رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل الرابع بقلم فاطمه علي محمد
![]() |
غادرت دار الإفتاء المصرية بغير هدى تاركة العنان لأقدامها التي كانت تقودها نحو اللاشيء حتى وجدت ذاتها تجلس بأحد الأرائك الخرسانية بتلك الحديقة العامة وعبراتها تذرف آخر ما تبقى بها من قطرات، لترفع رأسها إلى السماء مناجية ربها بأنين أحرق روحها الثكلى :
- يا رب لو بتعاقبني على ذنب عملته في حياتي سامحني عليه يا رب واغفره أنا معتش قادرة أتحمل عقاب أكتر من كده.. يا رب سامحني واغفرلي خطيئتي يا رب كان غصب عني.. يا رب أنا طاقتي في الاحتمال خلصت خليك معايا .. يا رب نجيني من الجاي وقويني عليه عشان خاطر أمي اللي مش هتتحمل تشوفني منهارة تاني.. يا رب افتح لي كل باب مقفول مش عايزة أضيع تاني.. يا رب عوضني خير عن كل وجع عشته.
وتنهدت "ميان" بحسرة وألم وهي تتضرع بدعائها سرًا حتى هدأت روحها بسكينة وسلام أثلج قلبها وأخذ بها من ضيق النفس إلى سعة رحمته، لتطوف المكان حولها بعينها الزائغة فوجدت الشمس قد شارفت على المغيب مودعة يوم آخر مؤلم بحياتها، فربما تشرق غدًا بسعادة تغمر قلبها وتطيب لها نفسها.
**********
كانت "ميرڨت" بحالة يرثى لها فمنذ أن غادرت ابنتها ظهرًا وهي تأكل الأرض إيابًا وذهابًا داعية المولى أن يفك كربها ويحفظها من كل سوء، حتى محاولة الاتصال الوحيدة التي أجرتها لهاتفها باءت بالفشل بعدما وجدته يصدح بغرفتها. تارة تجلس على الأريكة للحظات قليلة وتارات أخرى تراقب الطريق من شرفتها فيزيد توترها حينما لا تجد أثرًا يدل عليها.
أخيرًا جلست على الأريكة لدقائق بعدما حل بها التعب، وهي تردد بخوف وفزع :
- يا ترى انتِ فين يا بنتي وإيه اللي صابك ووصلك للحالة دي بعد ما هديتي وإيه الورقة اللي كانت في ايدك دي؟
ليتسلل إلى مسامعها صوت تحريك مفتاح بباب الشقة تلاه ولوج "ميان" التي وبالرغم من شحوب وجهها زينت وجهها بابتسامة خفيفة مطمئنة لوالدتها. نهضت "ميرڨت" بتعثر شديد كاد أن تطرحها ارضًا لتركض نحوها "ميان" متشبثة بيدها وهي تردد بلهفة وخوف :
- اهدي يا حبيبتي أنا بخير.
- فين الخير ده يا بنتي وانتِ بالمنظر ده؟!
كلمات قذفتها "ميرڨت" بإسراع مرتبك وهي تطوف معالم ابنتها التي دنت من رأسها تلثمها بهدوء مستنشقة الأمان بعبقها متنهدة براحة وهي تجلس جوارها بابتسامة لم تصل إلى أحداقها قط، مرددة :
- الحمد لله يا حبيبتي والله أنا كويسة وأحسن من الصبح بكتير كمان.
ربتت "ميرڨت" على يد "ميان" بحنو بالغ وهو تردد باستجداء :
- طب قوليلي كنتِ فين كل ده؟ وإيه الورقة اللي بدلت حالك دي؟
تنهدت "ميان" بهدوء لاهية بمفتاحها الذي مازالت تتشبث به وهي تردد بجمود حاولت أن تتحلى به :
- ورقة طلاقي يا ماما "مُهاب" طلقني.
شهقة قوية تحررت من جوف "ميرڨت" مصاحبة للطمة أقوى على صدرها وهي تهتف بفزع :
- طلقك طب ليه؟! ده عمل كل اللي هو عايزه.
حركت "ميان" رأسها بخفوت وهي تغمغم ببعض الرضا :
- يمكن ده أحسن ليا يا ماما عشان أقدر أكمل حياتي وأنا حرة ومحدش له سلطة عليا.
- بس يا بنتي..
قاطعتها "ميان" بثبات مرددة :
- من غير بس يا ماما مش هيكون أغلى من ابني اللي اتحرمت منه.
ربتت "ميرڨت" على كتف ابنتها بحنو وهي تردد بتضرع :
- ربنا يصبر قلبك يا بنتي ويجمعك بيه على خير يارب عاجلًا غير آجل.
مسدت "ميان" يد والدتها برفق مغمغمة برجاء :
- يا رب يا ماما.. يا رب.
ليصدح رنين ناقوس الباب، فتهم "ميان" بالنهوض إلا أن يد "ميرڨت" التي رببت على ساقها أوقفتها، قبل أن تردد بابتسامة :
- خليكِ انتِ يا بنتي وأنا هشوف مين.
أومأت "ميان" برأسها بإنهاك قوي ونهضت "ميرڨت" نحو الباب تفتحه لتجد من يطل عليها بابتسامة واسعة مرددًا باعتذار :
- أنا أسف يا هانم إني جيت بدون ميعاد بس أنا فعلًا محتاج أقابل أستاذة "ميان" ضروري.
حركت "ميرڨت" رأسها بنفي وابتسامتها البشوشة تزين ثغرها مرددة :
- مفيش حاجة يا ابني بس أقولها مين؟
اتسعت ابتسامة "ياسر" وهو يردد باختصار كاشفًا عن هويته :
- "ياسر دويدار" مدير أعمال "يامن دويدار".
اتسعت ابتسامة "ميرڨت" هي الأخرى لتتنحى جانبًا سامحة له بالمرور وهي تشير بيدها نحو الداخل مرددة بحفاوة : - أهلًا وسهلًا بيك يا ابني اتفضل.
ولج "ياسر" إلى الداخل طارقًا رأسه لأسفل بتقدير وهو يردد بمودة : - أهلًا بحضرتك يا أمي.
أوصدت "ميرڨت" الباب وقادته نحو غرفة صالون كلاسيكية بثريتها النحاسية المدلاة من سقف متوسط الارتفاع، متناسقة مع ذلك الصالون المُطعم بألوان ذهبية تناسقت مع طلاء الحوائط البني الفاتح.
ولج" ياسر" إلى الغرفة واحتل أريكتها بهدوء وهو يثني على حُسن ضيافة "ميرڨت" التي أجابته بجميل حديثها :- نورت يا ابني ثواني وأنادي "ميان" بس الأول تحب تشرب إيه؟
أجابها "ياسر" براحة نفسية : - أستأذنك في فنجان قهوة مظبوط يا أمي محتاجها جدًا.
أومأت له "ميرڨت" وهي تردد بود : - عيوني.. بعد إذنك.
وغادرت متجهة نحو ابنتها التي لاحظت ولوج "ياسر" إلا أن حالتها لم تسمح لها باستكشاف هويته، لتردد بسعادة : - ده "ياسر دويدار" مدير أعمال المطرب "يامن دويدار" وعايز يشوفك.
جعدت "ميان" معالم وجهها بدهشة واستنكار وهي تردد : - يشوفني!.. طب ليه؟
- مش وقت أسئلة دلوقتي قومي اغسلي وشك وحطي فيه شوية ميكب وادخلي للراجل على ما أعمله قهوة.
زفرت "ميان" بضيق وهي تنهض من مجلسها مرددة بإرهاق : - تمام.. هغسل وشي وأجيلكم.
واتجهت نحو غرفتها، بينما خطت "ميرڨت" نحو المطبخ تعد القهوة لتلجا سويًا بعد دقائق قليلة إلى الصالون، فنهض "ياسر" من مجلسه برقي وتقدير وهو يجيب تحية "ميان" التي أشارت نحو مقعده ثانية وهي تجلس بالمقعد المقابل له :
- نورت يا أستاذ "ياسر".. اتفضل ارتاح واشرب قهوتك.
جلس "ياسر" ثانية وهو يردد بابتسامة موجهة إلى "ميرڨت": - تسلم إيدك يا هانم تعبتك معايا.
وحاد بأنظاره نحو "ميان" بعدما تناول احدى رشفات فنجانه : - هدخل في الموضوع على طول "يامن" شاف الفيلم القصير بتاعك وعجبه شغلك جدًا وعايزك تشتغلي معاه في ألبومه الجديد.
واستطرد متذكرًا : - ألف مبروك على الجايزة حقيقي تستاهليها عن جدارة.
ضيقت "ميرڨت" عينيها مستنكرة وهي تردد بتعجب :
- جايزة إيه؟ وفيلم إيه؟! .. أنا مش فاهمة حاجة.
تنهدت "ميان" بأسى متذكرة جهدها المبذول في هذا الفيلم وتقديمه للمهرجان تحت اسم مستعار واعتذارها عن حضور التكريم الذي بُلغت به خوفًا من رد فعل "مُهاب" حيالها، لتغمغم بثبات فشلت في التحلي به :
- ده فيلم قصير كنت عاملاه وأنا في أمريكا يا ماما، والحمد لله أخد الجايزة الأولى.
هبت "ميرڨت" من مقعدها بسعادة غامرة، لتضم ابنتها إلى صدرها بقوة وهي تردد بفرحة أربكت أحرفها :
- ألف مبروك يا حبيبتي فرحتيني قوي ربنا يسعد قلبك يا رب.
حمحمت "ميان" بخجل من وجود "ياسر" الذي كان يتابعهما بابتسامة واسعة، لتغمغم بخفوت :
- الله يبارك في حضرتك يا ماما بعدين بقا.
التفتت "ميرڨت" برأسها نحو "ياسر" وهي تردد باعتذار رافقته سعادتها :
- معلش يا أستاذ "ياسر" انت ما تعرفش "ميان" كان كل حلمها إنها توصل للجايزة دي.
أومأ "ياسر" برأسه وهو يُوالي فنجان قهوته بالرشفات الهادئة، لتردد "ميان" بابتسامة خفيفة :
- اتفضلي أقعدي يا ماما.
جلست "ميرڨت" وتبعتها "ميان" بالجلوس، وكان "ياسر" قد أنهى قهوته، لتغمغم الثانية بثبات قوي :
- أنا أسفة يا أستاذ "ياسر" نفسيًا مش مستعدة لشغل زي ده دلوقتي.
هتفت "ميرڨت" بصدمة : - ليه كده بس يا بنتي؟!
- معلش يا ماما سبيني براحتي.
تلفظت بها "ميان" قبل أن يتنهد "ياسر" بهدوء مغمغمًا : - حقك طبعًا ترفضي الشغل ومحدش فينا يقدر يجبرك على حاجة بس أنا ليا رجاء شخصي.
حركت "ميان" رأسها بتأييد وهي تردد بود:
- أكيد طبعًا.. اتفضل.
شبك "ياسر" أصابع يديه مستندًا بمرفقيه أعلى فخديه وهو يميل للأمام بجذعه مرددًا :
- دلوقتي أنا اللي كان مطلوب مني إني أوصللك بأي طريقة وأتواصل معاكِ بأي شكل وأبلغك برغبتنا في الشغل مع حضرتك وكمان أقابلك بـ "يامن".
أبدت "ميان" كثير من الاهتمام وهي تتابع حديث "ياسر" الذي استطرد :
- لكن للأسف لو أي جزء من الكلام ده ما حصلش أنا ممكن أتضر وكمان ممكن أتطرد من شغلي وأعتقد حضرتك ما ترضليش الأذى.
جعدت "ميان" قسماتها بدهشة واستنكار وهي تردد:
- أعتقد إن حضرتك قبل ما تكون مدير أعمال "يامن دويدار" فأنت أخوه.
حرك "ياسر" رأسه بنفي وهو يمط فمه بأسف مغمغمًا :
- "يامن دويدار" ما يعرفش أبوه في الشغل وأي حد ممكن يوقف مسيرته أو يعطلها للحظة بيشطبه من حياته من غير ما يرف له جفن.
تضاعفت صدمة "ميان" وامتعاضها وهي تهتف مستنكرة: - ده إيه الافترا ده؟! هو عايز يمشي الكون على مزاجه ولا إيه؟
- بيحب شغله وعايز كله حاجة فيه تكون مظبوطة بالميللي.
قالها "ياسر" ونهض من مقعده يناولها بطاقة أعمال مرددًا :
- ده الكارت بتاع "يامن" فيه عنوان المكتب وكل أرقامه حتى الرقم الشخصي ممكن أستأذنك تروحي المكتب بكرا ولو حابه تعتذري و ما تشتغليش معاه ده قرارك بس على الأقل أكون انجزت مهمتي على الوجه الأكمل.
تناولت "ميان" البطاقة منه بضيق جلي من هذا اليامن وهي تردف بجدية :
- تمام يا أستاذ "ياسر" مهمتك انتهت لحد هنا والباقي بقا مهمتي أنا.
غادر "ياسر" رافعًا رايات النصر بعدما حقق هدفه، تاركًا خلفه بركان أوشك على لفظ حممه.
**********
بغرفة "آدم"، كان "يامن" يصل المحلول الغذائي بجسد صغيره وهو يحادثه مبتسمًا :
- انت تعرف إنك وحشتني قوي أنا والله بحاول على قد ما أقدر أخلص شغلي وأجيلك على طول فسامحني لو اتأخرت عليك من غير ما أقصد.
أنهى "يامن" ما بيده واستدار يتفحص معدلات صغيره الحيوية ومؤشراتها من الأجهزة الموصولة به، لينتفض جسده بصدمة حينما وجد هبوط مؤشرات النبض بالجهاز. ركض نحو الطاولة المرفق أعلاها جواله، والتقطه برجفة تملكت من سائر أوصاله مهاتفًا الطبيب الخاص بصغيره وهو يصرخ :
- "آدم".. "آدم" يا دكتور نبضه ضعيف قوي أرجوك تيجي بسرعة.
وألقى جواله أرضًا، ليقترب من تخت صغيره واضعًا أذنه أعلى صدره الساكن يتسمع إلى دقات قلبه الخافتة بإمعان وتركيز قوي، لينهض بجذعه قليلًا وهو يمسد على خصلات شعره مردفًا باستجداء :
- اجمد يا "آدم".. عشان خاطر أبوك اتحمل شوية كمان اوعى تسيبني أنا عايش عشانك "آدم".. يا ابني.
دقائق مضت على "يامن" كدهرٍ قاسٍ، مضاها ما بين مراقبة مؤشرات نبض صغيره على شاشات الأجهزة، وبين تسمعها بإنصات بأذنيه، وبين دعم صغيره وتوسله إليه بالتشبث بالحياة حتى ولج الطبيب رفقة "هيلدا" التي انهمرت عبراتها بألم لحال الصغير ووالده، ليركض إليهما "يامن" جاذبًا يد الطبيب نحو صغيره وهو يهتف بتوسل :
- الحقه يا دكتور أرجوك.
كانت أنظار الطبيب معلقة بشاشات الأجهزة وهو يضع حقيبته الطبية أعلى الطاولة، ليفتحها متناولًا منها عقارًا طبيًا منشطًا لعضلة القلب، وبدأ سحبه بمحقن بلاستيكي، ليحقن به الوريد المتصل بالقلب وهو يردد بثبات :
- اطمن يا أستاذ "يامن" إن شاء الله هيكون بخير.
انزلق "يامن" أرضًا منكمشًا إلى جوار الحائط البارد كبرودة قلبه الذي أوشك على التوقف حتى أنهى الطبيب عمله واستدار بكامل جسده نحو "يامن" الذي بات كطفلٍ مذعور من مواجهة وحش كاسر أصبح واجب عليه مواجهته، وردد بشفقة وعطف :
- ما تقلقش نص ساعة بإذن الله والحالة هتستقر أكتر.
كانت أحداقه متعلقة بمؤشرات الأجهزة بجمود وثبات قويين، انحسر عالمه فقط عليها بنبضات أوشكت على الصراخ من قوة فزعها.
ثلاثون دقيقة مضت ما بين الحياة والموت، أنفاس تشتعل وتخمد بتابين قوي، جسد تيبس وشحب كأجساد الموتى، فقط أعين من زجاج فاقدة لمعالم الحياة، أخيرًا ما دبت بها ثانية وهو يرمق استقرار المؤشرات عند الحد الطبيعي، ليهب من مجلسه بقوة أتته من حيث لا يعلم متجهًا صوب صغيره وهو يتنفس متلاقطًا أنفاسه التي كاد أن يفقدها ليربت الطبيب على كتفه بدعم ومؤازرة مغمغمًا :
- اهدى يا "يامن"، قلبك بالشكل ده مش هيتحمل انت محمله فوق طاقته.
لم يأتيه جواب من "يامن" إلا حينما أخبره بضرورة التحدث معه بالخارج، ليردد بانكسار :
- عارف هتقول إيه يا دكتور بس ده ابني ومش هسيبه يروح مني طول ما فيه روح.
طأطأ الطبيب رأسه وهو يربت على كتف "يامن" قبل أن يغادر الغرفة رفقة "هيلدا" تاركًا خلفه "يامن" الذي أطلق لعبراته العنان في البوح عن ضعفه الذي يحاول دائمًا أن يئده بين ثنايا قلبه.
*************
لابد لكل عتمة أن تنقشع، وكل ثائر أن يذعن، وكل همٍ أن ينجلي، هذا وعد ربي.
أشرقت شمس يوم جديد على "يامن" لتصقله بنورها الكاشف لنفوس سكنتها العتمة. تململ بالمقعد المواجه لفراش صغيره بألم صارخ من تيبس جسده، ليحاول أن يلينه ببعض الحركات التلقائية بمط ظهره للخلف، كذلك ذراعيه وتحريك عنقه يمينًا ويسارًا وهو يميل بجذعه نحو صغيره ممسدًا خصلات رأسه بحنو وعطف. تفحص مؤشرات الأجهزة، ليجد "هيلدا" تلج إليهما بابتسامة خفيفة مرددةً :
- صباح الخير سيدي.
استدار "يامن" بكامل جسده نحوها وهو يردد بابتسامة أكثر ودًا :
- صباح الخير "هيلدا" أنا هروح المكتب ومش هتأخر اوعي تسيبي "آدم" لحظة واحدة ولو حصل أي حاجة اتصلي بيا على طول وهتلاقيني عندك.
أومأت "هيلدا" برأسها وهي تتجه نحو تخت "آدم" تتفحصه مرددة بمحبة :
- لا تقلق سيدي سأهتم بالأمر.
ربت "يامن" على كتفها برفق مرددًا بعرفان :
- شكرًا على كل حاجة "هيلدا"..زي ما اتفقنا.
أومأت "هيلدا" برأسها بتأييد، بينما غادر "يامن" إلى غرفته للاستعداد ليوم جديد.
**********
بغرفة الطعام بشقة "ياسر"، كان يحتل مقدمة الطاولة وإلى يمناه كانت تجلس "سومية" وإلى يسراه كانا "يامن" و "چوليا" يتهامسان بخفوت :
- لازم يعني موضوع الفطار الجماعي ده كل يوم الصبح؟
قالتها "چوليا" بتذمر ممتعض، ليجاوبها "يامن" هامسًا بتهكم ساخر :
- ولازم يعني تقوليلي نفس الكلمتين دول كل يوم الصبح؟
ليردد "ياسر" بجدية وهو يلوك طعامه بهدوء :
- أعتقد إن الأكل له احترامه فياريت بلاش كلام جانبي على الأقل ولو حد عنده أي كلام يقوله بصوت عالي.
تناولت "سومية" مشروبها الصباحي وهي تردد بجدية متهكمة :
- أكيد برنسس "چوليا" معترضة على موضة الفطار العائلي البلدي دي.
ابتسمت "چوليا" ابتسامة مزيفة وهي تتناول قطعة خبز :
- لأ طبعًا يا مامي، ده أجمل وقت وأنا بفطر معاكم بس ياريت نبقى نعزم أنكل "يامن".
- عمو يا "چوليا" أنكل دي نقولها للغريب يا حبيبتي.
قالتها "سومية" وهي تناولها طبق الجبن الذي تناولته "چوليا" مرددة بأسف :
- سوري مامي، نسيت.
أومأت "سومية" برأسها مبتسمة بمحبة، والتفتت نحو "ياسر" مرددة بتساؤل :
- عملت إيه في موضوع المخرجة اللي "يامن" عايزها؟
تناول "ياسر" قهوته الصباحية من يد العاملة وهو يرسل لها ابتسامة ودودة، ملتفتًا نحو زوجته مرددًا بهدوء :
- قابلتها إمبارح والمفروض ميعادها كمان ساعة.
- ودي ست كبيرة ولا بنت صغيرة؟
قالتها "سومية" بفضول الأنثى وغيرة الزوجة، ليجاوبها "ياسر" بلامبالاة :
- أعتقد إنها في أواخر العشرينات تقريبًا أو بداية التلاتينات بالكتير يعني.
أثارت دقته تلك غيرة "سومية" وأشعلتها، لتحمحم بحنق ساخط فشلت في إخفائه وهي تردد:
- ودي قابلتها فين بقا؟
- في البيت.
تفوه بها "ياسر" بعفوية تامة، لتهب "سومية" من مقعدها بغضب عارم وهي تُلقي منشفتها هاتفة باستنكار:
- روحت بيتها؟! و يا ترى الهانم كانت لوحدها ولا معاها جوزها.
رفع "ياسر" أنظاره بصدمة من حالتها هذه، وهتف مرددًا وهو يرتشف آخر رشفات فنجان قهوته :
- أنا ما شوفتش جوزها..
لم تمهله الوقت الكافي لإتمام جملته، لتصيح به بغضب أكثر ثورة :
- وانت إزاي تدخل بيت واحدة ست وجوزها مش فيه؟
نهض "ياسر" من مقعده بهدوء مقررًا العبث بأوتار قلبها المشتعل غيرة وغضب، ليقترب من وجنتها دامغًا بها قبلة سريعة، وهو يردد :
- ده شغل يا "سومي"، خليكِ عملية أكتر من كده يا بيبي.
وما إن أولاها ظهره حتى ارتسمت ابتسامة عاشقة بثغره، فمعشوقته مازالت الغيرة تشعل فؤادها وتهلكه، ليسرع بُخطاه مغادرًا المكان وسط صيحات "سومية" الساخطة والتي قررت أن تتقصى حقائق تلك المخرجة الفذة.
************
بغرفة نوم "ميان"، تململت بهدوء إثر همس والدتها بأحرف اسمها بخفوت، لتفتح نصف عينها بإرهاق شديد فهذا النوم اللعين قرر مصالحتها منذ ساعة واحدة فقط، لتهمس بحشرجة من أثر السهاد :
- صباح الخير يا ماما.. فيه حاجة يا حبيبتي؟!
انفرجت ابتسامة رضا بوجه "ميرڨت" وهي تردد :
- صباح الفل يا قلب ماما قومي يلا يا حبيبتي عشان ميعادك مع "يامن دويدار".
تجعدت معالم وجه "ميان" وهي تسحب الدثار فوقها مرددة بحنق:
- مش رايحة لحد يا ماما سيبيني أكمل نوم لو سمحتِ.
نزعت "ميرڨت" عنها الدثار وهي تردد بحزن :
- طب عشان خاطر الراجل اللي جالنا لحد هنا وعشان خاطر عيشه اللي ممكن يتقطع بعدم مرواحك ده.
تنهدت "ميان" بضيق وهي تفرك وجهها مرددة باستنكار :
- يقطع عيش مين يا ماما؟!.. ده أخوه يا حبيبتي يعني عمره ما يعمل معاه كده.
اتجهت "ميرڨت" نحو شرفة الغرفة تفتحها أذنة لضوء الشمس أن يقتحمها بقوة وهي تردد مستديرة نحو ابنتها : - بس أنا حاسة إن الراجل ده بيقول الحقيقة ما هو فيه ناس كده في شغلها فعلًا ما تعرفش أبوها.
وضعت "ميان" يدها على أعينها بتذمر حاجبة عنهما ضوء الشمس، وهي تهتف :
- اقفلي الشباك ده لو سمحتي يا ماما.
خطت "ميرڨت" نحو خزانة ثياب ابنتها تنتقي منها فستانًا ورديًا أنيقًا بأكتاف عريضة رفعته أمام أعينها تتفحصه وهي تردد بإعجاب:
- حلو قوي الفستان ده يا "ميان" أظن إن جه وقته النهاردة.
وضعته بطرف الفراش وهي تنمق معه حقيبة يد وحذاء ذو كعب عالٍ مستطردة بحديثها :
- الانطباع الأول يدوم كثيرًا فلازم "يامن دويدار" يعرف هو هيشتغل مع مين.
ارتفعت "ميان" بجذعها مستندة على ظهر التخت وهي تراقب والدتها بدهشة واستنكار مرددة :
- بتعملي إيه يا ماما أنا مش رايحة في حتة وبفرض إني روحت فمش هلبس فستان أصلًا.
جلست "ميرڨت" بطرف الفراش إلى جوارها مائلة بجذعها نحو طاولة صغيرة تلتقط من أعلاها صينية محملة ببعض الفطائر وكوب من العصير الطازج، لتضعها أمام ابنتها مرددة بجدية:
- افطري الأول وبعدين نشوف موضوع اللبس ده.
اتسعت عينا "ميان" دهشة من أفعال والدتها، فهي لم تكن يومًا بهذا الحماس، لتهتف مستنكرة :
- إيه ده يا ماما؟!.. فطار في السرير ومن غير ما أغسل وشي ولا أسناني.
التقطت "ميرڨت" أحد الفطائر بيد وباليد الأخرى كأس العصير تقربه من فم ابنتها مرددة بجدية :
- انتِ لسه نايمة من ساعة أنا شايفاكِ وانتِ بتصلي الفجر افطري بقا وقومي اجهزي لشغلك وابدئي حياة جديدة بتاعتك انتِ وباختيارك انتِ.
ارتشفت "ميان" رشفة من العصير تلتها قضمة من الفطيرة وهي تردد بابتسامة متصنعة :
- أهو قولتي باختيار مش باختيار "يامن دويدار".
أكملت "ميرڨت" إطعام ابنتها وهي تردد بلامبالاة :
- البدايات ما تفرقش معايا أهم شيء النتايج والنتيجة بتقول إنك هتحققي حلمك وهتشتغلي في مجال دراستك قومي يلا بقا.
تنهدت "ميان" بقلة حيلة واستسلام، ونفضت عنها الدثار كاملًا، لتنهض من فراشها متجهة نحو خزانتها تنتقي منها ما يناسبها بتلك المرحلة.
********
أحد دور الأيتام ، صف "يامن" سيارته جانبًا وغادرها نازعًا عنه نظارته الشمسية، ليجد الأطفال تركض نحوه مهللين بسعادة غامرة، فهذا هو موعد زيارته الشهرية لهم . فتح "يامن" الباب الخلفي لسيارة الدفع الرباعي خاصته، وبدأ بتوزيع الهدايا على الجميع بابتسامة سعادة قليلًا ما يحياها.
دقائق قليلة وانتهى من توزيع الهدايا وانصرفت عنه الأطفال إلى حديقة الدار تلهو وتلعب بألعابها، لتأتيه مديرة الدار بابتسامة امتنان وعرفان واسعة وهي تردد : - حضرتك ما تعرفش الأطفال بتستنا اليوم ده إزاي من الشهر للشهر ربنا يطمن قلبك ويكرمك زي ما بتكرمهم يا رب.
أخرج "يامن" مظروفًا منتفخًا بكثير من الورقات المالية من سيارته وناولها إياه مرددًا :
- اتفضلي وأنا أسف لو خليتهم ينتظروا وياريت لو الدار ناقصها أي حاجة تبلغيني على طول.
تناولت مديرة الدار الستينية البشوشة المظروف منه بخجل دفين وهي تطوف المكان حولها بأعين تلتمع بها الفرحة مرددة :
- حضرتك شايف المكان حواليك وصل لإيه..ده بقا جنة بفضل مجهودك ومساعدتك للدار.
تنهد "يامن" براحة كبيرة قبل أن يردد برضا :
- كل ده بفضل ربنا وكرمه.. معلش أنا مضطر أمشي بس أكيد هرجع لهم تاني عشان نلعب ونغني سوا.
أومأت له المديرة برأسها وهي تردد بابتسامة:
- إن شاء الله اتفضل حضرتك.
اتجه "يامن" إلى مقعد القيادة بسيارته وانطلق بها متجهًا إلى مكتبه.
********
بمكتب "يامن دويدار"، ولجت إليه "ميان" بهيئتها الشبابية الحديثة سروال جينز أرزق ، وقميص قطني (تيشيرت) وردي اللون تتوسطه احدى زهرات التوليب الأبيض، عاقصة شعرها بعشوائية زادتها جاذبية وأنوثة رغم حذائها الرياضي الوردي الذي تنتعله، ليقابلها أحد عاملي المكتب بابتسامة بشوشة وهو يردد :
- أقدر أساعدك إزاي يا فندم؟
بادلته "ميان" ابتسامة خفيفة وهي تردد بثبات :
- عندي ميعاد مع "يامن دويدار" يا ريت تبلغه إن "ميان العشري" موجودة.
أشار الشاب نحو أحد المقاعد وهو يردد بعملية :
- اتفضلي حضرتك ارتاحي على ما مستر "يامن" يوصل بالسلامة.
رفعت "ميان" أحد حاجبيها بسخط وهي ترمق احدى الساعات الحائطية المزينة لجدار المكتب إلى جوار ساعات أُخر بتوقيتات بلدان مختلفة يعتلي اسمها كل ساعة منهن مرددة بسخرية:
- يعني حضرته محدد الميعاد عشان يتأخر عليه؟!
واستدارت مغادرة وهي تُكمل حديثها :
- ابقا قوله يا ريت يلتزم بمواعيده .
ليدوي صوت رخيم أمامها بكبرياء غلف كل حرف ترنم به :
- أعتقد اني ما حددتش توقيت بعينه.
رفعت أنظارها نحوه بسخط تضاعفت حدته فبدلًا من الاعتذار منها تنكر من خطأه، لتتجعد معالمها بطفولية لم تفقدها رغم شحوب وجهها التي لم تكترث حتى لإخفائه ببعض مستحضرات التجميل، وهي تردد بتهكم مبطن :
- وأنا أعتقد إني جاية عشان أعتذر منك وأبلغك عدم رغبتي في الشغل معاك.
وضع كلا كفيه في جيبي سرواله بثبات وتعالٍ وهو يمط فمه بلامبالاة، بينما خطت هي نحوه في محاولة للمرور إلى باب المكتب إلا أنه كان سدًا منيعًا بينها وبين هذا، لتهتف به بحدة غير مبررة :
- الطريق لو سمحت.
تنحى "يامن" جانبًا وهو يرمقها بدهشة تنافي جموده الخارجي، لتعبر هي إلى الباب، فتستوقفها نبرته المتهكمة : - ده مش غريب على واحدة اتخبت ورا اسم مستعار.
اشتعل غضبها وتأججت نيرانه بأوردتها، لتستدير نحوه صائحة به بحدة أكبر : - وانت مالك أتخبى أظهر انت مالك؟!
رفع "يامن" كلا حاجبيه بتهكم، وهو يردد بسخرية تشعل أحرفه :
- الظاهر إني غلطت نفس غلطة لجنة تقييم المهرجان لما اختارنا مخرجة جبانة زيك.
وأنهى كلماته بخُطى ثقيلة دوت دقاتها بمسامع تلك التي نُزع فتيل انفجارها، لتتبعه مهرولة إلى الداخل بخطى غاضبة وهي تصرخ به :
- مين دي اللي جبانة يا أستاذ انت؟.. ومين أصلًا إداك الحق إنك تتكلم معايا بالأسلوب ده؟!
جذب "يامن" مقعده البني المتحرك للخلف واحتله بثبات قوي واضعًا ساق فوق الأخرى أسفل ذلك المكتب الزجاجي الكبير وهو يجذب حاسوبه النقال نحوه دون الاكتراث لوجودها من الأساس ، لتستشيط غضبًا من تجاهله هذا لها وتطرق سطح المكتب بيديها بقوة دوى معها صوت انكسار مدمر.
دمتم في أمان الله وحفظه.
تعليقات
إرسال تعليق