أخر الاخبار

رواية في قبضة اللعنات الفصل السادس عشر حتي الفصل السادس والعشرون والاخير بقلم مريم غريب

 رواية في قبضة اللعنات الفصل السادس عشر حتي الفصل السادس والعشرون والاخير بقلم مريم غريب 


رواية في قبضة اللعنات الفصل السادس عشر حتي الفصل السادس والعشرون والاخير بقلم مريم غريب 


رواية في قبضة اللعنات البارت السادس عشر حتي الفصل السادس والعشرون والاخير بقلم مريم غريب 

الفصل السادس عشر 

_ لعبة ! _

لمح "سفيان" أثناء مروره بالسيارة تجاه بوابة المنزل الرئيسية، فتاة... فتاة ذات قامة متوسطة، تقف هناك أمام الحارس و قد بدا أنهما يتجادلان حول أمراً ما


ما كان منه إلا أن أطلق زاموراً عالياً حتى يجذب إنتباههما، و بالفعل هرع الحارس ليفتح له البوابة، بينما تطير نظرات الفتاة إلى السيد ذي الرأس الأشيب و اللحية الرمادية الكثيفة، و الملامح الهرِمة النبيلة ...


كان يبادلها النظرات أيضاً، إلى أن أوقف السيارة عندها.. أنزل زجاج النافذة و تطلع إليها قائلاً بإبتسامة وديعة :


-صباح الخير يا أنسة !


إبتسمت الفتاة فأضفت إبتسامتها جمالاً على جمالها و قالت :


-صباح النور. حضرتك سفيان باشا أكيد صح ؟


سفيان بإيماءة : صح. إنتي تعرفيني كويس بقى !!


كانت الدهشة مقروؤة بسهولة على ملامح وجهه، و كأنها باغتته حقاً، فهو قد ترك البلاد لفترة من شأنها أن تمحي ذكراه أو بالتحديد شكله من رأس أي شخص ...


أجابته الفتاة و لا زالت إبتسامتها الحلوة كما هي :


-بصراحة لأ ماتشرفتش بحضرتك قبل كده. دهمجرد تخمين. أنا كنت جاية عشان مامي بس. و Sorry نسيت أعرفك بنفسي.. و مدت يدها للمصافحة و هي تقول :


-أنا يسرا الزيني. بنت يارا شهدي !


برقت عيناه لجزء من الثانية، حين عرَّفت الفتاة عن نفسها... مد يده بدوره و صافحها قائلاً بحفاوة كبيرة :


-أهلاً أهلاً أهلاً. أهلاً بيكي يا يسرا. ما شاء الله عليكي ده إنتي عروسة زي القمر !


يسرا بإبتسامة خجلة :


-ميرسي أول يا أنكل


و إلتفت "سفيان" نحو الحارس ليوبخه :


-و إنت يا سي البواب. إزاي تسيب الأنسة واقفة على الباب كده ؟ ليه مادخلتهاش علطول ؟؟


رد الحارس بإرتباك شديد :


-يا بيه أنا كنت لسا بسألها عايزة مين و كنت هابلغكم علطول ماكنتش آ ا ..


-خلاص خلاص حصل خير ! .. قاطعته "يسرا" بلهجة لطيفة


-أنا مش جاية أعمل مشاكل يا أنكل. أنا بس جاية أشوف مامي لو تسمح !


نظر لها "سفيان" من جديد و قال برحابة :


-طبعاً يا حبيبتي تقدري تشوفيها زي ما إنتي عايزة أهلاً بيكي في أي وقت


-Thanks !


سفيان مبتسماً بخبث :


-بس أنا رايح مشوار و عامل مفاجأة لمامي. إيه رأيك تيجي معايا نجبلها المفاجأة سوا ؟!


تصنعت "يسرا" الحماسة و هي تقول :


-آه طبعاً Sure. بس يا ترا إيه هي المفاجأة يا أنكل !!


سفيان بلؤم : المفاجأة تبقى أخوكي يا حبيبتي. أكيد عرفتي إن ليكي أخ !


-آه سمعت يا أنكل. بس حضرتك هاتجيبه منين يعني هو كان مسافر مثلاً و هانروح نستقبله في المطار ؟


-لأ يا حبيبتي مش مسافر. هو بس كان تعبان شوية و راح المستشفى. هاروح أجيبه دلوقتي.. تحبي تيجي معايا ؟


فكرت "يسرا" بينها و بين نفسها للحظات، ثم قالت بإبتسامة مشرقة :


-أوكي !


سفيان بإبتسامة : طيب لفي إركبي يلا !


و أطاعت "يسرا" أمره، إستقلت بجانبه في الحال و إنطلق هو فوراً... إنما بالطبع لم يخفى عنه ظهورها المفاجئ منذ دقيقة تقريباً


تلك المرآة الأمامية للسيارة أظهرتها بوضوح عندما برزت فجأة بالشرفة العلوية للمنزل.. إستطاع أن يرى الهلع الذي أصابها كلياً حين رأت إبنتها تقف معه، ثم تستقل سيارته، و كان يعلم قبل أن يهتز الهاتف بجيب سترته أنها سوف تتصل، و هو بالطبع لن يرد عليها


سوف يتركها هكذا، تعاني القلق و الرعب حتى يأذن هو بزوالهما عنها ...


و مرة أخرى ينظر نحو "يسرا" قائلاً بلطف :


-بصي يا حبيبتي أنا شوفت ماما و هي بتبص علينا من البيت. هي بتحاول تتصل بيا بس أنا مش عاوز أرد عليها و أحرقلها المفاجآت بتاعتنا. يا ريت أنتي كمان تقفلي موبايلك شوية. لحد ما نرجعلها كلنا سوا تمام ؟


يسرا بإبتسامتها الرقيقة :


-حاضر يا أنكل. حالاً هاقفل الموب !


راقبها و هي تفعل ذلك و على وجهه إرتسمت تعابير الإمتنان.. الآن هو أكثر من راضياً، فكيف يكون حاله بعد بضعة ساعات أخرى ؟ عندما يدخل عليها و معه إبنها، حتماً سيكون مشهداً و موقفٍ لا يُنسى !!!


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


خرجت "ميرا" من عيادة الأخصائي النسائي برفقة "يوسف"... كان كلاهما واجمان، ساهمان و قد نهل الشحوب منهما بشدة


فقد تأكد خبر الحمل !


-هانعمل إيه في المصيبة دي ؟


كان هذا السؤال أول ما تفوه به "يوسف" منذ أن أخبرته "ميرا" بالنبأ الكارثي


ربطت "ميرا" حزام الآمان، وضعت حقيبتها الصغيرة جانباً، ثم أدارت وجهها إليه ...


-أنا مش هانزل البيبي يا چو ! .. قالتها "ميرا" بصرامة


يوسف بإستنكار : نعم !!! قولتي إيه ؟ يعني إيه مش هاتنزلي البيبي ؟؟؟


ميرا بغلظة : مش هانزله يعني مش هانزله. I will keep it. أنا عايزاه


يوسف منفعلاً : يعني إيه أنا عايزاه ؟ إنتي فاهمة إنتي بتقولي إيه ؟ ده إنتي لسا قايلالي جوزك مابيخلفش ؟ هاتقوليله إيه ؟ لما بطنك تكبر هاتخبيها إزاي ؟ إنتي عارفة هو أو أبوكي ممكن يعملوا فيكي إيه لو الموضوع ده إتعرف ؟ إنتي مجنونة ؟؟؟؟


-لأ بس أنا عايزة أبقى أم ! .. هكذا صرخت فيه بطريقة هجومية


و أردفت و صدرها يشتعل حسرةً :


-أنا إتحرمت من الولاد بما فيه الكفاية. من سنين و أنا متعلقة بسفيان أخويا و حبيته زي ما يكون إبني الحقيقي. بس دايماً كنت بحلم أشيل جوايا بيبي. بيبي بتاعي أنا. أنا إللي أجيبه. يبقى شبهي أنا. مش شبه يارا أو أي ست تانية. طول عمري نفسي أجرب المشاعر دي. نفسي أجرب كل حاجة فيها.. دلوقتي جاتلي الفرصة. أنا حامل. أنا جوايا بيبي. بتاعي.. لأ يا يوسف. مش هافرط فيه أبداً. سامعني ؟ مش هافرط فيه أبداً !!!


تشنجت عضلات وجهه و هو يقول مغالباً مشاعره العنيفة :


-ميرا حبيبتي. أنا آسف إني بقولك كده. بس ده مش Option.. البيبي ده هايكون خطر عليكي و عليا مش آ ا ..


-قول إنك خايف على نفسك بقى ! .. قاطعته صارخة مرةً أخرى


-خايف على حياتك و بيتك و مراتك. ماتخافش يا يوسف باشا. أنا عمري ما هاتسبب لك في أي آذى. أنا أصلاً عمري ما طلبت منك حاجة. من يوم ماسبتني زمان لحد ما قابلتك و علاقتنا إتجددت تاني. حتى دلوقتي أنا مش بطلب منك حاجة. لو وصلت إني أسافر أولد برا و أعيش لوحدي Single mother هاعملها


يوسف بإستهجان : إنتي إتجننتي مافيش كلام.. إنتي فاكرة الموضوع بالبساطة دي ؟ إنتي مش في وعيك يا ميرا. أنا لا خايف على نفسي و لا على بيتي. و مش محتاج أبررلك و أدافع عن نفسي زي كل مرة. بس إنتي هنا إللي واقفة في وش القطر. إنتي إللي هتتآذي الأول. فكري كده ممكن تقولي إيه أو تتصرفي إزاي لو حد إكتشف حملك ؟ هاتقوليلهم منين ؟... ما تنطقي ساكتة ليه دلوقتي !!!!


ميرا بعناد : بردو مش هانزله يا چو. لو هاموت مش هانزله. دي أخر فرصة ليا عشان أبقى أم. أنا مش صغيرة. أنا كبرت و ماعنديش وقت أضيعه. و ماضمنش الفرصة تيجي تاني !


رمقها "يوسف" بنظرات يائسة، رأسها صلداً كالصخر، هي هكذا دائماً ...


-يبقى مافيش قدامك غير حل واحد ! .. دمدم "يوسف" بحزم


نظرت له بإستفهام، فإستطرد بجدية لا تقبل النقاش :


-هاننزل القاهرة حالاً. هاتطلبي الطلاق من عمرو. و بعدين هانتجوز.. لازم تعملي كده في أسرع وقت. سامعاني ؟ أنا مش هاسمحلك تضيعي مني تاني. و المرة دي للأبد ! ............. !!!!!!!!!!!!


❤❤❤


( 17 )


_ إزدراء ! _


ماذا تفعل الآن ؟


لم يبقى شيئاً إلا و فعلته، خلال الساعة الماضية جربت كل شيء، و فعلت كل شيء.. تلفنت لأمها و تشاجرت معها بشدة، كيف تترك حفيدتها تغادر المنزل هكذا دون أن تعلم وجهتها ؟ كيف تتركها تغادر وحدها أصلاً ؟!!!


ألم تحذرهن من المخاطر المحيطة بهن جميعاً ؟ ألم تقول أنهن مستهدفات ؟ طالما ذاك الرجل على قيد الحياة هو و إبنته !


كيف تقدم "يسرا" على تلك الأفعال ؟ تقذف بنفسها بالنار !!!


و ماذا تفعل "يارا"، و هي تحت رحمته الآن... ليس بيدها شيء، فهي لا تعلم أين أخذها، و لماذا أخذها ؟؟؟؟ 


رأسها سينفجر من كثرة التفكير !!!!!


لقد ذرعت قاعة البهو جيئة و ذهاباً للمرة المئة بعد الألف حتى الآن، و كانت دائمة النظر في ساعة يدها و شاشة الهاتف المضاءة في آن... لتسمع فجأة صوت جلبة خفيفة آت من الخارج، و أشياء تجر فوق الأرض الرخامية !


إستدارت "يارا" و أرهفت النظر نحو باب المنزل الضخم، مرت الثواني الثانية تلو الأخرى.. و أخيراً


ظهر المجرم، ظهر السفاح أولاً بتعبيره الشيطاني الباسم ...


-وديت بنتي فين يا آ ا .. و بترت صياحها المصم و جمدت مكانها فجأة


حين برزا هؤلاء باللحظة التالية !!!


إبنتها على اليمين، و إبنها على اليسار... إبنها ؟!!


هذا إبنها حقاً، هذا "سفيان".. بل "عبد الرحمن" كما أسمته قبل أن يولد، أجل هذا هو إبنها !


-مامي ! .. هتفت "يسرا" مبتهجة فور رؤية والدتها


و إنطلقت صوبها في الحال، إستقرت بين أحضانها الدافئة و طوقتها بشدة، بينما "يارا" لم تكن هنا، لم تكن تشعر بأي شيء في وجوده.. و كأن الزمن في الوجود كله قد توقف، فساد الهدوء و السكون


إنها لا ترى غيره الآن، و لا تريد أن ترى غيره... هذا الشاب الجميل إبنها، هذا الرجل اليافع إبنها، إبنها الذي ظنته في عداد الموتى منذ أمد، ها هو حياً يرزق أمامها


كيف غفلت حقيقة بنوته لها ؟ كيف غفلت التشابه الكبير بينها و بينه ؟ كيف لم تشعر به ؟ و كيف لم يشعر هو أيضاً ؟ أحقاً أنها كادت تسقط معه في ذلك الذنب المخزي ؟ و أي مخزي !


لو كان حدث لكانت ميتة الآن، ليس على يد أحد، بل على يد نفسها، كانت لتقتل نفسها لا محالة.. لأول مرة تمتن لوجود الشخص الذي دمر حياتها، لأول مرة في حياتها تشكر الله على عودته في الوقت المناسب


و لكن هل حقاً عاد في الوقت المناسب ؟ إذن ماذا عن هذه النظرة في عين إبنها ؟ ذلك الإزدراء كله الذي يوجهه لها.. رباه إنها لا تحتمل هذا، لا تحتمله أبداً !!!!!


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


أغلقت "ميرا" سحاب حقيبة ملابسها الصغيرة بأصابع مرتعشة ...


كان "يوسف" ينتظر خلفها، ما أن أستدارت إليه حتى قام من فوق الكرسي الجلدي الوثير، مشى نحوها و هو يقول مبتسماً :


-خلصتي يا حبيبتي ؟


ميرا عابسة : أيوه خلصت !


و شدها إلى صدره باللحظة التالية ...


-إنتي شكلك Nervous ! .. تمتم لاصقاً فمه بمفرق شعرها


شدد ذراعيه حولها مكملاً بصوته الدافئ :


-بتترعشي كمان ! ليه كده يا حبيبتي ؟ إنتي قلقانة من حاجة ؟!


غمغمت بنبرة مهزوزة و هي تدفن وجهها بين طيات قميصه :


-أنا مش قلقانة يا چو.. أنا مرعوبة !


-من إيه بس ؟ لو حاسة إنك مش هاتقدري تكملي أوعدك إني هاخلصك من الموضوع ده في أسرع وقت و مش هايكون في أي خطر عليكي. أنا قولتلك بلاش من الأول


ميرا بضيق : مش ده قصدي يا يوسف. أنا مش خايفة على نفسي.. و بسطت كفها فوق حدبة بطنها مستطردة :


-أنا خايفة عليه هو. و خايفة من ردود الأفعال إللي هاتحصل قريب.. خايفة من دادي. و خايفة من عمرو. مش عارفة كل ده ممكن يخلص إزاي !!


تنهد "يوسف" مطولاً و أبعدها عنه قليلاً، ثم قال محدقاً بعينيها الرماديتين :


-كل ده هايخلص يا ميرا. عارفة ليه ؟ عشان كان لازم يخلص من زمان. إنتي إللي إتأخرتي بس. أنا واثق مليون% إن مافيش أي مشاعر حب بينك و بين عمرو. متأكد إنه مابيحبكيش زي ما إنتي كمان مابتحبيهوش. العلاقة دي لازم تنتهي


ميرا بلهجة معذبة :


-عشان تنتهي لازم بجرح عمرو. لازم أجرحه أوي عشان يرضى يسبني. و دادي مش هايسمح بكده أصلاً !


يوسف بصرامة : أبوكي مش هايقدر يعمل حاجة. لما تتصرفي من ورا ضهره مش هايكون عقبة في طريقك. و ده إللي إنتي هاتعمليه. خليها تيجي من عمرو.. ركزي يا ميرا. إوعي تفقدي تركيزك ثانية واحدة. سامعاني ؟


نظرت في عينيه بخشوع و أومأت بصمت، فإبتسم و مال لاثماً شفاهها بعمق، ثم تمتم أمام فمها :


-هاتجوزك يا ميرا.. مش هارتاح إلا لما أتجوزك !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


-إتفضلي يا حبيبتي ! .. قالها "سفيان" و هو يقدم لها كأس العصير راسماً على ثغره إبتسامته المستفزة تلك


ثارت "يارا" عليه مجدداً :


-إبعد عني. إنت إيه ؟ مابتحسش أبداً. مش طايقة أشوفك قدآاااامي !!


سفيان بوداعة : ليه كده بس ؟ أنا عملتلك إيه ؟!


و هنا خرجت "يارا" عن السيطرة، فإنقضت عليه ممسكة إياه من تلابيبه و هدرت بعنف :


-إسمع يا سفيان. إنت أخرك معايا إبني. قسماً بالله لو ما خلصت اللعبة دي فوراً و سلمتني إبني هاحرقك. و هاحرق قلبك على بنتك حبيبتك دي. و حياة إللي نجاني من الموت على إيدك و ردلي إبني تاني المرة دي غير كل مرة. محدش هايمنعني عنك و لا عن بنتك سامعني ؟


قهقه "سفيان" منتشياً بزوبعة غضبها هذه، أخذ يربت عليها و يهدئها قائلاً :


-طيب بس بس. إهدي شوية. مالك عصبية كده ليه ؟ أنا وعدتك إن كل شيء هايتصلح !


يارا بإنفعال : مش عايزة وعودك دي. مش عايزاك في حياتي أصلاً. أنا ما صدقت خلصت منك. إيه إللي رجعك ؟!!!


سفيان بسخرية : إيه إللي رجعك ! تخيلي لو ماكنتش رجعت. كنتي هاتغلطي مع إبنك. و لا عمرك كنتي هاتقدري تبصي في وشه لو كان حصل. أنا شخصياً ماكنتش هاسيبك حية دقيقة واحدة لا إنتي و لا هو. إحمدي ربنا إني رجعت


يارا بغضب شديد :


-و إنت عملت إيه دلوقتي ؟ إنت لسا بتدمرلي حياتي. إبني إللي بتتكلم عنه ده مش طايق يبصلي منغير حاجة. كل ده بسببك إنت. إنت إللي عملت فينا كده. إنت السبب الله ياخدك !


و كانت تضربه بقبضتيها أثناء كلامها، ليمسك بيديها فجأة و يمنعها عن ضربه قائلاً بحزم :


-عندك حق. أنا السبب.. أنا السبب في كل حاجة حصلت. أنا أبو الواد. أنا جوزك. يعني أنا حر. فاهمة ؟ لحد أخر لحظة كلمتي إللي بتمشي. مافيش حاجة هاتم عكس إرادتي. و طالما أنا قلت عايزك و عايزه يبقي محدش فيكوا هايتنقل من هنا. و خليكي فاكرة إن أنا لسا سفيان الداغر !


يارا بغلظة : ده كان زمان يا حبيبي فوق بقى


سفيان بإبتسامة : ياريت بلاش تستعجلي. إنتي لسا فيكي العادة دي ؟ مع ذلك حاضر. هاصحيلك الداغر إللي جوايا يا يارا. هانعيد الأمجاد تاني .. و ضحك قائلاً بصوت أجش :


-تعالي معايا !


و شهقت بفزع، حين جرها من يدها بعنف تجاه باب الغرفة.. فسألته بتوتر قاسٍ :


-واخدني على فين ؟!!


سفيان بإصرار قوي :


-هاوديكي عند إبنك. مش كان نفسك تشوفيه.. هاخدك له دلوقتي. خلينا نشوف رد فعله لما تبقى قصاده Directly !!! ............. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!


❤❤❤


( 18 )


_ خسارة ! _


إنتابها الفزع حين أفصح لها عن نيته، فسحبت ذراعها من يده بعنف و دفعته عنها بكل قوتها و هي تصيح بذعر :


-إووووعى. إبعد عني مش عايزة أروحله. مش عايزة. مش عآآآيزة !!


و إنهارت منخرطة في بكاء هستيري، و كأنه سلب إرادتها و وعيها بالضغط عليها بهذه الطريقة... يا له من داهية، حقاً شيطان !


إبتسم "سفيان" نصف إبتسامة، إقترب منها و هو يقول بصوت آجش :


-عيبك إنك عايزة تستقوي قدامي بأي شكل. عايزة تبينيلي إنك مش ضعيفة زي زمان و إني فقدت سيطرتي عليكي لمجرد إنك عيشتي شوية منغيري و طبقتي دروسي عملي على إللي حواليكي. إفتكرتي إنك ممكن تبقي زيي !!


أفلتت شهقة قوية من فمها، عندما شدها إليه بقسوة مكملاً بصوت كالفحيح :


-كان لازم تعرفي إن أنا إللي خليتك كده. أنا إللي شكلتك. أنا إللي صممت الـsystem بتاعك يعني. و أنا بس إللي أقدر أتحكم فيه. عمرك شوفتي تصميم إتمرد على مُصممه ؟ يارا. عمرك ما هاتخرجي عن سيطرتي. مهما عملتي. إوعي تتحديني تاني. دماغك دي أنا إللي مكلفها.. سامعاني ؟


و تركها ...


بقيت متخشبة تماماً و بصرها جامداً كالحديد، حتى سمعت باب الغرفة يُصفق بعنف، فأدركت أنه رحل


و هنا فقط، دبت فيها الحياة مرة أخرى،.. لكنها لم تكن بخير !


مشت نحو السرير بخطوات غير متزنة، مددت جسمها فوقه ببطء و تركت دموعها تسيل في صمت و هدوء شديدين... لم يكن هذا سوى تصريحاً عن عجزها المتجدد، إنه محق، و هي الآن تنعي قوتها الواهية، كل ما فعلته كان محض أوهام


لم تكن أبداً تلك المرآة القوية، المتجبرة، بل هي أضعف مما تتصور !!!


••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• 


قرابة الساعة تقريباً، و لم تزل الجدة تمضي في الشجار الحاد مع حفيدتها... بدا غضبها بلا نهاية


فحاولت "يسرا" تهدئتها من جديد :


-يا تيتة بليز إهدي شوية. قولتلك ماحصلش حاجة لكل ده !


ميرفت بصياح جهوري :


-يعني إيه ماحصلش حاجة ؟ لما تكدبي عليا عشان تروحي لأمك دي مش حاجة كبيرة ؟ أثق فيكي إزاي بعد كده ؟ عايزاني أتصرف معاكي إزاي من هنا و رايح ؟ عايزاني أحبسك في البيت يعني ؟؟


يسرا بضيق شديد :


-على فكرة إنتي مكبرة الموضوع أوي. أنا زهقت من التبرير. هو أنا كنت فين يعني ؟ أنا روحت أشوف أمي. وحشتني الله !


-و بالنسبة لخروجك مع الزفت ده تسميه إيه يا يسرا ؟!!


كانت هذه "يمنى".. خرجت عن صمتها أخيراً، و شاركت في المشادة هي الأخرى ...


نظرت "يسرا" إليها و قالت بحدة :


-بقولك إيه يابت إنتي. محدش فينا هنا واصي على حد. ماتنطقيش معايا بكلمة إنتي فاهمة ؟ لا إنتي أكبر مني و لا باخد منك المصروف. و ماتدخليش في إللي مالكيش فيه أصلاً


لم ترد "يمنى" عليها، آثرت الصمت لعدم رغبتها في تضخيم الأمور أكثر.. لكن الجدة أبت إلا أن تزيد التقريع القاس على حفيدتها :


-و صوتك بقى بيعلى في وجودي كمان ! ده إحنا إتطورنا أوي يا ست هانم. واضح فعلاً إن بنتي ماعرفتش تربي بس أنا بقى هاصلح غلطتها دي. و حياة أمك يا يسرا لأربيكي من أول و جديدوو مافيش خروج من البيت ده تاني لحد ما ترجع يارا


يسرا بسخرية : مش لو رجعت أصلاً !


تجهمت "ميرفت" في هذه اللحظة، و قالت بقلق :


-قصدك إيه يابت ؟!!!


تململت "يسرا" قائلة :


-قصدي إن مامي قاعدة في بيت الرعب. محدش شاف هناك إللي أنا شوفته. حراسة في كل مكان و كلاب متوحشة و أشكال إجرامية مقرفة. زي ما يكون قصر ملكي أو متحف خايفين حد يهجم عليه.. plus جوزها السابق. الحيوان ده إللي إسمه سفيان الداغر. من نظرة واحدة إتأكدلي إن رجوعه مش مسألة طبيعية. و إنه عمره ما هايسيب مامي تاني بالسهولة دي زي ما حصل زمان. الحظ مش هايقف معاها مرتين يا تيتة. ده أنا مش مصدقة إني خرجت من عندهم. متهيألي لولا إصرارها كان زماني محبوسة معاها هناك.. هو فعلاً ماكنش عايزني أمشي. ده كان واضح جداً !


تسلل الخوف إلى قلب "ميرفت" بعد إستماعها لهذا، لم تستطع إخفائه أبداً و هي تقول :


-ليه هو بيعمل إيه في أمك ؟ شوفتيه عملها إيه ؟ هي كويسة و لا لأ إنطقي ؟؟؟


تنهدت "يسرا" و قالت بفتور :


-إطمني ياتيتة. مامي كويسة لحد دلوقتي


ميرفت بإنفعال : يعني إيه لحد دلوقتي ؟ ماتقوليلي إيه إللي بيحصل هناك بالظبط !!


إبتسمت "يسرا" و قالت بإنتصار :


-شوفتي بقى إن مرواحي هناك مفيد إزاي ! مهما حاولت مامي تطمنك من بعيد مش هاتقدر توصلك الصورة الحقيقية لحالتها. زي ما حصل زمان. لما كانت بتتبهدل و كانت هاتموت أكتر من مرة. ماكنتيش تعرفي عنها أي حاجة.. لازم أكون جمبها يا تيتة. لازم !


تعالت الحشرجة في صدر الجدة مجدداً و خرج صوتها يزخر بالغلظة و الغضب :


-إسمعي يابت إنتي. مافيش روحة على البيت ده تاني إنتي فاهمة ؟ و ماسمعكيش تقولي عايزة أخرج. مش هاتخرجي من هنا يا يسرا إللي لما أمك ترجع. و مش عايزة كلمة زيادة !


و كأنها واثقة من عودة إبنتها !!


لم يكن لديها ذرة ثقة، و آمنت على كلام حفيدتها، يبدو أنها على وشك خسارة إبنتها مجدداً، و هذه المرة الخسارة حتمية و نهائية.. لكنها بالطبع لن تسمح بإيذاء الفتاتين، لن تسمح ....


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


تفاجأت "ميرا".. لا بل صُدمت، عندما خرجت من بوابات المطار و وجدت أبيها ينتظرها بالخارج !!!


لحسن حظها أن "يوسف" قد سبقها في رحلة مبكرة، تفصل بينهما ساعة واحدة فقط ...


-حمدلله على السلامة يا غالية ! .. قالها "سفيان" و هو يتلقفها بين أحضانه و يطبق عليها بقوة


إحتضنته "ميرا" بدورها و هي تقول بلهجة غير واثقة :


-الله يسلمك. وحشتني يا دادي.. إنت عرفت إزاي إني راجعة إنهاردة ؟!


أبعدها "سفيان" عنه قليلاً و قال :


-أي حاجة تخصك بعرفها يا روحي. و لازم أعرفها !


إبتلعت ريقها بصعوبة و هي تقسر نفسها على الإبتسام ...


و سرعان ما إستقلا السيارة، سيارته الخاصة، بعد أن وضع حقيبتها بالخلف... إنطلق في طريقه، إجتاز عدة مناطق رئيسية، حتى توغل في عمق المدينة


مما أثار ريبة "ميرا".. فهي لا تسكن بالمدينة أصلاً !!


-دادي إحنا رايحين فين ؟! .. قالتها "ميرا" بتساؤل


أجابها "سفيان" دون أن يزيح ناظريه عن الطريق :


-رايحين مشوار صغير يا حبيبتي. ماتقلقيش مش هاياخد أكتر من نص ساعة !


ميرا بإستغراب : مشوار إيه ده ؟ مهم أوي يعني ؟!


رمقها بنظرة جانبية و قال :


-مهم جداً. دلوقتي تشوفي !


ثمة شيء في نبرة صوته لا يطمئن، و هي لا تريد أن تصدق حدسها، لا تريد ...


و أخيراً، بعد مدة قصيرة توقفت السيارة هنا، أمام بناية قديمة، لكنها راقية، في حي سكني منظم و نظيف


ترجل "سفيان" أولاً و دعى إبنته للحاق به، أطاعته فوراً فأقفل السيارة بضغطة زر... ولج إلي الداخل تتبعه "ميرا" و هي تقدم ساق و تؤخر الأخرى


أخذا المصعد، ليصلا في غضون ثوان إلى الطابق الرابع.. كان مقسماً لأكثر من جهة، و لم تحتار "ميرا'' في وجود أبيها، فقد إتجه نحو اليسار مرشداً إياها و بالكاد كانت تواطئ خطواته الواسعة... و ها هما أمام شقة معنونة


رباه !


هذه عيادة طبيب أمراض نساء و توليد !!!!!!


-خشي ! .. تمتم "سفيان" و هو يدفع بجسد إبنته الذي جمد فجأة إلى الداخل


كان الباب مفتوح أصلاً، و كانت هناك إمرآة تنتظر وصولهما بقاعة الإستقبال ...


-أهلاً أهلاً يا باشا.. نورتنا !


شكرها "سفيان" بإقتضاب :


-شكراً يا مدام غادة. دكتورة نادين وصلت ؟


ردت تلك الـ"غادة" و هي تقيس "ميرا" بنظرات فاحصة :


-طبعاً يا باشا وصلت. و مروة و صفاء المساعدين كمان. كلهم موجودين من بدري و في إنتظارك.. و أشارت له نحو عرفة معينة و قالت :


-حضرتك هاتتفضل في الأوضة لحد ما أبلغهم بس. و تكون جهزت المدام


أومأ "سفيان" قائلاً :


-أوك ! .. و أحاط كتفي إبنته بذراعه


-يلا يا ميرا


و سحبها سحباً نحو تلك الغرفة، بينما كان قلبها يدق بصخب شديد في صدرها، و مع كل خطوة يزداد يقينها، رغم أنها لا تزال تأمل أن يخيب ظنها... حتى أصبحت معه بالداخل


وقفت تتأمل المكان ...


كانت غرفة عادية، عادية بالفعل، بها سرير صغير و مقعدين و شرفة جانبية و حاجب لإرتداء الملابس ... 


إستمرت محاولاتها في الظهور بمظهر الهادئة الواثقة، قدر الإمكان، فإستدارت نحو والدها.. لتُفاجأ بوجود إمرآتين تقفان خلفه و قد كان يتحدث معهما بصوت خافت ...


-إحنا فين يا دادي ؟! .. سألته بتوجس


كانت تحوم بنظراتها في وجوه هؤلاء الأغراب


ليلتفت أبيها نحوها باللحظة التالية ...


-إقلعي ! .. هتف "سفيان" بغلظة


ميرا بصدمة : أقلع يعني إيه ؟ إيه إللي بتقوله ده يا دادي ؟!!!


سفيان مستهجناً : أقولهالك بطريقتك يا قلب أبوكي عشان تفهمي. Take off your clothes.. ثم صاح بغضب :


-يلا إقلعي زفت هدومك دي !


تنفست بذعر و هي تقول :


-في إيه بس قولي إيه إللي حصل ؟ أنا عملت إيه ؟ إنت زعلان مني في حاجة ؟؟!!


قطع المسافة بينهما في خطوة و قبض على شعرها مغمغماً من بين أسنانه :


-الخوف إللي في عنيكي مني ده فات آوانه. إنتي مابقتيش تخافي مني يا ميرا. إنتي واثقة إني بحبك. واثقة إنك أهم حاجة في حياتي. و إني إستحالة آذيكي. ثقتك في محلها.. إنتي صحيح كل حياتي. عشان كده لو في سبب مهما كان تافه بس إحتمال يقضي على حياتي يبقى لازم أخلص منه بدون تفكير !


تآوهت "ميرا" و هي تقول متألمة :


-دادي.. أنا مش فاهمة حاجة. بليز قولي في إيه ؟!!


رمقها "سفيان" بخيبة أمل و قال بقساوة :


-إنتي خونتي ثقتي فيكي. بعد ما إفتكرت إنك عقلتي و بقيتي بني آدمة. واحدة ست محترمة. طلعتي زي أمك و عمتك. و***. يا خسارة يا ميرا ! .. و تابع بصرامة أرعبتها :


-إللي في بطنك ده هاينزل. و إنهاردة. و بعدين هانتحاسب ! ..و أفلت شعرها


هكذا صرّح عن معرفته بالحقيقة في لحظة ...


لتصرخ "ميرا" من هول العبارة، و تركع تحت قدميه باكية بحرقة و هي تقول :


-لاااااااا. لأ يا دادي بلييز.. مش ممكن ينزل. أنا عايزة البيبي ده. عشان خاطري سيبهولي. بابـييييييي. بلييييز أنا عايزااااه. دي أخر فرصة ليا عشان يكون عندي بيبي. ماتعملش فيا كده بليييز سيبهولي. أو موتني. لكن بلاش هو. بلاش هو !!!


كانت دموعها المنهمرة بشدة تكاد تغسل نعليه تقريباً، و مع كل ذلك بدا أنه لم يتأثر ببكائها أو عويلها.. رأته و هو يتراجع للخلف قائلاً بلهجة آمرة لا مجال للنقاش بعدها :


-قومي إقلعي هدومك دي. و إلبسي هدوم العمليات. الدكتورة مستنياكي.. يلا ! ............ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

( 19 ) (20) (21)


_ نبض ! _


لا مجال للتفكير الآن... فلو فكرت لن تتخذ خطوة أخرى واحدة تجاه غرفته، لقد ألغت عقلها تماماً و هي لا تنقطع عن محاولات إقناع قلبها بالذهاب إليه


منذ الليلة الماضية و هي تجرب ذلك، حتى أنها لم تنم، و حالتها مزرية بشدة، بعد الكلام السام الذي سمعته من زوجها المجرم.. عفواً، الذي كان زوجها بيوم من الأيام، رأت أنها تهدر وقتها سُدى، و أنها ربما تضيع فرصة التفاهم مع إبنها


لذلك فقد حسمت أمرها اليوم و ها هي تجتاز الرواق وصولاً إلى غرفته الخاصة ...


طرقت الباب بخفة بادئ الأمر، كان التردد يساورها.. ليزداد طرقها قوة لحظة بلحظة، و تسمرت فجأة... حين سمعت صوته يهتف من الداخل :


-إدخــل !


إبتلعت ريقها بصعوبة، كان وجهها عبارة عن كتلة نار و جبينها بتصبب عرقاً بشدة ...


جففت عرقها في كم كنزتها و أخذت تعبئ أنفاساً عميقة إلى رئتيها بسرعة، ثم برمت مقبض الباب و دفعته بروية و بطء ...


مشت إلى الداخل، و إرتفعت نظراتها شيئاً فشيء.. جمدت في هذه لحظة... عندما إصطدمت برؤيته مباشرةً، حيث كان يجلس أمام الشرفة ممدداً فوق كرسي قابلاً للطي و الغيتار في حضنه يداعبه بأنامله بين الفينة و الأخرى


كان مسترخٍ و رأسه مائل للخلف، عندما شعر بطول مدة الصمت هذه و هو لا يعرف من الذي أقدم على زيارته الآن !


حرك رأسه للأمام و نظر مستطلعاً هوية الزائر ...


-إنتــي !!! .. صاح "سفيان"... الإبن


و هب قائماً من مكانه فوراً، تركه غيتاره فوق الكرسي و إبتعد خطوة رأسياً و هو يقول بغلظة شديدة :


-إنتي إيه إللي جابك هنا ؟ إللي جابك عندي ؟ إطلعــي بــرا. بــرااااااا !


و إحمّر وجهه و برزت عروقه في ثوانٍ من شدة الإنفعال الذي ألمّ به .. 


تذرعت "يارا" ببعض القوة لصد هجومه العنيف هذا، فقالت من مكانها بصوت هادئ صاغر لتستميله :


-على مهلك شوية طيب. مالك بس ؟ إهدا يابني أنا آ ا ..


-أنا مش إبنك ! .. قاطعها بعصبية كبيرة


-طيب خلاص إهدا .. قالتها مسايرة لتهدئه


-إهدا أنا جاية أتكلم معاك بس. لازم أتكلم معاك. لازم تسمعني يابنـ .. يا عبد الرحمن !


عقد "سفيان" حاجبيه مستنكراً :


-عبد الرحمن !!


أومأت "يارا" بالإيجاب و قد إمتلأت عينيها بالعبرات.. لتفيض فجأة كالشلالات و هي ترد عليه بصوت أبح :


-أيوه.. عبد الرحمن... إنت عبد الرحمن. ده إسمك الحقيقي. ده إسمك إللي إختارتهولك من قبل ما تتولد. من و إنت لسا في بطني.. قبل ما إتحرم منك يابني !


سفيان بغضب : قولتلك أنا مش إبنك. سامعاني ؟ مش إبنك


يارا و هي تجهش ببكاء مرير :


-لأ إنت إبني.. هي دي الحقيقة. أنا آسفة إنت مضطر تصدقها و تقبلها.. إنت إبني أنا. أنا أمك. جايز عرفت متأخر بس ده ماينفيش الواقع. أنا عمري ما هاسمحلك تبعد عني تاني. أنا أتقهرت عليك بما فيه الكفاية. إتكويت بنارك و أنا فاكرة إنك ميت طول السنين دي. كنت عايشة و أنا متصبرة بفكرة الإنتقام. كنت هاخد تارك. منك إنت و أنا مش حاسة. مش حاسة بيك و لا قلبي شايفك.. أنا عارفة إنك مصدوم. و كارهني دلوقتي و ...


-كارهك دلوقتي و طول عمري ! .. قاطعها للمرة الثانية


لكنه كان هادئاً الآن، هادئاً على نحو خطير... بينما كانت "يارا" تحملق فيه بخرس، مضى صوبها وئيداً و هو يقول بصوت كالفحيح :


-إنتي مش محتاجة تبذلي كل المجهود ده و تقعدي تعيطيلي و تحلفي إنك أمي كل ده عشان أصدقك. حتى لو صدقتك دي مصيبة و نقطة سودا في صالحك.. إنتي فاكرة إني ممكن أخدك بالحضن مثلاً ؟ مستنية أقولك يا ماما ؟ بعد ما سيبتي لي نفسك. إنتي عارفة أنا شايفك إزاي ؟ إنتي في عنيا مش أكتر من واحدة ×××××× !


-إخرس !!!


و قد خرس فعلاً ...


بفعل الصفعة التي طبعتها على خده الأيمن بعزم قوتها، ليغمرها الشحوب فجأة، كلياً، و من بعده الندم مصحوباً بفزع كبير ...


رفعت كفها الذي إمتد إليه للتو و نظرت فيه بإستنكار، ثم نظرت له هو.. لم يكن غاضباً كما توقعت، بل كان يبتسم لها تلك الإبتسامة المزدرية التي تطعن قلبها في الصميم


لم تحتمل التواجد معه أكثر، فإستدارت مهرولة إلى الخارج و هي تكمم فمها الباكي بكفها !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


لقد مرت نصف ساعة كما وعدها... تقريباً إنتهى الأمر


إنتهى كل شيء، و محى أبيها آثار خطيئتها بالطريقة التي رآها صواب من وجهة نظره، و كانت هي في منتهى الخنوع و الإستسلام، فماذا عساها تفعل ؟


لا يمكنها أن تقف بوجهه، لا يمكنها أن تعصي له أمراً.. أبداً !


كانت لا تزال تحت تأثير التخدير، جزئياً... عندما سمعت صوته آتياً من مسافة بعيدة بادئ الأمر، ثم صار يقترب شيئاً فشيء :


-ميــرا.. ميــرا.. ميــرا !


وجدت صعوبة شديدة في الكلام، عوضاً عن الغصة الخانقة التي تقبض على حنجرتها بشدة.. شعرت بدموعها تفيض عبر عينيها المغمضتين، و أحست بأصابع أبيها القاسية تزيل ما يمكن إزالته.. فالدمع على ما يبدو يتدفق بلا نهاية ...


-ميرا ! baby إنتي سمعاني ؟ ردي عليا !


رغم لطف نبرته، إلا أنها لم تغفل الإسلوب الآمر الذي يغلفها.. لكنها لم تستطع، لم تحسن تكوين جملة من شدة حزنها و قهرها على الجنين الذي فقدته للتو.. إبنها ....


عاد صوت "سفيان" يتكلم بنفس الصيغة الآمرة من جديد :


-ميــرا.. أنا أبوكي. سمعاني ؟ فتحي عنيكي. إتكلمي !


-إممممم ! .. كان هذا الأنين المتألم كل ما إستطاعت التفوه به


سمعته يقول مجدداً و هي تشعر بيده التي تشد على يدها :


-إنتي بقيتي كويسة دلوقتي.. لازم تقومي. لازم نمشي يا حبيبتي. يلا يا ميرا. فتحي عنيكي !


و لم تعرف كيف إستجابت له هذه المرة، ففتحت عينيها بتثاقل... كانت رائحة ( البينج ) تزعجها كثيراً، و هذا الضوء الأبيض الشديد، أعماها قليلاً، ثم بدأت الرؤية تتوضح، و شاهدت والدها، يقف بجوارها تماماً مطلاً برأسه عليها ...


كانت لا تزال في حجرة العمليات، و لم يكن هناك سواها هي و هو فقط.. جالت بنظرها المكان، و عندما لم تجد الطبيبة التي عزمت على إجهاضها نظرت نحو أبيها


سألته و عيناها لا تكفان عن ذرف الدموع الساخنة :


-خلاص ؟ خلصت ؟!


-خلصتي آه ! .. كان وجهه مقنعاً بالجمود و هو يخاطبها


بينما غمرتها موجة من الآسى جعلتها تنفجر باكية بحرقة شديدة، ليحاول "سفيان" تهدئتها و هو يقول :


-خلاص يا ميرا. إهدي.. كله هايبقى كويس !


قلت "ميرا" نائحة بمرارة كبيرة :


-إيه إللي هايبقى كويس ؟ إبني مات. أمنيتي الوحيدة راحت. كل حاجة إنتهت بالنسبة لي. كل حاجة خلصت. أنا إنتهيت خلاص !!


أمسك "سفيان" بكتفيها و قرب وجهه منها قائلاً بصوت خافت ملؤه الحزم :


-عمرك ما تنتهي طول ما أبوكي عايش. طول ما أنا موجود مافيش أي حاجة ممكن تمسّك.. سمعاني ؟


لكنها إستمرت في البكاء و الإنهيار أكثر فأكثر، ليعيد عليها بصرامة :


-ده كان درس ليكي. كان لازم أعمل فيكي كده. إتعلمتي تداري عليا و تغلطي من ورا ضهري. تخيلي إيه إللي كان ممكن يحصلك لو كنت عرفت متأخر ؟ كنت هاتصرف إزاي ؟.. خلاص يا ميرا بطلي عياط. إنتي سليمة. إبنك كويس محدش لمسه !


و كفت فجأة


حملقت فيه مصدومة، إعتصرت جفنيها من الدموع حتى تراه جيداً و قالت بلهجة متأثرة بالتخدير :


-دادي ! إنت بتقول إيه ؟ أنا سليمة ؟ و . و إبني. إبني كويس ؟ يعني هو لسا في بطني ؟!!!


و إرتفعت يدها إلى بطنها على الفور، أخذت تتحس حدبتها التي برزت حديثاً، كانت تبحث عنه، عن نبضه، حتى تتأكد بنفسها.. و لكن جاء التأكيد القاطع من أبيها مرة أخرى :


-إنتي كويسة يا ميرا. إنتي و إبنك بخير .. و أكمل مجففاً دموعها بكفه الكبير :


-معقول أنا أعمل فيكي كده ؟ أنا أحرق قلبك بالطريقة دي ؟ بعد ما ضحيت بعمري و بكل حاجة عشانك. إنتي عمري أصلاً !


إندفعت ضحكة قصيرة منها في هذه اللحظة، و ما لبثت أن أطلقت ضحكة أخرى متقطعة و هي تبكي و تقول بنفس الوقت :


-دادي.. Thanks.. Thanks.. Thanks.. Thanks !


و بدت أنها لن تكف عن تكرار تلك الجملة، ليبتسم "سفيان" بحنان و هو يقاطعها بلطف :


-تمام يا حبيبتي تمام.. You most welcome !


و إنحنى ليقبل يدها و جبينها، و بدورها تعلقت به و إحتضنته بقوة... هذا أبيها، هذا هو أبيها !!! ....... !!!!!!!!!!


❤❤❤


( 20 )


_ تدبير ! _


لأول مرة في تاريخ الأسرة المتماسكة السعيدة... قامت الزوجة المختالة و الآنفة على الدوام بإعداد عشاءً مفتخر بنفسها، إحتفاء بعودة زوجها من سفرته


حيث إنه قد تغيب عنها لأول مرة أيضاً منذ أن تزوجها قبل خمسة عشر عاماً !


الغريب في الأمر إنها إفتقدته كثيراً، رغم أنه لم يمكث بعيداً عنها سوى بضع ليالٍ فقط، فهي لم تكن تتخيل أن حبه يملأ قلبها إلى هذا الحد، و أنه إذا غاب عنها مدة سوف تشتاقه إلى هذه الدرجة.. ربما لأن زواجهما كان تقليدياً في البداية، لم يكن يغمره الحب أو المشاعر العنيفة التي تكون بين الأحباب و العشاق


لكن مع مرور الزمن إستطاع أن يجعلها تحبه، بل و تغرق في عشقه حتى أذنيها، و من دون أن يسعى لذلك.. أحياناً كثيرة تفكر، أن لولا جفاؤه معها و قساوته عليها لما كانت أحبته أصلاً، هي إبنة العائلة الثرية رفيعة المستوى، و إحدى جميلاتها الفاتنات !


كان يترأس المائدة كالعادة، عندما وضعت زوجته طبقه المخصوص أمامه، ثم جلست على يمينه كالمعتاد أيضاً


الإبن و الإبنة يجلسان أمام والديهما، كل بدا مسروراً بعودة رب الأسرة، إلا هو، ظاهرياً حرص على إظهار سعادة زائفة، إنما داخلياً... لم يكن سعيداً بالمرة !!!!


-بابي جيبتلي الـPump Shell ؟!! .. قالت الإبنة رقيقة الجمال هذه العبارة متسائلة


رفع "يوسف" عينيه عن صحنه و قال لها مبتسماً :


-نعم يا حبيبتي ! إيه Pump Shell ده ؟


لوّت الفتاة ذات الثلاثة عشر عاماً فمها و هي تقول مستاءة :


-يبقى نسيت تجيبها يا بابي.. الـPump Shell دي بيرفيوم. قولتلك إني مش لاقيتها هنا خالص و كنت عايزاك تشتريهالي من لندن !


يوسف معتذراً : آوه. بجد أنا آسف يا حبيبتي. كنت فاكر فعلاً أجبلك كل قولتيلي عليه بس أنا ماخرجتش من الآوتيل إللي نزلت فيه خالص. المؤتمر إللي حضرته كان مهم و الحراسة في الأماكن إللي كنت فيها كانت مشددة جداً.. معلش سامحيني. أوعدك هاقلب الدنيا على البيرفيوم ده و هايكون عندك الليلة. ها إيه رأيك !


-Yes Yes Yes !


صاحت الفتاة و هي تقفز من مكانها، إنقضت على أبيها و أخذت تحتضنه و تقبله بقوة، لتقاطع الأم لحظة المرح هذه فجأة :


-ميــرا ! مش وقته خالص إللي بتعمليه ده بابي بيتعشا


إرتبك "يوسف" للحظة، حين سمع إسم إبنته من فم زوجته... و كأنها تناديها للمرة الأولى، أهذه إشارة !!!


-و بعدين يا يوسف ماتسمعش كلام البنت دي .. و أردفت بحدة


-Pump Shell إيه إللي عايزاها ؟ دي كبيرة على سنك يا حبيبتي. إزاي بنت في سنك تحط Product نسائي يعني !!


أغرورقت عينيّ الفتاة بالدموع و هي تقول :


-بس هي عجباني يا مامي. ده بيرفيوم هو Babydoll !


-إخرسي ! .. صاحت بها معنفة


-كمان بتردي عليا ؟ طيب مافيش عشا ليكي معانا. إتفضلي على أوضتك و دادا هاتجبلك أكلك عندك. يــلا


هربت الفتاة على الفور إلى غرفتها و هي تكتم صوت بكائها... ليلتفت "يوسف" نحو زوجته قائلاً بغضب :


-إيه ده ! إيه إللي عملتيه ده يا فريدة ؟ إزاي تزعقي للبنت و أنا قاعد ؟ و تقوميها من على الأكل كمان ؟!!!


فريدة بضيق : البنت من أول ما شافتك مش رحماك يا حبيبي و كلامها مش بيخلص. أنا قلت أريحك شوية من الزن ما إنت عارف زن ولادك


يوسف و هو يضرب سطح المائدة بقبضته :


-و أنا كنت إشتكيت لك ؟ 100 مرة قولتلك صوتك مايعلاش على الولاد في وجودي. صوتك مايعلاش أصلاً طول ما أنا قاعد. إيــه مابتفهميش !!!


غضت "فريدة" طرفيها و قالت بشيء من الحرج :


-طيب أنا آسفة.. حقك عليا المرة دي !


رد "يوسف" بغلظة و هو لا ينفك يرمقها شزراً :


-عشي زياد و إسبقيني على الأوضة في كلمتين لازم تسمعيهم. و أنا هاروح أكمل عشايا مع ميرا


و قام و هو يمسح يديه في منديل صغير ...


أطلقت "فريدة" نهدة عميقة و هي تراقب ذهابه، حتى توارى عن ناظريها.. إلتفتت نحو طفلها الصغير و نسخة أبيه المصغرة، كان يجلس في صمت هدوء


إبتسمت له بحب، فركت شعره البني الغزير بأصابعها، ثم قالت و هي تغمر رأسه في حضنها :


-أنا عملالك كوكيز حلوة أووي زيك يا روحي. بس مش هناكلها إلا لما تخلص أكلك الأول أوكي ؟


أومأ الصغير موافقاً، فضحكت له و أخذت تطعمه بيدها ...


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


لم يستغرق "عمرو" وقتاً طويلاً للوصول إلى بيت والد زوجته، في الواقع لقد قطع الطريق كلمح البصر بدون مغالاة... بعد أن تلفن له "سفيان" و أخبره بعودة "ميرا" من رحلتها الإستجمامية


و لكنه أخبره أيضاً بتوعكها الشديد و المفاجئ، و كان سيطلب منه المجيئ، إلا أن الأخير لم ينتظر منه سماع ذلك


و ها هو ذا يقف أمام الوالد و يسأله بوجه شاحب و أنفاس متقطعة :


-خير يا سفيان باشا ! مالها ميرا ؟ جرالها إيه ؟ هي فين ؟!!!!


-خير يا عمرو ماتقلقش ! .. قالها "سفيان" مطمئناً و هو يربت على كتف زوج إبنته، و أكمل بإبتسامة :


-تعالى الأول نقعد نشرب حاجة و نتكلم شوية


عمرو بقلق واضح :


-أيوه يا باشا بس أنا عايز أطمن على ميرا. أشوفها طيب !


سفيان بلطف حازم :


-قولتلك ماتقلقش. هاخليك تشوفها طبعاً.. بس بعد ما نتكلم


-نتكلم في إيه ؟؟!!


-تعالى و أنا أقولك !


و إصطحبه معه إلى الصالون الصغير ...


-خير يا باشا !! .. قالها "عمرو" بتساؤل


و كان يجلس أمامه متململاً ...


نظر له "سفيان" و تنحنح قبل أن يقول بفتور :


-شوف يا عمرو.. إنت طبعاً عارف غلاوتك عندي شكلها إزاي. و عارف أنا بثق فيك أد إيه. في الحقيقة إنت عمرك ما خيبت ظني فيك. من يوم جوزتك بنتي. لحد إنهاردة كنت جدير بالثقة و الأمانة إللي حطتهم فيك.. أنا مهما قلت أو شكرتك مش هقدر أوفيك حقك أبداً


-يا باشا متشكر. إنت مش محتاج تشكرني أصلاً و لا تقول أي حاجة. ميرا مراتي و أنا بحبها و طبيعي أحميها و أعيشها في أمان حتى في بعدك عنها. أنا جوزها !


تنهد "سفيان" مطولاً و شرع في إشعال سيجاراً ...


بدا عليه التردد نوعاً ما، بينما بدأ "عمرو" يشعر بالملل و قلقه في تزايد.. إلى أن عاد "سفيان" يقول بصوته العميق :


-إسمع يا عمرو. سبق و عرفتك قيمة ميرا في حياتي. قولتلك كتير أنا بعتبرها إيه بالنسبة لي.. ميرا إللي طلعت بيها من الدنيا. أخوها موجود آه و له معزة بردو.. بس مش أكتر منها. مش عارف هاتفهمني و لا لأ. بس يكفي أقولك إن من يوم ما إتولدت إتولدت معاها نقطة ضعفي


عقد "عمرو" حاجبيه و هو يقول غير قادراً على إخفاء ذهوله :


-نقطة ضعفك ؟ لأ بجد يا باشا.. حقيقي أول مرة أعرف إن ليك نقطة ضعف. أنا عارف طبعاً إنت بتحب ميرا أد إيه. بس ماجتش في بالي دي. إنها تكون نقطة ضعفك. خصوصاً مع عشرتي لحضرتك و معرفتي بيك شخصياً !


سفيان بإبتسامة ملتوية :


-أديك عرفت يا عمرو.. ميرا نقطة ضعف سفيان الداغر الوحيدة. و أنا ماعنديش إستعداد أخسرها أبداً


عمرو بتوجس : ربنا ما يجيب خسارة. و هاتخسرها ليه بس ؟!!


-ميرا حاولت تنتحر يا عمرو !


جحظت أعين "عمرو" من الصدمة، عندما تلقى هذا الخبر من "سفيان" ...


-إنت بتقول إيه يا باشا ؟ حاولت تنتحر ؟ طب لــيه ؟!!!!


-إنت السبب !


عمرو بصدمة مضاعفة :


-أنا !!!!!


هز "سفيان" رأسه و قال متأسفاً :


-ميرا بنتي.. ست زي أي ست. عاشت طول عمرها بتحلم يبقى ليها طفل. هي صحيح ربت أخوها و إعتبرته إينها. لكن هاتفضل التجربة بالنسبة لها حلم. و إن يكون ليها طفل منها هي بردو. مش هاتقدر تتجاهل النقطة دي جواها. مهما كبرت في السن. هاتفضل تتعذب و العذاب هايكبر مع فكرة إن مش هي السبب في منع الشيء ده !


و ها قد أدرك "عمرو" بيت القصيد ...


إزداد إرتباكه و هو يرد عليه بآسى شديد :


-أنا طبعاً متفهم. كل إللي حضرتك بتقوله. و عارف إن ميرا ضحت في حياتها معايا ! .. و نظر في عينيه مكملاً بصوت أكثر حدة :


-بس أنا كمان ضحيت.. حاجة قصاد حاجة. أكيد حضرتك فاهمني


إبتسم "سفيان" بإنتصار قائلاً :


-كنت عارف إنك هاتقول كده بالظبط !


عمرو بإنزعاج : يا باشا أنا ماقصدش. أنا كنت بقول بس آ ا ..


-لا تقول و لا تعيد ! .. قاطعه "سفيان" بصرامة


-إنت هاتطلق بنتي. واضح إن في حاجة مش مظبوطة في علاقتكوا. و العتب باين أوي في صوتك. عشان كده أنا بعفيك من كل ده و بقولك طلقها يا عمرو


هب "عمرو" واقفاً و هو يصيح بإستنكار :


-أطلق مين ؟ حضرتك عايزني أطلق ميرا ؟ بعد كل ده عايزني أطلقها ؟ ده من رابع المستحيلات !


تطلع "سفيان" إليه من مكانه، و قال بهدوء شديد :


-أنا مش بطلب منك و لا بسألك يا عمرو. أنا بآمرك و بقولك إللي هايحصل.. إنت هاتطلق ميرا


قهقه "عمرو" قائلاً بخشونة :


-مش بالسهولة دي يا باشا. زي ما عمرها ضاع عمري أنا كمان ضاع. ماتفتكرش أبداً إني هاسمحلها تخرج من حياتي المدمرة و تروح تعيش حياتها بعيد و أنا أقف أتفرج عليها.. ميرا. يا تعيش إللي باقي من حياتها معايا. يا مش هاتعيش خالص يا سفيان باشا... عن إذنك !


و إستدار مغادراً ...


-يبقى إنت إللي مش هاتعيش يا عمرو ! .. هكذا حدث "سفيان" نفسه


و كان يدبر الأمر في رأسه !!!!!!!


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


كانت "فريدة" تجلس أمام مرآتها، تمشط شعرها بالفرشاة، تضيع وقتها في التزين ريثما يآتي لها زوجها كما قال


لم يطول غيابه، و حضر في هذه اللحظة... رسمت إبتسامة كبيرة على وجهها و قامت من مكانها و هي تدفع بشعرها الطويل للوراء، إلتفتت إليه و سارت نحوه بخيلاء و هي تقول برقة :


-إيه يا قلبي ! ماقفلتش الباب وراك ليه ؟ أنا آكلت زياد و نيمته. و ميرا وراها مذاكرة. تعالى إرتاح و غيّر هدوم السفر دي بقى


و طوقت رقبته بذراعيها، ليزفر "يوسف" بضيق قائلاً :


-فريدة. لو سمحتي أنا عايز أقولك كلمتين.. ممكن تهدي شوية و تسمعيني !


أخذت تقبّله من صدره المكشوف و عنقه متمتمة :


-أنا سمعاك يا حبيبي. كل حاجة فيا سمعاك و عاوزاك.. قول إللي إنت عايزه !


تآفف "يوسف" بضجر و هو يمسك برسغيها و يبعدها عنه بالقدر الكافٍ :


-بقولك عاوزك في حاجة مهمة. إثبتي كده و إسمعيني !


عقدت "فريدة" حاجبيها و قالت بكدر :


-قول يا يوسف. إيه الحاجة المهمة يا سيدي. إتفضل أنا سمعاك أهو !!


إنتظر "يوسف" لبرهة، ثم قال بصوت قوي :


-فريدة أنا هاتجوز.. و المرة دي مش بهزر معاكي و لا بهددك . أنا بتكلم جد. و ده قرار مش هارجع فيه. عشان كده شوفي إنتي عايزة تعملي إيه. لو عايزة تطلقي هاطلقك و حقوقك كلها محفوظة. لو عايزة تفضلي على ذمتي تمام بردو مافيش مشاكل. هاتبقي زي ما إنتي هنا في بيتك و معاكي الولاد و مافيش أي حاجة هاتتغير.. خدي وقتك و فكري كويس. لحد ما أرتب أموري و أرجعلك تاني


و إلتفت ليأخذ سترته من فوق المشجب، ثم رحل ...


رحل و تركها هي تقف كالصنم هكذا، بعد أن صدمها صدمة عمرها، وجدت صعوبة في إبداء أي ردة فعل... إنها مصدومة، مصدومة فقط !!! ............. !!!!!!!!!!!!!!!


❤❤❤


( 21 )


_ خوف ! _


كانت تجلس فوق الكرسي الوثير بأريحية تامة، تحتسي فنجان قهوتها في هدوء... و تراقبه في صمت بنفس الوقت


و هو لا يزال يتحدث عبر هاتفه إلى والد "عمرو".. زوج إبنته :


-إسمع يا عز.. إبنك واقف قصادي. بيتحداني. أحسنلك تعقله.. إسمعني كويس و منغير ما تقاطعني.. إبنك لو ماعقلش و طلق بنتي بهدوء و بدون مشاكل.. منغير يمين.. مش هايلحق يندم إنه ماسمعش كلامي.. سلام يا عز !


و أغلق الخط و هو يزفر بشدة ...


-إيه يا سفيان ! مالك عصبي كده ليه ؟ .. قالتها "وفاء" بصوتها الهادئ


-قالك إيه عز ؟


إلتفت "سفيان" نحوها و رد بضيق شديد :


-أنا ما صدقت حياتنا تستقر شوية. مش عارف إيه إللي قلبها كده فجأة.. ليه إللي حواليا بيدورا دايماً على المشاكل ؟ مانعرفش نهدا الشوية الفاضلين دول ؟!


ضحكت "وفاء" و قالت :


-إيه إللي حصل لده كله بس ؟ عز رافض الطلاق هو كمان ؟


سفيان بلهجة مستوحشة :


-مايقدرش يرفض. و مايقدرش يعارضني في أي حاجة.. ده مرعوب على إبنه. و كده كده عمرو هايطلق ميرا أنا مش شاغلني الموضوع ده


وفاء بدهشة : الله ! أومال إيه إللي شاغلك طيب ؟ ضاغط على أعصابك أوي كده ليه إيه السبب ؟!!!


زفر مرة أخرى و هو يلقى بهاتفه فوق الطاولة الصغيرة ...


سار صوبها و جلس في كرسي مجاور لها، ثم قال بصوت مهموم :


-هاقولك يا وفاء !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


فرغت "ميرا" من حمامها الساخن و خرجت إلى غرفتها، جففت شعرها و صففته أولاً، ثم إرتدت أجمل الثياب و تزينت و تعطرت بأفخم عطورها


ألقت نظرة رضا على إنعكاسها بالـمرآة، الآن هي جاهزة لملاقاة حبيبها... جاهزة لملاقاة "يوسـف"


إذ أخيراً قد سمح لها والدها بإستضافته مجدداً، بعد ما يزيد عن العشرون سنة، يلتقيان من جديد و تصحو علاقتهما الميتة بل و تنتعش أيضاً


بوجود ذلك الجنين الكامن برحمها.. الأمل الذي دب فيها الحياة مرةً أخرى، أخيراً يعود إليها حبها القديم، يعود ليملأ حاضرها و الباقي من مستقبلها


تعتبر "ميرا" نفسها أكثر الناس حظاً في هذه الحياة، فهي لديها "سفيان الداغر".. أبيها الحبيب المخلص لها على الدوام، و الحامي و المدافع، و الضاغط حتى الموت على أعدائها و على كل من يضمر لها شراً !


مرت بالخارج أمام غرفة "يارا".. وجدت الباب موارباً، فتوقفت و هي تمد رأسها بفضول لترى ما إذا كانت بالداخل ...


-بتدوري على حاجة يا حبيبتي !


شهقت "ميرا" بفزع، حين أتاها ذلك الصوت من خلفها على حين غرة ...


إستدارت، لتجد "يارا".. إذن لم تكن بالداخل !!


كانت تبتسم لها بتهكم ظاهر، بينما كانت الأخيرة مرتبكة بشدة فحاولت أن تبدو طبيعية قدر المستطاع و هي تقول لها :


-أهلاً يا. مرات أبويا.. السخرية هي سلاحها الأمثل في هذه المواقف كالعادة


-أبداً. ماكنتش بدور على حاجة. أنا كنت نازلة أشوف دادي و كمان يوسف جاي !


تعمدت أن تشير إلى مجيئ حبيبها "يوسف" بصراحة أقرب للتبجح حتى تثير حنق زوجة أبيها، أو تغيظها بمعنى أصح


إلا أن الأخيرة إبتسمت لها أكثر و هي تشيح بيدها بالهواء، ثم أزاحتها بلطف من طريقها و ولجت إلى غرفتها ...


-من حقك طبعاً تعيشيلك يومين يا حبيبتي .. قالتها "يارا" هازئة بها، و أكملت و هي تفتح باب شرفتها الكبيرة على مصراعيه :


-إحلمي كمان. و حبي. و موتي بحبك.. قبل ما تموتي بحاجة تانية


كانت قد تبعتها "ميرا" إلى الداخل، إحتقن وجهها بدماء الغضب و هي ترد عليها بخشونة :


-إنتي بتهدديني يا يارا ؟ إنتي نسيتي نفسك ؟ إنتي فاكرة أصلاً إنك ممكن تقربيلي أو تعملي أي حاجة و بابي موجود ؟ فوقي يا حبيبتي. سفيان الداغر رجعلك و لا لسا مش مستوعبة ؟!!!


قهقهت "يارا" بقوة قائلة :


-يا عيني على سفيان الداغر. العــو إللي دمرلي حياتي. طبعاً مش بنكر إنتصاره عليا ! .. و إلتفتت لها مستطردة بإبتسامة شريرة :


-بس المرة دي إنتصاري عليه أكيد يا حيلة أبوكي. لا تكوني فاكراني هاسيب تاري زي ما هو فاكر إني مش هقدر عليه.. أبوكي قادر. عارفة و الله.. بس قسماً بربي. لو كان آخر يوم في عمري. مش هموت قبل ما أحسره عليكي. عليكي إنتي. لأن إنتي بس إللي هاتكسريه و هاتقضي على هيلمانه ده كله


و ضحكت من جديد


كظمت "ميرا" غيظها بعناء و هي تقول ببرود متكلف :


-أعلى ما خيلك إركبيه يا يارا. و لو إنك لو كنتي تقدري تعملي حاجة كنتي عملتيها من زمان.. لكن إنتي طول عمرك قليلة الحيلة. و مستسلمة. و هاتفضلي طول عمرك كده. مهما حاولتي مش هاتبقي أد لعبة الشر بتاعتنا


إبتسمت لها بوداعة و لم ترد، إنما مشت صوب الخزانة الضخمة.. فتحت حقيبة صغيرة مخفية أسفل كدسة ملابس، ثم عادت إليها و هي تخبئ شيئاً خلف ظهرها ...


-عايزاكي تفتكري الكلمتين إللي قولتيهم دلوقتي حالاً. إوعي تنسيهم. عشان ساعة قضاكي يكون وشي الجميل ده آخر حاجة تشوفيها في حياتك إن شاء الله !


طالعتها "ميرا" بمقت شديد، كم تود الفتك بها، هذه أمنيتها الآن !!!


كانت "يارا" تقرأ مشاعر غضبها هذه من عينيها و وجهها، كانت في قمة الإنتشاء، حتى أظهرت لها ما تخفيه ...


عدة بطاقات "فوتوغرافية"، ناولتها إياهم و هي تقول :


-خدي يا حبيبتي. ملي عينك كويس أوي !


حبست "ميرا" أنفاسها فور إطلاعها على محتوى البطاقات... حملقت بصدمة في كل واحدة، لم يكن ما تمسكه في يديها الآن سوى فضيحة !!


أجل فضيحة مدوية ...


إنه ملخص رحلتها الإستجمامية برفقة عشيقها في عدة لقطات من الصور... بدءاً من إستقلال الطائرة و حتى غرفة الشاطئ المفتوحة ذات النظام البدائي كما أخبرها "يوسف" !


و لكنه أخبرها أيضاً أنها معزولة، و أن من المستحيل أن يتلصص عليهما أحد، إذن كيف حصلت "يارا" على هذا التقرير المفصل للرحلة ؟ كيف إستطاعت تصوير حتى أدق اللحظات الحميمية المخزية بينهما كالتي تراها الآن !!!!


ماذا لو رآها أحد ؟ بل ماذا لو رآها "عمرو" فقط ؟؟؟!!!!!!!!


-إيه رأيك يا روحي ؟ عجبتك ؟!


أفاقت "ميرا" من صدمتها بصعوبة ...


رفعت وجهها إليها و أخذت ترمقها بنظرات عنيفة، ليقر وجه "يارا" و يغمرها شعور هائل بالإمتنان، لقد أفصحت عن مخططها الإنتقامي باكراً.. لكن يكفيها ما تراه الآن، رد فعل "ميرا" هذا أفضل ما يمكن أن تحصل عليه حتى تشفي صدرها المغلول قليلاً ..


-شوفتي بقى إن حبستي هنا مامنعتنيش أكشف نجاستك و و××××× ! .. كانت الشماتة واضحة بأعين "يارا" و صوتها


-مش أبوكي بس إللي قدر يوصلك. أنا مش بلعب زي زمان. و يبقى عيب عليا بعد العمر ده لو ما إتعلمتش حاجة من أبوكي.. تخيلي كده لو الصور دي وقعت في إيد حد ؟ في إيد عمرو مثلاً ! و تتخيلي ليه ؟ قريب جداً هاتوصله. و هايكتشف خيانتك يا ست أبوكي. شوفي بقى ممكن يحصلك إيه إنتي و أبوكي. أصل ربنا يكفيكي شر راجل إكتشف إن مراته بتخونه. ما بالك بقى لو شاف خيانتها بعينه و بالتفصيل زي كده !


و أشارت بعينها للصور بين يديها ...


عاودها الضحك مجدداً فإستدارت ماضية صوب الشرفة مرةً أخرى.. بينما لم تكن "ميرا" تشعر بنفسها، و الدماء الملتهبة تندفع إندفاعاً قوياً بشرايينها


كانت عيناها تجوس أرجاء الغرفة على غير هدى، حتى وقعت على ذلك التمثال الخزفي الصغير !


لم تعرف كيف وصلت إليه يدها، و كيف طارت هي نحو "يارا" التي لم تنقطع عن الضحك ...


سكت صوتها فجأة، سكت تماماً


بفعل ذلك الشيء الذي تحطم فوق رأسها بمنتهى العنف، ليطرحها أرضاً مضرجة بالدم !!!!!


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


-يعني إنت قلقان عليه بجد ؟! .. قالتها "وفاء" بتساؤل لا يخلو من الدهشة


لينظر لها "سفيان" مؤكداً ما قاله :


-طبعاً يا وفاء. ده إبني. هو عشان عاش بعيد عني يبقى خلاص ماليش علاقة بيه ! .. و أردف بضيق شديد :


-أنا عارف إني سيبته و عيشت مفضل عليه أخته. و يمكن هو ده إللي مضايقني.. بنيت شخصية ميرا. و طلعت ببني غلط أساساً. مش مهم. المهم تكون كويسة و مبسوطة.. لكن هو ! أنا ماعملتلوش أي حاجة. ماعلمتوش و لا حاجة. و فوق كل ده طلع بشخصية مشوهة. ميرا ماعرفتش تحتويه. و أمه قضت على منظرها في عنيه. و أنا.. أنا بيتعامل معايا عادي. لا وضعي بيستفزه و لا مريحه. وجودي زي عدمه يعني !


وفاء بجدية : ماتنساش إن ظروفك كانت أسوأ من ظروفه. و مع ذلك قدرت تكمل و رتبت حياتك. عملت كل حاجة لوحدك.. سيبه هو كمان يخرج من أزمته و يرتب حياته لوحده زيك


سفيان بإستنكار : مين ده إللي يبقى زيي ؟ الواد ده عمره ما هايبقى زيي يا وفاء. ده وارثلي قلب أمه. عاطفي و نحنوح.. إنتي مابتسمعيش صوته و أغانيه إللي كلها محن و تلزيق ؟


ضحكت "وفاء" من كلامه و قالت :


-الولد حساس. دي مش حاجة وحشة يا سفيان !


سفيان بحنق : لأ وحشة.. و لازم أنتبهله شوية عشان ينشف عن كده. أخلص بس من مشاكل أخته و بعدين هــ آ ا ...


-إلحقنا يا سفيــان باشا !!! .. قاطعه هتاف إحدى مستخدمات المنزل


إعتدل في جلسته صائحاً :


-إيه في إيه ؟!!


الخادمة بشحوب تام :


-الست يارا نزلت المطبخ تطلب فنجان قهوة. عملته و طلعت أوصلهولها في أوضتها.. لاقيتها واقعة في الأرض غرقانة في دمها و الست ميرا عندها !


لم ينتظر "سفيان" تتمة عبارتها و إنطلق مسرعاً للأعلى في إثره "وفاء" ...


وصل إلى غرفة "يارا" يكاد صدره ينفجر من شدة اللهاث !


توقف نبض قلبه لحظة، عندما تأكد من إدعاء الخادمة.. فها هي "يارا" ملقاة أمامه فوق الأرض و حولها بركة من الدماء ...


-دآآآآآآآآغر. دآآآآآآآآآآآآغر ! .. كان هذا النداء الجهوري لإبنه


ربما لم يفهمه من حوله، و لكن الإبن قد حضر فعلاً.. في غضون ثوان كان هنا !!!


أما الأب فقد توجه صوب إبنته صارخاً بعنف :


-عملتي إيه ؟ عملتــــي إيــــه ؟؟!!! .. و قبض على ذراعيها بإيلام


-ليه كده ؟ ليه تعملي فيها كده ؟ ليــــه ؟؟؟؟


كانت الصدمة مسيطرة على الجميع، حتى "الداغر" الشاب، إهتز داخله لمرآى هذا المنظر.. تلك السيدة التي إكتشف بعد سنوات طوال أنها أمه، و التي نبذها عندما علم، و أسمعها أقسى الكلمات التي قد تسمعها الأم من ولدها


ربما تكون فارقت الحياة الآن، بنسبة كبيرة جداً، فالمشهد مريع !!!!!!


كان يقف كالصنم، وراء عمته "وفاء"، كلاهما يراقب "الداغر" الكبير، و هو يحاول مع تلك المسكينة :


-يارا.. يارآآآ إنتي سامعاني ؟.. كان راكعاً بجوارها و قد تلوثت ثيابه بدمائها


أمسك وجهها بين كفيه بقوة قائلاً بصرامة :


-مش هاتموتي. مش هاسيبك تموتي ســامعة !


و إلتفت نحو إبنه ...


-تعــالى هاتلي أمك على تحت.. يـــلا بسـرعة !!


تحرك الإبن مع الأمر، و كأنه كان بحاجة إليه... حمل أمه على ذراعيه و تبع أبيه مهرولاً بساقين مرتعشتين، كان ينظر في وجه أمه الغارق بالدماء.. لا يعرف لماذا إنتابه خوف مفاجئ، خوف شديد !


على الطرف الآخر ...


لا تزال "ميرا" على وضعها، مر الوقت و لم يطرأ عليها أي تغيير.. إلى أن وصل "يوسف" و ولج بنفسه غرفة "يارا" متبعاً إرشادات المستخدمين


أصابته الصدمة هو الآخر، و هو يسير نحو "ميرا" مدققاً النظر في بقع الدماء المنتشرة فوق الأرض... لوهلة ظن أن بها شيء فخرج صوته هاتفاً :


-ميرا ! حبيبتي إنتي كويسة ؟!!


و وقف مقابلها ممسكاً بكتفيها، أمعن النظر فيها مطولاً يستكشف ماذا حل بها فلم يجد ما يشير إلى سوء، هزها بقوة و هو يعيد سؤاله بإلحاح أكبر :


-في إيه يا ميرا ؟؟؟ إيه إللي حصل ؟؟؟!!!


أفاقت من ذهولها بصعوبة و حملقت في عينيه متمتمة بغير إستيعاب :


-يارا ماتت !


إرتد "يوسف" بوجهه قائلاً بصدمة أكبر :


-إيه ؟ يارا ماتت ؟ ماتت إمتى و إزاي ؟!!!


أجهشت "ميرا" بالبكاء فجأة و ردت عليه من بين دموعها :


-أنا.. أنا إللي موتها. أنا إللي قتلتها يا يوسف. أنا !!!


صدمة أخرى، لكنه إبتلعها فوراً و إنخرط في تهدئتها و هو يضمها إلى صدره بقوة قائلاً :


-طيب إهدي. إهدي يا حبيبتي.. إهدي و إحكيلي إيه إللي حصل. أنا جمبك و مش هاسيبك أبداً إطمني ! ............. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

( 22 ) (23) (24)


_ صفحة جديدة ! _


إستيقظت "يارا" بعد وقت لم تحسن تقديره ...


كانت قدرتها على إستعادة وعيها شاقة إلى حدًا ما، و كأنها تدفع صخرة عملاقة تغطي جسمها كله.. كان الأمر بالغ الصعوبة


لكنها نجحت بالأخير ...


-إمممم ! .. إنبعث من داخلها هذا الأنين المتألم


كان "سفيان"... الإبن، إبنها.. جالساً على مقربة منها مستغرقاً في تفكير عميق


فور أن سمع صوتها أفاق و قام لها ...


فتحت عيناها ببطء و هي ترسل يدها لأعلى حيث رأسها الأشبه بقمة بركان.. هذا ما شعرت به !!!


-لا لأ نزلي إيدك ! .. قالها "سفيان"... الإبن


و هو يقبض على يدها و يعيدها مكانها بحزم


-راسك مربوطة و الخياطة مابقالهاش كتير !


حبست "يارا" أنفاسها، حين سمعت صوته قريباً منها هكذا ...


أدارت وجهها و تطلعت نحو المستوى الذي جاء منه صوته، لتراه ماثلاً أمامها، حقاً، هو بنفسه


إنعقد لسانها و هي تنظر إليه بعدم تصديق، فإرتبك الأخير و هو يغض طرفيه عنها عابساً، و قال :


-ماتقلقيش. الدكاترة قالوا إنك كويسة. بس نزفتي كتير و محتاجة تقضي إنهاردة هنا عشان يهتموا بيكي كويس. و نتيجة الآشعة المقطعية هاتطلع بعد شوية. و الدكاترة متطمين بردو !


لم يسمع منها رد عما قاله، لم يستشعر أي ردة فعل عنها.. فرفع وجهه بتردد و نظر لها، ليجدها لا تزال تحملق فيه بنفس النظرات غير المستوعبة ...


-إنتي كويسة ؟ .. سألها "سفيان" بصوته الهادئ


-إنت بجد هنا ؟!! .. تمتمت "يارا" بدهشة شديدة


-معقول إنت هنا جمبي ؟ أنا عايشة و لا ميتة ؟؟!!


إبتسم "سفيان" بسخط قائلاً :


-لأ عايشة.. ماتخافيش الداغر الكبير طالما وعدك إنك مش هاتموتي يبقى مش هاتموتي !


و هنا إنتبهت "يارا" على نفسها أكثر، فأخذت تتلفت حولها مستكشفة غرفة المشفى النظيفة هذه و باحثة عنه في آن ...


-هو فين ؟ .. تساءلت "يارا" يتوجس و هي تباشر البحث عنه بنظراتها


سفيان بفتور : كان هنا. لسا ماشي من شوية راح مشوار و هايرجع تاني. و عمتي وفاء نزلت تجيب قهوة و طالعة .. ثم قال بإهتمام :


-هو إيه إللي حصل بينك و بين ميرا ؟ إيه إللي خلاها تعمل معاكي كده ؟!!


نظرت له من جديد و آثرت الصمت للحظات، ثم قالت :


-عبد الرحمن ! إنت لازم تبعد يابني.. لازم تمشي. إللي جاي دمار. نار مش هاترحم حد. محدش هايرحم حد. لا أنا هارحم. و لا أبوك هايرحم. و لا أي حد فينا.. سيبنا لبعض و إمشي يابني. روح لجدتك. خليك مع إخواتك البنات مالهمش غيرك يا حبيبي


-آسف بس هو إيه إللي إنتي بتقوليه ده يعني !! .. قالها "سفيان" بإستنكار، و تابع :


-أنا مش فاهم حاجة.. إيه إللي ممكن يحصل أسوأ من إللي حصل ؟!


يارا بجدية : هايحصل. صدقني هايحصل. أنا زيك مش فاهمة كل حاجة. بس حياتي معاهم علمتني لو طال جو الغموض ده أكتر من اللازم.. يبقى أكيد في كوارث هاتحصل. و في وسط إللي هايحصل هاتكون فرصتي يابني. فرصتي عشان أخد تاري و تارك


عقد حاجبيه و هو يصيح بغضب :


-تار إيه إللي بتتكلمي عنه ؟ و عايزة تاخديه من مين ؟ مش كفاياكي بقى إللي عملتيه طول حياتك ؟ إنتي مش عايزة تنضفي أبداً ؟ مصممة تبقى زي ما عرفتك آ ا ... و بتر عبارته


هذه المرة لم يستطع النطق بها، لم يشأ جرحها بهذه الطريقة مجدداً.. بينما كانت تنظر إليه بصمت، جاهزة للإستماع إلى كل ما سيقوله ...


-كمل يابني ! .. قالتها بهدوء


فار الدم بعروقه في هذه اللحظة، ليغمغم عبر أسنانه :


-إنتي مش محتاجة تشوهي صورتك في عنيا أكتر من كده. إهمدي شوية لو مش عايزاني إمحيكي من راسي للأبد


أطلت بعض الدموع من عيناها و هي ترد عليه بصوت أبح :


-طيب إنت عايزني أعمل إيه ؟ قولي يا حبيبي. عشانك أنا مستعدة أعمل أي حاجة. أتنازل عن حقي. أو أموت نفسي حتى. بس تسامحني.. أقسملك بالله أنا عملت كل ده عشانك. إنت كنت محور تصرفاتي و حياتي كلها !


و خانها تماسكها فأخذت تجهش ببكاء مرير ...


تمالك "سفيان" نفسه أمام ضعفها هذا، لكنه شد كرسي و جلس بجوارها قائلاً بوجوم :


-بصي أنا ماليش علاقة بالحرب إللي كانت بينك و بين عيلة الداغر. و بقول كانـــت لأنك هاتبطلي تدبري في خطة الإنتقام بتاعتك. مش إنتي بتقولي إن كل ده بسببي و عشاني ؟ أنا مسامح و بعفيكي من لعبة التار دي. إللي إنتي عايزة تنتقمي منهم دول يبقوا أبويا و أختي. مش هاتفرحيني أبداً لما تآذيهم.. بالعكس. يمكن لو عملتي كده تلاقيني أنا إللي جاي أخد تارهم منك !


يارا بإنفعال : أبوك إيه و أختك إيه إللي قاعد تكلمني عنهم ؟!!

إنت شوفت أبوك ده إمتى أصلاً ؟ و أختك السافلة الخاينة دي إيه إللي بتدافع عنها ؟ كان أولى تسامحني أنا و تدافع عني بقى. إنت بتعمل فيا كده ليه يابني ؟ إوعى تخليني أشوفك زيهم. دي الحاجة إللي هاتقضي عليا بجد. مش ضربة على الراس من المحروسة أختك أو رصاصة في صدري من مسدس أبوك !


زفر "سفيان" مطولاً و قد كان يشيح بوجهه للجهة الأخرى، لكي لا ترى الصراعات الكامنة بعينيه... نظر لها بعد برهة و قال بصوت به نبرة حدة :


-إللي لازم تعرفيه إن أنا مش زي حد. لا زيك و لا زيهم.. أنا زي ما أنا. مش هاتغير. مانكرش إني حاولت أغير نفسي الفترة إللي فاتت. بس مقدرتش. و مش هقدر بردو أسيب حد فيكوا يآذي التاني و أقف أتفرج. محدش هايعمل حاجة للتاني طول ما أنا عايش. سفيان الداغر أبويا. و ميرا أختي.. و إنتي أمي !


توقف قلبها عن الخفقان في هذه اللحظة، ليعاود ضرباته في اللحظة التالية بقوة شديدة بينما تقول بعدم تصديق :


-إنت قلت إيه ؟ سمعني تاني أرجوك قلت إيه ؟؟!!


تآفف "سفيان" بضيق :


-مش وقته بقى الشغل ده.. إسمعيني كويس بس. أنا مستعد أفتح معاكي صفحة جديدة. لكن بشروط !


يارا بتلهف : أشرط يابني. أشرط زي ما إنت عايز !!!


صمت قصير... ثم قال بلهجة مقررة :


-هانحاول نصلح إللي بينا كلنا. و لازم نصلحه.. لإني إستحالة أقدر أعيش معاكوا الحياة إللي إنتوا عايشنها دي !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


لا تزال "ميرا" محاطة بأحضان "يوسف" الدافئة، لم تنقطع عن البكاء تماماً


لكنه ظل يهدئها و يحملها على السكينة و الإطمئنان ...


-يا حبيبتي عشان خاطري كفاية عياط. أكيد باباكي هايتصرف. و بعدين إنتي ماكنتيش حاسة بنفسك زي ما قولتيلي. بس. إهدي !


ميرا بنشيج مكتوم :


-لو ماتت.. Junior سفيان. مش هايسامحني. مش هايسامحني أنا عارفة يا چو !


-قصدك Father سفيان هو إللي ماكنش هايسامحك أبداً يا قلبي !!!


إنتفض كلاهما على صوت "سفيان"... الآب، كان يقترب منهما بسرعة ملحوظة !


إبتعد "يوسف" عن "ميرا" فوراً و قام واقفاً على قدميه، بدا عليه التوتر الشديد عندما شاهد "سفيان الداغر" مرةً أخرى.. بعد ما يزيد عن العشرون سنة ....


-آ أهلاً يا باشا ! .. تمتم "يوسف" بإرتباك شديد و هو يمد يده للمصافحة


تجاهله "سفيان" الآن و هو يقف قبال إبنته قائلاً بوجه مكفهر :


-إيه إللي خلاكي تعملي فيها كده يا ميرا ؟ إنطقي و قوليلي !!


ميرا بلهجة نائحة :


-هي ماتت يا دادي ؟ خلاص يارا ماتت ؟ أنا قتلتها يعني ؟!!!


أمسك "سفيان" بكتفيها و هزها مكرراً سؤاله بحدة شديدة :


-إتكلمي يا ميرا. عملتلك إيه يارا عشان تعملي فيها كده.. إنطقي بقولك !!


و تحت ضغطه عليها بدأت بقص ما حدث عليه... كيف إستفزتها "يارا" و ما جرى بينهما و أدى إلى فقدان "ميرا" لأعصابها حتى صار ما صار !


-إنتي غبية. فاهمة يعني إيه غبية ؟ مهما أعمل معاكي هاتفضلي زي ما إنتي. ليه ماجتيش تقوليلي كده ؟ بدل ما تخبطيها على دماغها بالطريقة دي و كنتي هاتموتيها


لمعت عيناها عندما سمعت إشارته الضمنية لتحسن حالة "يارا" و قالت :


-هي عايشة يا دادي ؟ يعني بقت كويسة بجد ؟ بليز رد عليا !!


سفيان بغلظة : يارا مالهاش علاقة بالصور إللي شوفتيها. هي حبت تغيظك بس و إنتي صدقتيها. أنا إللي بعت وراكي إللي يجبلي كل أخبارك إنتي و البيه بتاعك ده


و نظر نحو "يوسف" فجأة، و قال بصوته القاسِ :


-إنت إيه إللي مقعدك في أوضتها ؟؟؟


يوسف بتلعثم : آ آ ا أنا كنت بهديها بــ آ ا ...


-شششش خلاص ! .. قاطعه بصرامة، و قال آمراً :


-أقعد


إمتثل "يوسف" لأمره و هو يتمتم لنفسه متعجباً :


-دي عيلة مجنونة !!!!!!!! ......... !!!!!!!!!!!!!!!!


❤❤❤


( 23 )


_ أكرهك ! _


كانت "ميرفت" تشد بكلتا يديها على يدي حفيدها... كانت عينيها تحملقان فيه بقوة، تكاد تجزم أنه ليس حقيقياً !!!


بينما كان يطالعها بنظراته الرقيقة راسماً على ثغره إبتسامة عطوفة.. سحب يده من بين يديها برفق و أخذ يربت على كتفها بلطف متمتماً :


-إزيك يا جدتي ؟ إزي صحتك ؟!


ميرفت و هي لا تنفك ترمقه بذهول :


-كويسة يابني. كويسة أوي عشان شوفتك.. إنت عارفني ؟


سفيان بإبتسامة : طبعاً.. إنتي جدتي ميرفت. ماما بعتتني ليكي.


ميرفت بتلهف : أمك ؟ يارا ؟ بنتي مالها جرالها حاجة ؟!!


سفيان مطمئِناً : ماتقلقيش ماما كويسة. هي كانت عايزة تطمن عليكي فأنا قولتلها إني هازورك بنفسي و أطمنها.. و كمان كنت عايز أقولك حاجة مهمة. و محتاجك تفهميني بالراحة و تسمعيني بموضوعية.


ميرفت بقلق : في إيه يابني ؟ قلبي مش مستحمل قولي إيه إللي بيحصل !!


إبتسم "سفيان" لها و ربت على يدها بلطف، ثم راح يخبرها بما ينوي عليه و ما سيتم رغم أنف الجميع.. لأنه قرر و إنتهى ...


-إيه إللي إنت بتقوله ؟؟؟ .. هتفت "ميرفت" بغضب معلقة على خطة حفيدها النكراء


-بعد ده كله عايزهم يرجعوا لبعض ؟ إنت يابني مش عارف إيه إللي حصل بينهم؟ محدش قالك ؟ و هانروح بعيد ليه.. إنت أكبر دليل على الذل و الظلم إللي وقع على أمك سنين.


تنهد "سفيان" قائلاً بفتور :


-أنا عارف كل حاجة.. بس وجهة نظري بتفرض عليا أمنع الحرب الدايرة بينهم سنين زي ما حضرتك قولتي. أنا مش هقدر أسيبهم يولعوا في بعض. هي أمي و هو أبويا. إفهميني من فضلك !


قطبت "ميرفت" جبينها منزعجة، لم يعجبها ما يمليه الحفيد العنيد عليها و على إبنتها.. فحتى لو وافقت إبنتها، لن توافق هي أبداً، لن تكرر الجرم نفسه مرةً أخرى، لن ترتكب ذلك الذنب بحقها من جديد ...


-هي أمك موافقة على كده ؟ .. تساءلت "ميرفت" بجمود


سفيان بحزم : هاتوافق. محدش هايعارضني فيهم ماعندهمش إختيار.. يا أنا يا التار إللي بينهم. أنا مش هقدر أعيش معاهم الصراعات دي.


زفرت "ميرفت" بضيق شديد و قالت :


-إعمل إللي إنت عايزه يابني. أنا كده كده رجلي و القبر و مايهمنيش غير راحة بنتي و إنها تعيش في سلام و أمان بس.


سفيان برقة : بعد الشر عنك.. إطمني. أنا معاها. و لا أنا مش كفاية في نظرك ؟ مقدرش أحميها ؟!


عبست "ميرفت" بعدم رضا و لم ترد عليه، فضحك بخفة و إنحنى مقبلاً يدها ثم قال :


-إطمني خالص. أوعدك إني هاصلح كل حاجة. و المرة الجاية لما أجيلك مش هاكون لوحدي. الإتنين هايكونوا معايا .. و أردف و هو يقوم واقفاً :


-أستأذنك بقى لازم أمشي. في مشوار تاني مهم لازم أعمله.


تطلعت له قائلة :


-مش تستنى يابني شوية لحد إخواتك ما يرجعوا من مدارسهم ؟ على الأقل يشوفوك !


وعدها قائلاً بإبتسامته العذبة :


-هارجع تاني.. أوعدك !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


مر شهر و لم يغادر منزله... بل لم يتزحزح خارج غرفة النوم أبداً


كان يقضي النهار و الليل متكوماً فوق فراشهما، يحتضن وسادتها المعبقة برائحتها و يتشممها حتى تتخمه فلا تستطيع أنفه تمييز أي روائح أخرى غير رائحتها !


لا يدري ألهذا الحد كان يعشقها ؟ ما الذي فيها يجعل كل رجلاً يراها يكاد يفقد عقله و يصاب بالجنون ؟؟؟


أنه قابلاً على الموت تقريباً... إذ أن جسمه صار أنحف مما كان عليه كثيراً، و العظام قد برزت في وجهه و شفتاه تشققتا من قلة مخزون المياه في أوردته و شرايينه


لم يعد له أنيساً في خلواته سوى المدخنات بشتى أنواعها، و الحبوب المخدرة !!!!


هل ستقضي عليه بهذه الطريقة ؟ و هو يقبع هنا عاجز منتظر.. قدومها أو رحيله !


وقف والده أمامه.. كان منفعلاً بشدة و هو يطيح بلفائف التبغ و حبوب المخدرات بعيداً، في البداية لم يسمعه "عمرو" بفعل وقوعه تحت تأثير ما يتعاطاه


لكنه أفاق فجأة و هو يشهق مذعوراً، بسبب دلو ماء بارد إنسكب بقسوة فوق رأسه ..


أخذ جسمه ينتفض بينما يرفع وجهه متطلعاً للفاعل،ليس هنا سوى الخادمة التي تطبخ له يومياً طعاماً لا يؤكل، لكنه يكتشف أنه والده ...


-بابا ! حضرتك رجعت ؟ ماقولتليش ليه كنت أستناك في المطار ؟!


كان صوته يختلج من شدة البرودة و الضعف الذي ألمّ به.. حدجه أبيه بنظرات محتقنة و هدر فيه غاضباً :


-إيه إللي إنت فيه ده ؟ دي أخرتها يا بيه ؟ قاعد بتحشش و تبلبع بلا أزرق على دماغك ؟ مابتردش على مكالماتنا و حابس نفسك هنا وسط القرف ده كله عشان إيــه ؟؟؟؟


فتح "عمرو" فمه ليتحدث، لكنه لم يجد ما يقوله أو يبرر به أفعاله المشينة... أغلق فمه ثانيةً و أطرق رأسه بسرعة حين بدأت عينيه بذرف الدموع، و تمتم بصوت خافت مختنق :


-ميرا سابتني.. عايزة تطلق !


عز بعصبية : ما في داهية. طلقها و ريح نفسك إنت عاوز منها إيه ؟ إنت ناسي لما إتجوزتها كانت إيه ؟ جاي دلوقتي تضيع نفسك عشانها لما حبت تسيبك و تريحك منها ؟!!!


نظر "عمرو" إلى أبيه من جديد و قال دون أن يحاول إخفاء دموعه المنهمرة :


-أنا بحبها يا بابا.. هي فعلاً زي ما إنت بتقول. لما إتجوزتها ماكنتش أول واحد في حياتها. بس دي كانت غلطة غصب عنها. مش بمزاجها.. أعمل إيه طيب ؟ حبيتها. حبيتها أوي. مش هقدر أبعد عنها. لو سابتني هاموت !


-تموت إيه ؟ إنت إتجننت يابني ؟ فوووق. ماتنساش نفسك إنت مش قليل. بالعكس. إنت كتير عليها أصلاً.. و جذبه من ذراعه ليوقفه و هو يقول :


-قوم. قووم معايا !


-على فين ؟! .. تساءل "عمرو" بتوجس


عز بصرامة : على بيت سفيان الداغر. لازم نخلص الموضوع ده إنهاردة.


-هانخلصه إزاي يعني ؟؟!!


عز بغضب : هاطلقها. سامعني ؟ هاطلقها. أنا مش هقعد أسمع تهديدات فارغة من راجل قذر زي ده و أفضل ساكت. ده إنسان واطي ماعملش حساب للعشرة و الجمايل إللي غرقته بيها. دلوقتي يجي يهددني أنا و بيك !!!


عمرو متوسلاً : معلش يا بابا. سامحه المرة دي عشان خاطري. أنا حاسس إن ميرا أعصابها تعبانة عشان كده باعد عنها فترة لحد ما تهدا. موضوع الحمل و الخلفة مآثر فيها أوي. أكيد هو كمان مضايق عشانها.  ما هو ابوها بردو.


-بقولك إيه أنا نزلت من لندن مخصوص عشان أنهي المهزلة دي. مش هارجع إلا بيك و بعد ما تطلقها رسمي و شفوي قدامي كمان !


رجاه "عمرو" بحرارة أكبر :


-يا بابا أرجوك بلاش. لو فعلاً مصلحتي تهمك إسمع كلامي. ميرا مش مراتي بس. دي حب حياتي. أنا مش هقدر أعيش منغيرها. أقسملك بالله مقدرش !


عقد "عز" حاجبيه بشدة و قال بضيق :


-دي آخر مرة همشي وراك. فاهم ؟ غلطة أول مرة عمرها ما هاتتكرر. لو الهانم رفضت ترجعلك المرة دي شاهد ربي و عالم.. كلمة واحدة لو مارمتش عليها اليمين هاتبقى لا إبني و لا أعرفك.. سامــع ؟؟؟


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


يفتح "سفيان"... الإبن.. باب المطعم الفاخر لأمه حتى تلج، فمرت أمامه بالفعل و عينيها لم ترتفعان عنه


فقد جاءها اليوم صباحاً و أبلغها بوجوب التجهز جيداً من أجل سهرة مسائية برفقته.. و أصر عليها أن تتأنق و تتجمل كأحسن ما يكون، و ها قد فعلت ما قاله لها


فهي الآن ترتدي فستاناً محتشماً يليق بسنها و صحبته، صحيح أنه قرمزياً فاقع اللون، و له فتحة لا بأس بها عند منطقة الصدر، و ضيق نوعاً ما على وسطها.. لكنه محتشم إلى حدٍ ما !


و زينتها الصارخة ملفتة قليلاً، و تسريحة شعرها الثائرة فاتنة، لكنه هو من طلب منها ذلك... ماذا عساها تفعل ؟ يجب أن تنفذ مطالبه كلها ما لو أرادت عفوه و صفحه عنها !!!


-إحنا إيه إللي جابنا هنا يا عبد الرحمن ! .. قالتها "يارا" و هي تطلع إلى المكان الراقي و الرواد النبلاء من حولها


ساعدها "سفيان"... الإبن.. على خلع معطفها المصنوع من الفراء الثمين و هو يقول بصوت هادئ :


-دلوقتي هاتفهمي كل حاجة. مستعجلة ليه ؟


و فرقع بأصبيعه، فأتاه عامل و أخذ منه المعطف ليضعه في المكمن الخاص.. أمسك بيد أمه في اللحظة التالية و سار بها بخطوات متهادية نحو طاولة مخصوصة


كان "سفيان" متأنقاً بدوره، وسامته فاضت عليه بشكل كبير هذه الليلة فسرعان ما إستقطب الأنظار و عرفه الملأ على الفور، و لولا أنهم مثله من ذوي الطبقة الرفيعة لكانوا هرعوا إليه طلباً للإلتقاط الصور و توقيع الكروت و المناديل ...


لم تكن "يارا" تركز على شيء في هذه الأثناء سوى سيرها، كانت تخشى على نفسها السقوط بهذه الجزمة ذات الكعب العالٍ، لكنها وصلت معه إلى الطاوله بسلام.. أخيراً


إبتسمت و هي ترفع وجهها بحركة عفوية، لتجمد فجأة.. عندما تلتقي عينيها بعينيه... ليس إبنها، لم يكن هو.. بل أبيه، زوجها السابق، المجرم السافل !!!!


-إنت ! .. تمتمت "يارا" و قد تلاشت إبتسامتها ليحل العبوس الشديد محلها


إبتسم لها "سفيان"... الأب.. و لم يكن يقل عنهما شيئاً،كان في أبهى حالاته، حيث بدا رغم شيبته و ملامحه الهرمة جذاباً، و كأنه جمرة تشتعل في أوج الشتاء ....


-إيه الحلاوة دي يا قلبي ؟ إنتي إيه ؟ فرسة كده علطول مابتكبريش !!


كان إطراؤه البذيئ من شأنه أن يطربها كما كان يفعل في سابق عهد علاقتهما، قبل أن تعرفه على حقيقته، لكنها إشتعلت غيظاً و هي تحول نظراتها نحو إبنها قائلة :


-هو في إيه يابني ؟ إنت جايبني هنا عشان أشوف الراجل ده !! .. و أشارت بسبباتها نحوه في حركة دونية


كبت الأب ضحكته، بينما يرد الإبن بلهجة مهذبة :


-ماما ! لو سمحتي. ممكن تهدي و تقعدي.. خليكي فاكرة إنك وعدتيني. قولتي إنك هاتعملي أي حاجة عشاني.


هكذا أخضعها إبنها بمنتهى البساطة، بنطقه تلك الكلمة التي تتوق مسامعها إليها... لم تجد بداً من الإذعان له، لكنها كانت متضررة بشدة.. سحب لها كرسي، فجلست على مضض و هي تتحاشى النظر إلى الشيطان الكبير !


كان يتابعها بناظريه مسروراً بما يعتمل فيها من غضب و حقد عليه، جلس في هدوء هو الآخر منتظراً مآل الوضع على يدي إبنه... فهو نوعاً ما يعرف مضمون الجلسة و ما ينوي عليه الإبن، لكنه يجهل شيئاً ما في خاطره، حتماً سيعرف كل شيء الآن ...


-ماما أنا جمعتك إنتي و بابا الليلة دي عشان عايزكوا ترجعوا لبعض !


و كأنها كانت تجلس فوق قنبلة، إنفجرت الآن ...


-نعم !! إيه إللي إنت بتقوله ده ؟؟؟ .. صاحت "يارا" منفعلة


زجرها إبنها بتحذير متمتماً :


-صوتك من فضلك. إحنا في مكان عام !


يارا مغالبة مشاعرها العنيفة :


-ما إنت مش سامع إنت بتقول آ ا ..


-أنا مش بطلب منك ! .. قاطعها بحزم


-أنا بقولك إللي هايحصل لو عايزاني أفضل موجود في حياتك. في حياتكوا إنتوا الإتنين .. و نظر إلى أبيه مكملاً :


-أنا عمري ما هاكون طرف في لعبتكوا دي. و الحرب إللي بينكوا لازم تخلص. إنتوا إيه مابتتعبوش ؟!


ضحك الأب قائلاً :


-الكلام ده تقوله لأمك يابني. أنا أديتها أكتر من فرصة.. بس هي إللي عنيدة و العند بيورث الكفر زي ما بيقولوا !


إنفجرت "يارا" فيه :


-إنت كمان ليك عين تتكلم يا آ ا ..


-قلت صوتكوا بقآااااا ! .. صاح الإبن بغضب شديد و هو يضرب الطاولة بقبضته


ساد السكون للحظات و الناس جميعاً ينظرون نحوهم.. هدأ الوضع تدريجياً ليعود الإبن قائلاً بغلظة :


-أنا مش هارجع عن موقفي. الليلة لو مارجعتوش لبعض يبقى تنسوني خالص إنتوا الإتنين. هامشي و مش هاتشوفوا وشي تاني.


أمسكت "يارا" بذراعه و هي تقول بصوت ملؤه الآسى :


-إنت كده بتعمل فيا زيه يابني. بتدبحني و بسكينة تلمة.. طيب إفرض سمعت كلامك. هقبله تاني إزاي بالسرعة دي ؟ إستحالة أسيبه يقرب مني أو يكون جمبي في طرفة عين كده.


الإبن ببرود : أنا ماقولتش هاتتجوزا تاني الليلة. ماتخافيش أنا حريص على مشاعرك بردو و إتفقت مع بابا إنه هايكون شخص كويس معاكي و هايعاملك معاملة تانية خالص. هايكون واحد تاني غير سفيان الداغر إللي تعرفيه.


ألقت "يارا" نحوه نظرة شك قائلة بصوت هامس :


-ده يتغير ! ده يبقى واحد تاني ؟!!


منحها الأخير إبتسامة جوفاء، بينما يخرج الإبن شيئاً من جيب سترته و هو يقول :


-علاقتكوا هاتبدأ من جديد. هاتتعرفوا على بعض من أول و جديد. زي أي إتنين في العالم هايتقدملك دلوقتي و هاتتخطبوا. فترة صغيرة تتعرفوا و بعدين تتجوزوا.. و أنا جبتلك شبكتك !


و أظهر لها محبس الزواج اللامع و هو يقول آمراً :


-هاتي إيدك !


نظرت "يارا" له بعدم إقتناع، حاولت أن تثنيه عن رآيه قائلة :


-يا حبيبي. إفهمني أرجوك.. إحنا ممكن نصلح علاقتنا أوكي عشانك. لكن نرجع لبعض تاني ده مستحيل صدقني.


-مافيش حاجة إسمها مستحيل. هاتي إيدك بقى ! .. صاح "سفيان"... الإبن بنفاذ صبر


زفرت "يارا" بقوة و قد كانت تحبس الدموع بعينيها بجهد شديد.. لكنها أعطته يدها في الأخير و هي تشيح بوجهها للجهة الأخرى، لا تريد أن ترى ذلك الوغد !!!


مد الإبن علبة الذهب الصغيرة لأبيه قائلاً بالنفس اللهجة الآمرة :


-إتفضل حضرتك.. لبسها الدبلة.


نظر الأب له ببلاهة و إلتقط محبس الخطبة منه قائلاً بإستنكار :


-شبكة و خطوبة و أنا قاطع الـ60 ؟ بعد ما شاب ودوه الكُتاب ؟ ده إيه الليلة السودا دي !!


الإبن بضجر شديد :


-خلصوني بقى. ماتحسسونيش إني عايش دور الخاطبة إنتوا أصلاً كنتوا متجوزين في إيه !!


و هنا إبتسم "سفيان"... الأب بخبث قائلاً :


-كل خير يابني. و ماله خطوبة خطوبة.. المهم الفرسة ترجعلي تاني. حبة قلبي دي وحشاني أوووي !


و مد يده قابضاً على كف "يارا"، سحبه بقوة من يد الإبن فشهقت بفزع، ما لبث أن إستحال غضباً و هي تطالعه بإشمئزاز، بينما رنت ضحكته المجلجلة بالمكان و هو يدفع بالمحبس حول بنصرها الأيمن و هو يقول :


-ليكي عندي هدية تانية يا قلبي. الكلام ده مش مقامك بس لما نطلع من هنا. بعد ما ناخد سهرتنا .. و رفع يدها إلى فمه ليقبلها و عينيه في عينيها


-بكرهك ! .. لم تنطقها بلسانها


بل حركت بها شفاهها ليقرأها و يعلم جيداً ما تكنه له من مشاعر، فما كان منه إلا أن إبتسم بوداعه و شدها و هو يقوم واقفاً على قدميه :


-طيب يا داغر ! أنا هاخد أمك أرقص معاها شوية. إطلب العشا على ما نرجع .. و لف ذراعه حول خصرها هامساً بحميمية :


-يلا يا روحي. هاخدك في حضني طول الليل و أرقصك. جايز تفتكريني !


مالت "يارا" صوب أذنه و همست بدورها بصوت أكثر مرارة :


-عمري ما نسيتك عشان أفتكرك !!.............. !!!!!!!!!!!!!!!


❤❤❤


( 24 )


_ شوق ! _


خلعت "يارا" مئزر الإستحمام و تركته يسقط عن كتفيها فوق أرضية الحمام الرخامية.. كان المغطس مليئ بالمياه الساخنة و الأبخرة تتصاعد منه بكثافة تكاد تغشى عيناها


أمسكت بعلبة الصابون ذي العلامة التجارية الفخمة و أضافت للمياه سائل الـBubble Bath و رفعت ساقها الواحدة تلو الأخرى لتمدهما داخل المغطس


خفضت جسمها بروية حتى إستقرت أسفل المياه، غمرتها الفقاعات الوردية حتى وصلت إلى ذقنها، كانت تضع منشفة مطوية خلف رأسها، عملت على تهدئة أعصابها قدر إستطاعتها فأغمضت عيناها و إسترخت على الأخيــر و هي تستنسق بقوة عبير السائل الشذي ...


لحسن الحظ أن لها غرفة خاصة بها في هذا البيت، فيما مضى كانت تتقاسم الغرفة و الفراش معه، لكنه تكرم عليها الآن و سمح لها بالإستقلالية بعيداً عنه لعلها تصفو و تهدأ من ناحيته !!


يا له من مسكين ...


ربما تفعل ذلك فقط حين يمر الجمل في سم الخياط.. أنها ترتدي خاتمه كرهاً، مجبورة عليه و تشعر بثقل هائل حول بنصرها الأيمن، لماذا يفعل إبنها هذا بها ؟ ينصر الرجل الذي ظلمها و حرمها حقها فيه !!!


ألم تقص عليه ما جرى لها على يديه ؟ لماذا هو قاسي القلب هكذا ؟ هل ورث ذلك عن والده ؟ قسوة القلب و الجفاء !


و مع ذلك فقد كتب عليها الشقاء دائماً، أصبحت متأكدة أنها لم تكن يوماً سيئة الحظ.. بل هذا قدرها، أو ربما ذنب زوجها الثاني، تكفر عنه بهذه الطريقة، بعودتها إلى "سفيان الداغر" من جديد ....


-صباح الفل عالفل !


شهقت "يارا" بفزع عندما سمعت صوته قريباً جداً منها !!!


فتحت عيناها دفعة واحدة و أدارت وجهها بسرعة و هي تحرص بشدة على ألا يظهر إنش واحد من جسمها أمامه، رأته يقف فوق رأسها مباشرةً


فأحمّر وجهها غضباً و هي تهتف بعنف :


-إنت إزاي تدخل عليا كده يا بني آدم إنت ؟ مافيش تمييز خالص ؟ هي زريبة ؟ إتفضل إطلع بــرااااا !


إبتسم "سفيان" بوداعة قائلاً :


-إيه الإنفعال ده كله يا حبيبتي؟ ماحصلش حاجة أنا كنت جاي أصحيكي عشان نخرج نفطر برا سوا بس لاقيتك هنا و صاحية الحمدلله .. و تفرس فيها بجرآة مكملاً :


-و شكلك حلو أوووي و إنتي قاعدة في الماية السخنة أم رغوة دي. مش ممكن تعزمي عليا أجي جمبك البانيو واسع على فكـ آااه آاه آه !


بتر عبارته ضاحكاً حين بدأت تقذفه بأدوات الإستحمام و هي تصرخ به :


-بــراااااااا. إطلع بــرررااااا بقولك إمشــــي !!


أخذ يتراجع للخلف و هو لا يزال يضحك :


-حاضر حاضر طالع. إهدي بس.. هستناكي برا يا حبي. ما تتأخريش عليا.


و خرج مغلقاً باب الحمام خلفه ...


كانت "يارا" تشتط غضباً في مكانها و شعرت بسخونة أقوى من المياه التي تحتض ثناياها، فقامت واقفة في لحظة، خرجت من المغطس و هي تنتشل منشفة كبيرة من أحد الرفوف المحاذية


لفت جسمها بإحكام و لم تهتم بتجفيف شعرها


خرجت من الحمام حافية القدمين، لتجده ينتظر بالخارج كما قال لها ...


-إنت أو×× إنسان شوفته في حياتي ! .. صاحت "يارا" ثائرة و هي تقبل عليه بخطوات واسعة


-الله الله الله ليه الغلط ده بس ؟ .. ردد "سفيان" مركزاً نظراته على عري جسمها المغري


أرادت أن تصفعه حين وصلت إليه، لكنه سرعان ما تنبه لنيتها و أمسك بيدها قبل أن يهوى كفها على خده ...


-إيــه يا حبيبتي ! هدي أعصابك مش كده مالك بس ؟!!


حاولت تخليص يدها من قبضته و هي تصرخ بعصبية :


-سيبني. سيب إيدي يا حيوان. إبعد عن وشي مش طايقاك. يا أخي ربنا ياخدني أنا عشان أخلص منك !!!


سيطر عليها بسهولة و حبسها بين ذراعيه قائلاً بلهجة مرحة :


-يا قلبي بالراحة على نفسك.. ليه بتعملي كده ؟ إحنا مش مخطوبين دلوقتي ؟ أنا بحاول أكون لطيف معاكي زي ما وعدت الداغر الصغير. أبقى غلطان !


يارا بغضب : الخطوبة دي عند أمك. عارف أمك يا سفيان ؟ إنت عمرك ما هاطول مني حاجة. على جثتي. روح دور على واحدة غيري.


-مافيش خطوبة يعني ؟ تقدري تقولي كده للداغر الصغير ؟!


-إنت عايز مني إيـــه ؟ و إيه إللي عايز توصلهولي ؟ إنت عمرك ما حبتني. إنت كنت عايزني عشان حركت رجولتك. عشان رغبتك فيا. إنت ناسي كنت بتعاملني إزاي ؟ فاكر ليلة ما إتجوزتني ؟ فاكر يا باشا ؟!!!!


شرد "سفيان" في الماضي للحظات و هو يقول بإنتشاء واضح :


-فاكر.. فاكر يا حبيبتي. يا لهوي ده كأنه إمبارح. الـDressing room. السرير الضيق. و البيبي دول المخرم. و صوتك إللي كان ملعلع معايا طول الليل يا لهوووي كنتي تجنني !


كزت على أسنانها بغضب شديد :


-إنت حقيقي مش بني آدم و لا عندك نقطة دم و لا ذرة إحساس !!


-كفاية إني ماتجوزتش عليكي ! .. تمتم لها مبتسماً


زفرت بقوة و حاولت الفكاك منه مجدداً، ليقبض عليها أكثر و يشد على كفها بأصابعه القاسية مستطرداً :


-أصلي كنت هلاقي مزة زيك فين ؟ شوفي سايبك بقالي أد إيه ! إحلوتي أكتر. آه مليتي شوية بس جسمك لف و إدور زيادة. شعرك تقل و طول. عيونك وسعت. بشرتك شدت.و لا جوز رجلينك دول.. و هبط بنظراته ماسحاً تفاصيلها بشهوة مستعرة


-الواحدة فيهم و لا أحلى من دبوس بطة مستوية بتنادي آكالها !!


رمقته بنظرات مشمئزة و هي ترد عليه بسخط شديد :


-و شوف أنا سايباك بقالي أد إيه ! عمري ما قابلت لا بعدك و لا قبلك راجل في وقاحتك و دماغك القذرة دي. يا أو×× خلق الله .. ودفعته عنها بكل ما أوتيت من قوة


-إطلع بــرااااااا !


إلتوى ثغره بإبتسامة شيطانية و هو يشملها بنظراته الحيوانية... حك طرف ذقنه بإبهامه و هو يقول بلهجته الخبيثة :


-ماشي طالع. عشان خايف عليكي بس. أحسن تاخدي برد و لا تستهوي بالفوطة إللي على جسمك دي. بس راجعلك تاني أكيد .. و أرسل لها قبلة في الهواء


-أورفوار يا روحي !


-طلعت روحك إن شاء الله !!


فضحك و هو يستدير مغادراً غرفتها، بينما بقيت مكانها ترمق إثره الفارغ بنظرات متخاذلة... متحسرة !!!!!


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


-چو ! بليززز بقى .. قالتها "ميرا" متوسلة و هي تحاصر "يوسف" بين حائط الغرفة و الباب


يوسف و هو يحاول إبعادها بأقصى ما يمكنه من لطف :


-ميرا قولتلك ماينفعش. إنتي واخدة بالك إحنا فين ؟ إبعدي عني يا حبيبتي من فضلك أنا مش ناقص أبوكي !


تعلقت برقبته قائلة :


-حبيبي أنا لو هاموت مش هاسيبك إنهاردة. إنت وحشتني أوووي بقالي شهر مش باشوفك.


أخذ يربت عليها و هو يقول بهدوء لعلها تتفهمه :


-يا قلبي أنا كنت بعيد عشانك و الله. خلاص خلصت إجراءات الطلاق و سيبت البيت لمراتي. دلوقتي بجهز بيتنا إحنا بقى عشان في أقرب وقت ننقل فيه أنا و إنتي.


ميرا عابسة : و ده عذر يعني ؟ هنت عليك تسيبني كل ده أنا و إبنك ؟! .. وأمسكت بيده لتضعها فوق بطنها ذات الستة أشهر


إلتصقت به كثيراً و هي تهمس أمام وجهه بأغواء :


-إبنك زعلان منك و مخاصمك !


إزدرد ريقه بتوتر و هو يرد عليها :


-أنا مابعرفش أقاومك. إنتي عارفة كده كويس.. فماتحاوليش معايا يا ميرا أبوس إيدك. تخيلي لو أبوكي دخل علينا في أي لحظة !


ضحكت "ميرا" و قالت و هي تبتعد عنه بضع خطوات :


-طب هو أنا عملت حاجة ؟ أنا كنت بقولك إن إبنك مخاصمك بس. مش كده يا سفيان ؟! .. و نظرت إلى بطنها


و هنا علق "يوسف" فوراً و هو يتبعها مسرعاً :


-لأ sorry إستني كده ! سفيان مين ؟؟!!


إلتفتت له و أجابت بتلقائية :


-سفيان يا بيبي. إبننا !


يوسف بإستنكار شديد :


-إبن مين ؟؟؟ بقى إنتي عايزة تسمي إبني أنا سفيان ؟!!!!!


-و فيها إيه يا چو !


-فيها إيه ؟ بقى مش عارفة فيها إيه ؟ عايزة تسمي إبني سفيان يا ميرا و بتسأليني فيها إيه ؟ و الله عال ده إللي ناقص فعلاً !


-بتقول حاجة يا يوسف ؟!


جمد الأخير حين أتاه صوت والدها من الخلف فجأة ...


لتبتسم هي مخففة من وقع صدمته و التوتر الذي إنتابه بشدة


-مش عاجبك إسمي و لا إيه ؟


إستدار "يوسف" ليرد عليه بإبتسامة متوترة :


-لأ إزاي يا باشا ! ده حلو أوي. أنا أطول أسمي إبني سفيان ؟ و الله لو جت بنت حتى هاسميها سفيان بردو.


لم يرف لنظراته الثاقبة جفن و هو يقول مبتسماً بإلتواء :


-طيب معلش إتفضل من هنا دلوقتي.. أصل جوزها إتصل دلوقتي و زمانه جاي في السكة. و مش حلو لما يجي يشوفك قاعد معاها في أوضتها !!


بُهت "يوسف" في هذه اللحظة، عندما ذكر "سفيان" مجيئ زوج "ميرا" ...


-في حاجة و لا إيه يا باشا !! .. تساءل "يوسف" بصوت أجش


سفيان ببرود : أبداً. أنا كنت طالبه يجيلي أصلاً من فترة بس هو ما كانش حابب يجي منغير أبوه و أمه. أبوه رجع من حوالي شهر و أمه لسا راجعة إنهاردة.


يوسف بوجه مكفهر :


-بس ميرا هاتقابلهم إزاي و هي كده يا باشا ؟!


فهم "سفيان" ما يرمي إليه و قال بجدية :


-أنا هاتصرف. ماتقلقش إنت.. يلا بقى مع السلامة !


أطلق "يوسف" نهدة عميقة و ألقى نظرة نحو "ميرا"، ثم إتجه نحو باب الغرفة و رحل !!!


-لآخر مرة هاسمحلك بالمسخرة دي !


أفاقت "ميرا" من شرودها على صوت أبيها، أزاحت عيناها عن باب الغرفة حيث مر "يوسف" عبره للتو... نظرت له بإستفهام، فكرر بحدة شديدة :


-لو شوفت المسخرة دي تاني مش هايحصلك كويس.


ميرا ببراءة : في إيه بس يا دادي ؟!


إستشاط أبيها غيظاً و قال بخشونة :


-إتلمي يا ميرا. إتلمي هاموتك و الله .. و أكمل و هو يدير ظهره لها ليذهب :


-10 دقايق و تكوني جاهزة. إلبسي واسع و إوعي تنزلي غير لما أجي Check عليكي !!! .................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


( 25 ) (26) 


_ حقيقة مؤلمة ! _


تقابلا في الجراج... حيث شرعت "يارا" في إستقلال إحدى السيارات التي عمد "سفيان" إلى إهدائها إياها حتى تتمكن من الغدو خارجاً وقتما شاءت


بينما كان الإبن داخل سيارته الفارهة فعلاً، إلا أنها لم تنتبه لوجوده بادئ الأمر حتى أطلق لها زاموراً و صوّب نحوها ضوء السيارة عدة مرات


إلتفتت له "يارا" قبل أن تضع المفتاح بالسيارة، ضيقت عيناها و هي تنظر عبر الضوء فرأته و هو يجلس خلف المقود مرتدياً نظارته الشمسية الأنيقة ...


-رايحة فين ؟ .. هتف الإبن من مكانه متسائلاً


إبتسمت "يارا" عندما لمست في نبرته الجلفة شيئاً من الإهتمام لأمرها، و ردت عليه :


-رايحة الشركة الأول و بعدين هافوت على الـGallery أشوف أخباره إيه. و إنت يا حبيبي على فين كده ؟!


ترجل "سفيان"... الإبن من سيارته في اللحظة التالية، مشى ناحيتها وئيداً و قال و هو يشملها بنظرات متفحصة :


-و إيه إللي إنتي لابساه ده ؟ فستانك ده ضيق أوي و قصير كده ليه ؟ ده فوق الركبة. إنتي مش سقعانة !!!


إزدادت إبتسامتها إتساعاً حين رأت الغضب المكبوت في عينيه و قالت بسعادة :


-إنت بتغير عليا يا روحي ؟


سفيان بضيق : من فضلك بلاش الإسلوب ده. و بلاش روحي و قلبي و الجو ده أنا مابحبوش .. و أكمل بحدة :


-ثم أنا أساساً من حقي أعلق على منظرك ده. على الأقل إحترميني و إحترمي سنك المفروض إنك Community Lady (سيدة مجتمع ) و كل الناس عرفاكي يعني لازم تراعي صورتك في عيونهم.


يارا بإبتسامة عريضة :


-يا حبيبي إنت تعلق زي ما إنت عايز. و عنيا حاضر هاطلع أغير الفستان أي آوامر تانية ؟؟


أشاح عنها عابساً و قال بإقتضاب :


-أنا هستناكي عشان أوصلك. إتفضلي و ياريت ما تتأخريش.


يارا بحب : مقدرش أتأخر عليك أبداً. ده أنا أتمنالك الرضا ترضى يا حبيبي .. و إستطردت بخبث :


-و بعدين أهي فرصة نمشي أنا و إنت و نسيب البيت لأبوك و أختك. عشان لو ولع بيهم نبقى في الآمان سوا.


نظر لها في هذه اللحظة قائلاً :


-إيه إللي بتقوليه ده ؟ مش فاهم تقصدي إيه ؟!!


إلتوى ثغرها بإبتسامة ماكرة و رفعت يدها لتربت على خده بلطف قائلة برقة :


-ماتشغلش بالك إنت بالحواديت دي. هي مشاكل أختك طول عمرها بتتحل عشان أبوها في ضهرها. كل مرة بتبقى أصعب من إللي قبلها و كل مرة أقول مش هاينفع. خلاص قفلت عليهم.. يرجع أبوك يفاجئني و يظبطلها كل حاجة. مين عارف. جايز يقدر يعمل حاجة تاني المرة دي !


نظر لها بعدم فهم، فإبتسمت مجدداً و هي تقول :


-يلا يا روحي أنا طالعة. 5 دقايق و رجعالك !


و إستدارت ماضية إلى البيت ....


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


-لفي ! .. قالها "سفيان" بغلظة و هو يقف في غرفة إبنته عاقداً ذراعيه أمام صدره


أطاعت "ميرا" أمره و أخذت تدور حول نفسها ليراها جيداً و يقرر ما إذا كان هذا الرداء الواسع يستر مكمن الجنين الذي إكتمل تقريباً ببطنها


إستغرقه الأمر بعض الوقت حتى أصدر أمره لها ثانيةً :


-خلاص أقفي.. كويس الفستان ده. بس حطي شال كتفك و ضميه على صدرك كده. و ماتنسيش إنك المفروض عيانة و مكتئبة. مش عايز حد منهم ياخد باله من أي حاجة فاهمة ؟


ميرا بجدية : أوكي دادي. ماتقلقش أنا هاتصرف كويس !


سفيان مغالباً إنزعاجه :


-طيب يلا. يلا عشان وصلوا خلاص .. و جعلها تمر أمامه أولاً


هبطا سوياً، و كانت الإبنة تتأبط ذراع أبيها.. وقف الضيوف عندما دخلا إليهم في غرفة الصالون


كانت عائلة الزوج متواجدة، الأم و الأب يقفان بجواره و هو بينهما، عيناه لم تفارقا "ميرا" فور ظهورها أمامه، بينما الأخيرة تسير إلى جانب والدها و هي تتحاشى النظر إليه تماماً


و كم كانت بارعة في آداء دور المريضة و المجني عليها في آن... إلى درجة جعلته ينظر إليها و هو يشعر و كأن طعنة نجلاء إخترقت صدره بقسوة !!!


-أهلاً بيكوا يا جماعة ! .. كان هذا صوت "سفيان"


رحب بضيوفه و هو يشير لإبنته في مكان جلوسها بجواره، ثم راح يصافحهم باليد ...


-أهلاً يا عز.. حمدلله على السلامة يا مدام مدلين .. و توقف للحظات أمام "عمرو" يطالعه بنظراته الثاقبة


-إزيك يا عمرو !


تطلع "عمرو" إليه و مد يده ليصافحه بدوره قائلاً :


-تمام يا باشا.. كويس الحمدلله.


-طيب الحمدلله. إتفضلوا أقعدوا .. و إستدار ليجلس إلى جانب إبنته


فما كان من"عمرو" إلا أن عمد إلى تهدئة أبويه و حملهم على التذرع بمزيد من الصبر فقط من أجله، فأذعنا له على مضض و جلسا متضررين ...


ليضع "سفيان" ساقاً فوق ساق و هو يسألهم بدماثة :


-تشربوا إيه بقى !


و هنا تكلم "عز" أخيراً، فخرج صوته يزخر بالحزم و الشدة :


-إحنا مش جايين نضايف يا سفيان. إحنا جايين نطمن عليك و ناخد ميرا.


عقد "سفيان" حاجبيه :


-تاخدوا ميرا ؟ تاخدوها على فين يا عز ؟!


-على لندن ! .. قالتها "مدلين"


و قد كانت لهجتها تعادل نفس مشاعر الغضب و التصميم في صوت زوجها


لم يحيد "سفيان" نظراته عن "عز" و هو يقول بصوته الهادئ :


-والله يا عز إنت عارفني. ماحبش حاجة في حياتي أد إستقرار العيلة و سعادة الراجل مع الست بتاعته. أنا أحب ما عليا إن أشوف بنتي مبسوطة مع جوزها.. أهي عندكوا أهيه. أسألوها لو كانت موافقة تقوم تمشي معاكوا حالاً أنا طبعاً مش هامنعها هي حرة !


عز مستهجناً : مش هاتمنعها ! أومال مين إللي طلب من عمرو يطلقها ؟ مش إنت إللي قولتله كده بعضمة لسانك ؟ و كلمتني تهددني يا إبني يسيب بنتك يا الموضوع ياخدله سكة مش هاتعجبنا ؟ مش ده كان كلامك ؟!!!


إبتسم له ببرود قائلاً :


-إحنا ولاد إنهادرة يا عز. سيبك من كلامي أنا. قدامك صاحبة الشأن أهيه .. و أشار نحو إبنته :


-إسألها لو تحب تقوم تمشي معاكوا أنا عن نفسي هاكون أسعد واحد في العالم. أومال إيه ؟ دي حياة بنتي و إستقرارها.


حدجه "عز" بنظرات محتقنة و لم يفه بحرف بعد ذلك لشدة غضبه ...


-ميرا ! .. هتف "عمرو" فجأة


إرتعدت "ميرا" بخفة عندما سمعته ينادي إسمها... تشجعت و رفعت وجهها الخالي من مساحيق التجميل لتنظر في وجهه


لوهلة أصابها الذعر، حين شاهدت عيناه الغائرتان بشكل ملحوظ مثير للفزع، و الهالات السوداء تحيط بهما، ،و نحافته التي لم ترها عليه من قبل أبداً ...


كان "عمرو" يراقب نظراتها و تمكن بسهولة من قراءة مشاعرها المصدومة، فإنتهز الفرصة و أردف متلهفاً.. كان صوته يغص لشدة إرتياحه عندما رآي التعاطف في عينيها :


-ميرا يا حبيبتي. أنا جاي إنهاردة عشان أخدك و نرجع بيتنا. لو عايزة نسافر مع بابا و ماما و نسيب هنا خالص أنا موافق. هاعملك كل إللي إنتي عايزاه. بس ترجعيلي تاني.. أنا مش عارف أعيش منغيرك.حياتي مالهاش أي طعم و لا لازمة و إنتي مش فيها. إرجعي معايا يا ميرا. إرجعي و أوعدك إني مش هاخليكي تملي من الوقت أبداً. مش هاحسسك بأي زهق أو حزن. هاعمل المستحيل عشان أسعدك. بس ترجعي بليز !


لم تعرف "ميرا" كيف شعرت بدموعها تنهمر كالشلالات من عينيها و هي تستمع إلى كلامه، كانت تخشى أن ينفضح أمرها بسبب أي سلوك قد يصدر عنها، فهو هكذا كان يضغط على مشاعرها بكل قوته، بحيث لو أنه أراد أن ينتزع منها حقيقة الأمر لأعترفت له بكل سهولة !!!!


-أنا آسفة يا عمرو ! .. قالتها "ميرا" بصوت أبح


أدركت أن لا منفذ من هذا المأزق سوى أن تقول له شيئاً يؤذيه، يؤلمه،حتى يرضخ لرغبتها و يطلقها دون محاولة أخرى للتصالح.. و قررت أن تستغل دموعها في إكمال مسرحيتها الجهنمية، فتابعت و هي تملأ صوتها نشيجاً حاراً :


-أنا مش هقدر أرجعلك. أنا حاولت كتير أصبر نفسي و أقبل أستمر في حياتي معاك. جيت على نفسي كتير. كنت شايلة جمايلك معايا و حاطة معاملتك الكويسة ليا قدام عيني. إنت عمرك ما أهانتني. عمرك ما عملت فيا حاجة وحشة. و صدقني أنا بحبك أوي و بحترمك. و دايماً كنت شايفاك كتير عليا. كنت شايفة نفسي محظوظة أوي عشان إنت جوزي.. بس ربنا حرمني في حياتي معاك من الخلفة. معاك عمري ما هقدر أبقى أم. أنا تعبت من تجاهل المشاعر دي يا عمرو. إنت عاجز. بس أنا لأ. مش هقدر أظلم نفسي أكتر من كده سامحني !


و إختنق صوتها بالبكاء، فقامت من مكانها بلحظة و ركضت هاربة بعيداً عن وجهه المصدوم المجروح ...


كان "سفيان" في قرارة نفسه يصفق بحرارة لإعجابه بإسلوب إبنته، لقد أصابت الهدف تماماً... و الآن حان دوره هو !


-كويس إنك شوفت و سمعت بنفسك يا عز ! .. قالها "سفيان" مخاطباً والد زوج إبنته


كان "عز" منشغلاً بتفقد حال إبنه، تركه لأمه التي راحت تهدئه و تواسيه و نظر للأخير في اللحظة التالية و هو يقول بصوت خشن :


-ده جزاء إبني ؟ ده جزاء المعروف إللي كان بينا يا سفيان ؟ بنتك تكسره بالطريقة دي و تقوله الكلام ده ؟!!


سفيان بصرامة : زي ما عمرو إبنك ميرا تبقى بنتي. و زي ما بتخاف عليه أنا كمان بخاف عليها. أنا طبعاً مش مستغني عنها. إنت عارف كويس إنها محور حياتي كلها. و عارف أنا ضحيت بإيه عشانها. عشان كده بعد الكلام إللي قالته أنا ماعنديش كلام تاني !


عز بغضب : إللي هو إيه بقى إن شاء الله ! أصل بنتك قالت كتير و أهانت إبني قدامك و إنت قاعد و ساكتلها.


قام "سفيان" واقفاً و قال بهدوء :


-مقامك و مقام إبنك محفوظ يا عز. بنتي ماتقدرش تهينك و لا تهينه و لا أنا أقبل بكده. بس هي سمعتكوا الحقيقة إللي للآسف مؤلمة بالنسبة لكوا. و مع ذلك أنا مش هقدر أعارض رغبتها. لو كان الطلاق هايريحها فإنتوا مضطرين تقبلوا. و خلص الكلام لحد هنا .. و إبتسم مضيفاً :


-شرفتوني أوي بجد !!


❤❤❤


( 26)


_ فرصة أخيرة ! _


سارت "يارا" خلف إبنها حول متاجر الألبسة في هذا السوق التجاري الفخم... ظنت بادئ الأمر أنه ربما يود إبتياع بعض الأغراض لنفسه


لكنها سرعان ما تبينت أنه لم يكن يتوقف إلا أمام "فاترينات" الملابس النسائية !!!


-هو إحنا بنلف على إيه يا داغر ! .. هتفت "يارا" و هي تميل برأسها قليلاً صوب إبنها


كان يعلق يدها على ذراعه، ما أن سمعها تقول ذلك حتى إلتفت لها قائلاً بإستغراب :


-أول مرة أسمعك تناديني بالإسم ده ! أومال فين عبد الرحمن ؟!


يارا بتبرم : أعملك إيه يابني. حسيت إنك ماحبتش إسمك إللي إختارته لك. و في نفس الوقت أنا ماحبتش أناديك بإسم إللي مايتسماش فقلت الإسم ده أهون شوية !


إبتسم "سفيان" و قال :


-لأ مش أهون و مش محتاجة تغيري أي حاجة إختارتيها ليا. ناديني عبد الرحمن عادي أنا حبيت الإسم جداً.


أشرق وجهها بإبتسامة كبيرة و ما كان منها إلا أن قبضت على مؤخرة رأسه و جذبته بقوة لتقبله على خده مغمغمة :


-حبيب أمــه يانـآااااس حبيبي و الله حبيبي !


وبخها "سفيان" بلطف :


-إيه إللي بتعمليه ده إحنا وسط الناس هايقولوا علينا إيه !!


يارا بغبطة شديدة :


-فرحانة بيك يا حبيبي و الناس يقولوا أم و إبنها طبعاً.


سفيان بسخرية : إستحالة يكون ده منظر أم و إبنها. ده إنتي أصبى مني !


ضحكت بمرح، ليستطرد بجدية :


-ثم إن الناس لسا مايعرفوش إنك أمي. أنا عامل حسابي الحفلة الجاية هاخدك معايا و أطلعك على الـStage و أقدمك للكل.


يارا و قد فهمت الآن :


-آاااااه يبقى عشان كده ملففني معاك من الصبح.. عايز تشتريلي حاجة مناسبة أحضر بيها حفلتك صح ؟!


سفيان محافظاً على إبتسامته :


-لأ غلط. أنا جايبك هنا و بلففك معايا عشان أختارلك بنفسي فستان الفرح !


و هنا فغرت فاها مذهولة ...


-هه ! فستان فرح ؟ لمين يابني ؟!!


-ليكي إنتي يا حبيبتي. إنتي نسيتي إنك مخطوبة لبابا بقالك 5 شهور ؟ أظن كفاية أوي كده على فترة الخطوبة. خصوصاً إن ميرا إتطلقت و إتجوزت يوسف و إنتوا لسا مخطوبين. طب ده ينفع ؟


تحول مزاج "يارا" تماماً في هذه اللحظة و قالت له بصوت جاف :


-إنت لسا مصمم يابني ؟ لسا عايزني أتوحل في حياة أبوك الشيطان ده تاني ؟ ده أنا ما صدقت خلصت منه !


حاوط "سفيان" كتفها بذراعه قائلاً بصوته الهادئ :


-إسمعي يا ماما. أنا وعدتك إن مافيش مخلوق في الدنيا هآيذيكي تاني طول ما أنا عايش. لازم تثقي فيا أكتر من كده.. لا سفيان الداغر و لا غيره يقدر يقربلك. على جثتي !


-بعد الشر عليك ! .. صاحت بتلهف


أطل العذاب من عينيها و هي تتطلع له قائلة بآسى :


-إنت ماتعرفش ده عمل فيا إيه ؟ أنا مش خايفة منه. أبداً. أنا بس مش قادرة أنسى إللي عمله فيا من هو بعيد عني. أومال لو رجعتله تاني إيه إللي هايحصل ؟!!


طمأنها ممسداً على ظهرها برفق :


-و لا هايحصل أي حاجة صدقيني. إحنا مش عايزين أكتر من فرصة أخيرة. أنا مش طالب منك أكتر من كده. لو فعلاً بتحبيني أدينا فرصة نتجمع كلنا و نعيش مع بعض حياة طبيعية.. ده لو فعلاً بتحبيني زي ما بتقولي !


رمقته بنظرة مطولة و قالت بصوت مثقل بالمشاعر :


-لو فعلاً بحبك ! ده أنا مابحبش في حياتي حد أدك. إنت روحي إللي كانت ضايعة مني يا عبد الرحمن. و لما لاقيتك ردت فيا تاني.. أنا مش عايزة حاجة من الدنيا غيرك.


إبتسم من جديد و قال :


-يبقى خلاص إحنا متفقين.. زي إنهاردة الإسبوع الجاي كتب كتابك على بابا. و هايكون في بيت تيتة ميرفت.


شخصت عيناها و هي تنظر له بقوة :


-كتب الكتاب عند مين يا حبيبي ؟ انت كده عايز تيتة ميرفت تولع فينا كلنا !!


قهقه "سفيان" بمرح و قال بغمزة :


-ماتقلقيش. انا مظبط كل حاجة. كل اللي عليكي انتي تجهزي نفسك و تحاولي تصفي من جواكي اي حاجة ناحية بابا. لأني عايزك في اليوم ده احلى و اجمل عروسة.. عايزك تبقي فرحانة من قلبك.


أشاحت بوجهها عنه و هي تهز رأسها يائسة و تمتمت بخفوت :


-الواد ده هايجبلي شلل !


-بتقولي حاجة يا حبيبتي ؟


نظرت له ثانيةً و قالت مبتسمة :


-سلامتك يا حبيبي. يلا نكمل رحلة البحث عن الفستان.. يلا يابني !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


جلست "ميرا" فوق سريرها الوثير بمساعدة أبيها... كانت تتآوه و هي وضع يد خلف ظهرها و أخرى أسفل بطنها المنتفخ بشدة


بسط "سفيان" الغطاء السميك فوقها، ثم شد كرسي و جلس على مقربة منها ...


-خلاص يا دادي مش قادرة ! .. قالتها "ميرا" معربة عن آلامها المبرحة


ربت "سفيان" على يدها قائلاً بلهجة مقتضبة :


-هانت يا ميرا. إستحملي شوية كمان. الدكتور هايجي بكره يشوفك و إن شاء الله المرة دي ولادة.


نظرت "ميرا" حولها متأملة المعدات الطبية التي أحضرها والدها من أجلها خصيصاً لكي تحظى بالرعاية التامة دون الحاجة للذهاب إلى المشفى، إنقبض قلبها مجدداً و هي تقول بصوت مرتعش :


-أنا خايفة أوي دادي.. خايفة. أنا مش هاولد طبيعي زي ما قال الدكتور.


سفيان بجفاف : ماتخافيش يا ميرا. في الحالتين هاتبقي كويسة. و بعدين الموضوع كله مش هاياخد نص ساعة و هاتقومي بالسلامة.


أطلقت نهدة عميقة من صدرها و هي تقول :


-كان نفسي يوسف يبقى معايا. مش عارفة هاعمل إيه من غيره بكره !


-ماينفعش يكون معاكي. مش إحنا إتفقنا ؟ مش هاتشوفيه خالص إلا بعد ما تولدي بفترة. أنا لسا مش متأكد إن كان عمرو بيراقبنا و لا لأ. بس عمري ما هغامر بإنه يكتشف بأي طريقة إللي بيحصل هنا. حتى الدكتور بتاعك بيدخل و يخرج بطريقة خاصة.


ميرا بإمتنان : دادي. إنت بجد أعظم أب في الدنيا. إنت عملت حاجات كتير أوي عشاني. إنت كنت عايش ليا أنا و بس.. دادي. أنا مهما أقول مش هقدر أوصفلك بحبك أد إيه. أنا كنت أكتر بنت محظوظة في الدنيا دي. عشان طلعت لاقيتك إنت أبويا. إنت عندي بكل الناس. محدش يقدر يملا مكانك أبداً و لا حتى يوسف !


كان "سفيان" يستمع لها صامتاً مقطباً، حتى فرغت ...


قام من مكانه متجهاً نحو الشرفة المفتوحة، وقف يستنشق نسمات الهواء الباردة في هدوء، بينما تطالعه "ميرا" من مكانها بنظرات مستغربة


لكنه ما لبث أن قال بصوت عالٍ واضح دون أن يلتفت لها :


-يمكن كنت فعلاً أب كويس ليكي يا ميرا. يمكن قدرت أحميكي كويس و أعيشك حياة مستريحة و سعيدة.. بس الأكيد إن أنا ظلمتك. ظلمتك و آذيتك أوي. أي حاجة وحشة عملتيها لنفسك. أنا كنت سبب فيها !


و إستدار نحوها فجأة ...


كانت تنظر له بتعبير متصلب غير مقروء، ليتابع على نفس النحو :


-بداية من عيشتك في أمريكا مع أمك و إنتي صغيرة. سيبتك معاها و رجعت على هنا عشان أنتقم. في الوقت إللي كانت بدأت تدمن فيه.. تصوري. كان عمرك يادوب سنة و نص. لما حطتك على ترابيزة القمار و كانت هاتبيعك في دور Strip poker عشان إزازة ويسكي. لولا إتصالاتي و عيوني إللي كانت عليكي و إنتي معاها. قدرت أمنعها !


صمت قليلاً يراقب تعابير وجهها التي راحت تختلج آلماً الآن، و أكمل :


-بس حتى لما روحت و جيبتك هنا.. لما غفلت عنك شوية بس. ضيعتي مني. كنت فاكر إنك جمبي يعني خلاص في آمان. بس للآسف !!!


و أخذ يقترب منها ببطء، جلس مقابلها على حافة الفراش و رفع كفاه ليحيط بوجهها الشاحب ...


-إنتي مش وحشة يا ميرا. إنتي بريئة زي ما إنتي. أنا إللي عملت كل حاجة. أنا إللي ضايعتك مش مرة و لا إتنين.. كذا مرة. غلطتك بس إنك حبتيني و طلعتي شبهي في كل حاجة. و يمكن ده إللي خلاني أحبك أوي كده. أكتر من نفسي حتى.. إوعي في يوم من الأيام تكرهي نفسك بسبب أي حاجة حصلت. دوري في حياتك كان سلبي. بدل ما كنت أربيكي كويس و أعيشك حياة طبيعية. حبيت أقويكي و أطلعك قاسية زيي. لكن في دي بردو فشلت يابنتي !


و هنا إنهمرت الدموع من عيناها لكنها لم تفقد إتصالها بنظراته... طفق يكفكف لها دموعها بكفيه و هو يقول بلهجة صادقة :


-أنا كان لازم أقولك الكلام ده دلوقتي. عشان تفوقي و تبدأي حياتك الجديدة صح. أنا خلاص مش عايز حاجة تاني من الدنيا و مش ضامن أكون معاكي بكره و لازم آ ا ..


-بليييززز كفاية ! .. قاطعته بغصة مريرة


إرتمت عليه متجاهلة آلامها الشديدة، و إنفجرت باكية على صدره و هي تغمغم بنشيج خشن :


-أنا مقدرش أعيش منغيرك أصلاً. في حد يعيش منغير روحه ؟ إنت روحي يا دادي !!


ربت "سفيان" عليها و قال يهدئها :


-طيب إهدي يا حبيبتي. إهدي خلاص.. أنا دلوقتي جمبك أهو. و بكره ولادك يكونوا حواليكي و يوسف و الداغر الصغير و يارا. إنتي عمرك ما هاتبقي لوحدك أبداً. أنا مش ممكن أسيبك لوحدك.


حاول إبعادها حتى لا يؤذيها هذا الوضع، لكنها رفضت تركه و تمسكت به أكثر، فتنهد و ضمها إليه بدوره و يكرر على مسامعها العبارات المهدئة :


-كله هايبقى كويس.. المرة دي مش كلام يا ميرا. حياتنا كلها هاتتغير أوعدك. أوعدك يا حبيبتي ! ......... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


( الأخير ) جزء أول :جزء ثاني ....


_ فرصة أخيرة ! _


أصبح على أتم الإستعداد لكي يذهب و يعقد قرانه مرةً أخرى عليها ...


تلك البذلة الأنيقة التي يرتديها، هي نفسها التي إتداها يوم زفافهما، لقد إحتفظ بها كل تلك السنوات.. و ما زال وجيهاً وسيماً كما كان في السابق، لا ينقصه شيء تقريباً


لكن بلى !


بالطبع ينقصه.. فهو مضطر للذهاب بمفرده، فإبنته فرغت من ولادتها حديثاً، إبنته الغالية "ميرا" أنجبت له منذ يومين فتاة جميلة، حفيدة أصر أن تحمل نفس إسم أمها


و لولا تصميم إبنه على وجوب الإسراع في إتمام الزواج لما كان يتركها الليلة أبداً و هي في فترة النفاس الأولى و بدون زوجها "يوسف" أيضاً، ألم يكن هو الذي منعهما عن بعض خشية إلفات النظر !!


-إيه الوجاهة دي كلها يا عريس !


إبتسم "سفيان" حين سمع ملاحظة أخته الغزلية


كانت تقف عند عتبة باب غرفته


إستدار لها في اللحظة التالية، فأخذت تتأمل الإطلالة الداكنة بالكامل التي عمد إليها... إن الأسود خُلق له حقاً، لا يمكن أن يكون هناك لون أكثر حدة و شراً منه غير الأسود، أنه مثله تماماً !!!


-دي أقل حاجة عندي يا فوفي .. قالها "سفيان" بإبتسامة مغترة


ردت "وفاء" له الإبتسامة و قالت و هي تقبل نحوه :


-أنا طبعاً عارفة. بس صدقني.. شكلك إنهاردة صغران أوي. كأني رجعت 23 سنة لورا. فاكر ؟ يوم جوازك !


أومأ قائلاً : فاكر يا وفاء. عندك حق. الذكريات زي ما تكون بتتكرر بتفاصيلها.


و هنا توقفت أمامه مباشرةً، طفقت تعدل له هندامه و تضبط ربطة عنقه و هي تقول بصوت ناعم :


-الذكريات بتتكرر.. و إوعى تنسى. إن كل حدث مهم في حياتك بيكون له علاقة بفرح. أو مناسبة كبيرة أوي.. مش حاجة غريبة دي يا سفيان !


و هنا عقد "سفيان" حاجبيه عندما عجز عن فهم مقصدها و قال :


-مش فاهم قصدك ! حدث زي إيه مثلاً ؟!


إبتسمت "وفاء" مجدداً و تنهدت قائلة :


-و لا حاجة. ماقصدش حاجة يا حبيبي.. حنيت للماضي فجأة بس !


رفع حاجبه و هو يرمقها بنظرة إستخفاف ثم قال بصوت أجش :


-الماضي ده كان كله وساخة. إيه إللي يخليكي تحنيله تاني يا وفاء.. مش قولنا ترميه ورا ضهرك ؟


علت زاوية فمها بإبتسامة ملتوية و هي ترد عليه بثقة :


-هارميه يا سفيان. مسيري في يوم هارميه و هانسى كل حاجة.. أنا وعدتك !


سفيان بجفاف : هانشوف ! .. ثم قال و هو يتجه نحو منضدة الزينة ليأخذ سلسلة مفاتيحه :


-لو ماكانتش ميرا في الحالة دي كنت خدتك إنتي و هي معايا. بس معلش هاتقعدي معاها لحد ما نرجع كلنا. الداعر الصغير من الصبح عند أمه و أنا هاروح لوحدي.


تنفست "وفاء" بعمق و قالت بوداعة شديدة :


-ترجعوا بالسلامة يا حبيبي.. ماتقلقش خالص. ميرا في عنيا !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


داخل ميناء المطار الجوي ...


توقفت عائلة الوزير السابق أمام أكشاك التفتيش، وضع كلاً منهم حقائبه فوق سير الفحص و بقوا في الإنتظار


كانت البرودة شديدة هنا، فشرعت السيدة "مدلين" بإرتداء معطف الفراء خاصتها، لتقع عيناها صدفة على إبنها الواقف خلفها تماماً


جمدت فجأة، حين لاحظت دموعه تسيل على خده ببطء بينما هو لا يلقي بالاً بأي شيء، و لا يعبأ حتى إن رآه أحد ...


وكزت "مدلين" زوجها دون أن تحيد بنظراتها عن الأخير، لينظر "عز" حيث تنظر و يرى هذا... لوهلة إنتابته صدمة سرعان ما إستحالت لغضب شديد


لكنه كبح مشاعره كلها بصعوبة و مد يده نحو إبنه هاتفاً :


-عمرو إنت كويس ؟!


أفاق "عمرو" حين شعر بيد أبيه تربت على كتفه، أدار وجهه لينظر إليه و قال و هو يكفكف دموعه بسرعة :


-نعم يا بابا ! أنا كويس في حاجة و لا إيه ؟!


زفر "عز" قائلاً :


-عينك مالها ؟


إغتصب "عمرو" إبتسامة و هو يرد عليه :


-مافيهاش حاجة ده بس عشان الجو برد أوي هنا.


و دق هاتفه في هذه اللحظة، شرع في إخراجه من جيب معطفه، بينما أعرض والده عنه مهتماً بمباشرة الإجراءات


فتح "عمرو" الهاتف ليجد رسالة نصية من رقم مجهول، كانت مرفقة بمجموعة صور... إجتذبته الصور أولاً و فوراً


كانت لزوجته السابقة.. "ميرا"


ها هي تتوسط فراشها في حجرتها في بيت والدها، و لكن ما هذا الذي تحمله على يديها، و في لقطة أخرى يقبع بجوارها، و في أخرى بين أحضانها، و لماذا تبدو بهذا الإعياء


سرعان ما إكتشف "عمرو" أن الذي معها في الصور لم يكن سوى طفلاً... و لكن طفل من هذا ؟؟؟؟؟؟


لم ينتظر إجابات عشوائية من عقله و إنتقل لنص الرسالة.... " مش دي مراتك بردو ؟ لأ قصدي طلقيتك ؟ إللي معاها في الصورة دي بنتها لسا والداها من كام يوم. مش إنت طلقتها من 3 شهور و لا إيه ؟!! "


سقط الهاتف من يد "عمرو" .. إنتبها له والديه على الفور و سارعت أمه إليه ...


-إيه يا حبيبي مالك ؟ إنت كويس ؟!!!


كانت تمسك بذراعه و تحاول أن تجعله ينظر لها، لكن الصدمة التي خلفتها تلك الرسالة منذ لحظات لم تمنحه فرصة التفكير أو التعاطي مع أي شيء، فإنطلق بسرعة البرق متجهاً خارج المطار ...


-عمـــرو.. عمــــــرو.. عمــــــرو !


لم يستجيب لنداءات والده أبداً، بينما أمه في أقصى حالات الإنهيار و كاد أن يغشى عليها فعلياً و هي تلتقط هاتفه و ترى تلك الرسالة ...


-إلحقه يا عز. إلحقه بسرعـــة !


و في هذه اللحظة إستقطبا نظرات جميع من حولهما بسبب صراخ الأم الملتاع !!!!!!!!!


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


لأكثر من ساعة حتى الآن، ما زال "سفيان"... الأبن يقف في غرفة جدته و وسط أختيه و والدته، يحاول عبثاً إقناع الجدة بالخروج معهم


لكن ليس أمامها خيار، لابد أن تخرج ...


-يابني سيبني في حالي بقى قولتلك مش هاخرج ! .. قالتها الجدة للمرة المئة


-إنتوا مش خلاص كتبتوا الكتاب ؟ سيبوني في حالي بقى.


كانت نفسها تفيض بالضيق، إلا أن الحفيد لم ييأس،فركع أمامها و أخذ يستميلها برفق :


-عشان خاطري يا تيتة. مايصحش بابا يكون قاعد برا و إنتي مش عايزة تقابليه.. ده في بيتك عيب. مش كفاية ماحضرتيش كتب الكتاب !


ميرفت بإنفعال : و مش طايقة أشوف وشه ياريت يحس على دمه و يغور من هنا .. و تطلعت إلى إبنتها قائلة :


-بقى هو ده إللي سامحتيه بعد ما عمل فيكي ده كله ؟ و جوزك إللي موتيه بحسرته. رؤوف الزيني كان عمل فيكي إيه يا بريئة يا شهيدة ؟!! تستاهلي كل إللي يجرالك !!!


لم تتحمل "يمنى" سماع المزيد عن والدها، ففرت هاربة من وسطهم و هي تكبت بكائها... بينما "يارا" مطرقة الرأس و الشعور بالخزي يملأها


لقد فعلها "الداغر" مجدداً، لقد إنتصر عليها كالعادة.. الليلة تزف له بهذه البساطة و بذاك الرداء الأبيض الأنيق و كأنها عروس حقيقية !!!


حاولت "يسرا" أن تؤازر أمها و تخفف عنها قدر إستطاعتها، على الطرف الآخر "سفيان"... الأبن يقول بصوت خشن و قد نفذ صبره :


-أنا زهقت من دور المصلح إللي مابيخلصش ده. في إيه مالكوا كلكوا ؟ عاملين نفسكوا ملايكة و إنتوا أكتر ناس شايلين جواكوا و رغبة الدمار هي إللي بتحركّوا ؟ براحتك يا تيتة مش عايزة تتصافي مع أبويا إنتي حرة. بس من بكرة أمي و إخواتي هايجوا يعيشوا في بيت الداغر و طبيعي هاتكوني معاهم. أنصحك طول الليل بقى تحاولي تمرني نفسك على الخطوة دي.


و هب واقفاً فجأة ...


-يلا يا ماما !


أمسك بيد أمه و شدها خلفه للخارج، فظلت "يسرا" تجلس بجوار جدتها، لم تتبعهم ...


كان "سفيان الداغر"... الأب، يجلس هادئاً في الصالون و قد بدا أنه إستمع للحديث العائلي بالداخل، لكنه لم يكن مستاءً على الإطلاق، بل إنه كان يبتسم و كأنه يشاهد عرض مميز ...


-مش يلا بقى يا حبيبتي ؟ .. هتف "سفيان" و هو يمد يده لزوجته


قام واقفاً على قدميه ليستقبلها ...


-الليلة دي مش هانروح البيت. أنا عازمك برا و عاملك مفاجأة حلوة أوي !


كان يلتهمها بنظراته، فقد بدت فاتنة كثيراً الليلة و هي أشبه بالملاك الشيطاني هكذا.. يا له من تناقض !!!!


كانت لا تزال متمسكة بيد إبنها و تشيح بوجهها عن الأخير في آن.. فشهقت فزعة عندما جذبها من ذراعها على حين غرة


تآوهت بخفة و هي تصطدم به، ليضحك و هو يقول مطوقاً خصرها بذراعه :


-أنا مش مصدق نفسي و الله. أخيراً رجعتيلي تاني. خلاااص مش هابعد عنك تاني أبداً ! .. و رفع يدها إلى فمه ليقبلها


في نفس اللحظة يدق هاتف "سفيان"... الأبن


إستغرب عندما إكتشف أن "يوسف" هو الذي يتصل به، فهو عادة لا يهاتفهه إلا للضرورة القصوى !!!


في النهاية لم يتركه ينتظر طويلاً و رد :


-آلو.. أيوة يا يوسف.. في حاجة ؟.. مالها ميرا ؟.. تعبانة إزاي يعني ؟.. طيب.. طيب أوكي خلاص.. باي !


و أغلق معه ...


-في إيه يابني ؟ .. كان هذا صوت "سفيان"


بالطبع كان يتابع المكالمة منذ سماع إسم زوج إبنته، صب كل إهتمامه على ردود إبنه المبهمة لكنه لم يخرج بشيء ...


نظر الإبن في وجوه عائلته قائلاً بتوتر :


-ده يوسف بيقول إننا لازم نرجع البيت دلوقتي حالاً !


يرن هاتف أبيه بنفس اللحظة، ليرد فوراً دون أن يلقى بالاً لهوية المتصل :


-آلـو ! .. كانت زمجرة شديدة تعلو في حنجرته


و آتاه الرد الذي أطلق الوحش الكامن بداخله في طرفة عين :


-إلحق بنتك يا سفيان. إلحقها حالاً عمرو رايحلها. هايقتلها !!!!! ............. !!!!!!!!!!!!!!!!!!


❤❤❤


( الأخير ) جزء ثاني :


_ فرصة أخيرة ! _


أوقف "يوسف" سيارته على جانب الطريق ليرد على إتصال "ميرا" ...


-إيه يا حبيبتي ! أخبارك إيه دلوقتي ؟!


جاء صوت "ميرا" محملاً بالآلم :


-مش كويسة خالص يا يوسف. عندي مغص جامد و أنطي وفاء كانت هنا مش عارفة سابتني و راحت فين !!


يوسف بقلق شديد :


-أنا لسا قافل مع أخوكي. قالي إنهم راجعين دلوقتي. معلش يا حبيبتي إستحملي شوية كمان أنا هاين عليا أجيلك حالاً بس إنتي سمعتي آوامر أبوكي... طيب إنتي تعبانة أوي يعني !


-مش أوي هي العملية تعباني بس. كنت محتاجة حد جمبي.


-يا حبيبتي مسافة السكة و كلهم هايرجعوا ماتقلقيش ..ثم حول مسار الحديث كي يلهيها عن الآلم قليلاً :


-المهم قوليلي البرنسيس بتاعتنا عاملة إيه ؟ my little ميرا !


سمع ضحكتها الحلوة و هي ترد عليه بعناء :


-كويسة حبيبي. أكلت و نامت as angel ( زي الملاك ) !


يوسف بحب : نوم الهنا. وحشتوني أوي إنتوا الإتنين.. عارفة ؟ حاسس إني أول مرة أكون أب. و رغم إني مسمي بنتي الكبيرة ميرا. بس بنتي إللي منك حاسستني إن الإسم ماينفعش غير ليها هي و بس بعدك.


أحس إبتسامة في صوتها و هي تقول :


-ربنا يخليك ليا و ليها. يوسف أنا بعيش أحلى أيام عمري دلوقتي. كل أحلامي تقريباً إتحققت. مش فاضل غير لمتنا سوا.


قال واعداً : هايحصل يا حبيبتي. هانتلم قريب جداً. و ماعنتش هاسيبك أبداً !


و إنتبه فجأة لمكالمة أخرى دخلت على الخط، فأعتذر منها :


-ميرا حبيبتي. معايا مكالمة تانية هارد عليها و هاكلمك تاني. باي يا قلبي .. و أغلق معها ليتلقى الإتصال الآخر


رد بلهجة أكثر تهذيباً عندما إكتشف هوية المتصل :


-آلو ! سفيان باشا.. أهلاً.. في إيه إللي حصل ؟ إيـــه ؟؟؟!!!!


و رمى الهاتف من يده في اللحظة التالية، لينطلق بسيارته فوراً متجهاً إلى قصر آل"داغر" ....


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


شعرت "ميرا" أن آلام الجرح في تزايد لا تهدأ أبداً ...


كان الطبيب قد كتب لها آدوية و مسكنات، كانت حقيبة العلاج هنا بجوارها.. لقد إختفت عندما جاءت إليها "وفاء" منذ قليل


أين هي "وفاء" ؟ أين هي عمتها ؟!!!!!


ألقت "ميرا" نظرة على رضيعتها النائمة في سلام، ثم تحاملت على نفسها و قامت من السرير بصعوبة... راحت تتوكأ على أثاث الغرفة و هي تتآوه بصوت عالٍ و تنادي على عمتها :


-أنطــي وفـاء.. يا أنطـــي.. إنتي فيـــن إلحقيني بليييزز !


و لكن ليس هناك من مجيب !!!


واصلت السير و هي تجر قدماها جراً للخارج لتذهب و تبحث بنفسها عن "وفاء" ...


...................................................


في مكانٍ ما بالقصر ...


كانت تسمعها جيداً، كل نداءاتها سمعتها، و كانت الإبتسامة تملأ وجهها و هي تستسيغ نبرات الآلم في صوتها... كانت تحمل في كلا يديها طوق النجاة لها و آداة الإنتقام في آن


ذلك الهاتف في يدها اليمنى، يدق و هو على وضع الصامت، من المتصل ؟.. إنه "سفيان" طبعاً، الأخ الدنيئ و الأب العظيم


قررت أن ترد عليه لمرة قبل أن تقدم على خطوة الخلاص التي لطالما إنتظرتها ...


-آلو ! .. هكذا أجابت "وفاء" إتصال أخيها بمنتهى الهدوء و الثبات


آتاها صوته ثائراً من وسط ضجيج شديد :


-وفــاء.. إنتوا كويسين ؟ في حاجة حصلت عندكوا في البيت ؟ ميرا كويسـة ؟!!!


وفاء بوداعة : إحنا كويسين يا حبيبي. كله تمام و ميرا زي الفل. إيه حصل حاجة و لا إيه ؟!


لاحظت في صوته إرتياحاً جزئياً و هو يقول :


-الكلب إللي إسمه عمرو عرف موضوع ميرا و كان جايلكوا على البيت. بس أنا لحقته في نص السكة و البوليس هنا معانا. يوسف كمان موجود أنا هاسيبهم ياخدوه على القسم و جاي أطمن عليكوا بنفسي. يلا سلام مش هتأخر !


كانت تعابير الهدوء قد محقت بلحظة عن وجهها فور أن أخبرها بذلك، لم تفيق إلا على صفير إنقطاع الخط... إحتقن وجهها بدماء الغضب و ألقت بالهاتف بعيداً


تمسكت أكثر بما في يدها الأخرى، بتلك السكين ذات النصل الحاد.. عادت عيناها تلتمعان من جديد و الإبتسامة تتكون على ثغرها مرة أخري


أغلقت درج الآواني، و إستدارت مغادرة المطبخ بخطوات ثابتة ...


...................................................


تصل "ميرا" إلى الطابق السفلي عندما فرغت من التفتيش عن عمتها بالأعلى... لكنها أيضاً لا تجد أثر يدل عليها هنا


إنما ظلت تنادي بإصرار يخالطه التعب ...


-إنطي وفااااء.. يا أنطي فيــنك ؟!!!


-أنا هنا يا روحي !


جمدت "ميرا" للحظة حين سمعت صوت العمة أخيراً


إستدارت لها ببطء لاهثة، وجدتها تقف عند حافة الرواق المؤدي لقسم مباشرة المنزل.. كانت تعقد يديها خلف ظهرها، فبدت و كأنها تخفي شيئاً ما !!!


-إنتي فين يا أنطي ! .. قالتها "ميرا" بصوت كالأنين


-أنا كنت بدور عليكي. إلحقيني يا أنطي محتاجة أخد العلاج بتاعي تعبانة أووي.


رمقتها بنظرة تعاطف قائلة :


-تؤ تؤ تؤ ألف سلامة يا روحي. أنا حالاً هاريحك خالص. هاريحك للأبد ! .. و أظهرت السكين في هذه اللحظة


نظرت لها "ميرا" بعدم فهم، لم تستطع تبين نيتها الجلية في عينيها فقالت بصوت متحشرج :


-إيه إللي في إيدك ده يا أنطي ؟ هو في إيه ؟!


و هنا إستوحشت نظرات الأخيرة و هي تمشي نحوها وئيداً و تقول بصوت كالفحيح :


-في إيه ؟ عايزة تعرفي في إيه يا ميرا ؟ حاضر أنا هاقولك.. في إن إنتي و أبوكي دمرتوا حياتي. هو سرق عمري بقعدتي جمبه. و إنتي. إنتي جيتي سرقتي روحي. إنتوا الإتنين مجرمين. و محدش هايخلص الناس منكوا و من شروركوا غيري. سامعة يا بنت أخويا ؟


لم تتزحزح "ميرا" من موضعها رغم تقلص المسافات بينها و بين عمتها، رغم الخطر المحدق بها.. أرادت أن تعرف ما في نفسها، لعلها متآذية بسببها و بسبب أبيها


لم تسلم "ميرا" لخوفها و أودعت ثقتها الكاملة بعمتها و هي تقول مغالبة مشاعر الآلم :


-إيه إللي حصل بس يا أنطي ؟ دادي زعلك في إيه ؟ طيب أنا زعلتك في إيه ؟ أنا آ ا ...


-إنتي دمرتيــني ! .. قاطعتها بصراخ مصم


كانت قد توقفت على بعد خطوة واحدة منها، حملقت فيها بقوة و صاحت بغلظة شديدة :


-لولا ظهورك في حياتي. كان ممكن إنهاردة أكون في حتة تانية خالص.. كان ممكن يكون عندي ولاد مثلاً.. كان ممكن.. كان ممكن سامح يكون عايش. معايا.. مش ميت. بسببك إنتي سامح مات. الراجل الوحيد إللي حبيته مات. فرصة عمري الأخيرة ضاعت بسببك و بسبب أبوكي. إنتوا الإتنين دمرتوني. حياتي إنتهت من زمان إوعي تكوني فكراني عايشة.. إوعي يا حبيبتي. ده إنتي إللي عيشتي حياتك عالأخر. إتجوزتي و حبيتي و خونتي جوزك و خلفتي.. و كله بعلم أيوكي و مساعدته ليكي. حتى و إنتي ماشية غلط كان واقف في ضهرك. لكن أنا. أنا موتلي سامح. موته بسببك. كله بسببك إنتي !


تعاظم الآلم أكثر في تلك اللحظات مع تراكم مشاعر الآسى السالفة لكل السنوات الماضية و تحديداً تلك الفترة التي ذكرتها "وفاء" ...


لم تعرف "ميرا" أتعزيها أم تعزي نفسها !


لكنها قالت في الأخير :


-أنا آسفة ! .. خرج صوتها هامساً


لتضحك "وفاء" بقوة ...


-لأ بجد ! آسفة ؟ و أنا قبلت آسفك يا ميرا !


و قطعت المسافة بينهما بخطوة، و غرست السكين بسرعة في صدر إبنة أخيها ...


طوقت كتفها بذراعها لئلا تسقط، بينما تحرك السكين قليلاً لتسمح للهواء بالتغلغل داخل القلب ....


إنتفضت "ميرا" حابسة أنفاسها و تشبثت بيد عمتها، ثم خمدت نظراتها الواسعة تدريجياً حتى أسلمت الروح بالنهاية !!!!!


و هنا تركتها "وفاء" لتسقط تحت قدميها، أخذت نفساً عميقاً و هي تتأملها وسط بركة الدماء الآخذة في التوسع هذه


لقد ماتت... "ميرا" ماتت... قلب "سفيان الداغر".. بل روحه... حياته كلها... الآن هي جثة هامدة !!!!


يا للروعة !


كم أحبت "وفاء" هذا الشعور... كم أحبته بصدق


إنحنت صوبها في اللحظة التالية، أستلت السكين من صدرها و نهضت ثانيةً... علت إبتسامة الإنتصار وجهها أخيراً


مشت نحو باب المنزل الرئيسي بتؤدة و السكين في يدها يقطر دماءً ساخنة.. إصطدمت فجأة بمادة صلبة عند الباحة، كانت شبه غائبة عن الوعي من شدة الإنتشاء


عندما رفعت وجهها إكتشفت إنه أخيها، لقد جاء... ها هو يقف مقابلها صدره يعلو و يهبط بتناغم مستمر، لابد أنه وصل إلى هنا على جناح السرعة إذن !


إبتسمت له بهدوء، بينما يرمقها بنظرة متسائلة ثم يقول :


-في إيه يا وفاء ؟ مالك ؟!!


إتسعت إبتسامتها،  ثم إستحالت ضحكات مجلجلة، رفعت يدها الممسكة بالسكين الملطخ بالدم و هي تقول بمرح كبير :


-رآااااحت. رآاااحتله يا سفيآاااان. البقية في حياتك ياخويا.. و عقبااالك !


-إنتي بتقولي إيــه ؟ .. صاح بها بخشونة


أمسك بكتفيها بقوة ...


-إتكلمي عدل.. في إيـه يا وفــاء ؟!!


هدأت عن الضحك فوراً و إتسمت تعابيرها بالجدية، دفعت له بالسكين متمتمة بشماتة واضحة :


-دي عشان سامح يا سفيان.. سامح. فاكر سامح ؟!


نظر "سفيان" إلى السكين ثم لها، رفض عقله ترجمة جملتها إلى الإستنتاج البديهي... دفعها بعيداً عنه في هذه اللحظة، إنطلق مسرعاً للداخل و هو يهتف بأعلى صوته :


-مــــــيرا... ميـــــرا.. ميــ ! .. و سكت فجأة


حين إصطدمت قدمه بشيء بجوار الدرج ...


خفض رأسه ليرى هذا !!!!


حملق بصدمة في جسم إبنته المسجى أمامه غارقاً بالدماء ...


-ميرا ! ..همس "سفيان" و قد تهاوت قدماه في لحظة


ركع إلى جانبها، إستطاع أن يشعر بحرارة دمائها التي لوثت ثيابه ...


مد يداه صوبها، هزها برفق مكرراً همسه :


-ميرا !


بطريقة ما، عرف أن الوقت قد فات.. وقت ماذا ؟ لا يريد أن يفكر بها حتى !!!


كانت جثة الإبنة متكومة على وجهها، فدس يديه تحتها و رفعها ليسندها على ركبته... أزاح بيده المدماة الشعر عن وجهها


لتتضاعف الصدمة عندما يرى شحوبها التام، و إنطفاء عيناها النصف مغلقتين... إنفجر صوته صارخاً في هذه اللحظة و هو يضمها إلى صدره المتشنج :


-لاااااااااااااااااا.. ميــــــرآااااااااا.. ميــــــرآااااااا ردي عليااا. لأ مش ممكن.. لألأ. لأ.. لأاااااااااا. ميــــــرآااااااا. ميــــــراااااااااااااا !


و لم يعد يرى شيئاً تقريباً، فعيناه صارتا رطبتين، لا تنفك الدموع الملتهبة تنهمر منهما...حيث بدت بلا نهاية، إلا لو لحق بها !


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


ما أسرع النهايات !


و ما أفظع ما آلت إليه !!!!


من يصدق ؟؟؟ بعد كل هذا ينتهي الأمر على ذلك النحو... و ليته إنتهى !


في صبيحة يوم العطلة... كان نهار جيد جداً، فرآى إبنها أنها فرصة لإجتماع عائلي هناك في حديقة البيت الغنّاء، لعل ذلك يساعد أبيه على الخروج من حالته السيئة، و لو قليلاً


كانت "يارا" في طريقها إلى البيت، بعد أن ذهبت لإحضار الصغيرة من عند والدها.. عقب سماحه لها بأن تأخذها هي و تربيها في بيتها، و سيكون مرحباً به أي وقت يريد رؤية إبنته


حملتها "يارا" في السرير النقال خاصتها، و دخلت بها إلى المنزل... لوّحت لإبنتيها "يمنى" و "يسرا" حيث كانتا تجلسان في الشرفة العلوية تتناولا الفطور معاً


رأت من بعيد وسط الحديقة إبنها يجلس أمام والده مولياً لها ظهره، ذهبت إليهما فوراً


كان الإبن يتحدث إلى الأب كعادته دون أن يرد عليه الأخير، فهو قلما يتحدث مع الآخرين ...


-بابا ! لو سمحت لازم تفطر. عشان العلاج.


و هنا وصلت "يارا" ...


-صباح الخير ! .. هتفت مبتسمة بإشراق


نظر الإبن لها و لفت إنتباهه ما تحمله على يديها ...


-صباح النور.. إيه إللي في إيدك ده يا ماما ؟!


شدت "يارا" كرسي بجوار زوجها و قالت :


-دي مفاجأة. روحت جبتلكوا ميرا و جيت !


تطلع "سفيان" إليها فوراً، خرج السؤال المعتاد عبر شفتيه كأنه يطرحه لأول مرة :


-فين ميرا ؟


-حضرتك إتكلمت أخيراً ! .. قالها الإبن متلهفاً


نظر "سفيان" له و قال مستغرباً :


-إنت مين ؟!


بُهت الإبن و قال مرفرفاً بعينيه بإرتباك :


-أنا ! أنا سفيان.. الداغر الصغير. إبنك. و دي أمي يارا !!


و أشار نحو أمه


نظر "سفيان" إلى "يارا" من جديد و قال :


-أيوه أنا عارف يارا.. فين ميرا ؟ فين بنتي يا يارا ؟!!


إبتسمت "يارا" له ببساطة، أزاحت الأغطية عن الرضيعة و حملتها من السرير الصغير، ثم قامت واقفة، مدت يديها بها صوب جدها قائلة :


-أهيه.. ميرا أهيه يا سفيان !


دقق "سفيان" النظر في تلك الرضيعة الجميلة، إنها حتماً تشبه إبنته.. لكنها ليست هي، فإبنته كبيرة ...


-ميرا كبيرة يا يارا ! .. قالها "سفيان" محتداً


يارا بلطف : هي دي ميرا يا سفيان.


نظر لها بدهشة و قال :


-صغرت كده إمتى و إزاي ؟!!


هزت كتفيها قائلة :


-هي كده.. و كده أحسن يا سفيان. عشان تكبرها على إيدك من أول و جديد. إنت مش كان نفسك تقضي معاها طفولتها ؟ إنت كنت قولتلي كده. فاكر ؟!


عاد يتآمل وجه الطفلة من جديد، شعر بإنجذاب كبير نحوها، بدفء يتولد بمرور اللحظات بينهما، فنطق أخيراً :


-فاكر !


و من دون أن تضيف "يارا" كلمة أخرى، ناولته إياها، ليحملها هو على ذراعيه بحرص مصوّباً نظراته إلى وجهها البريئ... و لأول مرة بعد تلك الليلة المشؤمة يبتسم


إبتسم لها فقط، و بدأ يخلق معها لغة تواصل خاصة، لغة لا يفهمها سواهما ...


رمقته "يارا" بنظرات راضية، و خبطت على كتف إبنها مشيرة له برأسها لكي يتبعها... قام "سفيان"... الإبن من مكانه و لحق بأمه


أحاط كتفيها بذراعه و هو يقول بإمتنان حقيقي :


-إنتي أعظم ست في الدنيا !


ضحكت "يارا" و قالت :


-حبيبي أنا ماعملتش حاجة. أي حد غيري كان ممكن يعمل كده.


-بعد موت ميرا على إيد عمتي وفاء كان شبه مدمر. لولاكي.. ساعدتيه. و إنهاردة متهيألي إنك ردتيله الروح تاني !


تنهدت "يارا" بعمق و توقفت عن السير.. إستدارت في مواجهة إبنها و قالت بلهجة هادئة :


-موت ميرا أختك.. و سجن عمتك.. و حالة أبوك دي.. بعد كل إللي حصل ده أنا حسيت إن ربنا خادلي حقي. رغم إني حاولت أخده طول السنين إللي فاتت.. كان درس ليا. درس بعمري. إن مهما حصلي ماحاولش أبلد مشاعري و أخلي قلبي حجر و أظلم حد زي ما إتظلمت.. إوعى تكون فاكرني شمتانة في أبوك يا عبد الرحمن. أبداً.. أنا بفهمك الرسالة إللي وصلتلي بعد العمر ده كله إللي قضيته شاغلة نفسي بفكرة إنتقام خسرتني كتير و ماكسبتش منها حاجة. و في الآخر حقي جه. و كان هايجي كده كده منغير ما أعمل أي حاجة. كل إللي ظلموني ذنبي خلص فيهم قدام عيني.


عبس قائلاً : بس دلوقتي بابا أضعف من إنه يظلمك أو حتى يخلص فيكي أي حاجة !


نظرت "يارا" نحو زوجها الذي إنشغل كلياً في عالم إفتراضي آخر مع نسخة إبنته المصغرة... إبتسمت و هي تقول برقة شديدة :


-أنا عارفة.. أنا مش عايزة منه حاجة خلاص. مش عايزة بس غير إني أفضل جمبه. أساعده.. و نكبر سوا ميرا الصغيرة.. مش هاتبقى بنته لوحده. هاتكون بنتي أنا كمان !


تــــــمت .


في_قبضة_اللعنات 

فردوس_الشياطين


بداية الروايه من أولها هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close