رواية لاأصطفي بالحب غيرك الفصل الخامس بقلم فاطمه علي محمد
![]() |
دوى صوت ارتطام قوي وتناثرت شظايا البلور بأرجاء المكتب بقوة مُفزعة وأذي محقق، لولا حماية "يامن" لوجهه بمرفقه لكان لحق بيد "ميان" التي سالت دماؤها بغزارة وسط صرخاتها وتأوهها القوي الذي امتزج بنحيبها الشديد.
دفع "يامن" مقعده للخلف بتلقائية قبل أن يهب واقفًا بلهفة وفزع متخطيًا ذلك الحُطام حتى بات يفصله عنها بضع إنشات وهو يهتف بها في محاولة فاشلة لتهدئة روعها :
- وريني إيدك واهدي.
رفعت يدها نحوه بفزع من هيئة الزجاج المنغرس بها، ليلتقطها هو برفق محاولًا نزع الشظايا عنها، فتعالا صراخها الذي تعالت معه حدة توتره. طوف "يامن" المكان بأحداقٍ هلعة، ليرمق باب مرحاضه الخاص والذي يحوي صندوق إسعافات أولية، فترك يدها برفق راكضًا نحو الداخل باحثًا عما يريد من ضمادات ومعقم وملقط لاستخراج تلك الشظايا.
عاد إليها مهرولًا، ليجد جسدها قد تضاعفت رجفته بقوة تتناسب مع حجم نحيبها بشكل طردي، وذلك الشاب الذي استقبلها يقف بباب الغرفة وعلامات الصدمة والذهول قد سكنت قسماته. قبضة قوية اعتصرت قلب "يامن" ربما من مشهد دمائها النازفة، وربما من هيئتها الفزعة، ليصرخ بفتاه صارمًا :
- هات عصير بسرعة.
غادر الشاب، بينما التقط "يامن" يدها بيدٍ متيبسة، مرتبكة وأجلسها على الأريكة برفق مجففًا دمائها السائلة بقطعة من القطن بحذر شديد، لتظهر أمامه قطع البلور بوضوح أكبر فيلتقط الملقط ويبدأ في نزعها بحرص شديد وسط نحيبها وسعالها المستمر اللذان اربكاه واتلفا ما تبقى به من أعصاب.
بعد محاولات عدة قد نجح "يامن" في تنظيف جُرحها وتعقيمه، وتضميده، ليتنهد براحة كبيرة لم تستمر طويلًا حينما رمق أعينها التي أُسبلت بإعياء شديد فقدت على إثره وعيها.
في تلك الأثناء كانت "سومية" قد ولجت إلى المكتب مطوفة فراغه وصمته المطبق بأعين مستنكرة، لتمط فمها بدهشة محدثة نفسها :
- أومال الناس اللي هنا فين؟
ورفعت أكتفاها بلامبالاة خاطية بخطى واسعة نحو غرفة المكتب الخاص بـ "يامن" لتتسع عيناها صدمة حينما وجدت تلك الفتاة مُسجاة على الأريكة مغشيًا عليها و "يامن" واقفًا إلى جوارها بنظرات فزع وهلع لم تلمحهما به من قبل، لتهتف بذعر هي الأخرى:
- فـ إيه يا "يامن"؟! .. مين دي؟
كغريق وجد طوق نجاة، التفت "يامن" نحوها وهو يهتف مستجديًا :
- الحقيها يا "سومية"، البنت مغمى عليها.
ركضت "سومية" نحوها بلهفة وهي تصيح به بقوة :
- ناولني برفيوم بسرعة يا "يامن".
التقط "يامن" زجاجة العطر خاصته من الرف الزجاجي المجاور لمرآته الجانبية بالمكتب وناولها إياها بارتباك وهو يغمغم بخوف:
- اتفضلي.
تناولتها منه "سومية" وبدأت بنثر ذراتها بالقرب من أنف "ميان" التي وما إن استنشقته حتى تململت بإعياء شديد ومعالم مجعدة بألم قوي، وهي تتمتم بأحرف غير مفهومة، لتهتف "سومية" بلهفة اقوى :
- أهي بدأت تفوق أهي.
بينما كان "يامن" ينصت لغمغمتها بإمعان شديد وهو يردد متسائلًا : - هي بتقول إيه؟
التفتت نحوه "سومية" باستنكار وهو تهتف به :
- و ده وقته يا "يامن"؟
حدقها "يامن" بحنق ومن ثم أعرض عنها بوجهه، ليجد ذلك الشاب قد أتى بالمشروب فخطى نحوه بخطى واسعة والتقطه منه صارخًا به بغضب :
- لسه فاكر؟.
ازدرد الشاب ريقه وهو يردف بخفوت :
- أنا أسف يا فندم، بس ما كنش عندنا عصير.
لوح له "يامن" بيده بلامبالاة كإذن بالانصراف، ليركض الشاب مهرولًا إلى الخارج، بينما التفت هو نحو "سومية" يناولها المشروب مرددًا بهدوء حاول أن يتحلى به :
- شربيها العصير ده.
كانت "ميان" قد استعادت كامل وعيها، لتجد "سومية" أمامها محدقة بها بقوة، فهَمّت بالاعتدال جالسة وهي تغمغم : - أنا فين؟
ساعدتها "سومية" في الجلوس واضعة أحد الوسائد خلف ظهرها وهي تردد بنبرة حاولت أن تبث بها بعض الاطمئنان لقلبها :
- ما تخافيش انتِ هنا في مكتب "يامن دويدار" وأنا "سومية" مرات أخوه "ياسر دويدار".
رفعت "ميان" أنظارها نحو "يامن" الذي تجلد بملامح القوة والجمود، لتنهض واقفة وهي تستند على يدها المضمدة بدون قصد، فتجعدت معالمها بألم حاولت كثيرًا وئد صرخاته، إلا أنها فشلت بوئد تأثيره عليها الذي ظهر بترنحها الملحوظ واختلال توازنها، لتتشبث بها "سومية" وهي تُعيد إجلاسها ثانية مرددة :
- مش هينفع تمشي وانتِ بالشكل.
- عايزة أروح.
قالتها "ميان" بوهن شديد وهي تدلك رأسها براحتها برفق علها تنزع عنها الدوران هذا، بينما ناولتها "سومية" المشروب مردفةً :
- طب اشربي العصير ده الأول وأنا هوصلك بنفسي لحد البيت.
حركت "ميان" رأسها بنفي هامسة :
- مش عايزة حاجة أنا عايزة أروح.
تنهدت "سومية" باستسلام وقلة حيلة وهي تردد بهدوء :
- أوك قومي معايا أنا هوصلك.
نهضت "ميان" بوهن متشبثة بيد "سومية" التي رمقت "يامن" المراقب لهذا المشهد بثبات وجمود قوي، لتردد بود اخوي :
- أنا هوصلها يا "يامن".
أومأ "يامن" برأسه بهدوء متحاشيًا النظر لـ "ميان"، وهو يتنحى جانبًا سامحًا لهما بالمرور.
*******
بأحد المطاعم النيلية، كانت "صافي" تحتل إحدى الطاولات الجانبية وحدها ترتشف قهوتها المصاحبة لإحدى سجائرها الرفيعة وهي تشرد بصفحة مياه النيل أمامها والذي داعبت تياراته الهوائية خصلاتها الشقراء لتجمعها خلف أذنها بهدوء؛ حتى قطع شرودها هذا من اقتحم خلوتها ساحبًا المقعد المقابل لها للخلف ومحتله بزفرة حارة قوية وهو يردد بنبرة محتدة بعض الشيء :
- عايزة إيه تاني يا "صافي"؟
عادت من شرودها هذا لتلتفت نحوه بابتسامة لامبالية واسعة وهي تردد متهكمة :
- صباح النور يا "ياسر".
أتاه النادل لتلبيه أمره، إلا أنه أشار له برأسه أن لا، وعاد بأنظاره تانية نحو "صافي" التي اتخذت البرود وشاحًا لها ، مرددًا بنفس حدته ومتجاهلًا تحيتها المتهكمة :
- مش فاهم ليه أصريتِ إنك تقابليني مع إني قولتلك إني مش هقدر أساعدك أكتر من كده.
نفثت "صافي" دخان سيجارتها بالهواء وقد بدأ الغضب يسري بأوردتها، داوية أصداؤه في نبرتها المستنكرة :
- ساعدتني!.. هي فين مساعدتك دي؟
انتصب "ياسر" بجسده ومال نحوها بغضب أوشك على إعلان راياته مرددًا بحروف ثقيلة:
- إن أجيب سيرتك قدام "يامن" ده في حد ذاته مجازفة خطيرة وإن أديكي خط سيره وأسهلك دخول مكتبه ومقابلته دي حاجة عمرك ما كنتِ تحلمي بيها أصلًا.
- وكانت النتيجة إيه؟
هتفت بها "صافي" بغضب وهي تميل نحوه بجذعها مستندة بمرفقيها على حافة الطاولة، ليجاوبها "ياسر" بنبرة تفوقت على نبرتها غضبًا :
- مش بتاعي دي.. وأعتقد إن بعد اللي عملتيه معاه أصلًا مجرد إنه يشوف وشك قدامه ويفضل بالهدوء ده، مكسب ليكِ.
هتفت "صافي" بسخرية أقوى : - مكسب إيه اللي بتتكلم عنه ده؟!
واستطردت بنبرة ساخطة، متوعدة:
- ده ذلني وأهاني بس وحياة ابني لأردهاله.
تعالت ضحكات "ياسر" الساخرة وهو يهتف بتقطع من إثرها:
- ابنك!.. انتِ لسه فاكرة إنك ليكِ ابن؟
كورت "صافي" قبضتها بقوة، لتضرب بها سطح الطاولة صارخة بغضب دون الاكتراث لمن حولها :
- "ياسر".
تهادت ضحكاته تدريجيًا، وتجعدت خطوط جبينه بغضب وهو يردد بتحذير رافعًا أحد حاجبيه :
- إوعي تفكري ترفعي صوتك عليا مرة تانية وإلا قسمًا بربي ما هعمل حساب إنك كنتي مرات أخويا في يوم من الأيام ولا حتى هعمل حساب إنك ست.
ارتبكت "صافي" للحظات قليلة، لتعاود تمسكها بزمام أمورها ثانية وهي تردد بلامبالاة :
- مش جديدة عليكم طول عمركم ما بتعرفوش تتعاملوا مع سيدات المجتمع الراقي.
هبَّ "ياسر" من مقعده ونيران غضبه قد تطايرت كنيران سيجارتها التي أعقبتها للسابقة، وهو يشير بسبابته نحوها محذرًا :
- أنا لما ساعدتك كان عشان دموع التماسيح اللي ضحكتِ عليا بيها وقولتيلي إن قلبك موجوع على ابنك ونفسك تشوفيه إنما تقلي أدبك هتشوفي وش "ياسر" اللي ما بيعرفش يتعامل مع ستات أصلًا.
واستدار مغادرًا بخطى واسعة، ليستوقفه صوتها الصارم :
- تفتكر "يامن دويدار" لو شاف ورقة زي دي هيعمل إيه؟
التفت "ياسر" نحوها ثانية مطوفًا تلك الورقة التي وجهتها نحوه ممسكة بطرفيها بكلتا يديها وهي تبتسم ابتسامة نصر حينما حدقت معالم وجهه المرتبكة ببعض الذعر الذي توهج بأحداقه.
********
صفت "سومية" سيارتها أمام بناية "ميرڨت" وهي تردد بابتسامة ودودة :
- حمد الله على سلامتك يا قمر.
التفتت نحوها "ميان" بجذعها بعدما استعادت بعض من حيويتها وهي تردد بشكر وعرفان :
- الله يسلمك..أنا حقيقي مش عارفة أشكرك ولا أرد جميلك ده إزاي.
اعتدلت "سومية" بمقعدها حتى أصبحت مواجهة لها وهي تردد بعتاب ولوم : - كده هزعل منك على فكرة.. إحنا مش بقينا أصحاب؟
اتسعت ابتسامة "ميان"، وهي تردد بسعادة :
- اكيد طبعًا.. ده شرف ليا يا ريت تنوريني وتشربي معانا القهوة، وأهو كمان أعرفك على ماما.
اتسعت ابتسامة "سومية" فهي لم تنس مهمتها بعد، لتهتف بتلقائية قبل أن تغادر سيارتها :
- طبعًا.. انتِ لو ما كنتيش قولتي أنا كنت عزمت نفسي على فنجان القهوة ده أصلًا.
وغادرتا سويًا السيارة بينما كانت "ميرڨت" تُغلق موقدها تحت آنية طعامها بحماسة مرددة :
- كده بقا عملت كل الأكل اللي "ميان" بتحبه.
ورفعت أنظارها نحو بارئها متضرعة بأكف الدعاء :
- يا رب اجعل التوفيق حليفها.. يا رب افتح لها كل أبواب الرزق والسعادة.. يا رب عوضها خير عن كل اللي شافته في حياتها.
لتجد نداء ابنتها يقطع دعائها هذا، فتركت مطبخها متجهة نحوها وهي تردد بحنو :
- أنا هنا يا قلب ماما.
تفاجأت "ميرڨت" بوجود احداهن، لتتسع ابتسامتها الحافية وهي تردد :
- أهلا بيكِ يا بنتي.
سكينة آمنة سرت بأوردة "سومية" ارتسمت دلالاتها بقسمات وجهها وهي ترمقها منتظرة انتهاء "ميان" من الإفصاح عن شخصيتها:
- أستاذة "سومية" يا ماما مرات أستاذ "ياسر دويدار".
اتجهت "ميرڨت" نحو "سومية" بترحاب أقوى وهي تصافحها مرددة :
- نورتي البيت يا بنتي.. أستاذ "ياسر" ونعم الناس كلها.
بادلتها "سومية" الحفاوة وهي تردد بسعادة :
- منور بحضرتك و بـ "ميان" يا طنط.
أشارت "ميرڨت" نحو الداخل مرددة :
- اتفضلي يا بنتي ادخلي.
ولجت "ميان"، وتبعتها "سومية" متعقبة خطاها وهي تردد بمشاكسة :
- أنا عزمت نفسي عندكم على فنجان قهوة يا طنط.
ربتت "ميرڨت" على كتف "سومية" مرددة :
- عيونا ليكِ طبعًا يا حبيبتي .. بس نخالي القهوة دي بعد الغدا بقا.
ارتسمت الدهشة على قسمات" سومية" وهي تردد معارضة:
- غدا إيه يا طنط بس!.
هتفت "ميرڨت" بصرامة وهي تغادر نحو المطبخ :
- حصلوني على المطبخ يا بنات عشان نغرف الأكل.
تعالت ضحكات "ميان" وهي تضع حقيبة يدها أعلى الطاولة مرددة :
- ده فرمان سلطاني مفهوش معارضة.
فتعالت ضحكات "سومية" هي الأخرى قبل أن تردد بمشاكسة:
- أحلي فرمان ده ولا إيه.
وتبعت الفتيات "ميرڨت" إلى المطبخ لتجهيز الطعام وتناوله وسط جو من الألفة والسعادة الغامرة.
*******
بأحد المكاتب الخاصة بأحد وكيلي التطبيقات الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، جلست "چوليا" أمام إحدى الفتيات التي تكبرها بعشرة أعوام على التقدير الأقصى، والتي من معالمها الظاهرية يبدو عليها التحرر النوعي بملابسها الفاضحة، ومستحضراتها التجميلية الصارخة، وخصلاتها المجعدة، وذلك الحلق الذي يتوسط أنفها المدبب، والتي رددت بهدوء :
- ده كل اللي مطلوب منك.. تفتحي لايف ساعة واحدة في اليوم تردي فيه على كل أسئلة متابعينك اللي هما فوق الاثنين مليون فولور.
هتفت "چوليا" بسعادة لحالة النشوى والتعالي التي تعتريها : - اتنين مليون و٣٠٠ ألف فولور.
انفرجت ابتسامة خفيفة من ثغر تلك الفتاة وهي تردد بمكر :
- بكرا يوصلوا خمسة مليون فولور بس ده كله بشطارتك وتفاعلك مع الجمهور.
هتفت "چوليا" بحماسة قوية :
- بكرا الوطن العربي كله يحلف بشهرة "چوليا دويدار".
- اتسعت تلك الابتسامة التهكمية الماكرة بثغر الفتاة وهي تردد بخبث دفين ينافي قناع المودة الذي ترتديه :
- أكيد.
**********
أسدل الليل أستاره مُعلنًا سكون قلوب وثورتها، فأحيانًا كان الملاذ الآمن لبعض النفوس، وأحيانًا أخرى كان ملتقى الهموم وأنينها.
بغرفة "ياسر" كان مسترخيًا بأريكته شاردًا فيما كلفته به "صافي"، وبتلك الورقة التي استخدمتها كوسيلة ضغط وتهديد له، فما العمل للفرار من هذا المصير؟ وتلك المواجهة التي وإن أُجلت لبعض الوقت فلن تُمحي أو تُختزل في موقف عابر.
لتلقي "سومية" بجسدها بين ذراعيه وهي تدلك كلا يديها ببعضها البعض مغلغلة ذلك المرطب ببشرتها الرقيقة وهي تردد بسعادة مسترسلة :
- ناس تدخل القلب على طول.. ولا طنط "ميرڨت" دي حاجة كده ما بقتش موجودة في الزمن ده تحسها بتوزع أمومة مجانية على كل الناس وتتعامل معاهم كأنها تعرفهم من سنين... أنا حبيتهم قوي و "ميان" بقت صاحبتي خلاص.
استرسلت في حديثها تروي تفاصيل وقتها معهن دون إبداء أي ردة فعل أو تفاعل من هذا الشارد فيما هو آت، لتلكزه بخصره بمرفقها هاتفة باستنكار :
- "ياسر".. انت سايبني ساعة بكلم نفسي.
انتشلته لكزتها من دوامات أفكاره، لينفض رأسه بهدوء مرددًا بابتسامة خفيفة :
- معاكِ يا حبيبتي.
خرجت من أحضانه بتذمر تبتعد عنه قليلًا وعلامات السخط كانت تكسو ملامحها مرددة بلوم :
- معايا فين ده؟ أراهنك لو عرفت أنا كنت بتكلم على إيه أصلًا.
جذبها "ياسر" إلى صدره ثانية وهو يدمغ قبلته الحانية برأسها مرددًا بهدوء:
- معلش يا حبيبتي عندي شوية حاجات كده في الشغل واخدة كل تفكيري.
حاوطت "سومية" خصره بذراعيها وهي تدفن رأسها بين ثنايا صدره بقوة متسمعة دقات قلبه الهادرة، لتردد بعشق جارف:
- طب شاركني همومك وأنا لو مقدرتش أساعدك في الحل ههونها عليك.
شدد من احتضانه لها بقوة وهو يقبل رأسها ثانية هامسًا :
- ربنا يخليكِ ليا يا "سومي".. بس ما تقلقيش يا حبيبتي مفيش مشاكل ولا حاجة دي شوية تعاقدات جديدة عاوز أعملها لحفلات ألبوم "يامن".
ابتعدت عنه "سومية" ثانية وهي تهتف بتذكر ضاربة جبينها بكفها :
- "يامن".. تصدق نسيت أطمنه على "ميان".
وهبت من مقعدها وهي تلتقط هاتفها، لتجد يد معشوقها تتعلق بها وهو يردد مستنكرًا :
- مالها "ميان"؟!
استدارت بكامل جسدها نحوه مرددة بأسي :
- إزاز مكتب "يامن" انكسر كله النهاردة وجرح إيد البنت وكانت تعبانة جدًا وأنا وصلتها لحد بيتها.. هروح أطمن عليها وأطمن "يامن" وأرجعلك على طول.
*********
بينما كانت "ميان" ممددة بفراشها وهي تستند بظهرها على وسادتها وحاسوبها النقال أعلى فخذيها تطالع به بعض أغنيات "يامن دويدار" المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي والحاصدة لمئات الملايين من المشاهدات بأعين خبيرة متفحصة لجودة إخراجها وبعض القصور الغير ملحوظ بها، صدح جوالها برنينه الاعتيادي وتوهجت شاشته باسم "سومية".
ضغطت "ميان" زر الإيقاف لحاسوبها وهي تلتقط هاتفها ضاغطة زر الإجابة مرددة بابتسامة غلفت أحرف كلماتها:
- ألو.
أتاها صوت "سومية" المشاكس : - إيه يا بنتي الرقة دي؟!.
شاب الخجل ابتسامتها وهي تردد مغيرة مجري الحديث : - إيه الأخبار؟
تنهدت "سومية" بمكر وهي تردد بمشاكستها التي لم تفارقها بعد : - تمام قوي وزي الفل والياسمين كمان.. المهم إنتِ عاملة إيه؟ وإيدك عاملة إيه دلوقتي؟
رفعت "ميان" يدها أمامها تتفحص ضمادها وهي تردد بامتنان : - كويسة الحمد لله، عقمتها تاني واطمنت على الجرح.
تنهدت "سومية" براحة قائلة :
- طب الحمد لله إني اطمنت عليكِ هروح اطمن على "يامن" هو كمان.
قطبت "ميان" جبينها بدهشة واستنكار وهي تردد :
- ماله؟!
تنهدت "سومية" بأسي تجاوبها :
- الإزاز وقع على رجله واتخيطت أربع غرز.
غصة قوية سكنت حلقها فاحتجزت الكلمات وأحرفها، ليحل السكون بخلاياها للحظات هتفت خلالها "سومية" باسمها عدة مرات:
- "ميان"... "ميان".. روحتي فين يا بنتي؟
أخيرًا تغلبت "ميان" على غصتها بمجهودٍ مضنٍ وهي تجاوبها بشجن تمكن من أحرفها :
- معاكِ يا حبيبتي بس الشبكة عندي بتقطع.
أردفت "سومية" بثبات:
- تمام يا قلبي سلمي على طنط "ميرڨت"... سلام.
أدنت "ميان" هاتفها تضعه إلى جوارها بشرود لائم محادثة ذاتها بجلد لها :
- ارتحتي كده؟ عشان تفرغي طاقة غضب عندك تأذي واحد مالوش أي ذنب.. عشان قابلتي في حياتك كام خاين تكوني متحفزة لكل اللي يقابلك؟ "يامن" مالوش ذنب ولا أذاكِ في أي حاجة.. لازم تعتذري له وتعوضيه عن التكسير اللي عملتيه ده.
والتفتت نحو المنضدة الجانبية لفراشها ملتقطة بطاقة أعماله وهاتفها، لتبدأ بتدون رقمه الشخصي به، وهمت بإجراء الاتصال به بتردد كبير، لتتراجع عن هذا القرار باللحظة الأخيرة وهي تهتف بعناد قوي :
- مش متصلة بحد..هو اللي استفزني وقال عليا جبانة، يستاهل بقا كل اللي جراله.
*******
بغرفة "آدم"، كان "يامن" يجلس على المقعد المجاور له متكأً بذقنه على يده الموضوع بطرف الحاجز المعدني المحاوط لفراش صغيره ممعنًا النظر إليه وهو يخاطبه بجدية :
- ينفع كده اللي حصل لأبوك النهارده يا سي "آدم"؟ واحدة مجنونة ضربت إزاز المكتب ونزلته متكسر على رجله وأخد فيها أربع غرز.. عارف لولا إنها مبدعة بجد وفكرها مختلف وبعيد عن التقليدية اللي الكل بقى يستسهلها كنت حبستها النهارده.. بس للأسف أنا محتاجها معايا في الألبوم ده.
ليدوي أزيز اهتزاز هاتفه أعلى المنضدة جواره برقم أظهرته خاصية المتصل الصحيح باسم "ميان العشري". حدقه "يامن" بلامبالاة وهو يعاود النظر نحو صغيره مرددًا : - ده وقتك انت وممنوع أي حد يتطفل عليه أو يقتحمه.
انتهى أزيز الهاتف، ليبتسم "يامن" ابتسامة خفيفة وهو يستطرد حديثه :
- قولتلي بقا كنا بنقول إيه يا سي "آدم"؟
واسترسل "يامن" بالحديث مع صغيره حول نشاطه اليومي وخططه المستقبلية لعمله الذي بات يشكل كامل حياته إلى جوار صغيره.
**********
بغرفة "چوليا" ذات الطابع الشبابي المجنون فصور عارضات الازياء التي كانت تملئ حوائطها وأبواب خزانتها الكبيرة، حتى سطح مكتبها الأبيض المجاور لتختها الكبير وأريكته الوثيرة ، كانت ترتدي ثيابها وتبدلها عشرات المرات أمام مرآتها لانتقاء أكثرهم إظهارًا لأنوثتها البكر استعدادًا لأول لقاء لها على الهواء مباشرة مع متابعيها على ذلك التطبيق.
******
بينما في ولاية نيوچيرسي بساعات النهار الأولى لديهم لفرق التوقيت بينها وبين مصر ، كان "مُهاب" كعادته الدائمة يتنقل من أحضان غانية لأحضان أخرى حتى عقله المغيب لم يستعيده إلا سويعات قليلة بالنهار أثناء وجوده بالمحكمة، بينما كان "چاد" كمًا مهملًا، وكيفًا مفقودًا، فلا يكترث بوجوده أحد، طعامه وإن تناوله كان بقايا مُقبلات والده التي كانت تزين طاولته إلى جوار زجاجات الخمور الفارغة. ولجت إحدى غانيات والده إلى المرحاض للاغتسال لتجده جسدًا مُلقى بأرضيته وعلامات الحرارة المرتفعة تظهر جليًا على معالم جسده المرتجف بقوة، وشفاهه التي قاربت من الاسوداد التام، لتتنحى جانبًا صارخة بإنجليزية أمريكية:
- "مو" تعالى إلى هنا.
كان مُهاب بغرفته يُكمل ارتداء ثيابه حينما أتاه نداء صديقته الأمريكية ، ليركض نحوها مهرولًا بتساؤل :
- نعم "كـِ".
التصقت بباب المرحاض مُشيرة نحو جسد "چاد" بسبابتها دون التفوه بحرف واحد، ليحيد عنها "مُهاب" بأنظاره قاصدًا تلك النقطة التي تقصدها بإشارتها. استقرت أنظاره على جسد صغيره، فسرت بأوصاله رجفة قوية دنا على إثرها أرضًا وهو يجتس نبضه الخافت، ليتحفز جسده وتنفر جميع عروقه وهو يحمله بين ذراعيه راكضًا إلى أقرب مشفى، بينما أكملت غانيته اغتسالها وارتدت ثيابها مغادرة الشقة إلى عالمها الفاسد دون الاكتراث لكل ما حدث .
*********
حلّت ساعات الليل وانقضت ليبزغ نور فجر جديد انتفض معه جسد "ميان" المرتجف بصرخة دوت أصدائها بغرفة نومها. صدرها يعلو ويهبط بقوة، أنفاسها لاهثة كأنها بسباق ركض أولمبي، حبيبات العرق تسري بكامل جسدها، لتعتصر قلبها قبضة قوية بدأت معها "ميان" الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وضعت يدها فوق مضختها الهائجة بقوة علّها تهدأ من روعها وهي تتلو بعض آيات الذكر الحكيم، إلا أن روحها معلقة بمكان آخر تجهل عنه أي شيء، ونهضت من فراشها بفزع مغادرة غرفتها إلى المرحاض كي تتبرد من نيران ذعرها، لتصادف والدتها بالرواق المؤدي إلى المرحاض إلا أنها لم تلتفت إليها ، بل أنها لم ترمقها من الأساس فجميع حواسها توقفت تقريبًا عن الإدراك.
تعجبت "ميرڨت" من حال ابنتها هذا، لتهتف باسمها مستنكرة :
- "ميان".
إلا أنها كانت قد ولجت إلى المرحاض و أوصدته خلفها بهدوء مستندة عليه بكامل جسدها، لتنهمر عبراتها بقوة غير مبررة، عبرات انزلق معها جسدها إلي أرضية المرحاض، لتتعالى شهقاتها تدريجيًا وهي تهمس بحروف اسم صغيرها :
- "چاد".. يا ابني.
تسلل صوتها إلى مسامع والدتها لتركض نحو الباب طارقة إياه بلهفة خالطت خوفها وفزعها وهي تهتف بتوسل :
- "ميان" افتحي يا بنتي.. "ميان".
كانت شهقات "ميان" المتصاعدة هي الجواب، ومناجاتها المتضرعة هي الطاعة.
********
بمشفى المدينة بنيوچيرسي، غادر الطبيب غرفة الرعاية المركزة متجهًا صوب "مُهاب" المستند بظهره على ذلك الحائط البارد والذي يتفوق على برودة قلبه بفارق يكاد يكون ملحوظًا، مردفًا بإنجليزية صارمة :
- الحالة في غاية الخطورة فالصغير معه التهاب شديد بالرئتين إلى جانب ضغط دمه المنخفض، بينما استطعنا أن نسيطر على درجة حرارته ونوصلها إلى حدها الطبيعي.. نتمنى من الله أن تنقضي الساعات القليلة القادمة على خير وإلا إمكانية فقداننا للصغير قد تكون أكيده.
أومأ "مُهاب" برأسه ممتنًا للطبيب وهو يرمق صغيره المسجى بفراش المشفى عبر ذلك الحد الزجاجي الفاصل بينهما، والذي اتجه إليه بعدما غادر الطبيب لاستكمال باقي مهمته الإنسانية.
فرك "مُهاب" رأسه ووجهه بقوة زافرًا زفرة حانقة وهو يردد باستياء :
- أنا إيه اللي عملته في نفسي ده؟ يعني عشان أذلها أشيل نفسي هم طفل صغير! زمانها في مصر دلوقتي عايشة حياتها على كيفها، لا راجل يتحكم فيها ولا عيل يتعلق بيها.
وشرد بهيئة ابنه متنهدًا بفراغ صبر وغضب قد بدأ يتملك من أوردته.
*********
يتملك من أوردته.
*********
بصالة الألعاب الرياضية بڨيلا "يامن دويدار" كان يعتلي أحد أجهزتها الرياضية الذي يساعده على تقوية عضلات الصدر وتوسيع الرئتين للتنفس، وكانت آلام قدمه تصرخ بأنين فاضح، إلا أنه تجاهل كل هذا وأكمل نشاطه الرياضي اليومي والذي حُرم من بعضه بفضل جرح قدمه هذا، ليلج إليه "ياسر" بابتسامة جامدة تناقض ارتباكه الداخلي وتوتره وهو يخطو نحوه مرددًا :
- صباح الخير يا "يامن".
أوقف "يامن" حركته تدريجيًا؛ حتى توقف تمامًا وهو يحاول ضبط تنفسه بمهارة مرددًا :
- صباح الخير يا "ياسو" إيه الأخبار؟
جذب "ياسر" أحد المقاعد البلاستيكية واحتلته بثبات مرددًا بتقرير تلاه اقتراح :
- يومك فاضي النهارده معندناش أي ارتباطات.. إيه رأيك نروح النادي كلنا مع بعض؟ .
التقط "يامن" زجاجة مياه باردة وبدأ يرشف القليل منها بحرص وهو يردد محركًا رأسه بنفي:
- روحوا إنتوا أنا هقضي اليوم كله مع "آدم" .
ازدرد "ياسر" ريقه بارتباك فضحته تفاحة آدم خاصته وهو يردد :
- بس الولاد نفسهم يقضوا اليوم معاك النهارده يا ريت ما تكسفهمش.
تنهد "يامن" بهدوء رافق تفكيره العميق قبل أن يغمغم بموافقة :
- أوك.. نتغدا في النادي النهارده.
غازلت ابتسامة باهتة محياه وهو ينهض من مقعده مربتًا على كتف شقيقه قائلًا :
- تمام.. هتصل بـ "سومية" أخليها تجهز هي والولاد على ما أروح أجيبهم.
أومأ "يامن" له برأسه وهو يردد بثبات :
- أوك..وأنا هاخد شاور وأحصلكم على هناك.
وغادر "يامن" إلى غرفته يغتسل مستعدًا للذهاب إلى النادي الرياضي، بينما اتجه "ياسر" إلى سيارته واستقلها زافرًا زفرة حارة وهو يلتقط هاتفه مدونًا رسالة إلى "صافي" لإتمام الجزء الخاص بها في الاتفاق المبرم بينهما .
دمتم في آمان الله وحفظه
تعليقات
إرسال تعليق