القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل السادس بقلم فاطمه علي محمد

رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل السادس بقلم فاطمه علي محمد

رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل السادس بقلم فاطمه علي محمد

رغم برودة المياه التي اغتسلت بها إلا أن نيران قلبها لم تهدأ قط، واختناق أنفاسها لم يتحرر هو الآخر، أما صرخات فؤادها فمازالت تزلزل كيانها وخلاياها! وضوئها، صلاتها ربما سكنت آلامها قليلًا إلا أن ذلك الهاجس الذي ينهش أحشائها مازال يتفنن في الفتك بها.


اقتربت والدتها منها مربتة على ظهرها بحنو، لتجد تلك  المياه الساخنة تستقر بالفراغ  أسفل الكوب بعدما امتلأ بها وفاض، لينتفض جسدها بقوة ملتفتة صوب والدتها بأحداق زائغة خُط بها مئات من عبارات الخوف والقلق، لتأتيها كلماتها المفعمة بالأسى لحال ابنتها :

- مالك بس يا حبيبتي؟ فيكِ إيه؟ هو أنا كل ما أقول إنك هديتي ترجع حالتك تسوء أكتر من الأول.


 امتزجت كلماتها بعبراتها التي لم تنضب بعد وهي تكور قبضتها ضاربة بها تجويف قلبها :

- ده اللي مش عايز يهدى يا ماما ولا عايز يسيبني ارتاح شوية.. كل ما أقول كملي وعيشي يا "ميان" ألاقيه يفكرني إنه مش معايا وإني سيبته مع "چاد" قبل ما أرجع مصر. 


 وألقت بجسدها بين ذراعي والدتها علّها تمتص منها بعض الأمان لقلبها المُنهك، ليتعالى نحيبها وشهقاتها التي قاطعت كلماتها:

- حاسة إن ابني فيه حاجة يا ماما.. ابني مش بخير والله مش بخير.. أرجوكِ طمنيني حتى لو بالكذب قوليلي إنه كويس وإن كل ده أوهام عشان بعيد عني.. اكذبي عليا يا ماما بس قلبي يطمن ويرتاح شوية.. قلبي اللي بقا شايل فوق طاقته.


 انهمرت عبرات "ميرڨت" هي الأخرى، فحال ابنتها هذا يؤكد سوء حال حفيدها فقلب الأم هو بوصلة أبنائها ومقياس سلامتهم، لتبتلع غصة بحلقها وهي تردد كلمات رفض قلبها دعمها:

- "چاد" بخير يا حبيبتي مهما كان هو مع أبوه وعمره ما هيأذيه ولا يسيبه يتأذى.. ما تخافيش وادعي ربنا يطمن قلبك عليه.


الهواء حولها كاد أن ينفد أو هذا ما استشعرته هي، فلم يعد يطاوع رئتيها لإنعاشهما وبات الاختناق وضيق التنفس حليفيها حتى كادت أن تجف جميع خلاياها وتذبل، لتركض مهرولة نحو باب شقتها باستجداء بعض الهواء لها. ركضت  خلفها "ميرڨت" هي الأخرى، إلا إنها توقفت بقمة الدرج حينما وجدتها تهبطه بهرولة شبة جنونية لم تعهدها بها من قبل ليتمزق قلبها أشلاءً وهي  تتقهقر بقلة حيلة عائدة  أدراجها  متضرعة إلى ربها بالدعاء عله يريح قلبها على صغيرها.


ركضت "ميان" بالطرقات بغير هدى مهرولة غير مكترثة بأنظار الناس حولها وهمزاتهم، فهي تحارب من أجل أن تحيا، من أجل قليل من الهواء يوقف انفجار رئتيها الذي أوشك على لفظ حممه. معالم الطرقات غير واضحة، أماكن جهلت هويتها، لتجد ذاتها أمام ذلك النهر الخالد الذي استحلفته بالبوح عن سر صموده رغم قساوة الأيام، استحلفته أن يطفئ ظمأ شوقها إلى صغيرها، أن يوقف صراخ قلبها ونشيجه، أن يخرس صراخ روحها ونزيفها، لتفتح  فاهها لأقصى ما استطاعت، نافثة لهيب أنفاسها الحارق بصرخة دوى صداها بجوف هذا النهر، لتثور أمواجه هو الآخر متضامنًا مع احتضارها هذا.

********

انتهت "سومية" من تجهيزاتها للذهاب إلى النادي والجة إلى غرفة "يامن" الذي كان يُنهي استعداداته وهو يردد بابتسامته واسعة:

- أنا خلصت يا ماما.. بس يا ترى "چوليا" هانم هي كمان خلصت ولا لسه؟

 

داعبت "سومية" خصلات شعر صغيرها دانية منه بقبلة قوية وهي تردد بفخر :

- يسلملي بطلي الهمام كلم بابا بقا وقوله إننا خمس دقايق وهننزله.


 التقط "يامن" هاتفه وبدأ بالاتصال بوالده وهو يردد بحماس:

- أوك... روحي انتِ بقا شوفي "چوليا".


 غادرت "سومية" إلى غرفة "چوليا" التي كانت مازالت تغط بسبات عميق، ولم تفلح معها كل محاولات والدتها التي صاحت بها مستنكرة :

- "چوليا"..دي خامس مرة أصحيكِ فيها لو ما قومتيش حالًا هنسيبك ونمشي.


لا جواب واضح يأتيها، إنما كانت همهمات خافتة غير مفهومة وإشارات باليد متراخية، لتفقد "سومية" الأمل باستيقاظ ابنتها، فتزفر زفرة حارة وهي تطفيء مصباح الغرفة موصدة الباب خلفها بضجر.


 ليقابلها "يامن" وعلامات الدهشة والاستنكار قد كست معالم  وجهه وهو يهتف مستنكرًا:

- برضه ما صحيتش؟


 رفعت "سومية" كتفيها بقلة حيلة ويأس وهي تلوي فمها لأسفل مرددة :

- مش معانا في الدنيا أصلًا..هي حرة بقا يلا بينا إحنا عشان ما نتأخرش على بابا.


 ما أن تسلل إلى مسامع "چوليا" صرير باب الشقة وإغلاقه؛ حتى دفعت عنها الدثار بقوة وهبت من مضجعها بكامل نشاطها وحيويتها، لتخرج مستكشفة صحة مغادرتهما وتعود إلى غرفتها ثانية بقفزات السعادة التي ترفرف حولها. 

فتحت خزانتها ملتقطة ثوبًا أرجواني قصير كاشف للذراعين ومنتصف الصدر لترتديه مهرولة قبل أن تبدأ  في وضع بعض من مستحضرات التجميل القوية التي تتناسب مع لون فستانها وخامته، لتعلن ساعة توقفها عن وقت البث المباشر الخاص بها.


فتحت حاسوبها النقال بحماس قوي وهي تعدل من إضاءة غرفتها ووضعيتها المناسبة، لتلج إلى حسابها الشخصي على ذلك التطبيق، وتبدأ بالحديث مع بعض من كان ينتظرها على أحر من الجمر بعد إعلان المؤسسة عن موعد بثها.

بداية كانت الأسئلة بسيطة واعتيادية؛ حتى بدأت تزداد جرأتها تدريجيًا ولابد أن تتجاوب "چوليا" معهم وأن تجيب عن كل تلك الأسئلة للحصول على دعم المؤسسة، وكذلك المقابل المادي المغري لها، إلا أنها  همست ذاتيًا لنفسها بصدمة واستنكار :

- إيه الأسئلة الجريئة دي؟! هو أنا مطلوب مني أجاوب على الكلام ده كله ولا إيه؟.


إلا أن تلك الرسالة النصية التي سكنت هاتفها من مديرتها تطلب منها الاندماج والتفاعل مع متابعيها كانت جواب سؤالها، كما أن تلك المديرة لم تغفل عن الثناء على جمالها ولباقتها في إدارة الحوار. 

فقد  كانت تمتلك جميع مفاتيح شخصية" چوليا"  حقًا؛ فما إن أكملت قراءة الرسالة حتى تنهدت بقوة وبدأت بالتفاعل مع المتابعين ومجاراة جرأتهم، بل والتفوق عليها أيضًا، كما بدأ يسعدها بعض التعليقات عن أنوثتها الطاغية ومعالم جسدها الأنثوية. 


*********

بسيارة "ياسر" كان "يامن" يثرثر كثيرًا بسعادته لعودته إلى سباق السباحة مجددًا بعد تواصله مع أصدقائه والاتفاق معهم على هذا، بينما "سومية" تنهدت براحة مرددة بسعادة:

- يااااه..بقالنا كتير قوي ما روحناش النادي حاسة إني كنت محتاجة فعلًا للتغيير ده خصوصًا وإن النهارده بيبقى هادي  ومفهوش أعضاء كتير. 


أجابها  "ياسر" حانقًا وهو ينحرف يمينًا نحو البوابة الرئيسية للنادي :

- بس لو كانت "چولي" معانا كان هيبقى أحسن بكتير. 


  استندت "سومية" برأسها على ظهر المقعد باسترخاء مرددة بتكاسل شديد :

- البنت كانت في سابع نومه وحاولت معاها كتير وفشلت فقولت اسيبها تنام أحسن لها. 


والتقطت هاتفها مرددة :

- لما أتصل بـ "يامن" أشوفه فين دلوقتي . 


وأجرت "سومية" الاتصال مع "يامن" الذي أكد عليها خروجه من منزله واتجاهه إلى النادي، ليميل "يامن" الصغير نحوهما بجذعه مرددًا بتعجب :

  -عارفين إيه الغريب في الموضوع ده كله. 


التفتت "سومية" برأسها نحوه، بينما حدقه "ياسر" بنظرات متسائلة بمرآة السيارة الأمامية، ليجاوبهم "يامن" بجدية مستنكرًا :

- إن دي أول مرة "چوليا" تعرف إننا هنكون في مكان عام مع عمو "يامن"  وتضيع الفرصة... مش غريبة دي شوية؟ 


حركت "سومية" رأسها بنفي مرددة بهدوء :

- مش غريبة ولا حاجة أختك كانت نايمة ومش مستوعبة إيه بيحصل حوليها أصلًا عشان كده سيبتها براحتها. 


مط "يامن" فمه بشك وهو يردد بخفوت :

- مش عارف يا ماما بس ممكن برضه. 


بينما كان "ياسر" يلج بالسيارة من البوابة الرئيسية ملوحًا لأفراد الأمن بيده، أخرج "يامن" جسده من النافذة الخلفية للسيارة ملوحًا هو الآخر لأصدقائه الذين كانوا بانتظاره، ليصيح بوالده مترجيًا :

- أقف هنا يا بابا بسرعة بسرعة. 

 

 اتسعت ابتسامة "ياسر" وهو يردد متهكمًا:

- نوقف الطريق بقا عشان خاطرك انت وأصحابك. 


  وكان بالفعل قد تنحى جانبًا وصف سيارته، إلا أن "يامن" لم يمهله إلى ذلك وقفز من نافذتها راكضًا نحو أصدقائه، ليلتفت "ياسر" نحو "سومية" بابتسامته تلك مرددًا :

- انزلي هنا يا حبيبتي وروحي احجزي لنا تربيزة على ما أركن العربية وأحصلك. 


مالت "سومية" بجذعها نحوه دامغة قبلة خفيفة بالقرب من فمه وهي تردد بسعادة :

- أوك يا روحي  هستناك. 


اومأ لها "ياسر" برأسه بابتسامة واسعة، لتستدير هي مترجلة عن السيارة موصدة بابها برفق ، لينطلق "ياسر" بها نحو المكان المخصص للسيارات وصفها بموضعها بمهارة وهو يتنهد براحة ملتقطًا هاتفه مرددًا :

 - أتصل بقا دلوقتي بـ "صافي" أعرفها إن "يامن" خرج من الڨيلا. 


******

قاد "يامن" سيارته المسدلة ستائرها الجانبية بسرعة متوسطة وهو يترنم بكلمات أغنياته الحديثة الصادحة بمذياعه الخاص  منتبهًا لطريقه بتركيز قوي. 

 كما كان يتابع الطريق وأُناسه المختلفة معالمها، يستشعر بالراحة نحو هذا، والبغض نحو ذاك، ليرمق أحدهم فجأة، أحد قد تشبه عليه، فأخذ يعتصر عقله متذكرًا هويته قبل أن يكبح  مكابح سيارته بشكل لا إرادي. صف سيارته جانبًا وأوصدها جيدًا إلا أنه قبل ذلك أحكم قبعة رأسه التي تغطي أغلب معالمه تقريبًا تاركًا ما تبقى لنظارته الشمسية تتولى أمر إخفائه. خطوات عدة ووصل إلى هدفه، ليقف إلي جواره مستقيمًا، واضعًا كلتا يديه بجيبي سرواله وهو يتنهد براحة هادئة كمن سكن قلبه بعد ثورة عارمة حتى وجد نفسه يجلس إلى جوارها بذلك المقعد الخشبي الذي يُصطف بطول ذلك النهر الخالد متنهدًا بهدوء وهو يردد : 

- أسف إني مقدرتش أرد عليكِ إمبارح.


 رمقته بطرف عينها بعدم إكتراث إلا أنها نجحت في الكشف عن هويته  رغم  عبراتها المشوشة لرؤيتها ورغم تنكره هذا، لتومئ له برأسها دون أن تنبس ببنت شفه.


ابتسم "يامن" ابتسامة جانبية متهكمة قبل أن يردد مستنكرًا:

 - انتِ متعودة لما حد يعتذر لك تعامليه بالتكبر ده.


 لم تكن تعيره اهتمامها ولا تنصت لأي حرف تفوه به، وهذا أشعل فتيل غضبه  بعدما خدش كبريائه، ليهب من مجلسه هاتفًا بها بقوة :

- أنا اللي  اديت الفرصة لواحدة زيك  إنها تعيش الوهم وتصدق نفسها.

 

علا لُهاثها وارتفع نشيجه بدمعات غزيرة لم يتوقف مجراها حتى الآن، لتتسع عينا "يامن" صدمة بعدما استشعر بالذنب نحوها وجلس إلى جوارها ثانية في محاولة لتهدئة روعها مرددًا بأسف :

- أسف والله ما أقصد حاجة خودي نفسك و اهدي  يا "ميان".. اهدي.


 فتحت فاهها بشدة تحاول سحب أكبر كمية من الهواء إلى رئتيها، ليفزع "يامن" من هيئتها هذه وينزل أرضًا جالسًا القرفصاء أمامها، رافعًا أنظاره نحوها وهو يردد بقلق لأجلها :

  -"ميان" مالك؟! "ميان".


حدقت بالفراغ أمامها بشرود هاتفة بهلع قوي:

- "چاد"... "چاد"... "چاد".

 

- مين "چاد" ده؟. جوزك ولا خطيبك ولا إيه بالظبط؟

هتف بها "يامن" بثبات حاول أن يتحلى به ليسيطر على هلعها هذا، إلا أن اسم صغيرها هو الذي فرض سيطرته على أحرفها كاملة، لتكمل بهذيان:

- "چاد".. "چاد".


  نهض "يامن"  من مجلسه مطوفًا المكان حوله بأنظار متفحصة حتى وجد متجرًا صغيرًا للمواد الغذائية، فركض نحوه مهرولًا يبتاع منه بعض العصائر والمياه الباردة وعاد إليها مسرعًا واضعًا جميع ما اشتراه  جوارها عدا زجاجة المياه التي فتح قفلها بارتباك وتعثر ، ليملأ خفه ببعض منها  وينثره على وجهها برفق مرددًا :

- اهدي يا "ميان" هيكون كويس والله هنتصل بيه دلوقتي وهنطمن عليه بس اهدي.


حركت "ميان"  رأسها بقوة بدأت تقل تدريجيًا وهي تتمتم بكلمات مبهمة:

- ابني... ابني. 


قرب "يامن" زجاجة المياه من فمها وبدأ يرفعها تدريجيًا وهي ترتشف منها بنهم للحياة حتى اقتربت من إفراغ  نصفها، ليجذبها منها "يامن" مرددًا برفق ودود:

- كفاية مايه كده كملي بعصير. 


وفتح إحدى زجاجات العصائر الطبيعية مُقربًا إياها منها، لترشف هذه المرة بهدوء وتأني حتي بدأت تهدأ تدريجيًا. ما أن  اطمئن "يامن"  عليها حتى جلس إلى جوارها متنهدًا براحة شديدة وهو يردد :

- الحمد لله. 

 

 ليأتيه اتصال هاتفي  من  شقيقه "ياسر"، فقام بإلغائه مُرسلًا له رسالة نصية بعدم الذهاب إليهم وألقى هاتفه إلى جواره بألم لأجلها. 


بينما هدأت "ميان" نسبيًا بطريقة غير مفهومة لها، فمياه وعصائر "يامن" لم تكن هي  ذات اليد العليا بهذا، فقلبها هدأت صرخاته لحاله، وهذا لأن الحالة الصحية لـ "چاد" قد استقرت متخطية مرحلة الخطر. زفر "يامن" زفرة حارة أتبعها بتساؤله الفضولي:

- مين "چاد"؟ 


تنهدت "ميان" براحة كبيرة وهو تجاوبه بابتسامة واهنة : 

- ابني. 


قبضة قوية اعتصرت قلب "يامن"، فحقًا من يملك حق إحراق أرواحنا وإخمادها هم أبنائنا، ليتذكر صغيره التي اشتاق لمسته كثيرًا ، فتمردت عبرة هاربة من أحداقه الجامدة وهو يهمس بخفوت مؤلم :

 - ماله؟  


ابتلعت غصة حلقها بمرارة وهي تردد بأحرف شجنة  :

 - معرفش عنه حاجة باباه أخده مني بالقوة في أمريكا ورجعني مصر غصب عني.. بس أنا قلبي بيقولي إنه في شدة وشدة كبيرة كمان.. تخيل طفل عمره أربع سنين يعيش من غير أمه  مع باباه الـ... 


أطبقت أجفانها بألم قوي رافضة إتمام كلمتها التي علقت بحلقها كمرارة العلقم، وقساوة الصبار، ليغمغم "يامن" بشرود غاضب :

- يمكن وجوده مع ابوه أحسن مليون مرة من وجوده مع أم مستهترة، أم كل طموحها في الحياة إن مجلات الموضة والمجتمع تتكلم عنها وتنشر صورها. 


التفتت "ميان" نحوه برأسها وعلامات التعجب والدهشة تكسو معالمها وهي تضيق عينيها متسائلة :

- مش فاهمة. 

 

 زفر "يامن" نيران غضبه بقوة وكاد أن يفرق شفتيه مُحررًا بعض كلماته المقتضبة، ليجد تلك الرسالة التي انتفض لها جسده كما اتسعت لها أحداقه من الصدمة. 


***********

بالنادي، تلقى "ياسر" رسالة "يامن" التي تؤكد عدم انضمامه إليهم، ليسري ذلك التوتر بأوردته وينهض من مقعده مرتبكًا، لتحدقه "سومية" بأعين مستنكرة وهي تردد: - فيه إيه يا "ياسر"؟!

- ها..


 همس بها "ياسر" وهو يبحث عن حُجة لابتعاده عنها قليلًا، لتهتف "سومية" بتعجب أكبر :

- ها إيه؟ اتنفضت مرة واحدة كده ليه؟


 أشار "ياسر" بسبابته نحو مرحاض النادي وهو يردد بهدوء يعاكس توتره الداخلي :

- هروح الحمام وأجي على طول.


 وخطى مهرولًا نحو المرحاض، بينما استرخت "سومية" بمقعدها ملتقطة كأس العصير الخاص بها  تتناوله بتلذذ واستماع بالأجواء حولها.


ولج "ياسر" إلى المرحاض وهو يستكشف خلو المكان حوله، ليرفع هاتفه مواجهًا له ويبدأ بالاتصال بـ "صافي"، إلا أنها لم تُجيبه  قط، ليغمغم باستياء ساخط :

 - ردي بقا..  هتوديني في داهية.


 وحاول مرة أخرى حتى كادت أن تنتهي المحاولة فأتاه صوتها الهامس المتذمر :

- أيوه يا "ياسر"  هو ده وقت اتصال؟


 أجابها "ياسر" بلهفة محتدة :

- أخيرًا رديتي وقفي كل حاجة حالًا "يامن" مجاش النادي يعني ممكن تلاقيه عندك بين أي لحظة والتانية.


صكت "صافي" على أسنانها، لتخرج أحرفها مضغوطة غاضبة : - اتصل بيه وحاول تعطله عشر دقايق بس أنا خلاص هدخل الڨيلا.

 صاح بها "ياسر" بحدة صارمة :

- قولتلك الغي كل حاجة وإلا و ربي أشيل إيدي من الموضوع ده كله.


ركلت "صافي" الأرض بقدمها بغضب وهي تغمغم ناهية الحديث : 

- أنا مش هضيع الفرصة دي من إيدي عشان حضرتك مش عارف تسيطر على أخوك.

 

ليأتيها صوت "ياسر" الحازم :

- لو ما نفذتيش اللي بقولك عليه  هتتكشفي وعمرك ما هتقدري تنفذي خطتك  .


 ليجدها قد أغلقت الهاتف وقطعت الاتصال بينهما، فيكور قبضته بغضبٍ حتى ابيضت  خلاياها  وهو يهتف بامتعاض قوي :

- غبية! شكلي هروح  في داهية بس على الله "يامن" يتأخر شوية على ما المتخلفة دي تخلص مهمتها.


وتنهد بقوة عدة مرات متتالية حتى ضبط أنفاسه ونظمها قبل أن يغادر المرحاض متجهًا إلى  "سومية". 

*******

بولاية نيوچيرسي، ولج "مُهاب" إلى شقته حاملًا صغيره على كتفه وبيده حقيبة ورقية كبيرة معبأة بالعديد من الأدوية المعالجة  والمُقويات، ليجعد أنفه باشمئزاز من تلك الرائحة القذرة الذي امتزجت بها رائحة الخمور، برائحة بقايا السجائر، مع رائحة مخلفات الطعام وبقاياه، ليردد بامتعاض قوي :

- إيه الريحة البشعة دي؟! أول مرة أشمها.. لازم أهوي الشقة وأفتح شبابيكها قبل ما الجيران تشتكي من الريحة وقبل كمان ما الجليسة  بتاعة "چاد" تيجي.


 وولج إلى غرفته مقتربًا من تخت صغيره الجانبي، ليضعه به ويدثره جيدًا واضعًا أدويته إلى جواره، واستقام بوقفته مطوفًا أرجاء الغرفة القذرة، والتي تحمل بين طياتها بعض من بقايا مُغامراته النسائية، ليكتم أنفاسه بيده متجهًا صوب نافذتها، ويفتحها على مصرعيها مستنشقًا بعض الهواء النقي من الخارج وهو يغمغم بسخط :

- هوا الشقة لوحده يجيب أمراض الدنيا ما بالك بالمريض اللي  زي "چاد" ده وبعدين الدكتور حذرني من أي أتربه أو دخان أو روايح نفاذة والريحة هنا إيه! نشادر!.. يعني لازم  أنضف المكان ده كله والله كانت "ميان" مريحاني من القرف ده . 


وتنهد بتذمر متجهًا نحو الفراش يزيل عنه فرشه الملوث ويبدله بآخر نظيف. 

ليصدح صوت ناقوس الباب بالأجواء فتنهد  بسخط مرددًا :

- إياك ما تكونش دي الجليسة وإلا هتهرب أول ما تشم الريحة وتشوف المنظر ده.

 

واتجه نحو باب الشقة يفتحه وبالفعل وقد تحققت مخاوفه فأمام الباب كانت تقف فتاة أفريقية عشرينية، بشعر مجعد، وبشرة سمراء ذات ملامح رقيقة طيبة، متوسطة الطول، نحيفة الجسد، ليرسم "مُهاب"  بثغره ابتسامة ماكرة وهو يردد :

- أهلًا "أفيا".


جعدت "أفيا" أنفها باشمئزاز ما أن تسللت تلك الرائحة إليه، ورددت بغثيان خفيف رافق إنجليزيتها :

- أهلا بك سيد "مُهاب"، هل لي أن أسألك ما هذه الرائحة البشعة؟ ألديك كلب ميت؟ أم أنك لم تنظف المكان منذ قرون عدة؟ 


تنحى "مُهاب" جانبًا وهو يطوف الردهة خلفه بنظرات ساخرة كنبرته :

  -كنت أنتظر حضورك لتنظيف المكان والتخلص من جثة ذلك الكلب .


لم تقو "أفيا" على التحكم بتقلصات أمعائها، لتفرغ ما بها من طعام دفعة واحدة، امتعض وجه "مُهاب" وهو يردد :

- ما بك "أفيا"؟! أأخبروكِ  أن بيتي  ينقصه بعض القاذورات؟


 جففت "أفيا" فمها بمنشفتها الورقية المعطرة، وهي تجاوبه بإعياء شديد :

- أعتذر منك سيد "مُهاب" فقد فقدت السيطرة على أمعائي  كما أعتذر عن قبولي تلك الوظيفة.. إلى اللقاء.


 واستدارت مغادرة المكان، لتجد قبضة قوية تعتصر ساعدها، ونبرة غاضبة تهدر بها:

- أين تذهبين؟.

 

استدارت نحوه  ثانية وقد سرت بجسدها رجفة قوية، فهي حقًا تخشاه، بل وترتعب منه، لتزدرد ريقها بتوتر مرددة :

- يجب أن أذهب إلى بيتي فهذه الوظيفة لا تناسبني.

 

- إن لم تكن تناسبك فسيناسبك السجن الذي يأوي شقيقك فبلاغ صغير بانتهاء إقامتك ستُرحلين إلى بلدك التي هربتي منها بعدما قتل شقيقك صديقه ، أو بلاغ آخر بحيازتك للمخدرات فتعفنين بين جدران السجن.


ارتجف جسد "أفيا" بقوة، لتجده مدفوع إلى الداخل بيد "مُهاب" الذي صرخ بها بصوتٍ جهوري :

- سأغادر لمدة ساعة واحدة إن لم أجد البيت  نظيفًا، والصغير بخير، سأقتلع رأسك من محلها. 


وجذب الباب خلفه وأحكم إغلاقه بمفتاحه، وغادر البناية كاملة. 

لتخطو "أفيا"  نحو الباب مهرولة تتشبث بمقبضه كأنها تقاوم سجانها بعبرات منهمرة وهي تغمغم بتوسل :

- أرجوك سيدي... ارجوك.


إلي أن دوى خلفها صوت بكاء "چاد"  وصراخه باسم والدته، لتتنهد "أفيا" بأسى لحاله وتعتزم  مساعدته بعدما قص عليها شقيقها قصة عنف والدته ضده وإهمالها له بل ومغادرتها للبلد حسب ما رواه "مُهاب" له. 

********

"يامن" بسيارته يضغط الوقود والسرعة بكامل غضبه وقوته وإلى جواره "ميان"  التي لحقت به لاستكشاف الأمر والاطمئنان عليه إلا أنها تتشبث بمقعدها بقوة وهي تصرخ به وتستجديه أن يقلل السرعة لهلعها الشديد منها :

- خفف سرعة العربية يا "يامن".. خففها.


 إلا أن عقله بتلك الرسالة فقط، لا يرى أمامه سواها، لتشتد قوته وغضبه حتى صار الأقصى. خفق فؤاد "ميان" بذعر وفزع، لتنهمر عبراتها وهي تتوسل هدوءه، إلا أن بكائها كان بلا أي صدى داخله، لتُفلت إحدى يديها من المقعد وتتشبث بيده بقوة هاتفة بنحيب :

- أرجوك خفف السرعة أنا عندي فوبيا وقلبي ممكن يقف في أي وقت.. أرجوك. 


رجفة يدها التي تتشبث بيده جذبته من شروده هذا، لتتسلل كلماتها المتوسلة إلى قلبه قبل مسامعه فيخفف السرعة تدريجيًا حتى أوقف السيارة تمامًا وهو يلتفت نحوها بملامح قد لانت قليلًا :

- انا أسف ما كنتش أقصد أخوفك بس ياريت تنزلي تاخدي تاكسي للبيت أنا ما ينفعش أتأخر أكتر من كده.

 

- طب ممكن تقولي فيه إيه الأول.

تفوهت بها "ميان" من بين شهقاتها المتقطعة، ليردد "يامن" بحدة :

- مفيش حاجة انزلي حالًا.

 أطبقت "ميان" جفنيها بخجل وهي تردد بخفوت :

- مش هقدر أركب تاكسي بالحالة دي لو سمحت ممكن توصلني البيت.

 شدد "يامن" على خصلاته بقوة وهو يزفر زفرات حارة، ليحسم أمره أخيرًا وينطلق بسيارته إلى مقصده، إلا أن تلك المرة خفف السرعة كثيرًا.


*********

بغرفة "چوليا"، كانت قد تفاعلت مع متابعيها بجرأة كبيرة، وبدأت تجاوبهم على جميع أسئلتهم الخاصة، بنفس لغتهم ومصطلحاتهم التي يستخدموها . شعور بالانتشاء يسري بأوردتها بعدما أتتها  رسالة نصية تفيد تحويل بعض الدولارات إلى حسابها البنكي، وكلما أثنى أحدهم على أنوثتها وتفاصيل جسدها؛ حتى أبدى أحدهم رغبته في قضاء ليلة جامحة معها، فارتبكت بذعر وأغلقت البث مباشرة وهي تهتف بغضب جامح:

- الحيوان! إزاي يتجرأ ويطلب مني حاجة زي دي؟.. إزاي؟

 

لتضيء شاشة هاتفها باسم مديرتها بالعمل، فالتقطته مسرعة وهي تهتف بها بغضب :

- شوفتِ الحيوان اللي في اللايف عايز مني إيه؟

 

أتاها صوت المديرة تُعنفها على فعلتها تلك، لتصرخ بها بغضب أقوى:

-  انتِ مجنونة! بقولك  الحيوان كان عايز... 


قاطعها الصوت بخبث هذه المرة وهو يخبرها بأنها مكالمات عبر الشاشات الصماء، فلا ضرر  من بعض الإيماءات والإيحاءات التي تُشعل المواقع وتزيد نسب المشاهدة. 


صرخت بها "چوليا" بغضب قارب الحد الأقصى  وهي تلوح بيدها في الهواء:

- أنتِ اتجننتِ! يعني إيه القرف ده؟ 


لتجد من يقتحم عليها الغرفة بثورته العارمة وهو يصرخ بها :

- يعني القرف اللي انتِ عملتيه بالظبط .


استدارت "چوليا" نحو مصدر الصوت بفزع  وأحداقٍ واسعة وهي تصرخ بهلع :

- عمو "يامن".

 

صفعة قوية أطاحت بها أرضًا، ليدنو منها بجذعه  وهو يقبض على ذراعها بقوة صارخًا:

- بتعرضي نفسك على النت زي المومس.. جالك عروض ولا لسه؟


نظرات هلع وفزع سكنت أحداقها  الزائغة والتي انهمرت منها العبرات سيولٍ عارمة وهي تنتفض بين يديه مرتجفة بعويل:

- والله ما عملت حاجة ولا كان قصدي.. كل الحكاية إن واحدة طلبت مني أعمل لايف واتكلم فيه مع المتابعين.


 صفعة أخرى هوت على وجنتها، لتتطاير قطرات الدماء من فمها كما تطايرت نيران الغضب من أحداقه وهو يصرخ بها :

- لابسالي قميص نوم وطالعة بيه لايف إزاي فستان زي ده في دولابك أصلًا؟ ردي عليا.

 

بدأت "چوليا" تربت على صدرها متوسلة الصفح والغفران وهي تردد :

- والله ما هعمل كده تاني يا عمو.. سامحني بالله عليك مش هعمل كده تاني.


ضغط "يامن"  على ذراعها بقوة وهو يصرخ بها بأوج غضبه :

- عارفة اللي عملتيه ده بيتسمى إيه؟ عارفة؟ بيتسمى إثارة غرائز و تحريض على الفسق والفجور.. يعني حتة عيلة زيك عندها ١٤ سنة تحرض على الفسق والفجور!  يعني  أقل من ساعة وتلاقي الشرطة كلها هنا.. دي الشهرة اللي كنتِ بتدوري عليها؟  دول الفولورز اللي كنتِ عايزاهم. 


موجة من البكاء الشديد دخلتها "چوليا" حتى كاد قلبها أن يتوقف من شدته، وكل هذا  كان يصل إلى مسامع "ميان" التي أمرها "يامن" بالبقاء بالخارج مع الخادمة، إلا أن قلبها رفض هذا البقاء وأصر على إنقاذ تلك الصغيرة من يده، لتركض نحو الغرفة وتقتحمها بقوة صارخة :

- كفاية.. كفاية يا "يامن" البنت هتموت في إيدك. 

 

 تجاهل هو هتافها  وأكمل عنفه ضد "چوليا" التي أوشكت على فقدان وعيها من الفزع، لتركض نحوها دافعة يده عنها وهي تحتضنها بقوة محاوطة كتفيها بذراعها، صارخة به : 

- أخرج بره يا "يامن".. أخرج بره وابعتلي البنت تساعدني. 


جذبها "يامن"  بقوة  من ذراعها، لتطاردها ذكريات تعنيف "مُهاب" الجسدي لها بصور متلاحقة، ذكريات ارتجفت لها سائر خلاياها، إلا انها استجمعت  كامل قوتها وشراستها بعنف ودفعته بعيدًا عنها وهي تصرخ به بغضب جامح :

- لو عملت كده تاني هقتلك.. فاهم يعني إيه هقتلك. 


ارتبك جسد "يامن" قليلًا من هيئتها المريبة، ليتقهقر للخلف خطوة وهو يلتقط حاسوب "چوليا" صائحًا بغضب مازال يفرض سطوته عليه:

- هشوف المصيبة دي وأرجعلك تاني يا "چوليا".. ماشي. 


غادر "يامن" ، وتشبثت "چوليا" بأحضان "ميان" بقوة، فهي كانت لها طوق النجاة، وإكسير الحياة، بينما شددت "ميان" من احتضانها لتبث بعض الأمان لقلبها، أو ربما رأت بها نفسها أو حتى صغيرها. ولجت العاملة بمعالم وجهٍ فزعة من صراخ "يامن"، لترفع "ميان" أنظارها نحوها مرددة :

- لو سمحتِ هاتي هدوم غير دي، و كمان هاتي عصير بارد. 


اومأت العاملة برأسها وهي تتجه نحو خزانة "چوليا"، لتفتحها وتنتقي منها بعض الثياب المُحتشمة فتناولها إلى  "ميان"، مرددة قبل أن تغادر إلى المطبخ :

- اتفضلي. 


تناولت "ميان" الثياب من العاملة وانتظرتها  قليلًا حتى غادرت الغرفة وأوصدت الباب خلفها، لتعود بأنظارها ثانية نحو "چوليا" مرددة بحنو بالغ :

- لازم تغيري الفستان ده.. ياريت تساعديني في كده. 


  أماءت  "چوليا" برأسها وهي تبتعد عن أحضان "ميان" قليلًا، لتبدأ في تبديل فستانها هذا بثيابها تلك التي تناولها "ميان". 


بينما بالخارج كان "يامن" يتلظى بنيران غضبه وهو يتابع تسجيل ذلك البث المباشر وتجاوزات المتابعين ومسايرة ابنة شقيقه لهم قبل أن يحذفه  من حسابها الشخصي، إلا أنه قد تسربت منه بعض المقاطع المنتقاة وتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي بعناوين ساخنة أشعلت الوسط بأكمله. 


التقط "يامن" هاتفه للتواصل مع بعض الصحفيين والمسئولين بتلك المواقع لحذف هذه المقاطع والأخبار، إلا أنه صُدم بخبر تناولته كل المواقع والصحف الإلكترونية.. (النائب العام يأمر بإلقاء القبض على ابنه شقيق فنان شهير لتحريضها على الفسق والفجور والإخلال بقيم ومعتقدات المجتمع) . 


ألقى "يامن" هاتفه بقوة نحو  الجدار المقابل له وهو يصرخ صرخة وحش مُكبل بأصفاد من نار تُذيب جسده وروحه المكلومة. تطاير الهاتف شظايا كما تطايرت نيران الغضب من أحداقه  وهو يركض نحو غرفة "چوليا". 


دمتم في أمان الله وحفظه


الفصل السابع من هنا


بداية الروايه من هنا


مجمع الروايات الكامله من هناااا


إللي عاوز يوصله اشعار بتكملة الروايه يعمل إنضمام من هنا

تعليقات

التنقل السريع
    close