رواية وبقي منها حطام انثي الفصل الثامن والعشرون والتاسع والعشرون والثلاثون بقلم الكاتبه منال سالم حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
![]() |
رواية وبقي منها حطام انثي الفصل الثامن والعشرون والتاسع والعشرون والثلاثون بقلم الكاتبه منال سالم حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
الفصل الثامن والعشرون
(( ذِكرى تليها ذكرى ،
تهاجمني حتى في صحوي ..
ككابوسٍ مُزعج لا أفيق أبداً منه ،
وَ مُقتحماً بوقاحةٍ أعمق أحلامي ..
فأتلذذ فيهم برؤية طيفك ..))
طالع أمواج البحر المتلاطمة أمامه بنظرات حزينة وشاردة .. مرت عليه سنوات عمره وكأنها أدهر ..
أخذ نفساً عميقاً حبسه في صدره لعل هواء البحر البارد يطفيء نيران روحه المستعرة ..
زفره ببطء فبدى كأنه ينفث ألهبة حارقة من فمه ..
التفتت إيثار نحوه برأسها ، وحدقت فيه بنظرات متأملة بدقة لملامحه الحزينة ..
تلك التعابير التي لم تراها مسبقا بوضوح ..
وتساءلت بلهفة بين جنبات نفسها عما مر به ، هل كان مثلها يعاني ؟ هل أضناه قلبه وتعذب بلهيب الفراق ؟
تساؤلات صامتة أشعلت روحها تلهفاً لمعرفة ما حدث معه .. لكنها لم تجرؤ على السؤال ..
انتظرت أن يبدأ الحديث بنفسه ولم تتعجله ..
تنهد مجدداً بعمق مرير ، ثم استطرد حديثه قائلا بصوت رخيم بعد أن أغمض عيناه ليستسلم لذكرياته :
-كنت في دنيا تانية عايش على أحزاني و..آآ..
......................................
قبل ثلاث سنوات ،،،
فتح مالك عينيه على أصوات التشجيعات والتصفيقات العالية بعد أن أنهى عزف تلك المقطوعة الشجية ..
ابتسم بود وهز رأســه بإيماءة خفيفة ...
تحركت عيناه على أوجه الحاضرين ، فوقعت كلتاهما عليها ، ورأها وهي تنظر له ببريق غريب ..
ابتسم مجاملاً .. واستدار بظهره ليعيد وضع آلة الكمان في مكانها ..
دنت منه وهي تنظر له بحماس ، ثم أثنت عليه برقة بلغتها التركية :
-أنت تعزف ببراعة !
لم يفهم ما قالته ولكنه استشف من طريقتها أنها معجبة بعزفه .. فابتسم لها بتهذيب ، وحرك رأسه بإهتزازة خفيفة ..
تابعت هي قائلة باللغة الانجليزية :
-أنت رائع !
أجابها بإبتسامة هادئة بنفس اللغة :
-أشكرك
ثم تركها وانصرف .. فظلت أنظارها معلقة به .. هي رأته من قبل .. ولكنها لا تتذكر أين ..
لكن هناك شيء ما به يجذبها بشدة إليه .. شيء جعل قلبها يدق بقوة في حضوره ..
بدت مألوفة نوعاً ما ، هو واثق أنه التقى بها ، ذلك الوجه الملائكي ذو الأعين الزرقاء والخصلات الذهبية ..
أفاق من شروده حينما استوقفه أحد اﻷشخاص قائلاً بجدية بلغة تركية :
-من فضلك انتظر !
نظر له مالك بإستغراب ، وقطب جبينه نوعاً ما ، وهز رأسه في عدم فهم ..
تابع الرجل قائلاً بإهتمام :
-سيدي نحن نقدر المواهب ، ونأمل أن نتناقش سوياً في مسألة عملك هنا !
رد عليه مالك بعد أن استصعب فهم ما يقوله وهو يشير بيده :
-بص أنا مش عارف انت بتقول ايه بس آآ...
لمحه رفيقه نـــادر وهو يتحدث إلى أحد الغرباء فأسرع نحوه وتساءل بقلق :
-في حاجة حصلت يا مالك ؟
أجابه مالك وهو يحرك كتفيه في حيرة :
-هو موقفني عشان يكلمني ، وأنا مش فاهم منه حاجة !!
تساءل نادر بجدية وهو يوجه حديثه للرجل باللغة التركية :
-ما اﻷمر ؟ هل هناك خطب ما ؟
أجابه الرجل بجدية :
-أنا من إدارة المكان وأريد أن أعرض على السيد العمل معنا ، فقد استمعت إلى عزفه وهو حقا يعزف ببراعة !
ارتفع حاجبي نادر في إعجاب ، وهتف غير مصدق :
-حقا ... أنا لا أصدق ما تقوله !
لاحظ مالك تبدل تعبيرات وجه رفيقه من الجدية للسعادة، فتساءل بنزق :
-هو بيقول ايه ؟
أجابه نادر بإبتسامة عريضة :
-ده بيعرض عليك تشتغل هنا
عقد مالك ما بين حاجبيه في تعجب كبير ، وردد بذهول :
-اشتغل ؟!
أكمل الرجل حديثه الجدي قائلاً :
-أخبره أننا سندفع ما يريد من اموال تقديرا لموهبته
غمز له نــــادر وهو يترجم ما قاله الرجل بمزاح :
-ابسط يا عم هتسترزق
هز مالك رأسه بحيرة ، وهتف بنفاذ صبر :
-انا مش فاهم حاجة
أجابه نادر بهدوء واثق :
-هافهمك
وبالفعل أخبره رفيقه برغبة مدير المطعم في تشغيله ضمن الفرقة الموسيقية التي تعزف هناك ، وسيتقاضى مبلغاً مادياً معقولاً عقب كل حفلة ..
عاد هو إلى المنزل وهو يفكر ملياً في ذلك العرض السخي بالعمل
هو بحاجة ماسة إلى أموال لينفقها على نفسه طوال فترة تواجده بتركيا فلا يوجد مصدر دخل ثابت له حالياً إلا وظيفته في الشركة ، وهو يريد أن يكون بحوزته سيولة مادية ..
لذلك قبل بالعمل مضطراً رغم اعتزاله للعزف بسببها ..
نعم فهي تذكره بحبه الجارف لها .. ..
لكنه مرغم على الحنث بوعده اﻵن .. ليس من أجلها ، ولكن من أجل نفسه ..
تنهد بآسى ، واتجه إلى حقيبته ليخرج تلك الصورة المطوية التي اكتشف وجودها مصادفة ، حدق فيها مطولاً ، ثم حدثها بنبرة مريرة :
-مش هاضيع نفسي عشانك ، هنساكي ، وهاكمل حياتي ! إنتي كنتي فترة وانتهيتي !
............................
اتفق بعدها مالك مع مدير المطعم على الحضور في العطلة اﻹسبوعية للعزف .. أما في باقي أيام الأسبوع والخاصة بعمله في الشركة كان يبذل قصاري جهده لتحقيق ذاته ، وإثبات كفاءته ..
وخلال تلك الفترة استطاع أن يستغل موهبته في عزف أعذب اﻷلحان وأكثرها شجناً وتأثيراً فأصبح له جمهوره الخاص ..
.....................................
عرفت لانا أنه هو منذ رأته صبيحة اليوم التالي في الشركة ..
لم يكن وهماً ، كان متجسداً أمامها ....
طيفه لم يفارقها للحظة ، هو أسرها بهالته الحزينة ، شيء ما به يدفعها للبقاء إلى جواره ..
ألحانه كانت إنعكاساً لما به ، هي واثقة من هذا ..
لم تتوقف للحظة عن التفكير فيه ، أصبح هو شاغلها الأكبر ..
وبدأت في التحري عنه بدقة ..
عرفت نوع وظيفته ، ومهامه ، وبدأت توليه الإهتمام دون أن يدري بهذا ..
......................................
لاحظ مالك وجودها المتكرر في الطاولة اﻷمامية خلال حفلته الأسبوعية بالمطعم .. هي باتت معجبته الهامة ، بل الأهم على الإطلاق ..
دائماً تطالعه بنظرات هائمة .. وهو دوماً يبتسم لها بحزن ..
وكيف يشعر بها وهو جريح الفؤاد ، مكسور الروح ..
لقد عرف هويتها منذ اليوم التالي للقائهما ..
هي لانا ابنة رب عمله السيد سلمان ..
ولذلك حافظ على طبيعة حدود العلاقة بينهما ..
دائماً ما كانت تحضر له باقة ورد بيضاء تقدمها له بعد انتهاء فقرته ..
فيشكرها بإمتنان ، وهي تطمع معه في المزيد ..
مرت الأيـــام وزاد تعلقها به رغم ثباته على موقفه معها ..
لكنها لم تلتزم بالقواعد ، وحطمت العادات ، وأصرت على البقاء قريبة منه .. والتودد أكثر إليه ..
لم يتجاوز آداب الحديث معها ، لكنها كانت الأقرب إليه خلال تلك الفترة الموحشة ..
وبقلبها الطيب هونت عليه غربته .. واستطاعت أن تحفر مكاناً لها في قلبه وعقله ..
لكن مازال هناك بقايا جرح حب الذي يحول دون شعوره بالسكينة ..
تعلمت الحديث بالعربية لأجله ، واجتهد ليتواصل معها بقليل من اللغة التركية ومزيج من الانجليزية والعربية ..
نـــال الاستحسان في عمله ، وحقق فيه نجاحاً معقولاً .. وأصبح معروفاً بين أقرانه بالموظف العازف ..
...................................
وذات يوم تفاجيء بها عقب انتهائه من عزف تلك المقطوعة المميزة تطلب منه :
-مالك ، أريد الزواج منك !
نظر لها مدهوشاً ، لم يستوعب ما قالته بعد ، وظن أنها تمازحه ، لكنه وجد الجدية في ملامحها وفي إصرارها العنيد ، ففغر فمه ليقول :
-ماذا ؟ تتزوجين بي ؟
حدقت فيه بنظرات عاشقة رومانسية ،وأومــأت برأسها بخفة وهي تجيبه موضحة :
-نعم ، أنا أحبك مالك ، أنا أعشقك بكل جوارحي لا أستطيع العيش بدونك
رمش بعينيه غير مصدقاً ما لفظه لسانها ..
هو متأكد من مشاعرها نحوه ، لكنه لا يكن لها أي مشاعر سوى الصداقة .. فحاول أن يثنيها عن رأيها ، وأردف قائلاً :
-ولكني لا آآ...
قاطعته قائلة بعناد وهي تضع إصبعها على شفتيه لتمنعه من الحديث :
-أرجوك لا تقاطعني ، دعني أكمل !
هز رأسه بالإيجاب .. فابتسمت له بنعومة ، ثم تابعت بنبرة رقيقة :
-أنا أعشقك مالك ، منذ رأيتك وأنا أحبك ، لا أعرف كيف حدث هذا ، لكن أنت العالم بالنسبة لي ..
صمتت للحظة قبل أن تستأنف حديثها بنبرة شبه حزينة وقد لمعت عيناها :
-أعلم أن هناك جزءاً منك لا يشعر بي ، ولكني لا أملك سلطان قلبي ، فهو قد اختارك أنت ليحبك !
عض على شفتيه متأثراً ، وهمس لها :
-لانا ، أنتِ فقط اعتدتِ على وجودي معك ، وآآ...
قاطعته قائلة بتنهيدة حـــارة :
-مالك ، أنا أحبك ، ألا تفهم ما أقول ، أحبك وكفى !
.................................
لم يستطع مالك أن يقاوم تلك المشاعر الصادقة فهو كان بحاجة ماسة إليها لتهون عليه الكثير ..
استجمع شجاعته ، وتقدم إلى خطبتها من أبيها السيد سلمان الذي أبلغه بموافقته قائلاً بجدية :
-لم أكن لأوافق على زواجك بها لولا أني أراى سعادتها معك وإصرارها عليك فقط ، أنت أعدتُ البسمة إليها
شعر مالك بحجم المسئولية الملاقاة على عاتقه ، ورد عليه بهدوء :
-أعلم هذا سيدي
تابع سلمان قائلاً بتحذير :
-مالك ، أنت تأخذ قطعة غالية مني ، بل هي كل قلبي ، فحافظ عليها !
أومـــأ مالك برأسه وهو يتعهد له :
-أعدك سيد سلمان أن أكون نعم الزوج لها !
حذره سلمان مجدداً بنبرة شديدة اللهجة :
-إن قصرت في حقها أو أحزنتها يوماً ، صدقني ستعاني الكثير !
ابتسم له وهو يرد بهدوء :
-لا تقلق ، سأوفر لها كل ما تريده
ربت سلمان على كتف مالك ، وقال مبتسماً :
-أنت بالفعل شاب جيد ، لن أجد من أئتمن عليه ابنتي مثلك ، ولكن قبل أن تتزوجها عليك أن تعرف بمرضها !
رد عليه مالك بهدوء دون أن تطرف عيناه :
-السكري ، لقد أخبرتي لانا
مط فمه ليقول بتعجب :
-هي لم تخفِ عنك شيء !!
برر له مالك سبب معرفته بمرضها وهو يقول بهدوء :
-سيد سلمان لا تنسَ أني ساعدتك من قبل حينما فقدت الوعي في المصعد
هز سلمان رأسه بإيماءات ثابتة ومتكررة وهو يردد :
-أها ، أذكر ذلك اليوم التعيس ، لقد كدت أموت رعباً عليها
ابتسم مالك وهو يكمل بجدية :
-اطمئن ، سأرعاها ، وأسعدها
رفع سلمان حاجبه للأعلى وهو يضيف :
-أنا واثق أنك ستفعل
لم يكن السيد سلمان ليعارض تلك الزيجة بعد تصريح ابنته له بحبها لمالك ورغبتها في الزواج منه ..
هي ابنته الوحيدة ، وسعادتها هي أسمى ما يصبو إليه
كانت مسألة تقدم مالك لخطبة ابنته رسمياً ما هي إلا أمــــر صوري ليحفظ لها كرامتها ، لكنها لم تكن لتأبه بهذا .. هي تريده وتريد حبه ..
كذلك قام السيد سلمان بترقية مالك في منصب أعلى ليليق بوضعه الجديد ، واجتهد هو ليثبت أنه يستحق تلك الثقة الكبيرة ..
..........................................
وبالفعل في خلال شهرين كانت لانا تزف إلى زوجها مالك في نهار ذلك اليوم المشمس في تلك الحديقة الجميلة ..
سعادتها كانت لا توصف ، فهي ستكمل حياتها مع من اختاره قلبها ..
ارتدت خاتمه ، وظنت أنها ملكت قلبه .. لكنها كانت مخطئة ..
أكثر ما كان يؤلمه أنه لم يشعر بحبها الجارف إليه ..
كان يحترمها ، ولكنه لم يتمكن من مبادلتها تلك المشاعر بصدق ..
مازال طيف الماضي يسيطر عليه ..
ومازالت بقايا عشقها له تتخلل جسده المنهك ..
بذلت لانا قصاري جهدها لتملأ حياته العاطفية ، لتعوضه عما يعانيه .. ولكنها لم تصل أبداً معه لدرجة الكمال ..
دائماً تشعر بوجود تلك الفجوة بينهما ، حتى وإن كان معها بجسده ، فقلبه معها .. صاحبة الصورة المنبعجة .. تلك التي يحدق بها في الساعات المتأخرة من الليل ..
تلك التي تراه يبكي في صمت
ألتلك الدرجة كان يعشقها فلم يستطع أن يرَ حبها له ؟
تحملت من أجله ، وبكت حزناً حينما كانت تختلي بنفسها ..
ألا يرق قلبه لها يوماً ؟
هو كان لطيفاً مهذباً يعاملها برفق وحنية ، لكنها لم تشعر بدفء مشاعره ..
أرادت أن توطد وتعمق حبهما بشيء أخـــر..
أن تعطيه ما ينسيه آلام الماضي .. فقررت أن تخاطر بحياتها ، وتجازف بالحمل ..
لقد حذرها الطبيب مسبقاً بعدم التسرع في مسألة الحمل لخطورته على صحتها ، ولكنها لم تهتم .. هي كانت تسعى لإرضائه ، والشعور بحبه الصادق إليها فقط ولو للحظات ...
..................................
كان يجلس شارداً في مكتبه ، و ممسكاً بصورتها ..
وجوم وعبوس يسيطر عليه حينما يتذكر خيانتها له ، هو أحبها بكيانه ، وهي تخلت عنه ..
رأته لانا على حالته تلك ، فاعتصر قلبها آلماً ، وتملكها شعوراً بالقهر والعجز .. لكنها حافظت على ثابتها ، وأخفت ببراعة حزنها ، ورسمت ابتسامة سعيدة على ثغرها ، ثم هتفت بمرح :
-حبيبي مالك
انتبه لوجودها ، فأخفى سريعاً الصورة في درج مكتبه ، ثم استدار برأسه ناحيتها ، ورد بصوت شبه متحشرج :
-لانا !
اقتربت منه وهي تقول بنبرة رقيقة :
-عندي لك خبراً سيسعدك
نهض عن مقعده ، وحدق بها بثبات ، وسألها بجدية :
-ما هو ؟
ابتسمت قائلة بعبث :
-خمن !
مط فمه ليجيبها بإبتسامة مهذبة :
-مممم.. هل ربحنا الصفقة الأخيرة ؟
هزت رأسها نافية وهي تقول معترضة :
-لا
سألها مجدداً بمرح :
-هل سنأخذ عطلة ؟
لكزته في كتفه برقة وهي تعاتبه :
-اوه ، كسول !
حاوطها من خصرها بذراعيه ، وتنهد بتعب وهو يردد :
-لقد فشلت ، هيا أخبريني حبيبتي !
أمسكت بكف يده الذي يحاوطها ، فاستسلم لمسكتها ، ووضعته على وجنتها لتشعر بملمسه الجاف على بشرتها الناعمة ، ثم أغمضت عيناها لتستمع بإحساسها المرهف ..
طالعها بنظرات غريبة ، وسألها متوجساً :
-ما الأمر لانا ؟
أخفضت يده ببطء للأسفل ، وفتحت عيناها ، ثم رسمت ابتسامة رقيقة على شفتيها ، وهمست له بنعمومة :
-سـ.. ستصبح أباً حبيبي !
فغر فمــــه مصدوماً ، وشعر بيده موضوعة على بطنها ، فحدق فيها بذهول ، ثم رفع بصره لينظر نحوها بعدم تصديق ..
تابعت قائلة بنظرات دامعة :
-أنا حامل منك !
تنهد بعمق ، وتلاحقت أنفاسه بعدم تصديق .. وتحولت قسماته الحزينة إلى تعابير مهللة فرحة .. وهتف بصدمة سعيدة :
-أنا أب ، لا يمكن ، أنا سأكون أباً !
رأت في عينيه فرحته الحقيقية ، فأيقنت أنها قد وصلت إلى مبتغاها حتى لو كان المقابل .. حياتها ..
.................................
مرت عليها أشهر الحمل بصعوبة بالغة .. كانت تموت كل يوم من فرط الآلم .. لكنه لا يقارن بآلم قلبها ..
رأت اهتمامه بها ، خوفه عليها ، لكنها لم تشعر بعد بحبه الكامل لها ..
هناك ذلك الحاجز الخفي بينهما ..
ذلك الشيء الذي يحول دون إتمام سعادتها ..
أبلغه الطبيب بخطورة حملها ، وصعوبته في الأشهر الأخيرة ، وربما تأثيره على حياتها ، خاصة أنها مريضة بالسكري .. فشعر مالك بالذنب الشديد ..
هو دفعها لهذا .. هي يئست من الحصول على حبه ، وفعلت ما استطاعت لتناله ..
تقرب إليها كثيراً ، واجتهد ليعوضها عما فات ..
أراد أن يشعرها بأنها تمثل دنيته الجديدة .. وأنه سيظل دوماً معها يمنحها كل ما تريد مثلما منحته هي ذلك الجنين الغالي
....................................
حانت لحظة ميلاد صغيرتها ، فمنذ أن علمت بأنها ستنجب فتاة وهي تتمنى أن تكون شبيهة لأبيها الذي تعشقه حد الجنون ..
تنهدت في إرتياح لأنها أخيراً قد حظت على اهتمامه الكامل ، ولم يعد يشرد في صاحبة الصورة ..
بل كان مرافقاً لها ، ملازماً لها في كل الأوقات يشاركها أدق التفاصيل ..
ومع ذلك كانت تشعر أن سعادتها مؤقتة .. لن تدوم ..
قلبها ينبؤها بهذا ..
وقبل أن تلج إلى غرفة العمليات طلبت منه أن تتحدث إليه على انفراد ..
تعجب من طلبها ، فهو دائماً معها ..
لكنها أرادت تلك المرة أن تكون صادقة معه ومع نفسها ..
جلس على طرف فراشها الطبي ، وأمسك بكف يدها ، واحتضنه براحتيه ، ثم رفعه إلى فمه ليقبله ، ومسح بيده على جبينها ، وانحنى ليقبلها وهو يهمس لها :
-سأكون إلى جوارك ، تشجعي !
نظرت له بحزن وهي تقول بصوت يحمل الإنكسار :
-مالك ، أنا أعلم أنك لم تحبني حقاً
مسح بيده على وجهها وهو يقول بنبرة معاتبة ، لكن قلبه كان يخفق بتوجس شديد .. فهي قد تعلم ما جاهد لإخفائه :
-لماذا تقولين هذا ؟ أنا آآ...
قاطعته قائلاً برجاء هامس :
-دعني أكمل من فضلك
صمت رغماً عنه ، فتابعت مشفقة على حالها :
-قلبك ليس ملكك ، وأنت كنت ومازلت تحبها ، هي حقاً كانت محظوظة بك !
ترقرقت العبرات في مقلتيها وهي تقول بصوت خفيض :
-هي شبح الماضي ، وأنا كنت طيف الحاضر ، فعدني مالك أن تكون ابنتنا هي حب المستقبل !
همس لها بصعوبة وهو يدرك تماماً صدق ما قالته :
-أنا أحبك لانا !
استأنفت لانا حديثها بنبرة حزينة وهي تتأمله بنظراتها العاشقة :
-مالك .. ابنتي هي أقصى ما استطعت تقديمه لك بعد قلبي !
وضع إصبعه على شفتيها لتتوقف عن الحديث ، وانحنى ليقبل مقدمة راسها وهو يتوسلها هامساً :
-لا ترددي هذا الكلام !
تابعت قائلة بصوت مختنق :
-أحبها بقلبك ، لا تجعلها تعاني مثلي من حب بلا مقابل !
أدمعت عيناه وهو يرجوها قائلاً :
-لانا ، أرجوكِ توقفي عن قول تلك السخافات ! أنا أحبك يا غبية !
ابتسمت له وهي تقول بأسف :
-أعلم أنك حاولت
في تلك اللحظة ولج الطبيب إلى الغرفة ، وهتف صائحاً بجدية :
-حان الموعد
هزت لانا رأسها ، ورددت بخفوت :
-حسناً !
قبضت على كف زوجها مالك ، ووضعته على صدغها ، ثم همست له وهي ترمقه بنظرات أخيرة :
-الوداع حبيبي !
استشعر من نبرتها أنها تودعه للمرة الأخيرة ، أنها تعلن عن رحيلها الأبدي عنه ، فانقبض قلبه بخوف ، واستعطفها بحنو وهو يجاهد لرسم ابتسامة مطمئنة على ثغره :
-لا تقولي هذا ، أنا سأنتظرك هنا مع ابنتنا ، لانا !
همست له بصدق وهي تتأمله بنظرات رومانسية لامعة :
-أحبك مالك !
وكأنها كانت تعلم أنها النهاية .. فخرج الطبيب بعد برهة ليبشره بميلاد الصغيرة .. ويواسيه في خسارة الأم الجميلة ..
يا لها من فاجعة قضت عليه ..
هي أهدته قطعة منها ، ورحلت مبتعدة لترقد في سلام تاركة إياه يعاني من جديد مرارة فقدان الغالي ..
إنهار في مكانه باكياً بحرقة ، و متمنياً لو استطاع إعادة الزمن للوراء ليقدم لها حباً لم يستطع تقديمه بحق في حياتها ..
دفن وجهه بين راحتيه يشهق بأنين يدمي الفؤاد ..
اقتربت منه الممرضة تحمل ملاكه الصغير ، فرفع عيناه الدامعتين نحوها ، ومد ذراعيه المرتعشتين ليلتقط منها صغيرته ..
تعلق قلبه بها، بل إختطفت حبه بهالتها البريئة ..
أسماها ( ريفــــان ) مثلما أرادت أمها الراحلة ..
....................................
لم يتحمل والدها السيد سلمان الخبر ، فإنهارت قواه ، ومرض بشدة ، وظل طريح الفراش عاجزاً عن الحركة حتى أسلم الروح لربه ...
صدق من قال " لا تأتي المصائب فرادى ! "
أصبح مالك بين عشية وضحاها أباً أرملاً ومسئولاً عن أهم المؤسسات العريقة ..
تولى هو إدارة كل شيء ، وجاهد للحفاظ عليه ، فهو وابنته هما الورثة الشرعيين لكل تلك الثروة الطائلة .. وهو لن يضيعها هباءاً ..
مرت عليه ليال طوال كابد فيها آلام الفراق والخسارة حتى يراعي كل شيء إلى أن لم يعد بمقدوره المقاومة أكثر من هذا والبقاء بعيداً عن أحبته ..
فيكفيه تلك الخسارة العزيزة ليستمر في عناده وغربته الموحشة ..
لذا قرر تصفية كل شيء ، والعودة إلى موطنه للبدء من جديد ...
......................................................
أفـــــــاق مالك من ذكريات ثلاث سنوات وهو يبكي بآسى ..
أغمض عيناه ، وتنهد بعمق لعله يخرج تلك الهموم الثقيلة التي تجثو على صدره ..
رأت عبراته تنساب بغزازة لتغرق وجهه بالكامل ..
بكت هي الأخــرى تأثراً به ..
(( آهٍ يا حبيبي ، لو كنت أعلم ما تركتك لحظة ))
أخـــذ نفساً مطولاً ، وزفره مرة واحدة وهو يكمل بصعوبة :
-مقدرتش أنساكي للحظة ، في كل وقت كنتي معايا ، حتى .. حتى في أحلامي !
اختنقت نبرته عندما تابع :
-وهي ظلمتها معايا ، حبتني ، وأنا مقدرتش أقدملها الحب اللي كانت عاوزاه !
أخرج تنهيدة مريرة من صدره مصحوبة بعبرات أكثر غزارة وهو يقول :
-كان صعب أنسى كل حاجة بالساهل ! حاولت أكرهك ، وعملت ده ، بس .. بس معرفتش .. مقدرتش !
ضغطت إيثار على شفتيها لتمنع شهقتها الحزينة من الخروج .. بينما تابع بآسى :
-حبك عذبني وكسرني أوي يا إيثار ... !!!
صمت لبرهة لينطق بعدها من بين شفتيه خاطرة أخرى كانت سلوى فؤاده المعذب :
(( وبيأس أنتظر نسمة هواء تحمل عطرك ..
فينعش روحي البائسة ..
فرائحتك دوماً تسبقكِ أينما كنتِ ..
فتشعلي دون قصد شوقي إليكِ ...
حقـــاً ... كسرني عشقك ! ))
#الفصل_٢٩ج١
الفصل التاسع والعشرون - الجزء الأول
غطى وجهه بكفيه ثم فركه بهما بقوة ، وأطلق زفيراً ثقيلاً من صدره ، وحاول جاهداً تخفيف الألم الذي اجتاحه بعد سرد كل تلك الذكريات الموجعة ..
هو يشعر بالإثم نحوها .. فهي أفنت سنوات حياتها الأخيرة له ومن أجله ، وكل ما رغبته هو رسم السعادة على وجهه.. وحتى وإن كانت تلك السعادة مؤقتة و ستفني عمرها ..
اختارت التضحية بحياتها من أجل التنعم بلحظة حب صادقة معه .. وهو استشعر عدم أهليته لكل ما فعلته لأجله.
_ هذا ما زاد من شعوره بأضعاف الألم والذنب حيالها ..
هي كانت ضيفة عابرة في حياته ، واسته في أصعب أوقاته .. وهو لم يقدم لها سوى الإحترام ..
سحب مالك شهيقاً مختنقاً لصدره ثم زفره على مهلٍ وهو يتابع حديثه الذي خرج متحشرجاً منه :
- هي مكانتش تستاهل مني كده أنا عارف ، لكن...آآ.
صمت لوهلة قبل أن يتابع بضيق قائلاً :
- لكن أنا مقصدتش أظلمها ، هي ظهرت في حياتي في وقت كانت الدنيا كلها مضلمة في وشي.
_ صمّت آذانها قهراً عما تبقى من حديثه ، هو يشعر بالذنب تجاه زوجته وظلمه لها لعدم مبادلتها الحب وليالي العشق الجميلة .. ذلك أكبر ما يؤرقه ويعذبه !
استنكرت ما يقوله .. وتأجج صدرها بآلامها التي لم تنتهي يوماً ..
نعم ففي نفس التوقيت كانت تعاني هنا من ويلات مضاعفة ، لا تضاهي في قسوتها ما عايشه هو ..
و بالنهاية ، حتى وإن عاش لوعة الفراق والشوق لها ، فهو لم يذق آلم الإهانة والذل اللذين ذاقتهما وتشبعت بمرارتهما ..
زاد حنقها منه ، وبغضت وجوده أكثر وأكثر عقب أن علمت ماهية الثلاث سنوات اللاتي مرت عليه خارج البلاد..
لقد وصل لمركز مرموق، وتزوج بامرأة وهبته حياتها وحبها وأهدته في النهاية طفلة ملائكية .. قطعة جمعت بين أرواحهم ..
أما هي.....
ماذا وصل بها الحال ؟
لقد خسرت نفسها وكرامتها وأصبحت مجرد وسيلة وليست غاية لتحقيق مطمع دنيء ..
وفقدت طفلها الذي لم يرَ نور الأرض ولم تكن تعلم بوجوده بأحشائها ..
وعاشت حياة بائسة معذبة تذوقت فيها مرارة الألم النفسي قبل الجسماني ، لقد تجرعت لأشهر كؤوس العذاب مع ذاك الذي انعدمت الرحمة في قلبه ..
فشعرت بالشفقة على حالها أضعاف ما كانت تشعر في السابق ..
وخزات قوية في صدرها أنهكت ما تبقى من روحها ..
هي مجرد حطـــام .. حُطـــــــام أنثى !
وعلى حين غرة وجدت كفه يطبق على كفها ليذهب عنها شرودها..
فانتبهت له ونظرت لموضع كفه بصدمة قاسية قبل أن تسحبه منه بعنف وهي تنطق بلهجة مستنكرة تحمل الإزدراء :
- انا سمعتك للآخر ، ولازم أمشى دلوقتي !
نظر لها مدهوشاً من ردة فعلها .. واستوقفها رغماً عنها حيث وقف قبالتها مانعاً إياها من المرور ثم هتف بنبرة شبه أسفة :
-إيثار ، انا مكنتش أعرف حاجة من اللي حصلت .. آآ..
نظرت له بنظرات خاوية من الحياة تحمل الإنكار لما يقول ، فتابع بنبرة حزينة :
-انا كنت مستنيكي تقفي جنبي ، ساعتها مكنش حد هيعرف يوقفني .. لكن انتي خذلتيني و..آآ..
تحولت نظراتها المستنكرة لنظرات حانقة قاسية، ثم قاطعته بحدة وعنف:
-لو في حد خذل التاني فهو انت يا مالك !
ارتفع حاجبيه للأعلى بصدمة واضحة ، بينما تابعت هي بمرارة قاسية تحمله كل اللوم وهي تشير بيدها :
-انت اللي حكمت عليا ، ومفكرتش للحظة تخلق ليا عذر .. انت اللي كنت عايز تصدق إني بعتك مش أنا !!!
اختنقت نبرتها وهي تتذكر كلماته الأخيرة الموجعة ، وشعرت بثقلٍ على صدرها، وگأن زفيرها لهيب يخرج من فوهة بركان ناري مشتعل يحرق من يقف أمامه ...
تركت عبراتها الساخنة تنهمر من عينيها وهي تتابع بتعلثم وحروف متقطعة :
-آآ.. انت عيشت واتجوزت و.. و.. وخلفت ، أنا بقى اتكسرت ..!
نشج صوتها وهي تكمل بآسى :
-مبقاش متبقي مني حاجة غير نفس خارج وداخل وياريته يقف ويريحني ، انت معاك بنت وانا خسرت ابني .. انت مراتك ماتت وهي بتضحي عشان تسيبلك حته منها ، و.. و أنا... ، وأنا كنت هنا بحارب عشان أبعد عنه وأطلق منه !!
نظر لها مصدوماً ، وشعر بمدى الآلم في كلماتها المختنقة ..
تحسست إيثار جسدها وكأنها تستشعر لمسات محسن المقززة من جديد تسير على ذراعيها ، انتفضت بذعر وأطبقت على جفنيها بقوة لتترقرق العبرات العالقة بأهدابها وهي تستعيد لمحات قاسية مرت عليها حولتها لفُتات أُنثى، ثم نطقت عن مأساتها دون أن تخجل فلم يعد هناك ما تخسره :
-إنت كنت عايش مع واحدة بتديلك الحب ، وأنا كنت عايشة مع واخد بـ... بـ... بيعذبني ، كل حاجة معاه كانت آآ غصب عني .. حتى الحاجات اللي بتيجي بالرضا ، عمره ما خدها مني برضايا !!
علت شهقاتها دون شعور منها، فشعر بانقباض قلبه بقوة .. وبآلام تعتصره بشدة ..
لقد أذنب بحقها هي الأخرى عندما تسرع بقرار رحيله وتركها وحدها ، هي محقة كل الحق في اتهامه ..
والمقارنة بينهما في الظروف غير متوازنة البتة بل غير عادلة على الإطلاق ، فمهما كان شقائه ولوعة شوقه لها ، فلن يضاهي لحظة واحدة مما عايشته هي ..
وبدون سابق إنذار وبتصرف خالص من قلبه دنا منها ليحيط ذراعيها بكفيه، ولكنها فتحت عينيها فجأة وارتعد كيانها كاملاً وهي تبتعد فجـــأة عنه ..
رفع كفيه عنها وهو ينظر لها بعدم تصديق لكل تلك المشاعر التي تكنها بداخلها ولا تبوح بها..
شعر بصدق المقولة القائلة " بأن بئر المرآة وقلبها واسع .. ليكفي ويتحمل الكثير "
وكانت هي أفضل مثالاً لذلك .
استجمعت حالها الذي تشتت ، ثم نزحت دموعها التي بللت وجنتيها وغزتها كلياً ، و تركته لترحل مبتعدة عنه ..
أسرع ليقف أمامها من جديد وعيناه تنطقان بعبارات صادقة .. وكأن حبها قد أحياه بشكل أكبر من ذي قبل ..
ربما تضاعف الآن بقلبه عشقها .. ولن يتنازل عنها تلك المرة بسهولة ..
تأمل عينيها المنفوختين وشعيرات الدماء التي برزت بسحابة عينيها البيضاء لتزيد من حمرتهما ، ثم مسح بظهر كفه على صدغها وهو يقول بلهجة عاشقة :
- مش هسيبك المرة دي !
أزاحت يده عن صدغها بجفاء واضح بالرغم من مشاعرها المتأججة والناطقة بداخلها حياله .. لكنها لم تتحمل تلك اللمسة التي أعطاها لغيرها ، ثم نطقت بقوة وكبرياء :
-انا اللي سيباك وماشية .. ودي اخر مرة هتشوفني او تكلمني فيها ! أنا اكتفيت منك !!!!!
هز رأسه مستنكراً بقوة غير مصدقاً العقاب القاسي الذي اختارته له ، ثم هتف سريعاً بتلهف :
-مستحيل ، لو غلطنا في حق بعض مرة مش هنكررها تاني !!!
صرخت فيه من جديد وهي تنطق بتحسر :
-متقولش غلطنا! أنا مغلطش في حقك .. انت اللي جيت عليا زيهم كلهم ، إنت جنيت عليا بقسوتك وظلمك ، إنت زيك زيهم !!!!!!
تجمعت الدموع في مقلتيه ، فهو عاجز عن الدفاع عن نفسه أمامها ، وكيف يدافع وهو كان أحد الجناة القساة ..
وكيف تصفح له وهو من أمسك بسياطه ليجلد روحها بلا شفقة أو إحسان ..
مد يده ليحتضن وجهها بكفيه رافضاً إبتعادها عنه ، وتوسلها بإستعطاف :
-أنا اسف .. مستحيل هتبعدي تاني، مش هسيبك يا .. يا آآ....
أخفض من نبرة صوته وهو يقول بنبرة والهة متيمة :
-يا ذات الغمازتين !
تحركت مشاعرها أكثر نحوه ، وعاندت تلك الأحاسيس بقوة كابحة إياها حتى لا تطفو وتظهر على قسماتها الفاضحة ، وهمست بضعف :
-مبقاش ينفع .. انا مينفعش أكون مع حد ، مش هقدر !
ضغطت على كفيه المطبقين على وجهها ، وأغمضت عينيها للحظة من الزمن ..
خفق قلبه بقوة ، فقد استشعر وداعها له ..
بل هي تنوى حقاً أن يكون هذا هو لقائهما الأخير .
_ أبعدت راحتيه بهدوء غريب عن وجهها ..
شعر بملمس أصابعها الناعمة على قبضتيه فجعلته يستكين مستسلماً لها وقد تعلقت عيناه بها ..
إنسلت هي من أمامه بهدوء ، وتجاوزته لتمضي راحلة في طريقها ..
التفت ليراقبها بعينيه وهي تخطو بخطوات بطيئة مبتعدة عنه ..
وكلما خطت كلما زادت المسافات بينهما .. تسمر في مكانه عاجزاً مشدوهاً لا يعرف ما سيفعله ..
شعور العجز تملكه وجعله غير قادر على مواجهة حتى نفسه .. ولكنه أفاق سريعاً من صدمته المؤقتة وكأن صعقة كهربية ضربت برأسه لتحركه.
تساءل مع نفسه بهلع يدمي القلوب هل هذه هي كلمة النهاية؟
هل أسدل الستار على حكايتهما لينتهي فيلماً سينمائياً بنهاية حزينة ومؤلمة ؟
أهكذا الأمر .. لم يعد هناك ما يدفعهما للبقاء واللقاء ..
- وكأن قلبه يحدثه ويدفعه للتحرك ، هيا يامالك! كيف لك أن تتركها وتخذلها من جديد ؟
هي إيثار ..
مالكة قلبك ..
حبيبتك ..
معشوقتك التي اخترتها عن غيرها
بل معذبة فؤادك
كيف لك أن ترتكب هذا الجرم مرة أخرى في حق حبكما وتتركها ترحل ؟
هيا تحرك .. هيا تقدم منها ، انها حبيبتك إيثار !!
هز رأسه بعنف ليفيق من تلك الغيبوبة المؤقتة ثم صرخ بصوت مرتفع وهو ينادي باسمها ..
أهتز كيانها بقوة وأجبرها صوته على الوقوف..
وبحذر شديد استدارت لتراه يركض نحوها ..
ازدردت ريقها المرير ، وتابعته بنظراتها المنكسرة ..
مشاعر متضاربة ومختلفة تتحرك وتتصارع بداخلها ..
أحست بالفرحة لتلهفه عليها ، ولكن تلك الفرحة كانت ممزوجة بلعنة كبريائها تجاهه ..
شعرت بالحنين لسماع اسمها من بين شفتيه .. ولكنها سئمت ضعفها المحال أمامه ...
لحظات أربكتها ، لكنها أعطت له الفرصة ليتقدم منها .. وبلمح البصر وسرعة البرق كان يقف أمامها وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة ، ثم نطق بلهجة مستعطفة إياها :
- ريفان .. ازاي هتسببي ريفان بعد ما تعلقت بيكي ؟
خليكي عشان خاطرها ، هي مش سهل تاخد على حد تاني !
أطرقت رأسها بضيق عقب أن لمس وتراً حساساً بداخلها.. وهو تعلقها بطفلته الجميلة، ولكنها جاهدت تلك العاطفة وهي تقول :
-روان هتكون جمبها دايما .. و....
قاطعها بلهجة مصرة مشدداً على ضرورة تواجدها هي بالأخص :
-لأ ، انتي اللي هتربيها وتاخدي بالك منها .. هي محتاجالك ، ارجوكي متخذلنيش !!
شردت للحظة تفكر ملياً في مصير تلك اليتيمة ..
لن يكون جرحها النازف والحي منه سبباً في حرمان تلك الصغيرة التي لا تعي شيئاً من عاطفتها ومشاعرها الأمومية الجارفة حيالها ، أطرقت رأسها وهي تومئ إيمائة طفيفة ثم نطقت بهدوء :
- ريفان ملهاش ذنب في حاجة !
تنهدت بإنهاك وهي تتابع :
-عشان خاطرها وبس هستمر في شعلي معاها !
وكأنه بصيص أملٍ أُضئ له وسط هالة من الظلام كانت تحاوطه ، وبحركة خفيفة سريعة منه اختطف كفها الذي يمسك حقيبتها ثم قبّل باطنه قبلة عميقة جعلت القشعريرة تسري بأوصالها ..
سحبت يدها سريعاً وقد شعرت بسخونة وجنتيها التي انبعثت منهما على حين غرة ..
فهو ما زال مالكها الذي يستحوذ علي تفكيرها وعقلها وقلبها وشاغلها أينما وُجد ..
وقبل أن تنكشف له وتسقط في بئر عشقه الأعمى من جديد تحركت من أمامه بتوتر شديد وبدت خطواتها له غير مستقيمة .
طغت ااأبتسامة على ثغره وقد استشعر تأثيره عليها .. هي تعشقه من صميم فؤادها ، ولكنها تأبى الغفران ..
ستكون تلك الصغيرة هي خطته التي ستمكنه من الفوز بها من جديد ، لن يكل ولن يسأم.. وسيظل يحاول إستعادتها مهما كلفه الأمر ..........................................
وبقي منها حطام انثي
الفصل من ٢٩ج١ الي ٣٠ج١
للكاتبة منال سالم
#الفصل_٢٩ج٢
الفصل التاسع والعشرون الجزء الثاني
توجهت السيدة ميسرة نحو باب منزلها بخطوات عاجلة بعد أن سمعت صوت قرعات ثابتة عليه ، ثم فتحته بهدوء لتجد السيدة ( تحية ) أمامها ..
كانت رؤيتها أكبر من قدرتها على الإستيعاب والادراك .. فقد مرت السنوات دون تواصل العائلتين معاً من جديد ..
أفاقت سريعاً من دهشتها ، و انتبهت لصوتها وهي تقول بنبرة مهذبة :
-سلامو عليكم يا ست ميسرة ! ممكن أدخل !
تنحنحت الأخيرة بحرج وهي تتراجع للوراء لكي تفسح لها المجال للمرور ، و نطقت بأدب :
- اهلا وسهلا ياست تحية ! اتفضلي !
ابتسمت تحية إبتسامة ودودة وهي تخطو عتبة المنزل ثم أجفلت بصرها على إستحياء منها ونطقت بنبرة عذبة
- اهلا بيكي ياست ميسرة
انتظرتها في مكانها حتى أوصدت الباب ثم التفتت لها وهي تشير بيدها للداخل وقالت :
- اتفضلي ياست تحية ، ده بيتك !
ردت عليها بود :
- يزيد فضلك
جلستا الاثنتين على الأريكة العريضة .. وحل صمت حذر بينهما للحظات ..
فكلتاهما تشعران بالريبة تجاه الأخرى ..
فـ " تحية " تشعر بالتوجس من رد فعل ميسرة بسبب ما جاءت لأجله .. بينما شعرت ميسرة بالترقب وهي تنتظر أن تحدثها عن ذلك الأمر الذي دعاها للمجيء إلى أعتابها بعد مرور كل تلك السنوات .. فهي لم تزورها مطلقاً طوال تلك المدة ، وأخر زيارة للأخرى كانت عندما أدت واجب العزاء في زوجها الراحل ..
في النهاية ، لابد للحديث أن يبدأ .. لذا قررت ميسرة كسر حاجز الصمت وهتفت عقب نحنحة خافتة منها :
- احم ! تشربي ايه ياأم عمرو؟
أجابتها تحية وهي ترسم البسمة على محياها :
-لا متتعبيش نفسك.. آآ انا كنت عايزاكي في موضوع كده وو.... متعشمة فيكي يعني !
زاد فضولها عقب عبارتها الأخيرة ، فرمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تردف متساءلة بتعجب جلي :
-خير ياام عمرو؟!
ترددت تحية في إخبارها بذلك الأمر الذي حضرت لأجله ، ولكن لا مفر لديها .. فقد لاحقها عمرو وطاردها بإلحاحه الشديد لتقوم هي بتلك الخطوة عنه ..
فهو لم يقوَ على فعلها بسبب ما حدث بين العائلتين منذ سنوات ، فانصاعت له أمام رغبته الملحة في طلب الزواج من روان .
تنهدت تحية ثم تابعت حديثها قائلة على جملة واحدة :
- انا جيالك في موضوع يخص عمرو ابني ، وآآ..و.. وروان بنت اخوكي !
حملقت بها ميسرة بعدم تصديق لذلك الأمر الصادم ، فالاثنين معروف عنهما بغضهما للأخــر منذ أول لحظة لقاء بينهما ..
اذن ما الأمر الذي سيربطهما معاً ، ويجعل السيدة تحية تأتي إليها لتتحدث فيما يخصهما ؟
انتابها القلق الممزوج بالصدمة ، وجاهدت لتحافظ على ثبات نبرة صوتها وهي تتساءل بإهتمام :
- موضوع ايه ده ؟ ياريت توضحي !!
أجابتها تحية وهي تستجمع شجاعتها لتبدو أمامها أقوى من ذلك :
-بصراحة كدة ومن غير لف ودوران .. انا عايزة أطلب أيد روان لعمرو ابني ، و آآ....
اندفعت ميسرة وهي تهب بها و قاطعتها بحدة :
-ايه !! روان وعمرو ! ؟
وكأنها استنكرت مجرد التفكير في هذا الإرتباط ، فتابعت بجدية أشد :
-ودي تيجي ازاي ياست تحية بعد كل اللي حصل زمان؟
شعرت تحية بالحرج من حديثها المقصود عن جراح الماضي وآلامه ..
فأطرقت رأسها بحزن وهي تجيبها بحذر :
-اللي حصل حصل ياست ميسرة .. وبعدين كل واحد شاف حياته خلاص !
شعرت ميسرة بالضيق عندما تذكرت كل ما أفتعله ذلك الـ " عمرو " حيال إبن أخيها مالك ، وما قام به متعمداً وبقسوة للتفريق بين قلبين محبين !
فكيف ستأتمنه علي ابنة اخيها الغالية ببساطة ؟
تجهمت ملامحها وعبست ثم نطقت بإستنكار :
-انا مقدرش أآمن لبنتي ليه.. ومحدش هيوافق بعد اللي حصل ، واكيد انتي فاهماني كويس !!!
تابعت تحية وهي تبرر رغبة ابنها وصلاح حاله للأفضل :
-عمرو بقى حاجة تانية ياست ميسرة .. خصوصا بعد اللي حصل لأخته من طليقها البعيد و......
_ صمتت فجأة وقد شعرت بحجم الخطأ الذي وقعت به الآن فعضت على شفتيها بحرج شديد .. وعاتبت نفسها على تسرعها ...
ولكن أثارت عبارتها حفيظة ميسرة ولم تمررها مرور الكرام، فرمشت بعينيها عدة مرات وقد استنبطت سريعاً السبب وراء تواجد '' إيثار '' أغلب الوقت لدى والديها .
قامت ميسرة بفرك كفيها سوياً بتوتر ثم استطردت قائلة بإستفهام :
-هي إيثار أطلقت!؟
أغمضت تحية عينيها في حسرة ، وردت عليها بنبرة منكسرة وقد شعرت بالحزن من أجل الحال للذي وصلت له أبنتها :
-أيوة .. بقالها أكتر من سنتين ونص مطلقة !!!
تلقت ميسرة تلك الإجابة كالصاعقة على رأسها ..
فغرت شفتيها مصدومة ، وإرتفع حاجبها للأعلى في عدم تصديق ، وهتفت بنزق :
- هااا! ؟ مكنتش أعرف
أكملت تحية وهي تهز رأسها للتأكيد :
-أيوه ، احنا مجبناش سيرة لحد !
فكرت تحية في سرد الأمر كاملاً عليها ، فربما عندما تعلم ما حل بعائلتها البائسة ، والتعاسة التي أصابت ابنتها بسبب إجبارها على زواج غير موفق ، وانعكاسه عليهم فيما بعد ، وما تبعه من تغيير جذري على ابنها وتبدل أحواله للأفضل ، فربما يكون دافعاً لها لـ توافق على تزويجه من ابنة أخيها ..
أكملت تحية بتنهيدة وهي تمسح بلسانها على شفاها الجافتين :
-انا هحكيلك اللي حصل كله !!!
...................................................................
_ قرر مالك الاختلاء بشقيقته الصغرى في حجرة المكتب لكي يروي لها تفاصيل خطته القادمة ..
هو اختارها لكي تعاونه في ذلك ، خاصة وأنها تتخذ إيثار صديقة لها وستحبذ لها الخير ..
دخل مالك حجرة المكتب بعد أن سبقته أخته ثم أغلق الباب خلفه ، ودنا منها ليجاورها في جلستها على الأريكة الجلدية ..
حك طرف ذقنه الحليقة حديثاً ثم نظر لأخته نظرات ذات مغزى وهو يهتف بخفوت بيّن :
-روان ، بكرة عيد ميلاد ريفان التاني
أومـــأت روان برأسها متفهمة ، ثم رسمت على ثغرها ببسمة واسعة ، و نطقت بمرح زائف محاولة إخفاء نبرة التعاطف والآسى :
- بجد!! الله ... كويس أنك عرفنني عشان أعملها حفلة محصلتش !
زفر مالك بإنزعاج ، ثم التوى ثغره لعدم فهمها مقصده وهدفه ، وتابع بجدية :
- انتي مش فاهماني!! انا هدفي من العيد ميلاد ده أن إيثار تكون موجودة جمبي لأطول وقت ممكن !
ابتسمت له روان بمكر ، وردت عليه وهي تغمز له بعينيها :
-ايوة بقي! قولتلي
تنهد بعمق وهو يقول :
-الحمدلله إنك فهمتي !
صمتت روان للحظة ثم استندت برأسها على مرفقها ، وأكملت بتفكير عقلاني :
-يبقى مش هينفع عمتو وعمو إبراهيم ييجوا!
رد عليها مالك وهو يومئ برأسه موافقاً :
-بالظبط ، عايز حاجة بيني وبينك ، وإيثار تكون موجودة وبس ! فهمتي !!!
نهضت روان عن جلستها والحماسة تملأ صدرها، ثم ضربت على كتفه بقوة خفيفة منها وهي تردد بثقة وفخر :
-متقلقش يامالوك ، سيبها على روان
ابتسم لها مالك ، وهمس بينه وبين نفسه بتوجس :
-ربنا يسترها !
.....................................................................
_ تألمت السيدة ميسرة كثيراً عندما علمت بما حل بتلك الفتاة البائس حظها ..
دمعت عيناها لأجلها ، فلم يأتِ بمخيلتها أن هذه المسكينة تحمل بداخلها مالا تتحمله أخرى أقوى منها ..
لقد قضت عليها الأيام وحطمت زهرتها الوردية.
مسحت بأناملها على طرفي عينيها لتنزح عبراتها العالقة بهما ، ثم نطقت بصعوبة بالغة من بين شفتيها :
- لا حول ولا قوة الا بالله ، ربنا يعوضها خير ويسعد قلبها
ردت عليها تحية وهي تتضرع من صميمها لله :
- أمين يارب العالمين
انتظرت لحظة وهي تطالع ملامح ميسرة العابثة بتأمل ، ثم أردفت بتساؤل :
-ها ياست ميسرة ، قولتي إيه ؟
ردت عليها ميسرة وقد شعرت بالحرج الشديد من تبيين رفضها بشكل مباشر :
-بصي ياست تحية .. روان دلوقتي بقت مسئولة من أخوها ، وهو هيكون ليه الكلمة الأولى والأخيرة في موضوع زي ده
تفهمت تحية ما قالته جارتها ، فهي محقة في هذا ، لذا ابتسمت له بتصنع وهي تقبض على شفتيها لتقول بعدها بإنزعاج قليل :
-طيب ياست ميسرة ، طالما كده انا هخلي عمرو يكلم أخوها
ردت عليها ميسرة وهي تهز رأسها بموافقة منها :
-اللي فيه الخير يقدمه ربنا يا ام عمرو
نهضت بعدها تحية من مكانها ببطء وهي تستند على ذراع الأريكة ، و استقامت في وقفتها وهي تردف بنبرة متعجلة :
-استأذن انا !
نهضت ميسرة هي الأخرى من على الأريكة ، وردت عليها مجاملة :
-ما لسه بدري ياست تحية !!
ردت عليها تحية وهي تربت على ذراعها بود : بدري من عمرك .. سلامو عليكو !
...................................
أوصدت ميسرة الباب وهي في قمة ذهولها ودهشتها مما حدث اليوم ..
وتساءلت مع نفسها بتخوف عن ردة فعل مالك عندما يعلم بأمر گهذا !
فكرت في كيفية التصرف بمفردها ..وحل تلك المسألة بعيداً عنه ، ولكنها وجدت صعوبة في التصرف بدونه ..
لذلك قررت اللجوء إليه .. فهو الأخ الأكبر لها وسيشكل رأيه حكماً فاصلاً في الأمر برمته .
أسرعت نحو الهاتف وشرعت بالضغط على أزراره ثم وضعته على أذنها وهي تهتف بتلهف :
-أيوة يامالك .. أسمعني يابني كويس
أصغى إليها مالك بكل حواسه ، واستمع لما قالته بتركيز جمّ ..
هو كان يتوقع فعلاً گهذا منه وقد أعد خطته من قبل للتعامل مع الموقف ..
هو أراد الإنتقام من أخيها على فعلته القديمة في حقه وحق حبيبته، ولكن سيفعل ذلك على طريقته الخاصة .. سيذيقه من نفس الكأس ويجعله يتجرع مرارة آلم البعد والفراق ..
فلن يكون ثمن الثلاث سنوات الماضية ثمناً هيناً .
قطب جبينه وأنعقد ما بين حاجبيه ، ثم نطق بقسوة من بين أسنانه :
-وماله ياعمتي ، خليه ييجي ويطلبها مني.. وساعتها الرد هيكون جاهز !!!!!
...................................................................
منذ صبيحة اليوم التالي .. بل منذ أن سرد عليها مالك رغبته في إعداد حفل ميلاد للصغيرة وقد بدأت في التجهيز والاعداد ليوم مميز لن ينسى أبداً من الذاكرة ..
قامت روان بنفخ الهواء داخل البلونات المطاطية الملونة ، ثم ساعدت راوية في تعليق الزينة .. وحرصت على الانتهاء من كل شئ قبل موعد حضور إيثار حتى لا تكلفها فعل شيء ..
وما ان انتهت روان من مهامها وخرجت لمحيط الحديقة .. حتى وجدت إيثار قد حضرت في تلك اللحظة وعبرت بوابة الفيلا.
كان مالك في هذه اللحظة جالساً بحجرة مكتبه ينهي بعض الأعمال الخاصة بشركته عن طريق حسابه على مواقع التواصل الإجتماعي .. وكان بين الحين والأخر ينظر للحديقة عن طريق النافذة التي تطل عليها منتظراً حضورها بفارغ الصبر و متلهفاً لرؤية طيفها الساحر ..
وقع بصره عليها أثناء ترحيب روان بها ، فذقذق قلبه فرحاً وتلونت عينيه بوميض السعادة عندما لمحها ..
لم يطق الانتظار داخل مكتبه أكثر من هذا ، فقام بتلهف شديد بإرتداء سترته سريعاً ووضع بها هاتفه المحمول ثم خرج من الحجرة على عجالة من أمره..
جاهد للحفاظ على توازنه أمامها ولكنه فشل في حضرتها ، سقط عنه قناع القوة ليظهر أمامها عاشقاً أكله الشغف .. فتابعها من بعد مراقباً لحوارها مع روان و...
هتفت إيثار وهي تتأمل المكان من حولها بإعجاب شديد من جمال تناسق الزينة وأنتشارها في المكان :
-الله ! هو في مناسبة النهاردة؟
أجابتها روان وهي تطالع المكان بحماسة شديدة :
-عيد ميلاد ريفان النهاردة
عبس وجه إيثار نوعاً ما ، واختفت بسمتها من على محياها ، ثم عاتبت رفيقتها بضيق :
-طب ليه مقولتيش من بدري؟ ، كنت جيبتلها هدية على الأقل!
ردت عليها روان وهي تجذبها للداخل من ساعدها :
-اي الكلام ده ياإيثار مفيش بينا فرق .. يلا تعالي نطلع نجيب ريفان عشان نحتفل معاها !
تعجبت إيثار مما تفعله الأخيرة ، واعترضت قائلة بإندهاش وقد ارتفع حاجبيها بذهول :
-دلوقتي؟ بس لسه بدري اوي!!
أجابتها روان وهي تهز رأسها نافية :
-بالعكس ، مفيش أجمل من الأعياد اللي بتتعمل الصبح
انصاعت إيثار لرغبتها وصعدا سوياً لإحضار '' ريفان '' من الأعلى..
انتظر مالك على أحر من الجمر صعودها للأعلى ليخطو بقدميه بعجالة صوب المطبخ وأشار لراوية للبدء بالتنفيذ..
وهتف بتلهف :
-يلا يا راوية ، شيلي معايا الحاجة دي بره !
ابتسمت له راوية قائلة وهي تتعجل في حركتها :
-حاضر يامالك بيه
قاما الاثنين بنقل قوالب الحلوى المتعددة الأشكال والأنواع، وأطباق الحلوى المختلفة للخارج ، وصُفت على الطاولة المتوسطة الحديقة بشكل أنيق ومنظم ...
في هذا الحين .. كانت إيثار قد انتهت من إعطاء جرعتها العاطفية للصغيرة ، فحملتها بين ذراعيها بحب وهي تحركها بمرح قائلة :
- روفي ، كملتي سنتين ياحبيبتي .. عقبال ما تكملي مليون سنة !
هتفت روان وهي تفرك كفيها بحماسة شديدة : طب مش يلا ننزل بقى !!
نظرت لها إيثار بغرابة ، وهمست بإندهاش قليل وهي تداعب وجنتي الصغيرة : لسه بدري ياروان
اعترضت روان وهي تتلوى بثغرها خوفاً من فساد المخطط الذي رسمته :
-آآ .... لأ ، ننزل دلوقتي أفضل!
ردت عليها إيثار مستسلمة وقد انعقد حاجبيها بتعجب شديد لإصرارها الغير مبرر :
-طيب ، اللي يريحك
هبطا سوياً بصحبة الصغيرة بعد إصرار روان على إلباس الصغيرة ريفان فستاناً وردياً رقيقاً يتماشى مع التاج الصغير المرصع بفصوص ماسية، والذي زينت به رأسها ..
وعندما خطت إيثار عتبة ( الفيلا ) تفاجئت بوجود مالك بالحديقة ، والذي ظنته بالبداية غير موجود في المكان .. فأبعدت بصرها بإستحياء ثم تابعت خطواتها ببطء..
وكلما اقتربت خطاها منه ، زاد توترها من حضوره المؤثر عليها..
ولكنها تماسكت كي لا تظهر له جانبها الضعيف الذى يحن له ، في حين رسم مالك بسمته العذبة على محياه وهو يقترب منها ليقبل الصغيرة..
دنا منها ليطبع قبلة على رأس ابنته ، بينما كانت عيناه معلقة على حبيبته ..
تقلصت المسافات بشدة حتى وصلت أنفاسه الحارة بالأشواق لطرف أنفها فدبت القشعريرة بأوصالها ..
ابتعدت برأسها قليلاً ، فتراجع هو الأخر برأسه بعد أن حقق مبتغاه وأثار توترها نحوه ..
مد يده ليلتقط صغيرته من بين يديها فتعمد مسك كفها مع ابنته ..
شعرت بالحرج الشديد من جرأته حيالها فتنحنحت بخجل ، و توردت وجنتيها بحياء ثم نطقت بجدية زائفة :
- احم ! آآ.. أ أيدي؟
أفلت كفها وهو يبتسم لها ابتسامة خطيرة ، و تحرك نحو الطاولة ليجلس على أحد مقاعدها واضعاً الصغيرة على حجره ..
ثم غمز بعينيه لشقيقته لكي تقوم بالتصرف.. وبالفعل تحركت الأخيرة على الفور لتقول بحماسة بائنة :
- يلا عشان نطفي الشمع ياإيثار
ثم جذبت إيثار من يدها ، ودفعتها نحو الطاولة ..
نظرت لها إيثار بإندهاش ، وهتفت متعجبة :
-دلوقتي !!!!
ردت عليها روان وهي تهز رأسها عدة مرات متتالية :
-ايوة يالا
كانت تشعر بشيء مريب في الأمر ، وكأن الأخوين يحيكان أمراً لا تعلمه ..
تجاهلت شعورها وتعمدت الانتظار حتى تكشف ما سيؤول إليه الأمر ..
جلست بتردد على المقعد وجاورتها روان ..
دققت النظر على الطاولة لترى قالب الحلوى المطبوع عليه صورة للصغيرة تجمعها بوالدتها .. حكت غرة جبهتها بتفكير وتذكرت أنها قد رأت مثل تلك الصورة في الأعلى داخل إطار خشبي رقيق .
تعلقت عيناها بالقالب ، وشردت تفكر فيها ..
أثار فضولها وبشدة وجود ريفان مع والدتها في صورة واحدة تجمعهما سوياً ..
تلك الصورة التي رأتها من قبل وحركت نزعتها الأمومية بالإضافة إلى شعور الغيرة ..
ما أثار ريبتها هو كيف ومتى تم أخذ تلك الصورة إن كانت الأم قد توفت قبل رؤية قرة عينيها ؟
هناك خطأ بالأمر ..
ربما مالك يكذب عليها وأراد الحصول على استعطافها ..
اغتاظت من كذبه .. وتحول وجهها للوجوم ..
_ لاحظ مالك تحديقها بقالب الحلوى ،
نعم حالة الشرود التي تمكنت منها كانت مرئية للعيان
وسريعاً استشف ما تفكر به .. لذا قرر أن يسرد عليها قصة الصورة قبل أن تظن به الظنون ..
التفت برأسه نحو شقيقته ، وحك مؤخرة رأسه وهو يقول بهدوء :
- عارفة ياروان !
انتبهت له أخته ، وكذلك إيثار ، فتابع قائلاً :
- الصورة دي انا عملتها بعد ما ريفان اتولدت بشهر .. كنت مصور مامتها وهي حامل فيها وشايلة عروسة بنفس الحجم !
ابتسم بمرارة وهو يضيف :
-كانت فرحانة أوي إنها حامل ، ومش مصدقة نفسها !
ثم انخفضت نبرة صوته وهو يكمل بحزن واضح :
-بس فرحتها مكملتش ، وماتت ، بس .. بس مرضتش أحس إن الفرحة دي انتهت بموتها ، فلما ريفان اتولدت ، صورتها معايا بنفس الطريقة وبنفس الزاوية ، وخليت المصور
يركب الصورتين على بعض ..
تنهد بعمق وهو يختم حديثه :
- كان يهمني يكون في ذكرى جميلة تجمع ريفان بمامتها الله يرحمها !
رغم حسن نيته مع ابنته ، ورغبته في تخليد ذكرى حب زوجته لطفلتهما التي لم يكتب لها أن تراها ، إلا أنه أشعرها بالغيرة من ذلك الاهتمام ..
هي لم تحظَ بمثله ..
هي كانت تعاني .. تجاهد للملمة شتات أمرها ..
اجتهدت وبشدة في الحفاظ على جمود تعابير وجهها ، وثبات نظراتها رغم النيران المستعرة بداخل روحها ..
أضافت روان وقد شعرت بالشفقة على تلك الراحلة :
-الله يرحمها يارب
عاود مالك التحديق بإيثار ، فرأها جامدة لكن عينيها تكشفاها ..
هي تغار .. هو متأكد مما رأه فيهما ...
نهضت روان عن جلستها مبررة أنها ستحضر مشروب المياه الغازية ، ثم تركتهما بمفردهما بعد أن حملت الصغيرة بين يديها وهي تقول بمرح :
-مالك هات روفي ، وحط إنت الشمع في التورتة
نهضت إيثار فجـــأة ، وهتفت بجدية وهي تجاهد للإبتعاد عن مكان وجوده بأقصى قواها :
- آ.. روان ، انا هجيبه خليكي
اعترضت روان وهي تصر على الذهاب بالصغيرة للداخل :
-لا خليكي ، انا جاية على طول
وقبل أن تهتف بها إيثار كانت قد انصرفت سريعاً
تنهدت بضيق ، وأشاحت بوجهها للجانب الأخر متجنبة حدقتيه اللاتين تعلقتا بها ..
كانت تشعر بظل عينيه وهو مسلط عليها مما أشعرها بالحرج الشديد ، ولكنها جاهدت حتى لا تظهر له ذلك ولكنها فشلت ..
فأمرها كان مكشوفاً وواضحاً له وضوح الشمس ، بينما لم يستطع هو منع إبتسامته التي غزت محياه.
هي كما أعتادها دائماً ، حتى وإن اعتراها بعض التغيير تنكشف أمامه ..
.. تأهبت لتنهض بعيداً عنه لتتجنب تأثيره ، ولكنها تفاجئت بكفه يحاصر كفها ، فاستدارت نحوه بصدمة ، وهمس بلهجة عاشقة :
- ماتسبينيش !
انفرجت شفتيها بذهول ، و جحظت عيناها :
-هــــا !
ابتسم لها مالك بعذوبة معهودة منه وهو يتوسلها :
-قصدي ماتمشيش !
سحبت إيثار كفها منه ، وهتفت بتوتر :
-هشوف روان عشان أتأخرت
نهضت عن مكانها سريعاً لكي تتجاوزه ولكنه قطع عنها الطريق بوقفته أمامها ..
ارتكبت أكثر منه وتوترت .. فتأمل الحُمرة التي احتلت موضع غمازتيها .. ثم مد أنامله ببطء ليلمس غمازتها ، فتراجعت فوراً خطوة للوراء ..
تحقق حلمها الذي رأته في غفوتها ، هي تمنت اقترابه منها .. ولكنها تخشى إستسلام مشاعرها الجريحة له ..
دنا منها أكثر فأبتعدت..
حاصرها فجـــأة من خصرها بذراعيه ، ونطق بتلهف واضح وعيناه تلمعان بوميض الحب :
- تتجوزيني!
انتفضت ، بل ارتجفت ، وارتعش كيانها بالكامل ..
أكان وهماً ما قاله ؟
أعرض عليها الزواج ؟
أصابت كل ذرة في جسدها قشعريرة غريبة عقب كلمته المباغتة تلك ..
بدت وكأنها تُلقى على مسامعها للمرة الأولى ..
تصارعت أنفاسها اللاهثة وتلاحقت من فرط التوتر والخوف ..
رغبت في مقاومته ، في الرفض ..
لكن قلبها يأبى الانصياع ، إنه مالكك .. إنه من تعشقين ، إنه حبك الأول والأخير ..
ارتفع صدرها وهي تطالع ملامحه كالمسحورة ..
لكنها سريعاً أجبرت نفسها على الإبتعاد من ذلك التأثير المهلك ، فإنسلت من أحضانه بعد أن دفعته بكفيها في صدره ، وأطرقت رأسها وهي تقول بعزة وكبرياء شديدين :
- لا .. مش هتجوزك ، أبداً!
لم يكن ليتركها تفلت منه ، فأطبق على ذراعيها بقبضتيه بخفة ولطف ثم جذبها بتملك لترتمي على صدره رغماً عنها ، و لتكون أقرب من أنفاسه ..
حاوطها مجدداً بذراعيه ، وأحكم قبضتيه عليها لتنصهر في أحضانه المشتاقة لها
هو أرادها أن تسمع نبضاته التي تنطق باسمها ، وبنبرة متملكة قال بثبات :
- هتتجوزيني .................................. . !!
#الفصل_٣٠ج١
الفصل الثلاثون الجزء الأول
جاهدت لتتخلص من حصاره المهلك الذي يضعف مقاومتها ، لكنها لم تستطع .. فقد أحكم قبضتيه حولها ..
خفق قلبها بقـــوة .. وتسارعت أنفاسها على صدره ..
أغمض عيناه مستمتعاً بقربها المغري منه .. وبث إليها عبر حضنه المطمئن أشواقه .. و إشتياقه .. وحبه ..
إن استسلمت له فقد ظفر بها .. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..
دفعته إيثار بكل ما أوتيت من قوة للخلف ، فتفاجيء من ردة فعلها ، وحدجته بنظرات جامدة قبل أن تقول بحدة :
-وأنا مش موافقة
تسمر في مكانه مشدوهاً للحظة محاولاً استيعاب رفضها الغير متوقع ..
هو متأكد من حبها الجارف له ، بل إنه يثق أن خلايا دمها متشبعة كلياً بعشقهما ..
تأهبت للتحرك والهرب من حضرته المميتة لكن صدها مالك بجسده ، ووقف حائلاً أمامها ليهتف بنبرة مصدومة :
-إيثار ، أنا بأحبك !
-وأنا مش عاوزة الحب ده
قالتها بصعوبة بالغة وهي تحاول السيطرة على مشاعرها المضطربة ..
أغمض عيناه للحظة محاولاً السيطرة على انفعالاته ، ثم سألها بهدوء :
-طب انتي مش موافقة ليه ؟
عجزت عن الرد عليه ، أتخبره أنها تحبه بجنون ولكن كبريائها يمنعها من القبول بعرضه المغري لتحل كبديلة عن زوجته بتلك البساطة ؟ أم تدعي الكذب أنها تبغضه كما لم تبغض أي أحد من قبل ؟
مازالت أثار الماضي تطاردها ..
وهي عاجزة عن حسم أمرها معه ..
التقط كفها بين راحتيه ، وجذبها برفق إليه ، واحنى رأسه عليها ليطالعها بنظرات تعرف كيف تخترقها ببراعة ، وهمس لها :
-أنا بأحبك يا إيثار .. بأحبك ومقدرش أعيش من غيرك !
ارتجفت من تأثير كلماته ، وشعر بإرتعاشتها ..
أرخى إحدى يديه عن قبضتها ، ورفعها عند طرف ذقنها ليتحسس ملمسه بحرص شديد ..
أغمضت عيناها بإرتباك كبير ، وسيطرت على كيانها رعشة غريبة حجبت عنها التفكير بصورة عقلانية ، وزدات دقات قلبها المتسارعة ..
ابتسم بثقة حينما أيقن تأثيره الطاغي عليها ..
وأغراه سكونها لإختطاف قبلة صغيرة منها .. ولكن قبل أن يقدم على هذا كانت هي تنسحب منه بصورة دفاعية وهي تصيح بإصرار عنيد :
-مقدرش أتجوزك ، مقدرش !!!
أسرعت تلملم شتات أمرها ، وقبل أن تنهار باكية أمامه وتغير رأيها ركضت مبتعدة إلى خــــارج الفيلا..
صدمت روان وهي تتابع المشهد من الداخل مما حدث ..
كانت تتوقع أن توافق رفيقتها على عرض مالك بالزواج منها ، لكنها خالفت كل توقعاتها ، ورفضته ببساطة ..
خرجت مسرعة لتستفهم من أخيها عن سبب إعتراضها ، فتركها ورحل دون أن يعطيها أي مبررات ..
.................................
هب عمرو منتفضاً من مكانه حينما سردت عليه والدته تحية ما فعلته مع السيدة ميسرة ..
تلفت حوله غير مصدق ما سمعه تواً ، وهتف بذهول :
-يعني .. يعني هي قالتلك أروحله بيته ؟
أجابته تحية بهدوء :
-ايوه يا بني هي عدت عليا من شوية ، وكتبتلي ورقة فيها العنوان
تساءل عمرو بتلهف وهو يمد يده نحوها :
-فين الورقة دي ؟
أخرجت والدته ورقة مطوية وضعتها بداخل طيات صفحات أجندة الهاتف لكي لا تضيع ، ثم أعطته إياها ..
أخذها منها عمرو ونظر إلى العنوان المدون بها ، وابتسم بسعادة وهو يردد :
-يا رب يكون خير
ردت عليه والدته بنبرة دافئة :
-إن شاء الله يا حبيبي هايكون خير ، وربنا هيعوضك ويكرمك باللي نفسك فيه !
ورغم فرحته الظاهرة على وجهه إلا أن شعوراً مزعجاً كان ينتابه حينما يفكر في ردة فعل مالك ..
فالماضي مازال يقف حاجزاً بينهما ....
انتبه كلاهما إلى صوت غلق باب المنزل ، فدققا النظر في إيثار التي انتجهت إلى غرفتها دون أن تلقي عليهما التحية ..
نظر عمرو لوالدته بإندهاش وتساءل بفضول :
-هي مالها ؟
ردت عليه بقلق :
-مش عارفة يا بني ، تلاقيها بس تعبانة في الشغل
تحرك عمرو في اتجاه غرفتها مردداً بجدية :
-أنا رايحلها !
اعترضت تحية عليه قائلة :
-طب سيبها شوية تكون ارتاحت ، وبعد كده خشلها
رد على إمتعاض :
-حاضر يا ماما ، هاسيبها شوية وبعد كده هاتكلم معاها
.................................
ألقت إيثار بنفسها على الفراش ، ودفنت رأسها في وسادتها لتبكي بحرقة على ما حدث ..
لامت نفسها على رفضها لطلب حبيبها بالزواج ..
لكن ما منعها من القبول هو إحساسها بأنه يشفق عليها .. بأن حبه لها لم يعد خالصاً ، بل شاركته فيه غيرها ، وتمتعت بأحضانه الدافئة .. وهي التي كانت تعاني الويلات والقسوة مع غيره ..
شعور الخزي والخذلان دفعاها للتراجع والابتعاد ..
لقد ظلمها مثل غيره ، وتوقع بسهولة أن ترضخ مستسلمة لعرضه ..
لم تكن لتقبل بإهانة كرامتها أو كبريائها ..
لكن قلبها .. ذلك الشيء النابض الذي يرفض مقاومتها لتيار مشاعر الحب الصادقة .. أبى أن يستسلم لهواجسها .. وذكرها بحبٍ حقيقي نابع من أعماق الفؤاد ..
وأجبر عقلها على تذكر تلك اللحظات الماضية بينهما ..
لحظات مميزة جمعتهمل صدفة وعن عمد ..
لقاءات حفرت في ذاكرتهما ذكريات جميلة كانت سندها في أحلك الأوقــــات ..
ها هي تضعف من جديد ..
تنهـــار حصونها أمام سيل حبها الجامح له ..
هي لم تكرهه بالفعل .. هي تبغض الظروف التي أجبرتهما على الفراق ..
.......................................
حالة من الوجوم سيطرت عليه طوال اليوم وهو يحاول استنباط سبب رفضها له ..
أليست تحبه ؟ ألم يشعر بحرارة أنفاسها اللاهثة والمرتبكة على صدره ؟ ألم يسمع دقات قلبها المتلاحقة والتي تهتف بإسمه وهي في أحضانه ؟ ألم يلبي ندائها الغير منطوق ويطلب أن يتوج حبها بالزواج ؟
لماذا اذن تقصيه بعيداً عنها ؟
وضع يديه على رأسه ليضغط عليها بقوة بعد أن أنهكه التفكير المتعمق ..
أرخى يديه إلى جانبيه ، وسحب نفساً عميقاً من هواء البحر الذي يشكو إليه دوماً همومه ..
زفــــر بإنهاك وحدث نفسه بيأس :
-طب أعمل ايه عشان توافق ؟!
ركل رمــال الشاطيء بقدمه بعصبية ، ثم تابع بضجر :
-ليه تعباني معاكي ، ليه ؟!
تخيل صورتها تتجسد أمـــامه على أمواج البحر المتلاطمة ، وضحكاتها الرقيقة تتشكل لتأثره أكثر بغمازتيها البارزتين ، فظهر شبح ابتسامة باهتة على محياه .. وتنهد قائلاً :
-إيثــار !
......................................
ظلت حبيسة غرفتها لفترة طويلة .. شاردة ، حزينة ، أوجـــاع قلبها تفتك بما تبقى من روحها المنهكة ..
سمعت دقات خفيفة على باب غرفتها ، فنهضت بتثاقل من على الفراش ، وكفكفت أثار عبراتها من وجنتيها ..
فتحت الباب ، وحدقت في وجه أخيها بشحوب ..
نظر لها بإشفاق ، وسألها بهدوء :
-ليه أعدة لوحدك ؟
ردت عليه بفتور وهي توليه ظهرها :
-ماليش نفس لحاجة
سار خلفها وسألها بتوجس وهو يراقب تصرفاتها الغير مكترثة :
-في حد ضايقك في شغلك ؟ حد اتعرضلك ؟!
لم تستطع البوح له بما يجيش في صدرها .. هي لا تريد أن يتشارك أي أحد همومها .. لا ترغب في أن تكون عبئاً على أحد حتى لو كان أخيها .. لذلك ابتلعت غصة مريرة عالقة في حلقها ، وأجابته بإرتباك قليل :
-هـ.. آآ.. لأ
تحرك عمرو ليقف قبالتها ، ثم وضع يديه على ذراعيها ، وهزها قليلاً وهو يتابع بجدية :
-إيثار أنا عاوزك تثقي فيا ، أنا عمري ما هاعمل أي حاجة تضرك أو تأذيكي ، اديني بس فرصة وأنا هاثبتلك إني اتغيرت بجد !
ابتسمت له وهي ترد عليه بتأكيد :
-عمرو .. أنا مصدقاك والله ، مش محتاج تثبت حاجة ليا !
ســألها مجدداً بإلحاح :
-طب قوليلي مالك ؟ ايه اللي مغير احوالك كده ومضايقك ؟!
ردت عليه بإقتضاب وهي تطلق تنهيدة قصيرة :
-مافيش ..
أيقن عمرو أن أخته لن تتحدث بسهولة ، فابتسم بتهذيب وهو يضيف :
-عموما أنا موجود لو حابة تفضفضي معايا !
بادلته إبتسامة ودودة وهي ترد عليه :
-ربنا يخليك ليا !
تحركت ناحية فراشها وجلست على طرفه ، فتابعها أخيها بنظراته ، ثم هتف فجـــأة بحماس :
-أنا عاوز أقولك على حاجة
رفعت رأسها لتنظر إليه متساءلة :
-ايه هي ؟
ظهرت ابتسامة عريضة على محياه وهو يجيبها بغموض :
-مش هاتصدقي ماما قالتلي ايه النهاردة
ســألته إيثار بفضول :
-خبر يفرح ؟!
رد عليها بنبرة شبه حائرة وهو يحك مؤخرة رأســـه بيده :
-هو لحد الوقتي مش باين إن كان يفرح ولا لأ ، بس إن شاء الله خير !
نظرت له بإهتمام ، فتابع هو قائلاً بهدوء حذر :
-المهم ماما قالتلي إن مالك أخو روان وافق يقابلني
اتسعت مقلتيها في صدمة غير متوقعة ، وارتفع حاجبيها للأعلى بذهـــول ، وهتفت غير مصدقة :
-ايه !!!!!!
أكمل عمرو قائلاً بحذر :
-منتظرني بكرة عنده ، فادعيلي !
ارتبكت أكثر مما قاله أخاها .. فهب لا تدري ردة فعله تجاهه بعد أن رفضته .. تخشى أن يعاقبه لقرارها ..
عضت على شفتها السفلى ، وهمست بتوتر :
-آآ.. ربنا يكرمك !
حاول عمرو أن يرفع الحرج عن أخته خاصة أن للموضوع أذيال متعلقة بالماضي .. وتابع بهدوء :
-يا رب أمين ، عاوز دعوة محترمة من القلب ، مش هوصيكي !
ردت عليه بصوت فاتر :
-أكيد !
اقترب منها ، ثم انحنى بجسده ليقبلها من أعلى رأسها ، وهز رأسها بقبضته ، وابتسم لها وهو يتحرك مبتعداً ....
.......................................
أدمعت عيناها عقب حديث أخيها الجاد حول ما ينتوي فعله مع عمرو بداخل غرفتها ..
كانت تريد أن تسير الأمور بسلاسة ، ويحدث الإرتباط بينهما دون أي تعقيدات ..
لكنه أراد أن يلقن عمرو درساً .. ليعرف كيف يمكن أن يقهر قلباً ويفسد حياة بأسرها بسبب تعنت مجحف وظلم جائر ..
احتضن مالك وجه أخته براحتيه بعد أن جثى على ركبتيه أمامها ، وباشر حديثه قائلاً بإبتسامة صغيرة :
-والله ده لمصلحتك ، صدقيني أنا عمري ما هضرك ولا هاخلي حد يجرحك ، بس لازم يستحمل عشان يعرف إنك تستاهلي التعب والتضحية !
نظرت له في صمت بعينيها الباكيتين ، ولم تستطع أن تعقب عليه ..
فبماذا تخبره ؟ هل تفضح نفسها وتقول أن قلبها تعلق به بالفعل وأحبه وباتت ترسم أحلاماً وردية معه ؟ أم تكتفي بالصمت وكتم أحزانها داخل صدرها وتعاني من عذاب الحب بمفردها ؟
شعر مالك بتخبط مشاعر أخته الصغرى ، وأجبر نفسه على القسوة قليلاً معها من أجلها هي ..
ابتسم لها مجدداً ، ومسح عبراتها من على وجنتيها بأنامله ، ثم اعتدل في وقفته .. وتركها وانصرف دون أن يقول بالمزيد فهو لا يريد وضعها في موقف صعب .. لذا أسلم شيء تركها الآن ...
مالت هي على جانب فراشها ، وأجهشت بالبكاء الحارق ، فاستمع هو إلى صوت شهقاتها التي لم تستطع إخفاؤها وهو يقف في الخارج مستنداً على الحائط ....
أطرق رأسه أسفاً ، وحدث نفسه بجمود :
-بكرة هتشكريني على ده !
رحل مسرعاً قبل أن يلين قلبه تعاطفاً معها .....
...................................
لحظات مرت عليه وكأنها دهـــر وهو ينتظر بترقب شديد حضور مالك إلى الصالون ..
استقبلته راوية ودعته للجلوس ، وأحضرت له مشروب بارد ..
ظل يتلفت حوله ليتأمل المكان بإنبهار واضح عليه ..
أثاره الفضول ليعرف كيف استطاع مالك خلال تلك الفترة القصيرة أن يحقق كل تلك النجاحات في عمله ليتمكن من شراء فيلا كهذه ، ويؤسس شركة مميزة بدأ اسمها في الظهور بقوة في الأوساط التجارية ..
كانت إيثار قد أخبرته من قبل عن عملها معه كمربية لطفلته الصغيرة ، لكنها لم تخبره عن أي تفاصيل تخص حياته الشخصية ..
قطع تفكيره المتعمق صوت مالك الرخيم وهو يقول :
-سوري على التأخير
نهض عمرو واقفاً من مكانه ، ومد يده ليصافحه ، لكنه تجاهله عمداً ، ونظر له شزراً ، ثم حل زرار سترته وجلس ببرود على الأريكة ..
شعر عمرو بالحرج الشديد ، وكور يده الممدودة إليه ، ثم أبعدها بخزي ..
أشـــار له مالك بعينيه ليجلس ، فتمالك الأخير أعصابه كي لا يثور ..
عليه أن يتعامل بهدوء معه حتى يحقق مبتغاه ..
وضع مالك ساقاً فوق الأخـــرى ، وانتصب في جلسته ، وســأله بجمود وعينيه مسلطتين عليه :
-خير !
تنحنح عمرو بصوت خفيض ، ثم رسم ابتسامة واثقة على ثغره وهو يقول بحذر :
-أنا .. أنا كنت جاي النهاردة عشان آآ..
قاطعه مالك قائلاً بجدية آمرة :
-خش في الموضوع على طول ، أنا معنديش وقت أضيعه !
اكتسى وجه عمرو بحمرة واضحة ، وبدت عروقه في البروز .. ولكنه استنذف كل طاقاته في السيطرة على انفعالاته .. ورد عليه بهدوء حذر :
-أنا عاوز أخطب روان !
أنزل مالك ساقه ، ونظر له بإستهزاء قبل أن يسأله ببرود :
-وايه اللي يخليني أوافق عليك إنت بالذات !
ازدرد عمرو ريقه بصعوبة ، وشعر بالإهانة الصريحة في عبارته الأخيرة .. وتشدق قائلاً بثبات :
-لأني .. بأحبها
قهقه مالك عالياً ليستفزه أكثر ، ثم أشـــار له بإصبعه وهو يرد بتهكم :
-إنت .. بتحب ! لأ حقيقي نكتة ظريفة
احتقن وجه عمرو بالدماء الغاضبة ، وانفعل قائلاً :
-أنا مش جاي أقول نكت هنا
تجهم وجــــه مالك فجـــأة ، وقست تعابيره ، واحتدت نظراته وهو يقول بصوت قاتم :
-وأنا مش موافق على طلبك !
انقبض قلب عمرو بشدة ، وشعر بأن روحه على وشك أن تنتزع منه .. فتساءل بنزق محاولاً فهم سبب الرفض وإن كان يعرفه مسبقاً :
-ممكن أعرف ليه ؟
التوى ثغر مالك بتهكم شديد ، وأجابه بجفاء :
-أكيد إنت شايف المستوى اللي اختي عايشة فيه الوقتي ، إزاي عاوزني أرضى أجوزها واحد زيك فقير محلتوش حاجة !
ابتلع عمرو الإهانة ، ودافع عن نفسه قائلاً بقوة :
-الفلوس مش كل حاجة ، وأنا قادر أعيشها في مستوى معقول يكفيها ويخليها مستورة !
ضحك مالك مستهزئاً به.. ثم رد عليه بسخط ونظراتها الإحتقارية مسلطة عليه :
-إنت اللي بتقول كده ، طب ما هو زمان أنا كنت قصادك ، والفلوس كانت عندك كل حاجة ، ولا .. ولا نسيت يا أستاذ عمرو .. !
أظلم وجه عمرو بشدة ، وتلونت عيناه بحمرة متعصبة .. فقد كان مالك على حق .. هو بالفعل أهانه بالماضي ، وحقر من شــأنه ، بل إنه تعمد جرحه ليشعره بدونيته .. واليوم يرد له الصاع صاعين فلماذا يتعجب .. فهذا ما جنته يداه !
استرخى مالك في جلسته ، وأكمل حديثه بسخرية مريرة :
-حقيقي سبحان الله ،الزمن فعلاً بيعيد نفسه ! مين يصدق إن عمرو بيه بغروره وعنجهيته يقعد النهاردة قصادي يطلب ايد أختي ، لأ ومستني مني أوافق عليه !
لم يستطع عمرو تحمل المزيد من التجريحات والإهانات ، فهب واقفاً ، وصاح محتجاً بعصبية وهو يشير بإصبعه في وجهه :
-انا مش عاوز اهانة لو سمحت ، أنا جاي اطلبها وآآآ...
انتفض مالك هو الأخـــر من مكانه ، وصـــاح به بإنفعال مقاطعاً إياه وقد برزت عيناه بشراسة مخيفة :
-ما انت أهنتني في بيتك ، مستغرب ليه من طريقتي معاك في التعامل ، ولا هو كان حلال ليك زمان وحرام عليا الوقتي !!!
هدر فيه عمرو متساءلاً بصوت غاضب :
-انت بتردهالي يعني ؟!!
رد عليه مالك بقسوة وهو يرمقه بنظرات حادة :
-احسبها زي ما انت عاوز .. بس أخر حاجة ممكن اقولهالك ، إن الزمن بيتغير ، وزي ما جيت عليا وظلمتني ، أنا كمان هاجي عليك وأوي كمان ..
أمسك بطرفي سترته ، ثم زررهما معاً ، وتابع بقسوة أشد :
-اتفضل من غير مطرود .. وقتك خلص !!
بدى وجه عمرو كأنه على وشك الإنفجــــار.. وكز على أسنانه بقوة كادت أن تحطمها ، ثم انصرف غاضباً من أمامه وهو يشعر بمدى الإهانة التي طالته اليوم منه ...
تابعت روان من أعلى الدرج ما دار بينهما بقلب مفطور ..
هزت رأسها مستنكرة ، وكتمت شهقاتها بصعوبة .. ثم ركضت مسرعة إلى غرفتها وهي تكاد تزعم أن روحها قد جرحت هي الأخـــرى معه و بضراوة ...............
تابعووووووني
تكملة الفصل الثلاثون حتى الفصل الثاني والثلاثون والاخير من هنا
رواية زواج لدقائق معدودة كامله من هنا
رواية خيانة الوعد كامله من هنا
رواية الطفله والوحش كامله من هنا
رواية جحيم الغيره كامله من هنا
رواية مابين الضلوع كامله من هنا
رواية سيطرة ناعمه كامله من هنا
رواية يتيمه في قبضة صعيدي كامله من هنا
الروايات الكامله والحصريه بدون لينكات من هنا
إللي خلص القراءه يدخل هيلاقي كل الروايات اللي بيدور عليها من هنا 👇 ❤️ 👇
❤️🌺🌹❤️🌺❤️🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹🛺🛺🛺🛺🛺
الصفحه الرئيسيه للروايات الجديده من هنا
جميع الروايات الحصريه والكامله من هنا
انضموا معنا علي قناتنا بها جميع الروايات على تليجرام من هنا
❤️🌺🌹❤️🌺❤️🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹🛺🛺🛺🛺🛺
تعليقات
إرسال تعليق