما يغضبه وبشدة، قرر أن يتحدث بهدوء وهو يقترب منها مجددًا: دا أبوكِ، وأبوكِ مش هيكون عايز يئذيكِ صُح!
جلست على المقعد بوهن، متحدثة بضعف تغلغل لخلاياها: مش أي راجل ينفع يكون أب، ولا أي راجل ينفع يبني أسرة.
أمسك كفها بحنان ثم أوقفها أمامه وهو يُقبل يدها: انسي عشان تعرفي تعيشي حياتك يا نوال. انسي يابت عمي.
نظرت لعيناه مُباشرة، ولأول مرة تُحدثه بتلك النبرة التي اخترقت حصون قلبه: خليك جنبي ومسبنيش يا بدر، انت الوحيد اللي بحس معاه بالأمان.
احتضنها بدر متأوهًا بخفوت وهو يُحيط خصرها بقوها، وفي النقابل أحاطت هي عنقه: مش هسيبك يا نوال، انتِ خلاص بجيتي حِتة مني ومن جلبي، بجيتي روحي يا نوال.
إيه اللي بيُحصل إهني!
وكانُوا يتواصَون في الشدائد: إنما هي أيامٌ تمضي والموعدُ الجنة، فأبشر.
طوال اليوم وهو يهرول من إمتحان للآخر، كان شهاب في طريقه للعودة للمنزل، إلا أنه لاحظ نظرات الجميع التي تُلاحقه بطريقة غريبة أثارت ريبته، وبينما هو يُفكر في سبب تلك النظرات، سمع صوت جارته وهي تُناديه، ليذهب لها وهو يقول بإبتسامة بشوشة: خير يا أم عماد!
وضعت المرأة يدها أسفل زقنها في حركة شعبية مشهورة، ثم سألته وهي تُمصمص شفتيها: صحيح اللي سمعته دا يا واد يا شهاب!
قطب جبينه بتعجب وهو يسألها: سمعتي إيه يا حَجة!
اقتربت بوجهها منه لتسأله بفضول يتآكلها: انت فعلًا سقطت في المدرسة بتاعتك.
كرمش وجهه بتشنج وهو يُردد خلفها: مدرسة!
أيوا المدرسة. مش الأستاذ بتاعك قالك هتشيل المادة وتجيب مُلحق فيها!
فتح عيناه على آخرهما، كيف عرفت تلك العجوز سره! هو لم يخبر به أي أحد سوا والدته! وصل تفكيره لتلك النقطة ليجز على أسنانه بسخط ثم ذهب من أمامها منتويًا الذهاب لوالدته، أوقفه تلك المرة صوت عم عبده البقال وهو يُناديه، ليُصيح بصوت عالي: صحيح يا شهاب يابني جبت مُلحق!
اتبع حديثه ضحكات مستفزة أثارت غضبه ليصرخ به وهو ينظر حوله ليتأكد من عدم إستماع أحد إليه، ولحظه العثر وجد جميع المارة يحدقون به وكأنه برأسين: أسكت يا عم عبده.
ذهب من أمامه مسرعًا وقد. طفح الكيلُ به، ليهمس عم عبده بسخط وهو ينظر لأثره: الساقط ابو ملحق بيزعقلي! دا انا كنت بطلع من الأوائل.
وصل لعتبة منزله ليجد عمته تهبط الدرج وهي تنظر له نظرات مشمئزة تعجب منها، فقالت وهي تتخطاه: هيحط راسنا في الوحل الفاشل ابو ملحق.
فتح شهاب عيناه بصدمة باتت جلية على وجهه، حط أول خطواته للداخل، ليجد مجموعة من الصغار تحوطه في حلقة وهم يسألونه بفضول: عمو شهاب هو الأستاذ ضربك على رجلك لما سقطت!
لطم شهاب على وجهه وهو لا يُصدق ما يحدث له، فضيحته باتت على كل الألسن وهو الآن عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه، توعد لوالدته في سره، ليصعد الدرج بسرعة شديدة غاضبة، فاتحًا الباب بقوة ليجد والدته تقف بجانب والده منتظرًا إياه وملامحه لا تُبشر بالخير أبدًا.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل العاشر
تثائب ريان وهو يسير بجوار غزل التي تنظر له بحنق، كم هو شخص لا مُبالي بحق! تذكرت منذ سويعات قليلة عندما هربوا من تحت أيدي شاكر الذي كان يُقسم على قتل ريان لإفساده أوراق الصفقة التي كان يُحضرها منذُ عدة أيام، وعندما استمعوا لصراخه هرولوا للخارج بسرعة قبل أن يقتلهم في أوج غضبه.
لاحظ نظراتها التي كادت تحرقه وهي تقوم برفع حاجبيها له، ابتلع ريقه بتوتر، ثم حمحم ليُخرج صوته ثابت بعض الشئ: فيه إيه بتبصيلي كد ليه!
غضبت من برودة أعصابه، لتقترب منه وهي تُصيح به بغضب: أنا مشوفتش في برودك يا أخي. انت إيه بجد!
أنا ريان.
أجابها ببرائة مصطنعة لتنظر له بعدم تصديق من رده، شهقت بصدمة مصطنعة متشدقة بدهشة: اي دا بجد انت ريان!
هز رأسه بإبتسامة غبية وهو ينظر لها، وما كادت أن تتحدث حتى صرخ بها وهو يلتقطها بين ذراعيه: حاسبي!
حاوطها بذراعيه وهو يبتعد عن تلك السيارة التي كادت أن تدهسها بلا رأفة، ويبدو أن الأمر مقصود عندما أخرج السائق رأسه من السيارة مُبديًا إعتراضه على فشل خطته، لاحظه ريان لتتحول عيناه للقتامة وهو يتبع ابتعاد السيارة بحدقتيه التي كادت أن تُطلق شرارًا.
كانت غزل تحاول إستيعاب ما حدث وهي مازالت بين أحضانه، ارتعشت فرائسها عندما تخيلت موتها على يد ذلك المتهور كما تظن، لتبتلع ريقها الذي جف من حلقها تحاول التحدث، أمسكها ريان من كتفها وهو يتأكد من سلامتها ووجهه عابس بشدة: انتِ. انتِ كويسة!
نظرت لقلقه وعبس وجهه لتومأ برأسها في بطئ ومازال قلبها يتسارع بشدة، استمعت إلى حديثه وهو ينظر في أثر السيارة التي اختفت: لازم نلاقي حل للي احنا فيه دا، لازم دليل براءتنا يظهر قبل ما نتقتل، لازم الكل يعرف إننا مظلومين وقعنا ضحية لواحد حقير مش مجرمين، لازم.
تحدثت بعدم فهم وهي تري تحوله المُفاجئ: بس دا كان صدفة.
حوَّل نظره إليها ثم تمعن النظر بها جيدًا، ورغمًا عنه تذكر حادث زوجته التي ماتت بنفس الطريقة، سيارة طائشة تعبُر الطريق أدت إلى إنهاء حياتها تاركة إياه هو وولده يُعانون فراقها: لا مش صدفة ومش مجرد حادثة عادية. دي مقصودة، وواضح إن سليم المنشاوي مش هيجيبها لبر أبدًا غير لما يخلص مننا.
حديثه بثَّ الرعب في نفسها، لذلك تسائلت بعد أن تقاظم القلق بفؤادها: طب دلوقتي هنعمل إيه!
هنلعب باليه هقهقهق.
ثانية. وثانيتان. وثلاثة. وخمسة. مرت حتى تُحاول فهم ما يقوله، وكأنه رمي لُغزًا يصعب حل أُحجيته، نظرت له بعدم تصديق ولوجهه الذي تحول للمرح عكس ما كان به منذ قليل، مما صُنع هو بحق الله! هزت رأسها وهي تضحك بعدم تصديق: انت، انت بجد! يعني إنسان وعندك دم وبتحس زينا كدا!
هز كتفيه ببساطة وهو يُحرك حاجبيه بإستفزاز: بيقولوا، بس الأيام هتثبت دا.
استشاطت من بروده، فعقدت العزم على الذهاب من أمامه قبل أن تقوم بقتله الآن، تقدمت عدة خطوات أمامه بغضب، فذهب خلفها مُتشدقًا بضحك وهو يمسك بكف يدها بإحكام: خلاص استني نمشي سوا. وهاتي إيدك عشان لو حاجة حصلت تاني أبقي جاهز.
حاولت سحب يدها بقوة لكنه كان يمسكها بقوة أشد، خاف أن يتكرر ما حدث منذ قليل ويقوموا بقتلهم مرة أخري، وهي معه فبالتالي باتت مسؤولة منه، نفخت بغيظ عندما لم تستطيع سحب يديها، لتسير بجواره متنهدة بإرهاق قبل أن تقول: هنروح على فين دلوقتي! أنا تعبت.
لم يُجيبها بل ارتسمت إبتسامة عابثة على ثغره متحدثًا بغموض: هنروح مكان الدبان الأزرق مش هيلاقينا فيه.
صعد شهاب لمنزله وعلى وجهه إمارات الغضب من والدته، هل هذا هو السر الذي وعدت بحفظه! لقد أخبرت به جميع القانطين بالمنطقة حتى أصبح أضحوكة لهم، فتح الباب بحدة ووجهه ملئ بالغضب، وفجأة تحولت ملامحه إلى الزعر عندنا وجد والده وبجانبه والدته منتظرين إياه، ويبدو أن سلطان علم بالأمر وهذا يظهر على وجهه.
ابتلع ريقه بترقب ثم دلف بخطوات بطيئة على عكس ما كان منذ قليل، ثم وجه حديثه لهم بخفوت وهو يكادُ يهرع إلى غرفته: السلام عليكم.
لوى والده فمه في سخرية مردفًا بإستنكار: أهلًا باللي مشرفنا ورافع راسنا.
وضع شهاب يده على صدره وابتسامة متوترة تشكلت على ثغره: الله يكرمك يا حَج. دي أقل حاجة عندي، و...
وما كاد أن يُكمل حديثه حتى وجد نعل والده يُقذف في وجهه بقوة، يليه صياح والده الغاضب بعدما انتفض من مكانه: أقل حاجة عندك يا ابن ال!
فزع شهاب من مظهر والده ليقول وهو يهرول من أمامه واقفًا خلف سفرة الصالون: ف. في إيه بس يا بابا! اهدي كدا وكل حاجة تتاخد بالعقل.
صرخ والده بالمقابل به وهو يُصيح بحدة: عقل! عقل إيه يا ابو عقل يا فاشل، على أخر العمر أشوف ابني بيعيد السنة! يا ساقط.
ابتلع شهاب ريقه بتوتر وهو يُجيبه بتلعثم: دا. دا. دا. كدب.
وضع والده يد على خصره وهو يتلوى في وقفته، وباليد الأخري وضعها على رأسه وتحديدًا عند جبهته: كدب! كدب يا حيوان دي المنطقة كلها بتحلف بفشلك.
نفى عنه التهمة مسرعًا وهو يكاد يبكي خوفًا، خاصةً عندما لمح والده يُمسك بالعصى الكبيرة وعيناه تطلقان شررًا: م. محصلش. محصلش.
في ذلك الوقت كان فارس يصعد درجات السلم العريضة ومعه كُلًا من مدثر و لوچي الذين يتحدثون سويًا بصوت خافت للغاية، لوي فارس فمه في إستنكار ولم يتحدث، فيكفيه صراخًا عليهما فقد سأم من ذلك.
استمع لصوت الصرخات القادمة من منزل أبيه، ليذهب في إتجاههم بسرعة مُعتقدًا بحدوث شئٌ سئ لهم، توقف محله عندما وجد شهاب يقف خلف الأريكة ووالده يُقابله من الناحية الأخري ممُسكًا بعصا غليظة مستعدًا لضربه ووالدته تُراقبهم بإستمتاع غريب. ،
دخل عليهم قاطبًا جبينه بإستغراب ثم تسائل: في إيه اللي بيحصل هنا؟
تدخلت والدته على الفور وهي تدّعي البكاء، لتمسح عبرات وهمية من على جفنيها، مرددة بحزن وأسى: شوفت النصيبة يا فارس! أخوك هيعيد السنة الفاشل.
حرك فارس وجهه بهدوء ثم نظر ل شهاب الذي مازال يصرخ ببرود، مُردفًا وهو يستعد الصعود لمنزله: ربنا معاك يا حج. اتوصي بقا متنساش.
طالعه شهاب بصدمة ثم صرخ به: يا حيوان أنا أخوك، آااااه.
لم يمهله فارس فرصة للحديث بل صعد لشقته وعلى ثغره يرتسم ابتسامة خفيفة، بينما مدثر و لوچي دلفوا ثم جلسوا بجانب جدتهم ليُشاهدوا ذلك المُسلي بالنسبة لهم.
عاد فارس إلى منزله بعد أن اطمئن على رفيقه العزيز، صعد درجات السُلم بتمهل بعد أن ترك كُلًا من مدثر و لوچي بالأسفل مع جدهم سلطان، وعند صعوده قابل في طريقه عمه بكر، لذلك دلف له واحتضنه بإحترام، ولم يسلم بالطبع من نظرات زوجة عمه سميحة تلك السيدة الطيبة الحنونة مع الجميع إلا معه هو و ريان، لا تعلم ما سبب كرهها لهم لكن هناك شيء تُخفيه تلك السيدة.
نفض تلك الأفكار عن رأسه وأكمل الصعود، ومع كل خطوة يقتربها يزداد ثقل قلبه، لا يعلم كيف سيواجه زوجته بعدما استمع بدون قصد لحديثها مع أحد رفاقها، شعر بألم قلبه وود لو يذهب إليها ليصفعها بقوة ثم يحتضنها بحنان ليُعاتبها على حديثها القاسي بحقه، لو تعلم مدي تأثيره عليه لما كانت قامت بالتفكير فيه حتي.
فتح الباب بهدوء، ثم ولج للداخل ليُغلقه بنفس الطريقة، كاد أن يخطو أولى خطواته للداخل حتى وجد جسد ضئيل بالنسبة له يرتمي على أحضانه، لم يحتاج للكثير من الوقت لمعرفة صاحبه، فصوت شهقاتها وصل لمسامعه بقسوة، تُعذبه بطريقة قاسية تلك المرة أيضًا.
سحب نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل، كاد أن يستسلم ويُخبئها بين أحضانه لكنه عزم أن يعرف حقيقة ما استمع له، هو لم يشك ولو ثانية واحدة في عشقها له، لكن تمزق بمجرد الإستماع إليه، بجمود مصطنع أخرجها من بين أحضانه، فرفعت زهر عيناها المليئة بالدموع له مُتشدقة بأسف: أنا، أنا أسفة يا فارس، مش قصدي أزعلك واللهِ بس أنا خايفة عليك، من حبي فيك مبقتش قادرة أتخيل حياتي من غيرك، سامحني عشان خاطري أنا أسفة.
لوي شفتيه بسخرية مريرة، ثم خطى للداخل عدة خطوات بطيئة، وبجمود يُحسَد عليه التفت لها مُردفًا بصدمة مصطنعة لازعة: بتحبيني لدرجة إنك كنتِ مجبورة تتجوزيني مش كدا! طيب طالما مش طايقاني كدا استحملتي معايا السنين دي كلها ليه! سبتيني أحبك ليه!
نظرت له بصدمة من معرفته بتلك الحقيقة، هي لم تُخبر أي أحد بذلك سوي رفيقتها المقربة ني ين وهي ليست على علاقة وطيدة به، إذًا كيف علم بذلك! بينما هو انتظر إجابتها بقلب يخفق في خوف، ينتظر أن تُوضح له بفارغ الصبر، لكن صمتها أثار ريبته بحق.
تحدثت هي بدهشة وصوت متوتر: انت. انت ع. عرفت الكلام دا إزاي!
مش مهم إزاي. المهم أنا عايز أعرف انتِ فعلاً كنتِ مجبورة على جوازك مني!
وزعت نظراتها في جميع أنحاء الغرفة مُتحاشية النظر إلى عيناه تحديدًا، ابتلعت ريقها بتوتر ثم مسحت بلسانها على شفتيها لتُخفف من خوفها، رفعت أنظارها إليه فوجدته ينظر لها بترقب منتظرًا إجابتها، لتردف بتلعثم وهي تقترب منه: ف. فارس. انت. انت عارف إن جوازنا كان جواز صالونات ومش عن حب، في الحقيقة انت لما جيت تتقدملي كان أنا عندي 20 سنة، مكنتش متهيأة نفسيًا إني أتجوز وأكون مسئولة عن بيت وزوج وأسرة، فكنت رافضة موضوع الجواز، لكن أهلي فضلوا يزنوا على وداني لحد ما وافقت بيك غصب عني.
نظرت لملامح وجهه علها تستشف ردة فعله لكنها وجدته جامدًا وهذا ما أثار قلقها أكثر، استكملت حديثها بعد أن أخذت نفس عميقًا: بعدها اتجبرت على الجواز وطبعًا مبينتش ليك أي حاجة لحد ما اتجوزنا، ولو تفتكر أول ليلة مع بعض سوا اتكلمت معاك بعصبية وأسلوب وحش وانت افتكرتني متوترة وخايفة، بس دا عشان مكنتش بحبك ساعتها.
اقتربت منه عدة خطوات حتى وقفت قبالته مباشرة، لتُمسك بيده وهي تنظر لعيناه بشغف: بس انت كنت حنين معايا، كنت طيب وبشوش وتصرفاتك كلها معايا كانت بتثبتلي قد إيه انت قلبك أبيض، وحبيتك. حبيتك غصب عني ومن غير حتى تخطيط، بقيت أغلي حاجة عندي، بقيت روحي اللي مبقتش أعرف استغني عنها، بقيت كل حياتي يا فارس.
أنهت حديثها ثم قبلت يداه بحب كبير صنعه هو بحنانه، لتحيط بخصره بقوة واضعة رأسها موضع قلبه الذي ينبض بقوة: محبتش أقولك عشان دا ماضي، والماضي دا السبب اللي جمعني بيك، كل ما أشوف أبويا وأمي اللي زنوا عليا عشان أتجوزك ببوس إيديهم وراسهم، انت أحلي حاجة حصلت في حياتي يا فارس.
لم يحتمل قلبه كل تلك الكلمات التي تُصيب قلبه، ولا إراديًا إلتفت يداه حولها يحتضنها بقوة، همس بعشق وهو يدفن وجهه بعنقها: كل مرة بسمع كلمة بحبك منك كأني بسمعها لأول مرة.
مقدرش أقسي عليكِ أكتر من كدا بس لما سمعتك بتتكلمي في التليفون وبتقولي إنك كنتِ مجبورة على الجواز مني ساعتها قلبي وقف ومكنتش قادر أتحرك من مكاني، حسيت إني روحي اتاخدت مني ودلوقتي بس رجعتلي، أنا لو قدرت أبعد عن الدنيا دي كلها مش هقدر أبعد عنك يا زهر، مش هقدر أبعد عنك غير بموتي.
انقبض قلبها عقب كلمته الأخيرة، لتقول بلهفة وهي تزيد من ضمه: بعد الشر عليك. متقولش كدا تاني.
أراد ممازحتها فقال وهو يغمز لها: خلاص ولا تزعلي نفسك. تيجي في شهاب أخويا واحنا لأ.
أطلقت ضحكات مرتفعة على حديثه ناسية بأنها كانت تبكي منذ قليل، لتقول بيأس وهي مازالت تضحك: وشهاب ماله دا حتى غلبان.
لوى شفتيه بسخرية وهو يتذكر وقوفة أمام والده بالأسفل كطفل مذنب صغير: سيبك دلوقتي من شهاب فهو الان يُحاسب وهيتنفخ.
قطبت جبينها بتعجب وهي تسأله: هيتحاسب على إيه مش فاهمة؟
أمسكها بمعصمها ثم قربها له مُحيطًا بخصرها حتى باتت مُلتصقة به، غامزًا له بوقاحة وهو يحملها بين ذراعيه: سيبك من شهاب دلوقتي وخليه يولع، إنما دلوقتي حسابك يا جميل.
(نعتذر عن كثرة المُحن وذلك لسوء الأحوال العاطفية، وشكرًا).
ذهب كلًا من طه و إبراهيم و خليل إلى منزل عائلة النويهي وبالطبع على رأسهم الجد الأكبر أبو زيد، صعدوا درجات السلم العريضة بهدوء، وها هم بعد سنوات كثيرة تَحُط أقدامهم ذلك المنزل الذي عاهدوا بمقاطعته مدي الحياة، ومع كل درجة يصعدونها تتشكل تلك الذكريات السيئة التي كانت سببًا في التفريق بين عائلتين كان بينهم ثقة وعهد كبير.
وصلوا للطابق الأول فإستمعوا لصوت صراخ رجولي قادم من الداخل، وهناك تشجيع من بعض الأطفال، كان الأمر جنونيًا بعض الشئ عليهم، فقطبوا جبينهم بتعجب ثم أردف خليل بسخرية: هو إيه اللي بيحصل جوا دا! هما لسه صغيرين على الكلام ده!
استنشق الجد الكبير أبو زيد قدرًا كافيًا من الهواء ثم زفره على مهل، ليُحدق بإبنه وهو يُشير ل طه الإبن الأكبر له: متستغربش يا خليل، ما احنا عندنا الأهطل الكبير بيتخانق مع ولاده عشان الشيكولاتة، يعني ليس عليهم حرج.
كتم إبراهيم ضحكاته المهددة بالصعود بصعوبة، وحمحم طه بجدية زائفة مُردفًا وهو ينظر لأخيه بتحذير: ملوش لزوم الكلام دا يا حَج، خلينا نخلص اللي جايين عشانه.
طالعه أبيه بإستنكار، فتحولت تعبيرات وجهه إلى الجدية الشديدة وهو يقوم بطرق باب منزل سلطان النويهي والد فارس وشهاب.
لم يستمع الجميع لصوت الجرس الذي يطرق سوي لوچي، لذلك هرولت ناحية الباب لتفتحه حتى تستطيع الإستمتاع بالعرض الفريد من نوعه وهو ضرب عمها شهاب، جلست مكانها مرة أخري بعدما تركت الباب مفتوحًا والأربعة رجال ينظرون للموقف بدهشة.
فقد كان سلطان ممسكًا بعصا كبيرة غليظة وهو يهرول خلف إبنه ضاربًا إياه على مؤخرته وهو يصيح بغضب: والله لهوريك يا ساقط يا فاشل يابن ال.
تأوه شهاب بقوة ممسكًا بموضع ألمه وهو يترجى والده بالعفو عنه: يا بابا هو انا لسه امتحنت! يا حج اسمعني بس آااااه، دي ماما ودخلت ما بينا.
هتحط راسي في الطين يخربيت أبوك على بيت أمك، هخلص عليك يابن ال النهاردة.
أمسك سلطان بياقة ملابسه فتعثر به، ليقع فوقه بقوة ويصدح صوت شهاب الصارخ المتألم: هموت الحقوني.
تشكل على ثغر سلطان ابتسامة شريرة وهو يهمس له: وقعت تحت إيدي يا فاشل يا كلب.
رفع شهاب نظره للأعلي عله يجد من ينقذه من براثن أبيه، وما كاد أن ينطق حتى شهق بصدمة: عيلة أبو زيد!
كانت الأعين متعانقة برباط بدأ يُنسج بخيوط قوية تحاول التشكُل، بدأ الحب يتسلل لقلوبهم دون إستئذان، والفؤادُ ينبض عند التقارب مسببًا الأمان، كانت تسلبه بدون وعي وهو يقترب منها بوله، تشكل الخجل على وجه نوال من إقترابه المفاجئ، لم تحبه بعد لكن يكفي ذلك الشعور اللذيذ عند قربه، شعرت بفراشات تُدغدغ معدتها، بينما هو هتف بدون وعي: إيه الچمال دا يابت عمي!
عضت على شفتيها تلقائيًا فاقترب منها أكثر وأكثر حتى كاد أن ينال مبغاه، لكن ذلك الصوت القوي الذي صعد من خلفهم جعلتهم يبتعدون بفزع: بتعملوا إيه انتوا الإتنين إياك!
ارتبكت نوال وابتعدت عنه على الفور عندما رأت نظرات جدها الصارمة، لذلك هرعت للخارج بعد أن سددت نظرة نارية إلى بدر، وقابلها هو بأخري متسلية.
اقترب منه جده بصرامة بعد أن خرجت نوال، ثم تحدث ناهرًا إياه بحدة: إيه يا واد المسخرة دي! ملكش أوضة إياك عشان تعمل إجده في المطبخ!
تشكل على ثغر بدر إبتسامة والهة عند تذكره لزوجته: يا چدي انت لو مكنتش چيت دلوجتي أنا كنت...
كنت إيه يا جليل الحيا.
قاطعه عن وقاحته تلك وهو ينهره بشدة، وما هي إلا ثواني وتحولت نظراته للعبث متشدقًا بوقاحة تُماثل وقاحة حفيده: ولا انت بتبجي زي الكتكوت معاها إياك.
وه يا چدي إيه اللي بتجوله ده. لع طبعًا أنا بس سايبها على راحتها. لكن غير إجده هي مرتي.
قهقه جده بصوت عالي وغبث لم يُخفيه شيبه، ثم أردف ضاحكًا: بحسبك كسفتنا يا واد.
غمز له بمكر وهو يقترب منه قليلًا ليُربت على كتفه ويحدق به بنظرات ذات مغزي: لع يا چدي متجلجش. أنا زيك كل حاچة. حتى آ...
قاطعه جده وهو يضربه في معدته بقوة ولم يستطيع تمالك ضحكاته: بس يا حيوان. واطلع شوف مرتك اللي هتطين عشتك.
امتثل بدر لأمره بلهفة متحدثًا بثبات مزيف: أوامرك يا كبير. عن إذنك بجا أشوف الجشطة. قصدي مرتي.
كان يعمل بجد في الورشة الخاصة به وعقله مشغول بتلك التي سلبت قلبه ولم يرها منذ عدة أيام، رفع محمود بصره لشرفة ميران عله يلمح طيفها ليروي ظمأه من شدة إشتياقه إليها، فلم يجد سوى السكون المُحيط بغرفتها، ل ربما مازالت حزينة على شقيقتها، أو حزينة منه هو.!
تنهد بإشتياق ظهر على خلجاته بوضوح، ثم همس لنفسه بسخرية: وانت كنت بتقولها تنساني! دا انا ممكن أهد الحارة على اللي فيها لو بقت من نصيب حد تاني. مغفل صحيح.
جاء أحد الصبية وهو يحدق به ببلاهة: انت بتكلم نفسك بشمهدس محمود!
لم يُجبه بل كان شارد في عالمه الوردي مع تلك الفاتنة المختفية عنه منذ الآن، ضرب الصبي يده على الآخري وهو يقول بيأس: لا حول ولا قوة إلا بالله. دا انت حالتك صعبة خالص.
انتبه له الآخير ليُلاحظ نظراته المستنكرة تجاهه، قطب جبينه بتعجب وهو يسأله: في حاجة يا موكشة! واقف متنح كدا ليه!
مصمص المدعو موكشة على شفتيه مُجيبًا إياه بسخرية: أنا برضه اللي متنح بشمهندس! ما تشوف منظرك عامل إزاي.
اقترب منه محمود وهو يربت على ذراعه متشدقًا بإستنكار: لا كتر خيرك يا موكشة والله، وإيه لازمتها بشمهندس بقا! ما تقولي يا محمود حاف كدا وخلاص.
هز موكشة رأسه برفض تام وهو يُجيبه بإحترام زائد: لا طبعًا مينفعش يا بشمهندش، انت الكبير ولازم احترمك.
رفع محمود حاجبه بإستنكار، ثم تحول وجهه إلى الصدمة عندما استمع لصوت الآخر يقول بصوت شبه آمر: ويلا بقا بلاش دلع ونشوف شغلنا بدل العطلة دي.
قال كلماته بصرامة ثم ذهب من أمامه بعهجية واضحة ليرى العمل المُكلف به، ليتشدق محمود بعد تصديق: هو مين اللي شغال عند مين!
لوى شفتيه بضجر ثم ذهب خلفه لإكمال عمله وهو يتوعد له، ولكن رمى نظرة خاطفة على الشرفة فوجدها كما هي، تملكه الإحباط ليهتف بصوت هامس ومتوسل: ربنا يجمعني بيكِ على خير يا ميرانِ.
أقرب السُبل للوصول إلى القلب هي المشاركة، وهذا ما كان يفعله ريان عند سيره مع غزل، في البداية أحست بالملل والضجر تجاهه، لكن حديثه العفوي كان يجذب إنتباهها رغمًا عنها، هو رجل بعقل طفل لم تلوثه الخطايا بعد، تشعر بالإنجذاب تجاهه لا تُنكر هذا، ومع ذلك تحاول قتل ذلك الشعور المخيف، ضحكت بخفوت عندما استمعت لحديثه المتسائل: أوعي تكوني زهقتِ مني! والله هحكيلك برضه.
هزت رأسها بالنفي وهي تضحك بخفة: بالعكس، كلامك شيق وممتع أوي، بحس إني بكلم طفل قدامي.
رجلًا غيره كان سيغضب عند نعته بالطفل، لكن هو اتسعت ابتسامته على أخرها والتمعت عيناه فرحًا، مردفًا بتلقائية: الكل بيقولي كدا، وأنا بفرح، انا فعلًا جوايا طفل مشفش من الدنيا إلا قليلها، فبحاول على أد ما أقدر أعيش حياتي، حتى لو الناس شايفة إن دي تفاهة، بس أنا بفرح من أقل حاجة.
ظلت تنظر له وتستمع لحديثه ولم تُعقب، فتلك الروح النقية من الصعب وجودها حقًا، لاحظ شرودها به فحمحم بحرج ثم سألها بفضول: محكتليش عنك. عايز أعرف حياتك كانت إزاي.
أكملت السير بجانبه في مكان بعيد عن المارة حتى لا يتم القبض عليهم، بدأت بسرد حياتها بأسلوب مشعث، لا تعلم بما تبدأ، فحياتها عادية للغاية، فتاة صغيرة تربت بين أسرة تحبها وعائلة تعاملها كإبتهم، ثم إلتحقت بالمدرسة لتبدأ في تكوين الصداقات العابرة، ولكن لسوء حظها لم تجد من يظل معها للأبد، فالجميع فترات في حياة الآخر كما تقول هي، ثم التحقت بالجامعة، ورغم أنها لم تكن هدفها وغايتها منذ البداية، ابتعدت عن الإرتباط الغير شرعي من الجنس الآخر، وبدأت تدرس بجد في العام الثاني منها، حتى تخرجت من كلية الحقوق وهي في سن الثانية والعشرون من عمرها بتقدير عالي، ومن ثَم قامت بفتح مكتب المُحاماة الخاص بها، لتساعد الجميع في رد الفساد، ومن لا يملك قدرة الدفع تجعله مجانًا، كانت تستمع لكثير من الدعوات من أهل المنطقة وهذا كان ما يُفرحها أكثر.
انتهت من حديثها فوجدته يحدق إليها ببسمة صغيرة مرتسمة على ثغره، ونظراته بها شئٌ من الغموض والحنان بنفس الوقت، سألته بإستغراب وهي تضيق عينها برهبة: مالك بتبصلي كدا ليه!
أخذ نفسًا عميقًا وزفره على مهل، ثم بدأ بالحديث: تعرفي اللي زيك بقا قليل! احترمت جدًا كلامك إنك مرضتيتش ترتبطي في جامعتك زي بنات كتير، دا شئ انا عن نفسي بشمئز منه، وكأي راجل عمري ما هآمن حياتي وولادي مع واحدة قبلت إنها تكلمني قبل كدا، للأسف أغلب البنات بيرخصوا نفسهم تحت مسمي الحب أو الصداقة، والحقيقة مفيش حاجة أسمها صداقة بين الولد والبنت، الولد عمره ما هيبصلك ك صديقة أو ك أخته، طبيعة الراجل فيه رغبة هي اللي بتحركه، وبيتكلم مع البنت برضه تحت مسمي الصداقة، وهي زي الهبلة هتصدقة، وفي الآخر في حد فيهم هيغلط وهيحب التاني، وهتنتهي العلاقة في أقل من ثانية لأن ربنا عمره ما هيبارك في حاجة حرام.
أفضل الهدايا لأحبائكم
هزت رأسها إقتناعًا بحديثه، هي تعرف كل هذا لذلك لم تضع الحب هدف أساسي لها، صمتت قليلًا ثم نظرت له متسائلة: يعني اللي احنا بنعمله دا مش غلط!
طالعها بهدوء، ثم هز كتفيفه بجهل هاتفًا بتفكير: مش عارف بصراحة، بس الظروف هي اللي حطتنا في أمر زي دا، احنا مخترناش طريقنا سوا، احنا اتجبرنا على كدا.
أطلقت زفيرًا حارة من رئتيها ثم تمتمت: معاك حق، بس مقولتليش احنا رايحين فين! وليه رجعنا الحتة المقطوعة دي تاني!
رايحين ل موسى.
هكذا هتف بحماس شديد وهو يتخيل جلوسه بين هاربي الجبال، بينما هي توقفت ونظرت له بصدمة صارخة بوجهه: بتقول فين!
ابتلع ريقه بتوتر وهو ينظر لهياجها المفاجئ ثم تمتم بهمس: بقولك ل موسى.
جزت على أسنانها بغيظ، فأحيانًا تود أن تقتله حتى تتخلص من غبائه هذا، وأحيانًا أخرى يكون لطيفًا للغاية، فتحت عيناها ثم صرخت بنفاذ صبر: على جثتي أروح للمكان دا تاني. انت سامعني!
بعد عدة دقائق كثيرة كان يُمسك بيدها ساحبًا إياها خلفه رغمًا عنها، حتى كادوا أن يصلوا إلى وجهتهم، صرخت فيه بشدة وهي تضرب على ذراعه لتركها: سيبني انت مش ساحب حمارة.
لم يُطعها بل نظر لها بسخرية مردفًا: انتِ مش حمارة، انتِ بقرة صغيرة.
شهقت بعنف من وقاحته لتفتح عيناها على آخرهما مرددة خلفه بعدم تصديق: أنا بقرة!
وصغيرة.
أكد عليها لاويًا شفتيه بضحكة كادت أن تفلت منه، ثواني وكانت تعابير وجهه تدل على الألم، نظر ليده حيث ذلك الألم الحارق فوجدها تقبض بأسنانها على ذراعه بحدة، توقف ليصرخ بها ثم جذبها من حجابها لتتركه: آااااه يا بنت الغضاضة، سيبي إيدي.
هزت رأسها بالنفي وأسنانها تشتد على ذراعه، ليجذب شعرها من أسفل الحجاب لتصرخ هي الأخري بألم، ليكون المشهد كالتالي:
غزل تغرز أسنانها بيد ريان ك عقابًا له على حديثه.
و ريان يجذبها حجابها ويمسك بعض خصلات شعرها أيضًا لتتركه.
تأوهت غزل بشدة صارخة به: سيب شعري.
صرخ ريان بالمقابل وهو يشعر بأسنانها تخترق جلد ذراعه: سيبي أيدي الأول وأنا أسيب الأول.
وبعناد شديد هزت غزل رأسها بالنفي: سيب وأنا اسيب.
لأ سيبي الأول وأنا أسيب.
خلاص نسيب مع بعض.
راقت الفكرة ل غزل لتوافقه في الرأي، لكن تحدثت محذرة: لو غدرت هخلي يومك أسود.
يلا هنعد لتلاتة ونسيب سوا.
بدأ كلاهما في العد لثلاثة، وبعد الإنتهاء لم تترك هو ذراعه، وهو لم يترك خصلاتها، ليصرخ بها بغضب: يا غدارة كنت عارف.
تأوهت بقوة لتُخرج أسنانها من ذراعه، وبالمقابل ترك هو شعرها، نظر كلاهما للآخر بضجر، وأكملا السير بملامح واجمة للغاية، نظر ريان ل غزل بطرف عينه، ليجدها تنظر له أيضًا، ثواني وكانا الإثنان ينفجران في الضحك، لم يتوقعا بأن تصل بهم التصرفات الطفولية بهذا الحد.
لم يستطيع ريان تمالك نفسه ليقهقه بشدة وهو يُمسك بموضع قلبه، و غزل أدمعت عيناها من الضحك هي الأخري، وللمرة الثانية يسرقهم الوقت لينسجوا بداخل عقولهم ذكريات ستظل محفورة مدى الحياة.
تابعووووووني
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أدخلوا واعملوا متابعة لصفحتي عليها كل الروايات بمنتهي السهوله بدون لينكات من هنا 👇 ❤️ 👇
صفحة روايات ومعلومات ووصفات
❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺
تعليقات
إرسال تعليق