رواية لااصطفي بالحب غيرك الفصل الثامن بقلم فاطمه علي محمد
![]() |
مع تسلل أول خيوط الضوء إلى غرفتها بدأت "ميان" تتململ في فراشها براحة كثيرًا ما افتقدها بأيامها السابقة، لتدفع عنها دثارها بنشاط دب بجميع أوصالها، مغادرة الفراش إلى المرحاض وهي تتناول منشفتها الخاصة، بينما كانت والدتها بالمطبخ تُعد طعام الفطور بمساعدة "چوليا" التي تسللت من جوار "ميان" فجرًا مرافقة "ميرڨت" في صلاتها، ومن ثم تجاذبا أطراف الحديث وبعض النوادر من حكايا "ميرڨت" الممتعة.
أنهت "ميان" اغتسالها واتجهت إلى المطبخ مرددة بابتسامة واسعة أنارت وجهها وأضاءته:
- صباح الجمال يا حلويات.
هتفت "چوليا" بمشاكسة وهي تقطع بعض الخضروات: - صباح الخير يا طنط "ميان".
ضيقت "ميان" عينيها بسخط وهي تصك أسنانها مرددة من بينهم باستنكار :
- طنط! ماشي يا "چوليا" ماشي.
بينما التفتت "ميرڨت" نحوها بابتسامة واسعة وهي تردد :
-صباح الفل يا حبيبتي، ناموسيتك كحلي يعني.
هتفت "ميان" بصدمة وفاهٍ فاغر :
-كحلي! والله صحيت أول ما شمس ربنا دخلت أوضتي.
وضعت "ميرڨت" ما بيدها ونهضت من مقعدها متجهة صوب الموقد تطفئه أسفل البيض وهي تردد بسخرية خفيفة:
- شمس ربنا بتدخل أوضتك الساعة تمانية يا "ميان".
لتهتف "چوليا" بسعادة بعدما نهضت من مقعدها بحركة مسرحية استعراضية :
- إحنا ناس صاحين من الفجر حضرتك.
حدقتها "ميان" شزرًا بسخط وهي تهمهم بتذمر واضح :
- ده إيه البنت اللي جايه تاخد "ميرڨت" مني دي؟!
واستطردت بصوت مرتفع نسبيًا وهي ترسم ابتسامة خفيفة بثغرها:
- انتِ شطورة يا "چولي".. يلا بقا جهزي الفطار على ما أصلي وأجهز وآجي يا قمر.
ركضت "چوليا" نحوها تحاوط خصرها بذراعيها بقوة محتضنة إياها وهي تردد بسعادة :
- أنا بحبك قوي "ميان".
كم هي فتاة صادقة، عفوية بمشاعرها، تقتحم القلب بلا استئذان أو سابق إنذار، ربما لم تجد من يتفهم مشاعرها هذه يومًا، أو ربما عجزت هي عن التعبير عنها والبوح بمكنونات صدرها، أو ربما خجلها أعاق بينها وبين هذا البوح، فبعض الأبناء تخجل من التعبير عن حبها لوالديها، وبعضهم يكون عنده بذخ في هذه المشاعر.
شعور لم تشعره "ميان" سوى قرب صغيرها، لتنفرج تلك الابتسامة الصادقة، وتحاوطها أيضًا بذراعيها بقوة ممسدة على ظهرها بحنو أموي هامسةً :
- وأنا بحبك قوي يا "چوليا".. ربنا يحميكِ من كل شر يا قلبي يا رب.
لتتمرد تلك العبرات الفرحة من عينا "ميرڨت" وهي تخطو نحوهن بخطاها الواسعة وتحتضنهن بقوة مرددة بتضرع ورجاء :
- ربنا يحفظكم من كل شر يا رب يا بنات.
********
كانت "سومية" تحاول جاهدة مع صغيرها أن يتناول فطوره رغم ألمها الذي اعتصر قلبها وأدماه، إلا أنه تشبث برفضه وامتناعه عن الطعام حتى يطمئن قلبه على شقيقته، لتردد برجاء :
- طب عشان خاطر "چوليا" يا حبيبي خُد ساندويش بس أو حتى كوباية لبن.
حرك "يامن" رأسه بنفي وهو يولي وجهه عنها مرددًا :
- مش هاكل حاجة غير لما اطمن على أختي.
وأعاد وجهه نحوها ثانية يرمقها بنظراته المستجدية ككلماته:
- "چوليا" فين يا ماما؟ والله واحشتني، وعايز أشوفها.
جذبت "سومية" "يامن" إلى أحضانها وهي تمسد على خصلات شعره بحنو مرددة بأسى واشتياق:
- واحشتنا كلنا يا حبيبي بس ما تقلقش هي أكيد بخير عمك عمره ما هيخلي أي مكروه يصيبها اطمن يا "يامن".. اطمن.
كان عائدًا لتوه من الخارج قاصدًا غرفته المجاورة لغرفة صغيره، لتتسلل تلك الكلمات إلى مسامعه، كلمات أشعلت غضبه ومقته، كيف يكون شقيقه هو الحامي والسند لابنته وهو مازال حيًا يرزق؟!
زفر زفرات نارية، واستدار مغادرًا الشقة، صافعًا الباب خلفه بقوة غاشمة لينتفض جسد "يامن" بينما تيقنت "سومية" من أنه تسمع إلي حديثها هذا، فتنهدت بأسى لأجله فهو استسلم بخضوع لشيطانه الذي يجذبه إلى بحر الظلمات، وربتت على كتف صغيرها مرددة بمرارة سكنت جوفها:
- قوم البس يا "يامن".
ابتعد عنها "يامن" قليلًا محدقًا إياها بنظرات متسائلة، لتُجيبه مرددة وهي تنهض من مجلسها :
- هنروح نشوف أختك.
هبّ "يامن" متقفزًا بمكانه وهو يصيح بسعادة غامرة :
- قولي والله.
داعبت "سومية" خصلاته بمشاكسة مرددة بابتسامة رغم بُهتانها إلا أنها بثت الأمل بقلبه :
- والله..على ما أجهز تكون جهزت.
وغادرت نحو غرفتها بخطوات واسعة، بينما ركض "يامن" نحو خزانته.
*********
بأحد النوادي الليلية بولاية نيوچيرسي، كان "مُهاب" يحاوط خصر تلك الفتاة بيده بجرأة وقحة، ليجذبها إلى صدره بقوة ملتهمًا شفاهها بجموح عنيف، بينما هي تركته يفعل ما يشاء، فخبرته تتجاوز خبرتها بمراحل طويلة، فهي لم تتجاوز التاسعة عشر بعد. ابتعد عنها قليلًا لحاجة رئتيه لبعض الهواء، وهي كذلك، ليُقدم ثانية على استكمال عمله، فيجد يد قوية تجذبها من بين ذراعيه بقوة، وصرخة أقوى بها :
- اذهبي إلى الجحيم يا فتاة.
التقطها رجال ذلك الرجل الذي يشبه إلى حد كبير رجال العصابات الدولية بمعطفه الأسود الجلدي اللامع، وبنيانه الضخم، ومعالمه الحادة بأنفه المعقوف، وحاجبيه الكثيفين، وشاربه الكثيف أيضًا، واستطرد محدقًا بـ "مُهاب":
- أخبروني أنك الأفضل في مجالك، أتمنى ذلك وإلا سأقتلع عنقك واُلقيها لـ"زاكس" يلهو بها كيفما يشاء.
ازدرد "مُهاب" ريقه بارتباك وهو يحك عنقه بهلع سكن أحداقه، مغمغمًا بتوتر :
- من "زاكس" هذا؟
أشار الرجل بسبابته لرجاله التي أطاعته على الفور وبدأت بإخلاء النادي تمامًا، ليسحب هو أحد المقاعد ويحتله بكبرياء وشموخ مرددًا بتعالٍ :
- صديقي الوفي والذي لم أجد بين البشر واحدًا بخصاله، فالكلاب أوفى بكثير من أمثالكم.
التفت "مُهاب" بأنظار زائغة نحو رجال هذا الرجل، لتنفرج ابتسامة جانبية متهكمة منه بعدما علم مقصده وردد بسخرية كبيرة :
- يعلمون مصيرهم جيدًا فلا يتجرأ أحدهم على مجرد التفكير بخيانتي.
وأماء برأسه نحو المقعد المقابل له مطبقًا شفتيه بقوة، ليجلس "مُهاب" مسرعًا خشية أن ينال عقابه وهو يحمحم بتلعثم اخرسه هذا الرجل الذي تفوه صارمًا :
- "كيڨين سميث" رجل مافيا أمريكي متزوج بـ "ميشيل سميث" مساعدتي وشريكتي بالأعمال على الأقل حتى هذه اللحظة فهي تود الانفصال عني كليا وعلمت أنك من يتولى قضيتها.
ازدرد "مُهاب" لعابه بهلع شديد، ليهتف بلا تردد :
- سأرفض القضية سيدي وأُحيلها إلى محام آخر.
صفع "كيڨين" سطح الطاولة بيده بقوة صارخًا بجميع معالمه التي تجعدت بوحشية قبل لسانه:
- غبي... سأُعيد الكَرَّة ثانية.
انتفض جسد "مُهاب" بقوة وهو يتمسك بطرف مقعده، مغمغمًا بذعر :
- اوامرك سيدي.
استرخى "كيڨين" بمقعده، ليركض إليه أحد رجاله واضعًا سيجاره الكوبي المشتعل بين سبابته ووسطاه بخنوع شديد، وتقهقر إلى الخلف مصطفًا إلى جوار زملائه، بينما وضع "كيڨين" سيجاره بين شفتيه الغليظة ساحبًا منه نفسًا عميقًا، ليخرجه دوامات من الأدخنة بوجه "مُهاب" الذي جاهد السعال كثيرًا، إلا أنه تمرد عليه أخيرًا وبدأ يتعالى بالأنحاء. حدقه بغموض حتى هدأ سعاله، وردد بصوت رخيم ثابت:
- ستبقى كما أنت محاميها الخاص تتسلم منها جميع الأوراق القانونية التي تثبت شراكتها لي.. توهمها أنك معها للرمق الأخير، وبيوم المحكمة
وأشار "كيڨين" بيده إلى أعلى صعودًا كحركة صعود الطائرة، ليهتف "مُهاب" مستنكرًا :
- هذه خيانة للقسم.
تعالت ضحكات "كيڨين" الساخرة وهو يلتفت نحو رجاله مشيرًا بيده المحتضنة للسيجار نحو "مُهاب" هاتفًا بتقطع من إثر ضحكاته:
- خيانة... للقسم..
واستدار نحوه بغتةً يصيح به بحدة صارمة:
- أي قسم هذا يا رجل؟! ألسكير مثلك قسم؟! أم لرجل يضاجع البغايا مثلك كل ليلة قسم! .. أنا أعلم عنك الكثير، فلا تتحاذق معي، وجهتك خاطئة.
وهب من مقعده مستطردًا بتحذير صاحب سبابته المُشهرة نحوه :
- ستفعل كل ما أمرتك به وهذا لا أكترث له فأنفاسك معدودة من رجالي.
غادر "كيڨين" النادي مُحاطًا برجاله، بينما تنفس "مُهاب" الصعداء وهو يلتقط كأس من النبيذ، تجرعه دفعة واحدة ومن ثم أنزله أرضًا وهو يغمغم بغضب قد آن أوانه:
- أنا يتعمل فيا كده؟
وألقى كأسه بطول ذراعه ليصطدم بالحائط، ويتطاير متناثرًا بأنحاء المكان.
*******
الثالثة مساءً بمكتب "يامن"، كان يتابع آخر تطورات قضية "چوليا" هاتفيًا مع المحامي، لتتعالى دقات هادئة ببابه تبعها ولوج أحد مساعديه والذي أخبره بابتسامة خفيفة :
- أستاذة "ميان العشري" عايزة تقابل حضرتك.
أشار له "يامن" بيده أن يسمح لها بالولوج، بينما هو ردد بجدية محادثًا المحامي :
- تمام.. أنا هكلمك بعد ما تخلص ولو فيه أي جديد ياريت تبلغني على طول.
أنهى "يامن" اتصاله بينما ولجت "ميان" بجدية احتلت قسماتها وهي تردد :
- مساء الخير.. أتمنى ما كنش اتأخرت.
نهض "يامن" من مجلسه برقى في معاملة الأنثى مرددًا بتهذيب :
- مساء النور..هو فعلا حضرتك اتأخرتِ بس أنا كمان كنت مشغول جدًا..
وأشار نحو أحد المقاعد الأمامية لشاشة حاسوب كبيرة أعلى طاولة كبيرة أيضًا وهو يستدير حول مكتبه منضمًا إليها مرددًا بعملية:
- اتفضلي.. اتأخرنا كتير على الشغل.
أومأت له "ميان" برأسها وهي تتجه نحو المقعد جاذبة إياه للخلف تحتله بعملية جادة مرددة :
- أوك.. أولًا محتاجة اسمع الأغاني كلها وبعدين نقرر خطة العمل إيه.
جذب "يامن" هو الآخر مقعده محتلًا إياه بهدوء وهو يضغط زر تشغيل الحاسوب مرددًا بعملية جادة :
- أتمنى تكون أفكارك برة الصندوق لأني ما بحبش التكرار ولا التقليد.
صبت "ميان" كامل اهتمامها على الشاشة أمامها وهي تُجيبه بثناء مبطن :
- ده أنا لاحظته فعلًا لما راجعت كل ألبوماتك السابقة، دايمًا فيه ابتكار في نوع المزيكا اللي بتعملها وكمان لاحظت إنك بتدعم كاتب شاب أو اتنين في كل ألبوم ليك.
التفت "يامن" نحوها بنظرات إعجاب لم يفلح في إخفائه، لترمقه هي بطرف عينها مرددة بزهو :
- معنى نظرتك دي إني قدرت أحلل طريقة شغلك كويس؟
استدار "يامن" بمقعده الدوار حتى أصبح مواجهًا لها، ليتكئ بذقنه على يده التي تكأها هي مخدع المقعد مرددًا بثبات قوي شابه بعض الزهو والتعالي:
- أثبتيلي إني كنت صح يوم ما اختارتك عشان نشتغل سوا.
- ما تصدرش أحكام مسبقة استني شوف شغلي وبعدين اتباهى باختيارك.
قالتها وهي تلتقط هاتفها بجدية فاتحة مفكرته تدون بعض الملحوظات على هذه الأغنية التي بدأت تصدح بأنحاء الغرفة.
بينما استدار "يامن" بمقعده بضيق دفين نجح في إخماده، ليراقب الشاشة هو الآخر مردفًا بتعالٍ رافق كلماته :
- دايمًا أحكامي المسبقة دي بتكون صح مليون في المية.
وأزاح بعض الوريقات بأطراف أنامله أعلى الطاولة حتى توقف أمامها مرددًا بجدية :
-دي Story Board للكليب اللي عايز أصوره.
أبعدتها "ميان" عنها وهي تُزيحها نحوه ثانية دون الالتفات إليه مرددة بحزم صارم :
- حضرتك عملت شغلك وخلصته، اللي جاي ده كله شغلي.. ياريت تساعدني إني انجزه بأفضل شكل.
اشتعل فتيل الغضب بأحشاء "يامن" وهبت نيرانه على معالم وجهه التي امتعضت جميعها حتى أنه كاد أن يهب من مقعده صائحًا بها، لتوقفه كلماتها العملية التي أثنت على ذكائه في الاختيار :
- مختار تراكات موسيقية مميزة ولازم يتشغل عليها صح.. الألبوم ده هيكون خطوة مهمة جدًا في مسيرتك الفنية.
استقر "يامن" بمقعده وهو يتنهد بهدوء متمتمًا :
- اهدى.. ده شغلها وهي شاطرة فيه فعلًا .. اهدى.
قطبت "ميان" جبينها باستنكار مرددة بدهشة:
- أفندم.
انفرجت بثغر "يامن" ابتسامة مزيفة وهو يحرك رأسه بلامبالاة مرددًا :
- أبدًا.. ياريت نكمل شغلنا.
أومأت له "ميان" برأسها وهي تدون آخر ملحوظة لها بتلك الأغنية مرددة بلامبالاة :
- أوك.
*******
بمطعم أحد الفنادق النيلية، جلس "ياسر" ينفث نيران غضبه مع أدخنة سيجارته التي تناغمت مع أدخنة باقي العملاء بهذا القسم الخاص بالمدخنين وهو يرتشف قهوته السادسة حتى ولجت "صافي" بهيئتها المنمقة دائمًا وهي ترسم على وجهها ابتسامة ظفر مرددة بسعادة:
- ما صدقتش نفسي لما اتصلت بيا.
أشار "ياسر" نحو المقعد المقابل له مرددًا بحدة :
- اقعدي خليني أقول الكلمتين اللي جاي عشانهم.
جذبت "صافي" مقعدها واحتلته مستنكرة حالته هذه وهي تضع حقيبة يدها الصغيرة على الطاولة أمامها مرددة بجدية :
- خير.
أشار "ياسر" بيده إلى النادل الذي أتاه مسرعًا، ليردد الأول بجدية:
- اتنين قهوة مظبوط.
أومأ النادل برأسه وغادر، بينما زفر "ياسر" عدة زفرات حارة ارتبك لها جسد "صافي"، ليردد هو بثبات:
- هقولك اللي تعمليه بالظبط عشان ترجعي لـ "يامن".
اتسعت ابتسامة "صافي" والتي سرعان ما تلاشت تدريجيًا حينما رمقت نظرات "ياسر" الغامضة والتي فكت طلاسمها سريعًا، لتهتف بترقب حذر :
- والمقابل؟
- نص ثروته.
هتف بها "ياسر" بحقد نجح في غزل خيوطه بقسمات وجهه.
***********
صدح ناقوس الباب بشقة "ميرڨت" والتي هتفت بصوت مرتفع نسبيًا وهي تضع اللمسات النهائية لرسمتها التي انغمست في وضع خطوطها وتلوينها أكثر من ثلاثة ساعات:
- شوفي مين يا "چوچو".
ولجت "چوليا" إليها حاملة صينية صغيرة بها فنجان من القهوة وهي تردد باهتمام وتركيز قوي في الصورة النهائية :
- اشربي القهوة دي الأول بس عشان تكملي إبداعك القمر ده وأنا هشوف مين وأجيلك هوا.
تناولت "ميرڨت" منها فنجان القهوة وهي تردد بسعادة غامرة :
- جه في وقته بالظبط.
ليصدح الناقوس ثانية، وتهتف "چوليا" بحنق خفيف وهي تركض نحو الباب :
- جاية أهو.
أدارت مقبضه جاذبة الباب نحوها بسخط، لتجد شقيقها يدفع بكامل جسده إليها مشددًا من احتضانها بصدمة ألجمتها، ليهتف الأول باشتياق باكٍ :
- وحشتيني يا "چولي".
كانت تلك هي المواجهة الأولى لها مع شقيقها ووالدتها التي كانت تراقب المشهد بثبات قوي، فلم تُبد أية ردة فعل حتى الآن، لتشدد "چوليا" من احتضان شقيقها وأحداقها مُعلقة بأعين والدتها التي ولجت إلى الداخل حينما رمقت "ميرڨت" قادمة إليهم مرددة بحفاوة وترحاب :
- "سومية"! أهلًا بيكِ يا حبيبتي اتفضلي.
لم تشعر "سومية" بجسدها إلا وهو يشدد من احتضان "ميرڨت" وتلك العبرات اللعينة قد آن أوان تمردها بسيل جارف اخترق أنسجة كنزة "ميرڨت" التي ربتت على ظهر "سومية" بحنو مرددة بيقين :
- كله هيعدي على خير يا بنتي.. أكتر من كده وعدى.. ربك خالق الوجود ومسيره برحمته وفضله، وعمره ما هيضرك في بنتك أبدًا.
تنهدت "سومية" بقوة مرددة بحشرجة من أثر البكاء :
- يا رب يا طنط "ميرڨت".. يا رب.
وسيطرت على كامل خلاياها كما سيطرتها على عبراتها تلك بزفرة قوية وهي تبتعد عن "ميرڨت" قليلًا مرددة بشكر وعرفان :
- مهما قولت مش هقدر أشكرك ولا أوفيكِ حقك وجميلك ده فوق راسي طول العمر حضرتك ما تعرفيش اتصالك إمبارح ردلي روحي إزاي.
حاوطت "ميرڨت" وجه "سومية" بكفيها بودٍ حانٍ مرددة :
- ربنا يعلم مقدار حبك اللي اتزرع في قلبي من أول ما شوفتك. إنتِ خلاص بقيتي عندي زي "ميان" بالظبط، و"چوليا" دي حفيدتي.
وحادت بأنظارها عنها رامقة "يامن" الذي يرمقهما بخجل وهو يتشبث بيد شقيقته، مستطردة بابتسامة واسعة :
- وكمان "يامن" حفيدي زيه زي "چاد" بالظبط.
وأشارت له بيدها أن يأتيها، ليرمق والدته بتردد والتي أومأت له بأن نعم، ليخطو نحوها بخجل مصافحًا إياها وهو يردد بخفوت :
- إزي حضرتك يا تيتا.
داعبت "ميرڨت" خصلات "يامن" بمشاكسة مرددة :
- إزيك يا قلب تيتا. ..
ورفعت أنظارها نحو "چوليا" المرتبكة مرددة بابتسامة خفيفة :
- اقفلي الباب يا "چوچو" واعملي قهوة لـماما زي ما علمتك.
أومأت "چوليا" برأسها مرددة بخفوت :
- حاضر.
وأوصدت الباب بهدوء، ومن ثم ركضت نحو المطبخ وتبعها "يامن" بتسلل مستغلًا ولوج "ميرڨت" و "سومية" إلى غرفة الصالون.
********
بمكتب "يامن"، أنهت "ميان" تدوين آخر ملحوظاتها لتتنهد براحة وهي تستدير بمقعدها قليلًا حتى أصبحت في مواجهة مع هذا الذي ظل يراقب جديتها ومهارتها في عملها بإعجاب شديد نجح في إخفائه خلف نظراته الجامدة مرددًا بثبات قوي :
- خلصتي؟
أومأت "ميان" برأسها قليلًا وهي تردد بابتسامة إعجاب واضحة :
- خلصت وحقيقي شغلك رائع، ومختلف.
وده بقا هيخليني أشتغل على الخطة البديلة.
ضيق "يامن" عيناه بدهشة وهو يردد متسائلًا:
- وإيه هي بقا الخطة البديلة؟
استرخت "ميان" بمقعدها قليلًا وهي تردد باسترسال موضحة خطة عملها القادمة :
- حضرتك لما بلغتني برغبتك في الشغل معايا عشان نصور ڨيديو كليب شوفت شغلك اللي فات كله، ما أقدرش أنكر إنه شغل احترافي ونجح جدًا كمان بس دايمًا كنت بحس فيه حاجة ناقصة.. عشان كده حطيت plan B ودي اللي هنشتغل عليها دلوقتي ده طبعًا لو اديتني التمام لأنها هتحتاج إنتاج ضخم.
تابع "يامن" حديثها باهتمام قوي وإعجاب أقوى بطريقة استعدادها للعمل، ليردد بهدوء :
- اتفضلي اشرحي خطتك لو عجبتني نشتغل عليها حتى لو هدفع فيها نص ثروتي.
تنهدت "ميان" براحة أكبر وهي تلتقط هاتفها مستعرضة أهم النقاط التي دونتها مرددة بجدية:
- المميز في الألبوم ده إنه منفصل متصل ومترابط.
اعتدل "يامن" بجلسته عاقدًا ساعديه أعلى صدره بتركيز قوي، لتسترسل هي بحديثها بإيضاح :
- عادي جدًا إن يتصور منه كل أغنية على حدى على طريقة الفيديو كليب لكن الإبداع والتميز إننا نعمله مسلسل متصل عبارة عن عشر حلقات.. بس ده هيحتاج مننا شوية ترتيب للأغاني وده أنا عملته فعلًا، وفعلًا كملت بعضها بشكل بديع، الأغاني الموجودة بتمثل حياتنا وتقلباتها ما بين فرح وحزن، حب وكره، نجاح وفشل، يعني حياة إنسان كاملة بكل أحداثها.. وده بالظبط اللي هنشتغل عليه، بس بطريقة تخليك ملك كل العصور.
حديثها هذا لاقى كامل إعجاب "يامن" الذي عقد جبينه مرددًا بتساؤل مندهش :
- ملك كل العصور؟!
أومأت له برأسها مرددة بتأكيد :
- بالظبط كده.. اديني يوم واحد بس وتكون الفكرة كاملة عندك.
استدار "يامن" بمقعده نحو شاشة الحاسوب وهو يضغط زر إعادة تشغيل أغنياته ثانية مرددًا بثبات :
- ميعادنا بكرا زي دلوقتي.
أومأت له "ميان" بموافقة وهي تجمع متعلقاتها الخاصة ناهضة من مقعدها بحماس وعزيمة لما هو آت، واتجهت مغادرة المكتب لتصطدم بتلك السيدة التي قد نجهل معالمها للوهلة الأولى فانكسارها وضعفها وشحوب وجهها الذي تلون بتلك الهالات السوداء التي تحاوط عيناها الذابلة أبدل معالمها وأخفاها، لتردد بوهن شديد بعدما كادت أن تسقط أرضًا :
- أسفة.
تشبثت "ميان" بذراعيها بقوة في محاولة للحيل بينها وبين سقوطها الحتمي وهي تردد بأسي نادم لأجلها:
- انا اللي أسفة كنت خارجة مندفعة.
استدار "يامن" بمقعده لاستكشاف تلك الهمهمات خلفه، لتشتعل نيران غضبه وتندلع ثورتها حينما صفع سطح الطاولة أمامه بيده وهو يهب من مقعده صارخًا بها بقوة:
- انتِ إيه اللي جابك هنا تاني؟
ارتجف جسد "صافي" بقوة بين يدي "ميان" وانهمرت عبراتها أنهارًا متدفقة وهي تغمغم بفزع جلي:
- أسفة بس والله هموت وأشوف ابني.
أشهر "يامن" سبابته في وجهها بغضب جامح وهو يأكل المسافة الفاصلة بينهما بخطوات قليلة هاتفًا بها بتحذير صارم :
- قولتلك مليون مرة مالكيش ابن.
ألقت بجسدها أرضًا تحت أقدامه، وانهالت على حذائه بقبلات متوسلة وهي تردد بتذلل منكسر:
- أبوس رجلك تخليني أشوف ابني أبوس رجلك.
كانت "ميان" تراقب هذا المشهد بأسى وألم نخر روحها المشتاقة، فقد باتت ترى نفسها بهذا الموضع تحت أقدام "مُهاب" لتنهمر دمعاتها بغزارة وتتعالى شهقاتها تدريجيًا حتى انتفض جسدها بقوة من إثر تلك الركلة التي ركلها "يامن" لـ "صافي" ليبعدها عنه صارخًا بلامبالاة:
- دموع التماسيح دي ما عدتش بتأثر فيّا.
اصطدم جسد "صافي" بأقدام "ميان" التي اندلعت ثورتها إليه، لتخطو نحوه دافعة إياه للخلف بكلا يدها صارخة به :
- انت كده شايف نفسك راجل؟ إنك تستقوى على ست ضعيفة تبقى كده راجل؟ إنك تحرمها من أبسط حقوقها إنها تضم ابنها لحضنها وتشم ريحته تبقى كده راجل؟..
دفعات متتالية من يدها لصدره بقوة تحت نظراته الذاهلة والتي كانت تضج بصرخات عجز جوفه عن تحريرها، بينما هي أكملت اتهاماتها المستنكرة بصراخ قوي ونحيب أقوى أصابه بالدهشة والاستنكار:
- ليه بتستقواعلينا؟ ها.. ليه ايدكم دايمًا سابقة لسانكوا ؟ ليه دايمًا مُطالبين إننا نرضى بالذل والإهانة دي؟ ليه بعد ما نديكم قلبنا ونخلص في حبنا تخونوا، وتكسروا، وتذلوا... ها.. ليه؟... ليه نتحرم من أغلى حاجة في حياتنا والسبب غروركوا وقذارتكوا... رد عليا.
نظرات نارية تطاير لهيبها من أحداقه، صرخات قلبه المدوية أسفل يدها تدفعها بعيدًا، أنفاسه المحتقنة بنيران الصدمة تُصهر خلاياه، لينفث أخيرًا كل هذا وهو يقبض على معصميها بيده بقوة، معتصرًا إياهما بلاوعي قبل أن يدفعها نحو "صافي" بكامل قوته ويهرول مغادرًا غير مكترث بصرختها المتألمة.
*******
بأحد المقاهي العامة بولاية نيوچيرسي، كان "مُهاب" يجلس أمامها بارتباك جاهد كثيرًا لوئد معالمه وهو يتجرع زجاجة من الجعة الباردة والتي ضاعفت من رجفته فأصبحت واضحة للعيان، لتسترخي هي بمقعدها واضعة ساق فوق الأخرى كاشفة عن خنجرها الذهبي المغمد حول فخذها النحيف كنحافة باقي جسدها، لتتسع أحداقه صدمة وهو يسعل بقوة طاردًا رذاذ ذلك المشروب الذي اقتحم حنجرته. ناولته تلك الحسناء ذات الشعر البني الطويل، والبشرة الحنطية المزينة بقليل من النمش حول أعينها البنية، وأنفها المدبب، منشفة ورقية وهي تردد مستنكرة :
- هدئ من روعك عزيزي.
تناول "مُهاب" منها المنشفة وبدأ يجفف بقايا المشروب من حول فمه مرددًا بتلعثم واضح:
- شـ.. شكرًا جزيلًا سيدة "ميشيل".
مالت بجذعها نحو الطاولة وهي ترفع يدها نحو فمه ممسدة شفته السفلية بطرف إبهامها بأنوثة مفعمة، ليرتجف كامل جسده ويهب من مقعده ساكبًا ما تبقى من مشروب على بنطاله، لتتعالي ضحكاتها الساخرة وهي تردد مستنكرة :
- ما بك يارجل؟! فأنا اُزيل بقايا المشروب العالقة بفمك.
بدأ "مُهاب" ينفض بقايا المشروب عن بنطاله بارتباك جلي وهو يردد بارتجافة قوية:
- لا عليكِ سيدتي، أنا بخير.. ائذني لي بالرحيل.
هبت "ميشيل" بشكل فجائي وعلامات السخط قد تملكت منها، لتقبض على تلابيب قميصه بيدها وتجذبه نحوها هاتفة به باستنكار :
- ارتباكك هذا يُثير شكوكِ التي وإن تأكدت فسوف أدق عنقك حينها.
ازدرد "مُهاب" ريقه بتوتر قوي وهو يحمحم محاولًا فرض سيطرته على زمام الأمور حتى وإن كان بالكذب:
- أنتِ سيدة مثيرة للحد الأقصى يصعب معك السيطرة على النفس، كما أنك تمتلكين زوجًا لو لمح مني مجرد نظرة إعجاب نحوك لدفنني بأرضي، فأي ثبات هذا الذي يجب أن أتحلى به؟!
ضيقت "ميشيل" عيناها قليلًا بتفكير سريع، لتمط فمها بلامبالاة محررة تلابيبه وهي تربت على كتفه برقة مرددة بسخرية فظة:
- يبدو أنك صيت فقط يا رجل وحكايا النسوة عنك كلمات تذهب أدراج الرياح بأروقة نيوچيرسي أو أنك تختار فتيات حديثة العهد.
ألقت جملتها الأخيرة وهي تغلق إحدى عينيها بمكر شديد، ليهتف هو بهدوء جاهد لتحلى به :
- أفضلهن غير متمرسات.
وزفر زفرة حارة أتبعها بكلمات جادية قبل أن يرحل :
- أوراق القضية اكتملت والجلسة على وشك تحديد موعد عاجل لها أراكِ غدًا بمكتبي ومعك كل المستندات والأوراق الخاصة بملكيتك لنصف ثروة زوجك.. سلام.
شردت "ميشيل" قليلًا بالفضاء أمامها، لتتنهد بقوة ملتقطة حقيبة يدها قاصدة سيارتها المدججة برجالها الأشداء.
********
بمكتب "يامن"، كانت "ميان" تحاوط كتفي "صافي" بذراعها مربتة على يدها المرتجفة بيدها الأخرى في محاولة منها لتهدئة روعها، وبث بعض الأمان والاطمئنان لقلبها المعذب لفراق صغيرها وهي تردد بود حانٍ:
- اهدي لو سمحتِ إن شاء الله هتشوفي ابنك وتتطمني عليه أنا حاسة بيكِ، وحاسة بوجعك ده لأني عيشته ولسه بعيشه.
رمقتها "صافي" بنظرات متوسلة وهي تُزيل بقايا عبراتها المتشبعة بها وجنتيها مرددة باستجداء:
- أرجوكِ تساعديني أنا لو ما شوفتش ابني هموت.
حركت "ميان" رأسها باستفهام فضحته عيناها وهي تردد : - طب أنا بإيدي إيه اعمله، وأنا مش هتأخر.
ازدرت "صافي" ريقها بتوتر قوي وهي تردد بضعف شديد:
- تساعديني أقابل "يامن" تاني بس يكون أهدا من كده ، انتِ ما تعرفيش إحنا كنا بنحب بعض إزاي.. وإزاي ما كناش بنقدر نبعد عن بعض، بس هو من بعد اللي حصل لـ "آدم" اتغير بقا إنسان عصبي سريع الغضب، وبقا يمد ايده عليا زي ما شوفتي كده..
كانت تراقب انفعالات وجهه "ميان" المتألمة بانتصار دفين، لتستطرد بنبرة أكثر تأثر وألم :
- أنا عارفه إنه بيعمل كل ده عشان ما يضعفش قدامي ومتأكدة إننا لو اتكلمنا بهدوء مع بعض هيرجعلي "يامن" اللي حبيته.. "يامن" اللي كان كل همه في الحياة إزاي يسعدني ويعبرلي عن حبه.. "يامن" اللي كنت أنا وابنه كل حياته.. بمساعدتك دي هترحمي قلب أم وهتنقذي طفل من حرمانه من حضن أمه.
تمردت عبرات "ميان" بغزارة أقسمت على ألمها لأجل تلك الـ "صافي"، لتردد بكلمات أغرقتها عبراتها في بحر من الأسى : - قوليلي أقدر أعمل إيه؟
انفرجت ابتسامة خفيفة بثغر "صافي" التي أردفت بمكر شديد :
- هقولك.
دمتم في أمان الله وحفظه
تعليقات
إرسال تعليق