رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والعشرون حتى الفصل الثلاثون حصريه وجديده
ريان انت. انت لسه ساخن
تذكرت حينما ارتفعت حرارته أمس، لكن فعلها للكمادات طيلة الليل ساعدته على إنخفاضها، وتلك المسكنات التي قامت بإعطائها له، قاطع شرودها عندما أمسك بيدها التي تُلامس جبهته مُقربًا إياها من شفتيه مُقبلًا إياها بعاطفة جياشة، تلاها همسه الخافت بعشق: بحبك...
لو كان صوت النبضات يُسمع؛ لسمعه العالم بأجمعه، تنفست بحدة حتى شعرت بإنسحاب الهواء من حولها، كلمة واحدة كانت بمقدورها تغيير حالها، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم أردفت بعدم تصديق وصوت مُتحشرج: ب. بتقول إيه!
أغمض عيناه وفتحها مرة أخرى بتيهة، يبدو أنه بين حالة الوعي واللاوعي الآن، حاول الإعتدال في جلسته فتأوه بصوت خفيض، ساعدته على الإعتدال بأيدي مُرتعشة ومازالت تؤمن بأنها مازالت داخل حلم جميل ستفيق منه، لكن بمجرد ما اعتدل حتى مال عليها واضعًا رأسه موضع قلبها مُتشدقًا بصوت لاهث: مش عايز اسمع جوابك دلوقتي. المهم إنك معايا.
أنهى حديثه ثم لف يده حول خصرها مشددًا من إحتضانها وهي مازالت في حالة صدمة، ومن شدة توترها تجمعت العبرات في عيناها، لا تُصدق ما سمعته، كانت تظن بأن ما تشعر به تجاهه هو قليلٌ من الإعجاب لا أكثر، لكن مجرد ما نطق بحبه لها حتى نبض قلبها بشكل مخيف، بدرجة هي بحد ذاتها لا تُصدقها!
حاولت دفعه بعيدًا حتى تستعيد ثباتها، فوجدته قد ذهب في نومٍ عميق، يبدو أنه حقًا لم يكن غير واعي، لم يكن يشعر بها من الأساس، أغمضت عيناها وسحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل، وبتردد شديد رفعت يدها واضعة إياها على خصلاته تُمسدها بحنان، أغمضت عيناها بهدوء لتهبط دمعة شاردة منها ثم همست بما صدمها هي قبل ذلك الذي كان يشعر بجميع ردات فعلها: وأنا كمان. بحبك أوي.
استمع لها بعدم تصديق، لو كان يستيطيع الحركة؛ لكان قبَّلها رغمًا عنها وعن الجميع وليحترق العالم بأجمعه.
شدد من احتضانها فشعرت هي به، ابتلعت ريقها بإرتباك تدعو ألا يكون استمع لها، تحاول تهدئة ضربات قلبها الصاخبة بقربه، لكنها لا تستطيع، كانت دائمًا تراه طفلًا يحتاج للعناية، والآن تيقنت من ذلك، فهو طفل كبير في ثياب رجل ناضج حنون، وهذا أكثر ما جذبها إليه.
ثقُلت أجفانها بنعاس، لتُغمض عيناها بإستسلام وراحة، راحة ولذة بقربه، راحة من الممكن أن لا تدوم طويلًا!
استيقظ طه مُبكرًا وهو يشعر بالصداع بفتك برأسه، نظر حوله فوجد ذاته في غرفة ذات جدران بيضاء لا يعلم متى أتى إليها، نظر تجاه يده بإستغراب ليجدها موصلة بمحلول شفاف مُعلق على حامل معدني، وآخر ما يتذكره هو جلوسه أمام غرفة العناية وبكاؤه طيلة الليل، ومن بعدها لم يتذكر شيئًا آخر.
فاق من شروده على دخول الممرضة إليه وعلى ثغرها ابتسامة خفيفة، فتشدقت مُتسائلة: عامل إيه دلوقتي يا حَج!
وضع يده على رأسه بألم متحدثًا بتعجب: انا إيه اللي جابني هنا.
تفحصت المحلول وكذلك حرارته ثم أجابته بهدوء: حضرتك أُغمى عليك إمبارح وقريبك هو اللي لحقك.
قطب جبينه بتعجب مُتسائلًا بدهشة: قريبي مين! انا ممشيهم كلهم إمبارح.
انتهت من عملها وفحصه ثم أجابته بإبتسامة عملية وهي تُدون الملاحظات الخاصة بحالته: بيقول إنه جوز بنت حضرتك، وهو دلوقتي معاها.
صُدم من تصريحها مُرددًا خلفها بصوت خافت: جوز بنتي!
نظرت له ولم تفهم شئ من همسه مُردفة: حضرتك دلوقتي بقيت كويس، انت ضغطك كان واطي إمبارح ودا اللي سبب الإغماء اللي جالك، حاول متضغطش على نفسك أوي، عن إذن حضرتك.
أومأ لها بهدوء، وبمجرد ما تركته وذهبت؛ حتى وقف بتمهل ليذهب لإبنته ويرى زوج ابنته المزعوم!
وصل إلى غرفتها الموجودة بها، ناظرًا للزجاج الشفاف، ليجد معتصم النويهي جالسًا بجانبها مُمسكًا بمعصم يدها، يُقبله تارةً ويُربت عليه تارةً أخرى، تنغص جبينه بغضب من وجوده، ثم دلف للغرفة بهدوء شديد ليرى إلى أين تصل علاقتهم.
اقترب منه ولم يشعر به الآخر، بل كان ينظر لتفاصيل وجهها التي يعشقها بوله وألم بذات الوقت، مسد على خصلاتها بحنان قائلًا بعتاب: كدا يا سوچي! هان عليكِ نفسك للدرجادي!
بينما جز طه على أسنانه بغيرة وهو يراه يُناديها باللقب خاصته، منع نفسه بصعوبة من الذهاب له والفتك به، لكنه تحامل على ذاته ليصل للنهاية.
بينما أكمل معتصم حديثه بحشرجة: ليه عملتي كدا! ليه بتهربي من الكل بإنك تنتحري! عارف إن نفسيتك وحشة بس كان ممكن تحكيلي زي ما بتعملي دايمًا، انتِ عارفة إني ببقى مبسوط لما تحكيلي، وبحاول على أد ما أقدر إني افرحك، ليه كسرتيني كدا!
أخذ نفسًا عميقًا ثم أكمل بعدما هبطت دموعه بألم: تعرفي انتِ لو كان حصلك حاجة أنا كان ممكن اموت فيها! عارف إنك بتعتبريني كصديق بس أنا حبيتك، حبيتك ومقدرتش اتحكم في مشاعري أكتر من كدا، شكلك اللي مكنتيش بتحبيه كنت انا بتلهف عشان أشوفه، بحبك وبحب كل تفاصيلك بس انتِ اللي غبية، غبية ومحستيش بيا وكنتِ بتحبي واحد معندهوش دم، بيجرح فيكِ وبيكسر قلبك وانتِ مستحملة، بس أنا هحافظ عليكِ، هحافظ على قلبك من الكسرة، عشان أنا بحبك. بحبك ومش هتعب لو قولتها في كل ثانية وكل لحظة، بحبك أوي يا سوچي.
ربَّع طه ساعديه وهو ينظر له بضجر، ربتَّ على ذراعه من الخلف بحدة قليلة، لينظر له معتصم بطرف عينيه، ثم وقف احترامًا له وهو يمسح تلك الدموع بعينيه قائلًا: اتفضل يا عمي.
عاد طه يُربع ساعديه مرة أخرى وأردف بهدوء كأنه لم يستمع لحديثه منذ قليل حتى لا يقوم بإحراجه: انت اللي قولت للممرضة إن سجود مراتك!
أومأ له معتصم بهدوء ثم تحدث وهو ينظر له ببرود: آه، هتبقى مراتي، بس لما تقوم بالسلامة الأول.
رفع حاجبه ببرود مماثل له متشدقًا بسخرية لازعة: ابقى اتغطى وانت نايم، وبنتي متجيش ناحيتها تاني، كفاية إن انت السبب.
حاول معتصم التحكم في أعصابه، ليجز على أسنانه بغيظ وهو يُردف: مش انا السبب، انتوا اللي وصلتوها لكدا، و سجود هتجوزها لأني بحبها، والعداوة اللي بين العيلتين ملناش دعوة بيها، اتصافوا مع بعض.
أمسكه طه من تلابيبه متحدثًا بغضب وصوت عالي رغمًا عنه: اسمع يلا، الكلام اللي بتهلفط بيه دا تنساه خالص، بنتي مش هتدخل عيلتكوا مهما كان التمن.
طالعه معتصم بهدوء ثم تسائل: ممكن حضرتك تقولي على السبب! ليه العداوة دي! ليه الكُره دا!
أنزل طه يده ناظرًا له بحقد: روح اسأل أبوك، روح اسأل عيلتك، روح اسأل مرات عمك ماجدة هانم!
فتح معتصم عيناه بصدمة من ذِكر اسم زوجة عمه، ما علاقتها بكل ذلك! كان يظن أن العداوة بين الرجال فقط، لكن يبدو بأن للنساء دَخل بها.
في تلك الأثنلء دخلت عليهم الممرضة التي قكبت جبينها بغضب متسائلة بهدوء بعض الشئ: انتوا إيه اللي دخلكوا هنا! لو سمحت اتقضلوا اطلعوا برا مينفعش اللي بتعملوه دا.
امتثل الاثنان لحديثها ثم خرجا من غرفة العناية، تقابل معتصم بوجه طه قائلًا بتحدي: هعرف كل حاجة النهاردة.
قال كلماته ثم ذهب من أمامه مُصممًا على معرفة الحقيقة، الحقيقة المُخبأة عن الأحفاد وهم وحدهم مَن يدفعون ثمنها، نظر طه لأثره بيأس وداخله خوفٌ كبير، يبدو بأن النزاعات ستقوم مرة أخرى بسؤال الحفيد الأصغر!
الوجود وسط العائلة يُعطي للحياة نكهة مُختلفة، نكهة بطعم الحب، التسامح، الود، لكن تلك العائلة لم تكن سوى بعائلة مراهقة، عائلة تُسبب الجنون، تُخرجك عن السيطرة.
نفخت وصال بغيظ وهي تستمع لصراخ والداها الطفلان! نعم طفلان بكل معنى الكلمة، لا تعلم لما تتحملهم وتتحمل جنونهم، أحيانًا يأتي في بالها أفكارًا شيطانية للتخلص منهم لكن قلبها النقي يمنعها عن ذلك! فهما بالنهاية والداها!
جلست على الفراش بشعر مُشعث ودمٌ يغلي من الغضب، تكادُ تفقد أعصابها حقًا من مشاجرتهم اليومية، وقفت من مضجعها ثم خرجت لهم لتستمع لصوت صراخ والدها الساخط: بقا يا ولية يا بومة انا طِفس! بعد ما كلتي الفطار كله ومسبتليش غير طعمية واحدة في الآخر أنا اللي طِفس!
تخصرت والدتها في مكانها ثم رفعت يدها الآخرى بوجهه مردفة: ما هو قرك دا اللي جايبني ورا، انا خسيت نص كيلو في الشهر يا مفتري من الحسد، انا كنت حاسة إن عينك في حياتي يا راجل يا كركوبة.
شهق علي بصوت عالي قائلًا بسخط وهو يرفع شفتيه بإستنكار: نعم نعم! هو مين دا اللي كركوبة يا ولية يا معفنة يا مصدية! دا أنا كتر خيري إني رضيت بحُرمة تجيب الفقر زيك! وانتِ كان مين يرضى بيكِ يا معفنة!
أشارت لنفسها قائلة بغلظة: معفنة! مش كفاية العِرة اللي مخمودة جوا دي شبهك! بدل ما يكون فيه منك واحد بقا فيه اتنين نفس المنظر المُقرف.
فرغت وصال فاهها بعدم تصديق وهي تُشير لذاتها بصدمة، ما دخلها هي الآن! دخلت في المشاجرة موجهة حديثها لكليهما: هو الواحد مش هيعرف يتخمد في أم البيت دا!
وفي ثانية واحدة وقبل أن تتحدث كلمة أخرى كان نعل والدتها يحتضن وجهها بقوة، ارجعت هي رأسها للخلف بألم لتستمع لصياح والدتها التي تركتها هي وأباها ينظرون لأثرها بسخط: غوري انتِ كمان دا انتِ تربيتك زبالة، يارب خُدني وريحني من الغُلب دا...
خفت صوتها بالتدريج عندما دلفت لغرفتها قبل أن تُغلق الباب خلفها بحدة مُسددة لهم نظرة ساخطة مُحتقرة، كادت وصال أن تبكي حقًا من الغيظ لكن لا تعلم ما عليها فعله لرد الإعتبار، نظرت لوالدها الذي نظر لها بإبتسامة بلهاء، ثم رفع يده مُرحبًا بها بحماقة: هاي يا بنتي.
آااااه.
صرخت بعدم تصديق وهي تشد في خصلاتها ثم دخلت إلى غرفتها بغضب، حاولت تنظيم أنفاسها الغاضبة وإكمال نومها، لكنها تذكرت موعدها مع الأطفال لتستكمل لهم دروسهم، بكت بقلة حيلة ولكم تمنت ترك ذلك المنزل بما فيه.
وصل معتصم إلى منزله، وتحديدًا عند منزل عمه سلطان، طرق الباب بخفوت لتفتح له ماجدة قائلة بترحيب: تعالى يا حبيبي، ليك وحشة والله.
ابتسم لها بخفوت ثم دلف للداخل ليجلس على الأريكة الوثيرة براحة، تلفت حوله متسائلًا بإستغراب: هو عمي مش هنا ولا إيه!
أمسكت بزجاجة المياة ثم صبت له في كأس صغير لتُعطيها له وهي تُجيبه: لأ مش هنا، راح يعاين الفرز الجديد للبضاعة، أصل تكون مغشوشة ولا حاجة.
هز رأسه عدة مرات ثم ارتشف قليلًا من المياه، حمحم عدة مرات لا يعلم بماذا يبدأ حديثه، لكنه حسم أمره بسؤالها، لذلك قال دون مراوغة: مرات عمي عايز أسألك على حاجة.
حاجة إيه يا حبيبي! اسأل طبعًا.
هو حضرتك ليكِ علاقة بالعداوة اللي بين العيلتين!
شحب وجهها فجأة من سؤاله الصريح والمباشر، انسحبت الدماء منها ناظرة إليه بعدم تصديق، من أين أتى بهذا الحديث! وكيف عرف علاقتها بهم! وما الذي يعرفه عنها غير ذلك! العديد والعديد من الأسئلة تدور في رأسها بلا رحمة، وإجابتها لديه فقط.
سألته بصوت خافت ومازالت تعابير الصدمة والدهشة مرسومة على وجهها: انت. انت جبت الكلام دا منين! مين اللي قالهولك!
علم بأنها تعلم كل الحقيقة، وهو يريد أن يعرفها بشدة، لا يستطيع التخلي عن سجود بسبب تلك العداوة المجهولة بالنسبة له، يريدها له ولو مهما كلفه الثمن، لذلك أردف بتصميم دون أن يُراعي حالتها الشاحبة: أيوا أنا عرفت إنك السبب، انتِ سبب الدمار اللي حصل بينا، اللعنة اللي نزلت علينا بسببك انتِ.
كان يهذي بكلمات غير صحيحة ليسمع اعترافها، وخطته جاءت لصالحه عندما نفت بدموع وهي تهز رأسها بالنفي: محصلش، انا اه غلطت زمان بس اعترفت بغلطي ل سلطان، هو عارف كل الحقيقة وسامحني عليها، انا رحت اعترفتله بكل حاجة بس ميادة هي اللي صممت على الطلاق واتجوزت نجدت.
سألها بإستغراب وهو لا يفقه أي شئ مما قالته: وانتِ عملتي إيه!
تنهدت ببكاء مُستندة على ظهر الأريكة: انا هحكيلك كل حاجة، بس توعدني إنك متحكيش حاجة لحد.
أومأ لها بهدوء، ثم بدأت هي بسرد ما حدث منذ زمن بعيد ودموعها تهبط بحسرة:
.
عند إتفاق ماجدة مع نجدت لأخذه ل ميادة مقابل سلطان ؛ بدأت خطتهم الشيطانية في التنفيذ، أصبح نجدت يذهب ل منزل سلطان يوميًا، ورغم أن ميادة كانت تشعر بعدم الإرتياح تجاهه؛ لم تُخبر سلطان بذلك حتى لا تفتعل المشاكل.
اتفق نجدت مع ماجدة بتصوير ما سيقوم بفعله، قطبت جبينها بإستغراب سائلة إياه: هتعمل إيه يا نجدت!
حدجها بغلظة ثم تحدث بحدة: ملكيش دعوة يا ماجدة، اعملي اللي بقولك عليه وخلاص، دا لو عايزة حبيب القلب.
شعرت بالقلق والريبة من طريقة حديثه، وللحظة شعرت بالندم على ما تقترفه تجاه صديقتها ميادة، والتي كانت خير عون لها، لمح نجدت التردد على تقاسيمها، ليبدأ ببخ سمه داخل عقلها: متفكريش كتير، دي الطريقة الوحيدة السليمة، وهي مش هتتأذي ولا سلطان كمان هيتأذي، وكل واحد فينا هيعيش مع اللي بيحبه.
اقتنعت بحديثه قليلًا ومازال عقلها يوبخها على فعلتها، لكنها حسمت أمرها وانتهى الأمر، أمسكت بكاميرا الهاتف ثم بدأت بتصوير نجدت من بعيد وهو يقوم بطرق باب منزل سلطان، في تلك الأثناء فتحت ميادة التي نظرت له بإمتعاض متحدثة بهدوء مزيف: ازيك يا استاذ نجدت، كان نفسي أقولك اتفضل بس سلطان مش موجود.
تحدث نجدت بخبث وهو يمسح جانب فمه: ومين قال إني عايز سلطان، انا عايزك انتِ يا ست البنات.
فتحت ميادة عيناها بصدمة وما كادت أن تتحدث، حتى وجدت خصرها مُحاط بيد نجدت الذي حاول الإقتراب منها وتقبيلها، وهي كانت كالمُغيبة من الصدمة، فاقت من صدمتها فدفعته بعيدًا عنها، وكاد أن يقترب مرة أخرى؛ حتى صفعته بقوة شديدة وبغل أشد.
وضع نجدت يده على وجهه بعدم تصديق والتمعت عيناه بشراسة وكأنه تحول لحيوان مفترس، شهوته هي التي كانت تُحركه في تلك الأثناء، لذلك دفعها للداخل رغمًا عنها، مُكممًا فاهها حتى لا تفتضح أمره وبدأ بالتعدي عليها.
وبالخارج. صعدت نبضات ماجدة وازداد تنفسها من اشتراكها بتلك الجريمة، هي بحياتها لم تكره ميادة لكنها تغار منها وبشدة، ارتشعت اطرافها وسقط الهاتف منها بخوف شديد، هبطت الدرجات القليلة بسرعة، ثم دفعت الباب لتتصنم محلها عندما رأت نجدت يبدأ بالتعدي على ميادة!
هو وعدها بعدم أذيتها، والآن هو يذبحها بلا رحمة، سيجعلها أنثى بلا روح، وهي الآن تُشارك في جريمته الشنعاء، استفاقت بسرعة ثم ركضت إليه تُمسك به من ملابسه لتُجذبه، بينما شهوانيته أعمته تمامًا وقرر أن يُنهيها، صرخت به بقوة: فوق بقا انت بتعمل إيه!
لم يستجيب لها بتاتًا، لذلك أمسكت هي بالمزهرية وكسرتها فوق رأسه ليبتعد، صرخ بألم واضعًا يده فوق جرح رأسه النازف ناظرًا ل ماجدة بشر: انتِ اتجننتي!
لم تُجيبه؛ بل ذهبت إلى تلك التي انزوت على نفسها مُنفجرة في البكاء، احتضنتها ماجدة وظلت تبكي معها بندم على ما اقترفته، بينما نظر لها نجدت بسخرية لازعة متمتمًا قبل أن يذهب من أمامهما: هتبقي ليا بمزاجك أو غصب عنك يا ميادة.
.
مسحت دموعها بحسرة ناظرة ل معتصم الذي ينظر لها بسخط، فبررت قائلة: انا وقتها مسكتش والله، رُحت قولت ل سلطان على كل حاجة انا عملتها، واعترفتله بكل حاجة، وقتها ضربني بالقلم، بس انا مزعلتش، انا بالعكس فوقت من الغل والحقد اللي كان هيوديني في داهية، ومن هنا اتحولت المحبة اللي بين العيلتين لنزاع بعد ما سلطان راح اتخانق مع نجدت وسط بيته، بقى يرمي عليها كلام و، ويقول إن هي اللي كانت عايزاه وبتتبلى عليه، وقتها سلطان كان هيقتله بحد، ولولا طه وإبراهيم اللي دافعوا عن نجدت كان قتله ساعتها.
أخذت أنفاسها لتُهدأ من روعها مُكملة: ووقتها اخواته طبعًا وقفوا جنبه، نجدت من قبل ما يسافر كان محترم وابن ناس، بس بعدها كل تصرفاته اتغيرت، كان بيظهر للكل إنه ملاك وهو في الحقيقة شيطان، فمحدش من اخواته كان مصدق اللي اتقال عليه، وطبعًا عيلة النويهي مش هتكدب سلطان وميادة وبرضه عيلة ابو زيد مش هيكدبوا ابنهم، وابتدا من هنا الخلاف، الكُره بقا يزيد مرة ورا التانية.
لحد ما في يوم ميادة طلبت الطلاق من سلطان، الكل وقتها كان مصدوم ومش مصدقين طلبها، وهي اللي كانت بتموت في التراب اللي بيمشي عليه، طبعًا سلطان رفض تمامًا ومكن عارف سبب تصرفاتها الغريبة، بقت تتخانق على أقل حاجة وتطلب منه الطلاق، لحد ما جه في يوم قالتله بالنص كدا وقدام الكل انت مش راجل، ولو راجل تطلقني دلوقتي حالًا.
النار ولعت في قلب سلطان وضربها بالقلم ورمى عليها يمين الطلاق، وبعد ما العدة بتاعتها خِلصت، اتفاجئنا بجوازها من نجدت، الكل كان مصدوم، معنى كدا إن كلامه صح! بس انا أكتر واحدة عارفة نجدت وأفعاله الوسخة، أكيد هددها بحاجة عشان تطلق من سلطان وتتجوزه هو، وقتها رُحت تاني ل سلطان اطلب السماح منه، كان بقالي شهرين بطلب منه يسامحني وضميري بيأنبني، لحد ما وافق أخيرًا، ساعتها الدنيا مكنتش سيعاني وقولت هبعد عنهم خالص وهشوف حياتي.
بس وقتها صدمني لما طلب مني الجواز، اتصدمت ساعتها وكنت متأكدة إنه اتجوزني بس عشان يرد اعتباره، خصوصًا إن البيتين قُصاد بعض وأكيد هتعرف، أنا بصراحة وافقت لأني كنت بحبه، لكن قبل ما اتجوزه أكدت عليه هو مسامحني ولا لأ، أكدلي وقالي آه مسامحك المهم إنك فوقتي قبل فوات الآوان، واتجوزنا أنا و سلطان وعِشت معاه مُعززة مُكرمة وهو كان محترم جدًا.
بعدها بفترة عرفنا الخبر اللي صدمنا كلنا وخلى سلطان وفارس انهاروا حرفيًا، وهو إن نجدت قتل ميادة، دا دبحها كمان وبعدها انتحر هو.
كفكفت دموعها ثم نظرت ل معتصم الذي تأثر بما روته، يبدو أن السيدة ميادة قد عانت كثيرًا قبل موتها، بل وماتت مذبوحة أيضًا، تحدثت ماجدة بحشرجة: بس واللهِ يابني أنا مليش ذنب، انا فوقت وعملت اللي عليا وأكتر وبعدت عن كل حاجة.
تفهم معتصم حالتها، وإلتمس الندم منها، لذلك ربت على قدمها متحدثًا بحنان: إهدي يا مرات عمي، أنا كدا خدت اللي عايز اعرفه، متزعليش مني.
ابتسمت بخفوت وهي تهز رأسها بالنفي: مش زعلانة يا حبيبي.
قام من مجلسه ثم قبَّل رأسها بحب، ليذهب للمشفى مرة أخرى، ولكن تلك المرة وهو يعلم الحقيقة كاملة.
اختبأت زهر التي استمعت للحديث كاملًا بالصدفة وهي تكتم شهقات بكاؤها، الآن علمت لما يتحسس فارس من التطرق لهذا الموضوع تحديدًا، ذُبحت والدته بسكين الغدر وهو تحمل ذلك، صعدت للأعلى مرة أخرى وعيناها مليئة بالدموع وفؤادها يتألم من أجل تلك السيدة التي لم تراها من قبل.
دلفت لشقتها بحزن لتجد فارس يخرج من المرحاض ممسكًا بالمنشفة، رآها بتلك الحالة؛ ليذهب إليها مسرعًا متحدثًا بقلق: زهر. مالك يا حبيبتي!
لم تُجيبه، بل احتضنته بقوة ثم انفجرت في البكاء مُتألمة على حاله، لم تعلم بأنه يحمل كل ذلك الحزن داخل قلبه، الآن شعرت بذرة واحدة مما يشعر به، بادلها العناق بتعجب وهو يُهدهدها كطفل صغير، كانت تشهق بعنف مما زاد القلق بقلبه.
أخرجها من أحضانه مُتسائلًا بفزع: طيب. طيب انتِ تعبانة نروح للدكتور!
هزت رأسها بالنفي لتعاود إحتضانه مرة أخرى متشدقة بصوت متحشرج: لأ. خليني في حضنك بس.
أراد مشاغبتها حتى يعلم ما بها، ليردف بوقاحة وعبث: طيب وإيه لازمته الفيلم دا! ما تقولي عايزة قلة أدب وخلاص.
خرجت من أحضانه بصدمة وهي تهز رأسها بالنفي قائلة بسرعة: لأ والله متفهمنيش غلط.
قهقه بصوت عالي ثم اقترب منها بمكر حاملًا إياها على ذراعيه بعدما نجح في إلهائها عن البكاء: غلط إيه بس! تعالي إما أقولك كلمة سِر قبل ما الحكومة تيجي.
طرقات مُظلمة، وصرخات عالية تدوي في الأرجاء،
وهي تركض ودمعاتها تسيل فوق صفحات وجهها الخمرية، نظرت خلفها بهلع لتجد ذلك الظل الضخم يُتابعها، لتُسرع من خطواتها أكثر وهي تشعر بأنفاسها تكاد تُسحب من شدة الخوف، شهقت بخوف عندما اصطدمت بجسد عريض أمامها، رفعت أنظارها له وهي ترتعش خوفًا؛ لتجد الضوء مُسلط على عيناه الرمادية، أمسكت به من ذراعه قائلة ببكاء مُرتعش: ريان ساعدني متسبنيش.
خبأها خلف ظهره وهو يُسدد نظرة طمأنينة لها، اقترب ذلك الظل منهم أكثر لتُكشف ماهيته، حيوان ضخم ذو أسنان مُدببة، يخرج من فمه لُعاب مُقزز ومُخيف بذاتِ الوقت، ابتلعت غزل ريقها برعب قائلة ل ريان: تعالى نمشي بسرعة.
أمسك ريان بيدها المرتعشة بحنان مردفًا بحب: متخافيش، انا هفديكِ بروحي.
اقترب منهم ذلك الحيوان ناظرًا لهم بشراهة، أمسك ريان تلك الزجاجة المرمية أرضًا موجهًا إياها في وجهه ليبتعد، هجم عليهم ذلك الكائن؛ ليدفع ريان غزل المُتمسكة به وهو يصرخ بها: ابعدي عن هنا.
هبطت دموعها بعنف عندما شاهدت هجوم ذلك الحيوان على ريان، بينما هو يحاول بإستماتة صد هجومه، تنفس بعنف مُبعدًا وجهه عنه يُريد إلتهامه، نجح في ذلك ليهجم عليه ذلك الحيوان الشرس مرة أخرى يعض رقبته بعنف، صرخ ريان بقوة تزمنًا مع شهقة غزل القوية التي استيقظت للتو!
تنفست بعنف وصدرها يعلو ويهبط بشدة، خائفة لدرجة لا تتوقعها، تشكلت الدموع بحدقتاها عند تخيلها لحدوث شئ مريب له، شعرت بثقل على صدرها لتجده نائم كما هو، تنفست الصعداء وهي تحمد ربها بأنه مجرد كابوس وذهب، مسدت على خصلاته بحنان وهي تُتمتم بالحمد.
تململ ريان في نومته وهي يهمس بشئ لم تسمعه هي مُطلقًا، ظنت بأنه يحتاج لماء أو طعام أو ما شابه، لذلك تسائلت بصوت خافت: عايز حاجة يا ريان!
عاد همسه تلك المرة ولكن بوضوح عن ذي قبل: يوه بس بقا يا غزل مش دلوقتي.
نظرت له بتعجب ولا تفقه شئ، كادت أن تسأله عما يقصده، ليستكمل هو حديثه الغامض: بس بقا عيب مش قدام الناس! يا بنتي مش دلوقتي.
تشنج وجهها وهي تفتح فاهها بصدمة، لتستمع إليه يُكمل بصوت ناعس: طيب ماشي هي بوسة واحدة بس...
تصنمت محلها عندما وجدته يقترب منها في نية لتقبيلها، وكأن عقلها توقف لإبعاده، اقترب أكثر حتى أصبحت المسافة تكادُ تكون معدومة، أغمضت عينها بخوف وتوتر عندما شعرت بأنفاسه على وجهها وبعدها،!
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والعشرون
تشنج وجهها وهي تفتح فاهها بصدمة، لتستمع إليه يُكمل بصوت ناعس: طيب ماشي هي بوسة واحدة بس...
تصنمت محلها عندما وجدته يقترب منها في نية لتقبيلها، وكأن عقلها توقف لإبعاده، اقترب أكثر حتى أصبحت المسافة تكادُ تكون معدومة، أغمضت عينها بخوف وتوتر عندما شعرت بأنفاسه على وجهها، وبعدها وضعت يدها على فمه لإيقافه هامسة بصوت مضطرب: ريان فوق.
لم يستجيب لها بل ظل يُهمهم تحت يدها المُكممة لفمه، فهزت جسده مرة أخرى شاعرة بالتوتر من إقترابه المُبالغ: اصحى بقى الله يخربيتك انت بتتحرش بيا.
تململ بضيق من صوتها، ثم فتح عينه ببطئ ونظرات ماكرة تتراقص بحدقتيه لم تُلاحظها هي بسبب توترها، لم يعتدل، ولم يتوقف، بل تحدث بصوت عابث ومازالت يده تُحيط بخصرها: لأ أنا مش هتحرش بيكِ بس.
فتحت عيناها على آخرهما ناظرة له بصدمة بعدما علمت مقصده الوقح، ذلك المُنحط الحقير سيبقى عديم التربية مدى الحياة، تحدثت مشدوهة وهي تنظر لعيناه: انت. انت كنت صاحي!
أجابها بمراوغة وهو يُحرك أحد حاجبيه
تؤ، كنت نايم وغزالتي اللي صحتني.
لوت شفتيها بإستنكار مرددة بسخرية: والله!
واللهِ انتوا!
كان ذلك صوت موسى الذي أتى منذ وقت قصير للإطمئنان على ريان، لكنه وجدهم بذلك الوضع المُحرج لمن يراه، وبالطبع موسى لم يهتم، بل أكمل حديثه وهو يقترب منهم ليجلس أمامهم من الجهة الأخرى متشدقًا بوقاحة لم تظهر عليه يومًا: كملوا كملوا، بحب اتفرج.
تصبغ وجه غزل بالحُمرة الشديدة، بينما صدحت صوت ضحكات ريان الذي اعتدل في جلسته مردفًا: اتلم ياض معايا نسوانة بتتكسف.
سدد له موسى نظرة عابثة مُجيبًا إياه بمكر: وطالما النسوانة بتاعتك بتتكسف عايز تبوسها وسط الصحرا ليه! ما تاخدها وتدارى في أي حِتة.
حدق به ريان بعدم تصديق مُجيبًا إياه بجدية: بجد! هو فيه مكان متداري هنا!
تلك المرة لم تستطيع غزل الصمت لتضربه على كتفه السليم بغيظ وقوة وهي تكاد تبكي خجلًا، بينما انطلقت صوت ضحكات موسى تدوي في الأرجاء وهو يرد عليه بدهشة: اقسم بالله سافل ومتربتش.
شاركه ريان الضحك وهو ينظر بعبث لتلك الجالسة المُنصهرة من الخجل، كم يتوق لأخذها بين أحضانه وهو بكامل وعيه، وبكامل رضاها هي الأخرى، يتضخم حبها داخل فؤاده كل يوم عن الذي قبله، هي تجذبه، وهو يُحبها.
طال نظره لها ليقف موسى محله، ثم اقترب مُربتًا على كتفه هاتفًا بكلمات مقصودة تحمل في طياتها الوقاحة: هقوم واسيبك تبحلق براحتك يا نِمس، ولو حاجة وقفت معاك ومحتاجة شرح ناديلي.
أنهى حديثه بغمزة وقحة ثم تركهم وذهب بضحكات مرتفعة، وفور ذهابه استدار ريان ل غزل متشدقًا بوله: كنا بنقول إيه يا غزالتي!
جزت غزل على أسنانها بغيظ، رامية كيس القكن بوجهه صائحة بغضب: كنا بنقول إنك سافل وقليل الأدب.
ضحك ريان عاليًا وهو يقول ببرائة: انا مقولتش حاجة، دا موسى هو اللي قليل الأدب.
ربعت يديها بغضب ولم تُجيبه، بل اكتفت بالصمت وهناك شيئًا داخلها يُخبرها بأن تتوقف، لاحظ ضيقها منه لذلك اقترب ممسكًا بكف يدها متشدقًا بإعتذار: خلاص متزعليش، انا كنت بهزر معاكِ.
سحبت يدها برفق وتعابير الضيق مازالت مُرتسمة على وجهها، ثم نظرت له مُباشرة قائلة بعتاب: أنا مش بحب التصرفات دي يا ريان، المعاملة اللي بيكون فيها شئ من التجاوزات دي بتضايقني بصراحة، سواء كان التجاوز دا كان في الكلام أو التصرفات، بجد بيقفلني.
شعر بالحرج من تفسيرها لموقفه بتلك الطريقة، علم أن معها حق لذلك أومأ موافقًا بكلمتين لا ثالث لهما: معاكِ حق.
قال جملته ثم ابتعد قليلًا في جلسته شاعرًا بالحزن، لم يقصد أن يُضايقها، بل يشعر معها بشئ من الأُلفة، الود، الحنان، والمحبة، لذلك يتعامل معها عفويًا، بطريقته الطبيعية دون الحاجة إلى الإبتذال، وإن كان حديثه وتعامله هذا يُحزنها، فسيتوقف عن فعله.
اضطرب قلبها عند ابتعاده فجأة، يبدو أنه فهم مقصدها بشكل خاطئ، هي فقط لا تُريد أن تتجاوز معه في الحديث، تُريد أفعاله تلك عن نيلها والزواج منها بطريقة شرعية، وإلا ستفقد علاقتهما رونقها الخاص.
عضت على شفتيها بحزن ثم اقتربت هي قليلًا لمصالحته، لاحظ اقترابها فابتعد هو بضيق تلك المسافة التي اقتربتها، تنغضت ملامحها بضيق مُقتربة مرة أخرى، ليبتعد مرة أخرى عنها دون الحديث، وحقًا ودت لو تنفجر ضحكًا على أفعاله الطفولية تلك، لذيذ حقًا.
وقفت على رُكبيتها لتجلس أمامه تلك المرة ثم قالت بُلطف لمصالحته: على فكرة أنا مش قصدي أزعلك، انا وانت فيه مشاعر متبادلة بينا، ولو المشاعر دي اتحكمت في تصرفات كل واحد فينا مش هنحس بحاجة بعدين.
لاحظت نظراته اللامعة تجاهها وكأن بحديثها داوت حُزنه المؤقت، تشكلت ابتسامة صغيرة عاشقة على ثغره وهي تُكمل: انا عارفة إنك سمعتني إمبارح وأنا بقولك إني بحبك عشان حسيت بيك، مش عايزاك تعترفلي بأي حاجة قبل إرتباطنا بطريقة شرعية، أنا عايزاك تبقى حلالي زي ما انت عايزني بالظبط، ممكن تكون بجاحة مني إني قولت كدا؛ بس انا حبيت أعرفك اللي حاسة بيه عشان متزعلش من كلامي، عشان تعرف انا حاسة بإيه من ناحيتك ومتفهمش كلامي غلط بعد كدا.
هو انا ينفع أحضنك حضن واحد بس واللهِ!
سألها ورغبة إحتضانها تُسيطر عليه وبشدة، ضحكت بيأس وهي تهز رأسها بنفي، قائلة وهي تُحدجه بنظرات ذات مغزى: قولتلك لما تبقى حلالي أبقى اعمل اللي انت عايزه.
سألها مرة أخرى ولكن بإلحاح: طيب بوسة!
طالعته بغيظ موجهة إليه نظرة نارية مُحذرة، ابتسم ببلاهة مُستندًا على الحائط وهو يُمسك بالمرآة التي بجانبه، ناظرًا لوجهه بحالمية: ما شاء الله عليا، قمر واللهِ قمر.
راقبته غزل بعدم تصديق وكادت ابتسامتها أن تنفلت منها، لكنها كتمتها بصعوبة، قرَّب ريان وجهه أكثر للمرآة قائلًا بتعجب: انا عندي حَسَنة على الجنب الشمال، ليه طالعة في المرايا على الشمال برضه!
ظلت بضعة ثوانٍ تُحاول استيعاب سؤاله؛ لكنها لم تصل لشئ، فتسائلت ببلاهة وتعجب: اومال عايزها تكون فين يعني! على رجلك!
حدجها بنظرات ساخطة وهو يشرح لها: لأ يا غبية، قصدي المفروض طالما عندي حسنة على خدي الشمال تبقى في المرايا على اليمين، عشان المرايا بتعكس الشكل.
لوهلة ظنت أنها غبية حقًا، وكادت أن تُجيبه؛ لكنها صرخت به ليُعيد كلماته مرة أخرى: انت قولت إيه!
فزع من صرختها لكنه قال بتعجب: طالما عندي حسنة على خدي الشمال تبقى في اليمين...
هزت رأسها بالنفي وهي تُشير بيدها: لأ لأ مش دي، أخر جملة قولتها إيه!
رددها ومازال ينظر لها بغباء: المرايا بتعكس الشكل!
صرخت به وهي تُصفق بيدها على جبهتها مُعنفة ذاتها: إزاي راحت الحكاية دي عن دماغي!
فتح فمه ببلاهة مُعلقًا: حكاية إيه!
وضحت له وهي تشرح ما جاء ببالها بحماس، وكأن البريق الأمل عاد ليطوف حولهم مرة أخرى: فاكر الورق اللي احنا خدناه من عند منير المنشاوي لما لقيناه ميت! وقتها معرفناش نقرأ منه ولا كلمة لأن كلماته كانت غريبة، بس الكلمات مكنتش غريبة الكلمات كانت معكوسة، عشان لو سليم المنشاوي عِرف وقرر يغدر بيه زي ما عمل يكون فيه دليل ضده، واكيد هو خَد الورق اللي هو عايزه ولما شاف دا شاف إنه ملوش لازمة وسابه وبعدها قتله.
كان ريان يستمع لها بصدمة وهي تُحلل الموقف بكل تلك المهارة والذكاء مردفًا بإعجاب: يابنت الإيه يا غزالة، لأ ذكية وتستاهلي لقب محامية بجد مش هزار.
ابتسمعت بإتساع وهي تستمع لإطراءه لها، لطالما استمعت لتلك الكلمات، لكن منه تكون بشكل مختلف، تحدثت بسعادة وهي تتلفت حولها باحثة عن الأوراق: فين بقا الورق اللي كان هنا!
انمحت الإبتسامة فجأة عن وجهه وشحب بشدة فور أن استمع لسؤالها، لاحظت تغيره؛ لتُغمض هي عيناها ناظرة له بشك: فين يا ريان!
ابتلع ريقه بتوتر ثم تحدث بتلعثم ونظراته كنظرات طفل مُذنب يتلقى التوبيخ من والدته الآن: ع. عملت بيه مراكب وطيرتها.
انتفض للخلف بفزع وهي تصرخ به بعدم تصديق: عملت بيه إيه!
برر لها وهو يُشيح بيده: بس طيرته قُريب من هنا، يعني هنلاقيه إن شاء الله، إن شاء الله يعني!
كادت أن تُصاب بذبحة قلبية وهي تستمع لحديثه، سددت له نظرة نارية ثم وقفت محلها متوجهة للخارج للبحث عن تلك الأوراق، ذهب خلفها مباشرة مُرددًا بخوف من هيئتها: مش عايزة مساعدة!
نظرت للخلف حيث يقف، فابتلع ريقه بتوتر ثم عاد محله قبل أن يقول: طب أنا جوا ولو عوزتي حاجة ناديني.
ذهبت من أمامه بغضب وهي تتلفت حولها كالمجنونة للبحث عن الأوراق، تلك هي آخر دليل براءة لهم سيتمسكون به، والمُغفل قام بتحويلها لمراكب للعب بها!
أما هو عاد للداخل وعلى ملامحه مُرتسمة علامات الغضب، جلس محله مرة أخرى وهو يمط شفتيه بضيق، متشدقًا بغضب: وانا عملت إيه لدا كله يعني!
الفراغ الذي يُحاوطها الآن كانت تشعر به عند وجودها بمنزل والدها، والآن هي تشعر بالفراغ مرة أخرى، ارتعشت شفتيها ببكاء وهي تقوم بطي الملابس التي أمامها، مسحت نوال دموعها بسرعة عندما استمعت لصوت انفتاح الباب.
بدأت ب رَص الملابس في الخزانة مُدَّعية الجمود والقوة، وهي بداخلها هشة ضعيفة تحتاج للإهتمام والحب، لكن مازال قلبها لم يُسامحه على كذبه عليها، وهي أنثى تغار وتحزن.
استمعت لزفرته القوية لكن لم تُعيره أي إهتمام، شهقت بفزع عندما شعرت بإحاطته لجسدها من الخلف، ارتعش جسدها من حركته المُباغتة وعاد قلبها بالنبض مرة أخرى بقوة، حاولت فك تقيده من حولها مردفة بهدوء مصطنع: سيبني لو سمحت يا بدر.
دفن وجهه بعنقها من الخلف قائلًا بتعب: بدر متشاجلك جوي يا جلب بدر.
ابتلعت الغصة التي تُحشر بحلقها ثم اردفت بألم: دا بجد! مشتاقلي ولا مشتاق مراتك الأولانية!
أدراها لتكون بمقابلته، وياليتها لم تنظر لعينه، فقد كانت تصرخ بالعشق الصامت والألم بذاتِ الوقت، أحاط بوجهها بين يديه متشدقًا بعشق: عمري ما حبيت ولا هحب غيرك يا نوال، جلبي مفيهوش غيرك، وحياتي متسواش وانتِ مش فيها.
ليه كدبت عليا!
قالتها بصوت مبحوح وهي تتخيل أخرى بين ذراعيه، وهنا تحكمت بها غيرتها أكثر عن ذي قبل.
هز رأسه نفيًا مُجيبًا إياها بحنان: مكدبتش عليكِ يا جلبي، بس انا اعتبرت نچاح صفحة وانجفلت، ملهاش وچود في حياتي وانتِ فيها، انا بحبك انتي، وجلبي مبيدجش غير ليكي انتي.
أطفأ لهيب غيرتها وضيقها بحديثه، وكأنه دواء لجروحها، وإلى هنا لن تستطيع هجره أكثر، لن تستطيع الإبتعاد عنه، اشتاقت له حد اللعنة وهو كذلك، لذلك أحاطت بعنقه بقوة وهي تردف ببكاء مزق نياط قلبه: وحشتني أوي يا بدر، وحشتني وبكرهك.
أحاط بدر بخصرها دافنًا جسدها الذي نحف كثيرًا داخل أحضانه، وكأنه يريد دفنها بأضلعه حتى لا تبتعد مرة أخرى، ابتسم بخفة عندما استمع لها، ليردف بعشق: و بدر بيموت فيكِ يا حبة الجلب.
ولتتفادي الخطأ، يجب أن تُصلح الأخطاء القديمة، وهذا ما يفعله ممدوح والده نوال لتعويضها عن ما فعله معها قديمًا، قرر أن يبدأ معها صفحة جديدة لتتذكره، حمل الأكياس الثقيلة بين يديه عائدًا لمنزله، فهو ذهب منذ الصباح الباكر ليبتاع لها كل أنواع الحلوى التي تُحبها ليهديها لها في زيارتهم القادمة.
كانت ابتسامة صغيرة تتشكل على ثغره عندما توقع ردة فعلها السعيدة، لكن ثواني ما انمحت عندما لمح شقيقته التي تقطن بنفس الشارع تقريبًا، شقيقته التي هربت من عائلتها لتتزوج بإبن عائلة النويهي، ورغم محاولاتها اليائسة لإصلاح ما أفسدته؛ رفضوا رفضًا قاطعًا وقاموا بمقاطعتها، لقد دفنت وجه عائلتها بالوحل عندما هربت لتتزوج من شخص رفضوه من قبل.
تهجم وجهه وقرر إكمال طريقه دون النظر إليها حقًا، لكن ازداد غضبه عندما توقفت أمامه بنظراتها المتلهفة قائلة بإشتياق: عامل إيه يا ممدوح!
طالعها بسخرية لاويًا شفتيه بإستنكار، ثم تحدث بغلظة شديدة أجفلتها: عايزة إيه يا ماجدة!
حاولت استعطافه مُمسكة يده برجاء بعد أن تسللت الدموع لعيناها: عايزاك تسامحني ياخويا، انا مبقاش ليا غيرك، كله قاطعني وباعني، حتى انت رغم إن بيتك في نفس الشارع مجتش تطل عليا ولا مرة.
سحب كفه من بين يدها قائلًا بقسوة: ومفكرتيش في دا وانتِ بتعارضينا وبتقفي قدامنا وراحة تتجوزي سلطان! مفكرتيش في أبوكِ اللي حطيتي راسه وراسنا كلنا في الطين! دا انتِ كنتِ دلوعة البيت وروح قلب أبوكِ، مفكرتيش في كسرة أبوكِ!
نزلت دموعها بقوة ورغمًا عنها شهقت من حِدة بكاؤها وهي تهمس له: غصب عني يا ممدوح، أبوك كان عارف إني بحب سلطان بس هو رفض اتجوزه عشان كان راجل متجوز، بس انا مكنش يهمني دا كله، كنت كل اللي عايزاه هو سلطان وبس.
هز ممدوح رأسه بيأس، وهو ينظر لها بلوم ممزوج بالغضب متشدقًا بعتاب: ليه كدا يا ماجدة! ليه كدا! ليه تخلي أبوكِ يموت وهو غضبان عليكِ!
نفت برأسها وهي تنظر له بهلع: لأ والله العظيم، انا روحتله المحل وفضلت ازن عليه أسبوع كامل عشان يسامحني، وقلبه حَن عليا واللهِ وقال إن هيسامحني، لو مش مصدقني اسأل سلطان، وقتها كنت مبسوطة وطايرة من الفرحة خصوصًا لما ابويا قالي إنه عازمني يوم الجمعة في تجمع العيلة، بس وقتها كل حاجة انهارت فوق دماغي والدنيا اسودت في وشي لما تاني يوم ابويا مات، واللهِ يا ممدوح أبويا سامحني.
كانت يستمع لها بصدمة، فوالده كان صارم للغاية ومن سابع المستحيلات أن يكون قد سامحها، خاصةً بعد هربها والزواج من وراء ظهروهم، تحدث بشك وهو يرمقها بدون تصديق: ولما هو سامحك ليه مقالناش! ليه خبى علينا في وقتها!
مسحت دمعاتها المتساقطة مُبررة له بشهقات منخفضة حتى لا تُثير انتباه المارة: عشان كان عايز يعملها مفاجأة، هو قالي إني آجي يوم الجمعة وقت ما تكونوا كلكم متجمعين عشان يقولكم واللهِ، فاضل انتوا بس تسامحوني، سامحني عشان خاطري يا ممدوح، والله مليش غيرك انت واخواتي البنات.
ابتلع ريقه بأسى ناظرًا لشقيقته بحزن مبالغ فيه، كانت هي الأقرب له من بين شقيقاته الأخرى، وقامت هي بطعنه بخنجر الخيانة عند هروبها، تذكر معاملته القاسية لإبنته حتى لا تكون مثل شقيقته، هز رأسه بألم وهو يهم بالذهاب بعد أن حمل الحقائب مرة أخري: انتِ عارفة بسببك أنا عملت إيه في بنتي عشان متبقاش زيك! مبقاش ينفع يا ماجدة، مبقاش ينفع.
رمى لها كلماته ثم ذهب من أمامها، تاركًا إياها تنظر لأثره ببكاء وحسرة، متمتة بحزن بالغ: انا اسفة، والله اسفة.
ظلامٌ يُحيطُ به، من الداخل قبل الخارج، يستمع لأمواج تتلاطم بقسوة تُماثل قسوته تمامًا، حِدة عيناه تزداد يومًا عن الآخر، وشره لا يكف ولا ينتهي، فتح عيناه فجأة ضاربًا ما أمامه وهو يصرخ بقسوة، ازداد تنفسه وكأنه يجري لعشرات الأميال، لم يقدر أحد على الوقوف أمامه، وكل مَن يفعل؛ يُنسَف.
هبط العرق من على جبهته رغم برودة الجو، لكن النار المشتعلة داخل جسده تفوق برودته، فتح سليم أنوار الغرفة الحالكة، ثم أزاح تلك الماكثة عليه بقسوة، هبت من مكانها برعب من مظهره، قُبضت أنفاسها عندما اقترب منها بسرعة مُمسكًا بخصلاتها وهو يُعنفها: انتِ مقرفة. غوري من وشي.
ارتعد جسد الفتاة، لتحاول بلملمة شتات نفسها مومئة له بخوف، ثم هرولت من أمامه وهي تضع الملائة على جسدها العاري، دلفت للمرحاض وهي تكادُ تبكي خوفًا وألمًا من عنفه معها، ورغم محاولة تجاوبها معه؛ إلا أنها لم تتحمل همحيته الشديدة، لتصرخ به عندما ازداد أكثر وأكثر.
أما هو بالخارج؛ كان يدور كالثور الهائج، يتذكر إخبار أحد رجاله الذين كانوا مكلفين بقتل ريان وغزل لرؤيتهم ل موسى، عندها اتسعت عيناه بالصدمة وتوقف عقله عن العمل وكأنه لا يستوعب ما يُقال له، جلس سليم على المقعد شاددًا على خصلاته السوداء الحالكة، مُرددًا بحيرة تكاد تقتله: إيه اللي وصَّل موسى ليهم! كدا انا رُحت في داهية، لو عِرفوا اللي حصل هيتفقوا عليا.
أمسك بهاتفه ثم اتصل على رقم صديقه فريد، انتظر قليلًا حتى أجاب الطرف الآخر، هامسًا بهسيس: عايز أعرف العيال دي مكانهم فين، لقيهم وصفيهم.
قطع تفكيره خروج الفتاة مُرتدية كامل ملابسها وهي تنظر له بإرتعاد، كادت أن تذهب؛ فأمسك يدها ناظرًا لجسدها بشهوة مُقززة قائلًا بوقاحة: رايحة فين يا قمر! انتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه! انتِ لسه مشوفتيش مزاجي.
كادت أن تعترض لكنها خافت من تهوره، ليسحبها معه لعالمه الملئ بالشهوانية والقرف، وهي من تدخلت بقدمها؛ إذًا فلتتحمل.
هي تكره الجميع، الجميع مخادعون، سيئون، حطموا قلبها لأشلاء قبل أن يتفتت، وهي باتت مثلهم، تؤذي من يؤذيها، وتهدد من يُخرب حياتها.
جلست ني ين أمام التلفاز بأعين شاردة، تهتز مكانها للأمام وللخلف بحركات متوازنة، دموعها تسقط بصمت وحسرة على حياتها التي أضاعتها ومازالت تُضيعها، هي جميلة والجميع مُعترف بذلك، لكنها أيضًا مؤذيَّة، تأذت وأذت، اعتدلت مكانها بعنف وهي تُمسك بقصافة أظافرها، رددت وهي تقوم بتقليمها بهمسات شبه هستيرية: هما اللي أذوني، وانا أذتهم، هما اللي وحشين مش أنا، كلهم بيكرهوني وانا. انا بكرهم.
رمت القصافة من يدها وهي تصرخ عاليًا مُشددة فوق خصلاتها: ليه! ليه بيعملوا فيا كدا! انا مش عايزة أبقى وحشة، مش عايزاهم يكرهوني، انا بحبهم مش بكرههم.
قالت الأخيرة بهمس ضعيف قبل أن تتكوم على الأريكة بمظهر أشبه للأطفال، ثم أكملت متحدثة بضعف: مش عايزة أئذيهم بس هما بيأذوني، انا معملتش حاجة.
أغمضت عيناها بقوة ووجها مُغرق بالدموع، تذكرت حديث إحدى صديقاتها أمس وهي تقول لها بنبرة ساخرة مُحتقرة: انتِ واحدة مريضة وأنانية، محتاجة لدكتور نفسي يعالجك بدل ما الكل بيكرهك كدا.
ومشهد أخر مر بذاكرتها مُنذ أن كانت صغيرة.
بابا أنا تعبانة وبطني بتوجعني أوي.
بطلي دلع يا ني ين وروحي ذاكري.
حينها بكت من ألم معدتها وهي كانت طفلة تحتاج للرعاية والإهتمام، واليوم الآخر كانت تجلس هي وعائلتها لتناول الطعام، حينها سعل أخيها قليلًا، ليلتفت إليه والدها متحدثًا بقلق بالغ: مالك يا حبيبي! في حاجة بتوجعك!
هز الصغير رأسه بالنفي ليُصر والده على أخذه للطبيب، رغم أن سعلته كانت ليست بالشديدة، حينها اشتاقت كثيرًا لوالدتها التي كانت تُدللها وتعطيها إهتمامًا بلا مُقابل، لكنها ذهبت من تلك الحياة نهائيًا تاركة إياها تُؤذى من الجميع.
وتتالت المشاهدات والمشاهدات التي تمر بذاكرتها سواء أكانت من والدها، أو من أخيها عندما بلغ وأدرك معني الحياة، أو من صديقاتها، وآخرهم معتصم الذي قام بخيانتها.
اهتزت في مكانها بقوة ومازالت متكومة على ذاتها مُتمتة بضعف: وحشتيني يا ماما.
ابتلعت غصتها التي تطبق على أنفاسها وصدى صوت صديقتها يتكرر بأذانها: انتِ محتاجة لدكتور نفسي...
فتحت عيناها المُحتقنة من شدة البكاء، هامسة ببكاء: أنا فعلًا محتاجة لدكتور نفسي، انا تعبت من حياتي ومن الدنيا كلها، يارب. يارب ساعدني، انا عارفة إن انا وحشة بس غصب عني، عايزة اتغير يارب.
ظلت تهذي ببعض الكلمات وتدعو وداخلها يبكي قبل عيناها، هي تألمت منذ أن كانت صغيرة، ترى الجميع أفضل منها رغم أنها تستحق أكثر، ذهبت إلى النوم ومازالت تبكي، وكأن قلبها يُعوض غياب عيناها ليبكي هو الآخر.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والعشرون
خرجت غزل من الكهف وهي تنظر حولها تبحث عن الأوراق، أرادت وبشدة أن تعود للداخل وتُمزق وجهه بين أظافرها من شدة غيظها، سحبت نفسًا عميقًا للسيطرة على ذاتها ثم بدأت بالبحث في كل مكان، نظرت للرمال الصفراء بتدقيق شديد، وبعد ما يقرب من الربع ساعة؛ كانت قد وجدت ثلاثة أوراق، هناك صفحة مفقودة إذًا، ظلت تبحث عدة دقائق أخرى لكنها فشلت في ذلك، استسلمت لأمرها ثم دلفت للداخل وستبحث عنها في وقت لاحق إن لزم الأمر، نظرت للكلمات الغريبة بتعجب ومن ثَم رفعت نظرها عنها ناظرة ل ريان الذي يُحدجها بسخط.
لوت شفتها بإستنكار وهي تُجاوره في جلسته متشدقة بسخرية: متحسسنيش إني ظالمة وواكلة مال اليتيم.
طالعها بطرف عيناه بإشمئزاز ولم يُجيبها، هزت غزل رأسها بيأس من أفعاله التي لا تليق بعمره حقًا، وكادت أن تنفلت منها ضحكة عالية؛ لكنها أخفتها بصعوبة، مدت يدها لتأخذ المرآة التي بجانبه؛ لينتشلها منها مسرعًا مُتحدثًا بسخط: دي مرايتي و موسى اللي جابهالي، وبعد كدا لما تيجي تاخدي حاجة أبقي استأذني الأول، بطلوا تسول بقا.
تشنج وجهها وهي تستمع لحديثه، من يراه يُقسم بأنه جلب المرآة من ماله الخاص وليس من موسى، سحبت نفسًا عميقًا وهي تعلم بأن بأفعاله تلك يُوضح بأنه حزين من صراخها عليه.
جلست أمامه ثم تحدثت له بلطف وكأنها تُحادث طفلٌ صغير في سن الثلاثين: يعني ينفع اللي انت عملته دا!
توترت عيناه ولم ينظر لها، يعلم أنه مُخطئ لكن لا يُريدها أن تحزن منه، وللعجب هو من حزن! ارتسم على ثغرها ابتسامة لطيفة أجبرته على النظر لها، ثم أكملت مُعاتبة: مش انت عارف إن الورق دا مهم!
أومأ ب نعم ومازال مُقطب الجبين، لتستطرد حديثها بود: طيب ليه عملت فيه كدا!
رَبَّع عن ساعديه زافرًا بقوة: كنت زهقان فعملته مراكب وطيرتها.
يبقى انت اللي غلطان أهو، يعني انت اللي لازم تعتذر مش أنا.
وكأنها تتحدث إلى طفل صغير، لم يسمعها، ولم ينتبه لحديثها، بل ظل مُحدجًا إياها بضيق وعيناه الرمادية تلتمع بالحزن، شعرت بالضيق يحتلها وهي تجد نظرته المعاتبة لها، لذلك تحدثت بحب واضح: طيب خلاص متزعلش، عايز إيه وانا أعملهولك وتضحك تاني.
حاول أن يثبت على موقفه وألا يُغريه عرضها ورسم على ملامح وجهه الضيق الزائف، لتُصر فوق أذنه وهي تُكرر: ريان! عايز إيه وانا اعملهولك.
وأمام نبرة صوتها الحنونة دَق قلبه بعنف، سرت القشعريرة في جسده من نطقها لإسمه، ارتسم الحماس على وجهه، ناظرًا لها مُبتسمًا بسعادة قبل أن يردف بفرحة: عايز بوسة.
تحولت نظراتها من اللُطف إلى الشراسة، زاجرة إياه بعنف: ريان!
ابتلع ريقه بتوتر قبل أن يبتسم ببلاهة مُبررًا بسذاجة: ك. كنت بختبرك.
رفعت حاجبيها بإستنكار وكأنها تقول له حقًا، ليُلهيها مُشيرًا للأوراق التي بيدها: تعالي نشوف الورق دا بيقول إيه!
كتمت ضحكتها بصعوبة ثم جاورته مُمسكة بالأوراق وهو يُمسك لها المرآة، ومن ثَم بدأت هي بقراءة ما تحتويه تلك الأوراق، لتتشكل ملامح الصدمة والنفور على وجه كليهما،!
أحيانًا علينا السير في طُرقٍ لا نرغبها، لكن قد تكون تلك الطُرق هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى غايتك، وهي فعلت ذلك عندما ظنت بأنها ستسطيع خداعه، بل والهرب بأمواله أيضًا.
اِحمرت عين عابد بغضب ساحق، شدد على قبضته حتى ابيضت مفاصله، شعر بالألم ينخر عظام يده؛ لكن ذلك الألم الذي في قلبه أكبر بكثير، هي جاءت لتخدعه، وهو كالأبله وقع في فخها بل وأحبها!
ابتلع ريقه بألم وهو يتذكر تلك الرسالة على هاتفه، والتي كان مضمونها البنت اللي شغالة معاك نصابة، هتسرق فلوسك وهتهرب بعدها، ولو مش مصدقني هبعتلك دلوقتي تسجيل بصوتها.
في البداية لم يهتم، لكن ما جعله يتصنم محله هو سماعه لصوتها وهي تتفق مع أحدهم لإستغلاله وسرقة نقوده، نظر حوله بتيهة ومازال غير مصدق، تلك البريئة تخدعه! وضع يده على قلبه يُدلك مكانه بلُطف علَّه يُقلل من حِدة الألم، لكن الألم كان بالداخل، داخل مُضغته الحمقاء التي نبضت من أجلها.
نعم أحبها وكان يُظهر عكس ذلك حتى لا تقود مشاعره، غض بصره ورعاها، وهي فعلت به العكس، جز على أسنانه بحقد وهو يتذكر أفعالها الأفعوانية لإيقاعه، لا يعلم بأنها طبيعتها حقًا، همس بكره لذاته وهو يتوعد لها، بينما تسللت بعض الدمعات المُتحسرة لعيناه: أنا هندمك يا وصال، وهتشوفي أخرة اللعب معايا إيه.
أفكارٌ مُشوشة، وعقلٌ مُرهق، وجهٌ شاحب، وجسدٌ ضئيل، هكذا أنا تلك الفترة، جلس أمام المرآة ينظر لنفسه بتشوش، حياته أصبحت على المحك، لم يكن هادئ تلك الأيام الماضية، بل كان يبحث ويبحث عن سبب مقتل والدته، ألقى فارس هاتفه وهو يزفر بإختناق، يشعر بالهواء يطبق على أنفاسه، يشتاق لتلك اليد الحنون التي تُزيل همومه، لكنها ذهبت. ذهبت وتركته يُعاني من مزلات الطريق.
حكَّ رأسه بيده يُخفف من حِدة الصداع، المعلومات التي توصل إليها لم تكن كافية، لم تُفيده بشئ، تأوه بخفوة تزامنًا مع دخول زهر للغرفة، حاملة كوب العصير الطازج بين يدها وهي تُعاتبه برقة: كدا يا فارس! مش قولنا كفاية شغل لحد كدا!
جلست جانبه على الفراش، واضعة يدها على جبينه لتقيس حرارته؛ فوجدتها طبيعية، مدت يدها بالكوب ليُبعده برفق: مليش نِفس لحاجة يا زهر، أنا تعبان ومش قادر.
وضعت الكوب بجانبها، ثم نظرت له لعدة ثواني بصمت وكأنها تقرأه، اقتربت منه بغتةً جاذبة رأسه بحنان تضمها بين ذراعيه، تفاجئ من فعلتها، ورغم ذلك أحاط بخصرها مُغمضًا عينه بألم، وغصة البكاء تتزايد شيئًا فشيئًا، مسدت على خصلاته برفق مُردفة بصوت هامس: ابكي يا فارس، ابكي يمكن ترتاح!
استمع لحديثها بصمت ولم يصدر منه أي ردة فعل، ظنت في البداية بأنه ذهب للنوم، لكن إهتزاز جسده المُفاجئ أوحى لها بأنه يبكي حقًا! أجهش في البكاء وشهقاته تعلو رويدًا بين أحضانها، وجد في عناقها الراحة، ليبدأ بالتنفيس عنه ألمه.
ارتعشت شفتيها ببكاء وهي تستمع لصوته الباكي المُتألم، لم تراه بمثل ذلك الضعف من قبل، كان يظهر بالقوة دائمًا ويكون أول الداعمين إليها، لكن الإنسان أحيانًا يحتاج إلى الإنفجار، وهو انفجر مع أول كلمات المواساة، قبَّلَت زهر خصلاته بحنان مُمسدة على ظهره، صَمَتَ وصمت بكاؤه، لتسمعه يُكمل بصوت مهزوم: أمي وحشتني أوي يا زهر، وحشني حضنها ووحشني كلامها أوي.
ابتلع شهقته ثم أكمل بما يُخفيه: بقالي اكتر من اسبوعين بدور على السبب اللي دبحوها عشانه، دبحوها يا زهر وانا مكنتش معاها، كانت لوحدها وبتتوجع وأنا بعيد، آخر مرة شوفتها وهي بتنزف دم من رقبتها كتير، كانت بتطلع في الروح قدام عيوني وأنا مقدرتش أعملها حاجة.
جعلته يتحدث بما يجيش به صدره ودموعها تهبط بصمت وألم، لتسمعه يستطرد حديثه بألم: أنا أمي كانت طيبة، عمرها ما أذت حد، ليه كدا يدبحها ويحرق قلبي عليها! ليه أمي ليه!
أصدرت همهمات من فمها لتهدأته، ظلوا هكذا لبضعة دقائق حتى رفع رأسه لها، صُدمت بقوة عندما وجدت عيناه حمراء كالدماء من شدة البكاء، لتنفجر هي الأخرى بدون وعي، وبدلًا من أن كانت هي من تُهدأه، بات هو من يُهدهدها كالطفلة الصغيرة، ربت على ظهرها ثم تحدث بصوت متحشرج: شششش خلاص اهدي يا حبيبتي.
لم تكن تعلم ما تقوله سوى أنها أحاطت عنقه بيدها قائلة بأسفة: أنا أسفة، أسفة عن كل اللي حصلك في حياتك، أسفة إني مكنتش موجودة عشان أخفف عنك.
ابتلع ريقه بصعوبة، تسللت الدموع مرة أخرى بقوة لعيناه، وبدلًا من أن تبكي وحدها، بكى معها، فكانت الغرفة خالية من الأصوات إلا من صوت بكاؤهم، بكاء يُمزق نياط القلب، بكاء خافت لكن ضجيجه عالي وكأنه صراخ.
انفتح باب الغرفة فجأة لتدخل عليهم لوچي تحمل طلاء أظافرها القاتم، نظرت لبكاؤهم بتعجب، فلأول مرة ترى والدها يبكي، بل ووالدتها أيضًا، ولم تمر سوى ثوانٍ وانفجرت هي الأخرى ببكاء.
خرج فارس من أحضان زهر لينظر لإبنته التي ما إن رأت دموعه حتى هرولت لأحضانه باكية، إلتقطها بين ذراعيه مُشددًا من إحتضانها وهو يُهدهدها بحنان، فمهما فعلت ستظل هي إبنته الوحيدة والتي يعشقها بشدة، مسد بيده على ظهرها، وباليد الأخرى مسح دمعاته الشاردة، نظر جانبه ليجد زهر تُطالعهم بحنان، ليجذبها له لتجاوره مُحيطًا بخصرها، طبع قُبلة حنونة على جبينها ثم وضع رأسها على كتفه لترتاح قليلًا.
رفعت لوچي عيناها الباكية لوالدها، لتمسح بيدها الصغيرة على وجهه سائلة إياه بحزن مُغَلف بالحنان: كنت بتعيط ليه يا بابي!
رسم فارس على ثغره إبتسامة طفيفة قائلًا: افتكرت حاجة زعلتني يا روح قلب بابي، وبقيت كويس أهو عشان بنوتي الحلوة حضنتني حضن جميل خالص.
ابتسمت بسعادة ثم طبعت قُبلة كبيرة على خده الأيمن: أنا بحبك أوي يا بابي.
ابتسم لها بحنان جاذبًا إياها لتنام جانبه على الجانب الآخر: وبابي بيحبك أوي يا روح قلب وعيون بابي.
ارتاح ثلاثتهم على الفراش، ولم يمر سوى دقائق معدودة حتى وذهب جميعهم في ثبات عميق.
وفي النهاية اتضح أن الحزن يتبدد بوجود عائلة تُحبك وتحميك.
وأسوأ أنواع الألم هو الحب، ابتلع معتصم ريقه بألم وهو يُشاهدها من خلف الزجاج، نحل جسدها بشدة وازداد وجهها شحوبًا لكن مهما حدث فهو يُحبها كما هي، يُحبها لأنها سجود، نظر ل طه الذي يُحدجه بنظرات غامضة مُبهمة، حمحم بحرج فلقد نسى وجوده نهائيًا، خطى ناحيته عدة خطوات قبل أن يسأله: أنا هنزل اجيب حاجة ناكلها يا عمي، حضرتك مكلتش من إمبارح.
هز طه رأسه بالنفي قائلًا: مليش نِفس، روح كُل انت.
أومأ له دون الإيجاب، لينظر له طه بتشنج من وقاحته، فكان يجب أن يُصِر عليه أكثر من ذلك! لا يعلم لِما هو غاضب منه الآن، هو يغار على ابنته، فمن المحتمل أن يكون هذا السبب الأساسي.
تنهد بتعب جالسًا على المقعد الحديدي مرة أخرى مُفكرًا في حالة ابنته، تفاقم لديه الأمل عند إخبار الطبيب لهم ليلة أمس بأنهم مؤشراتها الحيوية تُبشر بالخير، تذكر وقوف معتصم معهم طيلة الأسبوع الماضي، رغم حدوث العديد من المشاحنات بينه وبين عابد وبقية العائلة؛ إلا أنه لم يُبالي.
فاق من شروده على جلوس معتصم جانبه وبيده عدة حقائب تحتوي على الطعام، ابتسم معتصم إبتسامة طفيفة ماددًا يده بشطيرة من اللحم إبتاعها منذ قليل له خصيصًا لتمده بالطاقة، لمح في عيني طه الإمتنان الذي حاول إخفاؤه، لكن فشل في ذلك عند تذكره لأفضاله الكثيرة معه، تصنَّع طه الصرامة نافيًا برأسه: لأ مش عايز، كُل إنت.
ابتسم معتصم بخفوت ثم أمسك بكفه رغمًا واضعًا بها شطيرة ليأكلها، نظر له طه بصمت قبل أن يبدأ بتناول طعامه بهدوء، وللحقيقة كان يتجور جوعًا، بدأ معتصم هو الآخر بتناول طعامه بصمت، ليعم الهدوء عدة دقائق قبل أن يقطعه طه مُتسائلًا بلامبالاة مصطنعة: سألت مرات عمك!
توقف معتصم عن مضغ طعامه عدة ثواني، قبل أن يومئ بالإيجاب ولم يُعقب، عاد الصمت يعم مجددًا قبل أن يتسائل بتعجب: بس الذنب محطوط على عيلتكم أكتر.
رفع طه حاجبيه وكأنه يقول له حقًا، لتتحول نظراته إلى الصرامة والقسوة عكس ما كان به منذ قليل وهو يُجيبه: عايز أخويا يعرف إن مراته بتخونه ويفصل ساكت!
اتسعت عيني معتصم بصدمة ناظرًا له بوجه مشدوه، هاتفًا بعدم تصديق: بتقول إيه! تخونه!
أصدر همهمة مستنكرة وهو يؤكد حديثه: اه كانت بتخونه، نجدت أخويا قال ل خليل أخويا قبل ما يموت وينتحر، وعمك شاكر عارف دا.
كان معتصم يحدجه بغرابة وكأنه إنسان برأسين، عقله لا يستوعب كَم الحقائق التي يستمع لها، هز رأسه وكأنه يُخرِج ما استمع له للتو، ليهمس بصدمة: عمي شاكر يعرف!
هز طه رأسه بالإيجاب وهو صامت، ظهر الألم في صوته وهو يُتابع بحزن: عارف إن أخويا غلطه كان كبير لما قتلها، بس هو كان بيحب مراته أوي، كان بيموت في التراب اللي بتمشي عليه، أول مرة أشوفه ملهوف على واحدة كدا، حتى مراته الأولانية اللي سابته عشان كان عقيم، مكنش بيحبها للدرجادي.
شعر معتصم بالصداع يفتك برأسه، فلو علم فارس ما يُقال الآن سيُقيم القيامة وسيهدم الجميع، هو لا يتذكر ميادة كثيرًا، لكن سيرتها الطيبة المتنقلة بين سكان حارتهم تُكذِب كل هذا الحديث، تحدث أخيرًا بعد أن استعاد عقله الشارد: بس طنط ميادة الله يرحمها الكل كان بيحبها وبيحترمها، مستحيل تعمل حاجة زي دي، أكيد فيه حاجة غلط.
سحب طه شهيقًا حارًا ثم زفره على مهل مُتحدثًا بتيهة: مش عارف بقا، أديك عِرفت العداوة بين العيلتين سببها إيه، أظن أسباب تخليهم في طار عمرهم كله، وجيت انت كملت على الباقي.
قال جملته الأخيرة وهو ينظر له بإستنكار، لينظر معتصم أرضًا بحرج قبل أن يُجيبه بتبرير: واللهِ يا عمي أنا و سجود كُنا زي الأخوات وأكتر، عمرنا ما عملنا حاجة غلط، اا. أنا بس حبيتها من شهرين بالظبط وهي حتى والله العظيم ما تعرف بدا.
سدد له طه ضربة قوية على صدره قائلًا بسخط: اتلم يلا وانت بتتكلم على بنتي، قال بحبها قال. حبك برص.
قهقه معتصم عاليًا شاعرًا بالأُلفة تجاه ذلك الرجل، شاركه طه الضحك بخفوت، لتُقاطعهم الممرضة التي خرجت من غرفة سجود متشدقة بسعادة: المريضة فاقت.
البشر مرعبون للغاية. هكذا همس ريان لنفسه عند رؤية محتويات تلك الأوراق، اهتزت يد غزل بخوف ولم تستطيع السيطرة على رعشتها، تمتمت بدون تصديق ودمعاتها تسيل بدون إرداة منها: يالهوي. يالهوي.
لم تتكن حالة ريان تقل عنها، بل نظر أمامه بنظرات خاوية خالية من الحياة، الكون يصلح لعيش جميع الكائنات إلا الإنسان، وضع يده على قلبه وكأنه يُهدئ من روعه، استمع لصوت شهقات غزل التي صعدت دون إرادة منها، ما علموه أكبر بكثير ليستوعبه عقلهم الصغير.
نظرت له ببكاء وصوتها يعلو شيئًا فشيئًا، نظراتها روت الكثير دون الحديث، همست بإسمه بصوت لا يُسمع لكنه قرأه من تحرك شفتيها، عادت لتهمس لكن بصوت مسموع قليلًا: ليه! ليه بيعمل في أطفال بريئة كدا!
تسللت الدموع لعينه لا يجد رد مناسب لسؤالها، طرق قلبه بعنف عندما احتضنته طالبة منه برجاء ودون وعي: متسبنيش. متسبنيس ليهم. أنا خايفة.
أحاطها وعقله مازال شارد، خائف، لكن ليس عليه، بل عليها، لن يستطيع خسارتها ولو كلفه هذا حياته بأكملها، لن يتركها لهم مهما حدث، مسح على حجابها عندما ازدات حدة بكاؤها، مُهمهًا ببعض الكلمات المُهدئة: عمري ما هسيبك والله العظيم، لو طلبوا حياتي مقابل حياتك هدفعها وأنا مبسوط، انتِ بقيتي روحي يا غزل مش مجرد واحدة كدا وخلاص، اهدي والله ما هيحصلك حاجة.
تضخم قلبها عند سماعها لكلماته، وتوقفت عن البكاء كُليًا، رفعت أنظارها إليه لتستقر على عيناه الرمادية الآسِرة، متشدقة بعشق: أنا. أنا بحبك أوي يا ريان.
وبدلًا من الوجوم الذي كان يُسطِر ملامحه؛ ارتسم على وجهه علامات السعادة الشديدة، ليُجيبها بعشق مماثل لها: و ريان بيموت فيكِ يا قلب وروح ريان.
اِحمرَّ ووجهها بخجل شديد عندما لاحظت إقترابهم المبالغ به، كادت أن تبتعد فشعرت بذراعيه تُحيطانها أكثر، نظرت له؛ فوجدت نظرات الخبث والمكر تحومان في عينه العابثة، تلاها قوله الوقح تمامًا: ما تجيبي بوسة!
دفعته غزل بيدها ناظرة له بحاجبان مرفوعان، ثم تحدثت بسخط: هو انت كل ما تشوف خلقتي تقولي جيبي بوسة!
استند بيده أمامها، ليُصبح وجهه قريب من وجهها للغاية، ثم أردف بعبث: طيب بذمتك عمرك ما فكرتي تبوسيني!
تلك المرة ازدادت وقاحته حقًا وهي لن تصمت له، أمسكت بالمرآه التي كانت تُجاورها ثم قذفتها في وجهه، لتجرح حاجبه الأيمن مطولًا، وضع يده على عينه صارخًا بألم، نظر لها بغيظ ثم تحدث ناهرًا إياها: انتِ اتجننتي!
حدجته بشماتة جليَّة وإبتسامة مُنتصرة تتشكل على ثغرها، ثم أردفت بغرور: عشان تبقى تتلم وتتكلم بإحترام.
نفخ في وجهها بغضب ثم أخذ الأوراق وخرج من الكهف بحدة بدت لها مضحكة للغاية.
ألف سلامة عليكِ يا روح قلب أبوكِ.
ردت عليه سجود بصوت واهن ومتعب للغاية بعد أن دامت غيبوبتها لأسبوعٍ كامل مرَّ عليهم كالدهر: الله يسلمك يا بابا.
كاد والدها أن يُجيبه، فقاطعه معتصم الصامت منذ دخوله، ينظر لملامحها التي اشتاق لها حد اللعنة: سلامتك يا سوچي.
لم تُصدق سجود في البداية بأنه هنا، ففرصة وجوده مع والدها تكادُ تكون مستحيلة، ومع ذلك نظرت لمصدر الصوت لتجده واقف وعلى تغره إبتسامة مُشتاقة، همست بإسمه بتعجب وخوف عندما تأكدت ظنونها، لكن صوتها كان ضعيف للغاية لم يُسمع.
اقترب منها معتصم ممسكًا بيدها وكاد أن يبكي حقًا لا يُصدق وجودها أمامه، تأوه بألم عندما شعر بكف طه الذي هبط على ذراعه بقسوة، تبعه هتافه الصارخ به: ابعد إيدك عنها يلا، أنا مش مالي عينك ولا إيه!
ابتسم معتصم بإستفزاز، ثم استقام مُعتدلًا في جلسته، قبل أن يهتف بما جعل الدماء تسري في جسد طه: حاضر يا عمي هبعد عنها، أهي كلها أسبوعين على ما تخرج بالسلامة وهتبقى مراتي.
ورغم التعب المُسيطر عليها؛ فتحت سجود عيناها بفزع على حديث معتصم، ليس فقط بما قاله، بل وتفوهه بهذا الهراء أمام والدها، ازداد تعجبها عندما أجابه طه بهدوء حارق: إن شاء الله، روح صلي ركعتين وادعي إن العداوة تنتهي وبعدها هي ليك.
قطع حرب النظرات. بينهم هو دخول العائلة، وأولهم عابد الذي هرول مُسرعًا تجاه شقيقته يحتضنها بقوة وندم، أحاطها بشدة ثم تمتم بعتاب: كدا يا سجود تعملي في نفسك كدا! حتى لو كنا قسينا عليكِ فإحنا في الأول والآخر عايزين مصلحتك.
تشكلت الدموع في مقلتيها ثم تحدثت بصوت واهن: أسفة والله يا عابد، أنا محستش بنفسي والله العظيم غير لما سمعت صويتكم.
لم يُجيبها، بل ظل محتضنًا إياه بسعادة وإشتياق، مما زاد شعور الندم داخلها، رفعت أنظارها؛ لتجد معتصم يُحدجها بنظرات عاشقة، وعلى ثغره تتشكل إبتسامة صغيرة لطالما طمئنتها، بادلته الإبتسام ناظرة له بإمتنان، وكأن بفعلتها تلك أعطت الإذن لنبضه بالطرق دون إستئذان، ظل ينظر لعيناها الخضراء التي تأسره دائمًا، وعشقها، وعشق صاحبة تلك العينان أيضًا.
لاحظ طه نظراتهم الملحوظة، ليتنهد بحيرة ويأس ولا يعلم ما يفعل، فقد شُل عقله عن التفكير في علاقتهم المُعقدة، معتصم عشق إبنته وهذا ما تيقن منه طيلة الأسبوع الماضي، لم يتركه ولو للحظة، لم يغفل عنها دقيقة، كان يفعل كل ما بوسعه للدخول والإطمئنان عليها، رأى اللهفة في عيناه والحب مُسطر على وجهه، وما أحزنه أكثر هو حب إبنته له، حتى لو لم تعترف بذلك حتى الآن.
دخلت أميرة الباكية لغرفة إبنتها، ثم أبعدت عابد عنها لتحتضنها هامسة لها: وحشتيني يا عين أمك، وحشتيني يا ضنايا.
ذهب إليها طه ليقف جانبها شاددًا من أزرها: اهدي يا أميرة هي بقت كويسة وزي الفل، بس الدكتور قال لازم ترتاح شوية.
أومأت له بهدوء لتستند على طه بعدما جاء الطبيب وأمر بخروجهم لفحص المريضة، والتي نامت فجأة من الإجهاد، احتضنتها تسبيح أولًا وهي تشعر بألم في قلبها، فهي تُعتبر جزء من روحها ونصفها الآخر، هي شقيقتها التوأم وحياتها الأخرى، قبلت جبينها بحنان ودموعها تنهمر بشدة ثم وقفت بجانب عابد الذي يُحاول التخفيف عنها، خرج الجميع من الغرفة، وهنا فقد لاحظ عابد وجود معتصم، تنغض جبينه بغضب ولم بتفوه بأي كلمة، فقط حذره والده من قبل ألا يتشاجر معه وإلا سيفتعل معه المشاكل.
لاحظ معتصم نظراته والتي قابلها ببرود شديد، قبل أن يستدير ل طه مردفًا بهدوء: أنا هنزل تحت يا عمي هجيب أكل للكل وجاي، أكيد كلكم جعانين.
قاطعه عابد بنفور متحدثًا بحدة: دي عيلتي وأنا اللي هنزل أجيبلهم، خليك في نفسك.
أجابه معتصم بهدوء مستفز أثار حنق الآخر: واللهِ أنا مخدتش رأيك، اللي عايزه أعمله.
كاد الحديث أن يتحول لشجار بسبب تلك المشاحنة التي بينهم، ليُقاطعهم بصرامة: انزلوا انتوا الاتنين جيبوا أكل للكل ومش عايز خناق، وانت يا عابد انزل معاه وجيب أكل لعمامك زمانهم على وصول.
اعترض عابد بضيق: بس يا بابا...
اللي قولته يتنفذ يا عابد مش عايز كلام كتير.
زفر عابد بسخط ناظرًا ل معتصم الهادئ بغل قبل أن يسبقه للأسفل، لحق به معتصم بخطوات رتيبة وهادئة ولا يعلم ما ذلك البرود الذي تلبسه فجأة، قطع طريقه طه الذي تحدث بكلمات ذات مغذى: متحاولش تستفزه، على أد ما عابد عصبي بس حنية الدنيا كلها في قلبه، و سجود واخدة كل صفاته.
اتسعت إبتسامته ثم أجاب بعبث جعل طه يود أن يفتك برأسه: دا احنا عنينا ل سجود وأبو سجود وأخو سجود وأم سجود كمان.
اشتعل الغضب برأسه طه ثم نهره بحدة: إمشي يا حيوان من قدامي بدل ما أخليك تاخد أوضة هنا.
ذهب معتصم من أمامه وهو يُقهقه عاليًا بمرح، فقد عادت الدموية لجسده ووجهه الشاحب بعد تعافي سجود، ومن معاملة عائلة أبو زيد له؛ تيقن بأنهم ليسوا بذلك السوء الذي تُخبره عائلته به، الوضع بات مُتأزم الآن ويجب أن يجد حلًا لتلك الخلافات، ويجب أن يبدأ ب فارس.
سار ريان ذاهبًا ل موسى، مُتمتمًا ببعض الكلمات الحانقة وهو يضع يده على حاجب يده المجروح، وصل إلى حيثُ يجلس موسى ثم جلس جانبه بصمت دون أم يتفوه بكلمة واحدة، نظر له موسى بتعجب وكاد أن يتحدث لكنه انفجر ضاحكًا بدلًا من ذلك عندما لاحظ جُرج حاجبه، حدجه ريان بسخط وتهجم وجهه أكثر عندما أردف موسى دون أن يتوقف عن الضحك: مش قولتلك لو حاجة وقفت معاك ناديلي! أديك خدت على دماغك.
أمسك ريان بصحن الطعام الفارغ جانبًا مُهددًا إياه بتحذير: عارف انت لو مسكتش. أنا هفتح دماغك بالطبق دا.
وضع موسى يده على فمه ليمنع ضحكاته عندما لاحظ الضحر مرتسم على وجهه حقًا، اعتدل ريان في جلسته ثم تحدث بجدية وهو يُقدم الأوراق ل موسى الذي نظر لها بجهل: إيه دا!
تشدق بألم وهو يتذكر محتوى تلك الأوراق: دي فضايح سليم المنشاوي من عمه قبل ما يموت، وأعماله الوسخة.
قطب موسى جبينه بتعجب مردفًا: ما أنا عارف أعماله المشبوهة كلها!
هز ريان رأسه بنفي قبل أن يوضح له قائلًا: اللي انت عارفه دا ميجيش نقطة في بحر أعماله التانية، سليم المنشاوي ليه في تجارة الأعضاء زي ما انت عارف، وأغلبهم بيكونوا أطفال، والغرض من خطف الأطفال تحديدًا هو إنه قبل ما ياخد أعضائهم بيسلخ جلدهم ويشفيه هشان يبيعوا للأجانب اللي بيهتموا بنفسهم وجسمهم.
استمع موسى لحديثه الأخير بأنفاس لاهثة وبدون تصديق، ليُكمل ريان حديثه المتبقي والذي كان بمثابة صدمة له: بيعمل علاقات مقرفة مع جثث الأطفال دي سواء كانوا بنات أو ولاد، بيلعب بالنار مع كبار رجال الما يا وبياخد زوجاتهم في ليالي حمرا ولو اتعرف هيروح في ستين ألف داهية، ليه معارف كتيرة في الداخلية بيساعدوه في دا وكمان بيسهلوا ليه مرور الشحنات.
أغمض عينه وفتحها مرة أخرى بعدم تصديق وعقله لا يستطيع إستيعاب ما يُقال، تحدث بصدمة وشعور الحزن يتقازم داخله على هؤلاء الأطفال المساكين: إزاي إنسان يقدر يعمل كدا في أطفال! دي حتى الحيوانات بترحم الجثث، هو مرحمهمش لا عايشين ولا ميتين!
أدرك ريان صدمته القوية والتي كانت صعبة على كل من علمها، لينتظر قليلًا قبل أن يقول بحيرة: بس لازم دلوقتي نتواصل مع حد من الشرطة سلطته كبيرة وأمين عشان نعرف نثبت دا كله ويكون ورانا ضهر.
انتبه موسى لحديثه مُفكرًا في ذلك الأمر المُتأزم، فهم مطلوبون من العدالة، كيف سيتعاونون معهم، فكرَّ لبُرهة قبل أن يفتح عينه بحماس: عرفت نروح لمين، عمر البدري، كان ليا فضل عليه وأكيد هو هيبقى فاكرني.
قطب ريان جبينه متسائلًا بتعجب: مين عمر البدري.
أجابه موسى مُسرعًا: قريب يزن الرواي صاحب أكبر شركات الحديد في مصر. (بطل رواية خادمة الشيطان).
استرعى ذلك إستحسان ريان وها قد بدأوا بإظهار برائتهم معًا، تسائل موسى بحيرة: بس إزاي هنجيب الأوراق اللي هتثبت برائتنا؟
وضَّح له ريان بهدوء: منير المنشاوي قايل على مداخل ومخارج الشركة وأماكن الورق وباسورد الخازنة وموعد تسليم الشحنتين الجايين، وكأنه كان حاسس إنه هيموت ويتغدر بيه من سليم المنشاوي، وبكرا إن شاء الله هنبدأ بالتنفيذ.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون
هبط عابد درجات سلم المشفى ولا يعلم لما كل هذا الغضب، أغاضبٌ من معتصم، أم من التفكير ب وصال طيلة اليوم رغم كل ما فعلته به! عقله مُشوش ولأول مرة بحياته يشعر بالتيهة، يشعر بالشفقة على حاله، وهو الذي لم يرفع عيناه في أي أنثى قط، تأتي تلك التي نبض قلبه لأجلها وتقوم بخداعه!
وصل لمقهى المشفى فلم يرى أمامه ذلك المقعد الخشبي الصغير الموضوع جانبًا، تعرقلت قدماه به وكاد أن يسقط على وجهه؛ لتنتشله يد صلبه مُسنِدة إياه قبل أن يصل للأسفل، رفع عيناه ليجد أن صاحب تلك اليد ما هو سوى معتصم، والذي عقَّب ساخرًا: اسمالله عليك، ما يُقع غير الشاطر يا عبود.
سحب عابد ذراعه بحدة ثم وجَّه إصبعه أمام عيناه، مُردفًا بتحذير: ابعد عني أحسنلك بدل ما تندم، أنا مش ناقصك.
مط معتصم فمه وكأنه يُفكر، ثم تحدث بهدوء يُنافي عصبيته تمامًا: مالك بس يا عبود إيه اللي مضايقك! يا أخي اعتبرني صحبتك واحكيلي.
التوى فم عابد بإبتسامة ساخرة، مُردفًا بكلمات ذات مغذى ماكرة قبل أن يذهب من أمامه: صحبتك! والله انت أدرى بنفسك يا، يا عصوم.
أنهى حديثه ثم تركه وذهب يُفكر في حديثه، ثوانٍ معدودة ثم فتح عيناه على أخرهما عندما وصل له معنى حديثه، ليجز على أسنانه بغيظ هاتفًا بضجر: غلبني المرادي ابن طه، بس على مين! دا أنا كياد ومش هسيبه النهاردة.
ارتسمت معالم الحُسن على محياكِ، لكِ مني السلام لعيناكِ، يا مالكة القلب والوجدان، يا مولاتي.
هكذا همس ريان لذاته عند رؤيتها نائمة بسلام، أهدابها القليلة تُغطي على عيناها، وجهها الملائكي يُدخِل على قلبه السرور والسعادة، مشاكستها تروقه بل تُطربه، ضحكاتها. وآه من ضحكاتها التي تقتله، وقع بها دون إرادته، لفت حول قلبه خيوط عشقها ليُصبِح مُتَيْمَ بها.
لامس بكفه وجهها وعلى محياه إبتسامة صافية، يمرر يده على ملامحها وكأنه يحفظها، خفتت سعادته المؤقتة عند تذكره لمهمة غدًا، لن يستطيع أن يُفرِط بها حتى وإن كان الثمن حياته، لن يستطيع خسارتها، فهي أصبحت حاضره ومستقبله، والدته الأخرى! نعم والدته، تجذبه بحنانها، وكم يحتاج للحنان الذي افتقده.
هبط على جبينها يُقبله بعاطفة شديدة، هامسًا بصوت منخفض وكأنها تسمعه: مش هقدر أخسرك، مش هقدر بعد ما روحي رجعتلي تروحي من إيدي.
ارتدى موسى وشاحه وعلى ثغره ترتسم إبتسامة عابثة، كان الوقت قد تعدى منتصف الليل، والصمت يعم الأرجاء، رجاله نائمون وهو هنا هائم، تلك الصغيرة الحمقاء شغلت جُزءًا من تفكيره، أحيانًا يُوبخ ذاته لتعلقه بها هكذا، هو لم يراه سوى مرة واحدة! ومن بعدها بدأ عقله بتذكر موقفها الساذج، وإن أردتم الحقيقة؛ هو ذهب عدة مرات مُتخفيًا لمنزلها ليراها، ليلمحها مرة أو مرتان تسير مع والدتها.
وصل إلى الطريق الرئيسي ناظرًا بعيناه الماكرة حوله، ليُطلق صفيرًا عاليًا يتبعه صهيل حصان أسود ضخم يأتي ركضًا مُهللًا بقدوم صاحبه، ضحك موسى بصخب ماسحًا على خصلاته الطويلة، مُردفًا بإشتياق: وحشتني يا رعد.
مسح الحصان بملابسه وكأنه يحتضنه؛ ليبتسم موسى بخفة وهو يتذكر أمره لأحد رجاله ليلة أمس بالذهاب لمنزله والإتيان بحصانه الوفي، ترجل عليه ثم انطلق بعدها بسرعة عالية لمنزل تلك الصغيرة لرؤيتها.
بعد نصف ساعة من الركض السريع، وصل موسى لمقدمة الشارع ثم ربط حصانه بأحد الأعمدة مُربتًا على رأسه بلطف، سار عدة خطوات حتى وصل إلى العمارة التي تقطن بها، نظر لشرفة غُرفتها والتي علم موقعها عند رؤيته لها بإحدى المرات تقف بها، وضع يده على جيب بنطاله يتأكد من وجود هاتفه قديم الطراز به، أمسك بأحد الأحجار ثم قذفها تجاه شرفتها بقوة لتستيقظ إن كانت نائمة.
كانت تسبيح في تلك الأثناء تستذكر مُحاضراتها المُؤجلة، فلقد إقترب موعد إمتحانات العام الدراسي ويجب أن تفعل كل ما بوسعها لتحصل على تقدير جيد، انتفضت بفزع عند اصتدام أحد الأشياء بنافذة غرفتها، في البداية ظنت بأنه أحد الأطفال الذين يلعبون في وقت مُتأخر، لكن عندما تكرر الطرق مرة أخرى ابتلعت ريقها بقلق واتجهت ناحية النافذة، لم تستطيع رؤية شئ من الفواصل؛ لذلك حسمت أمرها بفتحها.
شهقت بألم عندما اصطدمت أحد الأحجار بجبهتها، وضع موسى يده على فمه بذهول، ورغم صعوبة الموقف كتم ضحكته التي كادت أن تصدح عاليًا، ناداها بصوت هادئ حتى لا يستيقظ الجيران وتُصبح الفضيحة علانية: بت يا تسبيح!
قطبت تسبيح جبينها بتعجب من ذلك الوقح الذي يُناديها هكذا، رفعت أنظارها للخارج ومازالت يدها على جبينها تضغطها بألم، وما هي إلا ثوانٍ وشهقت بهلع عند رؤيتها لذلك الوقح يقف أمامها وتلك الإبتسامة العابثة مُرتسمة على شفتيه، رفع يده مُلوحًا بأصابعه متشدقًا بعبث: هاي.
وكأنها لم تستوعب وجوده حتى الآن، حتى ثيابها المنزلية التي ترتديها لم تنتبه إليها، غمز لها بعينيه هاتفًا بوقاحة: بس جامدة البيچامة.
وتلقائيًا نظرت إلى ما ترتدي لتشهق مرة ثالثة بفزع من إلتصاق ملابسها بجسدها رغم حشمتها، وما زاد الطين بلة هو غطاء رأسها الذي لم تضعه حتى، نظرت له بغضب قائلة بصوت حاد خافت: انت وقح على فكرة.
استند على عمود الإنارة من خلفه ومازال مُحتفظًا بإبتسامته المُستفزة بالنسبة لها، ثم أجابها بعبث: عارف على فكرة.
لم تُعطي له أي فرصة أخرى للحديث، فأغلقت النافذة بسرعة وهي تُتمتم ببعض الكلمات أدرك بأنها تسبُه، تقدمت عدة خطوات ثم استندت على الحائط من خلفها، واضعة يدها موضع قلبها الذي يطرق بشدة، توترت ملامحها عندما عاد الطرق على النافذة لكنها لم تُبالي، توقف كُل شئ من حولها وعاد الصمت يعم المكان مرة أخرى، ورغم تيقنها من ذهابه؛ إلا أنها خافت أن تنظر من الشرفة مُجددًا، ليست بلهاء هي لتُعيد خطأها ثانيةً.
ذهبت لفراشها بخطوات بطيئة ثم جلست عليه بخفة تُفكر في هذا الغامض الوقح وما يُريده منه، تنبهت حواسها لصوت هاتفها الذي أعلن عن رسالة نصية، فتحته بهدوء، وما هي إلا ثوانٍ حتى غزا الإحمرار وجهها وبدأ قلبها بالنبض بشدة:
«ومالي أراكِ في كُلِّ الوجوه؟
أغزوتِ عيني أم غزتكِ الأماكِن!
لماذا أراكِ في كُل شئ؟
كأنِك في الأرض كُل البشر.
خضع قلبها لتلك الكلمات، استهلكت كل طاقة جسدها، أغمضت عيناها بقوة تُحاول ضبط أنفاسها الهاربة، مشاعرها الآن مُبعثرة، ذلك المُخادع لعب على وترها الحساس، ابتلعت ريقها الجاف بتوتر بالغ وهي تُفكر، هل يُحبها!
هزت رأسها وكأنها تنفي سؤالها، وكما تعلمت منذ عدة سنوات قليلة، عند الشعور بالتيهة؛ تتوضأ ثم تُصلي ركعتين لله، استغفرت داخلها مُتمنية من الله أن يغفر ذنبها الذي فعلته الآن، لكن تُقسم بأنه ليس بيدها.
وعلى بُعدٍ آخر.
سار موسى مُفكرًا بها وعلى ثغره إبتسامة حالمة، تلك الفتاة تخجل سريعًا ولن تتحمل وقاحته حقًا، ل ربما تنصهر من الخجل!
هز رأسه بيأس على أفكاره الوقحة مُتخيلًا إياها أمامه، هو لم يحبها بَعد، لكنه يشعر بالإنجذاب ناحيتها، وجهها يُدخِل لقلبه السرور والراحة، ولا يعلم كيف!
امتطى حصانه الذي أصدر صهيلًا عاليًا ثم إنطلق به سريعًا كيفما جاء.
سطعت شمس يوم جديد ملئ بالمفاجئات السارَّة والغير سارَّة، استيقظ معتصم بكسل فاردًا ذراعيه بنعاس، نظر لساعة الحائط فوجدها قد تخطت العاشرة صباحًا، تذكر مجيئه متأخرًا ليلة أمس ونظرات والده الحادة تتبعه، حينها هتف والده بسخط وصوت حاد: لما تقوم بكرا هيبقالي كلام تاني معاك.
قطب جبينه بضجر وهو يعلم الأمر الذي يُريد والده أن يتحدث به، بالطبع علم بذهابة للمشفى طيلة الأسبوع الماضي، وهو الذي كان يُحاول جاهدًا إخفاء الأمر عن عائلته، خاصةً والده و فارس، تنغص جبينه عندما تذكر ضرورة الحديث مع فارس بأمر والدته، لم يمر هذا اليوم مرور الكِرام كما يتضح.
ارتدى ثيابه والتي كانت عبارة عن بنطال من الچينز الأزرق وقميص من اللون الأبيض، خرج من غرفته ليجد والدته جالسة بوجه مُتهجم على الأريكة، وبمجرد ما إن رأته؛ حتى صاحت ساخطة: انت مش هتجيبها لبَر يا معتصم! أبوك نِزل الصُبح ومستحلفلك لما يرجع.
جلس معتصم جانبها ثم تحدث بهدوء يشوبه بعض السخط: وأنا عملت إيه لدا كله يا ماما!
اعتدلت في جلستها ثم استدارت له ضاربة إياه على كتفه وهي تُصيح بحدة: متلِفش وتدور عليا يا ولا، إيه اللي وداك تزور بنت عيلة النويهي!
حدجها بهدوء، فيبدو أن والدها روى لها ما حدث، وكما توقع تمامًا هو علم بذهابه للمشفى، لذلك كان غاضب منه ليلة أمس، أجابها بهدوء وهو يلمح قدوم شقيقته التي أتت من الداخل: بحبها يا ماما، بحبها وهتجوزها.
لطمت سميحة على ظهرها قائلة بصدمة: يا مصيبتي. بتحبها! وملقتش غير بنت النويهي وتحبها!
غمز لها معتصم بمزاح: القلب وما يهوى يا سوسو، وانتِ عارفة قصدي إيه بكلامي كويس.
إحمرَ وجهها خجلًا، فقالت بغضب لتُداري حرجها: احترم نفسك يا حيوان، انت نسيت إنك بتكلم أمك ولا إيه!
وقفت إهداء أم أخيها مُتحدثة بحماس: بتحب أي واحدة فيهم يا معتصم.
أحاطها معتصم من كتفها ثم قبَّل وجنتها، ثم أردف مُغيظًا والدته التي تنظر لهم بسخط: انتِ اللي ليا يا بت يا دودو. بحب يا ستي سجود بنت طه أبو زيد.
قطبت جبينها بتفكير مُتحدثة بجهل: أي واحدة فيهم! البيضة ولا السمرا!
أجابها غامزًا لها ثم تحدث بوقاحة: السمرا القمر اللي واخدة قلبي دي، عايزة تتاكل أكل.
واد يا معتصم.
ابتلع ريقه بتوتر تلك المرة على صراخ والدته، ليُودع شقيقته بقلق وبلاهة: طب أستأذن أنا بقا.
صدح صوت ضحكات إهداء عاليًا، لتصرخ بألم عند قذف والدتها لنعلها بوجهها، ثم اتجهت للمطبخ وهو تولول مُتحسرة على أبنائها: يا خسارتي على ولادي وتربيتي، تربية تسد النِفس.
جيبي الخيارة بتاعتي.
هكذا صرخ علي والد وصال في زوجته التي تُحارب معه لأخذ ثمرة الخيار، ثم هتفت صارخة: دي آخر واحدة وأنا اللي لحقتها، يا حرامي.
انتِ بتقولي إيه يا ولية يا خرفانة انتِ، وسعي بدل ما أطلقك النهاردة.
ضربت على صدرها بفزع بعد أن تركت الخيارة قائلة بحزن: يا مصيبتي! هتطلقني يا علي عشان خيارة!
لم يُجيبها بل ظل ينظر لها بحدة، بينما هي جلست على الأريكة ضرب على فخذها مُرددة بنواح وحزن: بقا دي أخرتها يا علي، هتطلق حب عمرك ومرات عيالك عشان بطنك، أنا بجد مصدومة، مصدومة، مصدومة.
صفق لها علي ثم ذهب ليجلس جانبها هاتفًا بفرحة: كدا نروح نقدم في المسرح الدولي واحنا متطمنين.
مسحت دموعها الواهية قائلة بسعادة: بجد يا علي! يعني خلاص هنمثل ونتشهر ونطلع في الطلافزيون!
نظر داخل عيناها بوله ثم تشدق بحب: بجد يا عيون علي، يلا بقا نقوم نلبس عشان نلحق اليوم من أوله.
وافقته في الحديث؛ لتقف مُسرعة ذاهبة ناحية غرفتهم ليبدأوا في إرتداء ملابسهم، وعلى جانبهم كانت تقف وصال بوجهٍ ناعث مُمتعض وشعر مُشعث، ناظرة لأثرهم بحرقة وغل شديدان، لقد سئمت من الأمر، كُل صباح تستيقظ باكرًا بسبب مشاجرتهم، أو إدعائهم للشِجار، كادت أن تنفجر حقًا وتذهب لتُمزقهم إربًا.
ذهبت ناحية الفراش مرة أخرى أملًا في النوم؛ لكنها استمعت لصوت رنين هاتفها واسم عابد يُزين شاشته، أجابته بخمول: آلو.
أتاها صوته الجامد آمرًا إياها بصوت مُبهم: ربع ساعة وألاقيكِ قدامي يا إما اعتبري نفسك مرفودة.
لم تكد أن تُجيبه بغلظة حتى أغلق الهاتف بوجهها دون أن يستمع لبقية حديثها، نفخت بضجر وظلت تُتمتم ببعض الشتائم حتى اتجهت إلى خزانتها لتنتقي الملابس التي ستذهب بها إليه.
تُقابلنا الحياة بمآساتها، لندخل نحن في حرب لا نعلم عنها شيئًا، تستقبلنا الجروح بعفوية، وما علينا سوى الإكمال والتحمل.
اتجه معتصم للأعلى حيث منزل فارس طارقًا على بابه، انتظر عدة لحظات حتى انفتح الباب وتظهر من خلفه تلك الوقحة لوچي والتي ترتدي تنورة قصيرة للغاية، وتوب لا يكاد يصل لمنتصف بطنها، استندت على الباب بإغراء مُتحدثة برقة: هاي عمو معتصم.
قهقه معتصم بصوت عالي عليها ثم حملها مُقبلًا وجنتها المنتفخة بقوة متشدقًا بمزاح: لو مدثر شافك كدا مش بعيد يتحرش بيكِ.
اتسعت عيناها بسعادة مُشيرة لملابسها: بجد هيعجبه يا عمو! أنا أصلًا لبساه ليه.
فتح عيناه بصدمة مُرددًا بعدم تصديق: لبساه ليه!
أكدت له بحديثها: أيوا طبعًا، أومال أخليه يبص برا!
تشنج وجهه بإستنكار مُتسائلًا بهمس عالي نسبيًا: أبوكِ كان فين وهو بيربيكِ.
أنا ذات نفسي معرفش أنا كنت فين والله.
هكذا تحدث فارس الذي أتى من الداخل مُمسكًا بالمنشفة بيده، نظر ل لوچي بحدة ثم أمرها بصرامة: ادخلي أقلعي المسخرة اللي انتِ لبساها دي بدل ما اتبرى منك وأخلص.
أنزل معتصم الصغيرة التي تخصرت محلها قائلة بغضب وحديث لا يتماشى مع سنواتها الخمس: اتبرى مني و مدثر كدا كدا هيتجوزني، أنا مش عارفة هفضل عايشة في الهم دا لحد إمتى!
أنهت حديثها ثم اتجهت نحو غرفة والدتها لتشكي لها من أفعال والدها الظالمة، تاركة أبيها وعمها ينظران لأثرها ببلاهة، وكأنهما هما الأحمقان لا هي.
أعاد فارس النظر ل معتصم المصدوم ثم أردف بسخط: سيبك من الخِلفة العاق دي وتعالى أقعد.
جلس معتصم وهو يضحك بشدة على أفعال لوچي والتي تكبر سنها كثيرًا، فأفعالها تليق على فتيات الليل أكثر لا على طفلة في سن الخامسة.
تنهد معتصم مطولًا لا يعلم كيف يبدأ حديثه، يشعر بالتوتر والخوف في آن واحد، يعلم مدى حساسية إبن عمه تجاه ذلك الموضوع تحديدًا، لكن يجب عليه التكلم، يجب عليه المواجهة، ستتم آجلًا أم عاجلًا، وهو لا يستطيع التأجيل الآن.
قرأ فارس حيرته، فوضع يده على قدمه مُشجعًا إياه على الحديث: قول كل اللي عندك ومتخافش.
صمت معتصم يشعر بتأنيب ضميره، ف فارس لم يكن إبن عمه فقط، بل كان كأخًا للجميع، والجميع يُحبه بلا إستثناء، إلا والدته!
حمحم معتصم قبل أن يبدأ حديثه قائلًا بتوتر: عايز اتكلم معاك في موضوع مهم، عارف إنه ممكن يضايقك بس لازم تعرف.
قطب فارس جبينه من مقدماته التي ليس لها أي معنى، مردفًا بهدوء: احكي يا معتصم في إيه!
وبتوتر وقلق بالغ بدأ بسرد ما سمعه من كُلًا من ماجدة وطه وبالطبع لم يَقُم بذكر أسمائهم، وتلك الحقائق المخفية التي تخص والدته المتوفاه، والتي كانت صادمة له بشدة، كان يستمع له وعقله الصغير لا يستطيع إستيعاب حجم ما يرويه، كل ما يأتي بباله الآن هو مشهد والدته وهي غارقة بدمائها وبجانبها ذلك الحقير مُنتحرًا جوارها.
شحب وجهه وسُحبت أنفاسه عِند ذِكر معتصم لخيانتها لزوجها الثاني وهذا سبب قتله لها، وانتهى بقوله القلِق على تعابير فارس التي تحولت من الصدمة إلى القسوة: و. وعمي شاكر. عارف الحقيقة كلها.
وقف فارس مكانه فجأة مُمسكًا به من تلابيبه وهو يصرخ بغضب عارم: انت بتقول إيه! انت اتجننت! جبت الكلام دا كله منين! انطق!
خرجت زهر على صوت صراخ زوجها، أصابها الفزع عندما رأت المُشاحنة بينه وبين معتصم الهادئ والتي كادت أن تتحول لعِراك كبير لا يُمكن السيطرة عليه، هرولت إليه مُسرعة لتُمسك به من ذراعه قائلة برجاء: فارس عشان خاطري سيبه، انت بتعمل إيه!
دفعها فارس بعيدًا ثم التفت ل معتصم لاكمًا إياه بوجهه: لو سمعتك بتجيب سيرة أمي تاني اعتبر إن ملكش إبن عم اسمه فارس.
وضع معتصم يده على وجهه متأوهًا بألم، استمع لحديث فارس المُعادي له فتحدث بتبرير: يا فارس اسمعني، أنا والله مش قصدي حاجة، أنا جيت أقولك عشان...
قاطعه بصراخ وهو يستعد للهجوم عليه مرة أخرى: عشان لما تيجي تتقدم لبنت أبو زيد يبقى عندك حِجة مُقنعة، هما اللي طيبين وأمي أنا اللي خاينة صح!
فتح معتصم عينيه بصدمة من تحليله للموقف بهذا الشكل، هزَّ رأسه نافيًا وكاد أن يتحدث، فقاطعه فارس قائلًا بقسوة: اطلع برا يا معتصم، اطلع برا ومتطلعش هنا تاني.
أنهي حديثه ثم ولج لغرفته، صافقًا بابها بعنف تاركًا الآخر ينظر لأثره بحزن، استدار ل زهر التي تحُك جبينها بتعب ثم أردف: والله يا زهر أنا ما قصدي حاجة من اللي هو قالها، أنا بس.
قاطعته بلطف مبتسمة له بشحوب: فهماك يا معتصم وعارفة انت عايز تقول إيه، وأنا هفهمه دا بس لما يهدى شوية، انت عارف إنه أد إيه الموضوع دا حساس بالنسباله، فمتزعلش منه.
طالعها بإمتنان قائلًا بحزن: مش زعلان منه، فارس أخويا قبل ما يكون إبن عمي، استأذن أنا بقا.
ودعته بود مُغلقة الباب خلفه، ثم استدارت موجهة نظرها نحو غرفتهم بشرود، أخذت نفسًا عميقًا مُستعدة للدخول له، هي الآن ستُقابل عاصفته الهوجاء والتي من الممكن أن تُسبب الدمار للجميع، وهي الوحيدة التي تستطيع إيقافها، لكن هل ستقدر تلك المرة؟
اجتمع موسى ب ريان بعيدًا قليلًا ثم أخرج هاتفه ينظر لشاشته بتدقيق يبحث عن رقمٍ ما، قطب ريان جبينه مُتسائلًا بتعجب: انت معاك تليفون! مش كدا ممكن نتقفش!
وضع موسى الهاتف على أذنه بعد أن اختار أحد الأرقام، ثم أجابه نافيًا: لأ. أنا التليفون دا جايبه إمبارح ومحدش يعرف عنه حاجة و...
قطع حديثه عندما أجاب الطرف الآخر، ليردف موسى بسعادة: ألو! عمر باشا!
علي الطرف الآخر. كان عمر يجلس بجانب يزن الراوي و مراد يتناقشون في أمرٍ هام، ليصدح هاتفه برنين مزعج لأحد المهرجانات الشعبية، تأفف يزن ناظرًا له بحدة: انت مش هتعقل ابدًا! رُد على الزفت دا أو اقفله خالص.
نظر عمر للهاتف ليجده رقم مجهول، ليُحدج يزن بغرور قائلًا بتكبر: رقم غريب، معجبيني كتير وأنا عارف.
استند يزن على المقعد الوثير من خلفه متشدقًا بجمود: مراتك قاعدة برا، وبكلمة واحدة مني هخلي ليلتك طين النهاردة.
ابتلع عمر ريقه بتوتر هاتفًا بتلعثم: رزان! و. وأنا عملت إيه دلوقتي يعني!
كتم مراد ضحكته على تعابير عمر المتوترة، لم يستطيع التحمل إلا أن صدح صوت ضحكاته العالية، تلاه تعقيبه الساخر: ظابط هفأ.
حدجهم عمر بغيظ ثم نظر لهاتفه الذي يلح على الإتصال مُجيبًا بهدوء: ألو! السلام عليكم.
إلتوى ثغر يزن بإبتسامة خفيفة تكاد تكون ساخرة، بينما عاد مراد للضحك مرة أخرى ولا يعلم ما به عمر اليوم حقًا، يبدو أنه دخل الإسلام مجددًا، طالعهم عمر بحقد ثم أخذ هاتفه وخرج للتحدث به في الخارج.
أجابه موسى بسعادة: ألو! عمر باشا!
رد عليه عمر بجدية مُستفهمًا: أيوا أنا مين معايا.
ا. أنا موسى يا باشا اللي قابلته يوم الكمين الإرهابي، وأنا اللي بلغت عن سليم المنشاوي بس للأسف اتقبض عليا.
تذكره عمر على الفور، ليفتح عيناه متحدثًا بدهشة: أيوا موسى. أنا افتكرتك، بس انت هربت مش كدا!
ضيق في سؤاله الأخير عيناه وكأنه أمامه ليرى تعابيره، ليُحمحم موسى بحرج: أه. ولسه هربان. لو سمحت كنت عايز حضرتك في خدمة مهمة، وعندي إستعداد بعدها أسلِّم نفسي والله.
ورغم علم عمر بخطورة الأمر الذي سينجرف فيه، إلا أنه سيُساعده، ليس فقط لمساعدة موسى له من قبل، بل لأن يعلم قذارة سليم المنشاوي وجميع أتباعه، ولم يستطيع أي أحد حتى الآن إثبات أي تُهمة عليه، وبالطبع موسى هو أحد ضحاياه، لذلك أردف بهدوء: خدمة إيه!
تشجع موسى أكثر على الحديث، ليبدأ بسرد ما يعلمه عن سليم المنشاوي وقذارته، وقتله لعمه منير المنشاوي، بالإضافة إلى تلك الأدلة التي تركها قبل موته بلغة عربية معكوسة وحلهم للغز تلك الأوراق، وعلمهم للأماكن التي يحتفظ بها سليم بالأدلة التي من الممكن أن تُثبت برائته هو و ريان وغزل بالإستناد إلى الكاميرا الموضوعة بغرفة مكتبه حيث تتم الإتفاقات والخدع، ثم بدأ بسرد حكاية ريان وغزل له، حتى انتهى من حديثه متشدقًا بترقب: فكنت عايز من حضرتك تأمني وتأمن اللي معايا لحد ما نثبت برائتنا، وهسلم ليك مواعيد الشُحنات والورق كله اللي فيه بلاويه كلها.
صمت عمر قليلًا وشرد يُفكر في أبعاد مُختلفة، إن علم يزن سيكون هذا ضربة الحظ له، سيعود الشيطان مع عودة المافيا مجددًا، لكن يجب أن يعلم بذلك فهو الأكثر علمًا بألاعيبهم، تنهد عمر مُطولًا ثم أدرف بإنجاز: تمام يا موسى، هكلمك بليل أعرف منك تفاصيل أكتر، واعتبر الموضوع دا عندي.
تهلل وجه موسى بشدة وكذلك ريان الذي إستمع للمحادثة بأكملها شاكرًا إياه بإمتنان: شكرًا ليك بجد، مش عارف أشكرك إزاي والله، هتقدملي خدمة مش هنساها العمر كله.
رد عليه عمر بود: العفو يا موسى، وأنا عارف إنك برئ عشان كدا ساعدتك.
كاد موسى أن يُجيبه، فقاطعه ريان بصوت مُتذمر ضاربًا بضربات خفيفة على ذراعه: قوله يجيب أكل وهو جاي، بقالي يومين على لحم بطني.
زجره موسى مُحذرًا إياه حتى لا يسمعه عمر على الناحية الأخرى، لكن كان الآوان قد فات، ليسمع قهقهته العالية ثم أردف: حاضر هجيب أكل وأنا جاي، مش هتغشى وناكل كلنا سوا.
اتسعت إبتسامة ريان فأردف بسذاجة: الله يسترك والله.
أغلق عمر الهاتف بعد تبادل السلام ثم دلف للغرفة مُجددًا بوجه مَرِح غامزًا ل يزن وهو ينظر له بنظرات ذات مغذى: عندي ليك مهمة من اللي قلبك يحبها.
تسائل مراد بتعجب: مهمة إيه!
بدأ عمر بسرد ما رواه له موسى ومعرفته بكل المعلومات التي قد تمس المافيا التي يتعامل معها سليم المنشاوي وأعمالهم المشينة ولم يغفل عن تفصيلة واحدة، وبإنتهاء حديثه؛ برزت أسنان يزن البيضاء بغل واسودت عيناه بشدة، وها هو مع عودتهم؛ عاد الشيطان مرةً أخرى.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون
ذهبت وصال في الوقت المُحدد للمكان التدريسي الخاص ب عابد، طيلة الطريق لم يتوقف عقلها عن التفكير، حديثه غامض، مُبهم، وحاد، تخشى أن يكون قد علم شيئًا عن ما كانت تُخطط له سابقًا، وعند هذه الفكرة طرق قلبها بعنف، كيف سيعلم! هل من الممكن أن يكون أحمد قد أخبره مثلما هددها سابقًا، لا تعلم، لكن كل الإحتمالات تتقاذف أمامها الآن.
دلفت للداخل بخُطى رتيبة هادئة، لكن قلبها قَلِق، وجدته أمامها يُحدجها بغموض، اقتربت منه مُحاولة الثبات وأخذ أنفاسها الهاربة، ثم تشدقت بتساؤل: حضرتك طلبتني بدري ليه يا مستر عابد! في إيه!
صمت عدة ثواني ثم أجابها بهدوء غريب: في إن الإمتحانات قربت والظاهر إن نسيتي إن عندك مجموعة بدري الصبح، الأطفال محتاحين مراجعة يا أستاذة، يعني كلهم دلوقتي ملزومين منك.
قطبت جبينها مُتسائلة بتعجب: بس أنا مش بديهم بدري كدا! هما عليهم الساعة 2.
رسم على ثغره إبتسامة مُستفزة قبل أن يُجيبها بسماجة حقيقية: أنا اللي اديتهم، دول أطفال وإحتمال كبير الدنيا تمطر النهاردة، مش هيستنوا حضرتك لحد ما تصحي من النوم عشان يجوا في عِز المطر.
تهجم وجهها بشدة ثم أردفت بهجوم عندما توصلت لسبب فعلته: آااه قول كدا بقا. حضرتك متغاظ مني عشان الطُلاب بقوا يحبوني وغيران مني، عشان كدا عايز تطفشني!
صمتت قليلًا ثم تحدثت بتحدي سخيف ومضحك: بس على جُثتي إني أمشي من المكان دا، ولو مش عاجبك إطلع انت برا.
تحدث ببرود مُحدجًا إياها بسخرية: دا بيتي أنا على فكرة، يعني لو حد هيطلع فهو انتِ.
نظرت حولها والآن استطاعت إستيعاب حديثها، حمحمت بحرج ثم نظرت له مرة أخرى مُتحدثة بقوة: ولو برضه، دا ميدكش الحق إنك تمشيني من كل هنا، أنا بشتغل بلقمة عيشي وعرق جبيني و...
قاطعها بصراخ من وصلة حديثها المُهدد: خلاص انتِ هتديني مُرَشح، يلا امشي شوفي انتِ رايحة فين.
شعرت من حديثه بالإهانة، لذلك تصلبت مكانها تُربع ساعديها معًا وهي تنظر له بتحدي، رفع حاجبيه بإستنكار من عنادها، فأردف آمرًا إياها: بقولك امشي.
مش ماشية.
قالتها بجمود إستفزه، ليضغط على أسنانه بعصبية حتى كاد أن يُمسك برأسها المُتيبس ويُحطمه بالحائط، لكنه تمالك نفسه متعجبًا من أفكاره الشريرة تلك، والتي لم تظهر من قبل إلا بعد ظهور تلك الحمقاء التي تُثير أعصابه، اغتصب إبتسامة صفراء رأتها واضحة، ثم تحدث جاززًا على أسنانه: ممكن يا أستاذة وصال تروحي تشوفي الطُلاب اللي مستنين حضرتك جوا عشان إمتحانتهم!
راق لها إحترامه بالحديث حتى وإن كان رغمًا عنه، ابتسمت إبتسامة مُغترة أشعرته بالحنق الشديد، ثم أومأت له بالإيجاب، وما كادت أن تتحرك حتى ناداها بصوت هادئ: أستاذة وصال.
استدارت له ترمقه بتعجب، وما كادت أن تتحدث حتى رأته يُخرج حِفنة من الأموال ويُعطيها لها، تنغض جبينه بإستغراب مُبتلعة ريقها بتوتر، ثم نظرت له مُتسائلة بتلعثم: إي. إيه دا!
قرَّب منها الأموال أكثر ثم أردف بلامبالاة مُصطنعة وعيناه تدرس جميع تحركات جسدها المتوترة: خلي دول معاكِ لحد ما أخلص، دول 10 آلاف جنيه ومينفعش أسيبهم هنا عشان محدش يسرقهم ويمشي.
أرجعت خصلتها الشاردة خلف أُذنها ثم تحدث وعيناها مُلتمعة من كثرتهم: ليه ما تخليهم معاك انت!
راوغ معها بالحديث ببراعة: الطلبة اللي عندي ناس واعية وكبيرة، يعني ممكن يكون حد فيهم مش أمين وياخدهم.
مددت يدها تأخذ منه النقود وهي ترمش بسرعة، شعرت بأن جشعها سيتحكم بها تلك المرة، حاولت مُداراة توترها ثم إبتسمت إبتسامة مُهتزة، وذهبت بعدها مُسرعة للغرفة الخاصة بها.
لاحقتها نظرات عابد الغامضة، ذلك لم يكن سوى إختبار وضعه لها ليكشف لعبتها القزرة، أهي أمينة كما تدَّعي، أم مجرد مُحتلة دارت حوله لتسرق الأموال ثم تهرب!
اليوم هو الأول للسير خلف خطة مدثر العبقرية، تجهز شهاب للهبوط لمنزل عمه حيث تقبع تلك التي يُفكر بها دائمًا، نظر لمظهره للمرة الأخيرة قبل أن يُمسك بلوح الشيكولاتة الكبير، وباليد الأخرى يُمسك باقة من الزهور البيضاء الخلابة، جال بخاطره حديث مدثر وهو ينصحه: هدية، بوسة، غمزة، ويا سلام بقا لو دخلت في الموضوع على طول وحضنتها، الدنيا هتمشي معاك حلاوة.
ارتسمت إبتسامة ساخرة على جانب ثغره، ثم أردف بإستنكار: على آخر الزمن باخد رأي مدثر، اللي لو كنت اتجوزت كنت خلفت أده.
تنهد طويلًا ثم رسم على شفتيه إبتسامة حالمة: بس كُله يهون لأجل تلك العيون.
في تلك الأثناء دخلت عليه والدته بغتةً وعلى وجهها علامات التهجم الواضحة، وبفزع حاول تخبئة تلك الأشياء التي بيده وإلا ستفتضح أمره، لكن كان الآوان قد فات وانتهى الأمر، وضع كِلتا يديه خلف ظهره لإخفاء باقة الورود، مُتحدثًا بوداعة مُصطنعة: حضرتك عايزة حاجة يا ماما!
ضيقت ماجدة عيناها بشك وقد لاحظت حالة الإضطراب التي سيطرت عليه، ولم يُخفى عنها تخبئته لشئ ما خلف ظهره، اقتربت منه بهدوء مُتحدثة بصرامة: مخبي إيه ورا ضهرك يا ولا!
فتح عيناه بهلع من كشفها لأمره، فإن علمت ما يُخطط له ستفضحه في المحطات الفضائية بالتأكيد مثلما فعلت المرة المُسبقة، حاول إلهائها عن سؤالها، فتحدث بمرح مصطنع لم يروقها: بس إيه الحلاوة والجمال دا يا ماجي، دا ولا كأنك صغرتي عشرين سنة.
تهجم وجهها، فإقتربت منه فجأة مُتحدثة بسخط: انت هتاكل بعقلي حلاوة يا روح أمك! متلفش وتدور عليا بدل ما وربنا أروح أقول لأبوك، وهو اللي يجي يشوف بتخطط لإيه بمعرفته.
هز رأسه بهستيريا مُمسكًا بيدها بعد أن وضع باقة الزهور على الكومود: لأ وحياة عيالك يا شيخة بلاش أبويا يعرف، وأهو يا ستي كنت مخبي الورد دا.
نظرت للباقة بصدمة شديدة، فصمتت عدة ثواني حتى شعر لوهلة أنها تصنمت محلها، لكن لطمتها التالية على صدرها أوحت له بأنها ما كادت على قيد الحياة، تشدقت ماجدة بعدم تصديق: يا مصيبتي، ورد!
إلتوى ثغر شهاب بإستنكار، ثم أردف بضجر وأعين ساخرة: إيه! عندك مشكلة مع الورد هو كمان!
رفعت أنظارها المنصدمة له ثم همست بصوت خافت مشدوه: انت رايح تتجوز من ورانا!
أغمض شهاب عينه بيأس قائلًا بقلة حيلة: اتجوز إيه بس يا ماما! إيه اللي انتِ بتقوليه دا!
تحول وجهها في ثوانٍ من الصدمة إلى الوداعة المُصطنعة، والتي أخافته بشدة، ثم تحدثت بحنان مُفاجئ: جايب الورد دا لمين يا حبيبي، احكيلي دا أنا أمك، يعني سرك في بير.
امتعض وجه شهاب بإستنكار وكأنه يقول لها حقًا! فهمت ما يرمي إليه؛ فأمسكته من يده ثم أجلسته على الفراش وجلست بجانبه، مُربتة على صدره قائلة بمكر: يا واد لو قصدك على اللي حصل المرة اللي فاتت فكدا كدا أبوك كان هيعرف، يعني يعرف دلوقتي إن هتشيل ملحق ولا يوم النتيجة ويرنك علقة ساعتها!
توترت ملامحه وبات على وشك الإقتناع بما تقوله، أكملت حديثها الماكر بقولها الخافت: يا ضنايا أنا أمك وعارفة مصلحتك أكتر منك، قولي بقا. جايب الورد دا لمين!
حسنًا. حسنًا، هي بالنهاية والدته، وكما تقول الآن هي تريد مصلحته، وبحديثها الماكر إستطاعت إقناعه بالإفصاح، نظر حوله بترقب ثم قرَّب وجهه منها مؤكدًا عليها بشك: يعني يا ماما أكيد مش هتقولي لحد!
نفت مُسرعة قائلة بمسكنة: يا حبيبي لأ طبعًا، هو أنا ليا غيرك!
تسللت الراحة لفؤاده، ثم بدأت حديثه بقوله الخافت والمتوتر: بصراحة أنا جايب الورد دا ل إهداء بنت عمي بكر، أنا بحبها من زمان وكنت ناوي أتقدملها بس مستني أخلص الجامعة و...
وما كاد أن يُكمل حديثه؛ حتى أصدرت والدته صرخة مدوية أتى على أثرها جميع من بالمنزل: يلاهوي.
عاد ريان إلى الكهف فوجد غزل مُنتظرة إياها وعلامات الضيق بادية على وجهها، جلس جانبها ثم سألها بإستغراب: مالك مكشرة ليه!
حدجته بغضب متسائلة بعصبية: كنت فين دا كله وسايبني لوحدي يا ريان!
ارتسمت إبتسامة مُتسلية عابثة على ثغره، اقترب بوجهه منها بمكر ثم تسائل بمراوغة: وحشتك!
وحشك قطر يا بعيد، أنا جعانة ومكلتش من إمبارح.
صُدم من إجابتها وتشنج وجهه بسخط، دفعها بيده من ذراعها قائلًا بضجر: طب اسرحي بعيد بقا، وأنا اللي قولت البت هتقلب رومانسية وتبل ريقي بكلمة عِدلة، وانتِ ما شاء الله قالب طوب.
رفعت حاجبها بإستنكار ولم تُجادله، ليس لديها الطاقة للمجادلة الآن، فهي تشعر بالجوع ومعدتها تصرخ من الألم، وضعت يدها على بطنها مُغمضة عيناها بتعب، جسدها واهن للغاية وتشعر بالدوار، لاحظ ريان حالتها فتحدث بهلع وهو يرى حالتها المُتعبة تلك: مالِك بجد يا غزل! شكلك تعبانة.
حدجته بطرف عينيها بغضب ثم تشدقت بإستنكار خافت: لأ كتَّر خيرك والله إنك حسيت.
وضع يده على جبينها ليقيس حرارتها فوجدها عادية للغاية، فأردف بقلق حقيقي وكأنه يرجوها بقول أنها بخير: متقلقنيش بالله عليكِ، مالِك!
يا إلهي، يُشبه الطفل الصغير حقًا الآن، وتلك اللحظة تشعر بأنها والدته، ابتسمت بخفوت تُحاول مُدراراة الألم: متقلقش أنا بخير، دايخة ومصدعة وبطني بتوجعني شوية بس.
نظر لها ريان قليلًا بتفكير، ثم هتف بجدية شديدة: لتكوني حامل!
فتحت غزل عينيها على آخرهما من حديثه الأحمق والمُغفل مثله تمامًا، بينما أكمل هو بتفكير عميق: بس أنا مبوستكيش ولا مرة! ولا يمكن حامل عشان بوستك من راسك وانتِ نايمة! لأ لأ خلاص أكيد شوية برد وهيروحوا لحالهم.
نظرت له بصمت قائلة بجمود مُريب: بوستني من راسي إمتى!
صمت فجأة وكأنه أدرك حجم الفضيحة التي أفصح عنها، ابتسم ببلاهة ولا يعلم بما يُجيبها، لتسأله بقوة أشد تلك المرة: ريان متتوهش.
عض على أظافره وكأنه يُفكر في حل يُسعفه من غضبها، لم يجد ولم يتوصل لشئ، لذلك نظر له بعينان بريئتان متشدقًا بإعتذار: بصي هقولك. بس متزعليش مني.
انتظرت تسمع ما سيقول وهو يُراقب أفعالها، حتى اعترف بخفوت وحذر: بوستك الصبح من راسك وانتِ نايمة.
تهجم وجهها بشدة وكادت أن تصرخ به؛ حتى هتف قبلها بإعتذار جعل قلبها يكادُ أن يتحرك من مكانه من حديثه: مش قصدي والله أعمل كدا، بس أنا كنت خايف عليكِ وبفكر في حاجات مش كويسة ممكن تحصلك بعد الشر، عشان كدا بوستك.
كم هو لطيفٌ للغاية، وكيف تغضب منه وهو به كل تبك البراءة! حسنًا لم تحزن لكن ستُظهر عكس ذلك حتى لا يُكررها مُجددًا.
ربعت ساعديها ونظرت للناحية الأخرى مُدعية الغضب، شعر بالذنب يتخلله لا يُريد أن يُحزنها، خاصةً إن كان هو السبب في ذلك، جلس القرفصاء أمامها مباشرةً قائلًا برجاء: متزعليش مني يا غزالتي.
أغمضت عينها بهدوء ثم فتحتهما على مهل، نظرت له بعتاب ثم هتفت به تؤنبه: ريان انت ليه مش عايز تفهمني! أنا مش عايزة أعمل أي حاجة غلط وانت بتعمل عكس كدا، ليه بتضغط عليا بالشكل دا! ليه عايز تحملني ذنب أنا مش أده!
مش قصدي والله.
هتف بها بحزن؛ لكن تلك المرة يجب أن تقسو عليه، يجب أن تضع حدًا لعلاقتهم المُبهمة تلك، علاقتهم حتى الآن غير شرعية تتنافى مع دينهم، لذلك قررت الإفصاح عما يجول بخاطرها، رغم أنه صعب على قلبها قبله هو، لكن لا يوجد خيارٌ آخر، لذلك هتفت بصرامة: ريان بعد إذنك ملكش دعوة بيا تاني لحد ما نرجع، لو حصل وثبتنا برائتنا يبقى نكمل كل حاجة شرعي، ولو محصلش يبقى نبعد أحسن ليا وليك عشان دا غلط وأنا مش هرضى بالغلط دا أبدًا.
صُدم من الحديث، تألم قلبه. بل تفتت لقطعًا صغيرة، أتطلب منه الإبتعاد وهي مَن وجد بها الحنان الذي افتقده لأعوامٍ طويلة! أتطلب منه الإفتراق بكل تلك السهولة!
كانت ملامحه مُبهمة غير مقروءة مما أقلقها بشدة، حديثها قاسٍ لكن هي معها كل الحق، وقف فجأةً من مكانه ولم يُعقب على ما قالته، بل غيَّر مجرى الحديث مُخبرًا إياها بجمود: موسى كلم حد من معارفة وإحتمال كبير نطلع لشركة سليم المنشاوي النهاردة، عشان لو إتأخرت متقلقيش، وهيكون معاكِ حد ياخد باله منك، وأكلك هيوصلك كمان شوية، سلام.
رمى بجملته ثم هرب من أمامها والألم مُرتسم بعيناه، لم يكن يتوقع أن تُخبره بذلك وبكل تلك القسوة، بينما هي نظرت لأثر ذهابه بحزن شديد، وما هي إلا ثواني وكانت تنفجر في البكاء المرير، تُحمِّل ذاتها ذنب إحزانه، وهو أكثر الأشخاص لُطفًا وحنانًا.
وصل كُلًا من يزن وعمر ومراد إلى المكان المُتفق عليه، استقبلهم موسى بترحيب وتبعه ريان الشارد، مدَّ موسى يده ليُصافحهم وكذلك فعل ريان بود شديد، جلسوا جميعًا على الأحجار العالية المُتراصة بتدقيق شديد ثم بدأوا بالحديث والتخطيط عما سيفعلوه، حديثهم كان غامض، مُبهم، خَطِر، ومُقلق بذاتِ الوقت، وخاصةً يزن الذي كاد أن يُطلِق شررًا من عيناه.
وبعد قرابة الساعة وحلول الليل، اتفقوا جميعًا، وكادوا أن يتفقوا على ميعاد الهجوم، حتى قاطعم عمر بتذكر وهو يحمل أحد الحقائب: أه صح نسيت، دا الأكل اللي انت طلبته يا ريان.
جز يزن على أسنانه بغيظ يُحاول التحكم بأعصابه حتى لا يفتك برأس ذلك المُغفل، بينما اتسعت إبتسامة ريان بحماس، فتح الأكياس ليجد الكثير من المأكولات الشهية، أخرج كمية مُناسبة منها ثم وضعها في كيس بلاستيكي آخر، مُناديًا بصوت عالي على محفوظ الذي يقف بعيد نسبيًا بأمر من موسى.
ذهب إليه الآخر مُسرعًا ثم أردف بإحترامك: أؤمر.
مدَّ يده له بالكيس مُخبرًا إياه بود: لو سمحت يا محفوظ ودي الأكل دا ل غزل بسرعة وتعالى تاني.
التقط من الحقيبة مردفًا: عنيا، خمس دجايج وعيكون الوكل وصلها.
التفت لهم ريان مرة أخرى قائلًا لهم بحماس: هنبدا االشغل من إمتى!
وقف يزن من محله مُنفضًا الغبار عن ثيابه، ثم قال بشر وغموض: هنبدأ من دلوقتي وهنروح حالًا...
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون
الجو هادئ إلا من صوت الأشجار التي تُصدِر هسيسًا خافت، السماء مُحاطة بهالة السحاب الأسود رغم حلول الليل، أجواء شتوية بحتة تُدخل الرهبة على النفس خاصة في الظلام، خطَّ أربعتهم الصحراء ليُصبحوا على الطريق الرئيسي الملئ بالأشجار الكثيفة التي تُحيط الجانبان، استقر ريان بجانب يزن وعلى جانبه الآخر موسى، و عمر جاور إبن عمه وجميعهم تسلحوا بالأسلحة، ثيابهم السوداء نافست الليل في قتامتها، ليصبحوا غير مرئيين، فقط ضوء خافت يُصوَب تجاه وجوههم فتجدها منكمشة بقسوة، وكأنهم يُقسمون بالدمار.
الجميع يُفكر هل سينتهي اليوم على خير! ولا يوجد إجابة لذلك السؤال سوى الصمت، بينما يزن تشتد قبضته بقسوة مُخيفة أكثر كُلما اقتربوا من وجهتهم، سيجعلهم يدفعون الثمن غاليًا، خاصةً سليم المنشاوي الذي وقع مع مَن يرحم، مشاهد من طفولته المُنتهكة تمر بخاطره ليقسو وجهه أكثر، ولسوء حظهم كل من سيُقابله؛ سيُقابل الشيطان ليس يزن الراوي.
توقفوا أمام الباب الخلفي للشركة الخاصة بعدوهم، أخرج يزن سلاحه من جيب حِلته السوداء القاتمة مُتسائلًا بشر: جاهزين!
لم يُجيبوه، بل أخرجوا أسلحتهم ناظرين له بتحفز يُغلفه القسوة، والآن كُل من بالداخل سيُقابلون أربعةً من الوحوش الثائرة، وحوش هم مَن صنعوها بأيديهم، حتى ريان الرجل اللطيف تحوَّل تمامًا ليُصبح وجهه جامدًا صلبًا لا يختلف عنهم.
فتح يزن الباب الخلفي بحذر، ثم نظر إليهم بنظرة ذات مغزى، ليكون المكان هادئ وصوت تعمير أسلحتهم هو الصادح، دلف يزن أولًا، تلاه ريان، ثم موسى، وبالنهاية عمر ليؤَمِّن ظهورهم.
المكان هادئ، صامت، مُظلم، ومُخيف، وأول عقبة كانت بطريقهم رجلان يقفان أمام أحد الغُرف، بابها مُغلق وضوء أحمر خافت يتسلل من أسفل الباب الخشبي القوي، أخرج يزن كاتم الصوت من جيب بنطاله الخلفي، واضعًا إياه بمحله الطبيعي، وبهدوء شديد وبرود صوَّب على رؤسهم، نفخ في فوهة مُسدسه وعلى ثغره إبتسامة مُنتصرة.
اقترب من الباب ببطئ وهم خلفه، وعلى حين غُرة فُتح الباب لتظهر من خلفه إمرأة ترتدي ثياب مُلتصقة على جسدها وضحكاتها المُقززة تملئ المكان، تصنمت محلها عندما رأت هؤلاء الرجال، كادت أن تصرخ فذهب إليها ريان سريعًا ضاربًا إياها على رأسها بظهر سلاحه، وقعت محلها فاقدة الوعي فإلتقطها موسى يُخفيها خلف الصناديق الكرتونية حتى لا تُثير الشُبهات.
هُنا تحدث عمر بصدمة: سليم المنشاوي عشان يبعد الشك عنه عامل شقة دعارة في شركته!
نظر موسى للمكان حوله بإشمئزاز وهو يُردد بغل: طول عمره ن والوساخة بتجري في دمه.
زمجر بهم يزن بصوت خافت حتى لا يسمعهم من بالداخل، ولكن كيف سينتبهون لهم وهم بالأساس سُكارى لا يدرون شيئًا من حولهم! إلتقط يزن عصا حديدية غليظة من أحد الجوانب، ثم ردد بدموية وإستمتاع: هندخل دلوقتي، واللي يعصلج معاكم اقتلوه.
إبتسامة مُميتة ارتسمت على أفواههم، ليردف ريان بإستمتاع وهو يُعمِّر سلاحه: واو أكشن، وأنا بموت في الأكشن.
ضرب يزن بقدمه الباب، ليُفتح على مصرعيه ويعم الصمت على الأجواء، إلا من صوت الأغاني الصاخبة، تصنم الجميع مكانه من الخوف، وقد صدمهم أسلوب المُفاجأة في الهجوم، اتسعت إبتسامة يزن وكأنه في أحد الألعاب المُسلية، مُردفًا بإستمتاع: ازيكم يا حلوين!
وما كاد الرجال أن يذهبوا حيث أسلحتهم؛ سبقهم يزن بإعطاء الإشارة لمن خلفه بتصفيتهم، وما هي إلا دقائق معدودة وكانت الغرفة غارقة بدمائهم العَفِنة وأصوات صرخاتهم تملأ الغرفة، بعض الهمهمات المُتألمة فقط هي التي كانت تخرج من أفواههم، ليُعيد يزن إطلاق الرصاصات من جديد ببرود مُهلك للأعصاب، حتى توقفت الحركة بالغرفة كُليًا.
توتر جسد ريان فأمسك بذراع موسى بخوف، متشدقًا برجاء: يالهوي دا طِلع سفاح بجد، أنا عايز ماما.
إحمر وجه موسى لكتمانه لضحكاته التي كادت أن تدوي عاليًا، نظر لملامحه الفزعة فأردف بصعوبة: اسكت يا ريان الله يسترك، مش كفاية كنت بتتفرج!
نعم. وهل كنتم تظنون أن ريان سيقتل! بل كان يقف مُنزويًا بركنٍ من الغرفة حتى لا تُصيبه الطلقات، لم يفعل شيئًا سوى الصراخ.!
في تلك الأثناء استدار له يزن قائلًا بسخرية لازعة: يلا قدامي يا سيد الرجالة. أنا مش عارف هي قضيتك ولا قضية أبويا!
تحدث ريان بقوة زائفة ناظرًا إليه بقوة: على فكرة أنا كان ممكن أقتلهم كلهم عادي جدًا، بس مكنتش عايز أتغابى عليهم عشان أنا قاسي، فسيبت ليكم المهمة التافهة دي.
أمسكه يزن من قميصه دافعًا إياه من للأمام قائلًا بسخرية تحت صدمة ريان من حديثه: طيب قدامي يا قاسي عشان انت اللي هتكمل المهمة دي وهتكون في الأول.
السعادة تغمرها الآن، كل شئ سار جيدًا وكما ينبغي، مسرورة بإنجازها الكبير الذي حققته، تغلبت على جشعها الذي سيطر عليها لسنوات، إستقلت وصال على فراشها وعلى محياها إبتسامة سعيدة، فخورة بذاتها، استطاعت رد الأمانة له بعدما ظنت أن نفسها الضعيفة ستغلبها مجددًا.
انتفضت من على فراشها لتقف أمام نافذتها، الهواء البارد يلفح صفحات وجهها الأبيض، ليغزو الإحمرار خديها من برودته، رفعت عيناها المُلتمعة للسماء شاردة بغيومها التي تُغطيها، الغيوم كانت تظهر ك كتل سوداء يُنير من أسفلها ضوء القمر المخفى تحتها.
وفي تلك الأثناء تذكرت عابد، قضت معه شهرًا كاملًا، رأت فيه أخلاقه، إجتهاده، أدبه، مساعدته للتلاميذ غير المقتدرين على دفع رسوم حصصهم، وأخيرًا وسامته المُهلكة، فبشرته القمحية المائلة للإسمرار تُزيده وسامة، أغمضت عيناها وهي تتذكر ردة فعله عندما خرجت لتجلب بعض الوجبات الخفيفة لكليهما، وحين عودتها رأته جالسًا على كرسيه دافنًا رأسه بين كفيه بأسى، وضعت الطعام جانبًا مُنادية عليه بقلق بالغ، رفع رأسه يُحدجها بذهول وكأنه لم يتوقع رؤيتها، مُرددًا بعدم تصديق: وصال!
قطبت جبينها بتعجب من دهشته ثم اقتربت منه عدة خطوات لتقف أمام مقعده مُتسائلة بإستغراب: اه وصال، مالك مستغرب كدا ليه!
لم يعلم بما يُجيبها، فقد ظنها هربت وأخذت الأموال مثلما قال ذلك المجهول، سألها مباشرة دون مراوغة: انتِ كنتِ فين!
حدجته بشك وحديثه المُبهم يُخبرها بعلمه لحقيقتها، أشارت للأكياس البلاستيگية التي تحتوي على الطعام ثم تحدث بهدوء: كنت بجيب أكل من برا وجيت على طول.
لا يعلم لما ارتاح قلبه، فقد كان يشعر بأن الهواء أوشك على الإنسحاب مم داخل رئتيه، ويا ليتها تعلم خوفه من ذهابها، وبرغم كل تلك الصراعات التي بداخله؛ أومأ بهدوء ثم جلسا سويًا لتناول الطعام، وبالطبع لم تغفل عن تحديقه الطويل بها ثم يعود مرةً أخرى للإستغفار.
أفاقت من تذكرها على صوت رسالة نصية أُرسلت على هاتفها، أمسكته لتفتح تطبيق الرسائل الشهير الواتساب، فوجدت منه رسالة نصية يسألها بها: نمتي!
ورغم تعجبها من مراسلته لها ولأول مرة، أجابته مُبتسمة وكأنه أمامها: لسه.
بتفكري في إيه!
تشكلت إبتسامة خفيفة على ثغرها ثم كتبت له: دا تحقيق صح!
ثم تركت له بعدها إيموچي ضاحك.
انتظرت ثوانٍ ليأتيها رده المُمازح: ولا تحقيق ولا حاجة، بس جيتي على بالي قُلت أكلمك.
استمتعت مع الحديث معه فسألته بإستمتاع: اممم جيت على بالك! ويا ترى كنت بتفكر في إيه!
وجدته يكتب بعد إرسالها ما كتبت، ليأتيها رده الصادم والذي لجمها في محلها لعدة ثواني:
بفكر لما تبقي مراتي هخليكِ تشتغلي معايا تاني ولا لأ.
وهُنا حرارة جسدها غلبت برودة الشتاء القارصة لتشعر بالسخونة تسري في أنحاءها، ابتلعت ريقها بتوتر ثم نظرت للهاتف مرة أخرى تتأكد من إرساله تلك الجُملة حقًا، ورأتها، شهقت بعنف واضعة يدها على فمها بعدم بعدما أرسل لها رسالة أخرى بعد أن طال إنتظاره: كل دا مصدومة! على العموم بكرا هنتكلم في حاجات كتير أوي مش هينفع نتكلم فيها دلوقتي، تصبحي من أهلي.
شعرت بالدوار يُداهما، فوضعت يدها على رأسها مُتمتمة بهمس خافت: يخربيتك. شقلبت حالي بكلمتين بس! أومال بكرا هتعمل فيا إيه!
استطاعت السيطرة على ذاتها بعد مدة قصيرة، لكن بالطبع لم تستطيع السيطرة على ضربات قلبها الصاخبة، وقفت لتُغلق الشرفة ثم ذهبت لتستلقي على فراشها، مُجبرة ذاتها على النوم.
مشى ريان مُرغمًا وهو يُحدق يزن من الحين للآخر بنظرات مُغتاظة يُقابلها هو ببرود، زجره يزن بعنف وهو يكاد أن يُصاب بالجنون من أفعاله الطفولية حقًا: يابني إنجز، أنا جايب إبن أختي معايا!
وقف ريان فجأة ناظرًا له بغضب، ثم تشدق بحدة: متزعقليش كدا انت فاهم ولا لأ.
احتدت عيني يزن بقوة، فأمسكه من تلابيبه مُردفًا بهسيس مُرعب: انت قولت إيه!
ربَّع ريان ساعديه وهو بين يديه بسخط ولم يُجيبه، هو بالأساس يُريد إفتعال المشاكل ليعود للوراء، لا يريد أن يكون في المقدمة، سيُقتل أولًا إن عثر عليهم الرجال، قال مُتحججًا بعدما رأى الغضب مُرتسم بعيناه: أنا عايز أروح الحمام.
وما رآه لم يكن سوى السخط من الجميع، دفعه يزن للخلف ثم سبقهم متمتمًا بسخط: حمار زي اللي وراك.
نظر ريان خلفه فلم يجد سوى عمر وموسى المُتابعان، فتسائل باستغراب: قصده على أي حمار فيكم!
نظر كُلًا منهم للآخر، ليردف عمر بتوتر وهو يلحق ب يزن مُباشرةً: أكيد موسى، وهو هيشتمني أنا ليه!
تبعته نظراتهم المُتعجبة ثم ذهبوا خلفهم مُباشرةً.
فتح يزن باب الغرفة الآخر المُوصل لردهة الشركة الخلفية كما هو مذكور بالأوراق، وجد أمامه ممر طويل وخالي مُظلم بشدة، أخرج هاتفه ليُنير بالمصباح لتُصبح الرؤية واضحة وظاهرة بعدها، كان يُلاحظ رسومات وكلمات غريبة مرسومة على جدران الممر، وما تعجب منه هي تلك الأشكال المُرعبة الموضوعة على الجانبين، وقف موسى أمام تلك الأشياء مُحدثًا بغرابة: إيه الحاجات دي!
أتاه صوت يزن المُحذِر الصارم: محدش يلمس أي حاجة، إحنا مش عارفين هنقع في أي فخ.
ضرب ريان بكلامه عِرض الحائط واقفًا أمام أحد الرموز يُحاول تذكر أين رآها من قبل، دقق النظر بها بقوة ليجدها عبارة عن صليب بداخله رجل مُعلق من قدمه، وهنا فتح عيناه عند تذكره مُتحدثًا بصدمة: أنا عارف الرموز دي إيه.
انتبه إليه الجميع ليلتفوا حوله، وهنا جاء سؤال عمر المتعجب: عارفها إزاي!
بدأ بسرد ما رآه من تعابير ورموز غريبة عند تشفيره لشركة سليم المنشاوي وكل الأحداث تتقاذف داخل عقله: لما هكرت شركة سليم المنشاوي ودخلت على ملفات الشركة والموظفين وعرفت إنه بيتاجر في الأثار، ولما تابعت أكتر شوفت الرموز دي بس مفهمتش حاجة، حفظت كل حاجة عندي على فلاشة بس للأسف مش فاكر حطيتها فين، ولما رَوحت البيت بحثت على الإنترنت وعرفت إن الرموز دي بتخص الطلاسم والسحر الأسود والأعمال السُفلية وحاجات بتخص العالم الآخر زي الجن والعفاريت وغيره.
كمان عرفت إن اللي بيعمل الطلاسم دي بيكون عامل عهد مع أقوى عشيرة في الجن وبيكون ملهوش مِلة أصلًا، غير إن لازم يكون فيه قرابين كل سنة والقرابين دي بتبقى أطفال أعمارهم متقلش عن 8 سنين، بيدبحوهم وبياخدوا دمهم ويعملوا بيها طلاسم غريبة كدا، بيقرأوا عليها حاجة إسمها التعويذة الإبراهيمية وهي من أقوى التعاويذ الموجودة في عالم السحر والشعوذة.
كان الجميع يستمعون له بصدمة، لم يأخذهم تفكيرهم بأنه بكل تلك القذارة، هو فقط لم يعصي ربه، بل كفر به! أسئلة كثيرة تدور بعقولهم المُشوشة، وهنا السؤال الذي يُفكر به الجميع، لما يحتاج سليم المنشاوي للسحر!
وبالطبع لم يستطيعوا التوصل إلى إجابة منطقية تُرضي فضولهم، أخرجهم يزن من الشرود والخوف الذي سيطر عليهم مُتحدثًا بقوة: إيه مالكم! إحنا هنعمل نفسنا معرفناش حاجة وهنكمل اللي جينا عشانه، غير كدا ملناش دعوة، يلا.
أنهى حديثه ثم سبقهم بهدوء ليتبعوه وعقلهم شارد خائف، ساروا بالممر الطويل حتى وصلوا إلى نهايته فوجدوا بابًا حديديًا لا يُمكن إختراقه سوى بكلمة سر خاصة به، شد يزن على خصلاته بغضب وكاد أن يفقد عقله من تلك الذِلة التي لم تخطر على باله، تعداه ريان الذي أمسك بجهاز الحاسوب الذي وجده بالغرفة حيث مقتل الرجال، مُثبتًا كامل أنظاره عليه، وأصابعه تضغط على الأزرار بحرفية شديدة.
سأله موسى بتعجب وهو يقف جانبه لرؤية ما يفعله: بتعمل إيه يا ريان! وجبت الجهاز دا منين!
أجابه وعلى ثغره إبتسامة منتصرة وحدقتاه تلتمع بالظفر: بهكر السيستم بتاع البوابة دي عشان يتفتح من غير ما يدي إنذار ونتكشف، وأدينا خلصنا.
نطق بالأخيرة بنصر تزامنًا مع صفير البوابة الحديدية ثم فُتحت على أخرها ليظهر من خلفه ممر الشركة الرئيسي والخاص بالعمال، حدجه يزن بإعجاب مُردفًا وهو يضرب على كتفه ضربات خفيفة يُمنيه على مجهوده: لأ جدع.
الشركة مُضاءة بإضاءات ضعيفة خافتة، ورغم رُقيها وجمالها؛ إلا أنهم بعد ما علموه أصبحت ك ممرات أحد أفلام الرعب التي يُشاهدونها، ارتعدت فرائس ريان فأمسك في ذراع يزن قائلًا بفزع يشوبه الرجاء: تعالى نِرجع وأنا مسامح.
حاول يزن كتم ضحكته قائلًا بسخرية: خايفة يا بيضة!
آه.
أجابه ريان دون مراوغة، فأمسك يزن بيده وكأنه يُمسك صغيره الخائف مُتشدقًا بسخرية: ومكنتش خايف وانت بتهكر سيستم الشركة وتوقع نفسك في المصيبة دي ليه!
مطَّ ريان شفتيه قائلًا بلامبالاة: كنت قاعد زهقان وبسلي وقتي، وبعدين...
قطع حديثه وتوقفوا مكانهم فجأة وهم يروا سليم المنشاوي أمامهم وإبتسامته المقيتة مرسومة على وجهه، تعجبوا من وجوده بذلك الوقت خاصةً أن الأوراق التي دونها منير المنشاوي تقول أن لديه شُحنة هامة للغاية ولا يُمكن تأجيلها، ومثلما ظهر أمامهم فجأة اختفى أيضًا فجأةً!
ابتلع عمر ريقه بهلع ثم جاور ريان هامسًا في أذنه بصوتٍ باكٍ: واد يا ريان تعالى نهرب إحنا ونسيبهم هنا.
لطم ريان على وجهه وهو يُولول مُتحسرًا: يالهوي يالهوي هو راح فين! مش كان هنا دلوقتي!
نظر موسى ل يزن نظرات ذات مغزى، ثم تشدق هازئًا: سليم المنشاوي بيلاعبنا بعفاريته.
صدحت ضحكات يزن عاليًا هاتفًا بإستمتاع شديد: هي دي المهمات ولا بلاش، لو هو هيلاعبنا بعفاريته؛ فإحنا كمان هنلاعبه بس بعقولنا.
صدح صوت ريان فجأة قائلًا بلهفة وخوف: وبما إني معنديش عقل فأنا out.
وأنا كمان out ومش بعرف ألعب.
وافقه عمر في الحديث وهو يكادُ يبكي فزعًا وخوفًا.
حدجهم يزن ببرود، ثم أمسك كليهما ليدفعهما للأمام هاتفًا بعبث: طب يلا قدامنا عشان نخلص أم المهمة دي.
الشك دخل عقله وهو لم يسمح لذلك، الوقت متأخر لكن لا بئس سيذهب له ويعلم الحقيقة، ارتدى فارس ثيابه مسرعًا ثم خرج من غرفته ليجد زهر نائمة على الأريكة بعدما فشلت فشلًا ذريعًا في إقناعه للخروج من غرفته، لم يكن بحال جيد لرؤيتها وتحميلها غضبه، لذلك خرج من المنزل دون أن يُصدر أي صوت.
صعد سيارته مُنطلقًا بها بسرعة عالية، وبعد مرور نصف ساعة وصل إلى العمارة التي يقطن بها شاكر، جميع الإجابات لديه الآن وسيعلم الحقيقة مهما كان الثمن، صعد للبناية مُستخدمًا مصعدها الكهربائي حتى وصل إلى شقته، رن جرسها وانتظر عدة ثواني وكررها مُجددًا حتى فتح له شاكر بملامح وجه ناعسة والذي ردد بدهشة لمجيئه بذلك الوقت: فارس!
تخطاه والجًا للداخل ثم جلس على الأريكة مُتسائلًا بهدوء مصطنع: هو سؤال واحد وعايز أعرف إجابته يا بابا، وهمشي على طول.
أغلق شاكر الباب رغم تعجبه ثم جلس أمامه متحدثًا بتأكيد: قول يابني في إيه!
ليه نجدت قتل أمي!
صُدم شاكر من سؤاله وتجمد محله، لم يكن يتوقع أن يأتي له ويسأله ذلك السؤال، كيف علم بمعرفته بذلك الأمر! أجابه بمراوغة وكأنه لا يفهم حديثه: م. مش عارف. وبعدين أنا هعرف منين!
إنفلتت زمام غضبه فصدح بغضب عارم: لأ عارف، عارف ومن زمان كمان ومخبي عليا، أنا عايز أعرف ال دا قتل أمي ليه! عايز أعرف ليه دبحها!
هنا تيقن شاكر بمعرفة فارس لكل الحقيقة، فقط ينتظر تأكيده عليها: خانته...
صمت ثم تنهد مُطولًا: أو هو اللي كان شايف كدا.
ازدادت أنفاس فارس توترًا وجلس محله مرة أخرى، ثم ردد بعدم تصديق: يعني إيه كان شايف كدا!
أخذ شاكر نفسًا عميقًا وتلك الذكرى الكريهة تأتي بذاكرته مرة أخرى: كان مفكرها بتخونه معايا.
رمش عدة مرات بعدم تصديق وكأن عقله لم يستطيع إستيعاب حجم الحديث، ليزفر شاكر بضيق ثم أكمل حديثه بقنوط: نجدت كان مريض نفسي، كان صحبي وسره معايا، كان محترم جدًا وابن ناس، لحد ما سافر وحب بنت هناك واتجوزوا بس اكتشف إنها بتخونه لإنه كان عقيم، ولما عِرف قتلها وقتل صحبتها اللي كانت معاها عشان متبلغش عنه وتقبض عليه، وبعدها بسنتين حب كمان بنت بس هي مكنتش بتحبه وقتلها برضه بنفس الطريقة، بقا يحس بالنقص من نفسه، لحد ما رِجع مصر تاني وتصرفاته كلها كانت غريبة، شاف ميادة واتعلق بيها وقرر تبقى ليه، حاول يعتدي عليها في الأول ولما سلطان عِرف قوَّم الدنيا ومقعدهاش، ومن هنا بدأ خيط العداوة بين العيلتين، بعدها بفترة نجدت هدد ميادة إنه هيقتلك لو متطلقش من سلطان وفعلًا طلبت الطلاق واتجوزته بعد ما خلصت فترة العِدة، كان نجدت فرحان إنها خلاص بقت مِلكه، وبعد جوازهم بسنتين ميادة تعبت وراحت للدكتور طلب منها تحاليل و نجدت كان معاها، وبعد يومين لما راح جاب نتيجتها الدكتور قاله إنها حامل.
هو طبعًا سِمع الكلام دا وقرر يقتلها زي ما عمل قبل كدا، وقتها إحساسه بالنقص زاد أكتر وأكتر، وقتلها فعلًا وكان راضي ومبسوط جدًا، لكن مكملش دقايق والدكتور كلمه وقاله إن التحليل إتبدل مع مريضة تانية وإن ميادة عندها دور برد في معدتها مش أكتر، إنهار وفضل يصرخ ولما طِلعوا عشان يشوفوه لقوه منتحر جمبها، طلبوا الإسعاف لكن للأسف الإتنين كانوا ماتوا.
البرودة، فقط البرودة هي كانت من تُسيطر على أطرافه ثقُلت أنفاسه ليغيم كل شئ من حوله، لقد ظُلمت والدته وهي في بيت والده وفي بيت آخر، وآخر ما استمع إليه هو صراخ شاكر بإسمه عند فقدانه لوعيه.
كاذب من قال أن الأم بئر أسرار لولدها، إتكأ شهاب بذراعيه مُعتدلًا على الفراش، ثم أطلق آنه مُتألمة خافتة من فمه وهو ينظر لقدمه وتلك الجبيرة التي تُحيطها بحسرة.
تذكر ما حدث منذ ساعات عندما أطلقت والدته صرخة من فمها مُستنكرة ومصدومة من حديثه: يلاهوي.
فزع من صراخها فذهب إليها ليُكمم فاهها قائلًا برجاء: بتعملي إيه يا ماما انتِ كدا هتفضحيني.
في ذلك الوقت أتى والده والجميع مُهرولًا على صراخها، بما فيهم بكر وسميحة وإهداء، تسائل سلطان بتعجب عندما هدأ فزعه من رؤيتهم بخير: بتصوتي كدا ليه يا ماجدة!
أمسك شهاب بيدها ليُسرع بمُقاطعتها مُبتسمًا بتوتر: مفيش يا بابا دا إحنا كنا بنسمع فيلم رعب وماما اتخضت.
نفضت ماجدة عن ذراعه بغضب ثم ذهبت تجاه زوجها مُتشدقة بقنوط: شوفت يا سلطان! شوفت اللي ابنك عايز يعمله فينا!
قطب الجميع جبينهم بتعجب، فتسائل بكر مُستفسرًا: إيه اللي حصل بس يا أم شهاب!
أطرقت رأسها بحرج مُصطنع، فلوت شفتيها بحزن مُجيبة إياه بصوت خافت: والله ما عارفة أقولك إيه يا أبو معتصم، مكسوفة منك ومن عمايل المحروس إبني.
ذهبت إليها سميحة لتُجاورها ثم ربتت على ذراعها بحنان: في إيه بس يا ماجدة حيرتينا معاكِ!
ابتلعت ريقها بتوتر مصطنع ثم أشارت ل شهاب المُتصنم من أفعال والدته، مَن يستمع لحديثها الآن يقول بأنه يمشي مع إبنه في الضلال! اتسعت عيناه بصدمة عند حديثها: المحروس إبني حاطط عينه على زينة البيت إهداء، وقال إيه كان جايبلها ورد وشيكولاتة السافل، ويا عالم كان هيعمل إيه تاني!
انتقلت أبصار الجميع بغضب ل شهاب الذي إبتسم ببلاهة، ولم يُلاحظوا تلك التي تكاد تنصهر من الخجل، اقترب منه سلطان بعدما إلتقط العصا الكبيرة التي يحتفظ بها لتربية أولاده قائلًا بهسيس مُرعب أخافه: الكلام اللي بتقوله أمك دا مظبوط!
ارتعشت أطرافه عائدًا للخلف عدة خطوات وهو ينفي برأسه متشدقًا بإرتعاش: والله. والله يا بابا أنا كنت هديها الورد بس!
شمَّر بكر عن ساعديه ليقترب منه هو الآخر يُحدجه بشر: سيبلي الطالعة دي يا سلطان.
نفى سلطان برأسه ضاربًا إياه أول ضرباته على جانب فخذه: لأ أنا اللي هربيه.
أطلق شهاب صرخة مدوية مُتألمة مُمسكًا بقدمه هاتفًا بصياح: يا بابا والله كنت هاجي أقولك بس لما أتقدملها.
هتف بكر صارخًا بغضب وهو يضربه بيده على مُقدمة رأسه: ولما بتحبها كدا متقدمتلهاش دلوقتي ليه! إيه لسه مبلغتش!
كاد أن يُجيبه فوجد عصا أخرى هابطة على ذراعه من والده فصرخ بحدة مُتألمًا، ولم ينتظر لثانية أخرى فهرول من أمامهم مُسرعًا دافعًا إهداء في طريقه وهو يهتف بحسرة: حسبي الله ونعم الوكيل، كل دا بسببك يا بومة.
هرول خلفه والده وعمه لينالوا منه، وصل إلى باب الشقة وفتحه ليهرب، وبالفعل خرج منها لكن تعرقلت قدماه ليسقط من على سلالم المنزل، طالعه الجميع بشماتة وبعدها أحضروا له الطبيب الذي أخبرهم بوجود كسر في قدمه اليُسرى وتحتاج للتجبير.
عاد من ذكرياته وتعابير وجهه مُجعدة بسخط من والدته، أقسم ألا يُخبرها بسرًا مرة أخرى، وإلا ستفضحه في القنوات الفضائية المرة القادمة.
خيالات سوداء تمر من جانبهم، أصوات هسيس مُرعبة تُصدر من الحين للآخر، صوت الرياح الشتوية تُعطي للأمر رعبًا أكبر، وها هو ينكمش بجانب يزن الذي فاض الكيل به ليصرخ بنفاذ صبر: يابني بقا متعصبنيش، متطلعنيش عن شعوري بدل ما أربطك هنا، هو أنا جايب ابن اختي معايا.
طالعه ريان بغضب فتركه وذهب للإمساك ب موسى الذي قهقه عاليًا من أفعاله الحمقاء، أحاطه بذراعيه ثم أردف وهم يسيروا معًا: تعالى يابني محدش هيستحملك غيري.
وصل أربعتهم إلى غرفة مكتب سليم المنشاوي، وظهر ذلك من مظهره الأنيق والمُرتب عكس باقي أفرع الشركة، فتحوا بابه بهدوء فأردف يزن بصوت خافت مُحذر: مهما كان اللي ممكن نشوفه جوا فهيبقى مش حقيقي، هو بيحاول يلاعبنا ودي كلها تخيلات.
وبمجرد ما أنهى حديثه؛ وجد أربع نسخ من سليم المنشاوي تقف أمامهم على هيئة طيوف، لوى موسى شفتيه بإشمئزاز متحدثًا بقرف: ملقاش غير سِحنته العِكرة ويعمل منها أربع نسخ!
بينما أمسك عمر بذراع يزن قائلًا برجاء: هعملها على نفسي والله من كُتر الخوف.
أبعده يزن بتأفف ولا يعلم أيجدها منه أم من المغفل الآخر!
تقدموا للداخل وتفرق كُلًا منهم لمكان يبحثوا في الأدراج المُختلفة، نظر ريان لجهاز الحاسوب الموضوع على المكتب فإتسعت بسمته بحماس مُريب، جلس على أحد المقاعد واضعًا إياه على قدمه يُحاول فتحه، وبعد ثلاث دقائق من المحاولات إستطاع أخيرًا، إبتسم بإنتصار لذاته هامسًا بفخر: الله عليك يا واد يا ريان، قمر وذكي.
دخل على الملفات الخاصة بكاميرات المُراقبة، فوجد العديد والعديد من التسجيلات، حاول تذكر تاريخ القبض عليهم لكن لم تُسعفه ذاكرته، لذلك رفع رأسه يُنادي على موسى فمن الممكن أن يتذكر الوقت الذي قابله به، لكن سرعان ما صرخ بفزع عندما قابله وجه سليم بإبتسامته المقيتة.
انتبه الجميع له فذهبوا إليه ينظروا بتعجب لجهاز الحاسوب، ليتسائل عمر بإستفهام: بتعمل إيه يا ريان!
إستعاد رباطة جأشه مُجيبًا إياه بهدوء: بشوف تسجيلات الكاميرا وقت ما اتقبض علينا ونطلع بإعتراف سليم إن هو اللي لفق لينا القضية أنا و غزل.
صمت قليلًا ثم نظر ل موسى سائلًا إياه: موسى انت قابلتنا يوم إيه!
قطب جبينه لثوانٍ يُحاول التذكر، ثم هتف بحماس: يوم 11/11.
بحث ريان في سجلات الكاميرا قبل ذلك اليوم، ظل يبحث لمدة ربع ساعة تقريبًا إلا أن صرخ بفرحة: لقيته.
قام بفتح الصوت ليستمعوا إلى صوت سليم المنشاوي يتفق مع صديقه فريد بوضع المخدرات لكلًا من غزل وريان بعد أن يتفق مع أحد سائقي الشركة ليقلهم حيثما سيذهبوا، وتوضع تلك العقاقير بالمقاعد الخلفية للسيارة حتى تثبت التُهمة عليهم.
إحتضن موسى ريان بسعادة متشدقًا بسعادة: وأدي دليل برائتك في إيدك أهو، انقله في فلاشة بقا.
ودليل برائتك انت كمان أهو يا موسى.
هتف بها يزن وهو يُمسك ببضعة أوراق تحتوي على الشُحنة التي لفقها سليم له ولرجاله بتوقيع صريح منه وختم من الشركة، يبدو أن النسخة التي قدمها سليم المنشاوي في المحكمة كانت مُزيفة وبالطبع كان للقاضي يد في ذلك.
التمعت عيني موسى بدموع سعيدة للغاية، ليحتضنه ريان بفرحة عارمة هاتفًا بحنان: وفي الآخر العدل هو اللي انتصر يا موسى ودليل برائتنا في إيدينا.
ابتسم عمر بسعادة فذهب ليطوق ذراع إبن عمه قائلًا بغرور: بيحبوا بعض زي ما انت بتحبني بالظبط يا صحبي.
نظر له يزن بحدة، ليسحب عمر يده بتوتر من نظراته، إبتسم يزن إبتسامة جانبية ثم احتضنه قائلًا: فعلاً زي ما أنا بحبك بالظبط ياخويا.
ابتسم عمر لتتسع إبتسامته تدريجيًا ثم بادله العناق بحب أخوي شديد.
بعد وقت قليل تحدث ريان بجدية بعدما استطاع ريان نقل التسجيلات على هاتف عمر: يلا دلوقتي نخرج قبل ما حد يجي وتبقى مشكلة.
وافقه الجميع والتفتوا ليذهبوا كيفما جاءوا من الممر السري، لكن انطلقت صوت الرصاصات تصدح في الأرجاء، تلاها صراخ ريان بإسم موسى الذي وقع أرضًا بحدة وثيابه الغارقة بدمائه.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والعشرون
اللحظات الجيدة لا تأتي معًا، فكيفما جاءت فجأةً تذهب فجأةً وتأخذ معها السعادة التي خلفتها منذ قليل، صوت الإصطدام الناتج عن إرتطامه بالأرض الصلبة؛ جعل قلوبهم تخفق خوفًا عليه، وما زاد الأمر رهبةً هي بقعة الدماء التي بدأت بالإتساع حوله رويدًا ليغرق بها.
التفت الجميع بسرعة ليروا عددًا كبيرًا من الرجال المُلثمين، مُتشحين بالسواد، وعلى رأسهم يقف سليم المنشاوي يُسدد لهم نظرة هازئة وعلى ثغره ترتسم إبتسامته المقيتة، ليردف بترحيب متوعد: مش تقولوا إن عندنا ضيوف كُنا وجبَّنا معاكم أكتر من كدا!
هرول ريان إلى موسى ليجلس بجانبه أرضًا وقلبه يطرق بفزع على مظهره، ضرب على وجهه ضربات خفيفة مُتحدثًا بصوت مُرتعش: موسى فتَّح عنيك، متغمضش حليك صاحي.
حدجه موسى بنظرات زائغة مُملتئة بالدموع ولم يقدر على إجابته، فتح فمه للتحدث لكن قدرته قد خفتت تمامًا، ومثلما خفت صوته؛ خفتت طاقته فأغمض عينه شاعرًا بالدوار من شدة نزيفه، مما زاد الهلع بقلب ذلك القابع أمامه.
رأى سليم نظرات الخوف بأعينهم مما زاد من هيستيريا الضحك لديه، خفتت ضحكاته بعد عدة ثوانٍ ثم أردف بعبث ونظرات ذات مغزى: خلاص قوم يا موسى العرض انتهى.
وبمجرد ما أنهى حديثه؛ حتى اعتدل موسى محله دافعًا ريان الذي كاد أن يبكي عن جسده، ثم وقف ذاهبًا تجاه سليم واقفًا بجانبه، وعلى محياه إبتسامة ماكرة قذرة، وزَّع نظراته على الجميع بشماتة مُردفًا بأسف مصطنع: أوعوا تكونوا صدقتوني! والله أزعل.
أنهى حديثه مُطلقًا ضحكة رنانة عالية شاركه بها سليم الذي ضرب على كتفه مُعظمًا إياه بحديثه: لأ جدع يا موسى، عرفت تجيبهم لحد عندي زي ما إتفقنا.
أجابه موسى بفخر: تلميذك يا سليم باشا.
سليم باشا!
رددها ريان بعدم تصديق بعدما إستطاع الوقوف مُجددًا بمساعدة عمر الذي نظر له بشفقة، طالعه موسى بسخرية ثم تحدث بوقاحة: كان نفسي أبقى معاك وآخد حقي من المُزة اللي معاك بس يلا مش مشكلة، تتعوض.
هُنا واتسعت أعين ريان بصدمة وعدم تصديق عندما نوصَّل إلى أن المقصود بها هي غزل، تحولت حدقتاه للغضب ثم هجم عليه حتى كاد أن ينقض عليه، لكن ذراع عمر مَن منعته حتى لا يُقدِموا على أذيته، فصرخ بهياج صائحًا: إسمها ميجيش على لسانك يا زبالة، كنت فاكرك إنسان نضيف بس طلعت متفرقش حاجة عن الزبالة اللي جنبك.
أتاه الرد الساخر منه: انت اللي مُغفل يا حبيبي، أي حد بيقولك كلمة حلوة بتآمن ليه زي الأهبل بالظبط.
شعر ريان بالألم والإختناق بالوقت ذاته، هو ليس كذلك أبدًا، هو لم يُعطي الأمان له إلا بعد فترة كبيرة قضاها معه، ومن خلالها إعتبره كصديق مُخلص، خرج صوته متألمًا وهو يُعاتبه: كنت مفكرك بني آدم.
لم يستمع لرد، لم يجد سوى البرود والجمود من الطرف الآخر، لذلك إستدار موسى ل سليم سائلًا إياه: أي أوامر تانية يا باشا!
هز سليم رأسه بالإيجاب وعيناه تلتمع بوميض غريب، أخرج من جيب حِلته سلاحه ثم أعطاه له آمرًا إياه بشر: خلَّص عليهم.
وبدون تفكير أخذ موسى منه سلاحه ناظرًا للثلاث رجال بشر، وأول من خرج من صمته هو يزن الذي نفخ بملل ناظرًا لساعة معصمه، ثم هتف بتأفف: انجزوا ورايا شغل مش فاضي للعب العيال دا.
رفع سليم حاجبه بإستنكار من جرأته الزائدة تلك، لوى شفتيه بسخرية متشدقًا بمكر: جه الوقت اللي أقابل فيه يزن الرواي بنفسه!
أجابه يزن بوقاحة أصابته في مقتل: عشان الأشكال الوسخة اللي زي أمثالك متقابلش يزن الراوي بسهولة كدا، لازم مكايد ومؤامرات وشغل عصابات بقا.
تهجم وجه سليم بغضب، خاصةً بعد إحراجه أمام رجاله بهذا الشكل المُخجل، أخرج سلاحه الآخر من جيب بنطاله الخلفي ثم وجَّهه أمام وجهه مُتحدثًا بغل: نهايتك هتكون على إيدي النهاردة يا يزن يا راوي.
وضع يزن يده في جيب بنطاله مُصححًا له حديثه وهو ينظر له بإشمئزاز: يزن باشا الراوي بيه يا حقير.
ثم مسح أرنبة أنفه بإصبع إبهامه ناظرًا لوجهه المقيت الذي يُطالعه بغضب، مُردفًا بسخرية ولامبالاة: وبعدين الكلام دا إتقالي كتير من أوباش زيك، فمش جديد يعني.
وإلى هُنا ووصل إلى ذُروة غضبه، سحب زناد مسدسه مُوجهًا إياه ناحية وجهه، ثم تحدث بشراسة: أنا هعرفك الحقير اللي زيي هيعمل إيه.
وما كاد أن يُطلق، حتى إنطلقت الرصاصات، لكن ليس من سلاحه؛ بل من سلاح موسى الذي صوَّبه تجاه صدر سليم ثم أطلق عليه عدة طلقات وهو يُطالعه ببرود وغل شديدان.
وضع سليم يده على معدته وهو يفتح عيناه بقوة ناظرًا له بعدم تصديق، اِحمرَّ وجهه من الألم وحدقتاه كادت أن تخرج من محجرهما، حاول فتح فمه للتحدث؛ فخرج صوته متألمًا بصعوبة: انت، انت...
اقترب موسى من أذنه قائلًا بفحيح: انت وسخ.
ابتعد عنه لينظر لوجهه بشماتة ثم إستطرد حديثه قائلًا: أختي اللي كنت بتهددني بيها أنا وصلتلها، ومش عايز أقولك إنه بمساعدة يزن الراوي، كنت بلعب عليهم. طلعت غبي وأنا اللي بلعب عليك يا مغفل.
ابتعد عنه حتى وقف أمامه بشموخ، بينما هو جلس على رُكبتاه يُحاول التحمل حتى لا يفقد وعيه، ليستكمل موسى حديثه وعلى ثغره إبتسامة ماكرة: بُص جنبك كدا!
غامت عيني سليم بعرقه الغزير الذي هبط عليها، حاول بصعوبة النظر بجانبه حتى نجح في ذلك، صُعق عندما وجد رجاله مُكبلين وقوات الشرطة تُحيط بالجميع، جميع إعترافاته سُجلت وبرئ برائتهم قد ظهر للجميع، وهو الوحيد الذي خسر اللعبة، خسر دُنياه وآخرته.
أشار عمر للضابط بأخذ سليم آمرًا إياه بقسوة: عايزه حي، مش عايزه يموت بالساهل كدا.
إمتثل الضابط لأمره، فأشار لزميله بحمله لوضعه في سيارة الإسعاف المُنتظرة بالأسفل، دخل عليهم مراد مُتسائلًا وهو ينظر للجميع: الكل بخير!
ربت يزن على كتفه مُومئًا له بنعم، ثم تسائل بضجر: إتأخرت كدا ليه! مش قولتلك تعالى بسرعة بدل ما نتصفى!
أجابه مراد ضاحكًا ناظرًا حوله: الرجالة تحت كانوا كتير، وفضلنا مستنيين لحد ما سليم ورجالته يطلعوا عشان ميشكوش في حاجة.
تركهم موسى يتحدثون ثم ذهب إلى ريان المصدوم ولم يخرج من صدمته بعد، أمسك وجهه بيده ثم أردف ضاحكًا: إيه يابني! أومال لو مكنتش عارف اللي هيحصل كنت عملت إيه!
تدَّخل يزن في الحديث نافيًا: لأ، ريان وقتها راح للبنت اللي معاه عشان الوقت كان إتأخر ومسمعش إتفاقنا.
ضرب موسى بيده على رأسه بتذكر، وكاد أن يتحدث؛ فوجد لكمة قوية من ريان تُسَدد لوجهه، تلاه صياحه الغاضب: انت حيوان.
رمى بجُملته ثم تركهم وذهب من أمامهم سريعًا شاعرًا بالنيران تلتهم فؤاده، لوهلة ظن بأن كل هذا حقيقي و موسى خائن! ظن أنه نقد عهده وسيُسلمهم ل سليم المنشاوي كأضحية، انفض الهواء من حوله شاعرًا بالمكان يطبق على أنفاسه، يُريدها الآن، يُريد غزالته لتُهَدِئ من روعه، يُريدُ والدته!
لحق به موسى بعدما دفعه يزن هاتفًا بصرامة: خليك معاه متسيبهوش.
وقف موسى أمامه وهو ينهج من الركض، دفعه ريان من أمامه هاتفًا بإختناق وغضب: وسَّع من قُدامي يا موسى بدل ما أطلَّع غضبي كله عليك.
رفع موسى يده بإستسلام قائلًا بهدوء: ماشي هبعد، بس إهدى انت بس.
قطب ريان جبينه بغضب عارم ولأول مرة يشعر بكل تلك الضغوطات من حوله، اقترب منه موسى ببطئ وبدون سابق إنذار إحتضنه بقوة، عانقه كطفل صغير يحتاج للإحتواء والحنان، قاومه ريان في البداية لكنه إستسلم له ضاربًا بكف يده القوي على ظهره يزجره بقوة: قسمًا بالله يا موسى لولا إنك مفكر إني عارف ومكنتش تعرف إني معرفش حاجة، أنا كنت قطعت علاقتي بيك نهائيًا، متفكرنيش عشان طيب وبسامح بسرعة أبقى مُغفل زي ما قولت من شوية، بس بحاول أدي اللي قدامي الإهتمام والحنان اللي أنا اتحرمت منه وأنا صغير، غير كدا أنا فاهم الدنيا ماشية إزاي من حواليا بس أنا اللي عامل نفسي مش واخد بالي.
حاوط موسى كتفه بذراعٍ واحدة ثم إتجهوا للخارج هاتفًا بمرح: يا ريان يا خويا انت مش مغفل، انت خبيث ومن تحت لتحت ودا بيبان في سفالتك.
ارتسمت إبتسامة صغيرة على ثغر ريان، ثم أدرف بإستنكار أضحكه: دا على أساس إنك برئ بقا وكدا!
قهقه موسى عاليًا مُتابعًا بخبث وعقله يرسم صورتها أمامه: لأ أنا مش برئ أنا وقح، وقُريب أوي الوقاحة دي هتكون من نصيب صاحبة النصيب.
الحقائق دائمًا تكون أصعب من الخيال.
هرع شاكر لغرفته يجلب عطره ذو الرائحة النفاذة، وضع الكثير منه على يده ثم وضعه على أنف فارس الغائب عن الوعي، نبض قلبه بقوة عند تخيله لمكروه قد يُصيبه.
ف فارس قد عوضه عن أبناءه الذي حُرم منهم، هو عقيم وتزوج من قبل ولكن لم يُنجِب، وهذا سبب إنفصاله عن زوجته، ليأتي فارس ويُناديه بأبي، حينها إلتمعت عيناه بدموع الأسى، ومنذ ذلك الوقت يعتبره إبنه الذي لم يُنجبه و فارس يعتبره أبيه الثاني.
تنغض جبين فارس بإنزعاج لتلك الرائحة، فتح عيناه على مهل ليعود إلى الواقع المؤلم، واقع لم يُسبب له سوى الألم والمُعاناة، واقع ظلم والدته وأبعدها عنه، إلتمعت الدموع بعيناه ولم يقدر على منعها، تلك الدمعات نابعة من فؤاده المُحترق على والدته.
هبط شاكر يُقبَّل جبينه بحنان، ثم أردف بحزن: إهدى يا حبيبي عشان ميحصلش ليك حاجة، كل حاجة مقدر ومكتوب عند ربنا، متعملش في نفسك كدا.
استند فارس على ذراعيه ليعتدل، ثم حدج شاكر بنظرات زائغة مُشوشة، سائلًا إياه مباشرةً دون مُراوغة: ليه نجدت شَك فيك انت بالذات مع إنك كُنت صحبه!
تنهد شاكر مُطولًا ناظرًا له بيأس، هو يعلم بعقله العنيد وسيعلم كل الحقيقة اليوم، بدأت ذاكرته تعود مرة أخرى لذلك اليوم، ليشرد وهو يروي بأسى: نجدت كان صحبي زي ما قولتلك، فكان قايلي على كل حاجة، ومن غير دخول في تفاصيل هو دا السبب اللي خلى أخواتي يقاطعوني، بس دا مش موضوعنا دلوقتي.
المهم إنه في يوم لما راح الشغل، وقتها أنا قولت هروحله بيته عشان أحذره من اللي بيعمله دا، عيلة أبو زيد مش هترحمه لو عرفوا الحقيقة مع إنه إبنهم، بس أنا ملقتهوش في بيته ولقيت ميادة الله يرحمها، كانت ست طيبة وبشوشة وعلى نياتها، وقتها نجدت ولقاها واقفة معايا على الباب، وعلشان عقله ومفكر الناس زيه؛ فكر إنها بتلاغيني وخصوصًا إنها زي ما قولتلك كانت بشوشة وبتضحك في وش أي حد، اتخانقنا أنا وهو وقاطعنا بعض فترة، بس وقتها فكرت لو أنا مكانه وبحب مراتي وبغير عليها ممكن أفكر كدا، حاولت أحطله أي عُذر، وقررت للمرة التانية أروحله بيته وأعتذرله وأرجَّع العلاقات من تاني، كان يوم جمعة وكنت عارف إنه يوم أجازته عشان كدا روحتله، وللأسف ملقتهوش هناك، وخرجت بسرعة عشان لو جه فجأة ولا حاجة، بس للأسف كان شافني وأنا خارج، وطِلع ضربها وشتمها ودا كله أنا معرفش عنه حاجة، لحد ما في يوم لقيت مرات أخويا بتحكي صدفة قدامي إنها شافت وِش ميادة موَرم وعليه كدمات، وقتها عرفت إني السبب بدون قصدي ولا عِلم مني، ومن تاني يوم ميادة تعبت وراحت عملت تحاليل والباقي أنا حكيتهولك.
كان فارس يستمع إليه بقلب نازف على والدته، ظُلمت وقُتلت على يد من يرحم، وهو مَن كان يظن أن عائلة أبو زيد كاملة مشتركة في ذلك! لكن تفكيره كان خاطئ، بل ذلك النكرة هو سبب كل هذا العناء، أنزل شاكر رأسه مُتابعًا بألم: ولما جالي الورقة اللي كانت مكتوبة بإسمي من نجدت قبل ما يموت وهو بيحكيلي كل حاجة فيها أنا وقتها إنهارت وحسيت إن أنا السبب.
هبطت دموع فارس، فحاول التحكم في ذاته أمام شاكر على الأقل، ليُمسك بيده قائلًا بحنان: متقولش كدا يا بابا، انت ملكش ذنب، الذنب الوحيد على الحقير اللي مات، ربنا يجحمه، عمري ما هسامحه ولا أمي هتسامحه.
ابتسم له شاكر إبتسامة باهتة حنونة، ثم جذبه من يده ناحية الغرفة قائلًا بصرامة مُزيفة: يلا علشان تنام، هتبات معايا النهاردة، بقالك كتير مش بتيجي.
وللحقيقة لم يُجادل، يشعر بخمول شديد في رأسه، يتوقَ للنوم وللنسيان، تمدد على الفراش وبجانبه شاكر الذي بدأ بقراءة آيات قرآنية قصيرة، حتى ذهب في النوم العميق، هاربًا من العالم ومن البشر.
لم تنم، ولم تَذُق عيناها عيناها طعم النوم منذ مغادرته، ظلت مُستيقظة حتى أوشكت الشمس على السطوع، خائفة بشدة وهي هُنا وحيدة بدونه، تشتاقه حد اللعنة، حزينة لإحزانه، لكن بنفس الوقت ليست نادمة، نفخت الهواء الذي برئتيها مُتمتمة مع ذاتها بصوت خفيض بقلق: يا ترى انت فين بس يا ريان!
أنا هنا يا قلب ريان.
أتاه همسه العاشق، لتستدير بفزع من مجيئه فجأة، وضعت يدها على صدرها هامسة بهلع: حرام عليك خضتني.
أغمض عيناه بعبث وهو يقترب منها ببطئ أربكها: سلامتك من الخضة يا غزالتي.
ابتلعت ريقها بإرتباك وهي تعود تلك الخطوات التي تقدمها، لتقول مُحاولةً في إلهائه عن عبثه الذي يُهلِكها: ك. كنت فين!
اقترب منها أكثر وهي تعود أيضًا حتى إصتطدم ظهرها بالحائط وهو أمامها مُباشرةً يضع ذراعيه بحانبها يُحيطها من الجانبين، أنزل رأسه لمستوى أذنيها ثم أردف بهمس خافت: كنت بجيب دليل برائتنا، اللي هيخلينا نتجوز ونتلم في بيت واحد.
كان صدرها يعلو ويهبط من مشاعرها التي بعثرها هو، لكن بمجرد ما نطق بكلامته؛ حتى فتحت عيناها ناطقة بصدمة وسعادة: بتتكلم جد!
انشرح قلبه لسعادتها، فهز رأسه بالإيجاب، راسمًا على ثغره إبتسامة جميلة، وعيناه الرمادية اللامعة تجول على تفاصيلها المُحببة لقلبه، اسند رأسه على جبهتها ثم همس بصوت عاشق جياش بالفصحى:
وأسبلتُ عيناي لتفاصيلك، لأغرق في التفاصيل وأُحِبِك.
فتحت غزل عيناها الدامعة تنظر له بعشق، لتردف بشغف مُماثل له: عيناكَ أحبائي، وأنا بهما هائمة.
صمتت قليلًا ثم أردفت: بحبك أوي، زمش هحب حد زيك.
اعتدل في وقفته ثم سألها بحذر: ممكن أعمل حاجة واحدة بس!
أغمضت عيناها بشك تُطالعه بدون فهم: حاجة إيه!
لم يُجيبها، ولم يتحدث، بل احتضنها فقط دون أن ينبث ببنت شفة، احتضنها بقوة مُحيطًا بخصرها وهو يُغمض عيناه بألم، يُريدها جانبه للأبد، يُريدها له فقط، ومع إثبات برائتهم يسفترقوا بسبب عائلاتهم.
هبطت دموعها بألم شاعرة بالمضخة التي أسفل يديها، قلبه ينبض بقوة لأجلها، تشعر بأنها النهاية، العداوة التي بين العائلتان ستُفرَّق بينهما، مغفلان لا يعلمان بأنها أوشكت على الإنتهاء، سمعت همسه الحزين:
أوقات ببقى نفسي نفضل هربانين العُمر كله بس نكون سوا، بس برجع وبقول إنك تستاهلي عيشة أحسن من دي، تستاهلي إني أفتخر بيكِ قدام الناس كلها وأقول إنك مراتي من غير ما أخاف أو أستخبى، انتِ تستاهلي كل حاجة حلوة.
خرجت من أحضانه لتُحيط بوجهه وهي تتحدث بحنان: هنفضل سوا ومش هنبعد صدقني، هفضل معاك وفي ضهرك دايمًا، هكون مراتك قدام الناس كلها ومش هنهرب، هكون معاك وليك لوحدك يا ريان.
امممم وبعدين!
شهقا بفزع عندما جاء ذلك الصوت المُتابع لحديثهم منذ البداية بوجه هائم وهو يبتسم ببلاهة، التفتا لذلك الصوت فلم يجدا سوى موسى وبجانبه كُلًا من يزن وعمر ومراد وجميع قوات الشرطة!
فتحت غزل عيناها بصدمة، لتختبأ خلف ريان تُداري من خجلها، التفت يزن ل عمر مُتحدثًا ببرود: خُدهم أداب واحبسهم في زنزانة واحدة.
صدحت ضحكات موسى عاليًا بمرح، ليردف بحديث وقح ذات مغزى أوقح: هنِرجع بعدين هنلاقيهم بقوا تلاتة مش اتنين بس.
أمسك ريان ببعض الأحجار، قاذفًا إياهم تجاه موسى متشدقًا بصراخ: بس يا حيوان يا سافل.
صمت قليلًا ثم أكمل بعبث: أنا مش هسمح غير بتوأم.
كتم صوت تأوهه المتألم عندما غرزت غزل أظافرها بلحم ظهره، ليُعدَّل من حديثه مُردفًا بصوت مكتوم متألم: بس كله بالحلال.
قطع عمر حديثهم مُتحدثًا بجدية بحتة ليظهر بوضع الصرامة أمام القوات: المهم، انتوا مطلوب القبض عليكم.
إيه!
نطق بها ريان بصدمة، ليُطمئنه بقوله: دي إجراءات روتينية وإن شاء الله على بكرة أو بعده بالكتير هتعيشوا حياتكم بطريقة طبيعية.
حلت الراحة على وجوه الجميع، والسعادة على وجه كُلًا من غزل وريان، أمسك بيدها ثم خرجوا من الكهف ليصعدوا إلى سيارات الشرطة من الخلف بعد أن وُضع بيدهم الأصفاد الحديدية.
جلس كُلًا من ريان وغزل جانب بعضهم، مُقيدين بأصفاد مُشتركة، نظروا لها مُبتسمين، مُتذكرين أول لقاء لهم، لقاء بدأ بأصفاد حديدية مُقيدين بها وعِراك، وانتهى بنفس تلك الأصفاد، لكن بعد أن كُتب عليهم الحب، وحلَّت عليهم لعنة العشق، عشق شُيد بأنساج قوية يصُعب فكاكها، صمتوا. والعيون فقط من تتحدث، ولغة العيون هي أكثر لغات العالم هيامًا
حل الصباح، وشمس يومٍ جديد تظهر على إستحياء، لتدخل مُقتحمة الأرجاء، وها هو جاء الغائب للمشتاق، وعاد لموطنه، طرق محمود على باب منزل إبراهيم أبو زيد لتفتح له فوزية، التي ما إن رأته حتى هللت بسعادة: محمود! حمدالله على سلامتك يا حبيبي.
احتضنها محمود بود: الله يسلمك يا حماتي، أومال عمي إبراهيم فين!
جاءه صوت إبراهيم الذي خرج لتوه، فعانقه بود مردفًا بسعادة: حمدالله على سلامتك يا حبيبي، مقولتش إنك جاي ليه كنت جيت استقبلتك بنفسي!
أعطى محمود علبة الحلوى المُغلفة ل فوزية ثم أجابه مبتسمًا: حبيت أعملها ليكم مفاجأة.
في تلك الأثناء، خرجت ميران مصدومة عندما استمعت لصوته، ظنت بأنها تتهيأ مجيئه، فلو كان سيأتي لأخبرها في الهاتف عند حديثهم منذ قليل، فتحت عيناها بدهشة عندما رأته أمامها، لتصرخ بإسمه بفرحة أفزعتهم: محمود!
نطقت إسمه ثم هرولت تجاهه فاتحة ذراعيها في نية لإحتضانه، لكن قاطعها صراخ والدها بها: هتعملي إيه يا قليلة الرباية!
توقفت محلها فجأة ناظرة له بغباء، ثم أشارت تجاه ذلك الواقف يكتم ضحكته وإشتياقة بصعوبة، مُردفة ببلاهة: هحضنه.
خلع والدها نعله عن قدميه ثم قذفه تجاهها صارخًا بغضب: تحضني مين يا حيوانة! وأنا واقف بقرون مش مالي عينك!
ضربت بقدمها الأرض صائحة بضجر: يا بابا ما هو كان مسافر يعني عادي!
تشنج وجه والدها مُكررًا كلمتها الأخيرة بإستنكار: عادي!
نظر لها ثم أشار للداخل بصياح: ادخلي يابت جوا البسي حاجة عِدلة تقابلي بيها خطيبك بدل ما أتبرى منك.
نظرت لبيچامتها الكرتونية الواسعة ثم عادت للنظر لوالدها مرة أخرى بسخط ولم تُعقب، استدارت ذاهبة لغرفتها حتى وصلت إلى بابها، كادت أن تدلف للداخل فإستدارت ناظرة له مُستغلة إنشغال الجميع معه، لتطبع قُبلة له في الهواء مع غمزة عابثة من عيناها الوقحة، ثم دلفت للداخل مُجددًا.
أما هو فقد صُدم من فعلتها، ودَّ إحتضانها أمام عائلتها وتقبيلها وتبًا للجميع بعد ذلك، حاول السيطرة على أفكاره المنحرفة التي سببتها تلك الوقحة والإنسجام معهم، لكن عقله أبى التفكر سوى بها، يُفكر ماذا تفعل بالداخل الآن!
تجهزت للذهاب لمكان عملها، دخلت وصال للداخل وقلبها يقرع بعنف، اليوم غير باقي الأيام، ليلة أمس قال بأنه سيتزوجها، واليوم هي في مواجهة له، سيقولها مُباشرةً، لكن عقلها يُعنفها، يُخبرها بأن تقول له الحقيقة كاملة، هي تُنكر أنها تميل له وتشعر بالإنجذاب تجاهه، لذلك يجب أن تبدأ معه بصفحة بيضاء.
كان يجلس بالمدخل مُنتظرًا إياها، لاحظ توقفها وشرودها، حتى أنها سارت لتجلس بالمكان الذي تجلس به دائمًا ولم تُلاحظه! فتح عيناه عندما كادت أن تجلس على قدماه بدون وعي، ليصرخ عاليًا: استغفر الله العظيم.
صرخت بفزع من صراخه لتبتعد عنه لاإراديًا برعب، لم تفهم شئ ولا سبب صراخه، كادت أن تُعنفه فوجدته يقول بسخط وهو يلوح بيده عاليًا: ما هو مش معني إني قولتلك هتجوزك يبقى تقعدي على رجلي على طول كدا! في قبلها كتب كتاب يا ماما مش سداح مداح هي!
طالعته بصدمة وقد شُل لسانها عن الحديث، لتُردف ببلاهة: انت، انت، انت.
أشاح بيده بعيدًا، ثم ذهب ليجلب كرسي آخر ليجلس عليه، تزامنًا مع حديثه: أنا إيه بس يا شيخة! اتقي الله.
رفعت سبابتها بعدما تقدمت لتقف أمامها، مُشيرة أمام وجهه: على فكرة أنا مش قصدي ومكنتش شايفاك.
جلس على المقعد الآخر بعيدًا عنها بمسافة نسبية ثم تحدث بعبث: مصدقك يا غالية، اقعدي بقا خليني أقول الكلمتين اللي عندي.
ذهب الوجوم، وحلَّ محله الإرتباك والخجل، عضت على شفتيها ثم ذهبت ببطئ للجلوس على المقعد الآخر المُقابل له، ربع يديه أمام صدره ثم تحدث بجدية وهو يُحيد ببصره عنها: دلوقتي يا بنت الناس أنا حاسس بقبول ناحيتك وعايز أتقدملك، فكنت حابب أعرف رأيك وهل انتِ موافقة ولا لأ؟
فركت يدها معًا وهي تشعر بالتوتر يعتريها، خائفة من إخباره فيقوم أحمد بفضحها أمامه عندما يعلم بأمر الخِطبة، خرج صوتها مُتلعثمًا بعد عدة دقائق يُشاهد بها توترها وخوفها: أنا، أنا عايزة أقولك حاجة.
هز رأسه مُشجعًا إياها على الحديث، لتبدأ هي بقص كل شئ من البداية، لم تكذب عليه ولو بكلمة واحدة، كانت تُلاحظ ملامح وجهه التي تتحول للجمود والقسوة عندما تتعمق بالحديث، كانت أطرافها ترتجف خوفًا لكنها حسمت أمرها بعدم الكذب، أنهت حديثها لتنظر له بترقب مُنتظرة ردة فعله، لكنه لم يفعل أي شئ، ظل ناظرًا لها بجمود حتى وقف محله مُتحدثًا بملامح مُبهمة بلا تعابير: انسي اللي قولته كله، عن اذنك.
ذهب وتركها تنظر لأثره بصدمة، ابتلعت ريقها بصعوبة فشعرت به كالعلقم في حلقها، تجمعت الدموع بحدقتاها وظلت أطرافها مُتيبسة لفترة، حتى استطاعت بعد دقائق أن تُسيطر على نفسها، شهقت رغمًا عنها كاتمة صوت بكاؤها بيدها، لكم شعرت بأنها حقيرة في تلك الأثناء، شعرت بأنها مجرد دُمية يُحركها كما يشاء، لكنها لا تلومه على شئ، هذا حقه ولم يُخطئ، لملمت شتاتها ثم أمسكت بحقيبتها وذهبت، ذهبت وأقسمت على عدم العودة مرة أخرى، غافلة عن عيناه التي تابعتها بحسرة.
بعد ثلاثة أيام من التحقيقات، كان هذا وقت الحُكم النهائي الخاص بثلاثتهم، فقد كانت الشرطة في الأيام الماضية تُحقق في قضيتهم، جلبوا فريد وهو صديق سليم المُقرب والذي يعلم عن جميع أعماله القذرة، وأكد على عدم تورط موسى ورجاله بالقضية التي أُثبتت عليه، وما هي إلا مكيدة للإيقاع بهم، وكذلك ريان وغزل اللذان تم تلفيق التُهمة على كليهما، بوضع العقاقير المُخدرة في أحد السيارات التابعة لرجالهم للتخلص منهم، لكن لم يأتي بخاطرهم أن يستطيعوا الهرب.
جاء القاضي ومن معه ليُصيح مساعده عاليًا عن بدأ الجلسة، وقف الجميع ثم جلسوا مُجددًا بأمر من القاضي الذي أمسك بالأوراق بين يديه يُطالعها بإنتباه، وذلك المُحامي الذي وُكِل لهم من جهة يزن الراوي للدفاع عنهم.
وبعد وقت من المُرافعات وتقديم الأدلة التي تُثبت برائتهم، صاح القاضي عاليًا ناطقًا بحكمه: حكمت المحكمة حضوريًا، على المتهمون ريان منصور الطحاوي، موسى عادل زهران، و غزل إبراهيم أبو زيد، بالبرائة.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والعشرون
تحرك معتصم للمشفى لإصطحابها، فها قد مرَّ أسبوع كامل على بقاؤها تحت مراقبة الأطباء، لم يغفل عن النظرات الحانقة من طه، لم تكن نظرات كُره، بل غيرة، نعم يغار على إبنته منه وبشدة، ابتسم بخفة عندما تذكر شجارهم عليها ومَن يجلس معها بالغرفة، ورغم أن طه له الأحقية بذلك؛ كان يُعاند بشدة للبقاء جانبها أطول فترة ممكنة.
وصل إلى الغرفة المقصودة فاتحًا بابها على مهل، ليجدها جالسة على الفراش مُرتدية كامل ملابسها، لكن لم يكن أحد معها بالغرفة، استغل فرصته مُقتربًا منها لرؤية عيناها عن قُرب، فقد إشتاق لها حد اللعنة.
وقف أمامها فإنتبهت له رافعة رأسها تجاهه، اعتلى ثغرها إبتسامة سعيدة لرؤيته أمامها، مُرددة بسرور: عامل إيه يا معتصم!
رؤيتها جعل شفتيه تبتسم لا إراديًا، ينشرح صدره لرؤيتها بخير مُتعافية تمامًا أمامه، اقترب منها بهدوء حتى وقف قبالتها مُباشرة، وبالطبع نظر لعيناها، بينما هي ابتلعت ريقها بترقب، فلم يخفى عليها إهتمامه المُبالغ به وتحديه لجميع أفراد عائلتها وعائلته من أجلها هي فقط، نظراته تُوحي بالكثير، ليس مُجرد أصدقاء؛ بل أكثر من ذلك.
اسند ذراعيه على الوسادة لتُصبح مُحاصَرة بينهما، ثم أردف بعشق: معتصم بقا أحسن لما شافك.
توترت عيناها، وكذلك توتر جسدها من إقترابه المُفاجئ، نبض قلبها بقوة عندما ركَّزَ ببصره على عيناها الخضراء اللامعة المُتَيْم بها، ثم أردف بوله دون أن يُحيد بنظراته عنها: عنيكِ...
تبسَّم ثُغرها تلقائيًا عندما علمت الكلمة التي ستليها، ليُكمِل بنفس حالته الوالهة: بِتِسحِر.
تخشب وجهها عندما دلف والدها فجأةً وهم في وضعهم هذا، حاولت تنبيه فقالت بصوت مُتلعثم مُرتبك: ب. بابا.
لم يهتم بحديثها مُتحدثًا بضجر: سيبك من بابا دلوقتي وخلينا في المهم.
صُدمت من حديثه وهي تكادُ تبكي من التوتر فقالت بصوت خفيض: معتصم، بابا.
وكأنه الغباء هبط على رأسه الآن ولم يفقه ما تُريد، تسائل وعيناه تنظر لكل إنش بوجهها: عايزة إيه انتِ دلوقتي.
عادت تقول بخفوت مرة أخرى عالمة بغباؤه المقيت هذا: بابا.
غمز بعيناه بوقاحة متشدقًا بخبث: يعني انتِ مثلًا عايزة بابا. وأنا عايزك انتِ.
أمسكه طه من تلابيبه من الخلف صائحًا بحدة بعدما أبعده عنها: تعالى يا حبيبي نشوف عايز إيه سوا.
فزع معتصم من وجوده ناظرًا له بصدمة، ثم أردف بتلعثم: ع. عمي. استنى. استنى هفهمك.
هزه طه بين يديه ناهرًا إياه بقوة وكأنه على وشك الإنقضاض عليه: هتفهمني إيه يا حيوان! جاي تتحرش ببنتي وأنا موجود! دا انت بجح بقا وعايز تتربى.
لقد كُشِف أمره. هكذا همس في نفسه بخوف، هز رأسه بالنفي وهو يُبعد تلك التهمة البشعة التي لا تُمِت لأخلاقه بشئ: لأ يا عمي، دا أنا مرة واحدة لقيت سجود بتناديلي وبتقولي قرَّب عايز أقولك حاجة مهمة، وحاولت تتقرب مني وأنا كنت بقولها مينفعش أنا شاب أعزب وعندي ولايا يا أنسة سجود.
كانت سجود تستمع له بصدمة، فهبت من مكانها واقفة أمامه مُتحدثة بشراسة: نعم! أتحرش بيك!
أمسك معتصم بمقدمة ثيابه مُتصنعًا الخوف أمام طه، ثم أشار تجاهها وهو يتحدث بمسكنة تكادُ هي أن تُصدقه لشدة إتقانه: شوف. شوف بتقرب مني إزاي! وأنا إكمني طيب ومتربي مرتين معملتلهاش اللي هي عايزاه.
وإلى هُنا ولم تتحمل مُزاحه الثقيل، لذلك صاحت به هادرة: معتصم.
تحولت تعابيره من التصنع إلى الهيام وهو يُطالعها بوَله: عيونه!
ارتبكت نعم، وتبخر غضبها منه وتحول للخجل الشديد، تهربت بعيناها عن عيناه العاشقة، ليُكمل هو مُعاكسًا ببلاهة: يا خرابي! هو فيه قمر بيتكسف بيكون قمرين!
لم يشعر بذلك الذي كاد أن ينفجر من الغيظ، أمسكه طه جيدًا ثم اتجه به ناحية باب الغرفة مُخرجًا إياه منها ثم أردف بهدر: لو شوفتك هنا تاني مش هخليك تشوف بعنيك الحلوة اللي ماشي تبصبص بيها لبنتي دي.
قال جملته بعصبية ثم أغلق الباب بوجهه، ليقف هو كالأبله ينظر حوله ليتأكد من عدم رؤية أحدٍ له أثناء طرده، لكن قد خاب ظنه عندما رأى الجميع من مرضى وممرضين يُحدجون به بإستغراب وتعجب.
رسم على محياه إبتسامة متوترة، ثوانٍ ما انمحت عندما رأى أمامه عابد بوجهه العابس مُستنكرًا وجوده، حدجه عابد بسخط ثم أردف بسخط: انت إيه اللي جابك تاني! مش خِلصنا!
رسم معتصم على ثغره بسمة سمجة ثم أجابه ببرود: المفروض تتعود يابو نسب، دا احنا هنبقى أهل.
طالعه عابد بإشمئزاز ولم يُجيبه، بل فتح باب الغرفة القاطن بها شقيقته ثم دلف إليها مُغلقًا الباب في وجهه بوقاحة.
ولثاني مرة يُغلق الباب في وجهه بتلك الطريقة القذرة، نظر لأثره بغيظ، ثم مسح على جانب فمه ببطئ مُرددًا بخبث عندما جال بخاطره فكرة خبيثة: ماشي. انتوا اللي اختارتوا.
اليوم الذي تمنوه منذ أشهر ها قد حقق اليوم، سعادتهم لا تُوصف تلك اللحظة، كانوا أشبه بالطائر المُحتبس داخل قفص حديدي يطبق على أنفاسهم، وعندما نالوا حُريتهم طاروا مُهللين بسعادة، امتلئت عين غزل بالدموع وهي ترى نفسها حُرة، ستعيش حياتها كما تُريد بعد الآن، لن تضطر للتسلل ليلًا لفعل ما تُريد، ستتحكم بحياتها وحدها.
كان ريان يُراقب سعادتها بإنتشاء، وتلقائيًا ابتسم لفرحتها، أصبحت حياته مُرتبطة بها، فيحزن لحزنها ويسعد لسعادتها، توقف عن مُراقبتها عندما ضرب موسى بضربات خفيفة على كتفه، فإستدار له ريان راسمًا ابتسامة واسعة على شفتيه، احتضنه بقوة ثم حياه بسعادة: مبروك علينا يا شِق.
بادله موسى العناق مُشددًا منه ثم تشدق بسعادة: الله يبارك فيك يا صحبي، أكيد هنفضل على تواصل ومش هننسى بعض، ولا إيه!
أكد عليه ريان بقوة: أكيد طبعًا، أنا هقرفك وهتلاقيني قدامك كل يوم.
قهقه موسى عاليًا ثم أردف بخبث وحديث ماكر ذات مغزى: دا انت اللي هتلاقيني قدامك كل يوم، ويمكن أبات معاك كمان.
لم يفهم ريان ما يرمي إليه وكاد أن يُجيبه، فقاطعه صوت عمر المازح بصوت عالي: كفارة يا رجالة.
نظر ريان حوله ثم استدار له يُحدجه بغيظ، قائلًا: برستيجنا يا عمر باشا لو سمحت. انت عايز الناس تقول علينا رَد سجون ولا إيه!
جاء من خلفه صوت يزن الساخر الذي ربت على ذراعه بتهكم: لأ وانت الصادق كنت هربان مش رَد سجون بس.
مطَّ ريان شفتيه ناظرًا له بحنق يُشبه الأطفال حقًا، كادت ضحكة عالية أن تنطلق من فم يزن على مظهره، لكنه كتمها بصعوبة حتى لا يفقد مظهره أمام الذي العامة.
قطع حديثهم صوت الرعد الذي صدح في الأرجاء بقوة، يبدو بأنها ستكون ليلة مُمطرة، السماء تُرحب بهم وبنيلهم للحرية.
رفع ريان رأسه في كبرياء مُمسكًا بيد غزل الباردة، ثم أردف: نستأذن احنا بقى بدل ما الجو يعملها معانا.
كاد أن يذهب فأوقفه يزن مُخبرًا إياه بهدوء: انتوا معزومين يوم الجمعة على عيد ميلاد ابني، هستناكم.
نظروا لبعضهم بحيرة فأردف يزن بصوت صارم لا يقبل النقاش: مفيهاش تفكير، هتيجوا يعني هتيجوا.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه ريان، ثم أومأ بالإيجاب كدلالة على موافقته، سار عدة خطوات لكنه توقف فجأة عندما بادر بحديثه الجدي قائلًا: متنساش تجيب تورتة بالشيكولاتة عشان بحبها.
رمى بجملته ثم سار بعيدًا عنهم، ومعه تلك التي علت ضحكاتها على طريقته في الحديث.
تشنج وجه يزن عقب ذهابه ناظرًا لأثره بتهكم صريح، ارتخى وجهه عندما تشكلت إبتسامة صغيرة على شفتيه، في يومين فقط اكتشف نقاؤه، وهذا السبب ما جعله يُساعده، استأذن موسى هو الآخر للذهاب بعدما أكد عليه يزن على القدوم للحفلة، ولم يبقى في ساحة المحكمة سوا يزن وعمر ومراد.
صدح صوت هاتف يزن ليظهر إسم المتصل، تأفف بضجر لعلمه ما يريد هوية المتصل، نفخ بسخط قبل أن يُجيب بهدوء مصطنع: عايزة إيه يا رضوى!
أتاه صوت رضوى الباكي وهي تُصيح بشهقات عالية: ساهر بيخوني يا يزن، أنا متأكدة إنه بيخوني، ما هو مبقاش يحبني، مبقتش مالية عينه الأستاذ.
حاول الهدوء على قدر المستطاع، أوقاتٍ كثيرة يشعر بأنه مُربي العائلة، تلك العائلة التي لا يوجد بها شخص واحد عاقل على الأقل، حتى زوجته. أصبحت أكثر جنونًا عن ذي قبل.
سحب نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل، قبل أن يسألها بترقب: مين اللي قالك الكلام دا؟
ربتت ضحى على ذراعها تُهدئ من روعها، ثم أجابته هي صائحة بضجر: يا يزن بتقولك بيخونها وانت تقولها مين اللي قالك! أكيد أنا اللي قولتلها يعني.
تشكلت إبتسامة بلهاء على فم رزان قبل أن يصدح صوتها هي الأخرى: وأنا كمان قولتلها معاها.
كز يزن على أسنانه بشدة حتى كاد أن يسحقهم من غيظه، نظر بغضب ل عمر الذي رفع له حاجبيه وكأنه يسأله ماذا تريد! جاء صوت رضوى المتحشرج صائحة: أنا عايزة اتطلق منه يا يزن، مستحيل أعيش معاه ثانية واحدة بعد كدا.
شجعتها ضحى مُقبلى وجنتها بحنان: جدعة يابت، متسبيش حقك أبدًا، وبعدين متخافيش كل حقوقك هتجيلك لحد عندك والشقة من حق الزوجة.
استمعت لها رضوى بإنصات ثم هزت رأسها بالإيجاب، انتظرت إجابة يزن فلم تجد رد، لذلك تسائلت بخفوت: يزن انت معايا!
أتاها الرد على هيئة صافرة الإغلاق، نظرت رضوى ل ضحى مُتشدقة بسخط: شايفة جوزك قفل التليفون في وشي إزاي!
واستها ضحى قائلة بتفكير: يمكن قفل عشان يشوف حل، متظلميش يزونتي.
مسحت رضوى دمعاتها بقوة ثم أردفت بحقد وغل: وعهد الله لهجيب حقي من أخوكِ، أنا هعرفه إزاي يخوني ويمشي مع السكرتيرة الصفرا اللي معاه.
جدعة يابت، مع إنه أخويا بس أنا عارفاه واطي ومعفن.
رياح شديدة وعاتية تضرب وجوههم بقوة، تَزامنًا مع صوت الرعد المُصاحب لعاصفة برَّاقة، نظرت غزل حولها بسعادة صائحة بفرحة شديدة: الجو تحفة بجد، يارب تمطر.
وما أن أنهت حديثها حتى هبط المطر فوقهم كالسيول، تعالت ضحكات ريان عاليًا عندما تركت يده فاردة كِلتا ذراعيها في الهواء مُستمتعة بملمس الأمطار التي تسقط فوق وجهها، دارت حول نفسها بسعادة عندما تأكدت من خُلو الطريق إلا مِن كليهما.
ذهب إليها ريان ضاحكًا ثم أمسك بيدها غامزًا لها بعيناه المُشاكسة: مش هفوت لحظة زي دي من غير ما تكون رومانسية.
نظرت له بعدم فهم، لتجده يُحيط بخصرها بذراع، وبالذراع الأخرى يُمسك بيدها ثم أردف هامسًا: ف لنرقص يا عزيزتي.
قهقت عاليًا بفرحة عارمة، فرحة لا تشعر بها إلا بوجوده، جارته في فعلته تُحرك قدمها مع ميلها لجسدها، وهو كذلك يُحرِك جسده مع رقصته المجهولة، أبعدها عنه ومازالت يدها مُتشبثة في خاصته، أدراها حول نفسها كالأميرات، وهي بالفعل أميرة على عرش قلبه، ليُقربها مرة أخرى منه حتى باتت مُلتصقة به بقوة.
ظل عدة دقائق ينظر لعيناها، بُنياتاها تُسحرناه، اقترب منها أكثر هامسًا أمام وجهها بهيام وعشق جارف: عنيكِ مش بحر. ليه أنا فيهم ببقى زي الغريق!
خفق قلبها لقُربه، وخفق أكثر لكلماته المُحببة إليها، طالعته بأعين عاشقة وأنفاس مُلتهبة، باتت لا تطيق فكرة إبتعاده أو رحيله عنها، وكيف لها أن تعيش بعيدًا عن طفلها! طفل الصغير ب زي رجل كبير، ردت مُجيبة إياه على سؤاله: بتمنى تفضل طول عمرك غرقان في عنيا، عشان أبقى مطمنة بوجودك.
ما تجيبي بوسة!
كان رجاء أكثر من طلب تلك المرة، لتُطلق ضحكات عالية وهي تبتعد عنه بيأس، ريان الوقح مازال وقح، لكن في النهاية سيظل طفلها الوديع.
قاطع لحظتهم بوق السيارة الذي صدح عاليًا للإبتعاد عن الطريق، نظر ريان ل غزل غامزًا لها بعبث قبل أن يسألها بمشاكسة: بتعرفي تجري!
لم تفهم ما يرمي له في البداية؛ لكن سرعان ما فتحت عيناها بحماس عندما فهمت مغزى حديثه، أومأت له بسرعة وهي تكاد تموت فرحًا، ليُمسك ريان بيدها ثم انطلقوا مهرولين على أقدامهم، أحذيتهم تضرب الأرض الصلبة الممتلئة بالمياه بقوة، لتنتشر المياه من حولهم بفوضوية مُحببة للقلوب، وهنا انطلقت ضحكاتهم السعيدة لوقت لن يُعاد مُجددًا، وقتًا قضاه كُلًا منهم رِفقة الآخر، ليتُدون لحظة أخرى لم ولن تُنسى.
عاد فارس لمنزله يشعر بالرحة تتغلغل لقلبه رويدًا رويدًا، فتح الباب بهدوء ظنًا من أن الجميع نائم؛ لكنه وجد ظهر تندفع له تسأله بقلق بالغ وطبقة رقيقة من الدموع متكونة داخل حدقتاها: كنت فين يا فارس قلقتني عليك!
أحاط بها وبقدمه أغلق الباب خلفه دافنًا وجهه بعنقها يتنفس بعمق، هدأ القلق الذي بقلبها وارتفعت صخب دقاته من قُربه، سمعت همسه وهو يُجيب براحة: عرفت الحقيقة، عرفت الحقيقة كلها يا زهرتي.
ارتسمت السعادة على محياها، ثم أردفت مُتسائلة بضحك: وإيه هي الحقيقة يا فروستي!
خرج من أحضانها، ثم أمسك بيدها ساحبًا إياها خلفه، ليجلسا على الأريكة بجانب بعضهم، وبدأ هو بسرد ما رواه شاكر تفصيليًا، في البداية ظهر الألم عليه وهو يقص عليها ما علمه، لكنه ابتسم مرة أخرى عندما تحدث بدموع سعيدة للغاية: عارفة! أنا لسه جاي من عندها دلوقتي، رُحت زُورتها في قبرها وحكيتلها كل حاجة، قولتلها أد إيه هي وحشتني وإني محتاجلها، قولتلها إني اتجوزت وبقا عندي بنت سافلة زي القمر، حكيتلها كل حاجة، حسيت براحة والوجع اللي في قلبي راح، بعدها الجو مطَّر حسيت إنها بترد عليا، كل نقطة مايه كانت بتنزل فوقي بحس إنها بتغسلني من جوا، بقيت مبسوط وأنا مرتاح، رغم إن الحقيقة كانت أصعب مما توقعت بس بقيت مرتاح.
حدجته زهر بسعادة جليَّة لعودته مرة أخرى، عادت له الروح مُجددًا فشعرت بالإنتشاء، حاوطت وجهه بين يديها ثم ارتفعت قليلًا مُقبلة جبينه بعشق، وبعدها أردفت بكلمة واحدة لا تكفي ما تُعايشه بتلك اللحظة: بحبك.
قبَّل وجنتها بعمق قبل أن يُجيبها هامسًا: وأنا بموت فيكِ، بعشق كل حاجة فيكِ.
اقترب منها بدرجة خطيرة حتى كاد أن يحصل على مبتغاه، لتُقاطعهم تلك الوقحة الصغير مُتخصرة محلها، قبل أن تُردف بسخط: اشمعنا مدثر لما يجي يبوسني بتفضل تزعق! انت أناني على فكرة.
أناني!
رددها فارس بإستنكار بعدما قاطعتهم عن لحظته التي كاد أن ينولها، لتؤكد له حديثها وهي تُعدِل من ثيابها المنحرفة مثلها تمامًا: آه أناني، اشمعنا انت بتبوس ماما! ما كدا كدا مدثر جوزي واحنا اتجوزنا.
لوى شفتيه بإستنكار ثم سألها بصدمة: اتجوزتوا! ودا إزاي إن شاء الله!
نفخت بشفتيها على طلاء أظافرها الأحمر، ثم أجابت ببرود: حازم صاحبنا عمل المأذون و مدثر قالي تتجوزيني! قولتله زوجتك نفسي، عشان بس لما تشوفه بيبوسني متستغربش.
وضع فارس يده على قلبه رافعًا عينه للسماء، ثم أردف بحسرة: يارب دي أكيد مش تخليص ذنوب، دا إبتلاء وأنا مش أده.
اعتدلت لوچي في وقفتها بسخط، ثم نظرت لوالدتها مُشيرة ل فارس بغضب: شايفة! شايفة بيعاملني إزاي! أقولك حاجة. أنا هريحك مني وهنزل بيت جوزي أحسن.
أنهت جملتها ثم فتحت باب المنزل وخرجت منه للهبوط للأسفل، انتفض فارس من محله خاصةً وهو يرى هبوطها بملابس وقحة للغاية، صارخًا عليها: بت يا لوچي!
لم تُجيبه الصغيرة بل كان الآوان قد فات وهبطت للأسفل، هرول فارس خلفها مُتجاهلًا نداء زهر عليه ليلحق بالفضحية التي سبقته لمنزل أبيه.
دخلت لوچي لمنزل سلطان مُنادية على مدثر بصوت عالي، حتى أتى هو مهرولًا من الغرفة التي كان يمكث بها، أطلق صفير عالي عند رؤيته لمظهرها ثم فتح ذراعيه يدعوها لإحتضانه، قبل أن يردف بوقاحة: أقسم بالله جامدة وتستاهلي حضن كبير.
وكالبلهاء ابتسمت بسعادة واتجهت إليه راكضة، لكن وقبل أن تصل إليه؛ وجدت نفسها تُرفع في الهواء وصوت أبيها الصارخ يردف بغضب: يخربيت أمك على بيت تربيتك، أعمل فيكِ إيه يا بت!
لوحت لوچي بقدمها في الهواء صارخة في المقابل: سيبني يا بابي لو سمحت، أنا بقالي كتير محضنتهوش.
فتح عيناه على وسعهما مُرددًا حديثها: بقالك كام يوم محضنتهوش! وانتِ بتسيبيه يحضنك كدا عادي!
هزت كتفها بلامبالاة وهي تُجيبه: آه عادي. طالما بيحبني وأنا بحبه يبقى عادي يا بابي.
خرج في تلك الأثناء شهاب من غرفته مُستندًا على عكازه، ثم أردف وهو يرتمي على الأريكة: انت مربتش ياخويا، تربيتك بسم الله ما شاء الله تِشرِح القلب.
قطب فارس جبينه بدهشة وهو يُطالع تلك الجبيرة التي تُحيط قدم شقيقه: إيه اللي عمل فيك كدا؟
كاد شهاب أن يُجيبه بكذب، فسبقه مدثر ناظرًا له بشماتة: كان جايب ورد وشيكولاتة لعمتو إهداء وعايز يمشي معاها.
حدق به شهاب بعدم تصديق لحديثه الوقح، فناظره فارس بإشمئزاز مُطالعًا الجميع بقرف: دا انتوا عيلة مشافتش رباية.
وإيه الجديد ما طول عمركم عيلة سافلة.
هكذا أردف ريان بضحك عند وصوله منذ قليل وإستماعه لحديث فارس الأخير، هرول له مدثر يهتف بسعادة: بابا.
انتشله ريان بين ذراعيه مُقبلًا وجنته بقوة، ثم أردف بسعادة: روح قلبي يا ناس. الوَحش بتاعي عامل إيه!
أجابه الصغير بفرحة عارمة: الحمد لله يا بابا، كنت هحضن لوجي بس عمو فارس عمال يزعق مش عارف ليه!
أنزل ريان الصغير ثم ذهب تجاه صديقه ليحتضنه، ضاربًا إياه على ظهره متشدقًا بسماجة: ما تسيبه يا جدع يحضن البت، متبقاش قطَّاع أرزاق كدا.
ضحك فارس عاليًا مُبادلًا إياه العناق، متحدثًا بيأس: يعني ابنك هيطلع سافل لمين مثلًا!
قطع حديثهم صوت شهاب مُحولًا صوته لصوت عجوز أنثوي: تعالى يابني خليني أحضنك، مش قادرة أقوم الله لا يسيئك.
صدحت ضحكات ريان ثم ذهب لإحتضانه، مُتسائلًا بشفقة: يا عيني يابني، إيه اللي عمل فيك كدا!
ولثاني مرة يسبقه مدثر قائلًا له الحقيقة، والتي ما إن سمعها ريان حتى ضحك عاليًا حقًا، تحول وجه شهاب شهاب للحنق، فدفعه بعيدًا قبل أن يقول بغيظ: طب ابعد عني انت وابنك بقا بدل ما أبلغ عنك المرة دي.
تحولت نظرات ريان للخبث واضعًا قدمًا فوق الأخري، ثم استند على الأريكة براحة، قبل أن يردف بتسلية وهو ينظر لجميع الوجوه حوله بترقب: لأ ما أنا خلاص خدت براءة.
قول وعهد الله!
هكذا أردف فارس بعدم تصديق وإبتسامة سعيدة تشكلت على وجهه لاإراديًا، ليؤكد له ريان بضحك، ثم روى لهم جميع الأحداث التي حدثت في الوقت السابق، ختم حديثه بقوله: وأنا اللي طلبت من يزن الراوي ميقولش لأي حد عشان عايزها تبقى مُفاجأة ليكم.
ذهب إليه فارس ليحتضنه مرة أخرى بعدم تصديق، وها قد حصل رفيقه على حريته كاملة بعد عناء دام لأشهر طويلة، خرج صوته سعيدًا وهو يُهنئه بسعادة جلية: مبروك يا صحبي، ألف ألف مبروك.
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون
ترجل الجميع من السيارات وعلى وجوههم علامات التهجم والغضب بعد فِعلة معتصم التي أثارت حنقهم، ذلك الأحمق جعلهم مُنشغلين في جمع الحقائب وسحب معه سجود من يدها قِصرًا صاعدًا بها لسيارته الخاصة، اعترضت وقاومته كثيرًا على جنونه لكنه أبى الإستسلام لها، أغلق قفل السيارة عليها ثم أخرج رأسه من نافذة السيارة، صارخًا بأعلى صوته حتى يصل لهم صوته الضاحك: يا حمايا العزيز، سجود معايا متدورش عليها.
انتبه له كُلًا من طه وعابد وهكذا أميرة التي كانت تحمل متعلقات إبنتها، صرخ به طه راكضًا خلفه بغضب: استنى هنا يا حيوان، رايح بيها فين!
ولكن كان الآوان قد فات وذهب مُسرعًا قبل أن يصل إليه، نظرت سجود ل معتصم المُنفجر في الضحك، ثم نهرته بغضب لجنونه والذي تكتشفه لأول مرة: انت اتجننت يا معتصم! إيه اللي انت بتعمله دا!
طالعها معتصم بتسلية ثم نظر أمامه مُجددًا مُردفًا بشماتة: ايوا اتجننت. ومش هعقل ولا هيرتاحلي بال غير لما أتجوزك يا جميل انت، وأبوكِ وأخوكِ يبقوا يقابلوني في المشمش.
انتفض قلب سجود من محله ثم طالعته بصدمة غير مُصدقة ما يقوله، ظلت صامتة لبضعة دقائق ثم أردفت فجأةً: معتصم انت بتتكلم جَد! انت بتحبني فعلًا! طيب وخطيبتك!
سحب أنفاسه على مهل ثم زفرها رويدًا، أدار وجهه لها بعد توقف بالسيارة على جانب الطريق المُبتل من أثر الأمطار الغزيرة التي مازالت تهبط، أمسك بكف يدها بحنان ثم أردف بحب خالص أهلك فؤاده: آه بحبك يا سجود، بحبك ومش من يوم ولا اتنين، بحبك من زمان أوي وأنا اللي كنت مغفل ومفكره حب أخوي، لكن لأ، طلعت بحبك عشان انتِ سجود مش عشان أختي، ولو كنتِ حسيتي باللي حسيت بيه وأنا شايف الإسعاف شايلينك وانتِ بتنزفي دم كنتِ هتستغربي حالتي، كنت هتشوفي معتصم تاني خالص، أنا بحبك يا سجود، بحبك ومحبتش حد أدك.
كانت تستمع له بأنفاس مُلتهبة، تشعر بأن الهواء يطبق عليها، تشكلت طبقة من العبرات على عيناها، تُفكر هل سيأتي يوم وسيتخلى عنها لأنها قبيحة! هل سينبذ من مظهرها البشع هذا! هل سيندم على زواجه بها يومًا! وهُنا عادت كل الهواجس تدور برأسها مرة أخرى دون هوادة، لتنفي برأسها مُسرعة تقول بنفي: لأ. لأ وأنا مش موافقة.
حدجها بصمت وجمود وكأنه لم يستمع لإجابتها، أدار مُحرِك السيارة بهدوء، ثم أردف ساخرًا: أنا مش باخد رأيك يا روحي، أنا بعرفك بس إني هتجوزك.
حدجته بدهشة ولم تقدر على الحديث، وكأن لسانها شُلت عضلاته وتوقف عن العمل، لاحظ تطلعها المستمر به وأراد العبث معها قليلًا، فغمز لها بمشاكسة قبل أن يردف بمكر: طب إيه بقا!
قطبت جبينها بتعجب ولم تفقه إلى ما يرمي إليه، لتتسائل بإستغراب: إيه!
ليعود إلى عبثه وحديثه الغير برئ بالمرة مُتشدقًا بخبث: يعني أنا وانتِ لوحدينا والدنيا بتمطَّر والطريق فاضي يعني الجو هيخلالنا.
عادت لتتسائل ببلاهة: يعني عايز إيه برضه مش فاهمة!
طب بذمتك مش نفسك ترجعي لأبوكِ وانتِ شايلة في بطنك حِتة نونو صغير كدا يقوله يا جدو؟
شهقت بعنف من حديثه الوقح والمباشر بذاتِ الوقت، لتتحول من فتاة وديعة تتحدث بهدوء، إلى أخرى سوقية تتحدث بردح: نعم نعم يا روح أمك! لأ بقولك إيه أقف عِوج واتكلم عِدل بدل ما وديني أقطع جتتك دي حِتت حِتت وميعرفوش يلموك عشان يدفنوك زي باقي المخاليق.
رمش معتصم بعينه عدة مرات بعدم تصديق، طريقتها وحديثها دَبَّ الرعب بقلبه لتجده يبتسم بتوتر خائف، تلاه حديثه المُتلعثم: م. مالك بس يا سجود يا حبيبتي! دا أنا بهزر معاكِ.
جاؤه صوت صراخها المُحذِر: لأ متهزرش ياخويا وخلينا نوصل بسرعة بقى حفاظًا على سلامة الجميل.
هز رأسه بالإيجاب وهو يكاد لا يُصدق بأنه خُدِع بها وبهدوئها، همس لنفسه بحسرة وهو يكاد يبكي: إيه اللي عملته في نفسك دا يا معتصم! حبيت قتالة قُتلة!
طرقت غزل على باب منزلها بمرح ثم انتظرت قليلًا حتى فُتح باب المنزل، ليظهر من خلفه والدتها، التي ما إن رأتها حتى صاحت صارخة: غزل! يالهوي يالهوي يالهوي يالهوي!
تشنج وجه غزل بإستنكار من تلك الطريقة التي قابلتها بها والدتها، جالت الأفكار الشيطانية بعقلها الصغير، لتشرأب برأسها داخل المنزل مُردفة بسخط: إيه يا ماما مالك اتخضيتي كدا ليه! لتكوني بتخوني بابا ولا حاجة!
وضعت فوزية يدها على فاهها مُتشدقة بعدم تصديق: هي، هي بسفالتها بطولة لسانها هي.
أنهت حديثها ثم اندفعت إلى أحضان إبنتها مُهللة بفرحة: بنتي! حمدالله على السلامة يا نور عيني.
أحطاتها غزل بحب والتي أردفت بتهكم: بعد إيه بقا يا حَجة! دا انتِ كان ناقص تديني بالشبشب.
في هذه الأثناء أتى والدها من الداخل مهرولًا عندما استمع لصوت ابنته، دفع فوزية بعيدًا ثم أخذها في أحضانه يُغرقها بوابل من القُبلات، حدجته فوزية بغيظ ثم صرخت به: بتعمل إيه يا إبراهيم! في حد يزق حد كدا!
قهقهت غزل عاليًا ثم خرجت من أحضان والدها غامزة لوالدتها: متزعليش يا زوزا، دا انتِ اللي في القلب، هو بس الحماس خده شوية.
دلفوا للداخل ثم جلسوا على الأريكة براحة، نادى إبراهيم بصوت عالي على إبنته الأخرى ميران والتي تعشق النوم كعيناها، خرجت ميران من غرفتها وهي تتثائب بضجر، ثم تحدثت مُتأففة: عايز إيهويا بابا! هو الواحد ميعرفش ين، غزل!
قالت الأخيرة بتعجب شديد، وثوانٍ وكانت تصرخ بحماس قبل أن تنطلق لها مُرتمية بأحضانها: غزل.
تحدث غزل بأنفاس مكتومة وهي تمد يدها تستغيث بوالدها: إلحقني يا بابا هتفطسني.
سحب إبراهيم ميران بعيدًا والتي كانت تتشبث بالأخرى كالعلقة، فتحدثت بسخط: سيبني يا بابا أحضنها وحشتني.
أجلسها جانبه بعد مُعاناة لإسكاتها، ثم أردف مُستنكرًا: ولو مسبتيهاش دلوقتي هتوحشك للأبد ياختي.
مطت ميران شفتيها بضجر ناظرة لشقيقتها بإشتياق، فلاحظت غزل نظراتها تلك؛ لذلك هبَّت من مكانها جالسة بجانبها على الأريكة، ثم قبَّلت وجنتها بقوة آلمت الأخرى، مُتحدثة بحنين: وحشتيني يا بتاعة محمود.
تحول وجوم وجهها إلى إبتسامة بلهاء سعيدة للغاية، مصمصت فوزية على شفتيها، ثم تحدثت ساخطة: شوف البت ومُحنها، مجرد ما جابت سيرة حبيب القلب وشها بقا يطلَّع قلوب.
هُنا وتحدثت ميران بوَلَه: حودة.
زجرها والدها الذي تحدث بحدة: ما تتلمي يا بت بقا، أنا مش عارف انتِ طالعة سافلة لمين!
وعلى ذِكر السفالة. تذكرت غزل ذلك الوقح الذي تعشقه، لتتشكل على ثغرها إبتسامة بلهاء هي الآخرى، تتذكر حديثه، عبثه، مكره، ولُطفه، وحنانه، تذكرت كُل شئ.
فاقت من شرودها على صوت والدها الذي سألها مُستفهمًا: هتمشي إمتى يا غزل!
اتسعت ابتسامتها ثم أجابتهم بما لجم ألسنتهم وجعلهم في حالة صدمة وعدم تصديق: لأ ما أنا خدت براءة.
جلس ريان وحوله جميع أفراد العائلة من رجال ونساء، ثم روى لهم ما حدث بالتفصيل ولم يغفل عن أي شئ، كان يجلس على قدمه مدثر والذي اشتاق لوالده كثيرًا، وعلى القدم الأخرى تجلس لوچي بالطبع، انتهى من سرد ما حدث براحة ليُربت بكر على قدمه مُردفًا بحنان: حمدالله على سلامتك يا حبيبي، نورت بيتك من جديد.
أجابه ريان بود حقيقي: الله يسلمك يا عمي، ربنا يقدرني وأردلكم كل جمايلكم دي.
تلك المرة تحدث سلطان ينهره بحدة: إيه واد الكلام دا! دا انت عندك بدل الأب تلاتة وانت عندنا في غلاوة ولادنا وأكتر.
التمعت عيني ريان بتأثر من حديثه، ف لكم يحمل لهم الإمتنان والحب لما فعلوه معه بلا مُقابل، لف فارس ذراعه على كتفه ثم تحدث بشغب: وهنرجع لأيام زمان وشقاوتها يابن الطحاوي.
ضحك الجميع بمرح، فهبت ماجدة تهتف بحماس وهي تنظر ل ريان: أنا هقوم أعملك دلوقتي الرز بالبلن اللي انت بتحبه وصينية مكرونة بشاميل تاكل صوابعك وراها.
ابتلع ريان ريقه بجوع، ثم وقف وذهب لإحتضانها مُردفًا بحب: تسلميلي يا جوجو والله، الوحيدة اللي حاسة بيا.
قاطعهم فارس بعد أن حمحم بجدية: اقعدوا دلوقتي عايز أقولكم حاجة مهمة، وبالذات لبابا وأعمامي.
عاد ريان وماجدة لمكانهم مرة أخرى، ليأخذ فارس نفسًا عميقًا قبل أن يردف بهدوء: دلوقتي أنا شايف إن العداوة بين عيلتنا وعيلة أبو زيد ملهاش لازمة، كرهناهم بما فيه الكفاية وكل اللي احنا عيشناه كان مُجرد كِدبة احنا عايشينها.
أنصت له الجميع وعلى محياهم ترتسم الصدمة جلية على وجوههم، عدا زهر التي كانت تعلم كل شئ من البداية، هنا وخرج صوت سلطان الغاضب: انت. انت بتقول إيه يا فارس! انت اتجننت! دول هما السبب في قتل أمك وطلاقها مني.
هز فارس رأسه نافيًا وعادت الأجواء تطبق على أنفاسه من جديد: لأ يا بابا مش هما السبب، نجدت الكلب هو السبب الوحيد وكُرهنا عمانا عن الحقيقة.
هبَّ سلطان من مكانه صارخًا: لأ انت أنت أكيد اتجننت أو حصل لمخك حاجة، مين اللي لعب في عقلك وقالك الكلام دا! بالسهولة دي نسيت أمك!
نفرت عروق فارس بشدة من حديث أبيه المُهين، ثم انتفض صائحًا بغضب: لأ منستهاش. ومش هنساها، وأنا مش عيل صغير عشان حد يضحك عليا بكلمتين.
بات المكان مشحونًا وكلًا منهم مُستعد للإنقضاض على الآخر، وقف ريان بجانب صديقه قائلًا بهدوء لتهدأته: إهدى يا فارس، أكيد عمي ميقصدش.
هُنا وصعد صوت سلطان يهتف بحقد: لأ أقصد، العيلة دي هي اللي دمرت حياتي، وكلهم مشتركين في نفس الذنب لما وقفوا جنب أخوهم وبيداروا عملته الوسخة.
تلك المرة صعد صوت زهر المُدافعة بإستماتة عن زوجها: لأ يا عمي مكانوش يعرفوا، و نجدت كان ظاهرلهم بشكل الملاك البرئ وهو عكس كدا، وطبيعي أي عيلة لما يلاقوا إبنهم الطيب الغلبان مُتهم بحاجة زي دي هيدافعوا عنه، وأكيد لو حصل عندنا نفس الموقف انتوا هتعملوا كدا وأكتر عشان تثبتوا براءة أخوكم اللي ظاهرلكم بشكل البرئ الطيب.
إزدادت الأجواء إثارة بعد الحديث الذي رمته إليهم زهر، وكُلًا منهم بات يُفكر في حديثها، ماذا لو وُضعوا بنفس الموقف! هل سيُدافعون عن أخيهم أم سيتركوه حتى ولو كان مُخطئًا، وهنا جاءت الإجابة على هيئة طرقة على باب المنزل، تبعه دخول شاكر الذي جاء بناءً على طلب فارس.
ورغم الإشتياق البادي على وجوههم عقب دخوله، تحدث بكر بحدة وهو يُشير إليه: انت إيه اللي جابك هنا! أنا مش قولتلك رجلك متخطيش المكان دا تاني!
صدح صوت فارس يُبرر وجود شاكر حتى لا تتفاقم المشكلة: أنا اللي قولتله يجي يا عمي.
حدج سلطان ابنه بحدة جاززًا على أسنانه ولم يُعقب، نبض قلبه بألم عند تذكره لعشقه المفقود ل ميادة، حبه الأول والذي انتهى بعد زواجهم بعدة سنوات، يحمل لها كل الحب حتى بعد وفاتها، يشتاق إليها ويلعن نجدت دائمًا لِما سببه له من وجع، ورغم مرور السنوات وإبتعادها قبل موتها، مازال يحمل لها العشق بين طيات قلبه المُعذَب بحبها.
وعلى بُعد خطوات منه، كانت تقف ماجدة وتدرس ملامح وجهه الحزين بقلب مُتألم، أحبته منذ زمن ليتحول الحب إلى عشق وهو مازال يحب ميادة، حتى بعد مماتها لم تستطيع الحصول على مكانتها، لكن وجوده بجانبها يكفيها، بل وإحترامه وحنانه عليها أيضًا يكفيها، ورغمًا عنها تشعر بالغيرة من صديقتها المُتوفاه.
تجاهلهم شاكر جميعًا، ثم ذهب للجلوس على الأريكة المُفرغة من أماكنهم، نظر حوله بهدوء لتلتقط عيناه إحدى نساء العائلة والتي لم تكن سوا سميحة، فأردف ببرود يطلب منها: لو سمحت يا أم معتصم كوباية شاي أصلي مصدع.
وضع ريان يده على فمه يكتم ضحكته التي لا تتماشى مع الموقف بتاتًا، نكزه فارس بجانبه قائلًا وهو يجز على أسنانه: اسكت الله يخربيتك هتفضحنا.
خرج صوت ريان مكتومًا وهو يُجيبه: عمك شاكر دا مستفز بأمانة يعني.
أكد عليه فارس مُومئًا، يُحاول الثبات على ملامح وجهه الصارمة وعدم النظر إلى ريان وإلا سينفجر ضاحكًا لا محالة.
ذهبت إهداء بدلًا من سميحة تاركة تلك الأجواء المتوترة التي لا تُحبذها بالمرة، ليستغل شهاب ذهابها وإنشغال الجميع، ثم ذهب خلفها.
ردد بكر كلماته بعدما جلس بالمقعد المُجاور ل شاكر: مقولتش إيه اللي فكرك بينا يا شاكر!
تنهد شاكر مطولًا، ثم نظر لأخيه سلطان بهدوء، ثم أردف: جاي أقولكم الحقيقة اللي رفضتوا تسمعوها مني زمان.
صدح صوت سلطان حاقدًا وعيناه تشتغل بالغل: الحقيقة كلنا عارفينها يا شاكر، متحاولش تدافع عنهم وتبررلهم زي ما عملت زمان وحاولت تدافع عن صاحبك ال.
أشار له شاكر للمقعد، ثم تحدث بسخط: اقعد يا سلطان ومتبقاش عامل زي الحمار المتهور كدا.
شاكر. إلزم حدودك.
عدَّل شاكر من حديثه ساخرًا: لو سمحت اقعد يا أستاذ سلطان عشان أتنيل وأقول الكلمتين اللي أنا جاي أتزفت وأقولهم.
جلس سلطان بجانب بكر بتأفف، و فارس وريان جلسوا على المقعدان الآخران، والنساء تقف في الخلف تُراقب ما يحدث بتمعن، بينما مدثر ولوچي اختفوا من الأرجاء تمامًا
بدأ شاكر بسرد ما حدث بالماضي تفصيليًا وهذا ما رواه ل فارس تحديدًا، كان يُراقب ردات فعلهم التي كانت ما بين غاضبة، حانقة، مصدومة، وأخيرًا حزينة، وكأن ثقلًا ما أُزيح من فوق صدره عندما صرَّح بتلك الكلمات وهذا الحديث الجاثم فوق فؤاده، بينما سميحة تحولت نظراتها ل فارس تلقائيًا، فقد كانت تمقته بسبب فِعلة والدته الشنيعة، والآن باتت الحقيقة ظاهرة أمام أعين ومسمع الجميع، أنبت نفسها على مضايقتها له كل تلك السنوات، وهو مَن كان يحتاج للرعاية والحب، حاولت إخفاء عِبراتها عن الجميع، لكن قد إلتقطها فارس وانتهى الأمر.
أنهى شاكر حديثه مُستمعًا لصوت سلطان المُتحدث بصدمة: يعني إيه! يعني كل اللي كُنا فيه دا كدب! يعني عيلة أبو زيد مكانوش يعرفوا زي ما نجدت قال قبل ما يموت!
هز شاكر رأسه نافيًا: لأ مكانوش يعرفوا، نجدت كان بيحاول يوهمكوا إنه ليه ضهر وهيساعدوه، بس هما مكانوش عارفين أي حاجة عن عمايله دي.
حدق بكر ب شاكر بصمت ثم أردف بعتاب: قولنالك ابعد عن سِكته يا شاكر بس انت اللي مسمعتش كلامنا.
خرج صوت شاكر نادمًا وهو يشعر بتلك الغصة المؤلمة التي تتكون في حلقه من جديد: كان صاحبي يا بكر، قالي إنه هيتغير بعد ما اتجوز ميادة الله يرحمها، بس حالته بقت أسوأ وبقا مريض بالشك بكل اللي حواليه، حتى أنا، أقرب واحد ليه شَك فيا إني بخونه ومعملش حساب للعيش والملح اللي كان بينا، بس هقول إيه ربنا يسامحه.
ربنا يسامحه!
نطق بها بكر بإستنكار ليصمت قليلًا، ثم أكمل حديثه بحدة: بعد كل دا! مش نجدت صاحبك دا هو السبب في بعادك عننا! مش هو السبب في إننا نقاطعك السنين دي كلها بسبب ماشيك البطَّال معاه! ياما حذرتك، وياما نبهتك، لحد ما كان هياخدك في سِكته، سِكة اللي بيروح فيها مبيرجعش، كان لازم تفوق وقتها وإلا كنت ضِعت معاه وبقيت مريض نفسي زيه بسبب نزواته القذرة.
أخفض شاكر رأسه للأسفل بحرج، يعلم بأن معه كل الحق في حديثه، ضرب بحديث عائلته عرض الحائط وذهب لمجالسة مَن هو فاسد ليسحبه خلفه، لكن أخواته لم يتركوه يضيع هباءً، تذكر ذلك اليوم الذي قام فيه بكر بضربه بقوة حتى نزف من أنفه، تبعه طرده من المنزل بأكمله حتى يستعيد عقله، شُرد في الشارع لبضعة أيام، حتى إستطاع المكوث مع رجل عجوز وحيد لديه شركة صغيرة لا يجد مَن يُديرها له، ليعمل بها ومن بعدها بات شخصًا آخر يُعتمد عليه، ابتعد عن نجدت وتلك الصُحبة الفاسدة، وذهب للعمل والبدء من جديد.
ذهب إليه بكر واضعًا يده على كتفه يُشدد من أزره، ثم تحدث بحنان وعيناه تجول على وجهه بإشتياق: وحشتني ياخويا.
أنهى حديثه عقبه احتضان شاكر له بقوة، تسللت الدموع لأعين الجميع لاإراديًا من ذلك المشهد المؤثر، ليخرج صوت شاكر المتحشرج: أنا أسف، والله أنا عِرفت غلطي ومن غيركم مسواش حاجة.
ربت بكر على ظهره بحنان ولم يُعقب، يُقسم إن تحدث بكلمة أخرى سيبكي أمام الجميع كالطفل الصغير الذي اشتاق لأخيه، خرج شاكر من أحضانه مُحاولًا الثبات، ثم إتجه بأنظاره تجاه سلطان متحدثًا بحزن: وأنا موحشتكش يا سلطان!
ظل سلطان على حالة الجمود والصمت ولم يُجيبه، بلغ الأسى من شاكر ثم اتجه ناحية باب المنزل ناويًا الخروج والذهاب من هُنا، ليجد يد تُعيقه عن الحركة ولم تكن سوى يد سلطان الذي تحدث بإشتياق: مهما عملت هتفضل أخويا الصغير يا حيوان.
احتضنه سلطان بحب مُشتاقًا لأخيه الأصغر، فمهما كَبُر سيظل صغيرًا مهما فعل، قاطع خلوتهم صوت ريان وهو يبكي بتصنع لإخراجهم من حالة الإكتئاب تلك: أنا كمان كان عندي معزتين، واحدة كبيرة وواحدة صغيرة، الكبيرة كانت بتعامل الصغيرة بحنان، زيكم بالظبط، الله يرحمهم.
كانوا ينظرون له ببلاهة وعدم فهم، ثواني وتحدث شاكر بسخط وهو يُشير له ولأخيه: قصدك إننا معيز!
ما هذا الموقف الذي أوقع ذاته به الآن! اللعنة عليه وعلى غباءه، نظر ريان حوله ليجد الجميع يُطالعه بإستنكار، ابتسم بتوتر ولا يعلم ما يفعل، لذلك تدخل فارس مُخرجًا إياه من مأزقه: ط. طيب احنا. هنطلع نولع الخشب فوق عشان نتدفى بقا. يلا في رعاية الله.
قال جملته ثم سحب ريان معه للأعلى لإشعال بعض الأخشاب، وعند خروجهم من باب المنزل انفجر كلاهما في الضحك الذي دام لعدة دقائق، ضرب فارس كفه بكف ريان ثم تحدث بضحك عالي وعدم تصديق: بتشبههم بمعيز! انت أهبل يابني!
توقف ريان عن الضحك قليلًا، ثم تحدث بإستنكار: إحمد ربنا. أنا كنت على تكة وهقول بدل معزتين. كلبين.
أرجع فارس رأسه للخلف وصوت ضحكاته يصدح في الأرجاء غير مُصدقًا تفكيره الغبي هذا، توقف كلاهما بعد دقائق ليست بالكثيرة، دقائق تمنوا فيها أن تدوم طويلًا كُلًا منهم يُساند الآخر، وبالنهاية ستظل أعظم إنتصارات الإنسان؛ هو تكوينه لصديق يكون معه في كل الأوقات دون كلل.
وعلى الجانب الآخر، بمجرد ما رآها تدلف للمطبخ؛ حتى استند على عكازه ثم دلف خلفها بهدوء حتى لا يُثير شك مَن حوله، وقفت إهداء تُعد قِدح الشاي من أجل عمها وهي تدعو داخلها أن تمر تلك الليلة على خير، أرادت الذهاب من تلك الجلسة التي تُصيبها بالتوتر لذلك فضلت الولوج للمطبخ، شعرت بحركة خافتة خلفها، فالتفتت مُسرعة لتجد شهاب أمامها.
تنفست الصعداء ثم حدجته بهدوء سائلة إياه: جاي هنا ليه!
ثبَّت أنظاره عليها لبضعة ثوانٍ ولم يُجيبها مما أشعرها بالتوتر، اقترب رويدًا حتى وقف أمامها مُباشرةً يُطالع تقاسيم وجهها التي يعشقها بتمعن، سرت القشعريرة في جسدها من نظراته تلك، خاصةً عندما رفع يده ليُمسك بكفها، ثم تحدث برجاء: مش كفاية بُعاد بقا! مهونتش عليكِ المدة دي كلها وانتِ شيفاني بتعذب وأنا بعيد عنك!
أغمضت عيناها تُحاول السيطرة على هذا الدوار الذي داهمها، فهي من هؤلاء الأشخاص الذين تُصيبهم الرهبة عند وجود شخصٌ بجانبها، وفوق كل هذا يأتي ليرمي على مسامعها ذلك الحديث الذي ذكرَّها بما مضى، ذكرها بخيانته لها مع إحدى الفتيات، سحبت يدها بحدة من يده ثم ابتعدت عنه بالقدر الكافي مُتحدثة بحدة:.
لا مهونتش عليا، عشان أنا كمان مهونتش عليك، تقولي بحبك وهتقدملك وتاني يوم ألاقيك بتكلم بنات كتير غيري! فين الحب في كدا! بتخدعني وبتخدع نفسك وتقول حب! لو الحب عندك مفهومه كدا أنا مش عايزاه.
نفى برأسه وهو يُبرر لها: واللهِ من بعد خناقتنا اليوم دا أنا قطعت علاقتي بكل البنات اللي بكلمهم، صدقيني والله أنا مش بحب حد أدك، وبسبب عنادك وافقتي على العريس اللي متقدملك بالعند فيا، ومحستيش بالنار اللي جوايا.
لأ. حسيت يا شهاب، حسيت وقررت أدوقك من نفس الكاس اللي دوقتهولي، وبدل ما كنت أقهرك كنت بقهر نفسي معاك، خيانتك ليا مش هتتنسي بسهولة.
اقترب منها مرة أخرى ثم أمسك بيدها رغمًا عنها: أقسملك بالله أنا من بعد اليوم دا مسحت كل حاجة تخص البنات دي، مبقاش في غيرك قدامي، مفيش واحدة قِدرت تملى عيني زيك، اعتبريه طيش شباب وسامحيني، عشان خاطري سامحيني، أنا تعبت وقلبي تِعب من البُعد.
هبطت دموعها بأسى على حالتهم، ليمسحها هو بطرف أصابعه قائلًا برجاء: سامحيني لو ليا خاطر عندك، سلمحيني وهخليكِ أسعد إنسانة في الدنيا دي، ومستعد أخرج دلوقتي وأطلبك من أبوكِ وأبويا، أنا معنديش أغلى منك.
طرق قلبها بعنف من قُربه المُهلك لقلبها، حاولت طيلة العام أن تنساه لكنه يترسخ بعقلها أكثر، تعشقه بكل ذرة في جسدها، هو حبيب طفولتها ومُراهقتها ونُضجها، هو حبيب كل الأيام، قررت الإستسلام لعشقه، وما عليها سوى الإستسلام، فقلبها وعقلها يُخبرانها بالمسامحة، ولأول مرة يتفق القلب والعقل معًا.
هزت رأسها بنعم ثم أخبرته هامسة بصوت مُتحشرج: هسامحك يا شهاب، هسامحك للمرة الأخيرة، بس بعد كدا ه.
قاطعها مُهللًا بسعادة وإبتسامة واسعة ترتسم على ثغره: مفيش المرة الجاية، فيه حب ودلع وجواز بس، لموأخذة هستأذن أنا بقا أطلبك من أبوكِ، يا قاتل يا مقتول النهاردة.
وصل معتصم أمام منزلها وطوال الطريق كان يلتزم الصمت خوفًا أن تقتله تلك التي اعتبرها وديعة، هبط من السيارة بهدوء، بينما هي التفتت للناحية الأخرى وودت الضحك حقًا على تعابيره، لقد صدقها! مختال هذا أم ماذا!
وصلت سيارة طه بعدهم مباشرة، والذي ما إن هبط منها حتى ذهب راكضًا إلى معتصم ينوي تعليمه درسًا لن ينساه، رآه معتصم يأتي تجاهه فهرول راكضًا إلى منزله قبل أن تطاله يد طه، ورغم هذا وصله حديثه الغاضب المُعنف له: لو شوفتك قُريب منها تاني هقطع خبرك.
لم يُعيره معتصم إنتباهًا بل وضع يده في جيب بنطاله الأسود مُستعدًا للصعود، ولكن قبل أن يلتفت سدد لها غمزة من عينه المشاكسة جعلها تنصهر من الخجل، أشار عابد بغيظ له موجهًا حديثه لوالده: شايف يا بابا قلة أدبه!
سبقتهم أميرة للأعلى تهز رأسها بيأس من تلك الأفعال الطفولية التي يقوم بها ثلاثتهم، صعدت الدرجات بروية وهي تُفكر في ذلك ال معتصم العاشق لإبنتها وعشقه ظاهر للعِيان، تشكلت إبتسامة حنونة على ثُغرها مُتذكرة وقوفه بجانبهم طيلة الأسبوع، هو أنسب شخص لإبنتها، سيستطيع تعويضها عن الأذى النفسي الذي مرت به بحياتها.
انمحت إبتسامتها عندما وجدت باب شقتهم مفتوح قليلًا، بالأساس يجب أن تغلقه تسبيح كما تفعل عادةً، لكن ما الذي تغير تلك المرة!
فتحته بهدوء ثوانٍ وأطلقت صرخة عالية عندما وجدت إبنتها مُلقاة على الأرض تُقاوم ذلك الذي يُحاول بالإعتداء على جسدها قِصرًا،!
رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثلاثون
عليك توقع الخذلان من الجميع حتى لا تُصدم، الخذلان من الأصدقاء، الأقارب، وحتى العائلة، باتت القلوب مُحملة بالحقد لذا لا تستعجب أفعالهم أو أقاويلهم التي مثل السهام، لذلك الحل الأسلم للجميع هو الإبتعاد.
مشهد ابنتها وهي مُسطحة على الأرض الصلبة الباردة ويعتليها إبن عمها أحمد جعلتها تُطلق صرخة مدوية مُفزعة سمعها الجميع، حتى ذلك الذي يعتدي على حُرمة منزله سمعها هو الآخر، لينتفض بفزع مُبتعدًا عنها عند صراخها.
انزوت تسبيح جانبًا وكل ذَرة بها ترتعش من الخوف، ظلت تبكي وتصرخ دون وعي وكأنها تُقاومه، حتى جُرحت حنجرتها من عِلِّو صرخاتها، نظرت على جسدها تُلملم ملابسها المُمزقة بهستيريا وعقلها مازال غير واعٍ، سيعتدي عليها، سيُنهيها لامحالة.
أتى كُلًا من طه وعابد ومعتصم الذين استمعوا للصراخ أولًا، ليجدوا أميرة مُمسكة بإحدى العصا الخشبية هابطة فوق جسد أحمد بلا رحمة، صرخت بعلو صوتها وهي تضربه بغل: يا حيوان بتعتدي على شرفك يا زبالة!
رأت سجود والدتها هابطة على أحمد تضرب بأماكن مُتفرقة في جسده وهو يُحاول دفعها لكن لا يستطيع، فلقد تضاعفت قواها واشتعلت النيران تضرب بجسدها عِند رؤيتها لمظهر إبنتها ومُحاولاتها المُستميتة للدفاع عن عرضها، وهُنا تحولت لوحشٍ كاسر يصعب السيطرة عليه.
دلفت سجود مُسرعة تُحاول دفع والدتها عن أحمد الذي يصرخ طالبًا الإستغاثة، لكنها توقفت مصدومة وتشنج جسدها بعنف عِند إستماعها لصوت صرخات شقيقتها الهستيرية، استدارت لها؛ لتتصنم من مظهرها المُشعث وملابسها المُمزقة، ابتعدت عنهم ثم هرولت إليها بسرعة تجلس أمامها القرفصاء، قبل أن تتسائل بفزع: ت. تسبيح مالِك!
لم تسمعها من الأساس، بل كانت تُقاومه في عقلها، تترجاه أن يبتعد عنها، سيكسرها للأبد إن فعلها، بالأصح سيذبحها مدى الحياة، لكنه لم يرضخ وعيناه تجول على جسدها بشهوة مُقززة، تلك العقاقير التي قام بأخذها لنسيانها فعلت العكس به لتجعله في عدم وعيه، يُحبها. بل يعشقها ولهذا سيحصل عليها، خاصةً بعدما رفضته ليلة أمس، كَتفها من ذراعيها ويده الأخرى تجول على جسدها تستكشفه، ظلت تصرخ وتستغيث لكنه كتم فمها وأكمل ما يفعل، عقله غائب وعيناه لا ترى سوا ما يُريد، وهُنا غاب كل شئ حوله، حتى صرخاتها.
ضربت سجود على وجه شقيقتها بضربات خفيفة حتى تستفيق لها، والأخرى تصرخ لا ترى سواه، وعندما يأست صرخت بها بقوة ثم رفعت كفها وهبطت به على وجنتها بقوة صائحة بها لتنتبه لها، وأخيرًا خرجت تسبيح من الحالة التي تلبستها ناظرة لشقيقتها بنظرات زائغة مُلتاعة، هدأت نبضاتها عندما رأتها أمامها، لترتمي بأحضانها وصوت بكاؤها يعلو شيئًا فشيئًا، وكأنها تشكو لها على مرارة ما عايشته منذ لحظات، وتلقائيًا تجمعت الدموع بعينيّ سجود، تشكر بآلام توأمها، وكيف لا وهي نصفها الآخر وقطعة من روحها!
ظلت تُهدهدها بكلماتها المُطمئنة ويداها تجول على ظهرها، والآخرى تُعانقها تحتمي بها، تشكو لها قساوة العالم، قبَّلت سجود جبينها ثم عادت لإحتضانها مُجددًا، وعيناها تُتابع عائلتها الذين يُلقِنون أحمد درسًا لن ينساه طيلة حياته.
أمسكه عابد من ياقة ملابسه يهزه بعنف، بعدما تيقن مغزى كلمات والدته، وهو تعديه على شقيقته الصغيرة، ألقى ما بيده مُبعدًا أميرة عنه، ثم سدد له لكمة قوية أطاحت برأسه مما جعل صوت صراخ الآخر يعلو بقوة أكبر، مما جذب جميع أهالي المنطقة، لم يعي أحمد أي شئ مما حوله بسبب تخدره، وكل ما كان يستمع له هو سباب عابد اللاذع، بينما طه كان يُطالعه بصدمة وقد شُل جسده عن الحركة تمامًا.
في تلك الأحيان. كان كُلًا من ريان وفارس يجمعون الحطب فوق سَطح المنزل، عندما وصل إليهم صوت الصراخ والبكاء من المنزل المقابل لهم، انقبض قلب ريان هلعًا عند تخيله بإصابة غزل بمكروهٍ ما، حدجه فارس بتمعن فتسائل بإستغراب: إيه صوت الصويت دا!
ألقى ريان بلوح الخشب على الأرض، ثم هرول للأسفل تزامنًا مع قوله القلق: مش عارف، تعالى نشوف في إيه.
تبعه فارس دون تفكير هو الآخر، فقابلهم جميع العائلة التي استمعت إلى صوت الصراخ، حدجهم بكر بقلق: إيه دا يا ولاد! الصويت دا جاي منين!
تركهم ريان مُهرولًا ولم يُجيبه، فتحدث فارس بعجلة شارحًا لعمه: جاي من عند عيلة أبو زيد يا عمي، شكل في مشكلة جامدة.
قال جملته ثم اتبع ريان الذي ولج للمنزل سريعًا، كذلك هبط جميع رجال العائلة لرؤية سبب هذا الصراخ، ومساعدتهم إن لزم الأمر، صعد ريان درجات السلم ركضًا فتقابل معها، وكأن الراحة والطمأنينة عادت لقلبه عند رؤيتها بكامل صحتها أمامه، جالت عيناه عليها يتأكد من عدم إصابتها بشئ، ثم تسائل بلهفة: غزل. حصلك حاجة!
رأت الخوف والهلع بعينه، حتى أنها تكادُ تُقسم بأنه على وشك البكاء إن كان السبب يخُصها هي، أجابته بحنان بينما قلبها ينهشه القلق: أنا كويسة وبخير والله، بس مش عارفة في إيه عند عمو طه، بابا دخل يشوف عشان الباب مسدود بالرجالة.
بثَّ حديثها الراحة لقلبه، كاد أن يُجَن حقًا من قلقه عليها، لن يستطيع العيش بدونها، أصبحت تُمثِل كل عائلته، هي الأقرب لقلبه والأكثر حنانًا، هي الأوفى والأحق به، هي عالمه المُضئ بضحكاتها وأحاديثها، هي دُنياه!
أخرجه من شروده بها صوتها ونظراتها بها الكثير من الرجاء: ريان بالله عليك ادخل شوف في إيه، صوت الصريخ بيزيد وأنا هموت من القلق ومش هعرف أدخل.
أومأ لها بأعين لامعة وحديث حنون لكي يُطمئنها: متقلقيش يا قمري، هدخل وأشوف في إيه وكل حاجة هتبقى كويسة بإذن الله.
جاء بتلك الأثناء فارس وهو ينهج بشدة من ركضه، ألقى نظرة عابرة على غزل ثم حوَّل نظره ل ريان يسأله: خير! إيه اللي حصل!
هزَّ ريان رأسه بجهل ثم سحبه معه قائلًا: معرفش. تعالى نشوف في إيه.
حاولوا السير وسط جموع الرجال المُلتمة حول باب المنزل، حتى وصلوا إلى عتبه المنزل أخيرًا، وحينها تناهى إليهم صوت عابد الصارخ بقوة، حتى ظن مَن يسمعه بأنه تحوَّل إلى وحش يَصعُب السيطرة عليه: واللهِ لهقتلك يا زبالة، بتعتدي على دمك يا وسخ!
وما إن وصل مغزى كلماته لهم، حتى إستدار فارس يُراقب الرجال الذين يريدون معرفة ما سبب ذلك العِراك الدائر بين الأقارب، ليُنشر ذلك الخبر في الأرجاء بعد ذلك، رسم فارس ضحكة صفراء على وجهه مُوجهًا حديثه إليهم قبل أن يُغلق الباب بوجوههم بوقاحة لا مُتناهية: مشاكل عائلية وهيحلوها. عن إذنكم يا رجالة.
وبالخارج. استدار بكر ل سلطان مُتحدثًا بسخط: ابنك دا مش متربي يا سلطان، بيقفل الباب في وشنا!
وافقه سلطان على رأيه مُطالعًا الباب بإستنكار، ثم جذبه من معصمه قبل أن يردف بقلة حيلة: تعالى نمشي دلوقتي ونيجي بعدين، وقوفنا هنا ملوش لازمة.
وبالداخل. حاول خليل جذب عابد من فوق إبنه بحدة، وإلى الآن لا يعلم سبب تلك الثورة التي تلبسته.
ذهب إليهم ريان مُحاولًا إنتشال ذلك الذي كاد أن يفقد وعيه من شدة الضربات، أمسك ب عابد من الخلف مُقيدًا حركته، والآخر يتحرك بين يديه بهستيريا يريد الإفلات ليقتله، وما يُزيد من غضبه هو مظهر شقيقته المُرتمية بأحضان والدتها التي تُشاركها في البكاء.
يأس عابد من تقييد ريان له، فصرخ بوحشية: سيبني، وديني لهقتله، مش هسيبك يا وسخ.
جلس طه بقلة حيلة، شاعرًا بالدوار والصدمة بذات الوقت، وكأن كل شئ إنهار فوق رأسه ولا يستطيع المقاومة، وبنظرات زائغة طالع شقيقه الذي يُحدق بإبنه بصدمة واضحة، لا يُصدق حتى الآن ما سمعه من عابد عن محاولة إبنه للإعتداء على إبنة أخيه، تجمعت الدموع في عينه ثم جلس أمام أحمد مُتحدثًا بتيهة: انت! انت يا أحمد تعمل كدا! وفي مين! في بنت عمك!
رمى أحمد برأسه على كتف والده، وفجأةً صدحت ضحكاته الواهنة في الأرجاء، وكأنه غير واعٍ لأي شئ، هبط معتصم لمستواه ثم أمسك بمعصم يده يقيس نبضاته، ثم تحدث بخفوت بعدما رفع نظراته للجميع: دا باين عليه شارب، نبضه بطئ جدًا ومش واعي للي حواليه.
هُنا وجاء صوت خليل الذي ينظر لإبنه بحسرة مُردفًا بعدم تصديق: ابني! ابني أنا بيشرب! مستحيل، يارب لأ، مش بعد تعبي وشقايا عشان أربيه يطلع كدا!
تعاطف معه الجميع حتى أخواته، ف خليل أفنى حياته كاملة له خاصةً بعدما توقفت زوجته على الإنجاب من بعده، فكرث وقته له ولزوجته، حتى أصبح شاب ناضج يُعتمد عليه، فلم يكن يعلم بأفعاله القذرة وحتى الآن، فكان ذلك بمثابة القشة التي قسمت ظهره، نظر إليه بإنكسار ثم هزَّ رأسه وكأنه حتى الآن لا يستوعب ما يُقال.
هدأ عابد قليلًا بعدما رأى حالة عمه المُحزنة للجميع، ليس له ذنب في أي شئ سوى أنه أنجب تلك النقمة، ذهب لشقيقته مُخرجًا إياها من أحضان والدتها قِصرًا، ليمسح لها دمعاتها بحنان قبل أن يسألها بترقب: عمل فيكِ حاجة!
علت شهقاتها، ثم هزت رأسها بالنفي، تلاها إرتمائه بأحضانه قائلة ببكاء: أنا. أنا خايفة.
هدهدها كطفل صغير يحتاج للأمان الذي افتقدته للحظات، وعيناه تجول بغل وحقد على أحمد الذي بين حالة الوعي واللاوعي، لمحته تسبيح بطرف عينها لتُغمضها سريعًا، قبل أن تردف بهمس: أنا عايزة أدخل جوا، مشيني من هنا.
إنصاع لرغبتها في الذهاب، خالعًا سترته الثقيلة ليُلبسها إياها بحماية، ثم جذبها من معصمها تجاه غرفتها لتحتمي بها، تبعته سجود والتي نظرت ل أحمد بإزدراء، لا تعلم كيف أحبته ولم تُلاحظ سلوكه المُنفر هذا! كيف وقعت بعشقه! ولاإراديًا تحولت حدقتاها ل معتصم، تتذكر وجوده ووقوفه بجانبها دون أن يمل أو يشكو، وتلك المرة إلتمعت عيناها، له ولأجله فقط!
خرج عابد من الغرفة بعدما تأكد من مكوث والدته وشقيقته وزوجات عماته بجانبها، و ثنية والدته فقط هي مَن تجلس على الأريكة بجانب زوجها تبكي بصمت، لا تعلم بما تُبرر فِعلة إبنها، ولا كيف ستُدافع عنه، ابتلعت ريقها الذي كان كالعلقم في حلقها، يبدو بأنها فشلت في تربيته، رغم حرصها التام على تقديم كل شئ له.
وتلك المرة رفع طه رأسه يُحدق الجميع بنظرات مُبهمة، قبل أن ينطق لسانه: أنا هرفع قضية على أحمد، هحبسه وهاخد حق بنتي.
قال جملته ثم وقف مكانه بوهن، والجًا لغرفته دون أن يُضيف كلمة أخرى، بينما خليل لم يقدر على التحدث، معه كل الحق في ذلك ولن يُمانع، بل سيجعل إبنه يدفع ثمن أفعاله.
جلب ريان بعض الماء ثم قذفه على وجه أحمد الذي يئن بألم، يشعر بألام متفرقة في جسده، خاصةً ذراعه، وإلى الآن لم يستعيد وعيه كاملًا، بل كان في ملكوته الخاص به.
بعدما عاد يزن للفيلا خاصته، صعد مُباشرةً لغرفته كي يرتاح قليلًا، فقط تمكن التعب من جسده كُليًا، مرت عدة ساعات مُستغرقًا بالنوم العميق، لتأتي هي وتقتحم أحلامه كيفما تقتحم واقعه، شعر بلمسات خفيفة على خصلاته وأصابع رقيقة تُدلك رأسه بلُطف، فتح عيناه بهدوء ليجدها أمامه بإبتسامتها التي يعشقها، ولا إراديًا ابتسم هو الآخر، هبطت له مُقبلة وجنته بإشتياق، ثم أردفت بعتاب: أهلًا بالأستاذ اللي ناسيني.
فتح جفونه ثم استند بذراعيه على الفراش، جاذبًا إياها من خصرها على غفلة، ثم تحدث بمشاكسة: بقا بذمتك حتى يبقى متجوز القمر دا وينساه!
وقالها مُمررًا نظراته على تفاصيل وجهها التي يعشق، بل يهيمُ بها عشقًا، اتسعت إبتسامتها بسعادة جليِّة على وجهها، فرغم مرور السنوات العديدة لم يقل العشق بينهم، بل يزداد جنونًا وشدة.
اعتدلت في جلستها تردف بهدوء لتتناسى خجلها منه: أومال كنت فين! أول مرة متباتش في البيت وتبات برا.
أعادها مرة أخرى لأحضانه مُقبلًا خصلاتها، ثم بدأ بقص ما حدث معهم دون أن يترك شيئًا دون أن يقوله، بينما هي كانت تستمع له بإنتباه، وهو يُراقب تعابير وجهها التي تتغير بين صدمة، ودهشة، وقلق، وأخيرًا راحة، قطبت جبينها بإنزعاج عند إنزعاجه، ثم تمتمت بضجر نابعًا من الخوف داخلها: مش كُنا قفلنا على الحوارات دي يا يزن! ليه بترجعلها تاني دلوقتي!
أجابها مُحافظًا على هدوئه: مينفعش أشوف حد محتاج مساعدتي ومساعدهوش يا ضُحايا، أنا أكتر واحد حاسس باللي عايزين مساعدة ومش لاقينها، عشان كدا ساعدت ريان، وعلى فكرة عزمتهم على عيد ميلاد ابننا اللي بكرا.
ابتسمت له بحنان شديد، فكم تغير عن ذي قبل وأصبح ذات شخصية عظيمة، على الأقل بوجهة نظرها، كم يزداد فخرها به كل يوم عن ذي قبل! هبطت لمستواه ثم قبلت وجنته مرة أخرى بقوة، كادت أن تبتعد فأحاط بخصرها بتملك، ونظرات الخبث والمكر تحوم في عينه الخبيثة، ليردف بعبث قبل أن يقترب منه بخطورة: راحة فين! انتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه!
اقترب منها ينوي إطفاء لهيب عشقه، لكن انفتح الباب فجأة؛ لتدخل تلك القصيرة سليطة اللسان وهي تشكو لوالدها بحنق: يا بابى تعالى شوف حل ل عمر وساهر أنا زهقت منهم.
سبَّ يزن ببذائة، ثم حوَّل نظره ل بيان التي تُطالعه بترقب وإنتظار، سائلًا إياها بإبتسامة صفراء وهو يجز على أسنانه: وعمر وساهر عملولك إيه يا حبيبتي!
ربعت يديها أمام صدرها، ثم أردفت بغيظ: بياكلوا الأكل بتاعي، غير كدا أصلًا ساهر عمَّال يبوس طنط رضوى قدامنا عشان هو قليل الأدب.
توحشت عيني يزن بغضب تلك المرة لضرب ساهر بحديثه عرض الحائط، فلقد أخبره كثيرًا ألا يتغزل بزوجته أمام أطفاله حتى لا يُفسد أخلاقهم، هبَّ من مكانه بحدة مُمسكًا بكف يدها ينوي الهبوط للأسفل، لكن قبل أن يخرج من الغرفة إستدار ل ضحى ثم سألها مُباشرةً: محتاجة أخوكِ في حاجة! يعني هتزعلي لو مات!
هزت ضحى كتفها بلامبالاة، قبل أن تردف بهدوء: لأ ملوش لازمة، اعمل اللي يريحك.
ارتسمت إبتسامة شيطانية على ثغره، والتمعت عيناه بالمكر الشديد، ثم أكمل الهبوط للأسفل بشر، وفي يده إبنته التي تبتسم بسعادة، وكأنها على وشك الفوز بإحدى الجوائز العظيمة.
وصلا إلى الردهة المطلوبة، فأشارت بيان على ساهر الذي يلف ذراعه حول كتف رضوى يُحاول مصالحتها، أمسك بقطعة الطعام ثم أردف بعشق: يلا يا روحي كُلي عشان اللي في بطنك، كدا يا رودي تشُكِ فيا إني بخونك! وتصدقي الحرباية الصغيرة كمان!
أشارت بيان لوالدها راسمة بإتقان ملامح البُكاء: شايف يا بابي بيقول عليا إيه! أنا عايزاك تجيبلي حقي دلوقتي.
توحشت عيني يزن قبل أن يصرخ بصوت عالي أفزع الجميع: انتوا يا حيوانات، يعني تاكلوا أكل البت وقُولنا طفحتوه، لكن أنا لا يُمكن أسمح بالمسخرة دي في بيتي أبدًا.
فزع عمر والذي كان يُغازل زوجته هو الآخر، نظر ل ساهر بنظرات مُبهمة، ثم صرخ به بحدة يُحاول إلقاء كل اللوم عليه: نش قولنا نبطل قلة أدب وسفالة! أنا مش فاهم انتوا مش طالعين محترمين زيي ليه!
تفوهت الصغيرة بحنق ووجه قاتم من الغضب: متكدبش يا عمر، انت قليل الأدب وكنت هتبوس طنط رزان قدامي.
لوى عمر شفتيه يُحدق بها بسخرية لازعة، ثم هتف بتهكم: عمر! حاف كدا! انتِ اللي متربية يا بنت يزن، ونعم الأخلاق ياختي.
ترك يزن يد بيان ثم اتجه إليهم ببطئ مُريب أثار حفيظتهم، وقف أمامهم مُباشرةً، وعلى حين غُرة؛ أمسك بكليهما من ياقة ملابسهما هاززًا إياهم بعنف: هو أنا مش قولتلكم شُغل قلة الأدب والسهوكة دا مش هنا! قولت ولا مقولتش!
تأفف ساهر يُحاول الفِكاك من إحاطته به: يا يزن كنت بصالح البت، مصالحهاش يعني عشان الحرباية بنتك!
زمجرت الصغيرة بشر ثم حدقت به بغضب، ونظرات يتطاير منها الشرر كوالدها تمامًا: احترم نفسك يا ساهر، انت اللي قليل الأدب، لو عايز تبوس مراتك بوسها فوق مش قدامي عيب!
تلوى ساهر مُنتويًا الخلاص من تلك الحرباء كما يُلقبها، ثم تحدث بردح وهو يُصفق بكِلتا يديه: عيب إيه يا أم عيب! وانتِ اللي زيك يعرف العيب يا حرباية! وكتاب الله لولا إن أبوكِ موجود أنا كنت علقتك على باب الفيلا وكل ما أخرج أو أدخل هلطشك قلم ينسيكِ إسمك يا حرباية، ما انتِ زي أمك.
وهُنا ترك يزن عمر، ثم إلتف ل ساهر ناظرًا له بجمود، وثوانٍ كانت صرخات الآخر تتصاعد بألم؛ عندما سدد له يزن لكمة وُجِهَت إلى وجهه بقوة، تلاه تحذير يزن الصارم: لو جبت سيرة أمها قدامي تاني أنا هعمل من وِش أهلك خريطة، انت سامع ولا لأ!
صعد صوت رضوى تُعنفه مُبعدة إياه عن زوجها: في إيه يا يزن! وهو حصل إيه لكل دا يعني!
لوى شفتيه بسخرية قبل أن يردف بتهكم: وحياة أمك! مش دا اللي كان بيخونك من شوية وكنتِ عايزة تطلقي منه!
تأففت رضوى ثم جلست جوار زوجها المُسطح على الأرض رامقة إياه بأسى، ثم تحدثت بحنان: لأ. ما دا طِلع سوء تفاهم وكنت ظالمة سهورتي، كان بيحاول يصالحني بس بنتك منها لله قطعت علينا اللحظة.
كز يزن على أسنانه بغضب، فأكثر ما يُغضبه هو الإخطاء بشخصٍ من عائلته الصغيرة، وهؤلاء يُثيرون أعصابه بشدة، تحدث من بين أسنانه مُحاولًا التحكم في ذاته قبل أن يفتك برأسها هي وزوجها الآن: هديكِ قلم يِلوِح رقبتك خالص، ملكيش دعوة ببنتي.
كادت أن تتحدث؛ فسدد لها نظرة أخرستها كُليًا، نظر على الجانب الآخر، ليجد عمر جالسًا على الأريكة يتغزل بزوجته بكلمات وقحة تُشبهه، لم يستطيع تلك المرة لجم غضبه، بل أمسك بالمزهرية الصغيرة ووجهها له، لتصطدم برأسه مُباشرةً.
لم يُعيره يزن أي إهتمام، لا لصرخاته المُتألمة ولا حتى لصرخات رزان الخائفة عليه، بل أمسك بيد بيان التي تُطالعهم بشماتة، ثم صعدوا للأعلى معًا، وعلى وجه كليهما نفس الإبتسامة الخافتة والجامدة بالوقت ذاته.
عاد الجميع لمنزلهم والصدمة تُزين وجوههم، خرج ريان من منزل طه، ليجد غزل وميران ينتظروه بالخارج مُترقبين ما سيحدث، سألته غزل بلهفة بعدما وجدته أمامها: ها يا ريان طمني!
متقلقيش كل حاجة تمام.
ارتاحت تعابيرها قليلًا، ثم عادت تسأله مُجددًا: أومال إيه صوت الصويت دا! بابا طِلع هو وماما ومش راضيين يقولوا حاجة.
جاء رد ريان وهو يقول ببساطة شديدة: ولا حاجة، أحمد ابن عمك حاول يغتصب تسبيح. بس.
الحمد لل، إيه!
قطعت حديثها بسؤالها الصارخ لا تُصدق ما استمعت إليه، جاء من خلفهم معتصم و فارس الذي تحدث بهدوء: يلا يا ريان، هنسيب أعصابهم تهدى شوية ونيجي نشوفهم بليل.
أومأ له ريان ببطئ ثم استدار لها قائلًا بمشاكسة ولُطف: هتوحشيني لحد ما أشوفك تاني، سلام يا غزالتي.
إحمَّر وجهها خجلًا وكادت أن تنصهر من الخجل، حمدت ربها بأن أولاد عمه قد ذهبوا قبله، لكن نظرات شقيقتها العابثة وكذلك محمود الذي دلف مؤخرًا؛ جعلتها تبتلع ريقها ببطئ، قبل أن تدلف لمنزل طه للإطمئنان على إبنة عمها.
سارت عدة خطوات ثم استمعت لحديث ميران العابث وكأنها تُوجهه إلى محمود: إشمعنا انت مش بتدلعني يا محمود وتقولي يا غزالتي!
التفتت لشقيقتها تُحدجها بإنزعاج، ثم أردفت بتحذير: إتلمي بدل ما أجيبك من شعرك.
ألقت بحديثها ثم تركتهم وتحركت للداخل، تاركة إياهم يضحكون على مُشاكستها، توقف ميران عن الضحك ثم نظرت ل محمود بعبث، مُتقدمة منه ببطئ، مما جعله يُناظرها بدهشة، فتح عيناه بصدمة عندما جاءه سؤاله الوقح مثلها تمامًا: ها يا حودة! أنا وانت لوحدينا والمكان فاضي، مش هتستغل الفرصة بقا!
نظر إليها بدهشة، ثواني وصعدت ضحكاته العالية تعم الأرجاء، فحاول كثيرًا إخفاض صوت ضحكاته التي لا تتماشى مع ظروف العائلة حتى نجح بصعوبة، توقف بعد فترة، ثم ضرب بكلتا لديه وهو يُردد بقلة حيلة قبل أن يتركها ويذهب: سافلة أقسم بالله.
سار عدة خطوات، ثم توقف ليلتفت لها، غامزًا إليها مُرددًا بحديث ذات مغزى: هستغل الفرصة يا ميرانِ، بس لما تكوني حلالي.
حين أردت أن أكون بعيدة، انتشلتني الأيادي السامة لعالمهم، عالم ملئ بالكره والحقد، أصبحت مُحاطة بجدار من الوحدة والكئآبة، وحيدة بلا عائلة أو أصدقاء، الظلام يملؤني من الخارج والداخل، شخص نكرة دون هوية، أبكي بصمت، أحزن بصمت، وأؤذي بصمت.
دلفت ني ين لتلك البناية العالية، تُطالعها بنظرات زائغة ومشاعر مُبهمة، اليوم ستخطي إلى طريق غير ذلك الذي سلكته، صعدت الدرجات القليلة بهدوء، ثم توقفت أمام المصعد ضاغطة على رقم أربعة، وبعد عدة ثوانٍ خرجت منه وهي تحمل حقيبتها دالفة لأحد الشقق المنزلية، والتي تحولت لعيادة نفسية كبيرة.
وقفت أمام السكرتيرة تسألها بهدوء: دكتور رامي النيري موجود!
رفعت الفتاة رأسها إليها ثم أومأت بنعم، لتُجيبها ني ين بهدوء: طيب عايزة أحجز معاد معاه.
أشارت لها المُمرضة لأحد المقاعد، قبل أن تتحدث باسمة: اتفضلي يا فندم أقعدي لحد ما أديله خبر، حظك النهاردة إن العيادة فاضية.
سددت لها ني ين إبتسامة مصطنعة لم تصل إلى عيناه، مُومئة لها بهدوء، تركتها الممرضة لدقيقة، ثم خرجت تُبلغها بإحترام: اتفضلي يا فندم، الدكتور منتظر حضرتك جوا.
وقفت ني ين محلها لثوانٍ، تُفكر في فعلتها تلك، والتي كانت تجول بعقلها منذ أسبوع.
دلفت للداخل بخُطى رتيبة، فوجدت طبيب مازال في مقتبل العمر، كانت تظن بأنه سيكون عجوزًا لمهارته كما قال لها البعض، لكن الواقع عكس توقعاتها، لاحظ تعجبها؛ فرسم إبتسامة خفيفة على محياه أظهرت نواجزه، ثم أشار لها للمقعد مُرددًا: اتفضلي يا آنسة.
اقترب منه بهدوء جالسة على المقعد المقابل لمكتبه الكبير نسبيًا، شبَّك كفيه معًا مُتقدمًا بجسده للأمام قبل أن يسألها: تحبي حضرتك تبدأي أول جلسة إمتى!
أجابته مُسرعة: دلوقتي لو تحب.
هز كتفه قبل أن يُجيبها بهدوء: وأنا معنديش مانع، اتفضلي.
قال كلمته الأخيرة ثم وقف من مقعده، وكذلك فعلت هي مثله، لتتمدد على مقعد الشازلونج المُريح، وهو يجلس على مقعد آخر بعيد عنها نسبيًا حتى لا يُقلقها، أمسك بدفتر ملاحظاته ناظرًا لها بهدوء، قبل أن يسألها مباشرةً: إيه هي مشكلتك!
حياتي هي المشكلة.
قالتها بألم تجسد في قلبها قبل أن يتجسد على محياها، راقب ردات فعلها، ك تقطيبة جبينها المنزعجة، ويديها التي تُشبكهما معًا تُدلكهما بعنف، إنفعالات جسدها الواهنة، وأخيرًا تلك العِبرات التي تكونت في حدقتاها، لا يعلم لما أثارت حفيظته تجاهها! تُراوده شكوكًا عن تعرضها للعنف من قِبَل أحدهم، لذلك سألها بهدوء وحدقتاه مازالت مُركزة على وجهها الجميل:
ليه بتقولي كدا! احكيلي عايز أساعدك.
ارتعشت شفتيها ببكاء وكأنها كانت تنتظر ذلك السؤال من أحد لتبوح له عن آلامها، هبطت دمعاتها الساخنة على صفحات وجهها الأبيض، قبل أن تُجيبه بصوت باكٍ: محدش بيحبني، كلهم بيكرهوني.
تشكلت غصة مريرة بحلقها تتذكر كل ما عايشته من ألم نفسي، سواء مع عائلتها، أو أصدقائها، أو حتى معتصم الذي قام بخيانتها، أكملت باكية:.
أنا بحبهم بس هما مش بيحبوني، مش عارفة ليه! مع إني والله مش عملتلهم حاجة، أنا كنت طالبة منهم إهتمام بس، كنت طالبة منهم حنان، عايزة أحس إني مش وحشة، أنا خايفة أموت وأنا لوحدي.
تأثر بها وببكاؤها، هي ليست قبيحة كما تقول، هي طفلة تحتاج للحنان، للإهتمام، للحب، حمحم بهدوء ليلفت إنتباهها، ثم أردف بحنان ظاهر: بس انتِ مش وحشة، ليه بتقولي كدا!
أجابته ببساطة: عشان هما اللي قالولي كدا، أنا أذيت خطيبي، أو اللي كان خطيبي.
قالت الأخيرة بمرارة شديدة لاحظها، ضيَّق عيناه بترقب قبل أن يسألها بحذر: أذتيه إزاي.
اعتدلت في جلستها لعدم راحتها بها، وفضلت الإكمال هكذا، ثم مسحت عبراتها المنهمرة بقوة، قبل أن تُجيبه بهدوء: عرفت إنه بيخوني، صورته مع البنت دي، وبعت صورها لأهلها، تاني يوم عرفت إن البنت حاولت تنتحر ودخلت المستشفى وحالتها خطيرة، أنا مكنش قصدي أأذيها كدا، كنت بحسب إن أبوها هيضربها قلم ولا اتنين، بس أنا اتفاجئت إنها انتحرت، بس الحمد لله محصلهاش حاجة.
بس انتِ غلطتي، المفروض كنتِ تواجهي خطيبك بدل اللي عملتيه دا.
معرفش. معرفش أنا عملت كدا ليه، كل اللي عرفاه إن قلبي دا جواه نار، نار لو مسيطرتش عليها هتحرق الكل وأولهم أنا، هما السبب في الغل والحقد اللي وصلتله، هما اللي وصلوني لكد وخلوني مريضة، لحد اللحظة دي عايزة أنتقم من الكل وأولهم أهلي، كل اللي في حياتي دمرني وشارك في أذيتي، أنا بكرههم ومش هسامح حد، وعشان كدا جيالك، جاية عشان تساعدني أتخطى دا كله، مش عايزة أعيش كدا، عايزة أرجع إنسانة طبيعية من تاني، ساعدني يا دكتور بالله عليك، هتساعدني صح!
ألقت ما في قلبها دُفعةً واحدة، قالت جملتها الأخيرة برجاء واضح في عيناها، عينان تشكوه ظُلمة الأيام وقسوة السنين، وبدون إرادة وجد ذاته يُومئ بالإيجاب، لا يستطيع حمل عينه من عليها، فاتنة هي. نعم، لذلك بدأ هو في أول خطوة لعلاجها، وهو، هو.
جاء اليوم التالي، والذي من المفترض هو عيد ميلاد ابن يزن الراوي، ظلت غزل تزرع الغرفة ذهابًا وإيابًا لا تعرف كيف ستقول لوالدها، وهل سيوافق أم لا، طالعتها شقيقتها التي تنظر لها بضجر من أفعالها تلك، ثم قالت بتأفف: يا ستي متكبريش الموضوع، بابا أصلًا مش هيقولك حاجة.
توقفت محلها فجأةً، ناظرة لها بلهفة: بجد! تفتكري!
أكدت لها ميران واقفة من على الفراش، ثم وقفت أمامها: اه يا بنتي عادي، وبعدين انتِ هتجيله من ناحية إنه هو ساعدك ووقف جانبك ومينفعش متروحيش عيد ميلاد ابنه.
ابتسمت غزل بإتساع وهي تمط شفتها بإعجاب: طلعتي ذكية يا بت. اشطا تعالي ورايا نقول لبابا.
خرجت كلتاهما من الغرفة ثم بدأت غزل بإقناع والدها الذي رفض في البداية لإبتعاد المكان عنهم، لكن بعد إصرار وإلحاح طويل؛ وافق، لكن بشرط؛ أن تأخذ ميران معها.
وبالأسفل، وقف ريان أسفل بنايتها ثم نادي عليها بصوت عالي: غزل، يا غزل.
انطلقت للشرفة بسرعة لاطمة على وجهها من أفعاله الحمقاء، ومجرد ما رأته حتى وضعت إصبعها على فمها طالبة منه الصمت حتى لا يتسبب بفضيحتهم، انتهت من إرتداء ملابسها هي وشقيقتها التي أخبرت محمود بأمر ذهابها معها، لكنه شعر بالضيق منها ومن عدم إخبارها له، لذلك اقترحت عليه القدوم معهم، وبعد مُحاولة إقناع منها، وافق بالطبع.
هبطا للأسفل، ليجدا كُلًا من ريان ومحمود يتبادلان التحية والسلام، ثم انطلقوا جميعًا بسيارة فارس، والذي أتى ب مدثر ولوچي، جلس محمود بجانب فارس في الأمام، وبالخلف جلس ريان والذي جلست على قدمه لوچي، ثم غزل بالمنتصف وعلى قدمها مدثر، وبالنهاية ميران وحدها.
نظر فارس بالمرآه الأمامية، فوجد مدثر يكاد أن يلتصق بإبنته، لذلك صرخ بصوت أفزعهم: ابعد ابنك عن بنتي يا ريان بدل ما والله أقلب العربية ونموت كلنا.
كاد ريان أن يتحدث، فجاءه صوت لوچي الحانق: في إيه يا بابي! هو الواحد ميعرفش ياخد راحته في أي مكان حضرتك فيه!
لوى فارس فمه ساخرًا، قبل أن يتحدث بتهكم: وإيه لازمتها حضرتك بقا! دا انتِ اللي حضرتك.
ربت مدثر على ذراع لوچي ناظرًا ل فارس بحنق: خلاص يا لوچي متزعليش نفسك يا حياتي، كدا كدا احنا متجوزين ومحدش ليه حاجة عندنا.
قبَّل ريان وجه إبنه متحدثًا بفخر: حبيب قلب بابا.
بينما كز فارس على أسنانه بغضب حتى كاد أن يسحقهم، هذان اللعينان يُثيران غضبه بحق، نظرت غزل ل ريان بيأس وهي تردد بصوت خافت وصل لمسامعه: حتى ابنك سافل زيك.
حدق بها بنظرات لعوب، قبل أن يغمز لها بوقاحة أخجلتها: وولادنا كمان هيكونوا كدا.
وصل الجميع إلى فيلا الراوي والتي نالت إعجابهم بشدة، دلفوا للداخل بعدما أفسح لهم الحرس ليلجوا بأمر من رب عملهم، فتح مدثر عيناه بحماس مُحدثًا لوجي وهو يشير للمسبح: الله بحر، تعالي نعوم.
أمسكهم فارس من ثيابهم متحدثًا بضجر: واد انت وهي امشوا قدامي بدل ما أغرقكم فيه.
قابلهم يزن وهو بكامل أناقته، مُرتديًا حِلته الكحيلة الداكنة، اقترب منهم مُرددًا بترحيب: لو مكنتوش جيتوا كنن بعت اتنين من رجالتي يجيبوكوا بطريقتهم، فين موسى!
أنا أهو.
أتاهم صوت موسى من خلفهم وتلك المرة كان وسيمًا حقًا، ببنطاله الأسود وقميصه الأسود أيضًا، اقترب منهم ببطئ قائلًا ببسمة واسعة: يلا أنا جاهز.
دلفوا جميعًا، ليبدأ يزن بتعريف أفراد عائلته، حتى جاء عند ابنه الذي سيتم الثامنة اليوم: ودا ابني سليم.
تجعد وجه ريان بإشمئزاز قبل أن يُضيف: يا ساتر يارب! ومغيرتش إسمه ليه!
رمقه يزن بغضب قائلًا بتحذير: اظبط أحسنلك بدل ما أظبطك أنا.
لوى شفتيه بتهكم، فإستدار يزن يُعرفهم بإبنته: ودي بنتي، بيان.
الحرباية.
أكمل عمر جملته وهو يُحدق بها بغل، لتُطالعه الصغيرة بغضب، فذهبت إليه بهدوء مُريب، ثم جذبت خصلات ابنته الصغيرة التي لم تتعدى العامين بغضب لتثأر لحقها، أطلقت الصغيرة صرخات عالية تلاها بكاؤها المتألم، وصوت رزان الغاضب: بت انتِ قادرة ومحدش قادر عليكِ ليه! والله هاجي أقعد عليكِ أفطسك.
لاحظ موسى نظرات غزل الشاردة، لذلك اقترب من ريان بهدوء سائلًا إياه: هي غزل مالها!
حوَّل ريان نظره إليها، فوجد ملامحها حزينة باهتة، يبدو أنها حزينة على ما حدث لإبنة عمها حتى الآن، وسجن أحمد الذي تم ليلة أمس، لذلك أجابه ريان بهدوء: ابن عمها حاول يعتدي على بنت عمها وسجنوه.
انقبض قلبه بغتةً عندما أتت بعقله، لذلك تسائل بحذر وترقب: بنت عمها مين!
ورغم غرابة ريان من سؤاله، أجابه بلامبالاة: إسمها تسبيح.
حالة من الجمود سيطرت عليه وعلى مشاعرة، نظر لنقطة ما في الفراغ ثم أردف بشرود ونبرة غامضة: اممم ربنا معاها، ومعاه.
انتهى الحفل بعد ساعتين كاملتين، خرج الجميع للردهة في نية للرحيل، فأخرج ريان هاتفه طالبًا من غزل بإبتسامة واسعة طفولية: غزل خدي صوريني.
ضحكت بخفة ناظرة له بعشق، ثم التقطت منه الهاتف، مصورة إياه عدة صورة رائعة للغاية، حُفظت في قلبها، بل وُشِمت به.
عاد الجميع لمنازلهم بعد إرهاق طال ليومٍ كامل، بدلت غزل ثيابها ثم استندت بظهرها على الفراش وهي تُفكر به، باتت تعشقه بكل ذَرة من جسدها، امتلكها وامتلك روحها بكل سهولة، هي تريده ولا تريد سواه، تريد طفلها الكبير.
أمسكت بهاتفها ثم قامت بفتح تطبيق الفيس بوك، لتجده أنزل تلك الصورة التي قامت بإلتقاطها له، مّعقبًا عليها:
صورة أُلتِقطت بعيون مَن أُحِب.
تابعووووووني
أدخلوا واعملوا متابعة لصفحتي عليها كل الروايات بمنتهي السهوله بدون لينكات من هنا 👇 ❤️ 👇
❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺
تعليقات
إرسال تعليق