![]() |
منازل القمر
الفصل الثالث والرابع
قضيت باقي أيام الأسبوع بين أوراقي والكتب وبين مكتبي وغرفة الجلوس والتلفاز
والطلعات المعدودة وكان عليا اليوم زيارة الجريدة , وصلت هناك عبرت ذات الممر
وتوجهت لذات المكتب طرقت الباب ودخلت نظرت لهم بابتسامة وقلت
" مرحبا أرى اجتماعا مغلقا اليوم "
وقف الذي كان يجلس على أحد الكرسيين أمام المكتب وصافحني بقوة وقال ضاحكا
" ما أسعد هذا الصباح "
ضحكت وقلت " هل توجد عبارة صباحية لا تُدخل فيها اسمك "
ضحك ضحكة قوية وقال " لا يتغلب علي أحد غيرك في هذه البلاد "
صافحت الجالس خلف المكتب قائلا " كيف أنت اليوم "
قال مبتسما " أسعد من الأمس "
وضحك ثلاثتنا ثم قال أسعد " ستريان "
جلست ووضعت الأوراق على الطاولة أمامي فقال قيس
" جاهزة بالتأكيد "
قلت بهدوء " ما كنت سأحضرها لو لم تكن كذلك "
قال أسعد " حتى متى ستبقى تعيد صياغة ما يكتب الغير ليأخذوا المجد وأنت خلف الكواليس "
قلت ببرود " أنا مرتاح هكذا "
تنهد وقال " رائد متى ستعود "
قلت بابتسامة سخرية " لم أعلم أنني سافرت "
قال بابتسامة حزينة " بل تعي ما أقول الحياة تحتاجك إن كنت لا تحتاجها "
تجاهلته وقلت ناظرا جهة قيس
" المقالات السياسية لا تقدمها لي ثانيتا أو فصلت رأسك عن جسدك "
ضحك وقال " أمازلت عدوا للسياسة "
قلت بتذمر " إنهم يخلطون الأدب والفلسفة وكل شيء ويعكرون المزاج ولا يخرجون بنتيجة "
ضحك وفتح درج مكتبه قائلا " هذا لأنك تعشق المقالات الأدبية لكنت نظرت لهم بنظرة
مختلفة , لدي مفاجئة لك "
ابتسمت ابتسامة جانبية وقلت " وأي مفاجأة تخرج من جريدة "
اكتفى بالضحك دون تعليق وأخرج ورقة مطبوعة مدها لي وقال
" ستكون أول من يقرأها "
أخذتها وقلت " ما هذه !! "
قال بابتسامة واسعة " نورسين "
قلت ببرود " آه أجل صفقة أسعد المحترمة "
ضحك أسعد وقال " ستدمرك بكل تأكيد "
نظرت له وقلت " من سيدمر من "
قال بابتسامة تحدي " إنها قنبلة في المقالات النقدية الهجومية لقد أسكتت عاصم
في مقال واحد فقط منذ ثلاثة أشهر "
ضحكت وقلت " ومن هذا الذي يسكت عاصم "
ضحك وقال " أنت من أشعله في الماضي وهي من أسكته إنكما ثنائيا رائعا هههههه "
نظرت جهة قيس وقلت " ولما تركت تلك الجريدة "
نظر جهة أسعد وقال " الأخبار لديه "
نظرت جهته فقال رافعا كتفيه " لا أعلم !! الأمر مبهم لقد كانت في الخارج وعادت منذ
عام وبضعة أشهر , عملت لعام كامل لمصلحة تلك الجريدة ثم توقفت فجأة "
ثم ضحك وقال " رئيس التحرير كاد يجن عند اتخاذها تلك الخطوة لقد قفزت
بجريدتهم خطوة واسعة للأمام "
ضحكت وقلت " حاذر من أن تجن أنت أيضا حين تترك جريدتكم دون سابق إنذار "
قال مبتسما " لا تخف فكنزي هوا أنت وليس هي "
ابتسمت بسخرية وقلت " كنزك حتى من خلف الكواليس يا أسعد "
قال بضحكة " كم أتمنى أن أتحدث بالألغاز في وجودك فأنت تفهمني دون كلام "
ضحكت ضحكة خفيفة ونظرت للورقة وقرأت بضع سطور ثم نظرت لأسعد وقلت
" معه حق يفقد عقله "
قال بابتسامة " المقالات الأدبية إنها جنونك الحقيقي "
قلت بابتسامة مماثلة " نعم إنها كنوز الحياة اسمع هذا السطر
( الألماس في الداخل ونحن في الخارج إنه جزء من كياننا لكننا نبحث عنه في كل مكان
عدا ذلك المكان فيكون البؤس والإحباط واليأس ( م/ن أوشو )) "
ضحك وغمز لقيس وقال " يبدوا أنها ستحرك ذاك الجبل "
قلت بضحكة جافة " لا تتأمل كثيرا فلن تجد ما تتوقع مني "
ثم نظرت للاسم مطولا وقلت بهدوء
" نورسين هذا الاسم معناه ضوء القمر هل هوا اسمها الحقيقي "
قال أسعد بهدوء " لا أعلم يبدوا لي كذلك "
نظرت له وقلت " وكيف تعمل معها ولا تعلم "
قال " لا عقد بيننا سترسل المقلات عن طريق الفاكس كهذا الذي بين يديك هكذا اشترطت "
ضحكت وقلت " لذلك هي تهرب كالنسيم مثلما تدخل غلبتكم بذكائها "
ضحك وقال " بل لسبب ما تركت تلك الجريدة أنا متأكد "
قال قيس مبتسما " كم لدي من فضول لرؤيتها قد تحضر حفل الكتاب "
ضحك أسعد وقال " يمكنني تصور شكلها فتاة هاجمت عاصم بتلك الشراسة ستكون ترتدي
بنطلون جينز وقميص يشبه الرجالي وخطوات ثقيلة واسعة وصوت مدوي في السماء هههههه "
ضحكنا جميعنا وقال قيس " بالفعل القوة والرقة لا يجتمعان "
وقفت ووضعت الورقة على الطاولة وقلت مغادرا " أراكما لاحقا "
قال قيس بصوت مرتفع لأني وصلت للباب " رائد لم تقل هل ستحضر الحفل "
قلت دون أن ألتفت لهما " ما يزال الوقت مبكرا على أن أقرر "
ثم خرجت عائدا لمنزلي وما أن دخلت حتى بدأت الأمطار بالهطول جيد أنني وصلت
آه أجل كيف نسيت كان عليا زيارة المكتبة قبل الجريدة , التفتت للخلف وأخذت المعطف الذي
علقته للتو , من قال أن الروتين شيء ممل هوا يعلمك أن التغيير قد يكون سيئا جدا , ارتديت
المعطف وخرجت وركبت السيارة من فوري كي لا أجمع قدرا كبيرا من برد هذا الكون وحبات
الأمطار الرقيقة عند هذا الصباح
وصلت المكتبة نزلت ركضا لأدخل بسرعة وهذا هوا حال الجميع هنا نهرب من المطر وفي
أرض ما من هذا الكوكب يرقصون فرحا تحته لأنهم لا يرونه إلا فيما نذر , وهذا هوا طبع
البشر يعشقون المفقود وينبذون الموجود في آن واحد حتى يصبح الموجود مفقودا والمفقود
موجودا ليعرفوا القيمة الحقيقية لكل منهما
دخلت للداخل وأنا أنفض كتفا معطفي بيدي مزيلا حبات المطر التي علقت فوقه قبل
أن تتسلل إلى الداخل وتوجهت من فوري لتلك الرفوف التي يجذبني سحرها كالمغناطيس
اقلب الكتب وأبحث عن الموجود وألا موجود وبعد جهد وجدت ضالتي الكتاب الذي جئت
لأجله وككل مرة حملت معي مجموعة أخرى من الكتب لم تكن وجهتي لها ولكني هكذا
أذوب في سحرها , رفعت الكتاب بقوة من الرف وأنا أهمس قائلا بحماس
" وجدتك أخيرا "
ليسقط الكتاب المجاور له أرضا نزلت لأرفعه فشدني العنوان ( أكسير الحياة ) رفعته
ونظرت للاسم تحته ( نورسين ) تبدوا تلك الكاتبة , غريب لم ألمح اسمها سابقا هل هذا
كتابها الوحيد , فتحت الكتاب من المنتصف لأن البدايات لا تعطيك انطباعا حقيقيا عن
الشيء ولأن النهايات قد تجعلك لا تقرأه بتاتا , قرأت من رأس الصفحة وكان
(كذلك هم وكذلك نحن هم تركوا كل شيء لأقدار الله ونحن لم نفعل فلو رأيت شخصا
صباح الغد الباكر يبتسم من قلبه ستكون وجدت السعادة عند أحدهم وتأمل أن تأتي إليك
يوما وأحب أن أبشرك بأنك لن تلتقي بهذا الشخص لا في الغد ولا بعده هل تعلم لما لأنه
لم ينسى أخطاء الماضي ويفكر كيف سيصلح المستقبل لذلك هوا تعيس ولذلك العصفور
والنملة سعداء لأنهم لم يسألوا ولم يجيبوا وخالفونا نحن البشر وضحكوا على سذاجتنا فعندما
سأل أحدٌ منا الآخر عن السعادة قال أنها في بلاد لا توجد على الخارطة فسألوا السعادة
أين نجدك قالت بكل بساطة تحت أقدام التعساء , فلا تبحث طويلا عنها لأنها ستهرب منك
ولا تحزن إن لم تجدها فهي تسخر ممن ركضوا ورائها وبكوا لأنهم لم يدركوها )
مررت بعض الصفحات الأخرى وقرأت من نصف الصفحة
( من قالوا أنهم بنو المجد فهم واهمون لأنهم لم يروا المجد بعد فلم ينزل المسيح ابن مريم
ويصلي بالمسلمين في بيت المقدس وكسر الصليب وقتل الخنزير ولم تخضر الأرض حتى
تكفي تمرة الرمان العشرة من الرجال أي لم تشرق الشمس من مغربها فالمجد لم يبنى بعد )
قلت بابتسامة " رائع وأخيرا كتاب لا يتحدث عن السياسة والأدب المعاصر للقديم ومشاكل الحياة "
وضعته على مجموعة الكتب وقلت بحماس " يستحق القراءة "
حملت الكتب وتوجهت لطاولة المسئول عن المكتبة كانت ثمة فتاة تقف متحدثه معه بصوت
رقيق وهادئ ومنخفض أنا خلفها لا أفهمه , بعد وقت قلت بضيق
" عذرا يا آنسة فالتعب في وقت حملك للشيء وليس في وزنه "
التفتت إليا ونظرت لي مطولا لا أعلم ما تلك النظرة بتلك العينان العسلية الواسعة
نظرة حيرة أم صدمة أم ضياع , لقد زعزعت هذه العينان كياني وكأني لا أراهما للمرة
الأولى , كانت تنظر لعيناي بضياع وكأنها تبحث عن شيء داخلهما أو تنتظر شيئا مني
ولا تعلم أني بدأت أفقد حواسي أمام عينيها شيئا فشيئا ... لو تبتعد عني ما الذي تنوي فعله
بي .... بقيت عينانا معلقتين ببعض ثم انتقلت عيناها سريعا للكتب في يدي وأعلاهم كان
كتاب ( أكسير الحياة ) نظرت له مطولا ثم ابتعدت جانبا خافضة رأسها للأسفل لتخرج
منها أحرف تشبه الهمسات بالكاد تخرج وبالكاد تُسمع وهي تقول برقة
" تفضل "
اقتربت من الجالس خلف المكتب فابتسم من فوره وقال
" مرحبا بالسيد رائد مجموعة جديدة إذا "
وضعت الكتب وقلت بضحكة خفيفة
" جئت لأجل واحد فقط وككل مرة خرجت بمجموعة "
حرك الكتب أمامه ليدونها لديه وعندما وصل لذاك الكتاب وضعت يدي
عليه وقلت " لا هذا سأشتريه "
ابتسم ونظر لي وقال " هذه طبعة المكتبة النسخ المعدة للبيع انتهت "
حملت الكتاب أمام عيناي وقلبته وقلت " منذ متى صدر هذا الكتاب "
ثم وقع نظري على التاريخ فقلت " منذ عام لم أره أو أسمع به "
قال " لأنه كتابها الوحيد وقد تمت ترجمته للعربية من مدة قصيرة "
وضعته على الطاولة وقلت " حسننا سأستعيره إذا ثم أعيده "
وقفت عنده أنتظر أن ينتهي ولم تغفل عيناي عن العينان الواقفتان بجانبي وهما تدققان في
تفاصيل ملامح الجانب المقابل لهما من وجهي , ما بها هذه هل تشبه عليا بشخص ميت
أم ماذا , من أخبرها أنني أريد أن أختبر صمودي أمام نوع جديد من النساء لم ألتقية يوما
نظرت باتجاهها بسرعة فتوترت ملامحها بوضوح وانخفض نظرها أرضا وانتقلت العدوى
لي لأتفحص ملامحها بكل جرأة , العينان الواسعة والبشرة البيضاء كالثلج والملامح الرقيقة
الدقيقة , ملامح أقل ما يقال عنها أنها عنوان من عناوين الأنوثة الحقيقية ليزيدها هذا الهدوء
الغريب توهجا , عجيب أمازال هنالك من تحمل كل هذا السحر الأنثوي مجتمعا وكأن ثمة
مغناطيس في هذه الملامح الفاتنة الجذابة , سبق والتقيت بنساء جميلات كثر في حياتي لكن
هذه شيء مختلف تماما جمالها مختلف
" يمكنك أخذها لقد انتهيت "
عدت بنظري له وقلت " شكرا "
حملتهم وغادرت حين استوقفني صوته قائلا
" سيد رائد لدي شيء من أجلك "
عدت ناحيته وكانت تلك الفتاة لا تزال تقف مكانها وقفت عنده بصمت نظرت ناحيتها
نظرة خاطفة فكانت تنظر لي وشتت نظرها بعيدا عني , نظرتُ جهة مشرف المكتبة
فأخرج ظرفا ورقيا ومده لي مقلوبا وقال
" أحدهم ترك هذا من أجلك "
أخذته منه وقلبته كان مكتوب عليه ( منازل القمر ) , نظرت له بحيرة وقلت
" من تركه هنا "
قال بهدوء " فتاة لا أعرفها وأراها للمرة الأولى قالت أنك تعرفها "
دسسته بين الكتب وغادرت المكتبة راكضا للسيارة كما أتيت , يبدوا أن تلك الفتاة تفكر
بدهاء وتعلم أنني سأسألها عنها لذلك ستتخفى عني لم أتوقع منها هذه الحركة ولكن لماذا
وما مصلحتها من ذلك
وقفــــــــــــة
وقفت تلك الفتاة أمام الطاولة وقالت بنعومة وهدوء
" ما أن يأتي ذاك الشاب الذي غادر للتو فأعطه نسخة الكتاب وسأعطيك واحدة مماثلة "
نظر لها بحيرة ثم قال " ولكنها القوانين يا آنسة ولا مماثل لتلك الطبعة "
أخرجت بطاقة صغيرة من جيب حقيبتها وقدمتها له نظر لها مطولا ثم رفع نظره لها يتفحص
ملامحها ثم قال " حسننا لك ذلك ولكن ليس قبل أن تأتيني بالنسخة الأصلية "
ابتسمت برقة وقالت " في الغد "
**********
دخلت المنزل علقت معطفي وضعت الكتب في مكتبي وتوجهت عنوة للمطبخ أعددت
وجبة خفيفة صليت الظهر وعدت للمطبخ وضعت الطبق على الطاولة وسكبت الطعام
وجلست أقلبه بالملعقة وسافر خيالي لتلك الفتاة في المكتبة , يبدوا لي تعرفني أو لا أعلم
تعرف شخصا يشبهني يا لها من قذيفة ملتهبة فتنة مرسلة للبشرية , ضحكت على أفكاري
وعدت لتناول الطعام أنهيت طعامي ثم عدت لمكتبي وضعت الكتب جانبا وأمسكت بذاك
الظرف ثم ضحكت , صدقت تلك الفتاة يبدوا أنني سأدمن هذا ولكن لم أفهم حتى الآن قصدها
بالأمية , تجاهلت كل تلك الأفكار وفتحت الظرف كان بداخلة كالمرة السابقة مجموعة من
الأوراق منزوعة من ذات المفكرة وبذات العطر والخط ومرتبة الوضعية فيبدوا أنها لم تحركها
بعد نزعها من مكانها , وضعت الأوراق أمامي رشفت رشفة من كوب الشاي وبدأت بالقراءة
( اليوم يسمونه يوم العيد لم أدون سابقا هذا الاسم عندي , لقد عشته مع والداي ولكني لم
أعرف ما يكون غير ثوب جديد في الصباح الباكر وحلوى ولحم واحتفال جميل في الليل
وأصدقاء يزوروننا , كان يوما غريبا عن أيامنا المعتادة ولكني لم أعرف اسمه حينها , فقط
اليوم عرفت أن هذا عيد ولكن ليس كذلك اليوم أبدا , كنت فوق علبتي الحديدية عند سطح المنزل
لأنني في هذا اليوم مسجونة في سجني الدائم , أقف على تلك العلبة برؤوس أصابعي لأشاهد عائلة
الجيران وهم يشوون اللحم الرائحة لذيذة لكن الألذ في نظري كان شيئا آخر , لما لا يعطوني واحدا
ليس من الشواية ولكن من الجالسان معهم ... أب أو أم , واحد فقط لا أريد كلاهما
" قمر "
نظرت باتجاه الصوت ثم نزلت عن العلبة وحملتها بين يداي مبتسمة وركضت بها جهة ذاك
الصوت وضعتها وصعدت فوقها وقلت " رائد هذا أنت "
قال بابتسامة " نعم ماذا تفعلين "
قلت بابتسامة مماثلة " أراقب الجيران "
عقد حاجبيه وقال " ولكن تلك عادة سيئة "
قلت باستغراب " ولما تراقب أنت القمر "
ضحك وقال " القمر لا بأس الجيران لا "
مددت شفتاي مستاءة وقلت " ماذا افعل إذا "
قال " انزلي وشاركي عائلتك العيد "
قلت " لا أستطيع "
قال بتساؤل " لما !! "
أشرت للباب وقلت " لأنهم أغلقوه "
قال بعفوية " أطرقي الباب لابد وأنه الريح أغلقه "
ثم أخرج لي من جيبه شيئا ومده لي وقال " خذي "
ليصبح منذ ذاك اليوم اسم رائد مسجل لدي بمعنى الحلوى لأني لم أكن آكلها إلا منه ولم
يعطني غيره إياها , كانت أحيانا نصف قطعة وأحيانا قطعة كاملة ليقول لي عقلي الصغير
حينها أنه يأكل حصتي في السلالم ويعطيني نصفها فقط لأكتشف بعد كل هذه السنين أنه كان
يقتسم عليا حلواه وأنه حين يعطيها لي كاملة فهوا أعطاني حصته كلها
ومرت بي تلك الأيام والشهور غرفتي ذاتها مخزن المئونة ولا شيء غير الأوامر والشتم
والضرب والتوبيخ أشياء كبيرة على عقل طفلة وصغيرة على قلبها فالأطفال لا يقدرون
حجم البؤس فهم يضحكون ويلعبون في غمرة تعاستهم ولكن من يكبر في تلك الظروف
سيعرف المعنى الحقيقي لتلك الكلمات التي كل واحدة منها لا تحمل إلا معنا واحد
.... الحرمان والأسى والضياع ....
" قمر هيا الم تنتهي بعد "
قلت وأنا أخفي الكراسة تحتي وأكتب فيها تلك الكلمة " نعم سأنتهي الآن "
ثم ركضت نحو الجدار ومددتها له أخذها وقال " جميل صحيحة لقد تعلمت بسرعة "
قفزت وقلت " هييييييييييييه صحيحة صحيحة هيا علمني واحدة أخرى "
هل تعلمون الآن ما أصبحت تعني كلمة رائد في قاموسي حينها ....... ( المدرسة )
فهوا من علمني أول الكلمات التي أكتبها في حياتي والحروف والأرقام , من قال أن الجدران
تفصل البشر فطفلان في ذاك الوقت كسرا تلك القاعدة فلم أرى المدرسة عندهم يوما إلا في
عيني رائد , حتى الكراسة والقلم هوا من كان يحضرهم لي )
رفعت عيناي عن الأوراق نظرت للسقف وابتسمت بعفوية " أجل أذكر ذلك وقد يوبخني
والدي حين أخبره أنني أضعت إحدى كراساتي والقلم وأريد غيرهم "
ثم نظرت جهة باب مكتبي بشرود , نعم لم أنسها أبدا ولم أتخيل أن تعود لحياتي مجددا , ترى
أين أصبحت الآن وما حل بها , أين تكونين يا قمر ولما تفعل تلك البائعة هذا وما صلتها بها
هززت رأسي وتنهدت بحيرة ثم عدت بنظري للأوراق وتابعت القراءة
( فأصبحت بعدها الكلمة جملة والجملة دروسا وأنا أجلس على تلك العلبة في سطح المنزل
وهوا يشرح لي ما درسه اليوم ويوبخني إن تثاءبت أو نظرت بعيدا عنه , ليتغير المشهد لطفلة
ذات عشر سنين سجنها ذاك المنزل وعقابها ذاك السطح الذي هوا متنفسها الوحيد ولم يخبرها
أحد أنها ستفقد حتى ذاك المتنفس إلا ذاك اليوم عندما وضعوا لها العقاب الأقسى بأن أغلقوا
عليها ذاك الباب بل ذاك المخرج للنور ذاك السجن الذي كان يعني لها الحرية ليحرموها حتى
من قطع الحلوى وتعلم الدروس بل من الشخص الوحيد الذي لا يضربها ويسبها , لتصبح سجينة
المنزل الموحش ويمر بها العام والعامان وتبدأ تلك الطفلة تنضج قليلا وتفكر أفكارا أخرى
وتتسلل لغرفة عينا التنين وهي غير موجودة لترتدي فستانها الزهري الطويل وحدائها العالي
وتجمع الفستان بين يديها ليناسب طولها وتتمشى في تلك الغرفة لتعيش دور الكبار وتتحدث
مع أشخاص غير موجودين يستقبلونها عند الباب وتتبادل معهم القبل والتحايا والضحكات وهي
وحدها هناك ليصبح هذا العالم الخيالي هوا عالمها الجديد كلما غادرا سيدا ذاك المنزل ليلا
ولم تخبرها التعاسة أن ذاك المتنفس سيُخسرها الكثير إلا تلك الساعة التي عادت فيها عينا
التنين مبكرا لتجد تلك الطفلة تلبس حليها وتمشط شعرها بمشطها وأمام مرآتها لينزل بي أسوء
عقاب رأيته في حياتي ولأضرب ضربا لم أتذوق مثله طيلة تلك السنين ولتتحول قمر لشكلها
الجديد بدون شعر ....... ( صلعاء ) عقابا لها على غرس ذاك المشط في شعرها
لتدخل قمر لعالمها الجديد وتكره شكلها وتهرب من المرآة , لتمر بها الشهور وتنغرس الآلام في
قلبها مع كل ثانية فلم تعد الطفلة طفلة تستقبل المرارة بعفوية بل أصبحت تشعر بتلك الكلمات
تجرح قلبها وذاك الضرب يبكي أحشائها قبل عينيها وذاك الرأس الخالي من الشعر يجرح أنوثتها
فلم ينتهي ذاك العقاب عند تلك اللحظة بل امتد معها لسنين لتصبح فتاة في الخامسة عشرة من العمر
بدون شعر ولا حلم ولا أمل ولا تعليم مع الكثير من التعاسة والبؤس لا تعرف ما تسمي نفسها خادمة
أم بوابة أم ساعي بريد أم جارية تعمل على راحة سيداها
ولم يعد حتى لرائد وجود في قاموسها ليتحول لشاب تراقبه من فتحة صغيرة في النافذة
وهوا يغادر صباحا للجامعة حاملا مذكراته , لو أنهم لم يغلقوا ذاك الباب لصرت الآن في
الجامعة أيضا فهوا مدرستي الوحيدة ولم يخبروني حينها أنني سأفقد حتى تلك الفتحة الصغيرة
التي أراه من خلالها ولم يخبروني أيضا أنها لن تكون نهاية قصتنا معا , بل ليته اخبرني أحدهم
أن في مشرق تلك الشمس سيتغير شيء في كل ذاك الواقع ولم أعلم إلا حين استيقظت ذاك
الصباح على صوت صراخ غاضب غريب عني لامرأة ما فخرجت من المطبخ حيث كان
هوا ممري الوحيد للمنزل ووجدت سيدة لا أعرفها بل من الذي أعرفه أنا أو أراه
كانت تصرخ فيهما بكل عنف وقوة وهما واجمان , كل ما فهمته منها هوا التوعد بإبلاغ
الشرطة ولم أفهم شيئا مما يجري لتتوجه ناحيتي وتمسك بيدي وتسحبني معها وهي تصرخ
قائلة " لن تبقى معكم يوما واحدا وحتى الثياب الرثة التي تصدقتم بها عليها لا أريدها "
لتخرجني تلك اليد من ذاك المنزل وذاك العالم وما لم تعلمه أنها أخرجت ذاك العالم معي لأنه
منغرس في عقلي للأبد , لأعلم فيما بعد أن هذه السيدة تحمل مسمى في قاموسي اسمه ( عمة ) )
رميت الأوراق على الطاولة بقوة وقلت بغيض " أين كنتي عنها منذ سنين "
ثم تنهدت بضيق ومسحت وجهي بيدي وجمعت الأوراق ووضعتها في الظرف لأن الفصول
المهداة إلي هذه المرة انتهت وعليا أن انتظر متى تأتيني تلك البائعة بالجديد فقد ذكرت قمر أن
قصتها معي لم تنتهي عند تلك اللحظة ولابد من مزيد
وأنتهى هنا الفصل الثالث بعدما سبح بكم أكثر في معالم الرواية
أين أصبحت قمر في عالمها الجديد وكيف لم تنتهي قصتها ورائد عند
ذاك الوقت وهوا لم يراها بعدها وكيف سيكون دوره في حياتها الجديدة
كل هذا سيتضح لكم في الفصل القادم ..... دمتم بحب جميعا
الفصل الرابع
بت أكره الحفلات وكل التجمعات ولكن عليا حضور ذاك الحفل لتجنب المزيد من الهمز
والشائعات حول الكاتب الذي سكت فجأة , ألا يحق لي أن أنسلخ عن كل هذا العالم لما
لا يفهم البشر أن لكل واحد منهم نسخة عن نفسه فقط لا يحق لهم التدخل في شؤونه
ارتديت بنطلون من الجينز الأسود وقميص قطني أسود بكتابة رمادية ومعطفا رماديا
يصل للركبتين وحداء رمادي أيضا وتوجهت لهم , جيد أنه اختار مقر الحفلات بدلا من
حديقة منزله في هذا الجو البارد
دخلت هناك كان عدد الحضور لا بأس به والنقاشات محتدة , هكذا هم الأدباء والكُتاب
يتناقشون في كل شيء وفي أي مكان وشيء آخر بغيض كميرات الصحافة التي تستلم كل
من يدخل من الباب , اقترب أول من رآني وقال بضحكة عالية
" المنذر هنا لابد وأنني أحلم "
تصافحنا وقلت ضاحكا " لم أكن أعلم أنني شخص مهم "
ضحك وقال " متى تواضعت هكذا "
اقترب واحد آخر وقال مبتسما
" سمعت ضحكة مجلجلة علمت أنها لمصعب وأن من قابله شخصا مهما "
صافحته وأمسكت كتفه بيدي الأخرى وقلت " مبارك لك الكتاب الجديد "
ضحك وقال " ومتى ستتحفنا بواحد لك "
قال مصعب بضحكة " هل قرأت المقال الذي كُتب عنك ( لما نام قلم المنذر ) "
قلت ببرود " لا لم أقرأه "
انظم للمجموعة اثنان آخران وأخذ الحديث دفة أخرى فابتعدت عنهم بخطوات سريعة
نظرت باتجاه الذي يحييني من بعيد توجهت ناحيته مسرعا وشعرت بذراعي ترتطم
بكتف أحدهم رجعت خطوة ونظرت للخلف وقلت
" عذرا يا ..... "
ثم نظرت مطولا للواقف خلفي يمسد كتفه , عدلت وقفتي وقلت
" هذه أنتي ؟!! "
نظرت لي بنظرتها البريئة الساحرة حاملة تلك المعاني التي يتعسر عليا فهمها مهما
حاولت ثم قالت بصوتها الرقيق ذاك نفسه مسافرة بنظرها للأرض " هل تعرفني "
ابتسمت ابتسامة جانبية وأنا أكاد ألتهم ملامحها بعيناي وقلت
" أنا لا أنسى الوجوه بسهولة ألستِ الفتاة في المكتبة يالا الصدف "
نظرت لي بابتسامة رقيقة لم تزدها إلا جاذبية , كم في عوالم النساء من أسرار وكم لهذه المرأة
من أنوثة تعصف مع كل نفس من أنفاسها ترفعك وترميك أرضا مع كل حركة لجفون عينيها
نظرت للأرض خجلة من جرأتي في تفحصها وقالت " هكذا هم الكُتاب كالكتب تماما "
ضحكت ضحكة خفيفة وقلت " نعم يلتقون في ذات الأمكنة "
نظرت لي وقالت بذات الابتسامة " بل في أي شيء مرتبط بكلمة كتاب "
شعرت بيد تلمس ظهري نظرت جانبا فكان أسعد ابتسم وقال
" كنت أود أن أكون أنا من يعرفكما ببعض ولكنكما سبقتماني "
نظرت للفتاة ثم له وقلت " ولكننا لم نتعرف بعد "
قال بابتسامة " وفيما كنتما تتحدثان كل هذا دون تعارف "
نظرت لها وقلت بعفوية " عن الكتب والمكتبات "
ضحك وقال " صدق من نعتنا بالمجانين , هذه نورسين يا رائد وهذا هوا رائد المنذر "
ابتسمت وقالت وهي تنظر لي " لا يحتاج أن تخبرني تشرفت بمعرفتك "
سحبت يد تلك الفتاة قبل أن أجيب عليها مجاملا فنظرت جهة أسعد وانفجرنا ضاحكان فقال
" لا بنطلون جينز ولا صوت يدوي في السماء أشك أنها من كتب المقال "
قلت بضحكة " يخجل نسيم الصباح أمام عذوبتها لقد صورتها لي رجلا "
رن حينها هاتفي المحمول نظرت للمتصل واعتذرت مبتعدا وأجبت
" مرحبا حيدر كيف أنت "
قال بضيق ودون مقدمات " تحدث معها يا رجل واشتري قلبا ولو بالدَين "
تنهدت وقلت " حسننا تأمر بشيء آخر "
قال من فوره " إجازتي القادمة سأقضيها معك وداعا "
وأغلق الخط , ضحكت بخفة وقلت معيدا الهاتف لجيبي
" لم ينتظر حتى موافقتي "
اقترب أسعد مني ومد يده وقال " هذا لك "
نظرت بحيرة وتشكك وقلت " ما هذا !! "
رفع كتفيه وقال " لا أعلم , من تركه قال أنك تعرف ما يكون "
أخذته منه فكان ذات الشيء ظرف ورقي مكتوب عليه كلمة منازل القمر نظرت
له بحيرة وقلت " كيف وصلك "
قال " فتاة صنعت لنا شوشرة كبيرة في الجريدة لتقابلني وتعطيني إياه "
ضحكت وقلت " أعرفها جيدا تفعلها "
طويت الظرف وابتعدت عنه متوجها جهة السيد عادل وضعت يدي على كتفه وقلت
" عليا المغادرة شكرا على الدعوة "
التفتت ناحيتي لتظهر الفتاة التي كان يخفيها جسده العريض واقفة أمامه , نظر لي
مبتسما وقال " بهذه السرعة لقد وصلت للتو "
قلت بابتسامة جانبية " يكفيك هذا "
ضحك وقال " لا تتغير أبدا , انتظر لأعطيك نسختك "
غادر ونظري يتبعه وبقيت والفتاة نظرت لها فكانت تنظر إلي بنظرة غريبة في عيناها
لو افهم سر هذه النظرات , لو ترحمني فقط من عينيها فلا رغبة لي بإعادة الكره من جديد
للانزلاق خلف مشاعري والسقوط على قلبي
ما أن وقعت عيناي عليها حتى شتت نظرها أرضا , أقسم أن هذه لا يمكنها كتابة حرف واحد
في مقال نقدي كيف لهذه الرقة أن تهاجم بشراسة
قلت مبتسما " أكسير الحياة كان كتابا رائعا "
قالت بعذوبة وهي تعدل حجابها وتنظر لعيناي
" شكرا لك شهادتك شرف كبير لي "
قلت بهدوء " بل لأنه يستحق "
قالت بهدوء مبتسمة " وكتبك كلها مميزة ألن يكون لديك جديد "
نظرت للبعيد وقلت " لا أعتقد "
قالت بهمس حزين " لكن لما !! "
نظرت لها مطولا باستغراب ثم نظرت لحركة قدمي على الأرض وقلت
" هكذا هي الحياة كالساعة الرملية تسحب منك وتسكب عند غيرك "
قالت بهدوء " اقلبها إذا "
ضحكت وأشرت بأصبعي لها ولي وقلت
" قد تسحب منك حينها لتسكب عندي "
ابتسمت بعفوية ورفعت كتفيها وقالت " لا بأس "
نظرت لها بحيرة فسافرت فورا بنظرها للأرض , ما هذه اللغز لو يشرح لي أحدهم من
أين خرجت لي هذه فكم أخاف على مشاعري من هذه الأسطورية , اقترب حينها السيد
عادل ناولني نسخة عن كتابه ودعتهما وغادرت قبل أن أتهور وأدعوها للخروج معي
هههههه قد أجن وأفعلها
وصلت المنزل غيرت ثيابي أعددت كوبا من الشاي وأشعلت سيجارتي قلبت الكتاب
قليلا حتى أنهيت السيجارة ثم أخذت هاتفي من على المنضدة واتصلت بمريم فأجابت
من فورها قائلة " رائد كيف أنت يا أخي اشتقت لك كثيرا "
قلت بهدوء " بخير كيف أمورك أنتي وأبناءك وأيوب "
قالت بعبرة " طمئني عنك يا رائد متى سنراك "
تنهدت وقلت " مريم ما الداعي للبكاء الآن "
قالت بحزن " لما تفعل بنفسك وبنا هكذا عد يا رائد "
قلت بضيق " مريم لا تجعليني أندم على أنني اتصلت بك "
قالت من فورها بذات الحزن
" حسننا لن أعيد هذا فقط لا تنقطع عني ولو بالهاتف ما هي أخبارك "
قلت ببرود " جيدة وأنتي "
قالت بحنان " لا ينقصني شيء إلا رؤيتك ووجودك "
قلت بهدوء " إذا لا ينقصك شيء "
تنهدت وقالت " لما لا تنسى يا رائد "
قلت بحدة " كلكم يريد مني النسيان هل ترونها كلمة سهلة لهذا الحد "
ثم تنهدت وقلت بضيق " مريم لا تتكلمي في الأمر لا أريد أن أصرخ بك "
قالت بأسى " ليته بإمكاني فعل شيء يمحوا كل الماضي "
قلت بابتسامة حزينة ونظري للسقف
" لا شيء يمحوا الذكريات المؤلمة لقد آمنت بذلك "
قالت " هذه صبا تقفز على رأسي تريد محادثتك "
قلت بابتسامة " حسننا "
جاءني الصوت الطفولي المرح قائلا
" خالي رائد متى ستزورنا وائل أخذ لعبتي وكسرها والدتي ستشتري لي غيرها ولن تشتري له "
ابتسمت مستمعا لها وقفزت بي الذاكرة لفتاة السطح وهي تركض فيه وتتحدث بعفوية وابتسامة
عن أمور لو حكاها الآن شخص راشد لبكى بمرارة وهوا يحكيها , وأعادني من شرودي صوت
مريم وهي تقول " رائد هل أنت معي "
قلت بهدوء " نعم أسمعك "
قالت بضيق " هذه الثرثارة قالت سأسلم عليه فقط , رائد ألن تقوم بزيارتي "
قلت ببرود " لا أعلم "
قالت بحزن " أعلم معنى هذه الكلمة لديك إنها لا , ولكن ما ذنبي أنا يا رائد "
قلت بهدوء " سلمي لي على أيوب "
قالت بهدوء حزين " حسننا وداعا الآن واتصل بي ثانيتا أو أجب على اتصالاتي "
قلت مختصرا " وداعا "
أعدت الهاتف مكانه وأمسكت بالظرف الورقي قلبته قليلا وسافرت لتلك الذكريات
" قمر تعالي وانظري "
ركضت مسرعة باتجاهي فتاة في السابعة حافية القدمين نحيلة الجسد بثياب تهتكت من
كثرة الغسيل يوم بعد يوم فستان بأطراف متمزقة وابتسامة تعاكس ذاك الواقع
" نعم "
قلت بابتسامة " احضري العلبة واصعدي سأريك شيئا "
ركضت مبتعدة تحمل تلك العلبة الصدئة لتضعها وتصعد عليها وتقف ليصبح وجهها
موازيا لوجه هذا الفتى " انظري لهذه "
قالت بحيرة وهي تنظر للورقة في يدي أمامها " ما هذه "
قلت بابتسامة عريضة " لقد نجحت وبتفوق "
استلت الورقة من يدي ونزلت من العلبة تركض وتقفز في السطح وتصرخ
بفرح وكأنها لها وليست لي
أجل أذكر ذاك اليوم جيدا لقد أريتها لها قبل حتى والدي , وها أنا أيضا يا قمر لم أكتشف
ذلك إلا اليوم ولم ألحض حينها أنهما ذات الفستانان يتغيران على جسدك يوميا ولم أدرك إلا
الآن أنه ما كان لباب سطح أن يغلق على طفلة من تلقاء نفسه في كل مرة ولم أكتشف إلا اليوم
أنه مهما تعدى هذيان الأطفال حدوده فلن يصل لأن يذكروا كل تلك الأشياء المؤسفة التي كنتي
تحكيها لي بعشوائية وعفوية ... عينا التنين ومخزن المئونة الضرب والظلام والبرد والسجن
وغيرها الكثير , كلها كلمات كنت أسمعها منك بلامبالاة ضنا مني أنها هذيان أطفال
عدت من أفكاري تنهدت بضيق ودخلت مكتبي جلست وفتحت ذاك الظرف وأخرجت الأوراق
وبدأت بالقراءة غير متسائل هذه المرة من أين أتت ومن له مصلحة في هذا قرأت فقط دون تفكير
( أخرجتني تلك اليد للنور أخيرا ولكنه لم يصل لقلبي لماذا .. ؟؟ ولم أعرف الجواب إلا بعد وقت
صعدنا سيارة ونزلنا منزلا جديدا وغريبا عني لأجد فتاة في عمري في استقبالنا احتضنتني بحب
شيء لم أعرفه وأعتد عليه شيء نسيته منذ سنوات طويلة , الشيء الوحيد الذي لم يوفره لي ولا
حتى رائد , ولكن لما لا أشعر بشيء أبدا
وهذه كانت النتيجة خيال لفتاة وجسد بلا روح وعينان لا تفارقان الفراغ لأتلقى قبل التعليم
المدرسي شيء آخر يسمونه العلاج النفسي لتصبح قمر فتاة في السابعة عشرة بدأت حياتها
للتو كما يقول الجميع هناك لكنهم لم يعلموا أن الحياة الأولى لم تمت لتبدأ الثانية , وأدركت ذاك
الحين أن كره عينا التنين لي لأنها لم تنجب أبناء وليس لأني دخيل ومنزلهم ليس مكانه وأن
حلقها لشعر رأسي لسنوات لأن شعرها أجعد وقصير وليس لأنه عقاب لي على مشطي بمشطها
ولو بقيت معهم بضع سنين أخرى لشوهت لي وجهي لأنها بشعة , عشر سنين من العذاب فكيف
لذاك العالم أن يغيب
أصبحت لي غرفة نوم وسرير وأشياء كثيرة , حضن دافئ وعائلة وثياب ومال ولكن لما لم
تمحوا مرارة تلك السنين ولما أشعر أن ذاك السطح أجمل من هذه الحياة بكثير وأن تلك الفتحة
في نافذة المنزل أجمل من هذه النافدة الواسعة المطلة على تلك الحديقة الجميلة ..... لما !!!!
علمت حينها أن كلمة رائد لم تكن تسجل في قاموسي بالحلوى ولا المدرسة بل بكلمة أخرى
غريبة عني تعني ............ الحب أو التعلق أو الجنون
وذابت قمر في ذاك العالم وأصبحت تدرس وتقفز السنين في شهور ليس لأنها نابغة ولكن
لأن ثمة مدرسة درست فيها ذات يوم لسنوات , مدرسة لا فصول لها ولا طلبة ولا شهادة
مدرسة لم تتعدى علبة حديدية وجدار فاصل ورائد الكلمة التي لازالت تحتل كل ذاك القاموس
ولم يخبرني أحد حينها أن ذاك الاسم لم ينتهي من حياتي وعالمي بعد حتى ذاك اليوم وتلك
اللحظة التي قفزت فيها نوران ابنة عمتي فوق سريري وقالت بدهشة
" انظري يا قمر لهذه "
نظرت لها ببرود وقلت " لما كل هذه القفزة "
قالت بضحكة " مدونة خطيرة وجدتها عند صديقة لي تتابعها على الانترنت "
قلت بلامبالاة " ستكون كباقي مدونات صديقاتك "
قالت بتذمر " ما بك قمر ليس الجميع مبدعا مثلك اسمعي فقط ( على الحب أن يكون أعلى من
الجسد لكنه يعجز عن ذلك دون مساعدته على الحب أن يكون أعلى من العاطفة لكن العاطفة
يجب أن تكون داعمة له ( م/ن أوشو ) ) "
نظرت لها باهتمام وقلت " لمن هذه "
ضحكت وقالت " مبدع أليس كذلك "
قلت بهدوء " نعم ويبدوا لي شخصية معروفة "
قالت " رائد المنذر مدون مشهور الآن عند كل الفتيات "
نظرت لها بصدمة لتغرورق تلك العينان بالدموع , رائد مدرستي وكل قطع الحلوى في
حياتي والمعنى الوحيد الجميل لكلمة طفولة , نظرت لي بحيرة وقالت
" قمر ما بك "
أغمضت عيناي بقوة لتتقاطر منها الدموع الواحدة تليها الثانية حتى العاشرة كلها وهما
مغمضتان بشدة , احتضنتني وقالت " قمر أخبريني ما بك "
أبعدتها عني مسحت دموعي وقلت " لا شيء فقط تلك الذكريات "
تنهدت وقالت " قمر لا تنسي ما قال الطبيب إن لم تتخطي محاولة منع الماضي من
التسلل لعقلك فستعودين كما كنتي "
ابتسمت وقلت " لا تقلقي أعطني المدونة لأراها "
خبئت هاتفها عني ومدت لسانها ثم قالت
" لديك جهاز محمول لم أمتلكه يوما وموصول بالانترنت أيضا اطلعي عليها من هناك "
قلت بعد تردد " وما نشاطاته الأخرى "
قالت " لديه صفحة خاصة على مواقع التواصل ويشارك في منتدى للأدباء "
قلت بعد ضحكة صغيرة " يبدوا أنك تجسست عليه "
ضحكت وقالت " إنه حديث الفتيات مقالاته سلبت القلوب إنه مدون مميز "
ليصبح رائد بعد ذاك اليوم شيئا جديدا في عالمي بل لأصبح أنا نقطة جديدة في عالمه
واعشق كل كتاباته وكل مقالاته وكل حرف يكتبه ردا على معجبيه ليصبح هوسي وجنوني
فاخترت من بين كل ..... )
كان باقي الورقة ممزقا , نظرت لها بحيرة وقلبتها من جميع الاتجاهات ثم نظرت للورقة
بعدها وكانت الأخيرة ويبدوا أنه بينهما أوراق أخرى وكان مكتوب فيها سطر واحد فقط وهوا
( فوجدت نفسي بعد سنين في دهليز جديد ومتاهة جديدة من متاهات حياتي واسما مستعارا
لتكون قمر الجديدة تحولت لـ ........ نورسين )
من صدمتي بقيت أنظر لذات السطر بعينان مفتوحتان وكل خلاياي الحسية قد توقفت عن
العمل وبدأت الأشرطة تمر أمام عيناي شريط طفولتي معها يليه لقاءاتي بها الآن وكل
واحد منهم يعرض خلف الآخر تباعا
سندت جبهتي بكف يدي أستجمع أشلاء أفكاري ثم نظرت للسقف وقلت بابتسامة حزينة
" قمر ... أنتي هي قمر رائد , إنها أنتي يا نورسين "
ثم تحركت دون شعور وخرجت من المكتب ركضا للصالة حيث هاتفي واتصلت من فوري بأسعد
وعند هنا انتهى الفصل وكل ما أتمنى أن يكون نال إعجابكم
صحيح أنه قصير لكن في جعبتي لكم أكثر
في الفصل القادم ستكون دفة الحديث فيه لبطلتنا قمر
فكونوا على الموعد
أحبكم في الله ........ برد المشاعر
تابعووونا بكرة ان شاء الله مع احداث جديدة ومثيرة
البارت الخامس والسادس هنا 👇👇👇👇👇👇👇👇
بداية الروايه من هنا 👇👇👇