رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل الثالث بقلم فاطمه علي محمد
![]() |
لم يُخْرج "يامن" من أفكاره المتلاطمة بصخور الذكريات القاسية إلا نبضات قلبه التي تستجدي بعض الصفح والغفران لها، فقد تجاوز مجهوده الحد الأقصى لقدرتها التحملية وقد أوشكت على الاستسلام لقدرها. فقد "يامن" قدرته على التحكم بعضلات ذراعيه، لتخور قواهما محررين أصفاد أثقاله ويخرا هما أيضًا أرضًا مُحدثين ضجة قوية جذبته لحاضره الذي أوشك على نبش قبور الماضي.
أرخى جميع خلايا جسده بالقوة الجبرية، ليمدد ذراعيه جانبًا وهو يلهث بقوة مفرطة في محاولة تنظيم أنفاسه وتهدئتها، محاولة كُللت بالنجاح بعد فترة تجاوزت العشر دقائق بقليل، ليهب بجذعه جالسًا وهو يضم ساقيه إلى صدره محاوطًا إياهما بساعديه بهدوء ينافي نيران غضبه التي تنهش حنايا صدره.
************
بغرفة متوسطة الحجم طغى عليها الطابع
الشبابي العصري بألوانها وأثاثها الداكن بألوان متداخلة، وحوائطها المزينة بصور لأبطال عالميين في الملاكمة كالبطل "محمد علي كلاي" ونجم كرة القدم المصري "محمد صلاح" وبعض المطربين الغربيين والعرب الشباب عدا "يامن دويدار"، كان هذا الشاب الصغير ذو الاثنى عشر عامًا بملامحه التي بدأت تترك منحناها الطفولي إلى منحنى أكثر رجولية وخشونة، بشعيرات شاربه ولحيته المتناثرة بتباعد وضعف اعتيادي لتلك الفترة من أعمار أبنائنا. خصلات شعره المهندمة، وسمرة بشرته، وهيئته الجسدية كانت الرابط المشترك بين "يامن" الصغير، و"يامن" الكبير ، أما ما تبقى من ملامح وجهه فكانت للبصمة الوراثية بـ "سومية" الأثر الكبير بيها، فلون الأعين، وشكل الأنف والفم صورة واحدة من نسختين متطابقتين.
جلس "يامن" والذي حظى بهذا الاسم تيمنًا باسم عمه نزولًا على رغبة "سومية" التي ترى به أخًا وسندًا لها، جلس يلهو بحاسوبه النقال واضعًا سماعات الرأس غائصًا في عالم من الأغاني الغربية حتى اقتحمت عليه شقيقته خلوته تلك بموجة من الفوضى العارمة وهي تصيح به مستنكرة :
- أخدت التيشيرت برضه يا "يامن"؟!
فوضتها لفتت انتباهه، بينما كلماتها بالنسبة له كانت بوضع الصامت، فلم يتسلل حرفًا واحدًا إلى مسامعه، ليمط فمه متعجبًا وهو يحرك رأسه قبل أن تنزع عنه "چوليا" السماعات صارخة بحنق ساخط :
- أخرج من قوقعتك دي شوية وحياة والدك ورد عليا.
نهض "يامن" من مقعده وهو يجذب منها سماعة رأسه بحنق مرددًا بهدوء :
- أفندم.. تحت أمرك يا "چوليا" هانم.
- التيشيرت اللي أنا أخدته منك، أخدته تاني ليه؟!
قالتها "چوليا" وهي تشهر سبابتها في وجهه باستنكار، ليأتيها جوابه الرصين :
- التيشيرت بتاعي وانتِ أختيه من دولابي من غير ما تستأذني وكمان إنتِ لسه ما لبستهوش، فطبيعي إني استرد حاجتي تاني.
عقدت "چوليا" جبينها بغضب وهي ترفع أحد حاجبيها هاتفةً:
- أفتكر إن التيشيرت ده أصلًا ما كنش عجبك ومن يوم ما عمو جابه وانت رميه في الدولاب.
جلس "يامن" على مقعده مسترخيًا وهو يستند بأحد ذراعيه على طرف المكتب وبالآخر على ظهر المقعد متنهدًا بهدوء غير مبالٍ:
- ودلوقتي عجبني وهلبسه النهارده وأنا خارج مع أصحابي.
احتلت الصدمة معالمها وهتفت مستنكرة برفض :
- إيه!.. لأ طبعًا مش هتلبسه النهارده.
- وليه بقا مش هعمل كده؟!
أردفها "يامن" بتهكم قبل أن يكمل بمكر :
- اديني سبب واحد وأنا أديهولك.
جلست "چوليا" بطرف الفراش مرددة بحماسة وهي تميل بجذعها إلى الأمام :
- عشان خارجة مع أصحابي دلوقتي وكنت مجهزة نفسي ومظبطة كل حاجة على أساس التيشيرت ده.
- ممم.. يعني مش عشان عمو "يامن" لسه منزل صورة بنفس التيشيرت على إنستجرام؟
تفوه بها "يامن" بسخرية، لتهتف به "چوليا" بنفي قطعي كاذب :
- لأ طبعًا.. أنا أصلًا ما فتحتش إنستجرام النهارده.
تيقن "يامن" من كذب شقيقته فهو يعلم جيدًا هوسها بشهرة عمها وشهرتها التي نالتها على مواقع التواصل الاجتماعي نسبة لصلة القرابة بينهما، وكذلك تكبرها وتعاليها على أصدقائها بسبب تلك الشهرة الزائفة.
نهض "يامن" من مقعده بهدوء وجلس إلى جوار شقيقته مربتًا على كتفها بود وهو يردد بفصاحة تجاوزت عمره الزمني بكثير :
- خليكِ نفسك يا "چولي".. عيشي نجاحك انتِ، خالي الناس تحبك عشان نفسك انتِ.. بلاش تعيشي وهم في رأسك انتِ بس.. الناس مش هتحبك عشان صورك اللي كلها شبه صور عمو "يامن"..المواقع اللي بتتكلم عليكِ دي بتحط المانشيت الرئيسي بتاعها قريبة "يامن دويدار" عمرهم ما قالوا "چوليا ياسر دويدار".. الناس اللي مصحباكِ دي مصحباكِ بس عشان تشوف عمو "يامن" من قريب... وهما برضه اللي لما تسيبيهم وتمشي بيتكلموا عليكِ وأنا سمعت ده بنفسي.
اشتعل غضبها، ونفضت يد شقيقها عنها قبل أن تهب من مجلسها وهي تهتف بحدة مُقاطعة إياه:
- كذب.. كل اللي بتقوله ده كذب وأنا هاخد التيشيرت وهخرج بيه وأنزل الصور على السوشيال ميديا كمان..هو فين؟
تنهد "يامن" بيأس من حال شقيقته، لينهض هو الآخر واضعًا سماعات رأسه مرددًا بلامبالاة :
- عندك في الدولاب خوديه.
انتعش أمل الانتصار بخلاياها، لتركض نحو خزانة شقيقها وتفتحها ملتقطة قميصه بابتسامة نصر.
************
بغرفة المعيشة ذات الطابع المريح للعين بألوانه الهادئة، وللجسد بأرائكه الوثيرة بشقة "ميرڨت" كانتا تجلسا سويًا على أحد الأرائك حينما تنهدت "ميرڨت" بصدمة وأسى وهي تُزيل دمعاتها العالقة بأهدابها مرددة بكلمات كبلها البكاء:
- كنتِ صابرة على كل ده يا بنتي؟!.. ليه ماقولتليش؟.. دا أنا أمك يعني كنت هساعدك وأقف جنبك أو على الأقل كنت هكلمه.
- تكلميه تقوليله إيه يا ماما؟ تقوليله لو ما اتصلحش حالك طلق بنتي.
وابتسمت ابتسامة تهكمية قبل أن تستطرد :
- على الأقل دلوقتي أنا لسه على ذمته وما أختش لقب مُطلقة للمرة الثانية.
كانت جملتها تلك خنجرًا مسنونًا يمزق نياط قلب والدتها، فالأم تتحمل كل شيء وإن كان فوق طاقتها، إلا أن ترى لمحة ذل وانكسار بأعين أبنائها، لتتنهد "ميرڨت" بقوة كثيرًا ما تحلت بها، ولما لا وهي من كانت تقود سفينتها بمفردها في محيط يعج بالقروش المفترسة والتي كانت تراها فريسة سائغة لهم كونها أنثي تربي صغيرتها ذات الخمسة أعوام لحالها منذ أن تركها زوجها وركض خلف نزواته وشهواته التي لم يرتوي منها إلا بقرار إلهي.
أعوام طويلة مضت لم تعلم عنه شيء إلا منذ تلك الشهور القليلة السابقة، حينما نقلت لها إحدى صديقاتها بإيطاليا خبر العثور على جثته بأحد الأزقة الضيقة، جثة تحللت وفاحت رائحتها التي دفعت سكان الحي إلى استقصاء الأمر والبحث بحوايا القمامة حولها، لتجده بالقرب من أحدها مسجي أرضًا بثياب بالية مهترئة وهيئة عشوائية رثة.
تنهدت "ميرڨت" بقوة وهي تضم ابنتها إلى صدرها بمحبة ودعم، مرددة بكبرياء وشموخ :
- عمري ما ربيتك على الخضوع والانكسار اللي في صوتك ده، كل اللي حصلك ده كان بقدر محسوب لا عمره هيكون عيب فيكِ ولا وصمة عار تعيشي بيها ولو على ابنك مصيره يكبر ويرجعلك وتاخديه في حضنك من جديد وعشان اللحظة دي لازم تقوي وتجمدي وتنجحي عشان يومها يفتخر بيكِ.
حاوطت "ميان" خصر والدتها بذراعيها مشددة من احتضانها علّها تستمد منها القوة وهي تستنشق عبقها الأمن مرددة بألم مُدمي :
- تعبت يا ماما وقلبي وجعني معتش هيقدر يستحمل وجع تاني.. طاقتي خلصت وحيلي اتهد، خايفة يجي اليوم وألاقي نفسي بطولي في الدنيا اللي مش هقدر أعيش فيها لوحدي، والله ما هقدر.
مسدت "ميرڨت" على ظهر ابنتها وهي تردد بثبات حاولت أن تتحلى به رغم احتراق روحها :
- سلامة قلبك من التعب يا قلبي .. ربنا يخليلك "چاد" وتفرحي بيه يا رب.
وأبعدتها عنها قليلًا برفق، مستطردة :
- لازم تقفي على حيلك من تاني إوعي تنكسري تاني مش هستحمل أشوف انهيارك تاني يا "ميان" وأهي جتلك الفرصة إنك تشتغلي على مشروعك وتحققي حلمك.
زفرت "ميان" زفرة قوية استقوت بها بعض الشيء وهي تردد بإصرار :
- لازم أكون حرة الأول .. عشان أوصل لحلمي وأحققه، لازم أوصل لحريتي دي وأخدها غصب عن أي حد.
ليدوي صوت ناقوس باب الشقة، فتزيل "ميان" ما تبقى من أثر لبكائها أعلى وجنتيها وهي تنهض واقفة قبل أن تخطو نحو باب الشقة مرددة بصوتٍ قوي :
- أيوه.
أدارت مقبض الباب بجمود حتى وجدت "سيد" أمامها بابتسامته البشوشة وهو يردد بسعادة :
- حمد الله على سلامتك يا ست "ميان" انتِ ما تعرفيش عملتي فينا إيه إمبارح ولا ست "ميرڨت" هانم اللي كانت هتموت قصادك.
انفرجت ابتسامة خفيفة بمعالمها وهي تردد بامتنان :
- الله يسلمك يا "سيد" وشكرًا ليك على مساعدتك لماما هي قالتلي على كل حاجة.
- مالوش لزوم الشكر يا ست "ميان"، ده ستر ربنا إني كنت طالع أقولك إني حاسبت التاكسي ومشيته، قامت ست "ميرڨت" هانم استنجدت بيا.
تنهدت "ميان" متذكرة أمر السيارة الأجرة لتستدير نحو (كونسول) جانبي لباب الشقة دائمًا ما تحتفظن ببعض النقود بأحد أدراجه. خطت نحوه جاذبة مقبضه بهدوء ملتقطة منه بعض الأوراق المالية فئة المئة جنيهًا مصريًا لتعود أدراجها نحو الباب مناولة "سيد" إياهم وهي تردد بامتنان وأسف :
- اتفضل الفلوس اللي دفعتها يا "سيد"، وأسفة والله إني اتأخرت عليك بس انت كنت شايف الظروف كانت عاملة إزاي.
حرك "سيد" رأسه بنفي مرددًا :
- لا والله يا ست "ميان" ما هاخد حاجة كفاية كرم ست "ميرڨت" هانم معايا.
ناولت "ميان" النقود ليد "سيد" وهي تردد بعرفان :
- ده حقك، وكتر ألف خيرك على وقفتك جنبنا.
تناول "سيد" النقود بخجل، ليستكشفها بطرف عينه بصدمة، فيناولها ثانية لـ "ميان" مرددًا :
- دي كتير قوي يا ست "ميان"، أنا مدفعتش ربعهم حتى.
رددت" ميان" بود :
- هات بالباقي حاجة حلوة للبنات وانت مروح.
خفض "سيد" يده بسعادة دفينة يزينها خجله المتوهج بقسمات وجهه ليتذكر أمر تلك الرسالة بيده فناولها إلى "ميان" مرددًا ببشاشة:
-بالحق... الجواب ده واحد سابه وقالي أسلمه لحضرتك يدًا بيد.
تناولت "ميان" منه الخطاب ذو الغلاف الأصفر الداكن وقلبته بيدها بدهشة وهي تعقد جبينها مرددة باستنكار :
- جواب إيه ده!.. ومين اللي سابهولك.
حرك "سيد" رأسه بنفي وهو يردد :
- مش عارف والله يا ست "ميان" واحد بيه جه من شوية سابهولي وقالي أسلمهولك.
أومأت "ميان" برأسها وهي تردد :
- تمام يا "سيد" كتر خيرك، تقدر تتفضل انت.
غادر "سيد" وأوصدت "ميان" الباب بهدوء مستندة بظهرها عليه وهي تمزق طرف المظروف بعلامات دهشة من توقيت إرساله، فمن علم بشأن عودتها ليرسل لها خطاب كهذا؟!
فضت محتوياته، فلم تجد سوى تلك الورقة الرسمية والمذيلة بأختام السفارة المصرية بالولايات المتحدة الأمريكية. رفعت أنظارها نحو مقدمة الرسالة لتتسع عيناها صدمة وتسقط مغشيًا عليها.
***************
أطلت شمس يوم جديد على قلوبٍ أهلكها الحزن والألم، أو ربما كانت شمسًا تُذيبه مُلاشية أبخرته بالهواء.
بأحد الأبنية الحديثة، تحديدًا شقة بطابقها الرابع أعدها "يامن" مسبقًا بمواد عازلة بحوائطها وأبوابها ونوافذها كي تكون (استديو) تسجيل خاص به. جلس أمام بعض الشاشات الإلكترونية يتابع آخر التعديلات النهائية بألبومه الغنائي قبل إصداره بأيام قليلة، ليجد باب الغرفة يندفع برفق كاشفًا عن ولوج "ياسر" عبره الذي جلس قُبالة شقيقه بمقعد جلدي بني اللونوهو يغمغم بابتسامة خجلة:
- صباح الخير يا حبيبي.
أجابه "يامن" بحماسة وود حقيقيين، فقد تخطى كل ما حدث وصبَّ كامل تركيزه واهتمامه بعمله فقط :
- صباح الفل يا "ياسو".. إيه الأخبار؟
بحماسته تلك نجح "يامن" في إذابة هذا العازل الجليدي بينه وبين شقيقه الذي اتسعت ابتسامته وهو يردد بسعادة :
- الأخبار زي الفل قدرنا نتعاقد على كل الحفلات الترويجية لألبومك عندنا جولة لست شهور هنلف فيها كل دول العالم تقريبًا.
حرك "يامن" مقعده الدوار بدوران خفيف وهو يردد بتركيز عملي:
- حلو قوي ده بس لازم تتعاقد مع طيارة خاصة عشان مجرد ما أخلص الحفلة أكون جاي لمصر.
- عملت كده فعلًا أنا عارف إنك ما بتحبش تبعد عن "آدم".
وأكمل "ياسر" بتذكر : - و"مصطفى" كمان خلص تجهيزات الحفل الخيري.
- تمام.
قالها "يامن" وهو يلهو بهاتفه مسترسلًا :
- بعتلك أكونت مخرجة موهوبة فازت بجايزة الفيلم القصير في مهرجان بأمريكا، عايزها تكون عندي على بكرا بالكتير.
تفقد "ياسر" رسالة شقيقه وهو يزوي ما بين حاجبيه بدهشة واستنكار مرددًا :
- دي حاطة nickname وصورة بوستر فيلمها!.. طب اسمها إيه طيب ولا حتى شكلها إيه؟ .
استرخى "يامن" بمقعده وهو يستند بذقنه على إبهامه مرددًا بلامبالاة :
- مش فارق معايا شكلها ولا حتى اسمها كل اللي فارقلي شغلها وزي ما قولتلك تكون عندي بكرا الصبح.
حرك "ياسر" رأسه بصدمة مرددًا :
- أنا معنديش أي معلومة عنها بالشكل ده هبقا زي اللي بيدور على إبرة في كومة أش.
استدار "يامن" بمقعده ضاغطًا زر إعادة التشغيل وهو يردد بعملية جادة :
- ده شغلك اللي بتقدر تعمله.
سحب "ياسر" نفسًا قويًا زفره وهو ينهض من مقعده مرددًا بجدية حازمة:
- بكرة الصبح هتكون عندك.
وغادر الغرفة تاركًا خلفه "يامن" المنغمس بعمله حد الانصهار.
********
بغرفة نوم "ميان"، كانت تجلس مستندة بظهرها على ظهر تختها وهي تضم كلتا ساقيها إلى صدرها محتضنة إياهما بذراعيها قابضة على تلك الورقة بجمود شاردة باللاشيء أمامها بشلالات عبراتٍ هادرة لم تنضب منذ ليلة أمس، وشحوب وجهها الذي أهلك نضارته وأذبلها والذي كاد أن يتخطى شحوب الموت نفسه. جلست "ميرڨت" مقابلها وهي تمسد على يدها برفق مغمغمة بصوت أبح:
- يا بنتي انتِ بالمنظر ده من إمبارح طب ريحي قلبي وقوليلي إيه الورقة اللي في إيدك دي يا بنتي ده حتى "سيد" ما يعرفش فيها إيه... طب إيه اللي حصل وخلاكِ يغمى عليكِ بعد ماكنتِ اتحسنتِ؟
كلماتها ذهبت أدراج الرياح فلم تتحمل عناء المرور عبر مسامعها وكان رد فعلها الوحيد أن انتفض جسدها بقوة وهي تهب مغادرة الفراش نحو خزانة ثيابها تنتقي منها ثوبًا كان السواد القاتم ميزته الرئيسية، لتهب "ميرڨت" هي الأخرى متتبعة خطاها وعلامات الدهشة والذهول كانت غلاف أحرفها كما كانت غلاف قسماتها :
- رايحة فين بمنظرك ده يا "ميان"؟
نزعت عنها منامتها بقوة ووضعت محلها ردائها دون الاكتراث لهندمته كما كان لكلمات والدتها، لتتشبث والدتها بساعدها بصرامة هاتفة :
- مش هسيبك تخرجي وانتِ بالحالة دي.
دفعت "ميان" يد والدتها عنها بقوة وهي تهتف بلوعة وأنين :- سيبني يا ماما... سيبيني.
وركضت مغادرة غرفتها وهي تعقص خصلاتها بإيدٍ مرتجفة وأنفاس كادت أن تشق صدرها للفرار من أتونها، بينما تبعتها "ميرڨت" بهتافات مستجدية :
- يا بنتي ما توجعيش قلبي عليكِ أكتر من كده قوليلي بس انتِ رايحة فين.
غادرت "ميان" منزلها صافعة بابه خلفها بقوة غير عابئة بأنين أم حررت أكبال آلامها لتنهش روحها الثكلى دون رأفة أو شفقة.
********
بغرفتها، كانت "سومية" تضع اللمسات النهائية لهيئتها أمام مرآتها، ليلج إليها "يامن" وعلامات الدهشة قد سكنت معالمه وهو يستند بجسده على طرف طاولة الزينة أمام والدته عاقدًا ساعديه أمام صدره مرددًا :
-حضرتك خارجة يا ماما؟!
أنهت تمشيط خصلاتها واضعةً المشط أعلى سطح الطاولة وهي تجمع بعض متعلقاتها الخاصة بحقيبة يدها مجاوبة "يامن" بابتسامة ودودة :
- أه يا حبيبي.. رايحة اطمن على "آدم"، بقالي كام يوم ما شوفتوش.
مطَّ "يامن" فمه بتعجب مرددًا :
- وهتفرق إيه يا ماما ما هو كده كده في غيبوبة بقاله أربع سنين يعني ما بيحسش باللي بيزوره.
تركت "سومية" حقيبتها أعلى الطاولة واعتدلت بكامل جسدها نحو صغيرها وهي تردد مسترسلة بابتسامتها التي لم تفارقها قط :
- مين قال كده يا حبيبي؟.. يمكن "آدم" في غيبوبة فعلًا ويمكن كمان مش بيتفاعل معانا ولا بيقدر يعبر بردود أفعال لكن الأكيد إنه حاسس بينا ومبسوط إننا جنبه وحواليه.
وتنهدت بأسى مستطردة :
- أو ده اللي أنا بتمناه من ربنا إن الطفل المسكين ده يكون حاسس بوجود الناس اللي بتحبه حواليه.
حرك "يامن" رأسه بأسى هو الآخر مرددًا باستنكار :
- إزاي أمه تسيبه وتبعد عنه وهو كده، أنا فاكر لما كنت عامل عملية اللوز كنتِ جانبي ما بعدتيش عني لحظة وكنتِ بتبكي عشاني كمان.
زفرت "سومية" زفرة حارة وهي تعقد ساعديها أعلى صدرها، مردفة بصدق :
- الأمومة غريزة موجودة في حوا بالفطرة بتقل وتزيد حسب تعلق الأم بعيالها وخوفها عليهم إنما الوضع عند "صافي" كان مختلف شوية.. كان كل هدفها من البداية إنها تتجوز "يامن دويدار" النجم المشهور، عمرها ما فكرت فيه كبني آدم.. كان دايمًا بالنسبة لها كام صورة تنزل على السوشيال ميديا وعدد متابعين يتضاعفوا ععنده وشوية لقاءات وحوارات في مجلات وبرامج يعني من الآخر اتجوزت شهرته.
حرك "يامن" فمه جانبًا بدهشة واستنكار وهو يردد :
- وإزاي عمو "يامن" معرفش كل ده قبل ما يتجوزها.
- عمك مفيش أطيب منه في الدنيا ويمكن دي النقطة اللي بتخالي ناس كتير تستغله و"صافي" كانت من الناس دي وأنا يومها حذرته منها وقولتله دي بنت وصولية وانتهازيه بس للأسف حبه ليها خلاه ما يصدقنيش ولا حتى يشوف عيوبها اللي كانت واضحة لينا كلنا زي الشمس.
أنهت "سومية" كلماتها وهي تجلس بمقعد زينتها، ليردد "يامن" بحب صادق :
- عارفة يا ماما.. أنا بحب عمو "يامن" ده قوي وفرحان كمان إن اسمي على اسمه بس مش ببين له كده عشان ما يفكرش إن أنا كمان عايز استغله زي طنط "صافي"، أو "چوليا".
غلف الحزن نبرتها بغلاف متين وهي تردد متنهدة :
- أهي "چوليا" دي اللي أنا خايفة عليها لتكون صورة تانية من "صافي" دلع بابا ليها مش عاجبني وكل ما اكلمه يقولي بكره تكبر وتعقل سيبيها تعيش سنها وتعمل كل اللي اتحرمنا منه وإحنا صغيرين مش عارف إن من شبَّ على شيء شاب عليه.
ابتسم "يامن" بحزن لحزن والدته والذي قرر أن ينتشلها منه فردد بتساؤل :
- هو أنا ينفع آجي معاكِ اطمن على "آدم"؟
انفرجت ابتسامة "سومية" وطل وهجها بأحداقها، لتهب من مقعدها وهي تردد بحماسة محاوطة كتفي صغيرها بذراعها :
- أه طبعًا يا حبيبي يلا بينا.
التقط "يامن" حقيبة والدته وناولها إياها وهو يهتف بسعادة غامرة :
- يلا.
**********
جلس "يامن" بمكتبه يتابع ذلك الفيلم القصير الفائز بالجائزة العالمية مرارًا وتكرارًا بتمعن شديد وبنظرة خبير مُحنك في هذا المجال، يراقب زوايا تصوير المشاهد المذهلة وتقطيعها وجودتها، كذلك الكلمة النهائية التي ألقتها مخرجة العمل بشجنٍ ضج به صوتها.
حكَّ "يامن" ذقنه بدهشة وإعجاب قويين مغمغمًا :
- عمل بالجمال والروعة والإبداع ده وياخد جايزة كبيرة زي دي إزاي المخرجة بتاعته تعتذر عن استلامها وترفض تحضر تكريمها؟!... ده حلم كل مبدع في مجالنا.
ومال بجذعه للأمام ملتلقطًا هاتفه وتواصل مع "ياسر" وهو يردد بجدية وحزم :
- وصلت للمخرجة ولا لسه؟
أتاه صوت "ياسر" اليائس : - بقالي خمس ساعات بحاول أوصل لأي حاجة توصلنا ليها بس للأسف مفيش لارقم تليفون ولا إيميل ولا عنوان و لا حتى الكلية كانت بتروحها.
هتف "يامن" بصرامة محتدة :
- البنت دي لازم تكون عندي بكرة الصبح.
تنهد "ياسر" بقلة حيلة مرددًا :
- آخر محاولة هعملها و يا رب نوصل لنتيجة.
ردد "يامن" بنبرته تلك : - أهي دي اللي تهمني.
وأنهى الاتصال زافرًا زفرة قوية وهو يحدق بشاشة حاسوبه النقال مرددًا بتعجب :
- يا ترى إيه وراكِ خلاكِ تخفي كل أثر ليكِ؟
ليأتيه صوتًا لن ينساه يومًا، إلا أنه صار يسبب له تلوثًا سمعيًا كنغمة شاذة عن لحن بديع. هبَّ من مقعده بغضبٍ عارم ضجّ بعينيه وهو يصيح بها بحدة :
- انتِ إيه اللي جابك هنا؟
اقتربت منه "صافي" بإغواء أشهرت به جميع أسلحتها الأنثوية الصارخة وهي تهمس بدلال :
- وحشتني.
تحفز كامل جسده للانقضاض عليها ودق عنقها بلاهوادة وهو يهتف بها مستنكرًا :
- إيه!.. جوزك فلس ولا إيه؟!
أكلت المسافة الفاصلة بينهما مقتربة بأنفاسها الحارة من أنفاسه الثائرة هامسةً بأنوثة طاغية:
- كنت بشوفك فيه في كل لحظة معاه.. كنت بحسك انت مش هو يمكن ده اللي خلاني أكمل معاه الفترة دي كلها بس خلاص دلوقتي بقيت حرة واتطلقت منه.
لانت نبرة "يامن"، وانخفض مؤشر حدتها وهو يغمغم مستنكرًا :
- سنتين ونص بتشوفيني فيه؟!
غازلت ثغرها ابتسامة انتصار دفين وهي تُزيد حرارة نبرتها المثيرة :
- د انت بتابع أخباري بقا؟
- مش محتاج أعمل كده صورك مع جوزك مغرقة السوشيال ميديا وأعتقد إن ده هوسك وهو الصراحة قدر يحققهولك.
قالها "يامن" بنبرة ثابتة شابها بعض التهكم.
اقتنصت فرصتها ببراعة وهي تراقب حركة شفاهه المثيرة لها وانقضت عليهما بقبلة جامحة تجاهلها "يامن" ببدايتها إلا أن ذروتها وصافرة نهايتها كانت بيده حينما بادلها بأخرى أكثر جموحًا واشتعالًا، ما لبث أن امتعضت معالمه وهو يدفعها عنه بقوة مشمئزًا منها هاتفًا: - براڨو عليكِ.. بقيتي محترفة أهو يلا بقا دوري على مُغفل جديد.
اشتعلت نيران غضبها لكبريائها المهدور فهي تعلم جيدًا مدى تأثير أسلحتها على الرجال وقد كان "يامن" أحدهم، لتصرخ به بقوة :
- انت بني أدم مريض وهدفعك تمن اللي عملته ده غالي قوي.
وركضت مغادرة المكتب بخطى رنانة بينما تنهد "يامن" براحة محارب ظفر بموقعته الأولى.
دمتم في أمان الله وحفظه
تعليقات
إرسال تعليق