القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل الاول بقلم فاطمه علي محمد

 رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل الاول بقلم فاطمه علي محمد

رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل الاول بقلم فاطمه علي محمد

المقدمة.

الروح لشبيهتها تهفو، والقلب لكماله يصبو، 

فالعشق زاد العاشقين، والحب نبع من حنين، فإن صادفت من تثور لأجله نبضاتك، اعلم أنه اليقين، يقين بأن للعشق شرارة أولى تشعل قلوب غافلين، وأن له عشاق مُصطفين يوهبونه أرواحهم قرابين.

مقدمة 2

لا تغرنكِ أغنيات العشق التي أشدو بألحانها، فأنا ممثل محترف يحيا قصص عشقه ببراعة أقسم الناس بها، إن ذُكر اسمي في جلساتهن انطلقت تنهيدات العشق المُولعة، فقد بتُّ لأحلامهن عمادها، أما أنا فقلبي مازال بكر لم يصطفي أنثاه ، وبركان حُبه مازال خامدًا بنيران شوقه وشظاياه. 

لا_أصطفي_بالحب_غيرك 

فاطمة_علي_محمد 

مقدمة

عندما  تتولد شرارة العشق الأولى تنفي وجود ما قبلها من علاقات شرعية كانت أو عابرة، فالعشق مرة واحدة كما الحياة والموت لا يمس فؤادنا غيره، ولا تهفو أرواحنا لسواه، حتى وإن كانت أرواح كبلها الغضب والانتقام، وأسرها الحقد والكراهية، أو كانت قلوب مزقها الخذلان والتخلي وأحرقتها الخيانة والغدر. 


فماذا لو منحتك الحياة فرصة للانتقام.. هل ستستغلها جيدًا أم تُهدرها كغيرها؟ 

**************

الفصل الأول.

احدى طائرات الخطوط الجوية الإماراتية، تقدم  هذا الشاب الذي شارف عامه الخامس والثلاثون على نهايته ، بجسده الرياضي المفتول، بشرته السمراء والتي زينتها لحية خفيفة ضاعفت  وسامته وجاذبيته ، خصلاته المنمقة بحرفية ومهارة، حلته السوداء  العالمية بتوقيع الأشهر بهم، وساعة يده الأشهر عالميًا، فجميع ما سبق تتطلبه مهام وظيفته، فالجزء الأكبر منها تحت أضواء عدسات الصحافة والتلفزيون، لما لا وهو نجم الغناء الأول بالوطن العربي؟!..  فتى أحلام الفتيات وآسر قلوبهن، فهو  أَبْدع من ترنم بكلمات عشقٍ أذابت قلوبهن وصهرتها، إنه "يامن دويدار" أمير العشق كما تلقبه النساء اللاتي أقسمن أنهن تمنين أن تهديهم شركائهن مقطعًا واحدًا  بصوته ، فصوته كهدير الماء بجدول رقراق كرقة وعذوبه صوته. 


صعد درجات السلم الحديدي والجًا من بابها، مُرسلًا ابتسامة خفيفة لتلك الفتاة التي خصصت لضيافته فقط، ورافقته إلى مقصورة الدرجة الأولى ، والتي  أُعدت خصيصًا له. بخطى رزينة واثقة عبر الممر المؤدي إلى مقصورته وسط نظرات العشق والهيام من نسوة الطائرة، والامتعاض والاستهانة من رجالها. 


أخيرًا ولج إلى المقصورة، لينزع عنه نظارته الشمسية ملتفتًا نحو المُضيفة بابتسامة مُجاملة مرددًا بثبات :

- لو سمحتي مش عايز أي حد يدخل المقصورة لحد ما نوصل بالسلامة. 


أومأت الفتاة برأسها وابتسامتها الواسعة أقسمت أن ترافقها طيلة بقائها قربه، مغمغة بمودة :

- تحت أمر حضرتك  يا فندم... بس ممكن أستأذنك أجيب الأكل... 


قاطعها "يامن" بإشارة خفيفة من يده قبل أن ينزع عنه سترته :

- محتاج أرتاح بس... ممكن. 


أومأت الفتاة باستسلام وهي تغادر موصدة باب المقصورة خلفها بهدوء، بينما زفر "يامن" زفرة قوية أرفق بها عبئًا  ثقيلًا عن كاهله  ، مُلقيًا بكامل جسده أعلى المقعد الوثير الذي ضغط زره ليسترخي معه بهدوء وراحة. أعاد رأسه للخلف عاقدًا ساعديه أعلى صدره كمن يحتجز فؤاده من الفرار ، أسبل جفنيه بإرهاق شديد متنهدًا بهدوء دام للحظات قصيرة بعدما انتفض جسده بقوة متذكرًا هذا الحادث الأليم الذي تُعاوده ذكراه في اليوم عشرات المرات. 


ولج من باب شقته بسعادة تحلق به بين فراشات الربيع المزهرة، وقلب يشدو بألحان لم تصل شفاهه يومًا، فصغيره الذي أتم عامه الأول اليوم يملك الفؤاد ونياطه، فمنذ مولده وأصبح هو اكسير الحياة وملهمه، فقد أقسم أن يُحييه حياة لم ينعم بها يومًا . دوت  أصداء هتافاته بالأنحاء لتأتيه مديرة منزله وابتسامتها تزين ثغرها مرددة بهدوء :

-  حمد الله على السلامة  يا "يامن" بيه. 


حرك رأسه بقوة وهو يردد بأشواق تسبقه إلى غرفة صغيره :

- الله يسلمك يا دادا... "آدم" فين مش سامع له صوت؟! 


أماءت مديرة المنزل نحو أعلى تجاه غرفة الصغيرة مغمغمة :

- البيه الصغير نايم في أوضته، والهانم عندها  جلسة مساچ. 


حرك "يامن" رأسه بإيجاب وهو يتسلق الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي بهرولة علَّه يروي ظمأ اشتياقه لصغيره . وصل إلى الغرفة وأدار مقبض بابها والجًا إليها وهو يتمتم باسم طفله، ليجدها هادئة، ساكنة مُعلنة عن خلوده في سباتٍ عميق. همهم "يامن"  مناجيًا صغيره بخفوت وهو يتجه نحو تخته الصغير المُحاط بستار أبيض خفيف ، ليتفاجأ بخلوه منه :

- "آدم"... "أدم". 

  

قطب "يامن" جبينه بدهشة واستنكار وهو يطوف الغرفة بأنظاره مناديًا باسم جليسة  صغيره:

- "هيلدا"... "هيلدا". 

قبل أن تجاوبه الجليسة كان قد لمح جسد صغيره من بين قضبان تخته مُلقي أرضًا بالجانب الآخر منه. صدمة قوية اجتاحت أوصاله، وقبضة أقوى عصفت بفؤاده، ليدور  حول التخت صارخًا باسم الصغير وهو يدنو منه حاملًا إياه بين ذراعيه :

- "آدم"... "آدم". 

  

لا حياة لمن تنادي.. ربما نُسج هذا الشطر بالقصيدة خصيصًا  لهذا الموقف، فـ "آدم" جسد لين بين يدي والده، فاقد لكل معالم الحياة؛ حتى أنفاسه قاربت على السكون، أو ربما سكنت تمامًا. ضمَّ "يامن"  "آدم" إلى صدره بلهفة وفزع وهو يركض مغادرًا الغرفة، ليصطدم بـ "هيلدا"  التي حررت أسر شهقة قوية تبعها صياحها العارم  بعربية متلعثمة:

- "آدم"... ماذا حلَّ به سيدي. 


ركض "يامن"  نحو درج شقته هابطًا إياه بفزع استنفرت له عروقه، مشددًا من ضم "آدم" إلى صدره وهو يصرخ مستجديًا رأفه ربه وتطلعه به :

- "آدم".... يا ابني... اصحى بالله عليك....  يا رب. 


ليجد من تأتيه من غرفة التدليك الخاصة بها وهي تشدد من رباط ردائها المفتوح صارخة بلهفة وفزعٍ:

- فيه إيه يا "يامن"؟!... "آدم" ماله؟ 


لم يُعيرها اهتمام، وربما لم تدوي أصداء كلماتها بمسامعه، فشاغله الشاغل هو حياة صغيره التي كانت على حافة الهاوية . غادر  شقته مهرولًا  ليصطدم بشقيقه "ياسر" ذو الأربعين خريفًا والذي يشبه إلا حد كبير، إلا أن تلك النحافة والشعر الأشعث كانا لهما دورًا كبيرًا في التمييز بينهما . شهقة هلع قوية تمردت بحلق "ياسر" ليجذب ابن شقيقه إلى صدره بقوة وهو يتفحصه صارخًا :

- الولد فيه إيه؟ 


هنا تعالى نحيب "يامن" وشهقاته المرتجفة بحال كامل جسده، ليهتف بصوت اختنقته العبرات وهو يضغط زر استدعاء المصعد الذي رأف بحاله وجاوبه دوت تلكأ :

- لقيته واقع من سريره على الأرض، وزي ما أنت شايف... ما بيردش عليّا  يا "ياسر".. "آدم" بيروح مني. 


لحظات وغادرا المصعد و"ياسر" يركض نحو سيارته صائحة بنبرة حاول أن يبث بها بعض الأمان لفؤاد شقيقه :

- ما تخافش... ربنا هيسترها. 


ووضع "آدم" بين يدي  شقيقه مستديرًا حول سيارته ليستقلها هو الآخر متشبثًا بعجلة القيادة ومنطلقًا إلى أقرب مشفى لهم.  


دقائق قليلة بحسابات المنطق والعقل مضت، بينما كانت دهرًا كاملًا بحساب قلب أب مكلوم يرمق جسد صغيره الساكن بين يديه بنظرات حسرة وهلع ومئات الأفكار والاحتمالات تعصف بذهنه وتقتلعه من جذوره ؛ حتى صرخت إطارات السيارة بقوة مفزعة أمام باب المشفى بعدما كبح "ياسر" سرعتها. ركض مغادرة السيارة وهو يصرخ بأفراد الأمن  بقوة :

- دكتور... بسرعة. 


إلا أن خطوات "يامن" المهرولة والتي لم تكد تلامس الأرض كانت سبقتهم جميعًا إلى غرفة تحمل لافتة العناية الفائقة وهو يصرخ بهم جميعًا :

-  ها تولي دكتور...  أرجوكم. 


هو بذاته كلمة مرور لكل مكان مُغلق، فالجميع يركض خلفه لتقديم يد العون والمساعدة، فما كاد أن يلتفت برأسه حتى وجد مدير المشفى بذاته يركض نحوه وهو يردد بثبات قوي :

- ما تقلقش يا أستاذ "يامن".


ولحق بـ "آدم" المُلقي  أعلى  فراش الغرفة خائر القوي منكبًا عليه باهتمام فاحصًا أحداقه بمصباح صغير، ومتفحصًا نبض قلبه، ليهتف بـ "يامن" و "ياسر" بحدة صارمة:

- اتفضلوا اخرجوا بره عشان نشوف شغلنا. 


صرخ به "يامن" المتشبث بيد صغيره بقوة :

- مش هسيب ابني. 


بينما ازدادت حدة الطبيب وصرامة  وهو ينزع ثياب الصغير عنه :

- اطلع بره لو سمحت. 


قبض "ياسر" على ذراع شقيقه وجذبه نحو الخارج بجدية مرددًا :

- تعالى معايا يا "يامن"، لازم نسيب الدكتور يشوف شغله. 


حرك "يامن"  رأسه بنفي هاتفًا بحدة شكلت قسمات وجهه:

- مش هسيب ابني قولت. 


جذبه "ياسر" بعنف طيف إلى الخارج وهو يردد به بثبات مازال يتحلى به :

- عشان خاطر "آدم" يا "يامن". 


استسلم "يامن" أخيرًا ليد شقيقه وتبعه بأعين تحجرت بها دمعات الاستجداء، فهو يتوسل بعض الطمأنينة المفقودة بأحداق شقيقه. ربت "ياسر" على كتف شقيقه موصدًا خلفه باب غرفة العناية الفائقة تاركًا المجال للطبيب أن يتمم مهمته على وجهٍ أكمل. 


استند "يامن" بكامل جسده على الحائط الرخامي أما غرفة العناية، سامحًا لساقه للتراخي، ولجسده بالانزلاق، ليجلس ضامًا ركبتيه إلى صدره بذراعيه وأعينه متعلقة بباب الغرفة أمامه. 


دقات أقدام متلعثمة تقترب منه وبشدة ممتزجة بشهقات متقطعة، ليعزفا برأسه سيمفونية غضب مستعر، إلا أنه كبح لجامه بجهدٍ مضاعف؛ حتى اخترقت كلماتها المرتجفة مسامعه :

- "آدم" فين يا "يامن"؟.. ابني فين؟ 


سحب نفسًا عميقًا، احتبسه بصدره للحظات  قليلة؛ حتى نهض منتصبًا بجسده فزفره دفعة واحدة وهو يردد  إلى جوارها بفحيح سام :

- خلصتي المساچ بتاعك يا "صافيناز" هانم؟. 


ازدردت ريقها بصعوبة وهي تلهث بأنفاسها  منحية خصلاتها الصفراء خلف أذنها  لينكشف وريدها النابض بعنقها الطويل، والنحيف كما جسدها.  نظراته النارية كانت كفيلة بإحراقها بأرضها، ليزيدها عليها حينما اعتصر ذراعها بقوة وهو يصك أحرف كلماته بأسنانه :

- ادعي ربنا إن  ابني يطلع سليم. 

ليقاطعه  المذياع الداخلي للمشفى مستدعيًا الطبيب... إلى غرفة العمليات. هنا تعالى صوت المضيفة بالطائرة بضرورة إحكام حزام الأمان استعدادًا لهبوط الطائرة. 


زفر "يامن" زفرة قوية دافعًا عنه ذكرياته المؤلمة التي أقسمت أن ترافقه ما تبقى من حياته 


       ***********


أحد البنايات العتيقة بولاية نيوچيرسي  الولايات المتحدة الأمريكية. ولجت "ميان العشري" تلك السيدة الثلاثينية الخمرية البشرة بأعينها الرمادية وأهدابها الكثيفة، وأنفها المدبب، وخصلاتها البنية المموجة بجاذبية  مثيرة حينما تغازل ثغرها الدقيق الذي يتوهج بحُمرة طبيعية ،  أما طولها المتوسط و الملائم جدًا لوزنها الذي يتجاوز الخمسون كيلو جرامًا بثلاثة كيلوات فقط  فيرسم صورة لإمرأة غاية في الأنوثة والرقة.  ولجت تحمل بين ذراعها  أحد الأكياس الورقية المعبأة ببعض الفاكهة والخبر،  ممسكة بيدها الأخرى صغيرها "چاد"  الذي أتم عامه الرابع اليوم ، ليصعدا سويًا بضع درجات رخامية حتى وصلا إلى باب شقتهما المزين بلافتة نحاسية صغيرة منقوشة بأحرف  إنجليزية لإسم زوجها "مُهاب جلال"  الطويل ، الأصلع ، السمين إلى حد ما، إلا أن زُرقة أعينه، وسُمرة بشرته التي تناغمت مع لحيته الكثيفة  ميزاه كثيرًا وأضفوا عليه بعض الجاذبية، فهو مرغوب من بعض النساء اللاتي يختلط بهن بحُكم عمله كمُحامٍ للأحوال الشخصية. 


داعب "ميان" خصلات ولدها الكثيفة التي أخذ چيناتها منها، وكان هذا وجه الشبه الوحيد معها، فباقي چيناته الشكلية أخذها وببذخ من والده. 


وضعت مفتاحها بموضعه بالباب وأدارته بهدوءٍ كعادتها، دافعة الباب للداخل ليسبقها "چاد" راكضًا وهو يدفع قدمها بقوته المحدودة ، لتتسع ابتسامتها وتزيد وجهها إشراقًا.  ركض "چاد" إلى غرفة والداه فهذه الشقة لا تحوي سوى غرفة واحدة وردهة واسعة، ومطبخ جانبي بأحد أركانها، ومرحاض صغير، بينما خطت "ميان" نحو طاولة المطبخ واضعة ما بيدها من أغراض أعلاها ، لتُزيل وشاحها المحاوط لعنقها بابتسامة خفيفة  مغمغمة بسعادة :

- أجهز بقا  كيكة عيد ميلاد "چاد". 


ليقطع حوارها صرخة قوية من صغيرها مزقت نياط قلبها واقتلعته من جذوره، لتصرخ بصدمة وهي تركض نحو غرفتها :

- "چاد". 


ولجت إلى الغرفة لتتسمر أقدامها بأرضها حينما رمقت مشهدًا لن تنساه ما حيت، ابنها مُلقي أرضًا مغشيًا عليه، وزوجها يضاجع فتاة ساقطة بمشهد  وإن رمقته سابقًا فمازال يُشعرها بالغثيان والاشمئزاز. 


أسرت شهقتها بكفها المرتجف ودنت من صغيرها بعبرات هاطلة، لتحمله إلى صدرها وتخرج به إلى ردهة الشقة. 


دنت بجذعها  إلى الأريكة واضعة صغيرها برفقٍ ، لتنظم أنفاسها المضطربة بهدوء جاهدت للتحلي به، وعادت ثانية إلى غرفتها لتجده قد أنهى قذارته ويرتدي ملابسه بهرولة، بينما تلك الساقطة تحاوط جسدها بدثار أبيض شفاف يُظهر مفاتنها.  حدقتهما  "ميان" شزرًا وهي تردد بجمود :

-  دقايق وتمشيها من بيتي عشان أفوق الولد،  إن كنت سكت قبل كده واتهاونت في حقي، فدلوقتي مش هسامح في حق ابني. 

  

واستدارت مغادرة الغرفة، لتجد من يركض نحوها قابضًا على خصلاتها بقوة وهو يهمس إلى جوارها بأنفاسه المُشبعة برائحة الخمور :

- طب ماتوريني شطارتك كده. 


تشبثت "ميان" بكلتا يديها بمعصمه في محاولة بائسة منها لتخفيف قوة جذبه لشعرها، بينما نهضت الأخرى  واقفة أمامها  بجسدٍ شبه عارٍ وهي تعقد ساعديها أعلى صدرها رامقة إياها بتشفٍ كبير، تشفٍ كسر ما تبقى بنفس "ميان" لتنفض يد زوجها  بمهانة مغادرة الغرفة رغم يده التي مازالت متشبثة بخصلاتها، والذي رافقها حتى باب الغرفة ومن ثم تركها، واستدار نحو ساقطته ليجذبها نحو صدره العاري بقوة، ملتهمًا شفاهها بجموح محموم، ليجذبها نحو الفراش ثانية غارقًا معها في بحر الشهوات والمعاصي. 


 بينما حملت "ميان" صغيرها ثانية بانكسار وألم  تمكن من خلاياها، لتدمغ قبلة حانية مُحملة بعبراتها الحارقة بجبين "چاد" وتتجه مغادرة الشقة، صافعة الباب خلفها بقوة.


************

جلست "ميان" بأحد الحدائق العامة محتضنة صغيرها بقوة، وعبراتها تنهمر بسخاء مخترقة أنسجة قميص الصغير الذي تشبث بقميصها بقوة وهي يكتم شهقاته المتقطعة بصدرها علّه يستمد منها بعض الأمان لقلبه الفزع.


أطبقت "ميان" أجفانها بيأس  في محاولة لمحو ذاك المشهد من ذاكرتها، لتحدث ذاتها بعتاب ولوم :

- وبعدين يا "ميان"؟!.. هتفضلي كده كتير؟،  هتفضلي لعبة سهلة في حياة كل واحد يدخل حياتك؟.. هتفضلي عروسة ماريونت خيوطها في ايديهم؟... ده حتى التكريم الذي استحقتيه بعد عذاب، رفضتي تروحيه عشان "مُهاب" ما يعرفش إنك بتشتغلي، هتستني لما ابنك هو كمان  يضيع منك زي  حلمك اللي ضاع؟... وبعدين يا بنت "أحمد العشري"... وبعدين؟


لتستفيق من خلوتها الذاتية تلك على شهقة صغيرها القوية، شهقة مزقت ما تبقى من أنسجة بالقلب، لتضمه إلى صدرها بقوة عازمة المواجهة مهما كانت النتائج. 

************

بأحد أكبر المسارح الغنائية بمدينة دبي، وبحضور جماهيري تجاوز العدد المسموح به، كانت التحضيرات تمضي على قدم وساق استعدادا لاعتلاء "يامن" خشبة المسرح. مصممون مؤثرات نارية وبصرية عالميون يضعون لمستهم النهائية ، ليهتف بهم "ياسر" الذي سبق شقيقه  إلى دبي بيوم كامل، لإتمام الاستعدادات لإطلاق حفله :

- كله يشيك على شغله يا شباب، عشر دقايق و"يامن" هيطلع المسرح ،وأي غلط هيقلب علينا كلنا. 


ليأتيه مُنظم الحفل بابتسامته الواسعة مرددًا وهو يربت على كتفه بأخوة :

- ما تقلقش يا "ياسو"  كله تحت السيطرة، والحفلة عالمية، وفيه كمان محطة فرنسية هتذيعها على الهوا، يعني النجم بتاعنا هينور وهيولعها النهاردة. 


ضغط "ياسر" على كتف المنظم بقوة  هاتفًا باستنكار وذهول مصطنع :

- يا راجل!... حقيقي عجبني اجتهادك في شغلك اليومين دول يا "درش".. قولتلي بقا إتعاقدت مع المحطة دي إزاي؟! 


حك" مصطفي" ذو الأربعون عامًا مؤخرة رأسه بتفكير مصطنع وهو يسبل أحد أجفانه مرددًا :

- ده سر المهنة بقا  يا "أبو اليساسير".


ليقطع حديثهم هذا انضمام أحدهم والذي رمق "ياسر" بأعين زائغة وهو يتلاقط أنفاسه بصعوبة مرددًا بتلعثم : 

- أستاذ "يامن" متعصب جدًا، وعايزك تروحله أوضته. 


أومأ "ياسر" برأسه وتلك الابتسامة المتهكمة  تعلو ثغره  وهو يردد مستنكرًا :

- يا مساء الأخبار السعيدة.


وحاد بأنظاره نحو "مصطفي"  مُكملًا حديثه :

- منور يا "درش".


التفت "مصطفي" جانبًا وهو يشير بيده نحو أحدهم هاتفًا به بحدة مصطنعة :

- حاسب  يا ابني المعدات دي مش ببلاش. 


واستدار نحو "ياسر" مستطردًا بجدية :

- هشوف بس العمال وارجعلك على طول. 


وغادرهم بخطى واسعة، ليضرب "ياسر" كفًا بالآخر وهو يغمغم بدهشة:

- لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. 


وغادر هو الآخر متجهًا إلى  غرفة شقيقه الذي كان كالأتون المشتعل، فكان يأكل الأرض ذهابًا وإيابًا وهو يطالع أحد الأخبار المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي بأعين تقدح بيها نيران الغضب؛ حتى ولج "ياسر" إليه بابتسامته المعتادة، ليصرخ به ملوحًا بهاتفه في وجهه :

-  تقدر تقولي إيه الخبر ده؟ 

  

قطب "ياسر" جبينه بصدمة من عصبية وغضب شقيقه، إلا أنها تغاضى عنهما وحدق بشاشة الهاتف متمتمًا بثبات :

-  تعرف على الحب الأول في حياة  النجم "يامن دويدار" . 


مط "ياسر" فمه باستنكار معقبًا بثباته الملازم له :

- ماله الخبر؟.. 


صاح "يامن" بغضب أوي :

- يعني إيه ماله؟.. يعني إيه؟!.. الجريدة دي تتقفل... فاهم. 

  

احتلت الصدمة قسمات وجه "ياسر"، ليردد  باستنكار أقوى :

- يعني إيه تتقفل؟!.. وعشان إيه؟.. ده لا أول خبر بالشكل ده، ولا هيكون آخر خبر ، والموضوع مش مستاهل العصبية بتاعتك دي كلها، وبعدين انت عندك مسرح كمان خمس دقايق، فلازم تكون أهدى من كده. 


تنفس "يامن" بقوة، مسبلًا أجفانه بهدوء حاول  أن يستحضره، إلا أن الفشل كان حليفه في هذا، ليضرب صدر شقيقه بسبابته تباعًا مرددًا بصرامة وحزم :

- تتصل برئيس تحرير الموقع وتخليه ينزل تكذيب، وده هيكون أهون من لو اتدخلت بنفسي. 


وغادر الغرفة متجهًا  إلى المسرح، ليترك نيران الغضب تنهش بأحشاء شقيقه. 


 *************

ولجت "ميان" إلى مسكنها وهي تحمل صغيرها المستلم لسلطان نومه الذي غلبه بعد صراع كبير مع فزعه ، إلا أن شهقاته مازالت تزوره مرات متفاوتة، لتجد زوجها يجلس على الأريكة واضعًا كلا ساقيه أعلى المنضدة أمامه، ليسحب نفسًا عميقًا من سيجارته تعقبه رشفة خفيفة من كأسه، ونظرات الانتصار والتشفي تراقص أحداقه بسخرية جامحة. تجاهلت "ميان" كل هذا وولجت إلى غرفتها، لتضع صغيرها بتخته دامغة قبلتها الحانية بجبينه وهي تمسد على رأسه برفق حانٍ. أسبلت أجفانها بهدوء  متنهدة  بقوة استعداداً للمواجهة الحتمية، لتنصب بجسدها شادة من أزر نفسها، لتذهب إليه بقوة أم لمست انهيار صغيرها. 


وقفت أمانه برأس شامخ  مرفوع عاقدة ساعديها أعلى صدرها بقوة، أو ربما أرادت أن توئد بهما ضعفها ، لتحدقه بنظرات تحدٍ وعصيان، وقلب قد توقف عن الخفقان، قلب حُمل بقسوة فراق دام  لسنوات، وقسوة لقاء لشهور عدة، شهور شاهدت بهما ذاك  المشهد  العديد والعديد من المرات،  فلم تنس بعد صدمتها الأولى، ولن تغفر أيضًا عنفه الجسدي معها، حينما أبرحها ضربًا وقتها؛ حتى كُسر ذراعها، إلا أنها تغافلت عن كل هذا لأجل أن يحيا "چاد"

حياته بين والديه، فمنذ ذلك اليوم وهو لم يعد يمثل فارقًا لها؛ حتى لحظاتهما الحميمية معًا كانت تقابلها ببرود وامتعاض وتأذٍ، فبعد كل مرة كان تركض إلى المرحاض لتفرغ ما بجوفها وهي تضع كامل جسدها تحت المياه الباردة علها تُزيل أي أثرٍ له ، إجهاضها لذاتها مرتين متتاليتين دون أن تخبره بذلك، أقراص منع الحمل التي تتناولها يوميًا، تحرشه المقزز بها، نظراته الوقحة التي دائمًا ما تُهينها وتكسر كبريائها، كل هذا تتجاهله، وتتناساه، بل من الممكن أن تشفعه، عدا صرخة صغيرها ورجفته بين ذراعيها، عدا فزعه، وهلعه وذعره ، لا يمكن أن تغفل عن كل هذا.


أخيرًا تفوهت بهدوء اكتسبته من كل ما سبق :

-  أخدت حقي فيك ووزعته على شوية ساقطات بتجيبهم كل يوم والتاني في بيتي، وعلى سريري... وسكت، شوفتك بعيني مع واحدة فيهم، وعديتها... أه وقتها اتصدمت، واتقهرت بس تخطيته...  بتعاملني زي ما بتعامل الزبالة ورضيت...  رميتني في مصر سنين، وصبرت... حرمتني من حلمي أني أكمل شغلي طنشت   وعيشت... إنما الموضوع يوصل لابني ده الي مش هسكت عنه، إن ابني يفضل بالساعات يتنفض بين ايديا وأنا مش عارفة اطمنه ده اللي مش هعديه...إن طفل أربع سنين يشوف بالمنظر المقرف ده، ده اللي مش هعيش بعديه. 


كان يتابع حديثها هذا باستخفاف ولا مبالاة وهو يحتسي كأسه الذي عبئه تانية، ليتجرع آخر رشفاته ببرود قاتل، ويميل نحو المنضدة بهدوء واضعًا الكأس أعلاها، ليعود مسترخيًا بمقعده للحظات، ومن ثم يدفع المنضدة بكلا قدميه بقوة فتضرب الحائط أمامها مُحدثة ضجة كبيرة صرخت لها "ميان" بفزع جلي، بينما نهض هو من مجلسه قابضًا على ذراعيها بقوة، ليجذبها نحو صدره بعنفٍ منقضًا عليها بقبلة وحشية ، حاولت أن تتملص من بين يديه إلا أن كفه الذي حاوط مؤخرة رأسها، وذراعه  الذي حاوط خصرها حاصراها بين المطرقة والسندان، فلم يتركها حتى استلذ دمائها بفمه. 


ابتعد عنها مُطلقًا ضحكاته الساخرة وهو يردد بتقطع من إثرها :

- مش.. هتعيشي.. بعديه! 


هدأت ضحكاته واعتدل بوقفته ملتقطًا سيجارة جديدة ليشعلها نافثًا دخانها بوجهها، لتتعالي سعلاتها القوية، بينما هو التقط هاتفه، لاهيًا بشاشته؛ حتى أتاه صوت زوجته وهي تتنغم بوصلة عشق واشتياق، ليأتيها جواب الطرف المقابل لها مُعربًا عن شوقه ولوعته من فقدانها، مُكملًا حديثه بكلمات أكثر جرأة ووقاحة. 


اتسعت عيناها صدمة مما وصل إلى مسامعها، لتحرك رأسها برفض كل هذا، بينما أجابها هو بعدما أعاد التسجيل من أوله :

- أعتقد إن ده صوت حرمنا المصون، بس يا ترى الصوت التاني ده صوت مين بقا؟.. عشيقك؟..


حركت رأسها بقوة أكبر وعبراتها منهمرة كشلالات نياجرا التي لم تهدأ بعد، لتصرخ بإنكار متوسل  :

- والله ما خونتك، أنا أصلًا  معرفش مين ده، ولا عمري كلمت حد والله ، والله ما خونتك، ولا عمري عملتها. 


ألقى سيجارته أرضًا ودعسها بحذائه بقوة، وقد تشكلت قسماته بمعالم وحش كاسر، لينقض على خصلاتها ويجذبها نحوه صاكًا أسنانه وهو يحدثها :

- مش "مُهاب جلال" اللي يتخان من واحدة زيك.. "مُهاب جلال" اللي بيغير الستات زي ما بيغير جزمه تيجي واحدة حقيرة زيك وتخونه. 

تعالت شهقاتها الممتزجة بصراخها وهتافها :

- والله ما خونتك، ولا فيه في حياتي راجل غيرك، والله ما بكلم حد. 


أجابها بسخرية متهكمة :

- عندنا في مصر مثل بيقولك (قالوا للحرامي احلف) ... عارفاه ده يا مدام؟ 


 كتمت شهقاتها بيدها للحظات، و تابعت  باستجداء :

- والله ما خونتك، ومستعدة أثبتلك كلامي بأي طريقة انت تطلبها، بس تصدقني. 


دفعها عنه بقوة، فاصطدمت بأرضية الردهة بقوة تركت أثارها بسائر جسدها، لتدلكه بقوة  كاتمة أنفاسها بيدها الأخرى، بينما هو ألقى إليها بجواز سفرها مرددًا بحدة وصرامة :

- طيارتك لسه فاضل عليها ساعة، يعني يدوب تخرجي من هنا. 


حركت رأسها بقوة، فكان لها هذا طوق النجاة التي تشبث به، لتلقطه وتنهض راكضة نحو غرفة صغيرها، ليستوقفها صوته الهادر :

- لوحدك.

  

صاعقة رعدية هوت برأسها، ألجمتها بلا استيعاب، لتستدير نحوه مغمغمة بهذيان :

- يعني إيه؟ 


احتل أريكته بهدوء، واضعًا ساقٍ فوق الأخرى وهو يردد بثبات :

- زي ما سمعتي... لوحدك، وبطولك، يعني تنسي إن لكي ابن موجود على وش الدنيا. 


ركضت نحوه وهي تحرك رأسها بلاتصديق هاتفة :

- يعني إيه انسى ان ليا ابن علي وش الدنيا؟.. ها.. يعني إيه؟ 


- اللي فهمتيه بالظبط . 


  أهدر بها وهي يلتقط من جواره ورقة وقلمًا ويقدمهما نحوها مرددًا بهدوء :

- وده تنازل  هتوقعيه قبل ما تمشي. 


ضيقت عيناها بصدمة رفضت أن تتركها، وهو تهتف مستنكرة :

- تنازل ايه ده اللي أوقعه؟ 


فرق ساقيه عن بعضهما، لينتصب بجذعه مرددًا بحدة :

- تنازل عن حضانتك للولد، وعن أي علاقة تربطك بيه يوم من الأيام. 

  

انفرجت ابتسامة جانبية متهكمة من ثغرها وهي تردد به بلا تصديق :

- لا... دا انت مجنون بقا ، ولد مين اللي أتنازل عن حضانته، ده لو على رقبتي مش همضيه. 

  

- مش رقبتك إنتي. 


ألقى هذه الجملة وهو يرمق مدخل غرفتهم الراقد بها صغيره، لتتسع عينا "ميان" صدمة وذهول حينما استوعبت ما يرمي إليه، لتصرخ به بجنون هستيري :

-  إنت مجنون..عايز تقتل ابنك... لأ.. مستحيل تعملها.. مستحيل. 


- تحبي تجربي؟ 


  قالها ببرود أعصاب قوي، ليتعالى نحيبها فهي تعلم أنه لا يمتلك قلبًا بين أضلعه، بل ألة حاسبة ترصد لها الأرباح، والأرباح، فهو لم يعتد الخسارة يومًا، لتلقي ذاتها أسفل قدمه وتنهال عليها بوابل من التوسلات والتذلل :

- أبوس رجلك تديني ابني. 

ورفعت رأسها نحوه مكملة وهو تربت على صدرها بتوسل :

- اديني ابني وأنا والله ما هخليك تسمع عني، ولا كأني موجودة في الحياة. 

  

حرك رأسه بنفي وهو يمط فمه بلا مبالاة، لتزدرد هي ريقها الجاف بمجهودٍ مضنٍ مستطردة :

- طب سيبني مع ابني وأنا هشتغل خدامة تحت رجليك... أبوس رجلك تسيبني مع ابني. 

لم يكترث لكل هذا، ولم يحرك توسلها هذا شعرة برأسه، فهدفه واضح ويخطو نحوه بحزم وإصرار، ليناولها  ورقة التنازل والقلم مرددًا :

- امضي. 


لتدوي صرخة صغيرها بالأرجاء، فينخلع ما تبقى من قلبها من موضعه.


الفصل الثاني من هنا


تعليقات

التنقل السريع
    close