القائمة الرئيسية

الصفحات

منك واليك اهتديت الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر بقلم زيزي محمد كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات


 منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 
بقلم زيزي محمد
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

رنين متواصل لعب فوق أوتار تماسكه، فبدا كالشارد تمزقه الحيرة إربًا، لا يجيد اختيار الخطوة التالية يخشى تصرف مجنون نابع من عاطفته المتأججة التي باتت تتدفق بشكل لا يمكنه فرض سيطرته عليها، حتى الشوق لم يتركه في حضرتها ورسم خيوط الهيام والغرام فوق ملامحه وخاصةً حين تتقابل نظراتهما للحظات تبدو وكأنها معركة من الحنين، زفر بخفة يفكر مع نفسه بتروٍ، هل يستمع ليزن خبير الفتيات، أم يترك نفسه لعاصفة الحب تفعل به ما تشاء ولكنه يخشى فقدانها بالأخير، لن يسمح بذلك حتى ولو في مخيلته، لقد سكنت خلاياه وتمكنت من فرض نفسها على كيانه حتى أصبح منساق خلف كل رد فعل يصدر منها يهيم بها حبً حين تبتسم ويعبس بقلق حين تطلق تنهيداتها الحزينة للهواء ناهيك عن عينيها الجميلة التي لم تفارقه حتى في أحلامه تصاحبه دومًا تذكره بصاحبة أجمل عينين،...آه منها ومن كل تفصيلية صغيرة بها، هل يعقل جاذبيتها تصل لهذا الحد؟ هل يعقل اجتذابه نحوها وكأنها مغناطيس تسلب إرادته وتعقله دون عناء منه؟ 


-أنت يا بني، اتصل تاني.


صدح صوت يزن الحانق من أخيه وشروده الدائم، فهتف زيدان بحيرة مزقت تفكيره:


-اروحلها أحسن؟


ضغط يزن فوق أسنانه في غيظ:


-يعني بذمتك عايز تروحلها بأنهي وش، بعد ما ركبتها البوكس يا قادر.


زفر زيدان بنزق قائلاً:


-يووووه، قولتلك يا ابني محمود فهمني غلط والشبكة قطعت..


بتر يزن حديثه في حزم مردفًا:


-خلاص عرفت، بس دا ميمنعش انك غلط، وبعد كدا اسمع كلامي ومتجودش من دماغك.


استدار زيدان بكامل جسده نحوه ودفعه نحو باب السيارة قائلاً بعصبية امتزج فيها الغيظ لوقوعه تحت رحمة ذلك الوقح عديم التربية:


-انزل ياله من العربية، أنا أساسًا غلطان أني بحكيلك.


تشبث يزن بالمقعد هاتفًا بمزاح مشاكس:


-انزل واسيبك تعك الدنيا، يا ابني  احنا هنعمل فرح يوم ما تتجوز وتغور في داهية من البيت.

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

قبض زيدان فوق مرفقه جاذبًا إياه نحوه والتهديد يملئ حروفه:


-عارف لو محترمتش نفسك هعمل فيك إيه؟


ابتسم يزن بسماجة:


-إيه؟


وقبل أن يجيب صدح رنين هاتفه  سارقّا انتباههما معًا، فمال زيدان بنصف رأسه يطالع اسم المتصل وجدها هي..أيعقل؟! مليكة تجري اتصال به بهذه البساطة، لقد ظن أن طريق الوصول إليها طويل وسينقطع أنفاسه به ولكنه كان مستعدًا بكل حماس رغم أخطائه الفادحة، ترى ما الذي حدث حتى يقتصر بينهما بهذا الشكل؟

استفاق من شروده اللحظي على أصابع يزن المتحركة أمامه بينما صوته يعلو بحماس:


-رد على المزة بسرعة.


وقبل أن يجيب زيدان رمق أخيه بنظرة محذرة فهمس يزن وامتهن صفة التهذيب عاقدًا ذراعيه أمامه وكأنه طفل في السابعة من عمره:


-قصدي أبلة مليكة.


هز زيدان رأسه بيأس وابتعد عن يزن المقترب منه يحاول استماع الحديث، فهمس زيدان بشراسة:


-ابعد يا حيوان.


-بتقول حاجة يا زيدان؟


جاءه صوتها المتسائل بعدم فهم، فتراجع يقول بخشونة:


-لا دا عيل مالوش لزمة بهزقه.


رفع يزن حاجبيه معًا بضحك والتزم الصمت بينما غرق زيدان في الحديث معها حين سرقت انتباهه بنبرة حزينة خالطت الانكسار وهي تسأله:


-اتصلت عليا؟


استدار برأسه نحو يزن، فشجعه الأخر محركًا شفتيه بهمس:


-اعتذر يا ابني.


حمحم زيدان بخشونة ثم أردف بنبرة حاول إظهار فيها الندم:


-أنتي لسه زعلانة مني؟


-لا.


إجابة مقتصرة سريعة عقبت بها ومن بعدها صمتت ولكن أنفاسها السريعة أثارت القلق لديه فسألها برفق ولطف:


-مالك أنتي كويسة؟


صمت طويل أشعل حواسه والجم لسانه ولكن تنبيهات يزن بحديث ما بالقرب من أذنيه جعله يردد دون وعي:


-ينفع اقابلك ونقعد مع بعض شوية؟


بعد ثواني أدرك زيدان ما قاله فتوسعت عيناه بصدمة ضاغطًا بيده فوق ذراع يزن، تزامنًا مع إبعاده للهاتف عنه:


-يا حيوان هترفض، ليه قولتلي كدا؟


ولكن صوتها الذي اخترق مسامعه رغم ابعاد الهاتف عنه اصابه بانشداه:


-تمام.


زحفت الصدمة فوق ملامحه حتى أنه خانته كلماته ولم يستطع تجميع جملة مفيدة وبعد محاولات باءت بالفشل استطاع أخيرًا  استعادة استيعابه ورد بعدها بثبات:


-خلاص هقابلك في *****.


أغلق الهاتف بعد أن تأكد من موافقتها ولم يعقب بأي جملة، بقي صامتًا لفترة حتى قطع شروده يزن الهادئ:


-بعد اذن سعادتك نتحرك ورانا معاد.


التفت زيدان برأسه يرمق أخيه باندهاش بات واضحًا ثم كرر بعدها:


-ورانا..حرف النون دا جه منين؟


سأل بسخرية فرد يزن بتهكم:


-هو أنا اهبل عشان اسيبك تعك الدنيا، لازم اكون موجود الحقك.


-تلحق مين، هو أنت هتاخد عليا ولا إيه؟!


أومأ يزن بإصرار مردفًا:


-هروح معاك، أنت احتمال تنيمها في الحجز النهاردة، والله مش مضمون وتعملها.

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

حدجه زيدان بشر، فسارع يزن بالحديث:


-بص مش هتحس بيا، هقعد بعيد خالص.


بعد لحظات من التفكير زفر زيدان بقوة ثم تحرك بسيارته نحو الكافية المقصود، وبعد عدة دقائق متواصلة وصلا أخيرًا معًا في إحدى الكافيهات المطلة على النيل مباشرةً، وقف يزن بجانب زيدان وأردف من خلف نظارته الشمسية:


-انهي واحدة فيهم، عشان القمرات هنا كتير.


جذب زيدان أنفاسه محاولاً التمسك بأخر ذرة صبر لديه لتحمل يزن بتصرفاته الوقحة:


-اللي هناك دي.


دقق يزن بعينيه ومن ثم أبعد نظارته للخلف قليلاً قائلاً بمزاح قصد به إثارة غيرة أخيه:


-لا قمر..طلعت بتفهم زي أخوك.


تغاضى زيدان مشاكسته تلك وقال بتهديد لاذع:


-بقولك عارف الترابيزة اللي هناك دي روح واقعد عليها ومشوفش وشك خالص.


اندفع يزن بقوة لأمام وكاد أن يلتفت يستكمل حديثه مع زيدان الهمجي ولكن وجده قد تحرك نحو فتاة بسيطة في ثيابها تجلس بانكماش داخل مقعدها تخالف الأنثى التي رسمها بخياله، فمن خلال أحاديث زيدان عنها ورغم أنها مقتضبة إلا أنه استطاع تخيل أبعاد شخصيتها توافقًا مع شخصية أخيه صعبة المراس فهو يحتاج لأنثى تملك من القوة والصبر مقدار كافي كي تستطيع التعامل معه ورغم ذلك ملامحها الأنثوية جذابة بشكل يسلب لب الرجال وخاصةً نظرات الحزن الممزوج بالضعف التي استقبلت بها زيدان.

وجد يزن نفسه يتابع بخطواته اتجاههما دون أدنى اهتمام لتنبيهات زيدان الصارمة، حقًا قصة حب أخيه استطاعت سلبه قليلاً من عالم الفتيات وكيفية الايقاع بهن في شباكه والغريب في الأمر أنه لم يفشل مرة واحدة معهن فبدا كصياد ماهر يحالفه الحظ في كل مرة، ولكن الدور الذي وقع فوق عاتقه يجعله سعيدًا للغاية وهو يقدم مساعداته لأخيه وتحديدًا زيدان، دائمًا يشعر نحوه بمسؤولية رغم أنه يصغره.

                                         ***

حرك "زيدان" رأسه يمينًا تارة ويسارًا تارة أخرى في ملل يتابع حالتها الساكنة، ورغم أنها نجحت في سجن ملامحها خلف قضبان البرود إلا أن عيناها تكشف عما يدور بداخلها..هي تعاني في صمت لذا وافقت على لقائهما دون عناء منه.

نظف "زيدان" حلقه عدة مرات في محاولة لجذب انتباهها، ولكنها كانت تغوص في عالم أخر يتمنى سبر أغواره معها، خرجت تنهيدة ثقيلة منها ولانت ملامحها من الجمود إلى الحزن فبدت وكأنها تتحول بشكل تدريجي حتى امتلأت مقلتيها ببعض الدموع وهذا الأمر اقلقه فقال بنبرة قلقة:


-مالك يا مليكة؟


حولت بصرها نحوه وردت في صوت متحشرج:


-مفيش، أنا كويسة.


حرك العصير أمامها وهتف بنبرة حانية:


-طيب خدي اشربي العصير دا.


لم تتحرك ساكنًا بل ظلت على نفس موضوعها بذات النظرة المنكسرة، فزفر في حنق:


-قولي إيه اللي مضايقك؟


-أنت.


أجابت باندفاع تحاول الهروب من حصاره المفروض حولها، حتى أنها استكملت قائلة في هجوم شرس:

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

-أنت عايز إيه مني؟، خليك في البنات بتاعتك، راجع تاني بعد إيه؟


ثبت بصره عليها لثوان يحاول استيعاب غضبها غير المبرر:


-أنتي بتكلميني أنا؟


أجابت في استهجان:


-أيوا.


ومن بعدها ثبتت بصرها المتهكم فوق خاتمه، وبعد لحظة من الادراك صاح بابتسامة واسعة مشيرًا نحوه قائلاً:


-اه قصدك دا؟


اكتفت بالصمت حتى عيناها ساندتها ولم تعبر عن أي شيء أخر، فخلعه زيدان سريعًا وألقاه بجواره في المياة ببساطة أدهشتها فيما بعد:


-لو دا اللي مضايقك يبقى بلاش منه.


فتحت فمها وحاولت التحدث:


-أنت..أنت قولت أنه..


-ثواني حضرتك انتي؟


قطع حديثها شاب لم تعرفه من قبل كان يجلس بالطاولة المجاورة لهم حيث أن مقعده كان يقع خلف مقعد زيدان، والغريب في الأمر أن زيدان كان يتعامل ببرود أدهشها فتنقلت ببصرها بينهما في تعجب، وذلك حينما أردف الشاب في غيظ:


-أنت رميت حاجة في المياه دلوقتي؟


رد زيدان في تبجح:


-بجد مخدتش بالي، يمكن.


عض يزن فوق شفتيه السفلية وقد احمر وجهه في غيظ تزامنًا مع نظرات تهديد اخترقت زيدان الجالس ببرود وابتسامة لزجة تحلق فوق ثغره، فخرجت نبرة يزن حانقة خشنة:


-يعني مش هتنط في المياه تجيبه دلوقتي، يمكن حاجة غالية ولا حاجة.


حرك زيدان رأسه بنفي وأردف بسماجة:


-لا حاجة عادية، اقعد انت واهدا.


-ماشي.


قالها يزن في نبرة مكتومة والتفت بجسده يصيح للنادل:


-لو سمحت قهوة سادة.


زفر بغيظ وهمس بشر:


-هشربها على روحك يا زيدان، بس لما نروح.


اقترب زيدان بجسده نحو الطاولة، محاولاً جذب انتباه مليكة مجددًا بعد أن امتلأت عيناها بالأسئلة:


-انت تعرفه؟


حرك زيدان رأسه في نفي مجيبًا:


-لا معرفوش، سيبك منه..واحد متطفل.


هزت رأسها بتفهم وعادت تردف في تبرير:


-لا هو مش تطفل، أنت رميت الخاتم فجأة، أنا نفسي استغربت، أصل أنت قولت أنه...


بتر حديثها بنبرة يملأها الحب الصادق:


-سيبك من اللي قولته قبل كدا، أنتي أهم حاجة عندي، وأي حاجة تانية شكليات اقدر استغنى عنها.


كيف استطاع سرق كل ذرة انتباه لديها بهذا الشكل؟ أين راحت حصونها؟ هل أصبحت واهية من مجرد اعتراف بسيط لمشاعره؟

وبعد لحظات بسيطة همست بتساؤل طغى عليه الضياع وكأنه محاولة فاشلة لإيجاد سبب للعراك معه أو اثبات سوء نيته:


-أنت عايز مني إيه بالظبط؟ 


وقبل أن يفتح فمه استكملت حديثها بصراحة:


-لو كنت مستني نرجع زي زمان تبقى غلطان، مليكة بتاعت زمان هي هي دلوقتي متغيرتش..


-قصدك أيه؟


سألها في تريث دون أن يوضح حقيقة مشاعره، فردت في حنق من بروده وتلاعبه الظاهر لها:


-يعني السبب اللي انفصلنا عنه زمان أنا لسه متمسكة به عشان هو مبدأ..عن اذنك.

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

نهضت سريعًا قبل أن تنفجر به هو الأخر، يكفي ما حدث بالصباح وكتمانها لمشاعرها حتى الآن..وقبل أن تتحرك بعيدًا عن الطاولة استوقفها رده الهادئ ونظرة عينيه الشغوفة:


-شوفي معاد مناسب اجي اخطبك فيه من جوز..


حمحم بخشونة وابتسم بتهذيب:


-اخطبك من أستاذ مصطفى.


الأمر كان مفاجئًا لديها، كانت تسعى فقط للهروب من حصاره ولكنه فاجئها بطلبه ذلك، فلم تعقب لم تبدي حتى أي رد فعل، اكتفت فقط بنظرة مطولة نحوه ومن بعدها تركته وغادرت، فكاد يتحرك خلفها إلا أن يزن أردف سريعًا برزانة:


-اقعد يا ابني، رايح فين؟


-دي مشيت وسابتني كدا من غير أي رد.


قالها زيدان بتعجب، فواصل يزن حديثه بتهكم:


-أنت مستغرب كمان، في حد يا بني أدم يطلب طلب زي دا بالطريقة دي!


انفجرت الدهشة فوق ملامحه وعقب:


-لا انت فاكرني بتاع ورد وانزل على ركبي واقولها تتجوزيني تبقى أهبل، دي لو موافقتش هضربها بالنار واخلص.


كور يزن قبضتيه في غضب والشر يتقاذف من عينيه:


-دا أنا اللي هقتلك لو مجبتش الخاتم حالاً.


تحرك زيدان باتجاه السور الحديدي ينظر من خلاله على المياه في ظل انعقاد حاجبيه بتفكير امتثاله كي يلهي يزن:


 -هو يا ترى راح فين؟


وقف يزن بجانبه ينظر هو الأخر بحزن وندم:


-دا أنا كنت بحبه وبتفائل به لما بنت بتعجبني، انت إيه يا أخي مبتحسش.


وضع زيدان يده فوق جيب سرواله ومن بعدها جذب هاتفه ووضعه فوق أذنه هاتفّا بجدية زائفًا:


-إيه مأمورية، عايزني ضروري لا لا ثواني واكون عندك.

تحرك متجاهلاً يزن المصدوم فحاول الأخر التحدث:


-أنت يا بني ممعيش عربية طب وصلني.

                                                    ***

اندفعت ميرفت لغرفة ابنتها دون استئذان، فتحت الإنارة ووجهها العابس ينطق بالكثير وقبل أن تتوجه للفراش توقظها، فتحت نهى عينيها بهدوء مميت وكأنها اعتادت على مثل هذا تلك الهجمات.


-كويس انك صاحية يا اختي.


نظرة أخرى قصيرة رمتها نهى باتجاه والدتها، لم تستطع ميرفت تفسيرها ولكنها تجاهلت تغيرات ابنتها الجديدة وقالت بشراسة:


-رايحة تكلمي ابوكي عشان تسافريله وتتحايلي عليه؟


لم تعقب اكتفت بالصمت وكأنه طريقة جديدة مريحة اكتشفتها للتعامل مع والدتها، بالإضافة إلى نظرات الخذلان التي انبثقت من عينيها رغمًا عنها وكالعادة تجاهلتها والدتها بغرور.


-فاكرني هموت وتقعدي معايا، دا يا بركة يا جامع وابقى خلصت منك.


لم تسيطر على انفعالاتها بهذا الشكل من قبل، وكأن الصمت كان سلاح كفيلاً للأخذ بثأرها من ميرفت التي صاحت بانفعال وفقدت نبرة السخرية وأصبح الغضب يتملك منها بشراسة:


-ما تنطقي يا بت ولا دا نظام جديد عايزة تمشيلي عليه.

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

كما توقعت..والدتها تريدها تخر باكية تترجاها كي توافق على سفرها، لطالما كانت تتلذذ بضعفها  ورؤيتها هشة لا تجيد التصرف، تعشق تخبطها، لم تذكر مساعدتها لها قط، لم تجد يدها ممدودة يومًا لها بل كانت تجد السخرية والإهانة في انتظارها وبعد تفكير طويل ومحاولة لمساعدة ذاتها لتخطي عواقبها التي اكتشفت مؤخرًا أنها لم تتمثل في زيدان فقط وجدت هذا الحل، مجرد تجاهل ظاهري وإبداء عدم الاهتمام عله يكون رد فعل مناسب لِمَ تفعله والدتها.

انتفضت بفزع حين صرخت والدتها بغضب عارم:


-انطقي يا بت، هو أنا هشحت منك الكلام بالعافية!


حاولت إخراج نبرتها ثابتة بقدر الإمكان دون إذلال نفسها حيث سئمت من ذلك الشعور المخزي والمؤلم:


-عايزة اسافر لبابا.


لم تفهم ميرفت اهو رجاء أم مجرد إخبارية تلقيها نهى ببساطة عليها، اكتفت بالنظر طويلاً لابنتها تحاول اكتشاف ما الجديد الذي طرأ عليها ولكنها فشلت حيث ابتعدت نهى ببصرها بعيدًا واكتفت بملامح مبهمة رسمتها فوق وجهها، فاستمعت لصوت اقدام والدتها ويبدو أنها تقترب فسرت رجفة في جسدها تخشى صفعة قاسية من صفعات والدتها فبدت كالجرو الصغير وهي تنكمش أكثر داخل الفراش، تنتظر رد فعل قد يقسم هيكل الثبات الواهن التي كانت تتمسك به.

-ابوكي كان رافض، بس أنا بقى وافقت عارفة ليه؟

حركت عيناها باتجاه والدتها القريبة منها حيث كانت تنحني بنصف جسدها العلوي نحوها:


-عشان عايزاكي تعرفي ابوكي واخوكي بيعملوا إيه هناك، قلبي مش مطمن.


عقدت نهى حاجبيها بتعجب لم تتوقع أبدًا ما تخبره إياها والدتها، فصاحت الأخرى بضحكة ساخرة:


-انتي فاكرة هوافق عشان سواد عيونك، لا...محدش يفرض عليا حاجة وكله بمزاجي.


صمتت ولم تجد رد مناسب على هذه القسوة فضربتها والدتها بذراعها وضغطت فوق حروفها فبدت غليظة معنفة:


-كله إيه؟


همست نهى بألم وبدأت الدموع تغزو مقلتيها بعد محاولات عديدة في منعها ولكن ضعفها فاق قوتها الزائفة:


-بمزاجك.


اعتدلت ميرفت بابتسامة واسعة شاعرة بارتياح شديد ومن بعدها قالت وهي تتجه صوب باب الغرفة:


-هبدأ اخلص الاوراق جهزي نفسك.


اغمضت نهى عيناها وحركت جسدها بالفراش استعدادًا للغرق في النوم كطريقة مريحة للهروب من واقع أصبح يزيد من خنقها، ولكنها توقفت فجأة حين صدح صوت والدتها بتساؤل:


-كلمتي زيدان ولا لسه؟


حركت رأسها بنفي ولم تستطع التحدث كي لا تواجه سخرية قاسية من والدتها يكفي ما حدث وما يحدث معها.

                                           ***

في المساء..

طرقت مليكة باب إحدى غرف تبديل الملابس بالمشفى ودخلت بعدها في صمت تلقي ابتسامة في وجوه الجالسين ثم اتجهت مباشرةً صوب خزانتها تفتحها تجذب هاتفها منها وكعادتها منذ الصباح ملامحها باهتة خالية من معالم الحياة، صامتة أغلب الوقت، تخفي مشاعرها عن الجميع أو ربما هي تريد تجاهلها مؤقتًا، فلم يعد لديها مساحة كافية لخوض صراع أخر قد يجذبها نحو الحضيض فما مرت به منذ الصباح كفيل بإدخالها حالة من الضياع النسبي حتى طلب زيدان بخطبتها لم تعطي لنفسها فرصة للتفكير به أو حتى مجرد السعادة به، بل سمعته وكأنها تستمع لنشرة أخبار عادية ومن بعدها فرت هاربة منه ومن نفسها.

انتبهت على حديث بعض الطبيبات الجالسين في الغرفة من أجل استراحة قصيرة..

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

-أنا متأكدة أصلاً دكتور عبد الله عارف ماجد على أيه.


اتسعت عيون الأخرى في ذهول:


-والله كنت عارفة أنه حقير ما هو الحنية دي مش جديدة على إيه.


أكدت الأخرى بثقة:


-طبعًا يا بنتي دي فلوس كتيرة يسيبها لأخواته بالسهولة دي لازم ياخدلها اجازة مفتوحة.


هنا ادركت مليكة جزء من حديثهما ولكن الفضول المتعلق بأمر ما تعانيه جعلها تستدير في ثبات رغم زعزعة ثقتها تقول في ابتسامة مهزوزة:


-معقولة اخد اجازة مفتوحة؟


عادت الاولى تردف بسعادة:


-اه ابوه بيموت وهو قاعد يطمن عليه...


صمتت قليلاً ثم عادت تضحك بصوت مرتفع:


-قصدي على الفلوس والميراث.


حركت مليكة رأسها بإيجاب وحاولت الابتسامة أكثر ولكنها فشلت وما انقاذها هو خروج زملائها من الغرفة بعدما انتهى وقت راحتهما وبقيت هي وحدها تقع فريسة لخطأ لم تقترفه حتى فكرة الهروب منه أصبحت مستحيلة بعد ان قامت منذ يومان اللجوء لأحد الاطباء وطلب مساعدته في تسهيل إجراءات نقلها لمشفى آخر ولكنه اعتذر وبرر أسبابه أن الملف الخاص بها يوجد به توصية خاصة من " ماجد" وهو لا يملك نفس سلطته.

ارتفع رنين هاتفها يجذبها من بقعة التفكير التي أصبحت مرهقة  أكثر من قبل، نظرت لشاشة الهاتف بعد أن اضاءت باسم " بابا مصطفى" وهنا انتقل تفكيرها جبريًا لأمرٍ كانت تحاول منذ الصباح تجاهله، وكأنه اصابها حالة من الرفض...عدم التصديق لِمَ سمعته، بالإضافة لإحساس رهيب بالذنب يحوم حولها كاللص سارق جزء من سكينتها، لا تعلم لِمَ تشعر به من الأساس، هل ربما لوجودها معه فامتنع عن تحقيق احلامه، تخشى تلك النتيجة..تحاول رفضها وكأن مسامعها أخطأت منذ البداية ولكن نيرته حينها وهو يفكر بها وبأمر موافقتها على زواجه مزقتها..آلام غزت روحها وزادت من حيرتها ومع تواصل الرنين وقعت في بؤرة الرفض لا تريد التحدث الآن حتمًا سيدرك ما تعانيه، لم تتغير يومًا معه سيقلق كثيرًا وربما الأمر يتصاعد ويصل لمواجهة هي تخشاها.

أجابت بعد فترة بنبرة حاولت إظهار التماسك بها:


-الو.


-مليكة أنتي فين دا كله؟


امتنعت عن البكاء بصعوبة وقالت:


-روحت المستشفى...


ومع اهتزاز نبرتها رغم عنها عادت تحاول التماسك أكثر:


-مروحتش لصاحبتي.


ظهر بحة حزينة في صوتها فأقلقته ودفعته بسؤال:


-مالك أنتي كويسة؟


أصابها التلعثم لأول مرة  وهي تجيب:


-آآ..اه كويسة، عايزني برة ضروري سلام.


أغلقت الهاتف دون ان تستمتع له ومن بعدها انفجرت باكية تسمح لدموعها بالتعبير عنها، فانهمرت بغزارة فوق وجنتيها تشكل أخاديد تظهر مدى الوجع التي تشعر به، لقد كان الأمر كله يشبه ضربة سكين حاد في منتصف صدرها فانشق لنصفين...نصف يتألم ونصف فقد روحه وبالنهاية بقيت هشة ضعيفة لا تجيد التصرف بطريقة سليمة في كل ما يؤرقها وكعادتها تلجأ للهروب كحل مؤقت لا تعلم متى تتخلى عنه وتواجه مخاوفها.

طرق الباب هو من منعها في استكمال مواجهة مشاعرها، مسحت دموعها سريعًا بمناديل وتأكدت من عينيها ولكن ملامحها لم تسيطر عليها بل فشلت في إعادتها لقوقعة الحزن الخفي، اكتفت بتجفيف دموعها وفتحت الباب تستقبل الطارق وما إن رفعت عينيها حتى أصابتها الدهشة من وجود زيدان أمامها، حتى أنها ظنت أنه خيال أو وهم يحاول جذبها من بقعة آلامها ولكن صوته الساخر جعلها تستفيق:

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

-ايه مش هتقوليلي اتفضل.


خرج صوتها المذهول يصدمه:


-زيدان أنت بتعمل إيه هنا؟


ابتسم نصف ابتسامة قائلاً بسخرية:


-هكون بعمل إيه جاي اكشف مثلاً.


تجاهلت سخريته وردت بجدية مهزوزة بها لمحة من العتاب:


-دي مش غرفة للكشف، كدا ممكن حد يفهم غلط.


اتسعت ابتسامته مردفًا بمزاح قاصدًا مشاكستها لتخفيف عنها ربما تعاني من ضغط ما:


-ياريت والله هرتاح واتجوزك على طول.


زحف الخجل نحو وجنتيها فاحمرت وبدت كحبة الفراولة في أوج نضجها:


-آآ...إيه اللي بتقوله دا، لو سمحت امشي.


تمسك بمقبض الباب واضعًا قدمه أمام الباب نفسه يمنعها من إغلاقه بوجهه ورد في إصرار:


-لا ما هو أنا مش همشي قبل ما اعرف ردك على كلامي.

تلعثمت بارتباك:


-رر..رد إيه؟


دفع الباب بقوة بسيطة منه، فتراجعت للخلف عدة خطوت في حنق طفيف واستغل هو ارتباكها بسبب حضوره الطاغي عليها ودخل الغرفة مغلقّا الباب خلفه لفرض حصاره الكامل عليها فلا مجال للهرب مجددّا:


-اممم أنا فهمت عايزني اجيب بوكية ورد او اطلع على شجرة وكلام البنات الفارغ دا صح؟!


انتهت نبرته باستهجان واضح، فاستمرت بالنظر إليه نظرات مبهمة منتقلة بينه وبين الباب  المغلق خلفه، فاستكمل مشيرًا نحو عنقه:


-أنا خلقي ضاق يا مليكة من لعبة القط والفار اللي انتي مصرة عليها.


-يعني تعبت! طيب ريح نفسك وخلاص.


ردت في نزق من طريقته في عرض الزواج عليها ولكنه فاجأها برده المستفز:


-ايوا الله ينور عليكي نريح نفسنا ونتجوز.


ابتعدت خطوة أخرى قائلة بلامبالاة:


-أنا مش جاهزة للجواز اصلاً دلوقتي؟ لسه قدامي مستقبل.


-مفيش أحلى من مستقبلك معايا.


تحرك خلفها وهو يؤكد بثقة جعلها تستدير له بنصف جسدها ترمقه بطرف عيناها:


-طبعًا ظابط له وضعه وحلو وبيحبك عايزة إيه تاني من الدنيا يا جاحدة.


اقترابه منها جعلها ترتبك تحاول إيجاد طريقة للفرار من حصاره الذي أصبح يضيق عليها وكانت نتيجته انهيار حصونها واحدًا تلو الأخر وكأن قلبها يريد التحرر نحو سماء الحب فأعلن العصيان والتمرد:


-مش عايزة حاجة...أنا بجد مش عايزة حاجة غير...


قاطعها بنبرة هادئة عندما اقترب منها أكثر ينظر لوجهها مباشرةً يحاول إبعاد ذلك الحاجز الذي يعيقه من رؤية عيناها للكشف عما بداخلها:


-ايوا مالك في إيه من الصبح متغيرة.


هزت كتفيها سريعًا ببرود ظاهري بالغت فيه:


-أنا تمام يعني مفيش حاجة بس شوية ضغط.


ضيق عينيه وهو يهبط لمستواها يحرك يده أمامها يسألها في ترقب:


-يعني مفيش حاجة مضايقكي، حد عايزني اسجنه براحتك قولي..


رغمًا عنها ابتسمت فواصل حديثه بإصرار:


.-أنا بتكلم بجد على فكرة، هو اه ماليش خلق اسمع أي حاجة بس أنتي غير أي حد.


استعادت جزء بسيط من روحها المشاغبة فقالت:


-بتحاول تفرض نفسك عليا وخلاص.


أجاب بصدق أشعل مشاعرها بجنون:


-طبعًا ما هو أنتي مالكيش غيري.


رفعت رأسها تطالعه في صمت فأكد على حديثه بمكر:

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

-مش احنا في حكم المتجوزين.


كررت خلفه بتهكم امتزج فيه التعجب:


-متجوزين؟!


-طلبتك للجواز ولا لأ يبقى خلاص.


-وأنا موافقتش يبقى ازاي في حكمهم.


عاندته بإصرار ونست للحظات أنهما متواجدان وحدهما بالغرفة واندمجت في حديث له القدرة الكافية في بث الطمأنينة في قلبها وإخراجها من حالة الضياع التي وقعت بها:


-خلاص نمشيها مخطوبين.


سألته بغرابة وهي تحاول إيجاد سبب تغيره بهذا الشكل الكلي:


-أنت إيه غيرك كدا.


أجاب بصدق:


-عمري ما اتغيرت طول عمري معاكي غير مع أي حد.


بالفعل مشاعره دومًا معها صريحة يغدقها بالحب، يحاوطها بهالة من العشق تشعرها وكأنها فراشة تستمتع بأجواء الربيع، ها هي تشعر نفسها من جديد تحلق في ربيع حبهما ولكن عقلها لا زال يتمسك ببعض الذكريات التي رفضت التخلي عنها رغم تصديقها لمشاعره:


-بس متمسك بفكرة الارتباط الرسمي اللي انت رفضته زمان.


فبدت وكأنها تعاتبه، تلومه على تركه لها، على جراحه التي كانت تبكي بسببها ليلاً، فأجاب بوضوح ولكنه اقتصر فيه بعض الشيء كي لا يفتح جراحًا ماضية حاول تخطيها بعد لقائهما،  قلن يعود لنقطة الصفر سيكمل طريقه حتى يصل لمبتغاه المتمثل بها:


-كنت فاكر ان هقدر اخلص من حبك، مكنتش اعرف أنه بيمشي في عروقي.


-يعني عايز تفهمني انك كنت عايش على ذكريات..


اقترب منها أكثر ناظرًا في عمق عيناها وهمس بنبرة يملأها عاطفة الغرام:


-عمري ما فكرت في واحدة غيرك.


عادت خطوة للخلف بضعف وهمست بخفوت تحاول استدراك نفسها قبل الاعتراف بموافقتها:


-مع انهم كتير حواليك بما انك ظابط وكدا.


-بس أنتي غيرهم كلهم، ملكتي قلبي وعقلي أسرتيني ومبقتش قادر اقاومك.


صمتت ولم تجد رد مناسب سوى الاعتراف بعاطفتها المدفونة، ولكن الخجل انقذها ومنعها من ذلك فحاولت تجميع جملة واحدة مفيدة تظهر بها تمنعها:


-أنت...عايز..


اقترب خطوة أخرى يشير بإصبعه نحوها وعيناه تفيض بحنان محبب لقلبها لطالما يظهره لها فقط:


-عايزك ومش عايز أي حاجة تاني.


أصبحت نبرتها أضعف وأرق وهي تقول بخجل:


-مينفعش هقول لبابا مصطفى أيه؟


-لا دي سيبها عليا هقولك تقوليله إيه.

__________________

قراءة ممتعة

الفصل الثاني عشر.


بعد مرور أسبوع..

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

تقلبت مليكة في فراشها يمينًا ويسارًا تحاول تنظيم افكارها التي باتت تتدفق في جنون، فمنذ  أن أخبرها زيدان بطلبه لخطبتها وإصراره على ذلك رغم رفضها الظاهري وهي في حالة من التخبط الشديد، لا تنكر أن جزء كبير داخلها يهيم سعادة بذلك الخبر وجزء أخر ينبهها بما ينتظرها حيال قدوم ماجد في أي لحظة، وأخر يحاول اجتذابها نحو سر زوج والدتها الذي قد كُشف بالصدفة، فبقيت حائرة ما بين مشاعرها، تشعر بحماقة لا تجيد اختيار أي قرار يصب في مصلحتها، فأحيانًا تشعر بحاجتها الكبيرة في الهروب من كل شيء، تسعى نحو عالم لا يعرفها به أحد، في البداية ظنت بأن تلك الرغبة المُلحه هي الحل الأمثل لتنهي ما يؤرقها ولكن بعد تفكير عميق اكتشفت أنه ليس سوى حل ساذج لن ينهي شيء بل سيفتح عليها أبواب الجحيم ان قررت خسارة كل من حولها.

نهضت بنصف جسدها تضغط فوق شفتيها السفلية في غيظ تسأل نفسها الحائرة، إذا ما الحل؟ هل أمر زواجها من زيدان هو بمثابة إنقاذ كُلي من غدر ماجد؟ أم ستقع في هاوية الظلام وخاصةً أنها لا تتوقع رد فعله، فالأمر سيكون رهن التصديق أو لعنة الشك وهي بالتأكيد ستبقى معلقة بينهما بخيط رفيع تنتظر مصيرها.

 شعرت بتمزق خلايا عقلها في الآونة الأخيرة لقد أرهقت ذهنها بالتفكير لساعات متواصلة حتى أثناء عملها لا تنقطع أبدًا عن محاولة إنقاذ نفسها، لن تنكر أن الأمر في البداية كان أهون لإعتقادها وجود  مصطفى بجانبها دائمًا ولكنها كانت حمقاء لا تدري بما يتمنى.. لقد تخلى عن حلمه من أجل الحفاظ عليها، وهي بكل بساطة كانت غافلة عن مشاعره المكتومة تجاه امرأة قد حُرم عليه الزواج منها بسبب اقامتها معه.

زفرت بتعب وهي تبعد الغطاء عنها تتجه صوب النافذة تفتحها على مصراعيها، تواجه من خلالها أشعة الشمس المشرقة عكس الظلام المحاط بروحها، تسمح لبعض ذرات الهواء العليل بالتسرب لصدرها الذي يعاني من تكدس مشاعرها حتى أنها للحظات كانت تشعر باختناق حاد وكأن جدران صدرها تنقبض على نفسها أكثر.. ولكن لوهلة أحست براحة بسيطة وهي تقابل ذلك الهدوء والراحة النفسية التي باتت يصعب الحصول عليها مؤخرًا وتحديدًا في ظل اصطدامها بعقبات أهلكتها وبددت من قوتها.


-بتفكري في إيه دا كله يا ست مليكة؟


استدارت بذعر وهمسة خرجت منها تتأرجح ما بين الهدوء والارتباك:


-بابا..


بترتها بخجل حين رأته يقف على أعتاب باب غرفتها يحمل اطباق الطعام:


-اه بابا يا ستي، يلا بينا علشان تفطري.


تحركت خلفه وهي تحاول التمسك بقناع الهدوء كي لا تشعره بشيء، هي حتى الآن لم تحدد ما ستفعله إن قررت الرحيل هل ستواجه أم ترحل في صمت دون إيذاء مشاعره لطالما كان لطيفًا ودودًا معها، يغدقها بأفضاله ونبع حنانه لا ينقطع بل يفيض بغزاره وكأنها ذات الطفلة اليتيمة التي تعلقت به فجأة بعد أن تذوقت قليل من الاهتمام منه،  لذا حاولت الالتزام بالهدوء حتى لا تحزنه، فهو لا يستحق منها سوى التقدير والاحترام.

جلست فوق مقعدها بالجهة المقابلة له على طاولة الطعام الصغيرة وبدأت في تناول طعامها بهدوء أثار انتباهه وتحفظه، فانتظر دقائق يرمقها بتفكير يحاول فهم ما يدور بداخلها ولكنه فشل فهتف بتساؤل:


-مالك يا حبيبتي مبتاكليش ليه؟


مضغت الطعام في هدوء وهتفت بصوت لازمه بحة مجهدة:

-باكل اهو.


-انتي زعلانة مني في حاجة؟


توقف الطعام في حلقها ورفعت عينيها ببطء مدروس تراقب انفعالاته في تروٍ قبل أن تجيبه وحين وجدت نفس ذات القلق الملازم له حين تتغير في معاملتها، هدأت وأجابت في رقة:


-لا طبعًا مش زعلانة منك.


ابتسم نصف ابتسامة لم تصل لعينيه، وهتف مؤكدًا وهو يهز رأسه:


-بالعكس يبقى أنا كدا اتأكدت انك زعلانة!


عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم، فهي لم تبدي أي رد فعل يثير انتباهه، ولكنها لا تدرك أنه أصبح يعرفها كما يعرف أصابع يده.

منك واليك اهتديت 
الفصل الحادي عشر حتي الفصل الخامس عشر 

-أنا حقيقي مش زعلانة يا بابا اطمن.


وكعادته التزم السكوت بغير رضا ونظر في طعامه مباشرةً يتظاهر بتناوله، لقد تعب مؤخرًا من محاولة فهم ما يكمن بداخلها، صمتها ذاك يقلقه، يؤرق قلبه المتعلق بها، فبدت في الآونة الأخيرة غريبة بشكل لم يعجبه ولم يستطيع التأقلم معه.

بينما هي تردد أمامها طلب زيدان لخطبتها وكالعادة تواجه صراع شرس بين قلبها المحبز لفكرة الارتباط الرسمي مغردًا بأهازيج الغرام والحب أما عقلها يلوح بحجم مصائبها.

خرجت تنهيدة مثقلة تعبر عن فشلها في حسم ذلك الصراع وخاصةً في ظل التوتر المحاط بها، رفعت عينيها في هدوء تراقب زوج والدتها المتظاهر لتناول طعامه، تحاول تخيل مصيرها معه بعد يوم أو يومان أو شهر..فالأمر بالطبع لن يطول كثيرًا وذلك بعد أن علمت بتعلق قلبه بإمرأة وضعت حدًا لزواجهما بسبب وجودها..فإن قررت التغاضي عما يتمناه ستكون أنانية وهي تكره تلك الصفة...وإن تمسكت بما تميل إليها نفسها وقررت الرحيل حتمًا ستواجه صعاب الله وحده يعلم مدى بشاعتها..

مجددًا يقطع عليها مصطفى التفكير بقوله الحازم:


-في إيه ومتكذبيش.


أنهى حديثه بتحذير لاذع أشعل في بقايا الصمت الملازم لها فقالت باندفاع وكأنها لا تعِ حجم ما تسترسل فيه بكل بساطة:


-في واحد عايز يخطبني.


في البداية لم تشعر بشيء وبعد فترة من الصمت أدركت مدى تهورها، كم تمنت حينها العودة فيما قالته بكل ساذجة مفرطة منها، ولكن لا رجوع فيه بعد أن لاحظت نظرات مصطفى الطالبة بتوضيح أكثر، فلبت طلبه دون أن يخرجه علنًا:


-فاكر الظابط اللي كان في القسم..


لحظات من الصمت القاتل تحاول تفسير ما يفكر به ولكنها فشلت فاكملت بنبرة ثابتة أخفت فيها لمحة الارتباك الملازم لها مؤخرًا:


-اعجب بيا وعايز يجي يتقدم.


احمر وجهها خجلاً وهي تخبره بذلك الأمر، تحاول تذكر ما أخبرها به زيدان ان قررت اخبار زوج والدتها بطلبه لخطبتها.


-وهو شافك فين؟


جذبت نفس عميق وهي تسترجع كلمات زيدان المرتبة تستعيد بها بعض الثقة كي تستطيع استكمال أولى خطواتها في قرار الرحيل ولكن بكل تهذيب ودون إيذاء مشاعر زوج والدتها الغالي الذي سيظل هو أبيها وصاحب الفضل في كل ما وصلت إليه.

                                                ***

بعد مرور عدة ساعات..


وصل زيدان أمام البناية التي تسكن بها عمته، صعد للطابق المنشود ومن ثم قرر مواجهة نهى مباشرةً لإنهاء خطبتهما المزيفة تلك، فلم يعد يطيق صبرًا لاستكمال أمر كان خاطئًا منذ البداية..لذا قرر اخبارها باتفاقه مع عمته وحجته في الموافقة على مثل هذا الشيء وتفسير سبب معاملته لها.

لا شك أن الشفقة لعبت دور هام في تأجيله لمثل هذه الخطوة، وذلك لعدم تحسن حالتها النفسية، فلا تزال تتعلق به ولا تدرك سبب معاملته الجافة بل كانت تزداد في إعطائه المبررات، والاعتذارات دومًا كانت من نصيبها رغم أنها لم تخطأ في حقه، ولكن نظرة الضعف الممزوجة بالألم التي كانت تلقيها نحوه كانت كفيلة بتوضيح ما تمر به من تقلبات نفسية حادة.

زفر بهدوء محاولاً ضبط انفعالاته فاليوم سينهي تلك المهزلة، لا مجال للاستمرار وخاصة هو على مشارف حياة جديدة يسعى بأن تكون واضحة دون شوائب أو أسرار قد تكشف وتهدم حجر الثقة بينهما.

قبل أن يدق الجرس وصله رسالة قصيرة من مليكة تخبره فيها 

" بابا مصطفى وافق يقابلك يوم الجمعة".

تحولت ملامحه من العبوس للسعادة واتسعت ابتسامته بحبور فبدا وكأنه تلقى جرعة حماس زائدة بثت فيه الروح بعد أن كان جسده خاملاً يفتقد لشغف، تشجع حينها بحماس أكبر وأحس بضرورة إنهاء لعبة بُنيت على الكذب ولكن حينها كان غرضه نبيل من أجل انقاذ نهى وما يفعله حاليًا من ضرورة أخبارها بحقيقة مشاعره تجاهها وأنها لم تتعدا كونها أخته فقط يعود لمصلحتها وستدرك هي أهمية موقفه فيما بعد.

وضع الهاتف بجيبه ودق الجرس مستعيدًا بعض من لمحات الجمود..بعد ثواني فتحت الخادمة ويبدو أنها لم تندهش لوجوده بل كانت كمن ينتظر مجيئه، فرمقها بهدوء سائلاً بصوت أجش:


-نهى موجودة؟


لم ترحب به ككل مرة، بل كانت تتعامل برسمية بحتة في إخباره بشيء أصابه بالصدمة والغضب في آن واحد:


-لا سافرت.


-نعم؟!


كرر خلفها في استهجان ثم استكمل حديثه:


-سافرت فين؟ وازاي معرفش؟


كانت الإجابة على اسئلته من نصيب ميرفت التي تقدمت للباب بخطوات متمهلة ترسم ابتسامة ساخرة فوق محياها الصلب:


-يا حبة عين امها اتخنقت من معاملتك ليها وسافرت تغير جو.


أسبل زيدان اهدابه لحظات ثم رفع عينيه الغائمة بدخان الغضب والكره يقول:


-سافرت فين؟


-لأبوها.


قالتها بسخرية صاحبها ضحكة صغيرة ثم واصلت حديثها المتهكم تلقي اللوم فوق عاتقه:


-لو كنت بترد على اتصالاتها كنت عرفت، بس انت راميها ولا كأنها خطيبتك.


اخشن صوته بغيظ بالغ:


-لسه مُصرة انها خطيبتي بردو! يعني مكنتش خطة منك.


شهقت بتهكم واضح وهي تشير نحوها:


-وانت يا حبة عيني مكنتش طرف فيها بردو.


صاح بهجوم سافر:


-الزمي حدودك معايا.


حركت يدها في عتاب مصطنع وهي تسأله:


-هو أنا كنت اتعديت حدودي، دا انا حتى عمة طيبة اوي، وسايبلكوا مال أخويا تبعزقوا فيه يمين وشمال من غير ما اتكلم، الله يرحمك يا اخويا مكنتش هترضالي ابدًا بالمعاملة دي.


حدج بها زيدان في كره به لمحة من الشر:


-الله يرحمه كان مخدوع فيكي، وعشان صلة الدم اللي بينا أنا مش راضي اوريكي وشي تاني.


-لا ما هو البركة في سليم اخوك عمل الواجب وبزيادة.


قالتها بحقد فابتسم بالمقابل بتشفي بات واضحًا فوق ملامحه:


-طول عمره بيفهم، هو سليم باشا من شوية.


فقدت قناع الهدوء بعد أن فاض الحقد من عدستيها فصاحت:


-لما هو بيفهم اوي كدا، ايه اللي مخليك توقف على بابي يا عنيا.


-نهى..


إجابة قصيرة قالها ثم أطرق للحظات يشملها في كره تبادل بينهما بوضوح ومن بعدها استكمل بصدق:


-هي اللي منعاني عن حاجات كتير، واعملي في حسابك اول ما ترجع أنا هعرفها كل حاجة.


استدار بعدها مغادرًا فصرخت بعصبية مفرطة:


-لما تبقى ترجع.


كانت الخادمة تتابع حديثهما في صمت تام، تشعر بقلة حيلة في إنهاء محادثتهما النارية، وحين قرر المغادرة حمدت الله كثيرًا أنها انتهت دون أن يتطرق زيدان لأمورٍ قد تسبب الألم لنهى يكفي ما تمر به من فقدان للثقة وعدم الشعور بالأمان..أغلقت الباب وهي تدعي الله أن ينتهي الأمر على ذلك النحو ولكن ميرفت كان لها رأي آخر حين تحركت نحو غرفة نهى تصيح بغضب عارم:


-والله يا بنت ال*** ان فكرتي تكلميه ولا تقابليه انتي حرة سيبيه متعلق كدا واحرقي دمه.


لم تعقب نهى بل كانت تكنس رأسها للأسفل بخزي من نفسها بعدما لم تستطع مواجهته، حاولت..لن تكذب حاولت كثيرًا ولكنها فشلت حتى اتصالاته كانت ترفضها، فكانت تساعد ذاتها على نسيانه إخراج صورته من عقلها، دفن نبرة صوته في قاع النسيان..ظلت تلك الأيام تجاهد كمن يحاول عبور صحراء قاحلة وسط عاصفة رملية..فكرة مواجهته كانت صعبة بل كانت مستحيلة وهي بذلك الضعف، لا تريد نظرة شفقة أخرى تهوي بسببها للجحيم، تتمنى أن تكتسب لو بعض من القوة تستطيع من خلالها مواجهته دون أن تبكي، أو تصمت على احاديثه الجافة الملامة لشخصها وما تعانيه من ضعف.

اغتاظت ميرفت من صمتها الطويل فاقتربت منها تصرخ بجنون:


-لو فكرتي تعملي كدا، مفيش سفر لأبوكي فاهمة ولا لا، لازم تنفذي كلامي.


ابتلعت تهديد والدتها ولم تعقب وهذا ما أثار جنونها أكثر فالتفتت للخادمة:


-قوليلها وعقليها عشان مضربهاش قلم يفوقها.


هزت الخادمة رأسها في إيجاب وما إن خرجت حتى اتجهت صوب نهى الجالسة فوق طرف الفراش تسألها في رفق:


-ليه مخرجتيش يا ست نهى تقابليه؟


همست في ارتجاف صاحبه بكاء عبر عن كم الألم النفسي الذي تعانيه:


-مقدرتش..مش هقدر اشوفه وأنا كدا..


أطرقت للحظات ثم رفعت رأسها تطالع الخادمة:


-نفسي لما اشوفه أنا اللي اوجعه هو ميوجعنيش، اكون في اللحظة دي ميهمنيش..ميفرقش معايا.


هبطت الخادمة لمستواها تربت فوق ظهرها بحنو:


-وانتي لسه يفرق معاكي؟ مش قولتلك تفكري في نفسك وبس.


حركت نهى رأسها بإيجاب وهمست بشرود:


-عشان نفسي تستحق يبقى اخد الوقت الكافي اللي يخليني اقدر اواجه.


تفهمت الخادمة موقفها وقبل أن تهتف بقول تهدأ به نهى الباكية استمعت لصياح ميرفت فغادرت الغرفة سريعًا وتركت نهى تنظر في اثرها تخرج ما في جبعتها في همس متقطع:


-خليه يدوق من اللي بيعمله فيا.


رغم أنه تعددت أسبابها لعدم مقابلته، إلا أن هناك سبب خفي لم تصرح به علنًا تمثل برغبتها في الثأر لنفسها على كل لحظة قابلت منه شعور سلبي أو تعليق جاف كسر قلبها وشغفها، فأنارت شعلة الانتقام وسط مشاعرها المتخبطة، واردات تركه معلقًا ينتظر عودتها بينما هي في المقابل ستحاول اكتساب بعض من الوقت كي تستطيع مواجهته دون أن تظهر ضعفها ولن يحدث ذلك إلا اذا بحثت عن قوتها المسربة منها ولملمت شتات نفسها المبعثرة.

                                   ***

-يعني إيه هتيجي؟


قالها "سمير" في ضيق حاد وهو يقترب من والده بينما لكزه الأخر في يده بغيظ:


-وطي صوتك يا غبي، خالد هيسمع.


انفجر الغيظ من سمير وهو يقول:


-ما هو لازم يعرف اصلا هي مش تيجي هنا يعني.


ضيق ابراهيم عينيه يهتف بنفاذ صبر:


-تيجي مفاجأة أحسن ما نقوله من دلوقتي ويكرشنا برة قبل ما تيجي، ابن اختي شهم ومش هيستحمل تيجي ونمشي بيها.


شدد سمير فوق خصلات شعره في جنون ضاغطًا فوق أسنانه:


-أنا معرفش ازاي لغاية دلوقتي وافقت على الجنان دا؟


-كان لازم اوافق، امك شكت من رفضي، مش بعيد تكون باعتها تنقلها اخبارنا.


أجابته كانت هادئة نابعة من تفكير طال لأيام لم تنتظر في ميرفت موافقته اساسًا وتحركت من نفسها تنهي الاجراءات فأدرك أن سفر نهى بمثابة محاولة للاطمئنان على حالهما، انتبه ابراهيم على صوت ابنه المرتبك من رد فعل والدته ان علمت بخسارتهما للمال:


-دي لو عرفت، ممكن تقطع عننا الفلوس اللي بتبعتها كل شهر.


-محدش هيعرفها حاجة ونهى أنا مالي ايدي منها هي بت خايبة بكلمتين تهديد مش هتنطق اصلاً، المشكلة؟


صمت للحظات يفكر بجدية ومن بعدها صدح سؤاله بقلق:


-خالد هيفضل مستحمل لغاية امتى؟


-انت بس ثبته بالكلام وأنا من ناحية تانية اظبط الشيخ يمكن يجبلنا شقة ولا حاجة.


كاد ابراهيم يواصل حديثه ولكنه انقطع فجأة بسبب دخول خالد المفاجئ وهو يقول بتهكم:


-ايه اتخضيتوا ولا اكون دخلت من غير استئذان.


ابتسم ابراهيم بحبور استفز انتباه خالد:


-لا يا حبيبي اتفضل براحتك خالص، دا حتى بيتك.


جذب خالد قطع ثيابه من الدولاب ثم اتجه صوب الباب يقول بنبرة ساخرة:


-كويس يا خالي انك عارف، أصل أنا مستغرب سايبلك الشقة كلها تعمل اللي نفسك فيها وبردو طمعان في اوضتي.


ابتسم سمير بسماجة مردفًا باندفاع:


-التكيف اللي فيها حلو، وزي ما تقول بنرتاح فيها أكتر.


رفع خالد جانب شفتيه في اشمئزاز ثم قال:


-طيب على الاقل يكون في زوق وتسيبوها فاضية وأنا موجود.


نهض ابراهيم متظاهرًا بالحرج:


-اه طبعاً يا حبيبي يلا يا سمير.


أشار خالد لهما بلامبالاة وهو يغادر الغرفة:


-خليكم أنا خلصت.


غادر وتركهما ينظران في اثره عقب سمير بثقة:


-لازم اظبط الشيخ في اقرب وقت، خالد مش هيستحمل كتير.


أومأ والده بتفكير، لقد مالت الأمور منه لنحو صعب وتفككت خيوط خطته، شاعرًا بتهديد أمنهما وخاصةً مع مجيء نهى ورغم أنه يعلم مدى ضعفها وثقته التامة في التحكم بها إلا أنه يقلق من رد فعل خالد هل سيقبل أم سيطلب مغادرته؟ كل ما يملكه من التفكير أنه سيلعب على عاطفة خالد وصلة الدم.

                                                      ***

مساءًا..


وضعت منال اطباق الكيك فوق الطاولة وهي تقول في حزن طفيف:


-مكنش سليم وأنس وشمس يبقوا معانا.


القى يزن قبلة نحوها مشيرًا نحوه نفسه:


-كفاية وجودي يا ست الكل ولا أنا مش مكفي، دا أنا سيبت معاد مهم عشان خاطرك يا قمر.


ضحكت منال بخفة وربتت فوق ظهره تمتم بأدعيه تحفظه ثم عادت تقول:


-اتصل كدا على سليم نطمن عليه؟


-بعتله رسالة لو صاحي يكلمنا.


أومات في صمت ثم رفعت عينيها نحو التلفاز تتابع مشاهدة فيلم اختاره يزن، الذي قرر مشاركتها أبسط امورها بعد ان تذمرت في لحظة عليه واخبرته بإهمالهما المتعمد لها، ولكنه اقسم أنه من كثرة ضغط الشغل ووعدها بقضاء امسية معها.

دخل زيدان للصالة يجر قدميه جرًا بعد يوم طويل بالعمل حافل بالأخبار المفاجئة بداية من موافقة مليكة واتخاذ علاقتهما منحنى رسمي وسفر نهى المفاجئ وتجاهلها له الذي أثار الريبة بداخله ولكنه اختار التجاهل هو الأخر كحل مؤقت ليس إلا..مجرد أيام وستعود وحينها سينهي معها كل شيء وحتمًا ستتفهم موقفه، ورغم أنه لا يعطي اهتمام لأحد من قبل إلا أن نهى تستحق لطالما كانت لطيفة محبة ساندته  أثناء وفاة والده  حيث كان يعاني حينها من ويلات الفقدان والألم.

-ما هو لو داخل على ميتين هيرحب بيهم أكتر من كدا

توقف زيدان على كلمات يزن الساخرة المتابع للتلفاز، فيبدو انه تبادل الحديث مع والدته، لذلك اقترب منه وضرب فوق مؤخرة رأسه برفق:


-ازيك يا يزن يا حبيبي؟


ابعد يزن يده في غضب زائف:


-ايدك لاقطعهالك.


جلس زيدان بالقرب منه وهو يصطنع الخوف:


-الحقوني خوفت.


رفع يزن شفتيه في اشمئزاز ممزوج بالغيظ منه والأخر قابله بابتسامة عريضة وهو يلتقط طبق الكيك من والدته:


-تسلم ايدك يا أمي.


-بالهنا يا روحي، كُل كويس شكلك خاسس اوي.


ردت منال في اعتيادية كأي أم تلاحظ تغير بسيط على ابنها فرجحته من قلة تناوله للطعام، ولكن قول زيدان الهادئ أصابهما بالدهشة:


-ايوا لازم اتغذى فعلاً، داخل على موضوع مهم.


هتف يزن بضحك ساخر:


-ليه داخل الأولمبياد.


-لا أنا ناوي اخطب.


تسربت الابتسامة لوجه منال المندهش بعد ادراكها لحديث زيدان بعد فترة ومن بعدها صاحت بسعادة:


-بجد يا حبيبي الف مبروك..الف مليون مبروك، مين هي؟


همس يزن قاصدًا إغاظته:


-اقول مين؟


حذره زيدان بعينيه ومن بعدها التفت لوالدته يخبرها ببعض المعلومات البسيطة عن مليكة وتابع حديثه الهادئ في ظل ابتسامة والدته المتسعة:


-وان شاء الله هنروح يوم الجمعة نخطبها.


تلاشت ابتسامة والدته وهي تقول باستفهام:


-نروح فين؟


التفت يزن لها يكرر حديث زيدان:


-نخطبها يا ماما.


-سليم لازم يعرف..دا لازم يكون موجود، اخوك الكبير مينفعش نتعدى وجوده كدا.


أجابت والدته بإصرار لا يحتمل النقاش، فجادل زيدان بعدم اقتناع:


-هو كان موجود عشان اتعدى اصلاً، دي مجرد خطوبة.

 نهضت منال وهي تقول بحزم:


-كل حاجة تتأجل لغاية ما اخوك يرجع بالسلامة يا زيدان.

___________________

قراءة ممتعة ❤️

الفصل الثالث عشر...


-تمام، سلميلي عليهم.


 أغلق سليم الاتصال مع والدته، وفور اغلاقه زفر بهدوء مفكرًا في سبب غياب زيدان عن ذلك الاتصال تحديدًا، شاعرًا بحزن طفيف بسبب تجاهل زيدان له فمثل هذا الخبر كان يجيب أن يكون عن طريقه هو وليست والدته، تكاثرت الأسئلة بعقله وأصبح ذهنه منصبًا بكامل طاقته حول زيدان، ولكن انبثق شعاع طفيف من بين ظلمة أفكاره يمهد بتبريرات لزيدان ولكن السؤال الأهم ظل يراوده لِمَ اختار والدته تحديدًا؟ 

انتبه على لمسات شمس الجالسة بجانبه تركز ببصرها عليه وكأنها ساحرة تخترق دواخله تسلب ما في أعماقه بكل سهولة! رمى لها ابتسامة صغيرة كانت تعلم أنها ليست سوى بسمة مجاملة تمهيدًا لهروب طفولي من حصار بدأت في فرضه حوله.


-مالك يا سولي؟


همست بها بنبرة مبحوحة اثر غفلة هاجمتها دون إرادة منها فقد كانت هي الشعار الرسمي طوال شهور الحمل، حيث استيقظت بأعجوبة بسبب صوت سليم الذي اخترق منامها وهو يحادث والدته بشأن خطبة زيدان، وما زادها تعجب أو ربما أشعل فتيل  الانتباه هو تذمر سليم وانهائه للحديث بأمر لا جدال فيه.


-لو بطلتي تقولي الكلمة دي، صدقيني هرتاح.


رسمت نفس البسمة الصغيرة وهي تعتدل بجسدها نحوه تقترب من عنقه تداعب بأناملها تفاحة آدم صعودًا وهبوطًا في وتيرة بطيئة فألهبت صدره بنيران الاشتياق لها وتحديدًا أنه يحاول الالتزام بكل القواعد الطبية لأجلها فقط وأجل سلامتها.


-لو بطلت اقولها هتندم صدقني.


أخبرته في دلال أصبح يتوق له ولكنه رد بخشونة امتزج بها المزاح:


-محدش هيندم قدك على فكرة!


كان مغزى حديثه وقح فضحكت بصوت عالي وكأنها اكتسبت  نضج وأنوثة أصبحت تدرك مدى طاقتها وتجيد استخدامها ضده.


-بقيت زي أنس لما بتحب تهرب من حاجة..


قطع جملتها وعبس بملامحه الوسيمة مشيرًا نحو نفسه في استهجان اختلط بالعبوس المسيطر على ملامحه:


-لا متوصلش انك تشبهيني بتصرفات أنس، متنسيش أنا مين؟


رباه هل ولد هكذا بتلك العجرفة المتأصلة في ردود افعاله؟!، انها حقًا لا تعلم سر كبريائه ولكنها ودون شعور منها أصبحت تعشقه على هذا المنوال، كتمت تعجبها منه لطالما تعودت على اعتزازه بنفسه وبذكائه وشخصيته الفريدة وردت بمشاكسة:


-سليم باشا الشعراوي صح؟


-بتسألي ولا بتتريقي؟!


رد بسؤال مباشر به لمحة من العتاب الطفيف، فكانت اذكى منه وهي تنسل من حصار سؤاله المباشر بإجابة تضعه في معقل فضولها:


-ليه زعلان من زيدان؟


رمقها بتعجب نجح فيه مردفًا:


-وهزعل منه ليه؟


حاوطت ذراعه تجذبه نحوها وهي تنظر في عمق عيناه مباشرةً ترفض هروبه منها وبنبرة انثوية حادة جعلته يبتسم:


-جاوب  زعلان ليه من غير لف ودوران.


لم يعلم سر التغير الطفيف بعلاقتهما أهو السبب فيه أم هي، هل اختفت قدرته على كتمان مشاعره فباتت واضحة لها، أم أن شمس أخرجت جرأتها دفعة واحدة وأصبحت اكثر راحة في حصاره:


-معرفش، بس يمكن كنت مستني هو اللي يقولي على خبر زي دا.


أومأت بصمت لم يستمر طويلاً وعادت تطلق تبرير لا شك أنه هدأ من غضب سليم:


-كان المفروض يقولك فعلاً، بس زيدان مش كدا يمكن أنت متعرفوش وأنا معرفتي بيه أكتر هو مش زي يزن أكيد، بس دا اكيد مش تجاهل منه ليك بالعكس يمكن مش قادر ياخد خطوة انه مثلا يقولك انه نفسه يخطب وشايف ان فيها إحراج! بس الأكيد لا يمكن تجاهل أبدًا.


ترك لها مهمة التبرير ، فكان متعطشًا لمثل هذه التبريرات، لا يريد أن تضاف أمور جديدة فوق جراحه القديمة فتزيد الطين بلة، وهو ما زال يعاني منها حتى لو في صمت بعيدًا عن الجميع، بالإضافة أنه يرفض التخلي عن الراحة النسبية التي بدأ يشعر بها منذ مواجهته مع زيدان ومحاولات أخيه في عودة علاقتهما الأخوية إلى موضعها الطبيعي، ورغم أن المحاولات جميعها كانت من جانب زيدان حيث  كان سليم يقف متابعًا وصول أخيه إليه كما يريده بالشكل الذي يريح ذاته بعد أن ذاق ويلات من الخذلان سواء منه أو من عائلته، وحينما حاول معهم تسوية أمورهم لم يجد طاقة لذلك، فاختار الانتظار واعتبره مكافئة بسيطة عما عاشه وحده وما فقده رغم عنه.


-سليم روحت فين؟


انتبه على صوتها المتسائل في قلق، فحمحم بخشونة مؤكدًا على حديثها:


-معاكي، فعلاً ممكن يكون كلامك صح.


خرجت منه إجابة ساذجة في محاولة لإنهاء الحديث عن زيدان، لطالما يحب دومًا التفكير مع نفسه دون تطفل برئ من شمس يقلب موازين تفكيره، وها هي مجددًا تتسلل لتفكيره وتسأله في براءة:


-وليه رفضت انه ياخد خطوة ويستناك لما تيجي الاول.


حول بصره نحوها متسائلاً في تهكم:


-وانتي كنتي مستنيه اقول غير كدا!


التزمت شمس الصمت في ظل احتدام انفاسه الضاربة لوجهها، فتابع حديثه بعنفوان:


-أنا اخوه الكبير مينفعش ياخد خطوة زي دي من غير ما يرجعلي، لازم اشوفه النسب واعرف البنت كويسة وتناسبه ولا لا.


-سليم هو مش بنت دا ولد وناضج كفاية على فكرة.


اندفع بجسده ينهض في غضب وكأنه يواجه زيدان:


-وأنا اخوه الكبير، أنا طول عمري بتحمل كل حاجة عشان خاطرهم، جاية في اكتر وقت بتمناه عايزة يبقا وجودي زي عدمه.


نهضت تحاول التوازن تواجه عنفوانه بتريث:


-مفيش حد قال كدا، وزيدان أكيد مش معترض أنا بس اللي استغربت.


-مينفعش تستغربي، أنا اخوهم الكبير اللي مكان ابوهم الله يرحمه، يعني لو زيدان خطب من غير ما ابوه مكنش دا هيبقا في حد ذاته قلة أدب.


توسعت عينيها في صدمة من انفعاله وودت أن تخبره أنه أمر بسيط ولكنها صمتت فيبدو أن يعاني من تعلق شديد تجاه اخويه حيث تولى مسؤوليتهما منذ صغره فحتى ابسط خطوات حياتهما يريد اقحام نفسه بها مبررًا أنه الاخ الاكبر ولا يصح تجاهله.


تركها سليم ودخل المطبخ تاركًا إياها تنظر في اثره لا تعلم ما خطأها حتى ينفعل عليها بهذا الشكل، تنهدت بقوة وقررت أن تتركه يهدأ قليلاً ثم تعاود الاعتذار له فيبدو أنها صوبت سكين مدبب في جرح قديم كان قد بدأ بالتلائم ولكنها بكل ساذجة ضربته بقوة ففتح من جديد والألم كان من نصيبه وحده..

                                  ***

أصاب الجنون زيدان الجالس أمام والدته ويزن، فهدر بهما في عنف:


-يعني إيه ماخدش أي خطوة الا لما يرجع، هو شايفني عيل ولا ايه؟


رمقته والدته في عتاب وقالت بنبرة غير راضية:


-اخوك الكبير ولازم نستناه أنا قولت كدا من الاول بس يزن أصر اكلمه واقوله.


حمحم يزن متسائلاً بحذر:


-دا رأيه ولا رأيك يا ماما؟


عقدت ما بين حاجبيها في عدم فهم تحاول ادراك مغزى حديث يزن ونظرات الحذر المصوبة نحوها ولكنها لم تدرك ان الإجابة المنبثقة من فمها كانت بمثابة زيت مغلي سكب فوق نيران زيدان المستعرة:


-والله أبدًا يا بني أنا قولتله إن زيدان حابب يخطب بنت عجبته قالي وماله بس لما ابقى ارجع.


ضرب يزن وجهه في غيظ من عفوية والدته المفرطة وخاصةً حين اكملت:


-والصراحة معاه حق دي الاصول اخوك الكبير لازم يكون موجود.


رفع زيدان حاجبيه ناظرًا لوالدته بانفعال:


-انتي محسساني اني مش عايزه، امال أنا قايلك تقوليله ليه؟


انطلق الغضب من فم منال وهي تقول:


-انا مبقتش فاهمك لما انت عايز تعرفه زعلان ليه اننا بنقولك تستنى!


نهض زيدان بعصبية وغيظ لعدم اقتناع والدته بحديثه وبدأ التعقيد في نثر خيوطه حوله:


-ما هو لازم يعرف يا أمي، بس مش لازم استنى، أنا كلمت مليكة وقولتلها اننا هنيجي يوم الجمعة.


 ضحك يزن ساخرًا:


-كمان كدا كملت!


انتقلت والدته بينهما بنظرات يملأها الفضول ولكنها تركت علامات الاستفهام حول خطبة زيدان جانبًا وردت بحزم ألهب غضب زيدان:


-بقولك ايه تقول ولا متقولش براحتك، الاصول بتقول مينفعش نتعدى اخوك، وبعدين احنا نزعله مننا ليه لما ممكن تستني كام شهر لما يبقى ينزل.


نهضت تنهى أمر مناقشتهم دون أن تستمع لمحايلات يزن المستمرة في جذب انتباهها الغافل عن رغبة زيدان أيضًا ولكنها رفضت الاستماع ودخلت غرفتها، فتحرك زيدان بالصالة ذهابًا وإيابًا بجنون وصوت أنفاسه ترتفع بشكل يثير قلق يزن الجالس يتابع حالته في ترقب، حتى أنهى زيدان حالة الجنون التي تلبسته وتوقف بمنتصف الصالة يخرج أنفاسه المختلطة بمشاعر الغضب من صدره ومن بعدها قال بكل هدوء ينافى حالة الهياج المسيطرة عليه قبل دقائق:


-بقولك إيه أنا هخطبها، عايزين تيجوا تشرفوا مش عايزين براحتكم.


ومن بعدها ابتسم باستفزاز خالطه الحقد لسلبية يزن وتنعت سليم أما والدته حقًا لم يستطيع تحديد مشاعره تجاهها وخاصةً هو يعلم أنها تحاول بشتى الطرق الحفاظ على سلامة علاقتها بسليم وتلك النقطة تحديدًا يشعر بالرأفة نحوها فلن يقدر الضغط عليها مباشرةً سوى عن طريق يزن.

قرر زيدان اللجوء لغرفته دون أن يعير انتباه لأخيه، بينما بقي يزن كالمشرد يجلس بالصالة غير قادرٍ على تفسير ما تؤل إليه عائلته من جديد.

                                   ***


استلمت نهى تذكرة الطيران من والدتها وكان موعدها يوم الجمعة، نظرت للتذكرة كثيرًا تحاول تحديد مشاعرها تجاه خطوة جديدة أصرت عليها غير عابئة بصعوبة العيش مع والدها وأخيها ولكن مهما كانت صعوبتهما لن تكون أسوأ من والدتها أبدًا، ستعتبرها هدنة تستطيع اكتساب بها بعض القوة وتبحث عن ذاتها الضائعة وسط تلك الصدمات، علها تجدها حتى وإن كانت منكسرة، حتمًا ستجد الحل لمعالجة جراحها، الأهم حاليًا هو الابتعاد ثم الابتعاد..ملخص راحتها يكمن فيه.

                                    ***


بعد عدة ساعات حاول يزن الدخول لغرفة زيدان كي يجد حل مناسب لإنهاء أزمة خطبته، محاولاً الضغط عليه بكل الطرق، فالحديث معه أهون من سليم وأوامره التي لا رجوع فيها بالتأكيد...


-أنا في حدد باصص في حياتي أكيد.


قالها لنفسه بحنق من كثرة المشاكل المتساقطة فوق رأسه، تنهد بعمق قبل أن يطرق الباب ومن بعدها انطلق يشق طريقه مع زيدان المتظاهر بلامبالاة ولكن داخله يغلي بغضب.


-بص احنا اكيد لازم نتكلم ونفهم موقف اخوك.


-وفر على نفسك أنا اللي عندي قولته.


-هو إيه يا بني اللي عندك قولته، هو أنا جاي افاصل معاك في سعر الطماطم.


رمقه زيدان بطرف عينه والتفتت بوجهه نحو الجهة الاخرى متجاهلاً وجوده، فضغط يزن على نفسه وقال فكرته البسيطة في محاولة لإنقاذ الوضع:


-طيب اقولك كلم انت سليم وقوله أنا مش هستناك ولازم اخطب يمكن يتكسف منك ويقولك براحتك.


ضحك زيدان بتهكم ثم قال:


-اه ويكرهني ويصر على رأيه أكتر ويقولي اه أنا مش اخوك وكلام مالوش لزمة.


ضيق يزن عينيه بمكر وأطرق للحظات في ظل ظهور ابتسامة واسعة فوق شفتيه:


-وأنت خايف علاقتك بيه تبوظ ومش عايز تواجهه فتزعله منك خايف على زعله!


ظهرت ملامحه في جمود تام وكأنه يسجن الحقيقة خلف ذلك الساتر، فهز يزن رأسه متفهمًا ومجددًا أخرج حلوله:


-خلاص اتكلم مع مليكة وحاول تفهمها صعوبة موقفك هنا..


بتر زيدان حديثه حينما شقت مخاوفه طريقها وظهرت للعلن:


-موقفي معاكم أهون مية مرة من معاها، مينفعش ارجع أبدًا في اتفاقي، فعلاً المرة دي هتفهم غلط واحتمال متبصش في وشي تاني.


لوهلة شعر يزن أن ذلك المتحدث عن مخاوفه في فقدان حبيبته هو شخص آخر غير المتبلد أخيه ولكن من الواضح أنه يملك فيض من المشاعر نحو تلك الفتاة حتى يصبح هكذا مشتت ما بين أخيه الرافض لأخذ اي خطوة والتزامه بوعده معها..


-طيب ممكن تفهمني ايه اللي مضايقك وقلقك كدا.


زفر زيدان بقوة بينما غرس أصابعه في خصلات شعره وبدأ في سرد قصة حبه مع مليكة وسبب ابتعادهما في كلمات بسيطة، وأنهى حديثه بقوله المشتت:


-المشكلة وانا بتفق معها على معاد معرفش اخوك هيرفض كدا ولا اعرف كمان امك هتصر بالطريقة دي!


أسبل اهدابه للحظات ثم رفعهما وهو يقول بحيرة:


-المرادي فعلاً هخسرها، الموضوع فيه حساسية جامدة من ناحيتها، وبعدين سليم أكيد مش هيخسرني صح؟ أنا في النهاية أخوه.


مط يزن شفتيه بتفكير ومن بعده رد بثقة:


-سليم عارف غلاوته عندك، بس سيبلي أنا الموضوع دا اشوفله حل وان شاء الله خير.


-مهما كانت حلولك ابعد عن ان مخطبهاش، لازم انفذ كلمتي أنا مش هطلع عيل أبدًا معاها.


أومأ يزن بتفهم وداخله يأكله بندم بعدما أقحم نفسه مع عناد سليم وتهور زيدان غير أنه يحمل تعاطف كبير مع زيدان وخاصةً حين علم بسبب ابتعادهما من قبل، بالتأكيد لن يكون الأمر هين اطلاقًا وهو يطلب منها تأجيل لمدة  مفتوحة رهن رجوع سليم!

سيحاول من أجل سعادة زيدان، فبالنهاية هو يشعر بالتعاسة لحيرة أخيه وضياعه بين إرضاء عائلته وتحقيق امنيته بخطبتها.

                                    ***

بعد مرور يومين..


ألقى يزن هاتفه بغيظ بعد مناقشة حادة مع سليم أدت إلى عصبية مفرطة من قبل أخيه، واتهامات متراشقة ليس لها اساس من الصحة من قبله، لقد زاد الوضع سوءًا وتعقدت الامور أكثر، وحقًا هو لا يعلم كيف ستنتهي بإرضاء جميع الاطراف، فجميعهم متشبث بقراره وخاصةً سليم وتعتنه الواضح.

مرر أصابعه في خصلات شعره محاولاً البحث عن طريقة ما يهدأ بها الوضع الراهن، وبعد عدة محاولات شعر بها بالفشل انبثقت فكرة أساسها خطأ ولكنها ستفي بالغرض مؤقتًا ومن بعدها باقي الأمور ستحل بالهدوء..

نهض بحماس وترك معرضه مقررًا الرجوع لمنزله والانفراد بوالدته مستخدمًا جميع أسلحته في اقناعها.

وصل أخيرًا أمام باب منزله بعد صراع قصير في الازدحام المروري..حرك بصره في ارجاء المنزل باحثًا عن والدته، ولكن رائحة البامية المطبوخة قادته نحو المطبخ وللحظة ضاعت فكرة اقناع والدته بخطبة زيدان وسط الروائح التي جذبت ذهنه في تخيل مذاقها.


-الله بامية.


انفجرت اسارير والدته وهي تضع الطعام في طبق مشيرة إليه:


-تعال كل يا حبيبي تلاقيك جاي ميت من الجوع.


أومأ برأسه وكأنه بالفعل من قاده من عمله هو جوعه، فحبه للطعام لغى تفكيره، وتلك كانت أكثر الأمور المحببة لقلبه بعد النساء... يزن يعشق اثنان لا ثالث لهما النساء والطعام..وبالتأكيد كل ما هو جميل منحصر بهما.

بعدما انتهى من طعامه، عادت عجلة ذهنه تدور بسرعة تسلبه لأهم نقطة هو موضوع أخيه، سرق أنفاس طويلة ثم بدأ فتح والدته في الموضوع ببطء مدروس حتى قاطعته والدته بصياح يحمل الاعتراض:


-أنت عايزني أكذب بعد العمر دا كله.


-مين قال انك هتكذبي، احنا ببساطة هنرضي كل الاطراف.


كان يحاول تبسيط الأمور ولكن الاعتراض لا زال يسيطر على نظرات والدته:


-لا يا يزن مينفعش، فيها إيه لما زيدان يستنى.


زم يزن شفتيه بضيق واضطر لإخبار والدته بقصة حب زيدان البائسة في إيجاز استطاع من خلاله بث الحزن والشفقة لقلبها:


-معقولة بيحبها اوي كدا.


-يا ماما يا حبيبتي اسمعي كلامي والله الموضوع بسيط، وان كان على سليم لما يرجع هبقى اقوله أنا..دي خطوبة يا جماعة امال لو جواز بقى هتعملوا إيه؟


بدأ الارتباك يفرض هيمنته على والدته، أحيانًا يشعر بالإصرار من عينيها وأحيانًا تلعب الرأفة دور في قلبها فتطغى فوق ملامحها وتشرد بتفكير امتزج فيه الخوف من رد فعل سليم.

نهض يزن مقررًا إعداد قدح القهوة الخاص به متمتمًا:

-بص أنا هعمل قهوة ويا أنا يا انتي النهاردة.

                                  ***

اقترب أنس من سليم يجذب هاتف والده دون اذن مما اثار غيظ سليم، فهدر فيه بغضب:


-في إيه يا أنس، ازاي تاخد حاجة من غير اذني.


ارتجف الصغير يبحث بعينيه عن والدته كي تنقذه من غضب والده نادر الظهور معه تحديدًا، لطالما كان سليم لطيفًا وحنونًا لأبعد حد، وبالفعل ظهرت والدته من العدم وهي تقول:


-أنس ادخل اوضتك.


انسحب الصغير من أمام والدته ودخل لغرفته يكتم دموعه المتدفقة لمقلتيه متعجبًا من انفعال والده، بينما اقتربت شمس من سليم تربت فوق خصلات شعره الفوضوية:


-مالك يا سليم.


-مفيش.


اخرجها بعنف محاولاً لجم غضبه المتفاقم ولكنه فشل وباتت ملامحه أكثر حدة وقسوة، انتابها القلق وهي تسأله:


-يزن زعلك في أيه؟


-البيه باين عايز يخطب وأنا مش موجود، اتجنن باين عليه؟


لوهلة لم تدرك من هو، ولكنها أدركت فيما بعد وعادت تسأله بحذر:


-يزن اللي قالك كدا؟


-لا مقالش بس باين من اتصالاتهم يا شمس وكلامهم اللي أنا متأكد منه حتى لو كان بطريقة مش مباشرة.


كانت ستندفع بتبرير أخر تحاول مواجهته فيه، ولكن عادت تتحكم بنفسها فلن تتحمل ليلة يهجرها بها بسبب دفاعها الدائم عن اخويه أما هو لا أحد يقدره وكأن مشاعره غير مرئيه لهم، عادت تربت بلطف فوق خصلات شعره بينما كان هو يشرد والانفعال ظهر جليًا على ملامحه، وكي تخرجه من حالة الغضب تلك اقتربت من شعره وبدأت في تحريك أنفها فيه وصوتها الهامس يردف بإعجاب:


-ريحة شعرك حلوة اوي.


عقد ما بين حاجبيه بتعجب لحالتها تلك حيث باتت تعجب بكل تفصيليه به حتى رائحة شعره! ولبرهة كان سيضحك بسخرية ولكنه عاد واستجمع نفسه مردفًا بهمهمة بسيطة وكأنه يجاريها بما تفعله، لم تهتم لبروده اللحظي ودفنت نفسها بين أحضانه رغمًا عنه تحتضنه بقوة شعر بها وكأنها تريد ادخاله داخل قلبها الذي بدأ يشعر بدقاته التي كانت تتطرق وكأنه الاقتراب الأول بينهما.

استطاعت بالفعل شمسه جذب انتباهه برومنسيتها ولطافتها البريئة، فبدأ يتفاعل معها تدريجيًا حتى فقد سيطرته على نفسه وانساق خلف رغبة مُلحة في نهم شفتيها الوردية، فكانت مشاعرهما تتشابك في ملحمة عاطفية وصلت ذروتها لحد الجنون حيث  نسى بها نفسه وأوجاعه وأصبح سليم الفارس والحبيب.

                                 *** 

صباح يوم الجمعة..

استيقظ زيدان على أصوات مزعجة حوله جاهد التركيز ولكنه فشل بسبب شدة ارهاقه بعمله طيلة الأيام السابقة حتى مليكة كان يحادثها بكلمات قصية،  فمعظم الاتصالات هي تنهيها متحججة بأي أمور والمعظم الأخر ضغط عمله يمنعه من التواصل معها بشكل يريحه، فبالنهاية ستكون خطيبته أخيرًا مجرد أيام فقط عليه التحلي بقليل من الصبر.

عادت الأصوات تزداد تزامنًا مع إلقاء وسادة كبيرة فوق وجهه:


-قوم يا عريس، قوم يا معلم.


نهض زيدان بضيق متأففًا من تصرفات يزن الطفولية:


-يا عم سيبني أنام بلا عريس بلا زفت.


طغى الاشمئزاز على وجه يزن:


-أنت نكدي كدا ليه يا ابني، قوم خلينا نشوف هتلبس إيه.


- هلبس أي حاجة، هو فرح!


-واقسم بالله هي صعبانة عليا منك، دي أكيد أمها داعيه عليها.


تجاهل زيدان حديث يزن والتفتت للجهة الأخرى يستكمل نومه، ولكن يزن استمر بالتحرك في أرجاء الغرفة مسترسلاً حديثه:


-بقولك بفكر أقول للبت نهى بنت عمتك تيجي معانا، اهو ندخل واحنا كتير على الراجل ونملى عينه.


انفتحت عيناه على وسعيهما وانتفض فوق الفراش يكرر خلف أخيه بعدم فهم:


-تقول لمين؟

                                ***

-هتوحشيني يا ست نهى.


بكت الخادمة وهي تودع نهى أمام المطار حيث أصرت على توديعها رغم عدم رغبة ميرفت ولكن موافقة نهى وإصرارها جعلتها توافق على مضض.


-هفضل دايمًا فاكرة وقفتك جنبي.


شهقت الخادمة وهي تمسح دموعها بطرف حجابها:


-أنا معملتش حاجة قدام افضالك يا ست هانم.


ابتسمت نهى برضا وتقدير لها بينما تأففت ميرفت باشمئزاز وهي تبعد الخادمة عن نهى تجذبها بعيدًا عنها وبصوت هادئ منخفض قالت:


-بت بقولك أنا هستنى منك كل تفصيلية عن ابوكي واخوكي.


لم تتحرك نهى ساكنًا كانت تنظر لوالدتها ببرود ظاهري بينما قلبها يتلوى بحزن بسبب جسور الجفاء بينهما.


-عارفة يا نهى لو روحتي ومردتيش عليا هعمل فيكي؟


-هرد متقلقيش.


ردت بإيجاز تحاول إنهاء الحديث معها، لم يعد باستطاعتها مواصلة الوقوف معها، الابتعاد عنها أفضل بكثير على الأقل ستتذكر أنها تملك أم حتى وأن كان الأمر رسميًا وعبارة عن لقب، فما فائدة المشاعر معها، لقد خاضتها بكل مراحلها الحب، المحاولة، الشك، حتى وصلت للكره وهنا توقفت ولم تعتد تحتمل، سيصل بها الأمر لحد الجنون، لذا البعد أفضل حتى ولو في الوقت الحالي.

تركتهما نهى وتحركت صوب المطار تستكمل رحلة سفرها لأول مرة وحدها، فشعرت بحماس طفولي ممزوج بالخوف مما هو قادم.

وقبل أن تختفي وسط المسافرين التفتت تشير للخادمة، فاقتربت الأخرى منها سريعًا:


-أمرك يا ست هانم.


-زي ما قولتلك اوعي تعرفي زيدان ان عرفت.


هزت الخادمة رأسها بتفهم:


-حاضر يا هانم، ولو أني مش عارفة ليه؟


أجابت نهى ببساطة وصوتها يملك بحة غامضة:


-نفسي احقق امنية ليا ومش هتحصل الا لما أسافر وارجع.


أومأت الخادمة برأسها في ظل محاولاتها لتفسير كلمات نهى الغامضة بينما تحركت الأخرى بخفة نحو الداخل وتركتها في حيرة من امرها حتى استفاقت على يد ميرفت الغاضبة:


-بتقولك إيه البت دي؟


حمحمت الخادمة وهي تقول بثبات:


-بتوصيني عليكي يا هانم.


-يلا يا أختي بلا توصية بلا قرف.


رفعت الخادمة أحد حاجبيها بتعجب تضرب كف بأخر:


-ربنا يهديكي، يهديكي إيه ربنا ياخدك.

____________________

يا ترى هتوصل للخطوبة بس 😂🫣 

قراءة ممتعة ❤️

الفصل الرابع عشر..

 لم تتخيل قط أن ما تتمنى سيأتي بتلك الطريقة، ربما زيدان في أوج سعادته ولكنها ليست كذلك، لقد ساد التوتر جميع دواخلها، وألهب الخوف تفكيرها فأصبحت مشوشة بين بشاعة ما تخفيه، وحقيقة ما تتمناه، فقدت زمام الأمور وأصبحت كمن سلب منها أحقية الاختيار ولم تجد سوى ذلك الطريق حيث كان أقلهم خطرًا حتى الآن.

وقفت "مليكة " أمام المرآة وهي تميل برأسها يمينًا تمرر بصرها فوق فستانها الأزرق البسيط تتابع تفاصيله الرقيقة، لِمَ تراه باهت لا يناسب حجم هذا اليوم؟ لا تعلم..ربما بسبب اضطراب نفسيتها، أم أنها فقدت حلاوة اللحظة..مجددًا لا تعلم، فكل ما تتمناه الآن الاختفاء بعيد عن الجميع لحاجتها القوية في الابتعاد عن كل ما يؤذيها ويؤلم نفسيتها.

 عادت لواقعها وهي تتنهد بعمق في ظل تحريك رأسها بنفي وكأنها ترفض الانسياق خلف مشاعرها المتناقضة، التي لن تجدي منها سوى الألم وفقدانها لِمَ يتبقى من روحها، لذا تابعت استكمال ارتداء حجابها ومع أخر لحظة هبطت  ذراعيها بجانبها وفجأة دق جرس الباب فانتفضت بتوتر جام والتفتت برأسها نحو باب غرفتها..

                                     ***

بعد يوم طويل..استغرقته نهى في الانتهاء من اجراءات السفر وتأخير موعد طائرتها لأربع ساعات فقدت بهم الأمل، أخيرًا وصلت نهى للأراضي القطرية وكان في استقبلها والدها...

استقلت السيارة بجانبه تتابع الطريق بعيون خالية من الحياة بعد أن استقبلها والدها بفتور وكأن غيابه عنها لم يؤثر فيه اطلاقًا، ودت القليل من المشاعر والكثير من الكلمات الحنونة حتى لو كانت من باب المجاملة، كانت سترضى..ولكنها لم تجد سوى عناق بارد أسرى بجسدها رجفة قوية كانت السبب في افاقتها من وهم التمني. 

أخيرًا بعد طريق طويل..وصلت مع والدها أسفل بناية عملاقة، هبطت من السيارة تراقب الوضع والأجواء والصمت يفرض سيطرته عليها وخاصةً مع وجوم والدها وكأن وجودها لم يكن مرغوب فيه!

تحركت معه لداخل البناية حتى وصلت للشقة وكان في استقبالهما سمير حيث رحب بها بقليل من الحبور الذي ادهشها، بعد أن كانت تتوقع استقبال باهت أو كلمات لاذعة لفكرة مجيئها من الأساس

دخلت نهى أخيرًا وخلعت حجابها تحاول استنشاق الهواء بعد هذا الكم من الارهاق ولكن كلمات والدها جعلت تقف وتلفتت بتعجب:

-نعم يا بابا؟

-بقولك متخلعيش طرحتك، معانا حد تاني في البيت.

قالها ابراهيم بإهمال وهو يتوجه نحو المطبخ يلتقط كوب المياه، أصابها التردد وهي تسأله:

-مين اللي موجود..

بترت جملتها وهي تنظر لسمير تسأله ببراءة:

-صاحبك يا سمير.

-لا خالد ابن عمتك.

أجابها سمير بلا مبالاة جعلها تندهش للحظات، ولكنها عادت تستوعب قائلة بتركيز:

-اه جاي يزورك يا بابا.

التوى فم سمير وكعادته ضخ بما لديه:

-لا وانتي الصادقة احنا اللي قاعدين في بيته زيارة.

لوهلة لم تستوعب حتى انها ظلت صامتة تتابع ملامحهما الهادئة فاندفعت الكلمات من فمها دون تروي:

-هي ماما عارفة؟

اندفع ابراهيم وسمير معًا نحوها وكأنها تفوهت بشيء غير لائق حتى انها تراجعت عدة خطوات للخلف بخوف وسقطت فوق الكرسي تتراجع فيه بجسدها الصغير، بينما كانا الاثنان يقتربان منها كأنهما يستعدان لقتلها، فكانت ملامحهما تتوعد، وعيونهما تستشيط بالغضب الممزوج بالتهديد.

- بت انتي لو أمك عرفت باللي بيحصل هنا مش هيحصلك كويس.

قالها سمير بنبرة يقطر منها الشر، بينما استكمل والده على خطاه:

-احنا خسرنا الفلوس ومفيش مكان نقعد فيه غير في شقة خالد، أي معلومة توصل لأمك هولع فيك.

جف حلقها وهي تحرك رأسها بنفي:

-م...مش..هقول حاجة، بس كنتوا عرفون..عرفوني.

داهمها التلعثم وهي تواجههما، فضحك سمير ساخرًا:

-اوعي تكوني فاكرة احنا مش فاهمين الزن والعياط اللي كنتي بتعمليه عشان تيجي، امك موصياكي تعملي دا وانتي زي المتخلفة عملتيه ومتعرفيش ايه مستنيكي هنا.

اتسعت عيناها بخوف وهي تردد خلفه:

-مستنيني ايه؟

-الشقة مش هتخرجي منها، وامك مش هتكلميها عشان تبقي تمشي وراها حلو وترضي تيجي.

حاولت اخراج جملة مترابطة تخبره أنه ما يقوله ليس سوى تكهن ساذج نابع من عقله المريض، فلم يكن بكائها تمثيل اطلاقًا ولم تكن حاجتها في السفر بناء على رغبة أحد، بل كانت رغبتها..وبكائها كان مجرد توسل لمن ظنت بهم عائلتها! 

فرض التلعثم هيمنته عليها وخرجت الحروف متقطعة، فزعق بها والدها وهو يقول:

-لا بقولك إيه مش ناقص عياط ونكد، أنتي هتقعدي تاكلي وتشربي وتنضفي مكانا تليفونك دا مش هتشوفيه طالما اخترتي تيجي هنا.

في ذات الوقت عبث سمير بحقيبتها وأخرج هاتفها الذي عمل على إغلاقه ووضعه في جيب سرواله تحت نظرات الاستسلام منها.

ربت والدها بعنف فوق كتفها يدفعها للنهوض:

-قومي اغسلي وشك وافرديه مش ناقصين نكد.

كادت أن تتحرك وفقًا لرغبة والدها ولكن مجددًا عادت التنبيهات تخترق عقلها المسكين في محاولة للهرب من بوادر جحيهما.

تركتهما بعد عناء ودخلت غرفة اشار إليها والدها بدخولها:

-ادخلي يلا غيري هدومك..

ثم التفت لسمير قائلاً:

-وانت تعال اوضتنا نتكلم فيها.

تحرك سمير خلف والده، بينما هي دخلت الغرفة سريعًا تغلق الباب خلفها وانفجرت بالبكاء المخالط للندم وصوتها يتقطع بكلمات بائسة:

-إيه اللي عملته في نفسي دا.

                                   ***

جلس زيدان بجانب والدته وعلى الجانب الأخر يزن المبتسم بسعادة وكأنه العريس، رمقه زيدان باستهزاء فحرك الأخر حاجبيه بمشاكسة لطيفة منه، ولكن تنهيدات والدتهما جذبت انتباهمها وتحديدًا زيدان الذي انطلق يهمس بصوت مسموع لهما:

-في إيه يا ماما مالك؟

حركت منال بصرها في أرجاء الشقة تتابع قطع الأثاث حيث كان يظهر عليه القدم قليلاً، بينما كانت الشقة صغيرة وأجوائها تخالف وضع عائلة الشعراوي مما أثار حنق منال، وأدرك زيدان ذلك جيدًا فاندفع يقول بهدوء:

-عاجبني يا ماما ومش مهم أي حاجة تانية.

أومأ يزن مؤكدًا على حديث أخيه:

-بالظبط دي كلها شكليات يا ست الكل، المهم الجوهر.

حرك زيدان رأسه بإيجاب يساند اخيه، فتابع الأخر قاصدًا إغاظته:

-لو الجوهر حلوة ومزة زيدان عنده استعداد يتنازل.

توسعت أعين زيدان بصدمة وهو يشير نحو نفسه:

-الكلام دا ليا أنا..ليه هو أنت فاكرني صايع زيك.

-لا لا دا مش كلام ناس محترمة أبدًا.

قالتها منال بحنق وعصبية طفيفة وهي تنهرهما من ثم استكملت:

-اخرسوا أنا مقولتش حاجة لكل دا.

صمتا الأثنان للحظات قطعها يزن وهو يميل نحو والدته يهمس:

-الجوهر مزة اوووي.

رفعت منال أحد حاجبيها لوقاحته فرفع يده قليلاً يقول بأدب:

-أنا بشكر بس، أحجر على رأي يعني، فين حرية الرأي عندكم؟!

ضربته منال بقبضتها الضعيفة في ساقه وتابعت بتحذير:

-مطولش لسانك يا يزن.

خرج السيد مصطفى من المطبخ يبتسم بسعادة وهو يقول بنبرة طغى عليها الإحراج:

-معلش يا جماعة، أصل مليكة لخبطت الدنيا جوا خالص.

ضحك يزن مسترسلاً ببساطة:

-ليه مبتعرفش تطبخ ولا إيه؟

ضغطت منال فوق شفتيها من استرسال يزن البسيط في أمور لا تليق به، ولكن مصطفى تابع معه بسلاسة:

-لا دي برنسيسة أنا مبخليهاش تعمل حاجة أبدًا أهم حاجة دراستها وبس.

-ما شاء الله.

تمتمت بها منال وصمتت بعدها تراقب مصطفى في تمهل تحاول اختراق مكنوناته من أجل الاطمئنان على سلامة مستقبل ولدها، وخاصةً بعد أن صور لها الشيطان أن تلك الزيجة تخفي طمع من قبل عائلة العروس وذلك بعد أن رأت وضعها المادي.

حمحم زيدان بخشونة يسرق انتباه مصطفى وهو يشير نحو عائلته:

-معرفتش حضرتك بالعيلة، دي والدتي..

هزت منال رأسها بابتسامة صغيرة، في ظل استكمال زيدان لحديثه وهو يشير نحو يزن:

-ودا اخويا..

قاطعه يزن بالحديث وهو يتقمص شخصية سليم واضعًا ساق فوق الأخرى وبنفس نبرة الكبرياء هتف:

-سليم الشعراوي اخوه الكبير.

توسعت أعين منال بصدمة، بينما أصاب زيدان حشرجة قوية أدت إلى سعال لازمه فترة قصيرة في ظل محاولات منال بإسعافه وارتباك مصطفى في سكب المياه البارد واعطائه إياه حتى استنشق أخيرًا انفاسه وعادت روحه لصدره بعدما كاد يفقد صوابه بسبب جنون أخيه الذي سارع بالقول الممازح:

-أنا يزن اخوه الصغير..بس قولت اهزر وافك الجو شوية.

-يزن اخويا بيحب يهزر كتير.

كرر زيدان خلفه بغيظ وصوته يملك خشونة كانت نتيجة لسعاله القوي، وأخيرًا استطاع استكمال كلامه:

-في أخ ليا أكبر اسمه سليم بس هو مسافر مع مراته لظروف صحية.

هتف مصطفى بارتباك وهو يمرر بصره عليهم:

-اه اه الف سلامة وان شاء الله خير.

لم يتحدث زيدان بل اكتفى بنظرة حانقة نحو يزن الذي بدوره تجاهله، وانخرط في الحديث مع مصطفى بحبور أدهش منال هي الأخرى، ببساطة ألقى سحر جاذبيته على الجميع وبعد أن ساد التوتر على الجلسة للحظات تبخر وأصبحت الاحاديث تتناول بينهم حتى منال بعد مرور من الوقت اندمجت دون أن تشعر..

بينما كان زيدان في عالم آخر ينتظر خروج مليكة بفارغ الصبر، يلقي نظرة نحو باب المطبخ بين حين وآخر، حتى قررت  الخروج وهي تحمل صينية بها أكواب القهوة الساخنة، تقدمت منهما على استيحاء تخفي وجهها بالنظر لبخار القهوة المتصاعد في ظل تركيزها بخطواتها كي لا تتعثر بشيء وتسقط كالبلهاء أمامهم.

تقدمت اولاً من يزن فرفعت عينيها وهي تقدم له القهوة ولوهلة أصابها التعجب حتى أنها عقدت حاجبيها بتركيز وهي تدقق النظر به بعدما لاح بذهنها صورته وكأنها على سابق معرفة به ولكنها لا تتذكره حتى قطع لحظة شرودها بهمس مشاكس:

-لا مش أنا.

وقبل أن تسأله عن مغزى حديثه، صدح صوت مصطفى ينبهها بلطف:

-قدمي يا حبيبتي القهوة.

استقامت بخجل وتقدمت من منال التي ما ان تقابلت نظراتهما معًا حتى استطاعت قراءة تعابير وجهها حيث كانت تنم عن تقييم شامل لجسدها وملامحها، فتلونت وجنتيها بحمرة قانية وارتفعت درجة حرارتها وهي تخفض بصرها تفسح المجال لمنال بالنظر إليها بحرية أكثر رغم أنها تكره تلك اللحظات.

-تسلمي يا حبيبتي، ما شاء الله زي القمر.

انتفخ صدر زيدان الجالس بجانبها ينتظر دوره، بعد أن شبع عينيه بالنظر إليها ولم يفلت تفصيلية واحدة منها، دافنًا العديد من المشاعر التي كانت على وشك الانفجار أمامهم، لم ينتظر كثيرًا ورأى مليكة تتقدم منه بخجل شديد تخفي نظراتها عنه بسبب شعورها وكأنها ضمن عرض مسرحي فتمنت أن تنتهي من تلك الأمور التي فاقت طاقتها للتحمل.

لم تعرف لِمَ قررت النظر إليه ربما وفقًا لنداء قلبها المطالب بإنعاشه، أم عيناها تمردت عليها وقررت التشابك مع نظراته الشغوفة في ملحمة عاطفية اعتادت عليها في الفترة الأخيرة منه بعد أن اكتسبا نضج وعمق في علاقتهما..يا ليتها لم تنظر له، لم تعد تعرف الابتعاد لقد سحبها للغرق معه كمن تسلبه المياه، ورغمًا عنها مالت أكثر بجسدها نحوه تقدم له الصينية التي لاحظ يزن أنها ترتجف بين يدها قليلاً فقرر إنهاء توترها ولم يعلم أن ما قاله كان كالكارثة عليها:

-بس القهوة تحفة تسلم ايدك.

التفتت إليه بارتباك وابتسامة مهتزة ولم تدرك أن الصينية مالت أكثر نحو زيدان فسقط الكوب كاملاً على الصينية وسقطت بعض قطرات القهوة الساخنة على زيدان الذي هب واقفًا يبتعد عنها وفي نفس الوقت كانت يداه تساعدها في الاعتدال حتى لا تسقط القهوة عليها وتتأذى.

                                  ***

هزت نهى ساقيها في وتيرة سريعة بعد أن انتهت من قضم أظافرها، مصوبة عيناها نحو الحائط تشرد بتفكير في كيفية عودتها لمصر، لم تتوقع أبدًا أنها ستشارك شقة مع خالد ابن عمتها التي لم تراه منذ زمن طويل بالإضافة إلى سوء حالة أبيها وأخيها وكأن الغربة أضفت  عليهما شر وجنون.

شعرت باختناق حاد فبدت جدران تلك الغرفة وكأنها سجن يسحق ما تبقى من حريتها..مدت أصابعها نحو حاجبها تخلعه بعنف تلقيه أرضًا بعد أن احمر وجهها وكأنها تعاني من صعوبة تنفس. 

لم تشعر بالوقت سوى...

                                  **

دخل خالد شقته بعد يوم طويل ومرهق في العمل، فاقدًا الشعور بالحياة بعدما أصبح آلة تضخ الأموال لخاله وابنه المتكاسلان..جذب انتباهه حقائب سفر عقد حاجبية بتفكير ولكن بعد برهة ابتسم بسعادة قائلاً لنفسه بتهكم:

-لا مش معقول حسوا من نفسهم وماشيين، لا دا أنا ادخل اخد شاور واودعهم بنضافة.

فتح أزرار قميصه جميعها وهو يتجه صوب الغرفة يفتحها باندفاع وابتسامة واسعة تحلق فوق شفتيه ولكنها اضمحلت فور رؤيته لفتاة تجلس فوق فراشه يتناثر خصلات شعرها حولها والدموع تتساقط فوق صفحات وجهها وكأنها أسيرة في عالم لا تفقه فيه شيء...صرختها واندفاعها نحو الأرض تجذب حجابها جعله يعود للواقع يسألها بخشونة امتزج فيها الصدمة:

-أنتي..مي..

بتر حديثه وشعر بجسده يندفع نحوها بسبب تصادم جسد سمير به من الخلف وهو يقول بتلعثم:

-شوفت المفاجأة يا خالد، جبنالك نهى من مصر.

تلاقت عيونهما في لحظة لم تدم طويلاً حيث انقطعت أنفاسها بعد رؤيته عاري الصدر، فخفضت بصرها أرضًا ولم تقو على رد فعل آخر، أدرك حينها خالد ومد أصابعه يغلق أزرار قميصه سريعًا مردفًا بغيظ:

-وامك فين يا نهى مخبينها وعايزين تسرعوني.

ضرب سمير كف فوق الأخر وهو يقهقه عاليًا:

-بيحب ماما اوي.

رفع خالد جانب شفتيه وهو يقول بعبوس:

-ربنا يديم عدم القبول اللي بيني وبين امك يا سمير.

انقطع ضحك سمير بحرج وأردف محاولاً لم شتات كرامته:

-هي مجتش بس بعتت نهى تغير جو.

حول خالد بصره نحوها قائلاً بحنق وكأنه يحاول تسديد ضربة لها بعد ان تذكر مواقفها السخيفة معه:

-بعتتك عشان تكمل عليا صح، طول عمرها عقربة..

ثم حول بصره نحو سمير مربتًا فوق كتفه بتهكم:

-معلش يعني يا سمير أنت عارف غلاوتها عندي.

لم يتحدث، لم يبدي أي رد فعل، بل استحمل الاهانة من خالد وكأنه أمر عادي متقبله بصدر رحب حتى أنه تجاهل وخرج من الغرفة تحت نظرات نهى المصدومة، هي واعتادت السكوت على إهانتها لطالما تلقت الضرب لو حاولت الدفاع عن نفسها فأصبح الصمت لديها إجباري أما سمير ما به، لِمَ يتحمل هذا الوضع، لم يكن ذلك مطلقًا، فهو لم يعتاد على الضرب مثلها، لم يعتاد على الإهانة مثلها بل كان فتى مدلل لوالديها مجابة جميع طلباته وأوامره حتى صار فاسق لا يهمه سوى نفسه.

-مطولة يا نهى كتير.

انتبهت له والخجل يغزو ملامحها، كانت تود الاعتذار معطية له الحق كاملاً عن سوء استقباله وتصرفه ولكن عاندتها الكلمات وتيبست على طرف لسانها، فخرجت دون أن تتحدث مما أثار غيظ خالد الذي همس بانفعال:

-عالم جبلة جايبن البت وأنا موجود..

تحرك خطوة للأمام ثم توقف مواصلاً بحنق:

-لو سكت هلاقي ميرفت جاية، هو كان بيت أبوكوا يا ولاد ال****.

التفت نحو الباب ناظرًا إليه بغضب:

-اطلع اطردهم واريح نفسي بلا قرابة بلا زفت.

وقبل أن يتحرك خطوة عاد مؤنبًا نفسه:

-طيب و...

لم ينطق..بل احتفظ بقوله لنفسه، متعجبًا من ذاته التي تعاطفت مع حالتها البائسة وظن أن أمر مجيئها إجبار، وما أكد له هو نظراتها الضعيفة المستسلمة وهذا ما أثار الفضول نحوها وكان ذلك أمر غريب عليه.

زفر بقوة وهو يحاول استعادة هيكل ثباته بعد أن أصابه زلازل قوي عقب رؤيتها  وخصلات شعرها البنية متناثرة حول ملامح وجهها التي غرقت في حزن وكأن هناك تعويذة ألقيت عليها فدفنت جمال ملامحها أسفل يأس دمر روحها.

-بس هي نهى بقت حلوة ولا أنا متهيألي؟

تساءل مع نفسه بسخرية لازمت شخصيته ولكنه عاد يؤنب ذاته :

- أنت هتتجنن على كبر ولا إيه، البت مخطوبة وبعدين دي بنت خالك اللي هتطردهم بكرة هي وأبوها وأخوها السمج.

                                   ***

انتهت مليكة من تجفيف قميص زيدان بعد أن قامت بتنظيف بقع القهوة، تحركت بخطوات مرتبكة نحو المرحاض حيث بقى فيه عاري الصدر بعد أن جذبه مصطفى لداخل المرحاض وأصر على خلع قميصه والتأكد من سلامته.

نظفت حلقها برقة ثم طرقت الباب وهمست في خجل:

-زيدان، أنت لسه جوا.

بعد ثوان فتح الباب وطل برأسه من خلفه وملامحه تميل للألم الذي حاول اخفائه عنها:

-اه.

قالها وهو ينظر لها بتعب فأثار ذلك قلقها ووضعت يدها فوق الباب تسأله بارتجاف:

-أنت اتحرقت، أنا أسفة مكنتش اقصد، في عندك مرهم حروق حط منه.

وكانت تلك الإشارة ففتح الباب كاملاً وظهر جذعه العلوي عار تمامًا وابتسامة واسعة تحلق فوق شفتيه وبعبث طال نبرته أردف:

-بجد في مرهم تعالي حطهولي.

شهقت بخجل واستدارت بكامل جسدها تبعد بصرها عنه بعد أن رأته بهذا الشكل، فاستغل زيدان حالة التيه التي وقعت بها واقترب من خلفها يمد ذراعه يلتقط القميص من بين يدها وبرأسه اقترب من أذنيها يهمس برقة داعب أوتار قلبها فأصبح خفقاته تزداد في جنون:

-بحبك وبموت فيكي.

قبضت فوق القميص بقوة وكأنها تستنجد به حتى تظل متماسكة ولا تسقط في الأرض...لا لن تسقط سوى في حضنه بعد أن اختصر المسافة بينهما أكثر وهمس بحب:

-النهاردة أسعد يوم في حياتي.

تسمرت كالصنم فجسدها فقد القدرة على الحركة رغم ابواق الحذر المتصاعدة تدريجيًا ولكن هناك شيء لا تعلمه يدفعها للتجاهل متحججة بحصاره الطاغي عليها، لم تنتبه سوى على بعض من الكلمات التي أيقظت وعيها:

-حبيبتي في حد جاي في الطرقة.

-ها؟

همست في بلاهة، فنظر للقميص وهو يحاول امساكه:

-سيبي القميص...

-زيدان؟

قطع حديث زيدان صوت يزن المنادي، فتجهمت ملامحه بغيظ ودفعها للتحرك مردفًا بحدة:

-مليكة ركزي عشان دا هيفضحنا.

همست بتوتر وهي تتحرك بينما كانت تحرك رأسها برفض:

-يفضحنا..أنا معملتش حاجة، يفضحنا ليه...

ضحك زيدان بخفة ودخل للمرحاض يرتدي قميصه أما هي قابلت يزن بالردهة الصغيرة الذي قابلها بابتسامة واسعة مردفًا بخبث:

-طرقة بيتكوا توهتني، طويلة بشكل.

هزت رأسها بإيجاب وانطلقت بسرعة من البرق من أمامه، فألقى يزن نظرة ثاقبة عليها ثم ضغط فوق شفتيه السفلية مضيقًا عيناه:

-زيدان طلع نوتي كبير..يا زيزو يا حبيبي أنت فين؟

قابله زيدان وهو يقول بتحذير:

-إيه..إيه وطي صوتك، واخد راحتك كدا ليه، أبوها يقول عليك إيه؟

-اسكت مش طلع جوز امها!

قالها يزن بمكر، فتوسعت أعين زيدان باندهاش من سرعة لتلك المعلومات، فاستكمل يزن:

-عمك مصطفى خلاص بقى حبيبي، طب تصدق شكله حبني أكتر منك.

-وأنت جاي تخطف مني الانظار!

رفع يزن يده للأعلى معلنًا استسلامه:

-ولا اخطف ولا تخطف..يلا عشان نتكلم في الامور الجد ونقرى الفاتحة.

وقبل أن يتحرك هتف زيدان بسعادة:

-ما تتصل على سليم يقرى معانا الفاتحة، عشان ميزعلش أننا متصلناش.

التفت يزن برأسه في حركة بطيئة قائلاً:

-لا ما هو ميعرفش.

-ميعرفش إيه!

همس بها زيدان في ترقب وقلق يخشى رد يزن الذي بدوره وضح ببراءة مصطنعة:

-تخيل نسيت اقوله أنك بتخطب النهاردة.

-يزن.

همس بها والشر يتقاذف من فمه، فتجاهل يزن غضبه وأردف على نفس بروده:

-سليم ميعرفش اساسًا انك بتخطب، خبينا عليه.

______________

يا نهار مصايب 😂🤭


الفصل الخامس عشر...


وقف زيدان على أعتاب باب شقة مليكة يودع والدته ويزن معًا بعدما تمت الليلة بشكل هادئ وتم الاتفاق على خطبة في حفل صغير جدًا بناء على طلب مليكة نفسها رغم محاولة محمد اقناعها بإقامة حفل كبير إلا أنها رفضت وأصرت على قرارها في ظل ارتياح زيدان وعائلته خوفًا على مشاعر سليم بعد أن وضع يزن خطته دون مراعاة ما سيحدث مستقبلاً إن علم أخيه بهذا الأمر..


-خلي بالك من نفسك يا زيزو..


قالها يزن وهو يقف خارج الشقة يضع يده في جيب سرواله ناظرًا لزيدان بتسلية، فاغتاظ الأخر وهتف بهمس حانق مستغلاً هبوط والدته على الدرج:


-اعمل في حسابك اللي انت هببته دا هتكون مسؤول عنه أنا ماليش دعوة.


-كدا تاخدني لحم وترميني عضم يا مفتري، قلبك دا إيه كيوي.


ضغط زيدان فوق أسنانه بغيظ وهو يكور يده:


-تصدق بالله لو مبطلتش هزار أنا هقتلك بإيدي الاتنين دول، أنت يا بني مش واعي عملت فيا إيه؟


تجاهل يزن حديثه الغاضب بقوله البارد وهو يهز كتفيه:


-عملت أيه فيك أنا ساعدتك تخطب البنت اللي بتحبها مش أحسن ما تفضل تحب على نفسك زي المجنون.


ضرب زيدان مقبض الباب بقوة وهو يقول بتوعد:


-لينا كلام لما نروح يا يزن.


ضيق يزن عينيه وهو يقول بحقد:


-اه الفرفشة ليك دلوقتي والنكد ليا لما تروح.


- بتتكلموا في إيه وسايبني.


دفعه زيدان نحو الدرج وقال بتوعد لاذع:


-لما نروح لينا كلام كتير، أنا مش ناسي انك كنت عايز تعزم نهى من ورايا، انزل.


أنهى حديثه ودخل الشقة مجددًا بعد ان أصر مصطفى على جلوسه معهم بحجة الحديث مع مليكة والتعرف عليها أكثر..وكان ذلك اقتراح ماكر من يزن أخبره بهمس لمصطفى متحججًا بحاجتهما للتعارف فلم يسبق لهما المعرفة من قبل! معززًا باقتراحه أن ذلك سيساعدهم في تخطي الخجل المحاصر لهما فوافق مصطفى بعد تفكير قصير منه وبالنهاية كله من أجل مليكة.


أما يزن هبط الدرج وساعد والدته التي لم تتركه وفرضت حصارها بأسئلة عديدة منها:


- كنتوا بتتكلموا في إيه دا كله؟


-لا يا ماما أنا مش يزن الفتان بتاع زمان، أنا كبرت وعقلت.


قالها بسخرية تامة متذكرًا طفولته حين كان يركض كالأبلة يخبر والديه بكل مصائب زيدان، شعر بيد والدته تتكأ عليه أكثر وهي تقول بحزم:


-قول يا زونه يا حبيبي معقولة أنت هتكبر على ماما حبيبتك.


ضحك عاليًا بسبب محاولاتها الماكرة في معرفة ما يجري بينه وبين زيدان، ومع نظرات الفضول المنبثقة منها علم أنها لن تتراجع عما تريد معرفته، لذا استسلم وقرر اخبرها بأقلهم ضررًا، فلو أخبرها مثلاً ان زيدان لم يكن على علم بمخططه حول عدم معرفة سليم بأمر الخطبة ستثور بوجهه وهو كل هدفه هو مساعدته لزيدان بأي شكل كان بعد تأكده ان خسارته لمليكة سيعني هلاكه، فأمر سليم هين وسيعالج باعتذار لطيف ونظرة ندم تثلج كبرياء أخيه الاكبر.


-سرحان في إيه، والله ما هسيبك قول.


-خلاص هعترف وأمري لله رغم أن مفيش رشوة، طاجن بامية تاني ولا ملوخية...


بتر حديثه حين توقفت والدته ونظرت له بتعجب تضرب كف بأخر:


-بتودي الأكل دا فين اللي يشوف جسمك واهتمامك بنفسك ميشوفش الأكل اللي انت بتاكله.


رفع يزن حاجبيه مندهشًا وهو يقول:


-هو أنتي فاكرة أن الاكل دا بينزل في معدتي..لا طبعًا.


عقدت والدته حاجبيها بتفكير وهي تسأله:


-امال بيروح فين؟


وضع يزن فوق قلبه هاتفًا بنبرة هادئة يغزوها التلذذ:


-في قلبي طبعًا.


-قلبك دا في إيه ولا إيه، والله حاسه انه في يوم هيشتكي من اللي بتعمله فيه.


قالتها منال بسخرية وهي تهبط أخر درج تتحرك بجانبه صوب سيارته، فقرر يزن إلهائها بمكر:


-وأنا مالي يا ماما هو السبب بيحب كل ما هو جميل.


-اه طبعًا زي البنات كدا...


قبل أن يفتح باب السيارة أردف وهو يغمز بطرف عينيه:


-لا زيك كدا يا جميل.


-بردو هتقول في إيه يا يزن؟


هتفت بها في أصرار مما جعله يزفر بتعب قائلاً:


-أنا مفيش واحدة قدرت تقررني كدا زيك..


اشتدت ملامح والدته بالعناد، فاستسلم قائلاً:


-كنت عايز اجيب نهى معانا بس زيدان رفض وزعق كأنها قتلتله قتيل.


شهقت منال بصدمة وهي تكرر:


-عايز تجيبها معانا وكأنها من بقية عيلتنا، ومستغرب اوي من رد فعل اخوك، حاسس بيا يا أخويا ومش عايز يهقرني.


غاصت ملامحه في العبوس الممزوج بالرفض وهو يقول:


-يا ماما نهى غير عمتي، البت طيبة وغلبانة...


قطعت منال حديثه بعصبية:


-ميغركش يا حبيبي، اقلب القدرة على فمها تطلع البت لامها.


أصر يزن على رأيه مردفًا بشفقة:


-لا نهى مش كدا، كلكوا بتظلموها وبكرة تعرفوا.

                                 ***

-عايزين أي حاجة، نادوني بس.


قالها مصطفى بابتسامة واسعة وهو يضع كوب الشاي أمام زيدان الجالس هو ومليكة في الشرفة بعد أن عرضت عليه مليكة بالجلوس بها.


-ربنا يخليك يا بابا شكرًا.


ربت مصطفى فوق كتفيها بحب ثم قال:


-على إيه يا حبيبتي، أنا جوا هتكلم في التليفون.


دخل مصطفى بالفعل للداخل يرفع هاتفه يجري اتصال بينما كانت عيون مليكة متعلقة بيه بشرود أغاظ زيدان الذي انفعل قائلاً:


-سرحانة في إيه في أول ليلة لينا واحنا مخطوبين.


حولت بصرها نحوه بعد أن نجح في سرقة انتباهها المنصب حول مصطفى وتصرفاته في الآونة الأخيرة، ورغم عنها انزلق قناع الجمود عن ملامحها وظهر الحزن فوق تقاسيم وجهها حتى أن عيناها فاضت بالدموع بسبب قيلة حيلتها وتعسرها في تخطي عقباتها.

لمح زيدان الدموع المتعلقة بعينيها وقبل أن يسألها رآها تتساقط بغزارة، لذا هتف بنبرة يشوبها القلق:


-مالك يا مليكة في إيه، بتعيطي ليه؟


وضعت كفيها فوق وجهها وحاصرته في ظلمة وهي تبكي بصمت بين اهتز جسدها معها  فألهبت في نفس زيدان نيران القلق والخوف، فقرب مقعده منها وهتف بنبرة حانية بجانبها:


-أنا زعلتك في حاجة؟ مش معقول العياط دا!


رفعت وجهها وهتفت بنبرة مبحوحة متقطعة تشبه نبرة الاطفال:


-كان نفسي ماما تكون معايا بس.


حقًا كانت أمنية خالصة من أعماق قلبها المجروح، فلو كانت موجودة ما كانت احتاجت لأحد قط، كانت سترمي حمولها أو على الأقل كانت ستجد مأمن تلجأ إليه بعد كل عقبة بعثرت حياتها.


-ادعيلها بالرحمة، كلنا موجودين جنبك..


هزت رأسها في صمت تؤكد على حديثه، فانطلق يحاول كسر حاجز الحزن بينهما:


-دي منظر عروسة بذمتك فرحانة بعريسها، أنتي مش عاجبك العريس ولا أيه؟


رمقته بنظرة سريعة وابتسامة صغيرة حلقت فوق شفتيها الوردية، فقال بمزاح:


-وعمالة تقولي لا مش عايزة خطوبة كبيرة، وكل حاجة بترفضيها، لا أنا اشوف عروسة فرفوشة عن كدا.


مسحت دموعها وهي تسأله بجدية:


-انت زعلت؟


لم تعطيه فرصة للرد بل اندفعت تقول بتبرير:


-أنا مفيش حد حواليا ومش هكون مبسوطة بس.


حرك زيدان رأسه بنفي قائلاً بحنو:


-خالص مش زعلان..


أطرق للحظات قبل أن يعرض فكرة بسيطة عليها، علها توافق وينهي ذلك القلق المحيط به بسبب عدم معرفة سليم بخطبته:


-إيه رأيك نخليها قراية فاتحة بس ولما أخويا ينزل هو ومراته نعمل فرح وخطوبة..


تركته يتحدث وصوبت عيناها على غرفة مصطفى بتفكير، تُرى من يكلمه في هذا الوقت؟ هل يبلغها بانتهاء المعضلة التي كانت تعيق زواجهما؟ هل هو سعيد الآن لأجلها أم لأجله هو؟ أسئلة عديدة تدفقت بعقلها المشتت والذي التقط حديث زيدان بلمحات متقطعة، فاندفعت ترفض بقوة:


-لا لا أنت قولت لبابا اننا بكرة هنلبس الدبل صح؟


سألته بترقب والدموع تهدد مقلتيها من جديد، فشعر برجفة سيطرت على نبرتها وهي تسأله، فانطلق بدوره ينهي القلق المسيطر عليها وهو يبتسم ابتسامة واسعة:


-أنتي لو عايزاني اتجوزك من بكرة هعملها!


نبرة الثقة التي كانت يتحدث بها اثلجت صدرها، وربتت فوق قلبها المضطرب مؤقتًا، فلم يتوقف زيدان عند هذا الحد بل أمسك بكفيها بقوة وهو يردف بهدوء شابه الهمس، ناظرًا في عمق عيناها:


-مليكة أنا بحبك ومعنديش استعداد العب بمشاعرك لحظة، احنا دلوقتي بنبدأ حياتنا مع بعض وكل اللي فات هنعوضه وأكتر.


رمشت بأهدابها وهي تستمع لكلامه اللطيف، حيث اضفى على روحها سحر جديد سحبها نحو عالم كانت تخشى الدخول به ولكنها الآن عبرته ببساط سحري، لم تكن تتمنى به فارس سواه..هي وحدها تعلم مقدار الحب الكامن بقلبها له، لو فقط تمتلك قليل من الجرأة تخبره بمشاعرها لتمكنت حينها من انهاء مخاوفها وعبرت معه نحو بر الأمان...مجرد وقت تحتاجه لتستطيع اخباره بكل شيء دون خوف من رد فعله..


-إيه اشوف عروسة فرفوشة غيرك؟


ضحكت بخفة وهي تجذب كفيها من قبضته تحاول مجاراته في مزاحه:


-مش هتلاقي عروسة حلوة زي.


كانت تريد إغاظته رغم الحزن الطاغي عليها وتشتت عقلها بين حين وآخر إلا أنه استغل مشاكستها وجذبها عليه عندما قبض فوق ذراعيها بسرعة أدهشتها حتى أنها لم تصدر رد فعل وبقيت ساكنة أمام وجهه حيث لم يفصل بينهما سوى مسافة صغيرة للغاية وهو يتحدث بعبث بينما كانت عيناه تتعلق بشفتيها:


-فعلاً مفيش حد يملى عيني زيك، مفيش حد يقدر يحرك قلبي من كلمة زيك.


ابتلعت لعابها بصعوبة عقب كلامه العاطفي المحرك لمشاعرها وكأنه جاء أحدهم وألقى قنبلة  فانفجرت ينابيع صدرها بأحاسيسها المدفونة ولانت ملامحها بهيام وهي تنظر له بحب شديد، فلم يفصل لحظتهما سوى حركة أعادتهما لواقعهما فابتعدا فورًا وتظاهر زيدان بالحديث معها بينما هي غرقت في خجل شديد ولم تقدر على مجاراته.

                                               ***

تحركت نهى فوق غطاء كثيف موضوع فوق الأرضية الصلبة، حيث قرر والدها أن يكون ذلك فراشها طيلة فترة اقامتها، فشعرت كأنها ذليلة! ولكن ذليلة بسبب من؟ هل بسبب ضعفها وهروبها من مصر لوالدها ظنًا منها أنها ستكون فترة نقاهة أم بسبب جحود والدها وأخيها فبدت تلك اللحظات وكأنها جحيم؟ لقد سئمت من تلك الحياة ومن تحملها لأوضاع أصبحت تفوق قدرتها في التحمل وخاصةً مع وضعها الجديد بوجود خالد.

فتحت عيناها عندما فشلت في النوم وقررت النهوض معلنة العصيان الصامت  بسبب ذلك الوضع المذري، نهضت بخفة ولكن دون أن تصدر صوت حتى لا تعود بائسة مرغمة تحقق أوامر والدها.. لم تمنع نفسها من إلقاء نظرة حاقدة عليهما وهما يستغرقا في النوم فوق السرير بينما هي حُكم عليها بالنوم فوق الارضية الصلبة معللين وجهة نظرهما أنها من اختارت المجيء رغم تحذيرات والدها ولكنها أبت وأصرت..فلتتحمل!

خرجت من الغرفة واغلقتها خلفها..ثم اتجهت صوب المطبخ بعد أن شعرت بحاجتها للطعام فاليوم بأكمله لم تأكل ولم يسألها أحد!

شعرت بالحرج الشديد وهي تعبث في الثلاجة الفارغة عن أي شيء يمكنها أكله ولم تعرف أن خالد ينفق الكثير من الأموال على الطعام وبالأخير يلتهمه والدها وأخيها بنهم حتى هو أحيانًا يعود ليلاً ولم يجد شيء يأكله فيلجأ للنوم أفضل من العراك معهما.

وجدت خيار غير طازج حاولت انتقاء افضله وبدأت في اكله بهدوء في المطبخ ولم تعرف أن خالد يقف يراقبها من خلفها بصمت حتى قرر قطع سكونها بقوله:


-بتعملي إيه؟


التفتت بذعر وتركت ما بيدها يقع أرضًا قائلة بتلعثم:


-مبعملش حاجة والله.


اقترب منها خالد يهدأ من روعها قائلاً بلطف:


-خلاص اهدي، دا مجرد سؤال!


وقعت عيناها أرضًا على ثمرة الخضار فهبطت تأخذها والأسف يطغو على صوتها:


-أنا أسفة عشان اخدتها من التلاجة و..


أشار إليها بالسكوت مردفًا بسخرية:


-بتتأسفي عشان خاطر خيار بايظ، إيه يا بنتي الأفورة دي!


شعرت بالإهانة منه فابتلعت ما كان في فمها بصعوبة وحينها أحست وكأنها قطع حجارة، ثم وضعت ما بيدها فوق رخام المطبخ واتجهت تغادر وهي تقول:


-عن اذنك.


قبل أن تخرج أوقفها وهو يقول:


-تاكلي معايا؟


التفتت برأسها ترمقه باستفهام فقبل قليل كان يسخر منها والآن يدعوها للطعام! ما هذا التناقض العجيب؟! تماسكت رغم صياح معدتها وهتفت:


-لا الحمد لله شبعت.


-شبعتي إيه، أنتي هتموتي واتحايل عليكي تاكلي، استني..


قالها بتهكم وهو يتجه صوب غرفته تحت أنظارها المتعجبة وما هي إلا لحظات حتى عاد بحقيبة ممتلئة بالطعام وابتسامة ساخرة تحلق فوق ثغره الصلب:


-دا أكل بخبيه من ابوكي واخوكي عشان لما اجوع اقدر اتنيل وآكل.


لا زال إمارات الاندهاش تغزو وجهها منه، فلم يتوقف وهو يخرج الطعام من الحقيبة:


-تعالي كُلي قبل ما يصحوا وياكلونا.


بعد لحظات من الصمت، تحركت على استيحاء نحوه ثم جلست فوق الأريكة بجانبه وتركت مسافة بينهما، في البداية لم تحرك يدها بل ظلت صامته وكأنها تنتظر أذن أخر منه فكانت تشبه الأطفال في أفعالها تلك مما دفعه يقول بخشونة:


-مؤدبة اوي يا نهي مش زي ابوكي واخوكي.


أخذ بعض قطع الدجاج ثم وضعها بيدها وهو يواصل كلامه بغيظ:


-كان نفسي ابقى قليل الادب واطردكم بس أعمل إيه متربي.


توسعت عيناها بصدمة وهي تضع الطعام بفمها من وقاحته أو ربما هو على حق فما رأته من ابيها واخيها في ليلة واحدة يضع كل الحق في كفته.


-أأا..أنا..


حاولت التحدث معه وازاله الحرج عنها ولكنها لم تجد الثقة الكاملة للاستكمال حتى هو قال باستهجان:


-قولي..أنا مبعضش، أليف متخافيش.


شردت في كيفية التعامل معه، معظم كلامه ساخر بينما عينيه كانت تتوهج بالغضب، أصابها الحيرة في تفسير شخصيته وخاصةً أنه سافر وابتعد عنهم منذ سنين طويلة ولن تنكر أنها تناسته ولم يهاجم عقلها من قبل، ومع انتظاره واستمراره في النظر إليها قررت البحث عن بعض من شجاعتها الزائفة لاستكمال الحوار معه دون أن تتعرض لسخريته:


-أنا..يعني مكنتش اعرف انك قاعد معاهم..


صحح لها بحدة وهو يقول:


-هما اللي قاعدين معايا، بس مش معقولة مش قالولك؟ يا ترى خايفين من أمك؟


هزت رأسها بإيجاب ثم اخفضت بصرها أرضًا  وما هي إلا لحظات حتى توقف الطعام في فمها وذلك عندما قال ببرود:


-صحيح مبروك خطوبتك على...


صمت يتذكر اسمه او أنه يفتعل ذلك حتى صاح متذكرًا:


-زيدان مش كدا؟


لم تجيبه لم تبدي أي رد فعل سوى أنها ابتلعت الطعام ومدت يدها تستكمل تناول طعامها دون أن ترد حتى على مباركته وهذا ما أثار اعجابه كثيرًا وسرعان ما دفنه متجاهلاً هو الأخر:


-يلا تصبحي على خير، واللي يفيض منك خبيه وخليه ليكي.


ابتسمت بخجل واخفضت بصرها تخفي عيناها عنه، فكلما تقابلت نظراتهما يصيبها بالارتباك...لا بل ارتجاف يسيري في أوصالها يشعرها بعدم الراحة والراحة في ذات الوقت..زفرت من حالة الضياع المرافقة لها دومُا، فيبدو أنها فاشلة في تفسير مكنونات ممن تتعامل معهم، ولكن هو تغير كثيرًا حتى ملامحه لم تعد هي...وكأن هناك طوفان أجرف بقايا ملامحه المتعلقة بذاكرتها، أيعقل أن تكون نسبة تذكرها له ضعيفة بهذا الشكل؟  كان اقصر من ذلك وأضعف أيضًا ماذا حدث له حتى أصبح أكثر طولاً وضخامة، كانت تتذكر شعره الأسود القصير الذي تغير هو الآخر، وصار كثيف وطويل بعض الشيء ولم يخف عن عينيها لمعته الجذابة..عينيه أيضًا كانت بنية أم أنها تميل للون العسل من قبل وهي لم تلاحظ..ذقنه النابتة وشاربه!... متى كان موجود هذا الشارب الذي أضفى عليه هيبة ووقار ملائم تمام لسخريته الدائمة لا تعرف!، حقًا كل ما تعرفه أنها لم تكون موجودة من قبل بعالم عائلتها بل كانت تدفن نفسها في عالم زيدان الوهمي فسجنت به غير عابئة بأي شيء كان!

                                 ***

ليلاً...


وقف يزن يتناول حبات الفراولة في المطبخ والهاتف فوق أذنيه يتحدث بهمس:


-لا مشغول إيه بس يا بيبي، أنا من اللحظة دي فاضيلك.


تابعت بغنج حديثها، فاتسعت مقلتيه بصدمة وهو يقول:


-معقول أنا اقدر ازعلك يا فراولة أنت.


ضحكت بميوعة ثم حاولت خلق أحاديث أخرى بعد مدة انقطاع بينهما، ولكنه سارع بالقول:


-بقولك اقفلي عشان أنا هلبس في حوار ابن لذينة دلوقتي.


أغلق الهاتف ثم ألقاه بإهمال فوق الطاولة بجانب طبق الفراولة وانطلق يهرول صوب غرفته وتحديدًا فراشه متمتمًا:


-اعمل نفسك نايم..نايم إيه اعمل نفسك ميت.


تظاهر بالنوم مدة كبيرة يحاول بها أن يرهف السمع عن تحديد مصير خطوات زيدان التي اختفت فجأة وذلك بعد ان استمع لصوت سيارته أمام المنزل..مرت الدقائق وبدأ صبره ينفذ ففتح عينيه ببطء شديد وأدار رأسه صوب باب الغرفة فاصطدم بزيدان يجلس على ركبتيه فوق الفراش خلفه ينظر له بابتسامة يفوح منها الشر، فهب يزن برعب وهو يقول: 


-أيه يا أخي الرعب دا.


فتح زيدان الإضاءة ولا زالت ابتسامة تنزلق من شفتيه، فتجاهل يزن ملامحه المهددة بأمر ما:


-بس ظابط ظابط يعني، تصدق كنت شاكك فيك بس دلوقتي اتأكدت.


جذب زيدان من جانبه طبق الفراولة وهاتفه وهو يشير بهما:


-لحقت نمت يا يزن بالسرعة دي؟


-أيه يا عم انا نايم من زمان! وأنت جيت طبيت عليا زي القضى المستعجل.


تمتم بها يزن بضيق زائف، فهز زيدان رأسه بإيجاب وهو يقول:


-سالي اتصلت عليك تتطمن ان كان في حاجة خلتك تقفل بسرعة..يا حرام قلقت عليك.


-ملايكة...قلبهم قلب خساية.


قالها يزن بابتسامة عابثة، فاقترب زيدان منه بغيظ:


-نفسي اشوفلك صاحب بيتصل يطمن عليك، كل الارقام اللي على تليفونك بنات.


- لا في يا ظالم أنت وأخوك سليم.


وعندما هتف باسم سليم انقض زيدان فوقه يسدد اللكمات القوية له في غضب:


-سليم فكرتيني به، كويس كدا لما عكيت الدنيا....خد دي عالله البنات تكرهك.


ابعده يزن عنه بصعوبة وهو يقول بصوت قوي:


-خف شوية من الحقد، وبعدين مش كفاية ان ساعدتك يا ناكر الجميل.


فرك زيدان وجهه بعصبية قائلاً:


-ساعدتني في إيه غير ان اخوك هيفهم غلط، أنا هتصل عليه وهقوله.


صاح يزن بانفعال قائلاً:


-بقولك إيه ان كنت فاكر الموضوع بالبساطة دي تبقى مجنون، سليم بيعاند وهيعاند ومش هيصدق.


انتفض زيدان بحنق مردفًا:


-وليه نخبي من الاول، ما نقوله وبراحته في الأخر.


-هو إيه اللي براحته دا اخوك، وبعدين أنا عارف سليم كويس و متأكد انه هيرفض وموضوع انك تأجل مع مليكة لغاية ما يرجع فاشل في ظروف علاقتكوا دي وخصوصًا ان وقت رجوع اخوك مش مرهون بولادة شمس مرهون بصحتها..يعني هتستنى لغاية امتى؟


فتح زيدان فمه كي يتحدث ولكن يزن قاطعه واستكمل بنبرة أهدأ مما قبلها:


-اوعى تكون فاكر ان متكلمتش معاه بس هو بيعاند..مش غلطتي يا زيدان ان قررت اساعدك واقنع امك اننا نخبي عليه لغاية ما يرجع.


جلس زيدان فوق الفراش مجددًا يتساءل بتفكير:


-ولما يرجع مش هيزعل مننا..هيزعل مني أنا والأمور تتوتر بينا أكتر.


أسبل اهدابه للحظات قبل ان يعترف بجزء صغير من هواجسه:


-أنا تعبت يا يزن ونفسي أعيش وأنا مبسوط..بقيت خايف من اللحظة اللي نرجع فيها أنا وسليم لنقطة الصفر، عمري ما خفت من حاجة قد ما خفت من كدا.


اقترب يزن منه يواجه الحقيقة الكامنة بداخل زيدان، فمن الواضح أنه كان يعاني في صمت وحده والجميع ينعته بالبارد المتسلط:


-أنت ببساطة خايف من خسارة سليم ومليكة..بس لو فضلت في الدايرة دي كتير عمرك ما هتتبسط، حاول ترضي نفسك وتبسطها باللي تتمناه.


التوى فمه متهكمًا ثم قال:


-يعني اتجاهل اخوك؟


-مين قال كدا، سيب كل حاجة لوقتها، ولو اللي بتتمناه جه وقته حققه من غير تفكير وابقى فكر بعدين هترضي اللي حواليك ازاي، بس الأهم انك ترضيهم بجد متزهقش من أول محاولة.


انزل زيدان رأسه وشرد بحيرة في كيفية فك شفرات حياته التي باتت معقدة بشكل ازهق روحه وجعله غير مستمتع بأهم خطوة كان ينتظرها.


-سيب سليم رهن رجوعه ووقتها هقف جنبك ومش هسيبك الا لما يكون راضي تمامًا وبعدين اخوك مش ابو الهول يعني دا قلبه قلب خساية.


ضحك زيدان رغم عنه وقال بتحذير اختلط فيه المزاح:


-لو سمعك وأنت بتقول عليه كدا هيزعلك جامد.


عاد بجسده للفراش يلتقط طبق الفراولة وهو يقول بعبوس زائف:


-خلاص قلبه كيوي.


مجددًا انفجر زيدان ضاحكًا وهو يسأله:


-أنت يابني مشكلتك إيه مع الكيوي؟


-مبحبوش.


اتسعت أعين زيدان وهو يشير نحو نفسه:


-يعني أنت مبتحبنيش يا كلب..تعال...


انقض عليه مجددًا يسدد له اللكمات فتفاعل معه يزن وأصبح الفراش عبارة عن ساحة للمعركة بعد أن قررا المزاح ليلاً لعلها تلك الأوقات تساعد زيدان في تخطي مخاوفه التي أصبحت تتفاقم بشكل لا يطقيه.

                                    ***

في الصباح الباكر..


خرج خالد من غرفته استعدادًا للذهاب لعمله وقبل أن يفتح إضاءة الصالة وجد نهى تتوسط الأريكة بنصف جسدها فيبدو أن النوم قد غلبها ولم تشعر بنفسها..تقدم من غرفة خاله يتفقده قبل أن يغادر، وجد خاله يغفو فوق الفراش هو وخالد رمقهما بضيق ويأس وقبل أن يخرج لمح غطاء موضوع فوق الارض ووسادة عليه، عاد برأسه لنهى النائمة بعمق فوق الأريكة وتأكد حينها أنها من اختارت ذلك المكان للنوم، شعر بالغيظ لاختفاء الرجولة والنخوة لديهما فصاح بأعلى صوته وهو يهز سمير المستغرق في نومه:


-قوم يا بيه...قوم.


انتفض سمير بعدم تركيز وأيضًا ابراهيم فتح عينيه يحاول ادراك ما يحدث فاستغل خالد حالة التيه تلك وسأل بصرامة:


-نهى فين؟


-نهى!


كرر سمير خلفه بعدم فهم وانتقل بصره فورًا فوق الأرضية مكانها تحديدًا مردفًا بتلعثم طفيف:


-كانت نايمة هنا...


وأشار دون وعي نحو مكانها فتأكد خالد من ظنونه وصاح بشراسة:


-بتشاور فين يا عديم النخوة لما تسيب اختك تنام برة في الصالة أو تنيمها على الارض وأنت نايم على السرير.


لم يتحمل سمير هجوم خالد عليه فزعق به هو الأخر:


-وانت مالك هي كانت اختك ولا أختي.


دخلت نهى على اثر صوتهما المرتفع تبعد اثار النوم عن عينيها المرهقة بأصابعها بينما صوتها خرج مبحوح يتساءل في قلق:


-في إيه؟


انطلق ابراهيم نحوها بعد صمت طويل حاول فيه فهم ما يحدث، فقبض فوق ذراعها بعنف:


-أنتي يا بت انتي بتشتكي لخالد ليه؟


توسعت عيناها بصدمة وهي تشير نحو نفسها:


-أنا..لا معملتش كدا.


اندفع سمير هو الأخر يجذبها من ابراهيم بعنف يردف بنبرة معنفة قاسية مصاحبة لصفعة قوية من يده هبطت فوق وجنتيها:


-اكدبي يا بت...دا أنا هربيكي.


لم تدرك ما يحدث سوى أن هناك قوة كبيرة سحبتها من محيط والدها وأخيها..وبقيت بعيدة عنهما..ولكن ما يعيق رؤيتها هو وجود خالد أمامها بجسده الصلب القوي فكان مواليًا لها ظهره ونبرة صوته تصدح في المكان بتهديد قوي جعل كل من أبيها وأخيها كالصنم:


-متمدش ايدك عليها تاني، هي مقالتش حاجة أنا اللي شوفت بعيني بجاحتك.


-اهدا يا خالد يا حبيبي.


قالها ابراهيم في محاولة لإنقاذ الوضع بسبب عصبية خالد المفرطة، فتجاهله خالد عن قصد وهو يمسك يد نهى المستسلمة له:


-واقسم بالله اللي هيقربلها هيشوف مني وش تاني..


استكمل حديثه وهو يشير نحو سمير المتوهج بنيران الغيظ والحقد:


-وانت لو شوفتك بتتضربها همد إيدي عليك.


أنهى حديثه وهو يجذبها خلفه متجهًا بها صوب غرفته...بينما بقي سمير يغلي بكره صب كاملاً نحو خالد أما ابراهيم فتجاهل ما يحدث واتجه صوب الفراش يستكمل نومه..

________________ 

قراءة ممتعة ❤️❤️

يا رب التفاعل يزيد ونزلت بناءًا على رغباتكم ❤️❤️❤️


تكملة الرواية من هنا

تعليقات

التنقل السريع
    close