رواية دمعات قلب الدمعة الخامسة والسادسة بقلم رباب فؤاد حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
![]() |
استجابت (هالة) لرنين الهاتف ورفعت سماعته ليبادرها صوت أنثوي تفتقده يهتف بمرح ـ"لقد عدنا".
لم تكد (هالة) تتعرف على صاحبة الصوت حتى هتفت كالغريق الذي ينتظر العون قائلة بلهفة ـ"(نهى)!! حمداً لله على سلامتكم..متى عدتم"؟
أجابتها (نهى) بنفس المرح ـ"عدنا فجر اليوم...افتقدتك يا (هالة) كثيراً، وأبنائي لم يتأقلموا بعد على سفر (هيثم) و(هاني)".
اختنق صوت (هالة) بالعبرات وهي تقول لصديقتها ـ"وأنا أيضاً افتقدتك...بل إنني أحتاجك اليوم أكثر من أي وقت مضى يا(نهى)".
تسلل القلق إلى صوت (نهى) وهي تسألها ـ"ماذا بك يا حبيبتي؟ لقد كنت بخير حتى آخر اتصال بيننا منذ شهر تقريباً".
سالت دمعة متهورة على وجه (هالة) التي لم تحاول منعها وهي تقول بألم ـ"بخير؟ لقد نسيت هذه الكلمة".
تصاعد القلق في صوت صديقتها الوحيدة وجارتها في الخليج طيلة عشر سنوات، فسألتها بلهفة ـ"أريحي قلبي أولاً...هل والدتك وأبنائك بخير"؟
مسحت (هالة) دمعة أخرى حاولت اللحاق بسابقتها وهي تهز رأسها قائلة ـ"لا تخافي...كلنا بخير جسدياً، لكني أنا المنهكة نفسياً".
لم ترتح (نهى) لنبرة (هالة) ولا لكلماتها المتألمة فهتفت بها ـ"لقد أثرت فضولي...سأطلب من (عمر) زوجي أن يقلني إليك فوراً، فهي المرة الأولى التي أزورك فيها في مصر. (هالة) إياك أن تؤذي نفسك".
ابتسمت (هالة) رغماً عنها وهي تطمئن صديقتها وتنهي المكالمة قائلةـ"لا تخافي...أنا يائسة ولكن ليس إلى هذا الحد. في انتظارك".
وبالفعل لم تكد تمر ساعة حتى كانت (نهى) تطرق باب صديقتها مرتدية عباءتها السوداء الفضفاضة التي اعتادت ارتدائها منذ سفرها إلى الخليج مع زوجها قبل اثنا عشر عاماً.
كانت (نهى) أكبر عمراً من (هالة) بنحو عامين، متوسطة القامة وملامحها الهادئة تشي بطيبة قلب وحنان لا حدود لهما، وإن كانت عيناها اللامعتان تنمان دوماً عن روح مرحة وخفة ظل تجعل من يعرفها لا ينساها بسهولة. زوجها (عمر) مهندس في نفس الشركة التي كان يعمل بها (حازم)، وكان يقطن في الشقة المواجهة للعريسين (حازم) و(هالة) التي كانت بحاجة إلى صديقة جديدة، وكانت (نهى) هي تلك الصديقة، ونعم الصديقة التي وقفت إلى جوارها منذ بداية زواجها وحتى نهايته بوفاة (حازم) المفاجئة. حتى بعد عودة (هالة) إلى مصر قبل ستة أشهر لم تنقطع الصلة بينهما، وظلتا على اتصال بين الحين والآخر، و...
قطع (هاني) سيل ذكرياتها وهو يفتح الباب ويصرخ في سعادة ـ"طنط (نهى)...أين (عبد الله) و(عبد الرحمن)"؟
انحنت (نهى) تحتضن الصغير بشوق، فقد كانت تفتقد شقاوته وخفة ظله، وقبلت رأسه قائلة ـ"لا يزالا نائمين...لقد أتيت اليوم وحدي ولكني سأحضر بهما في المرة القادمة إن شاء الله. أين أمك"؟
أتاها صوت (هالة) المنهك وهي تقول بابتسامة باهتة ـ"ها أنذا...حمداً لله على سلامتك يا (نهى)".
التفتت (نهى) إلى صديقتها وراعها الشحوب على وجهها الذي طالما عرفته نضراً، حتى ابتسامتها العذبة كانت شاحبة بشكل أثار قلقها وهي تحتضن صديقتها قائلة ـ"(هالة)؟ ماذا ألم بك؟ ماذا حدث"؟
احتضنتها (هالة) بكل ما تبقى لديها من قوة قبل أن تصحبها إلى الداخل قائلة ـ"سأخبرك بكل شيء...تفضلي إلى الداخل أولاً".
صحبتها في هدوء إلى غرفة الاستقبال الأنيقة، بينما هرع (هيثم) هو الآخر ليعانق والدة أصدقائه في شوق بعد غياب ستة أشهر، فقبلت رأسه قبل أن تداعب شعره الأسود الناعم قائلة في حنان ـ"ما شاء الله تبارك الله. لقد صرت رجلاً يا (هيثم)..حماك الله يا ولدي".
ثم تلفتت حولها متسائلة ـ"أين والدتك يا (هالة)؟ وأين (هند)؟ لقد أوحشتني تلك المزعجة".
تنهدت (هالة) وهي تشير لصديقتها بالجلوس قائلة ـ"أمي تزور خالي...إنه يمر بوعكة خفيفة. أما (هند) فنائمة كالعادة...متعبة هذه البنت، تنام ونحن يقظى وتستيقظ ونحن نستعد للنوم".
جلست (نهى) على الأريكة إلى جوار صديقتها وهي تضحك قائلة ـ"والله أنا راضية أن أظل طول الليل مستيقظة...المهم أنجب بنت...ربنا يهدي (عمر) ويوافق أن ننجب ثانية".
ضحكت (هالة) نفس الضحكة الباهتة ولم تعقب، بينما تابعت (نهى) قائلة ـ"بارك الله لك فيها وأشقائها، وألف سلامة لخالك".
ثم مالبثت الجدية أن غلفت صوتها وهي تسألها باهتمام ـ"والآن ما سر هذا الذبول؟ إنها المرة الأولى التي أراك فيها هكذا، حتى بعد وفاة(حازم) رحمه الله".
تنهدت (هالة) في ألم وأسبلت جفنيها قليلاً قبل أن تفتحهما وتشير إلى (هيثم) قائلة ـ"(هيثم) حبيبي، أحضر العصير من الثلاجة وخذ أخيك للداخل".
أطاعها ابنها البكر في هدوء بينما وقف المشاكس الصغير وعقد ذراعيه أمام صدره قائلاً ـ"أريد أن أظل مع طنط (نهى)".
رمقته أمه بنظرة صارمة لا تتناسب وضعفها الحالي وهي تقول بحزم ـ"اذهب إلى غرفتك وحينما ننهي حديثنا سأسمح لك بالجلوس معها..هيا".
أطاعها الصغير بتبرم وخرج من الغرفة في الوقت الذي دخل فيه (هيثم) حاملاً صينية أنيقة وعليها كوبين من العصير المثلج وضعها أمامها ثم خرج وأغلق الباب خلفه في هدوء ورصانة. حينها التفتت (نهى) إلى صديقتها قائلة ـ"ما شاء الله تبارك الله...لقد صار (هيثم) رجلاً بتصرفاته رغم ملامحه الطفولية...لقد نضجت قبل الأوان يا صغيري".
تنهدت (هالة) ثانية وهي تهز رأسها قائلة ـ"كلنا تغيرنا يا (نهى). أنا أيضاً لم أعد كما كنت. لقد تغيرت حينما تزوجت (حازم)، وتغيرت ثانية حينما توفى فجأة. وربما أتغير من جديد، والمشكلة أنني لم أستسغ هذه التغيرات بعد".
ربتت (نهى) على كفها لتشجعها على الحديث قائلة ـ"(هالة) كفى تلاعباً بأعصابي...أخبريني ماذا حدث".
خللت (هالة) شعرها الأسود بأصابعها للحظات قبل أن تعتدل وتقدم العصير إلى صديقتها قائلة بلهجة محايدة ـ"حماي العزيز حضرة العمدة".
عقدت (نهى) حاجبيها قائلة بفضول ـ"ماذا به؟ هل يضايقك"؟
هزت (هالة) كتفيها قائلة ـ"لا أدري بم أصف ما يحدث...حماي العزيز يريدني أن أتزوج".
توقفت (نهى) عن شرب العصير الذي شعرت به يخنقها فسعلت في قوة وهي تضع الكوب على الطاولة أمامها ثانية قائلة ـ"ماذا؟ تتزوجي"؟
هزت (هالة) رأسها في ألم قائلة ـ"نعم، المهم أنه يريد مني أن أتزوج (طارق) شقيق (حازم) رحمه الله".
سألتها في حيرة ـ"أليس متزوجاً"؟
هزت (هالة) رأسها نفياً فتابعت (نهى) ـ"وهل يشبه أخيه"؟
تنهدت (هالة) في عمق وهي تقول ـ"مختلف تماماً قلباً وقالباً. مختلف في الشكل والطباع وكل شيء. ولكن ليس هذا ما يضايقني".
عقدت (نهى) حاجبيها ثانية في انتظار (هالة) التي تابعت قائلة بإحباط ـ"هل أصبحت حكراً على أبناء حضرة العمدة؟ يتوفى الكبير فأتزوج الصغير"؟
سألتها رفيقتها في حيرة ـ"وما مبرر حميك لهذا الزواج؟ هل لا يزال يؤمن بالتقاليد الريفية القديمة"؟
هزت (هالة) رأسها في صمت، فتابعت (نهى) باهتمام ـ"وما هو موقف (طارق)"؟
مطت (هالة) شفتيها قائلة ـ"برود وصمت مطبق...إنه لم يتحدث معي في شيء، ولا أظنه يستطيع الوقوف في وجه والده".
عقدت (نهى) حاجبيها ثانية وهي تقول ـ"هل يعني هذا أنه مجبر على الزواج منك؟ ألا يزال هناك آباء بهذه القوة وأبناء بهذا الاحترام"؟
هتفت بها صديقتها في ضيق ـ"(نهى) لا أريد تحليلاً...أريد الخروج من هذا المأزق..أنا لا أريد الزواج من (طارق) أو غيره. لقد انتهت حياتي بوفاة (حازم) رحمه الله ونذرت حياتي لأبنائنا. كما أنني لا أريد أن أظلم (طارق) بزيجة كهذه..إنه طبيب شاب ووسيم ويستحق من هي أفضل مني، فلماذا أظلمه بزوجة مستهلكة وأم لثلاثة أطفال"؟
شعرت (نهى) بقبضة باردة تعتصر قلبها مع وصف صديقتها لنفسها بأنها "مستهلكة" فهتفت بها ـ"لا تقولي ذلك...أنت لا زلت صغيرة ولا زالت هناك فتيات في عمرك وأكبر منك لم يتزوجن بعد و...".
سالت دموع (هالة) وهي تقاطعها قائلة ـ"فلماذا لا يتزوج أي منهن إذا؟ لماذا يربط نفسه بي"؟
ربتت (نهى) على كف صديقتها قائلة بهدوء ـ"إما لأنه لا يحب في الوقت الحالي، أو لأنه لا يعترف بالحب، أو لأنه يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه بعد وفاة شقيقه".
وكأنها ضغطت زراً فجر ذكريات كامنة في عقل وقلب (هالة) التي انتفضت في غضب قائلة ـ"لا يعترف بالحب؟ هل انتهيت من (حازم) وجمود مشاعره لأقع في نسخة ثانية منه"؟
فوجئت (نهى) بارتجافة صديقتها فاحتضنتها في حنان لتمتص انفعالها قائلة ـ"(هالة)..ماذا بك؟ إنك تحيرينني...أترفضين الزواج أم ترفضين الشخص أم ترفضين المشاعر"؟
ازداد انهمار دموعها على كتف صديقتها وهي تجيب بصوت مختنق ـ"لم أعد أعلم ماذا أريد وما لا أريد...لقد فقدت تركيزي وفقدت القدرة على التمييز و...".
ربتت (نهى) على ظهرها لتحاول تخفيف توترها قائلة ـ"لا داعي لهذا كله...اهدئي قليلاً حتى نستطيع التفكير بشكل عقلاني".
قالتها وهي تبعد صديقتها عنها قليلاً وتلتقط كوب العصير الثاني وتعطيه لها قائلة ـ"اشربي العصير يا حبيبتي...سيهدئ أعصابك".
التقطت (هالة) الكوب بأصابع مرتجفة وارتشفت منه قليلاً قبل أن تعيده إلى الطاولة وتدفن وجهها بين كفيها الباردين من الانفعال. وحينها قطعت (نهى) حبل الصمت الذي امتد لدقيقة أو يزيد قائلة بلهجة من يفكر بصوت مرتفع ـ"حموك يريد أن يضمن وجود من يهتم بالأولاد ويعتني بهم دون أن يثير وجوده الأقاويل...فلماذا لا يتزوج من والدتك ويقيم معكم هنا أو تنتقلوا أنتم إلى حيث يقيم و..".
قاطعتها (هالة) حينما رفعت وجهها عن كفيها في حدة ورمقتها بنظرة مستنكرة قبل أن تنفجر في الضحك بشكل يتناقض ودموعها التي لا تزال تغرق وجهها، فعقدت (نهى) حاجبيها قائلة ـ"ما الذي يضحك في كلامي"؟
استمرت (هالة) في الضحك وهي تنظر إلى صديقتها وقالت من بين ضحكاتها ـ"أعانك الله يا (عمر)...لقد أذابت شمس الخليج مخ زوجتك".
لكزتها (نهى) في كتفها قائلة بحنق ـ"يا سخيفة...أهذا جزائي لأني أفكر معك"؟
مسحت (هالة) وجهها من أثر الدموع قائلة ـ"بل جزائك لأنك لا تفكرين بشكل منطقي...فالسبب الذي دفع حماي إلى اقتراحه هو أنه أُصيب بذبحة صدرية حينما علم بوفاة (حازم) رحمه الله، وبالتالي فصحته لم تعد كما كانت، وهو يريد بزواجي من (طارق) أن يضمن وجود من يهتم بنا حتى بعد وفاته. وتعلمين جيداً أن أمي رفضت الزواج بعد أبي رحمه الله واستطاعت تربيتي والتكفل بي وحدها حتى الآن و..".
قاطعتها (نهى) قائلة في حيرة ممزوجة بالسخريةـ"ما دمت تتمتعين بهذا العقل المتفتح وتدركين الهدف من الزيجة، فلماذا ترفضينها؟ هل تعتقدين يا سوبر وومان أنك قادرة على تكرار نموذج والدتك؟ هل تعتقدين أنك قادرة على تربية ثلاثة أطفال في عصرنا هذا وحدك"؟
همت (هالة) بالاعتراض حينما تابعت (نهى) قائلة بهدوءـ"لقد كانت والدتك مسئولة عن طفلة واحدة وكان إلى جوارها شقيقها، وربما شجعها ذلك على عدم الزواج ثانية...ولكن انظري إلى وضعك...أرملة وحيدة ومعها ثلاثة أطفال في زمن قلما يساعد فيه الشقيق شقيقه، فممن تنتظرين المساعدة؟ من خالك المريض؟ أم والدتك التي لم تنس معاناتها السابقة كأرملة، أم تتوقعين أن يترك أبناء خالك مصالحهم وزوجاتهم من أجلك؟ هل لك أن تجيبي"؟
اتسعت عينا (هالة) وهي تنظر إلى صديقتها التي صدمتها بالحقائق كلها كمدفع رشاش سريع الطلقات، فظلت تتأملها للحظات في صمت قبل أن تقول بتخاذل ـ"(نهى)..أنا..".
استحثتها (نهى) على الحديث قائلة ـ"أنت ماذا؟ أنت لا تزالين مضطربة المشاعر، وكما قلت بلسانك فاقدة للتركيز والتمييز...لكني أرى أن هذه الزيجة قد تكون التعويض الذي أرسله الله إليك بعد معاناتك مع (حازم)...معاناتك التي لم تخبري بها والدتك، والتي لولا صداقتنا وجيرتنا ما عرفت بها...استخيري يا (هالة) وحينها سيرتاح قلبك".
لمعت عينا (هالة) فجأة وكأنها تذكرت شيئاً، فعاد العناد إلى صوتها وهي تقول ـ"وماذا عن معاش (حازم) رحمه الله؟ إذا تزوجت فسيُلغى نصيبي من المعاش و...".
قاطعتها صديقتها في سخرية قائلة ـ"هل تريدين إقناعي بأن معاش التقاعد يكفيكم؟ حتى وإن تعدى الألف جنيه فلن يفيدك في شيء، ولن يكفي لفتح بيتك. إذاً فلن تتأثر حياتك بضياع بضعة جنيهات من المعاش يا (هالة)...العبي غيرها".
اعترضت بعناد جعلها تبدو أشبه بصغيرها (هاني) وهي تقول ـ"ولكني مصرة على أنني أستطيع العناية بأبنائي وحدي دون مساعدة خارجية".
أحاطت (نهى) رأسها بكفيها هاتفة ـ"يا ربي...لقد سببت لي صداعاً بعنادك يا (هالة)...اسمعي...ما رأيك أن تراهني نفسك"؟
بدا الحماس في عيني (هالة) وهي تنصت باهتمام إلى صديقتها التي قالت ـ"راهني نفسك قبل الذهاب إلى أي مصلحة حكومية لإنهاء أي شيء يتعلق بأبنائك والمجلس الحسبي، فإذا استطعت إنهاء ما تريدينه دون مساعدة حميك أو (طارق) ارفضي الزيجة...أما إذا فشلت فلا يوجد أمامك سوى القبول بالزواج".
اتسعت عينا (هالة) وهي تسأل صديقتها بذهول ـ"(نهى) ماذا تقولين"؟
نفضت (نهى) كفيها قائلة بحزم ـ"هذا هو الحل الوحيد...استخيري ثم راهني نفسك، ولن أفتح فمي أياً كان قرارك بعدها".
وكان إختباراً قاسياً.
*************************************
الدمعة السادسة
6 -
ظلت(هالة) على موقفها الرافض للزواج بشكل عام, ومن شقيق زوجها بصفة خاصة, وبدا أنها ستنتصر وأن 'حضرة العمدة' قد اقتنع بوجهة نظرها.
ولكن جاءت اللحظة الحاسمة التي كانت تخشاها، واضطرت إلى الذهاب إلى مصلحة حكومية لإنهاء بعض الأوراق لتحويل معاشها ومعاش أبنائها إلى البنك بدلاً من وزارة التأمينات.
يومها تنقلت من مكتب إلى مكتب ومن طابق إلى طابق ومن موظف إلى موظف حتى أوشكت على الانهيار...
وحينها، حينها فقط استسلمت وأخرجت هاتفها المحمول من حقيبتها لتتصل ب(طارق) بصوت مختنق تطلب منه المساعدة.
والشيء الغريب أن مجرد وجود (طارق) إلى جانبها في هذا اليوم منحها نوعاً من الثقة في وجه الموظفين الذين يتعاملون ببرود اكتسبوه من طول تعاملهم مع الجمهور.
ولكن ظلت غصة ما تخنقها كلما نظرت إليه ووجدته يتعامل بابتسامة واثقة مع الجميع وروح مرحة أجبرتهم على إنهاء ما يريده من أوراق في وقت قياسي.
غصة مبعثها شعورها بخسارة الرهان...رهانها مع نفسها ضد الجميع.
وحينما أنهى (طارق) الأوراق صحب (هالة) إلى سيارته، وما أن جلس هو خلف المقود حتى فوجئ بدموعها تغرق وجهها فهتف بها في قلق ـ"(هالة)...ماذا بك؟ لماذا تبكين"؟
لم تستطع الإجابة، وإن ازداد انهمار دموعها وازداد قلقه معها فتابع ـ"(هالة) لا توتري أعصابي...ماذا حدث؟ هل ضايقك أحد الموظفين؟ أدري أنهم يتعاملون ببرود ولكن...".
قاطعته حينما وجدت صوتها أخيراً، وقالت بانكسار يعكس شعورها بالهزيمة ـ"(طارق)...أنا موافقة على الزواج".
قالتها دون أن تنظر إلى عينيه، ودون أن تستمع إلى ما قاله بعدها...
فما كانت تشعر به وقتها هو أنها وقعت للتو شهادة وفاة حريتها بعيداً عن أبناء الحاج حفني، وأنها عادت بقدميها إلى هذه الأسرة.
وبعد مرور أول ذكرى سنوية لوفاة زوجها, عقد(طارق) قرانه عليها وانتقل ليقيم معها ومع أبنائها.
ولدهشتها فقد كانت سعادة الأولاد بوجود عمهم معهم لا توصف, حتى أنهم وافقوا مرغمين على النوم بعد منتصف الليل كي لا يتركوه.
وحين تبعته إلى غرفتهما وجدته واقفاً أمام الشرفة يحدق في هدوء ليل الشتاء صامتاً فتنحنحت قائلة في حرج ـ"أي من جانبي الفراش تفضل؟"
استدار إليها في هدوء وهو ينقل بصره بين وجهها والفراش في بطء قبل أن يسألهاـ"على أي جانب تنامين؟"
مطت شفتيها قائلةـ" الأيمن, لكن لو..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً بلا مبالاة ـ" سأنام على الجانب الآخر إذاً."
ثم تابع بنفس اللامبالاة قائلاًـ" يمكنك النوم الآن لو أردت, فأنت ترهقين نفسك كثيراً في المدرسة والبيت, وسأقف قليلاً في الشرفة إذا لم يكن لديك مانع."
هزت كتفيها قائلةـ" كلا, ليس لدي أي مانع, فقط تأكد من ثقل ملابسك, فالجو يزداد برودة في المساء."
أومأ برأسه في صمت قبل أن يدلف إلى الشرفة ويغلقها خلفه تاركاً(هالة) وحيدة في غرفتها التي ملأها الهواء البارد لحظة أن فتح(طارق) زجاج الشرفة.
قاومت(هالة) شعورها بالاختناق وجلست على طرف الفراش وقبضة باردة تعتصر قلبها, لقد صدق حدسها, لقد وافق مرغماً مثلها تماماً, فقط كي يرضي أبيه وكي يعتني بأبناء أخيه.
وللحظة غالبها شعور صبياني بالضيق لأنها لم تخبره بسخرية أن شقيقه لم يضع جانبه على هذا الفراش, فعضت على شفتيها في غيظ, ثم ما لبثت أن هزت رأسها وتنهدت في عمق قبل أن تتمدد على فراشها وتتدثر بالغطاء متظاهرة بالنوم.
أما(طارق) فظل واقفاً في الشرفة يدخن السيجارة تلو الأخرى حتى شعر بشفتيه ترتجفان من البرد حول مبسم السيجارة الرابعة أو الخامسة فألقى نظرة سريعة على ساعة يده ليجدها تجاوزت الثانية صباحاً.
كانت لسعة البرد شديدة وجسده بأكمله تقريباً يرتجف إلا أنه كان عاجزاً عن تصور فكرة مبيته مع(هالة) في غرفة واحدة, ناهيك عن نفس الفراش.
إنه لم يعتد رفض أي أمر من أبيه وهو ما جعله يشعر دوماً بالسلبية. حتى حينما حاول الاعتراض هذه المرة وقف لسانه عاجزاً ولم يجرؤ على النطق, وهذا ما عدّه والده موافقة ضمنية.
إنه يحب والده كثيراً ويدرك جيداً حالته الصحية والنفسية منذ وفاة ابنه البكر, وأنه أصبح أمله الوحيد وأي خلاف ينشأ بينهما قد يودي بحياة الأب. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي لعدم اعتراضه على الزواج من(هالة).
السبب الآخر هو أبناء أخيه الذين يعشقهم كم لو كانوا أبنائه من صلبه, فهو يدرك مشاعرهم بافتقاد الأب, هو نفسه عانى_وهو الرجل_ حينما توفيت أمه وهو طالب بكلية الطب.
ولكن كل هذا لا يبرر هجره لأحلامه في أن تكون له زوجة خاصة به وحده تعيش معه في بيته الذي جهزه بكل ما يحباه سوياً.
هنا سيشعر بخيال(حازم) في كل ركن, رغم ثقته بأن شقيقه لم يسكن الشقة يوماً, ولكن كل أرجاء الشقة تذكره بالراحل.
إنه لا يطمع في أن يحتل مكان شقيقه في منزله، ولا أن يفرض نفسه على (هالة), ففي هذه النقطة بالذات يجب أن تكون له شخصيته المستقلة.
كل ما يستطيع فعله هو أن يحتوي أبناء أخيه بحنانه و بإمكانه إبقاء هذا الزواج بشكل صوري يتيح له دخول المنزل دون إثارة الأقاويل وفي الوقت ذاته يرفع عنه وعن(هالة) الحرج.
تنهد عند هذا الحد وارتجافة جسده تتزايد فاستدار في بطء يراقب(هالة) من وراء الزجاج ليتأكد من استغراقها في النوم قبل أن يعود للغرفة في خفة ويغلق بابها خلفه في هدوء.
و كانت أطول ليلة في حياتيهما.
فقد ظلت(هالة) تتظاهر بالنوم حتى قرب آذان الفجر عندما غفت عيناها أخيراً.
أما هو فلم يحاول التظاهر بالنوم, بل ظل جالساً يحدق في ظلام الغرفة سانداً رأسه إلى ظهر الفراش وذراعاه معقودان أمام صدره, وبين الحين والأخر يراقب xxxxب ساعته التي بدت كسلحفاة تمشي الهوينى.
وأخيراً بزغ الضياء معلناً بدء يوم جديد.
ومع ذلك لم يطرف جفنا(طارق) طلباً للنوم.
وقبل أن تعلن ساعته تمام الثامنة كانت(هالة) تفتح عينيها في كسل وعلى وجهها أجمل ابتسامة, فقد كانت عادة لديها أن تستقبل الصباح الجديد بابتسامة, ويبدو أنها فعلت ذلك متوقعة ألا يراها أحد.
لكن(طارق) رآها وبادرها بقوله ـ"صباح الخير."
لحظتها شعرت بأن هذه الابتسامة لا مكان لها, أو أن هذا ليس هو الوقت المناسب أو...
هي نفسها لا تدري لم نضت الابتسامة عن وجهها وهي ترد في هدوء ـ"صباح الخير."
ربما ظنت أن ابتسامتها تلك تعني موافقتها على الزواج, أو موافقتها على ما فعله معها, ولكنها...
قطع انسياب أفكارها صوت(طارق) الودود يقول ـ"لم أرد إيقاظك لعلمي بأنك مرهقة, لقد استيقظت قبلك بقليل."
نهضت من الفراش في سرعة وهي تغمغم في سخرية ـ"وهل نمت من الأساس؟ لقد ظللت جالساً حتى الفجر, وربما حتى الآن."
شعر بحرج بالغ وهو يسمعها, إذاً فهي الأخرى لم تنم إلا متأخراً وبالتالي أدركت أنه لم ينم و...
قطع صوتها إحراجه وهي تتابع بهدوء ـ"بعض الناس لا يتكيفون سريعاً مع تغيير فراشهم."
بدت عبارتها وكأنها طوق النجاة من الحرج الذي يكتنفه فأسرع يقول موافقاًـ"بالفعل هذا ما حدث."
ارتسمت ابتسامة ساخرة أخرى على شفتيها تؤكد عدم تصديقها له قبل أن تسأله بهدوءـ"ما هي الأطعمة التي تحب تناولها في كل وجبة كي أعدها لك؟"
ارتفع حاجباه في دهشة قبل أن يقول ـ"لاشيء محدد, فأنا أحب كل شيء. سآكل مما تأكلون منه."
هزت رأسها وهي تتجه نحو الباب قائلةـ"حسناً, سأذهب لأعد الإفطار."
استوقفها وهو ينهض مسرعاً من الفراش قائلاًـ"ريثما تعدين الإفطار, أيكون الأولاد مستيقظين الآن؟"
ألقت نظرة سريعة على الساعة المجاورة للفراش قبل أن تقول ـ"عادة ينامون لما بعد الآن يوم الجمعة, ولكن مع وجودك فلا أشك في أنهم استيقظوا في ميعاد المدرسة."
وقد كان حدسها صحيحاً, فـ(هيثم) و(هاني) كانا منهمكين في ألعاب الفيديو, إلا أنهما هرعا إلى عمهما بمجرد أن سمعا صوته وارتميا بين ذراعيه في حب حقيقي بادلهما إياه(طارق) حين احتضنهما بحنان أبوي دافق وقبّل رأسيهما بحب قائلاًـ"صباح الخير يا أحبائي. أين(هند)؟"
انبرى(هاني)يقول في سرعةـ"الحمد لله أنها ما زالت نائمة. لقد ظلت تبكي طوال الليل وجدتي تحاول إسكاتها دون جدوى حتى نامت أخيراً في الفجر."
وتابع وهو يغوص في أحضان عمه قائلاًـ"هذا أفضل كي أحظى بنصيبها من العناق."
ابتسم(طارق) في حنان وهو يداعب شعر(هاني) قائلاًـ"لا تخف, نصيبك من العناق محفوظ تماماً."
تابعت(هالة) بعينيها حوار طفليها الباسم مع عمهما الذي عاد إلى شخصيته الطبيعية دون تحفظ وملأت الابتسامة وجهه الوسيم.
وفي هدوء اتجهت إلى المطبخ لتعد الإفطار مع أمها التي رمقتها بنظرة تعرف(هالة) معناها جيداً فقالت لتجيب عن نظراتها المتسائلة ـ"لقد ظل يدخن في الشرفة حتى الثانية صباحاً ولم ينم حتى الآن."
ولم تزد عن ذلك رغم الدهشة التي ارتسمت على ملامح أمها.
وعلى مائدة الإفطار اقترح(طارق) أن يخرجوا جميعاً في نزهة خلوية, وبدا الاقتراح مناسباً جداً للطفلين اللذين صاحا في سعادة معلنين موافقتهما.
أما(هالة) فبدت متحفظة قليلاً للخروج معه إلى العالم في ثاني أيام زواجهما مباشرة, إلا أنه قال وابتسامته تضيء وجهه ـ"أنا رجل ديمقراطي, سنأخذ بالأصوات. أنا و(هيثم) و(هاني)و(هند) نوافق على الخروج سوياً. بقى أنت وأمي,إذاً نحن أغلبية وستأتون معنا شئتم أم أبيتم."
ويبدو أن لهجته راقت لـ(هيثم)و(هاني) فقد طفقا يصفقان ويضحكان في جذل شاركتهم فيه شقيقتهم الصغرى رغم أنها لا تفهم شيئاً.
ومر اليوم الثاني بسلام.
🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹
ادخلوا بسرعه حملوه وخلوه علي موبيلاتكم من هنا 👇👇👇
وكمان اروع الروايات هنا 👇
انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺