القائمة الرئيسية

الصفحات

منك واليك اهتديت الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون بقلم زيزي محمد كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 
بقلم زيزي محمد
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

وقفت نهى ترتجف بخوف في غرفة خالد تنتظر دخوله خلفها، وعقلها توقف تمامًا عن التفكير، انتشلت ما بين اللحظة والأخرى من وضع الهجوم للأمان الذي لم تشعر به إطلاقًا، حتى زيدان رغم أنها كانت تتوق للحظة لقائهما إلا أنها دومًا تشعر بعدم الراحة معه وكأن هناك أمر خطير سيصيبها ولكنها كانت تدفن مخاوفها من أجل الاستمتاع بالوجود معه فالقرب منه كان يكفيها.

تابعت دخوله الشرس وصوته الهامس بكلمات يبدو وأنها شتائم خرجت من فرط غضبه وحينما لاحظ وجودها ابتلع قاموسه الفريد من أجل الحفاظ على مكانته أمامها فاندفع يقول بغيظ:


-ابوكي واخوكي مش هيهدوا إلا لما يطلعوا السافل اللي جوايا ودا لو طلع مش هعمل حاسب لقرابة ولا زفت.


هزت رأسها بإيجاب توافقه الرأي وكأنها لا تعِ ما يقوله، فكل ما يشغل عقلها هو جسده المنتفض وملامحه الشرسة وكأنه خرج من حلبة مصارعة رغم أنه لم يتشاجر معهما ولكن يبدو أنه كان يحاول تهذيب نفسه وهذا أثره أكبر من العراك الجسدي..

انتفضت بفزع وهو يقترب منها حيث قال بنبرة شرسة معنفة:


-وانتي هبلة سايبة المتخلف اخوكي دا يضربك ليه؟


لوهلة بقيت كالصنم لم يصدر منها أي رد فعل، ومن بعدها بدأ الغباء يسيطر عليها وهي تنظر له ببلاهة وصوتها مرتبك للغاية:


-امال اعمل إيه؟


-اضربيه، امسكي أي حاجة وافتحي دماغه الجزمة وما يهمكيش أنتي كدا هتبقى بتعملي خدمة للبشرية كلها.


توسعت عينيها بصدمة وانفرج فمها وهي تتابع حديثه المائل للشراسة ونبرة صوته الخافضة اختلط بها الإجرام لوهلة، فعاد الاندهاش يغزو ملامحها عندما واصل:


-متخافيش، هو اه أنا جوايا مجرم قديم بس أكيد مش هطلعه على أهلك ميستاهلوش.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

رمشت بأهدابها عدة مرات وكأنها لا تدرك مغزى كلامه فمن الواضح بساطته وهو يحاورها ولكنه يملك جاذبية خطيرة تضعها أحيانًا في خانة الذهول حيث لم تكن قادرة على محاوراته بل تظل صامتة كالبلهاء أمامه، وحينما طالت في صمتها خرجت جملة واحدة منها لم تعرف كيف انسلت من عقدة الصمت المسيطرة عليها:


-أنا خايفة.


التفت خلفه بتعجب وهو يتساءل: 


-من أيه؟


-منك ومنهم.


إجابتها كانت سريعة للغاية ففجرت إمارات الانشداه فوق تقاسيم وجهه، مما دفعه يشير نحو نفسه قائلاً:


-مني أنا؟ ليه؟...


وقبل أن تجيب اندفع يستكمل حديثه بجدية وصرامة:


-أنا عمري ما هافكر أأذيكي يا نهى، لأني ببساطة ولا بكرهك ولا حتى بحبك، أنتي واحدة غريبة اتفرضت عليا غصب، وعشان أنا محترم بزيادة سكت زي ما سكت على وجود ابوكي واخوكي عندي هنا..رغم اللي انتم عملتوه فيا زمان، بس أنا مش زيكم ولا عمري هكون فاهضطر اتعامل معاكم بأصلي.


-أأ...أنا...مقصدش...


كانت تحاول الدافع عن نفسها ولكنها لم تستطع التبرير بسبب نبرته الخشنة وهو يجذب كفها يفتحه ويضع به مفتاح:


-دا مفتاح الاوضة دي، في العادة بسيبها مفتوحة بس من الواضح انك معتوهة ومش هتعرفي تدافعي عن نفسك، لو حصل حاجة ابقي اجري واقفلي على نفسك الباب.


غادر بعدها تحت صدمتها منه، فهمست غير مستوعبة ما قاله:


-دا شتمني!


هزت رأسها عدة مرات تستوعب ما حدث منه، وعادت تشير نحو نفسها:


-شتمني بجد! وبعدين...


عادت تعقد حاجبيها بتفكير وضجر:


-هو احنا عملنا في إيه زمان؟ طيب هما ممكن يكونوا عملوا...أنا عملت أيه؟

                              ***

-قوم يا بابا...سي زفت مشي وراح شغله.


تجاهله ابراهيم وتظاهر بالنوم، فثار سمير بغضب قائلاً بتهديد:


-قوم كلمني، أصل اروح اموتها من الضرب.


التفت ابراهيم له بغيظ مردفًا:


-اهو اتنيلت وصحيت في إيه يا سمير يا حبيبي على الصبح؟

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

انتفخت أوداج سمير وهو يقول بحنق:


-في كتير..هو خالد بيدخل ليه بيني وبين الزفتة اللي اسمها نهى، هي كانت اخته ولا اختي.


زم ابراهيم شفتيه بضيق وعاد مرة أخرى لوضعه فوق الفراش:


-متستاهلش عصبيتك دي، كمل نومك.


انفجر سمير بغضب وكره وهو يصيح عاليًا:


-هي ولا تفرق معايا واحد في المية أساسًا، أنا اللي يفرق معايا تهزيقه ليا، وزايد فيها اوي لما نهى جت، قصده إيه؟


تساءل في نهاية حديثه بشك لم يثير فضول ابراهيم حتى أنه رد ببساطة أزعجت ولده:


-ولا قصده حاجة، هو خالد كدا لسانه متبري منه.


-انت بتدافع عنه ؟


شق الاستياء ملامح ابراهيم وهو يجيب: 


-ولا بدافع ولا بزفت، أنا بس شايف انك مكبر الموضوع، وبعدين إيه الجديد ما خالد على طول بيهزقك كدا.


ظهرت الاستشاطة في صوت سمير وهو يقترب من والده والشر يتطاير من عينيه:


-أنت عايزني اتجنن دلوقتي؟


-ولا تتجنن ولا تعمل حاجة، تسكت خالص وتستحمل زي ما كنت بتستحمل، مسمعتش صوتك يعني إلا لما نهى جت؟


اضطرابراهيم لإزالة قناع الهدوء فظهر الغضب جليًا لسمير الذي تراجع مردفًا بتلجلج يوضح وجهة نظرة:


-آآ..اه..اسكت يعني واخليه يهزقني ويقل مني قدامها وبعدين هي تشوف نفسها عليا.


-مش هتقدر، أنا هقطم رقبتها، روق بالك وتعالى نام ساعتين عشان نطلع للشيخ قاسم.


قالها إبراهيم وهو يجذب ذراع ولده نحو الفراش محاولاً امتصاص غضبه أو بتعبير أصدق مخاوفه من هدم شخصه أمام أخته، فقد تعود على معاملتها بقسوة كي تهابه وتخشاه ولا تتجرأ على الوقوف أمامه مهما كان السبب ومن عزز فيه ذلك كانا والديه وخاصةً أنهما يران نهى غبية لا تستحق التقدير أو الاهتمام بسبب أوهام الحب الغارقة بها وبالطبع لن تجني منها سوى الدمار، فإن حدث ذلك فيكون الهلاك من نصيبها وحدها أما هم في مأمن بعيد عنها.


-الشيخ قاسم مبقاش عاجبه قعدتنا عنده وعايزنا نتجمع هنا في شقة خالد.


انتبه ابراهيم على قول ولده الذي خرج في همس، فاندفع يفتح الإضاءة مجددًا يتساءل في تفكير:


-هو عاملها نكاية في خالد ولا إيه؟


اعتدل سمير هو الأخر يجيب بحيرة:


-والله يا بابا ما عارف، بس باين عليه بيكرهه.


ثارت نفس ابراهيم بقلق فقال باهتمام:


-طب واحنا مش عايزين نزعله مننا، نعمل إيه؟


بعد لحظات من التفكير انطلق سمير يحيك خطة خبيثة والبسمة تحلق فوق شفتيه:


-بص احنا ممكن نجيبه وقت ما خالد يكون في الشغل وقبل لما يجي نطرقه بأي حجة.


ضيق ابراهيم عينيه مفكرًا في أمر تلك الخطة من جميع النواحي ورغم أنها اعجبته إلا أنه يخشى رد فعل خالد أن علم بذلك الأمر: 


-تفتكر هنقدر نعمل كدا من غير ما خالد يعرف؟


أجاب سمير مؤكدًا عليه:


-اه، احنا لازم نمسك العصاية من النص، خالد ومينفعش نسيب شقته وحاجات كتير بسببه اتشالت من علينا، والشيخ فلوسه حلوة بس لسه ابن *** قافلها علينا.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-هتفتح يا سمير بس نعمله كل اللي هو عايزه مهما كان التمن وصدقني هنشوف عز أكتر من اللي كنا فيه في مصر.

                                      ***

حركت مليكة خاتم الخطبة في إصبعها بابتسامة شاردة انبثقت من ظلام فرض هيمنته عليها وخرجت للنور أثلجت بها صدر زيدان المتوجس من عبوسها أغلب الوقت، فابتسم تلقائيًا رغم عنه لمجرد فقط سعادتها بخاتم خطبتهما.


-مبسوطة؟


سألها بهمس وهو يميل بجسده نحوها، فنهرته بعينيها تمنعه عنها قائلة بخفوت:


-زيدان ابعد بابا مصطفى يقول إيه؟


رمقها باستياء والتزم الصمت لم يدم طويلاً وذلك حينما صدح صوت يزن من خلفهما قائلاً:


-مبروك يا عروسة ألف مبروك.


تمتمت خلفه بخجل:


-الله يبارك في حضرتك.


رفع يزن حاجبيه ومال على زيدان بنصف جسده قائلاً بصوت لم يسمعه سواه:


-كيوت اوووي مش لايقة عليك، أنت عايز واحدة مجرمة شبهك بالظبط.


ضغط زيدان فوق شفتيه معبرًا عن غضبه من ذلك الفظ، ولكن تراجع وتمالك نفسه عندما قال مصطفى:


-مكنش له لزوم نيجي كافيه عشان مليكة تنقي الشبكة.


-لا لا عادي خالص، معقول هناخدها بردو في المحل تنقي!


قالها يزن بنبرة سريعة محاولاً تدارك الأمر وبعدما أنهى حديثه القى نظرة ماكرة نحو زيدان الذي أكد على حديثه بنبرة غامضة:


-معقول بردو.


ارتفع رنين هاتف يزن، فنظر في الشاشة وكانت الابتسامة تلوح فوق شفتيه ولكن سرعان ما اضمحلت بسبب رؤيته لأسم سليم..حتى أنه عبر عن خوفه بصوت مرتفع:


-اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، دا بيجي على السيرة.


-سيرة إيه؟


قالها مصطفى بقلق وهو يدقق النظر بيزن الظاهر عليه علامات التوجس، حتى أن مليكة نظرت لزيدان باستفهام فحرك رأسه نحو مقعد يزن وما أن رأى أسم اخيه، قال بنبرة يملأها التهكم:


-قوم رد عليه..قوم يا حبيبي.


-لوحدي، هكلمه لوحدي؟!

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

تساءل يزن بصوت يغلب عليه الرجاء، فجاء الرد من زيدان بتحريك رأسه في إيجاب، مما اضطر للنهوض معتذرًا وابتعد عنهم بعيد في ظل عدم فهم مليكة ومصطفى لِمَ يحدث حتى أن زيدان تجاهل ذلك قائلاً:


-اطلبلك قهوة يا عم مصطفى؟

                               **

بينما على الجانب الأخر وبمسافة بعيدة عنهم وقف يزن يسرق بعض ذرات الهواء استعدادًا لتحدث مع سليم ثم قرر الرد، فخرج صوته المرح كعادته:


-باشا المجرة والمجرات المجاورة.


-أنت فين يا يزن؟


سؤال صارم عبر الهاتف وارتطم بأذن يزن الذي أخفى توتره ببراعة ورد بهدوء:


-في الشغل يا حبيبي.


-كداب، بتعك فين ومع مين؟


رفع يزن حاجبيه معًا بصدمة وهمس بتفكير:


-حتى وأنت في أمريكا قافشني.


-بتقول إيه؟


سأله سليم بعدم فهم بسبب همهمات وصلت إليه لم يدركها، فجاء رد يزن المشاكس:


-بقول إيه شغل المباحث دا، أنا كنت اقصد رايح المعرض.


-بعد كدا لما تتكلم معايا تتكلم بوضوح، احنا هنهزر ولا إيه؟


كانت نبرته جامدة لاذعه، مما جعل يزن يرتبك حقًا معتقدًا أن والدته قررت اخباره بخطبة زيدان، فهدأ من اضطراب قلبه وأردف بتروٍ:


-مالك يا سليم؟ إيه الطريقة دي هو أنت زعلان مني في حاجة؟


-ادارة المحل بلغتني أنك اخدت مجموعة خواتم منهم، في إيه؟ وواخدهم لمين؟


ابتلع يزن لعابه بتوتر وهتف بعدها بتريث:


-هو أنا ممنوع أخد حاجة من المحلات؟!


-لا طبعا تاخد اللي نفسك فيه، بس أعرف لمين، وخصوصًا ان اخبار حضرتك بتوصلني ولسه بتعك.


زفر يزن بارتياح وقد تبخر اعتقاده بعدما تأكد من عدم معرفة سليم بشيء، فرد بهدوء بعدما اختلق قصة محاولاً الهرب من حصار سليم له:


- واحد صاحبي عايز يخطب وجبتله الخواتم لغاية عنده هو وخطيبته.


-هو أنت ليك صحاب رجالة؟


تساءل سليم بسخرية ألهبت حنق يزن الذي رد بخشونة:


-اه يا عم ليا طبعًا..


ولكن سرعان ما سيطر عليه المزاح:


-بس بخبيهم عشان الحسد.


كانت دومًا طريقة يزن مع سليم خاصة وفريدة حتى إن ظهر غضبه لم يفكر إطلاقًا في التمادي به محاولاً بشتى الطرق لجم ذاته المتمردة مع سليم بالأخص... لم يعرف لِمَ هو تحديدًا ولكنه شيء غرز في نفسه وأصبح سليم خط أحمر لا يتعداه أبدًا حتى وإن كان معه الحق، وإن وقف سليم أمامه يرتد للخلف.. أيضًا سليم سرعان ما يتلاشى عنفوانه معه ويتراجع لذاته الحنونة معه، طالما اعتبره صغيره وليس أخيه، فمنذ أن تحمل المسئولية وهو يحاول حمايته، الحفاظ عليه بشتى الطرق، توفير كل السبل له حتى يظل في أمان بعيدًا عن أي تهديد قد يصيبه فأصبح مدلّله رغم أنه يحاول عدم إظهار ذلك ولكنه يشعر به تمامًا من خلال نظراته واهتمامه غير المباشر، وكانت تلك النقطة هي الدافع الرئيسي في تخطيط يزن لخطبة زيدان من دون علمه فهو يعلم مدى حبه لدى سليم مستعدًا لاستغلال ذلك، فكل ما يهمه هو مساعدة أخويه في إيجاد مرفأ الأمان... سليم وقد وجد الأمان في شمس وعادت السكينة تعم حياته بعد أن اعترف زيدان بأخطائه وتنازلت والدته من برج الخوف واعترفت بأخطائها هي الأخرى.. أما زيدان فقد احتار كثيرًا في توفير الراحة له إما كان شارد معظم الوقت أو عصبي لا يتحمل أحد وقد لاحظ تغيره منذ اللحظة التي علم بها بحبه لمليكة ومن هنا قرر مساعدته... فيبدو أن أخويه قد وجدا الهدى بنسائم الحب.

حمحم يزن بخشونة يبدو أنه شرد لثوان وترك عصبية سليم تنفرد بالاتصال وحدها:


-خلصت زعيقك؟

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-هخلص لما تخلص استظرافك.


-كأبة حتى وأنت في أمريكا يا عم.


تمتم بها يزن بغيظ، فزفر سليم بحنق ومن بعدها قال بنبرة أهدأ:


-متزعلش مع ان اشك انك زعلت، بس انا مضغوط شوية.


-هي شمس بتخليك تطبخ كتير ولا إيه؟


تساءل بضحك ساخر، فسمع لشتائم خافتة خرجت من سليم ومن الواضح انه خفض نبرته حتى لا تسمعه شمس، فضحك يزن أكثر مما دفع سليم لتحذيره:


-لم لسانك معايا يا حيوان، أنا اخوك الكبير.


-حاضر يا أبيه.


-المهم روح وخد اللي أنت عايزه، أنا بس كنت بطمن خفت تكون بتعمل حاجة غلط.


ظهرت نبرة الندم بصوت سليم الذي حاول اخفائها، ولكن يزن أدرك ذلك وحاول إلهائه بالمزاح قائلاً:


-هو أنا بردو بعمل حاجة غلط، متقلقش أنت.


- أنا هتقولي! نهايته..زيدان عامل إيه؟


تساءل سليم محاولاً الاطمئنان عليه بطريقة غير مباشرة، فالتفت يزن للخلف يلقي نظرة نحو أخيه الذي وجده يركز ببصره عليه في قلق فرفع أصابعه وأشار إليه للاطمئنان فارتاح قلب زيدان واستدار يكمل حديثه مع مليكة وزوج والدتها الذي استغل الجلسة في التعبير عن حبه واعجابه بيزن.


أما يزن قال بضحك ساخر:


-زيدان زي الفل..زي الفل خالص.


-طيب ابقى سلم عليه، هقفل أنا وخلي بالك من ماما، وزي ما قولتلك اعمل اللي أنت عايزه بس من غير قلق.


أغلق سليم الاتصال فابتسم يزن بابتسامة عبرت عن مدى حبه وتقديره لأخيه الاكبر المحاول بشتى الطرق ارضائه فهمس برضا:


-زي ما قولت قلبه قلب خساية.

                                  ***

بعد مدة قضاها زيدان في ملل يتابع حديث يزن ومصطفى، محاولاً لفت انتباه يزن الذي كان قاصدًا لإغاظته والجلوس معهم، اما مليكة كانت أحيانًا تتحدث معهم باهتمام ومرات أخرى تشرد بعيدًا وتسرق معها انتباه زيدان الذي أصبح قلقًا عليها بشدة ولكن تهربها بابتسامتها الصادقة ولمعة الحب المسيطرة على نظراتها تجعله يهدأ ويتحلى بالتريث في عدم الضغط  رغم أن الشك طرق أبوابه، لدرجة أنه اعتقد أن خطوط الحزن المسيطرة على ملامحها السبب بها مصطفى ولكن معاملة الرجل لها كانت لطيفة صادقة يغلب عليها الحنو والأبوية فتراجع عن الشك به وترك الامر مؤقتًا..أخيرًا شعر يزن به وبحاجته للانفراد بها فقرر اعطائه فرصة طالما كان يملك مفاتيح مصطفى من أول جلسة:


-يلا بينا يا عم مصطفى، اخدك اوريك المعرض، ونسيب زيدان يوصل مليكة المستشفى.


لم يعترض مصطفى بل نهض موافقًا رأيه:


-يلا بينا.


تعجب زيدان من سرعة موافقة مصطفى، ولكن غمزة يزن له استفزته فاضطر لجذبه نحو مستواه قائلاً برجاء:


-ما بلاش المعرض، الراجل هيشك فيك من اللي هيشوفه هناك.


ضغط يزن فوق شفتيه السفلية ثم هتف بجدية زائفة:


-ولد عيب أخوك شريف.


-شريف هيموت بسكتة قلبية من اللي هيشوفه، ابوس ايدك متضيعش هيبتنا قدام الراجل.


ابعده يزن بخفة ورمقه بتحدِ ثم بعدها نظر لمصطفى الذي كان منشغلاً في الحديث مع مليكة:


-يلا يا عم مصطفى، دا أنا هبهرك عندي في المعرض.


ودع مصطفى مليكة وغادر مع يزن الذي تجاهل نظرات زيدان المحذرة، ومع اختفائهما انتبه لصوت مليكة الهادئ الذي بدأ يملك بحة غريبة تحفز غريزة الفضول حولها:


-يلا بينا يا زيدان لازم اروح المستشفى.


زم زيدان شفتيه في ضيق ونهض دون أن يعبر لفظًا عن غضبه منها وتجاهلها المتعمد له من بداية خطبتهما..

بعد فترة قصيرة وصل أمام المشفى، وقد قضى معظم الوقت في صمت، حتى أنه اوقف السيارة دون أن يتحدث ويودعها، فتراجعت عن المغادرة والتفتت نحوه تقول في توتر وخجل:


-زيدان كنت سألتيني يعني ان كنت مبسوطة ولا لأ.


تحرك بنصف جسده ينظر إليها يعطيها كامل اهتمامه طالما تستحقه دومًا بخجلها المحبب لقلبه ولكنه يتمنى لو تتخلى عنه قليلاً وتعبر عما تشعر به عله يطفئ نيران الحب المتوهجة بقلبه.


-مبسوطة طبعًا..أكيد يعني مبسوطة بخطوبتنا بس أنا..


أطرقت للحظات تحاول استجماع قوتها في اخباره أمر واحد مما يسبب لها الأرق والخوف، ولكنها لم تستطع فلجأت للهرب منه بقولها:


-مكسوفة، أو مش مستوعبة.


-يمكن!


صدح صوته بقوله الملهب لخلايا تفكيرها، وأشعل لهيب القلق لديها من رد فعله الغامض، فسرعان ما حاولت سؤاله:


-قصدك أيه؟


-قصدي أن في حاجة مضايقكي مش عارف إيه هي، جوز أمك ولا  حاجة في المستشفى ولا يمكن أنا، حقيقي معرفش بس كل اللي بتمناه انك لما تعوزي تتكلمي اكون أنا الشخص دا.

جف حلقها وهي تتابع سلاسته في كشف خباياها ورغم أنها لم تكن كاملة إلا أنه لامس بدايتها فقبضت فوق حقيبتها وهتفت بتلعثم:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-لا مش مضايقة بالعكس أنا فرحانة اوي.


اقترب بجسده منها وجذب كفيها رغم عنها قابضًا فوقهما برفق وبنبرة لطيفة هدأت من روعها أردف:


-يا حبيبتي أنا كل اللي شاغلني خوفك اللي دايما ظاهرلي ومعرفش سببه، كنت فاكر بسبب أن مفيش رابط رسمي، بس اهو..


فتح قبضته ونظر لخاتم خطبتهما بتفكير:


-اتخطبنا ولسه زي ما أنتي مفيش تغير.


سقطت دمعة فوق كفه من عينيها وبصوت مرتجف أخبرته بصدق:


-يمكن خايفة تسيبني في يوم من الأيام.


اقترب أكثر محاولاً اثبات حبه لها، ولو امتلك أحقية احتضانها وادخالها بين ضلوعه لفعل ذلك، ولكنه تراجع وهمس بحب صادق:


-أنا بحبك ومعنديش استعداد اخسرك لثانية واحدة، أنا بحارب الدنيا عشانك وهحارب لغاية أخر نفس ليا، أنتي الامنية الوحيدة اللي اتمنتها والدنيا مش سيعاني لما حققتها.


-وأنا ك...كمان بحبك.


خرج اعترافها سهوًا منها ربما من فرط انفعال دقات قلبها بهمساته الشغوفة، أو بسبب اشتباك نظراتهما في عناق عاطفي عبر عن مدى العشق الكامن بقلبهما لا تعلم.. ولم تشعر سوى باقترابه منها أكثر محتضنًا شفتيها بعينيه، محاولاً اختطاف أول قبلة لهما ولكنها نجحت في الفرار منه وفشل هو فيما يتمناه فلم يحظَ سوى بلمسة كفيها الرقيقين غير ذلك كان الإحباط محلقًا فوق تقاسيم وجهه.

                                ***

 بعد فترة طويلة قضاتها مليكة في متابعة المرضى محاولة عدم التركيز على أمر ماجد فيبدو أن القدر يمهلها فرصة للخلاص منه، وعند تلك النقطة تلألأت كلمات زيدان لها من العدم وعادت من جديد تشعر بكم الاطمئنان الذي كانت تشعر به أثناء حديثه الصادق معها، لِمَ لا تخوض تلك المعركة وتخبره عن ماجد وتترك له أمر التخلص منه، تمنت لو تملك قدرة على إنهاء مخاوفها، ولكن مجرد التفكير فقط جعلها  تشعر بالضيق يتوغل صدرها، فيجب التفكير بعواقب اخباره قبل معرفته بأي شيء... هل سيتركها مثلاً ويظن بها السوء؟! نهرت ذاتها الخائفة وعللت ذلك بأنه يحبها بصدق بل ويعشقها بجنون..ستتخطى تلك الأوهام وتعترف له بكل شجاعة فهي لم تخطأ ابدًا.

شجعت نفسها وهي تخرج من غرفة أخر مريض تتجه نحو غرفة الاطباء تتمنى أن تكون  فارغة فتحادثه وتبدد خوفها..ولكن طالها الاحباط حين ظهر بعض الاطباء الجالسين بالغرفة يتحدثوا بأريحية خالطها النميمة..ابتسمت باهتزاز لهم وحاولت الخروج ولكن صوت طبيب زميل لها جذب انتباهها.


-تعالي يا مليكة، اعرفي اللي حصل في الدكتورة شريهان، يمكن متفكريش تتجوزي خالص.


وضحك بعدها، فتابعت فرح بابتسامة ساخرة حاقدة:


-مش لما تتخطب الاول.


عقدت مليكة حاجبيها لسخريتها المتعمدة لها، لِمَ تغيرت معها فرح بذلك الشكل وأصبحت لا تطيق التحدث معها تحاول تجنبها بالإضافة إلى نظراتها التي دائمًا تشعر من ناحيتها بالحقد والكره، كانت تتجاهل ذلك الأمر ولكنها لم تستطع تخطي أمر سخريتها تلك..ماذا لو علمت فرح أن محاولاتها لإهانتها لم تكن في محلها! وعلمت مثلاً بأمر خطبتها ماذا ستفعل؟! لن يهم هي من اختارت عدم اخبارهم وفضلت أن تظل خطبتها  في الخفاء حتى لا يصل الخبر لماجد فيعود إليها مدمرًا كل شيء فلا تستبعد أبدًا محاولاته في اثارة الشك في نفس زيدان، أو مثلاً استغلال تلك النقطة في الضغط عليها فتضطر للرضوخ أو انهاء خطبتها مع زيدان بفضيحة تسحق شرفها حتى وأن كانت ظلم.


-اقعدي يا مليكة فرح بتهزر معاكي.


تركت مليكة المقبض بعدما انتبهت لطبيبة اكبر منهم سنًا فتحركت صوب مقعد وهي تقول:


-مالها دكتورة شريهان؟!


-اطلقت وجوزها ضربها حتة علقة مخلاش مكان سليم فيها.


توسعت عيناها بصدمة قائلة:


-ليه، عملت إيه؟


تابعت طبيبة أخرى قائلة بخفوت:


-والله أعلم اكتشف انها كانت مخطوبة قبل كدا ومقالتش والواد اللي كان خطبها مقدرش يستحمل انها اتجوزت فبعتلها رسايل على الفيس جوزها بقا شافها وكلمه منه على كلمة منها ولع الموضوع أكتر واتطلقت.


كتمت شهقتها مردفة من بعدها بحزن:


-دول مكملوش شهر جواز.


تابع طبيب أخر الحديث بفضول:


-الصراحة الموضوع دا له حق فيه، يعني إيه واحد يبعت كلام حب لمراتي واعرف انهم كانوا مخطوبين، الغلط عندها من الاول كان المفروض تقول.


دافعت طبيبة أخرى بشراسة:


-في رجالة مبتفهمش فالبنات بتلجأ انها تخبي عشان حياتهم تكمل.


تابعت أخرى الحديث واندمجت في البحث عن أساس المشكلة:


-يا جماعة الغلط من تدخلات الأهل، أكيد امه سخنته، الموضوع ميستاهلش دا كله، امال لو مسك عليها صور مش كويسة كان قتلها مثلاً، دا متخلف اوي.


وإلى هذا الحد نهضت مليكة سريعًا وغادرت المكان بعدما شعرت بانسحاب أنفاسها وانقباض صدرها بخوف..فاندفعت للمرحاض تنزوي به تبكي في صمت في ظل ارتجاف جسدها وكأن الطمأنينة التي كانت تشعر بها في غياب ماجد تبخرت وظهر طيفه يهددها من جديد يعبث بواجسها ويثير تخيلها لنهاية بشعة تلاحقها.

                                      ***

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

مساءًا...

وقفت نهى تعد وجبة اطعام وفقًا لأوامر والدها، حيث قرر أن تكون وجبة الطعام من اعدادها وتجهزها كاملة قبل عودتهما حتى أنه وضع لها  مواعيد تحضير الطعام وكأنها جاءت من أجل خدمتهما فقط..لقد قضت أغلب الوقت في البحث عن هاتفها ربما تصل إليه وتخبر والدتها بكل شيء وتعود لمصر مرة أخرى فالوضع هنا أكثر سوء مما كانت تتخيل وخاصةً مع وجود خالد الذي لم تعتاد عليه بشخصيته الغريبة تلك، وكالعادة فشلت حتى في إيجاد هاتفها او أي هاتف أخر ولم تستغل فرصة عدم وجودهما.

قررت التركيز في الطهي خوفًا من تلقي توبيخ يصل لحد الضرب من والدها..ولكنها استمعت لصوت أقدام يأتي من الخارج، فشعرت بالخوف الشديد وجذبت سكين من أمامها وبحركة خفيفة تحركت صوب الخارج توجه السكين أمامها استعدادًا للدفاع عن نفسها وقبل أن توجهها لقلب ذلك المتسلل كان خالد يمسكها بمهارة يبعدها عن يدها:


-إيه يا نهى جو الاكشن دا.


-آآ..أنا والله ما كنت اقصد، كنت بحسبك حرامي.


لم تكن تع أنها بالقرب منه أمام وجهه مباشرةً تنظر لعينيه الراكضة فوق ملامحها بجنون لم يتملك منه من قبل، فخطف ملامحها في رحلة قصيرة بداية من بشرتها الباهتة بملامحها الحزينة رغم جمالها وأنفها الدقيق وشفتيها المنتفخة بلونهما الوردي مما أثارت فيه مشاعر لم يدركها من قبل وكأن هناك صوت يلح بالاقتراب أكثر لمعرفة إن كانا لونهما حقيقي أم زائف.. أما هي كانت بين قبضته القوية وكأنه فارس مغوار التقى بحورية جميلة فبدت له وكأنها تميمة حظة مقررًا ألا يتركها فارضًا حصاره عليها.


-هو أيه اللي بيحصل دا؟


كان صوت سمير مفاجئ كالقنابل التي تُلقى فجأة على منطقة ساكنة..فأشعل نيران الخوف لدى نهى التي انتفضت بفزع وكأنه أصابها مس، وهي تنظر لوالدها وسمير برعب...

________________

الفصل السابع عشر...


-أيه اللي بيحصل دا؟


عم صوت سمير الغليظ أرجاء المكان بعد أن رأى نهى مقتربة بشدة من خالد، بل كانت تقف كالفرخ ترتجف بين قبضتيه، وأول من ابتعدت خطوة كانت هي تحاول تدارك الأمر ولكنها فشلت فبدت كالخرقاء تتلعثم بفمها وتستنجد بخالد عن طريق عيناها المتعلقة به كي يخرجها من ذلك الوضع، ومع استمرار صمته اعتقدت نهى أن الصفعات ستتوالى فوقها الآن من قبلهم فالطبع لن يتفهما موقفها، ولكن أخيرًا خرج صوت خالد عادي جدًا وكأن شيء لم يكن بل شعرت بلمحة استهانة بهما وخاصةً حينما قال:


-قول لبنتك يا خالي انها مش قاعدة لوحدها في البيت عشان لما تحس بحد داخل تجيب سكينة وعايزة تقتله.


حولت نهى بصرها لوالدها تجاهد إضافة تأكيد على ما يقوله خالد ولكنها لم تحتاج وذلك بعدما تقدم والدها بغيظ مردفًا:


-سكينة إيه يا بت هو انتي اتجننتي.


حاولت الدفاع عن نفسها فلم تحظى بفرصة بسبب سخرية سمير التي انطلقت تحاوطها وكأنها بلهاء لا تقوَ على فعل هذه الأمور:


-نهى أختي تمسك سكينة وعايزة تدافع بيها عن نفسها، دي أكيد كدبة ابريل.


صدح صوت خالد بنبرة خشنة قائلاً:


-لا فعلاً عملت كدا، وكانت هتضربها فيا لولا ان لحقتها في اللحظة الأخيرة.


قبض إبراهيم فوق ذراعها واشتد بقبضته فوقه معنفًا إياها:


-هو أنا مش قولتلك متزعليش خالد مننا، عايزة تعملي مشاكل ليه؟


ظهر الهلع فوق وجهها وهي تشير برأسها في نفي فلم يكن مقصدها ذلك أبدًا، ومع اشتداد يد والدها فوق ذراعها تألمت بشدة وكعادتها حاولت إخفاء آلامها، فلم تعلم أن ايذائها النفسي فاق الإيذاء الجسدي بمراحل وظهر فوق تقاسيم وجهها خليط من المشاعر المتضاربة وكان أشهرهم حزن نابع من أعماق قلبها المجروح، فكانت تشبه طفلة مشردة وقعت بين من تجردت قلوبهم من الرحمة واشتدت قسوة صدروهم من بشاعتها.


شعرت بابتعاد والدها عنها وكان السبب خالد حينما تقدم ببسالة يدافع عنها قائلاً بصوت رجولي حانق:


-معملتش حاجة تستدعي دا كله.


ابتسم إبراهيم في وجهه ابتسامة متملقة يحاول تسوية الأمور بينهم:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-احنا ضيوف عندك يا حبيبي مش عايزين نضغط عليك وافعالنا تكون مستهترة.


ارتفع حاجب خالد الأيسر غير مصدق حديث خاله تزامنًا مع بسمة ساخرة حلقت فوق ثغره:


-لا انتوا بتضغطوا فعلاً..إيه هتمشوا؟


وأشار إليه بالمغادرة والسعادة تلمع بعينيه، فأردف سمير سريعًا يلقي اللوم فوق نهى الغائبة عن حديثهم:


-اهو بسببك زعلتي ابن عمتك مننا، أول وأخر مرة تتصرفي كدا.


اشتدت نبرته في أواخر حديثه ثم تحرك صوب الغرفة متجاهلاً استشاطة خالد أما ابراهيم أكد على حديثه ولده بتهديد لاذع لنهى التي كانت تقف كالصنم تتلقى دون محاولة الدفاع عن نفسها وكأنها اعتادت على ذلك الأمر مما اغاظ خالد المراقب لكل شيء من حوله ومع دخول ابراهيم الغرفة واغلاق الباب خلفه بصق من فمه باشمئزاز مردفًا:


-عالم معندهمش ذرة دم.


زفر بغيظ شديد منهم فمهما حاول طردهما بشكل مباشر لا يقتنعان بل يستمران في برودهما وهذا ما يثير غضبه أكثر، حتى أنه توصل مؤخرًا لحل وهو أن يترك الشقة في أمر مفاجئ ويضعهما في ورطة سداد أجار الشقة ولكن... ولكن ذلك الحل قبل مجيء نهى، فمنذ مجيئها وتخدرت حلوله مؤقتًا فوجودها عرقل أمور لا تستطيع تحملها أن فعلها بوالدها وأخيها السمج وبرر ذلك من باب رجولته التي لا تسمح بذلك.

تحرك نحو غرفته وتركها وحدها وما هي إلا ثوان وفتح الباب مرة أخرى هامسًا بصوت ضعيف:


-نهي...نهى.


التفتت له بتقاسيم وجهها الحزينة الممزوجة بلمحة خوف لم تتخفي حتى الآن، فيبدو أنها تعاني من آثار نفسية قديمة لم تجرأ على تخطيها، تقدمت خطوة ثم وقفت بعدها تحرك رأسها في صمت وعيناها تتساءل عما يريده، فقال بنفس همسه:


-هغير هدومي، وتعالي كُلي معايا عملت حسابك.


أشارت نحو نفسها في صمت والتعجب وجد لنفسه مكان بين ملامحها الجميلة غير مصدقة ما يخبرها به، ولكن مع تحريك رأسه بإيجاب أكد لها ذلك، فلم تستطيع الرفض ولا حتى الموافقة ظلت صامتة على وضعها حتى أغلق الباب في وجهها..انفرج فمها لا تصدق انقلاب افعاله بين اللحظة والأخرى، لم تستطيع فهمه هل هو شخص طيب يتعامل معها من مبدأ القرابة أم تتوهم ذلك وستصطدم بأمور تفوق ساذجتها كالعادة؟

                                  ***

بعد عدة ساعات...

خرج خالد برأسه من غرفته يبحث عنها فوجودها تجلس وحيدة في الصالة لا تفعل شيء، فأشار إليها بالمجيء في البداية لم تتحرك بل تعمدت التجاهل وركزت ببصرها فوق التلفاز، ولكن مع استمرار تحريك يده جعلها تقف باندهاش تتابع إصراره فهمست بحرج:


-مش جعانة كُل أنت.


رفع حاجبيه بسخرية وأردف بعدها:


-أكلت من زمان، أنا عايز اسالك على حاجة.


توغل الحرج ملامحها فاحمرت وجنتيها وجف حلقها وهي تتقدم نحوه تحاول التماسك أمامه بعد احراجه لها.


-خير في حاجة؟


فتح الباب لها فدخلت قائلة بوجوم:


-في أيه؟


-كان في تيشرتات هنا، انتي نقلتيهم فين؟


-كنت بدور على...


قطعت حديثها فجأة وابتلعت باقي كلماتها بما ستخبره، هل تخبره بمدى وقاحتها وهي تعبث بين أشيائه تحاول البحث عن هاتف كي تحادث والدتها، فيظن أنها متطفلة أو وقحة وتتلقى معاملة سيئة منه هو الأخر، ارتبكت وهي تقول:


-باين كدا روقت الاوضة.


 لوهلة عقد حاجبيه متسائلاً بتهكم:


-باين مش متأكدة.


أومأت برأسها بقوة ثم جذبت نفس طويل وانطلقت من خلاله تبحث عن قطع ثيابه التي تجهلها أساسًا فهي لم تتذكر أن احدثت تغيير بأماكن ثيابه، لم تدرك في البداية انه خلفها في كل مرة تتحرك بها تبحث هنا وهناك وهو خلفها مباشرةً حتى توقفت فجأة تلتفت بقوة حينما لمحت ثياب مُلقاة خلف حقيبة كبيرة، اصطدمت بجسده الذي ارتد للخلف خطوة ولكنه تيبس بالأرض متمسكًا بها متفاجئ من عودتها السريعة للخلف، فكان يتحرك خلفها لاعتقاده أنها وضتعهم بمكان ما فكان يريد مساعدتها ليس إلا أو ربما يريد اظهار ذلك  وبالطبع لم يحسب الاصطدام القوي بينهما فاهتز ثباته، وتحركت مشاعره التي لا زال يجهل هويتها وذلك الصوت المستفز مجددًا يعلو بصياح يحفزه لِمَ كان يريده من قبل...شفتيها الوردية..وردية الأصل أم أنها زائفة فانزلقت عيناه عليها مباشرةً وذلك بعد أن نجحت في سرقة انتباهه بارتجافها اللذيذ.

أما نهى كانت تستكين كمن ألقى فوقها تعويذة تجعلها خاضعة لسحر لا تجرأ على مقاومته، حتى لو كانت نظراته تلك تعصفها، تصيب قلبها برجفة قوية وهي بين يديه..استعادت وعيها المفقود للحظات ورجعت للخلف تشير خلف الحقيبة بصوت مهزوز:


-هناك..هناك اهم.


حول بصره نحوهم مشيرًا بيده وهو يقول:


-دا انتي طلعتي نضيفة جدًا في الترويق، في اختراع اسمه نطبق الهدوم ونحطها مكانها.


ابتلعت لعابها وهي تفرك يدها كالأطفال، لا تملك أحقية الرد فهي لا تتذكر أنها فعلت ذلك، ولكن أن كان الاتهام من نصيبها فليكن..هذا أمر بسيط عما تتلقاه، لذا قالت ببساطة:


-حاضر هعمل كدا.


تركها تتحدث وانطلق صوب طاولة يجذب طعام يضعه فوقها قائلاً:


-اقعدي كُلي، وأنا هلبس برة وهخرج.


-أنا اكلت مع بابا وسمير..

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

ضحك ضحكات ساخرة وهو يقول:


-بأمارة ما قسموا اللحمة ما بينهم وسابوكي صح؟


زمت شفتيها بضيق والتزمت الصمت وهي تسبل أهدابها تمتنع عن النظر إليه، لا تريد نظرات الشفقة تعبر ذاتها وتذكرها كم هي ضعيفة، لاحظت اقترابه منها وهو يقول:


-أنا مش مغيب وعارف طبعهم على أيه، اقعدي كُلي وبعد كدة لما اجيب أكل واقولك تعالي..تيجي وتاكلي، بلاش كبرياء بالله عليكي أصلها مش ناقصكي.


أصابها الذهول من شهامته الممزوجة أحيانًا بالوقاحة فقالت:


-أنت عايزني آكل ولا مش عايزني بالظبط؟


-مكنتش هقولك تعالي ولا اشيلك أكل.


رد ببساطة، فعقبت بحنق طفيف:


-ودي طريقة تكلمني بيها!


-امال عايزني اتحايل عليكي مثلاً، ولا اعمل الهدوم حجة عشان ادخلك تاكلي لا أنا مش كدا خالص..سلام.


خرج بسلاسة وكأنه لم يلقي قنبلة بوجهها، هو من اخفى تلك الثياب حتى توافق على تناول الطعام! أيعقل؟...ابتسمت للحظة فلم تصدق ما يصدر منه، هل هو معتوه كي يعترف على نفسه أم أنه يمازحها..حركت رأسها بنفي تحاول إخراجه من عقلها بعد أن قلب كيانها رأسًا على عقب..ذلك المجنون لا تعرف ان كان حديثه جاد أم عبارة عن مزحة ساخرة منها.

                                               ***

جلست مليكة فوق مقاعد خشبية خارج المشفى تنتظر مجيء زيدان وذلك عندما شدد عليها بضرورة إيصالها للمنزل وخاصة ان كانت في ساعة متأخرة ورغم سكون ملامحها إلا أنها كانت تغوص في بحر من الافكار المتدفقة، وقعت فريسة ما بين الصواب والخطأ..ما بين الخوف والشجاعة، مزقتها الحيرة نصف يقاوم يحارب وآخر يتمسك بالظلمة يخشى المواجهة. 

نكست برأسها بعد كل صراع نفسي تخرج منه كالعادة بلا شيء وكأنها لم تكن تدور في حلقات مفرغة بكل جهد تحاول النجاة، مدت أصابعها تمسك هاتفها من حقيبتها تفتحه تنتقل بين صفحاته وتحديدًا للصور المفبركة من قبل ماجد تنظر لها تدقق النظر تحاول رؤيتها من كل الجهات بعقلها...بعقول من سيراهم ان اقدم ماجد على نشرها، تراها ايضًا بنظر زيدان...هل سيصدق المحادثات الوقحة..هل سيصدق أن تلك الفتاة العارية هي..ولكن..هنا ظهر صوتها المكتوم ببحة يملأها الجنون:


-دي أنا...ضحكتي..دا شعري، يا رب.


همست بها وهي ترفع بصرها للسماء تستكمل مناجاتها:


-دا بلاء شديد نجيني منه يا رب...يا رب ساعدني اقاوم ضعفي وقلة حيلتي.


انسابت دموعها فوق وجهها وكأنها تريد الخلاص من سجنها لتخرج بغزارة تشق وجهها بأخاديد يملأها الألم والحزن، جذب انتباهها سيارة زيدان، فمسحت وجهها بخفة كي لا يلاحظ شيء وأغلقت هاتفها تحاول كتم آلامها النفسية خلف ابتسامة صغيرة مرحبة وهي تتجه نحوه، تجاهد نفض أمر ماجد مؤقتًا وما حدث بالمشفى اليوم والذي كان السبب في تراجعها عن اهم قرار قد اتخذته في لحظة شجاعة تبددت بل وسحقت أسفل احلامها الواهية.

جلست بجانبه بالسيارة وتلقت ترحابه بها وذلك عندما امسك بكفها داخل كفه يعانق أصابعها رافضًا التخلي عنها بعناد اثار حنقها:


-زيدان سيب ايدي.


-متحاوليش أنا مستني اللحظة دي من زمان.


عبست بوجهها وهي تسأله:


-لحظة إيه؟


رد ببساطة وابتسامة صادقة:


-امسك ايدك.


ضحكت رغم عنها محاولة مقاومته ولكنها فشلت فسكتت وكانت غير راضية بالمرة، فلوحت أفعالها بعدم الراحة وظهر ذلك جليًا عليها مما جعله يسألها بضيق:


-انتي كرهاني لدرجة دي؟


-ليه بتقول كدا؟


سألته بعدم فهم وقلق فأجاب بتعجب:


-بصي على وشك وتفهمي! دا مش منظر واحدة مخطوبة أبدًا.


-لا لا ..صدقني..أنا بس زعلانة عشان..


تلعثمت وهي تنفي ما يقوله وأول ما جاء بعقلها هو أمر زميلتها  المطلقة وما حدث بين الاطباء فأخبرته بالقصة كاملة والحزن يطغي على نبرتها.


-انتي زعلانة عشان كدا.


سألها بهدوء وهو يتابع الطريق:


-ايوا..شريهان مكنتش تستاهل كدا أبدًا.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

أجابت بحزن حقيقي مما دفعه يهز رأسه بتفهم  وصمت للحظات ثم عاد وتحدث بشك لازمه كونه عمله غرز فيه ذلك:


-بس أكيد هي عملت حاجة غلط خلت جوزها يتصرف كدا، ممكن تكون الرسايل مش ظريفة،   الصراحة شايف معاه الحق.


توسعت عيناها بصدمة وهي تقول:


-معاه الحق يضربها! وبعدين مهما كانت الرسايل إيه متوصلش لكدا  هو أكيد مجنون.


-والمفروض انه يتقبل مثلاً ان في رسايل تيجي لمراته من واحد غريب، دا راجل وطبيعي يشك يا حبيبتي.


سألته بنبرة شرسة وكأنها على حافة الانفصال:


-وطبيعي يضربها؟


-لا طبعًا وأنا معرفش أيه وصله لكدا بس ميضربهاش ينفصلوا بهدوء طالما مفيش بينهم اطفال.


-وعشان مفيش بينهم اطفال ينفصل عنها لمجرد ان في رسايل هددت حياتهم.


-هددت حياتهم بإيه...بالشك.. ودي كارثة لو ودخلت عقل الراجل عشان كدا ارجع واقول الغلط من ناحيتها ليه موقفتش خطيبها السابق عند حده..اكيد سمحت بتمادي في مرة ودي كانت نتيجته.


صرخت بانفعال وبدأت صدرها يعلو ويهبط في جنون:


-زيدان بس كفاية مش عايزة اسمع حاجة.


اوقف السيارة جانبًا قائلاً بعدم فهم:


-في إيه يستدعى لكل دا؟


-أنا مبحبش اللي ارتبط بيه يكون تفكيره بالشكل دا يضرب ويهين...


اوقفها بصرامة غير مصدقٍ اتهامها:


-ايه حيلك..حيلك..اضرب ايه، أنا ابن ناس ومتربي، انتي بتتكلمي في حاجة وانا بقول رأي مجرد استنتاج عادي.


عادت تصرخ مجددًا وكأنها تواجه وحش طارد مخاوفها من قبل:


-محدش طلب رأيك على فكرة، طالما بالوحشية دي.


-وحشية! هو انتي شايفني نازل بضرب الناس في الشارع.


-ظابط وتعملها على فكرة.


رفع حاجبيه بشراسة وهتف من بين أسنانه:


-إيه علاقة شغلي باللي بتقوليه!


تجاهلت حديثه قائلة بضيق:


-وصلني البيت لو سمحت..مش عايزة اتكلم.


-صاحبتك اطلقت أنا مال أمي، يتنكد عليا ليه؟


قالها بغضب من تصرفها الطفولي..فردت يعناد وهي تشير ناحيته:


-أنت موافق يضربها...


أمسك بكفيها معّا وبتر حديثها الهجومي حينما أدرك مخاوفها مقترب منها:


-ان كنتي بتحكي وفهمتي ان بشجع على الضرب، تبقي مجنونة أنا غيرهم وعلاقتنا غير أي حد..


صمت للحظة ثم عاد ورفع كفها وقبله بحب:


-احنا بنحب بعض، حتى لو بعدنا انتي حافظتي على نفسك عشاني وانا محبتش حد بعدك..اللي بينا حاجة كبيرة اووي مينفعش تتقارن بأي علاقة يا حبيبي.


رمشت بأهدابها وهدأت أنفاسها تحت همساته المحملة بنسمات الحب:


-اطمني عمري في حياتي ما افكر امد ايدي عليكي ولا افكر اسببلك أذى، أنتي حاجة كبيرة اووي عندي يا مليكة..متقارنيش نفسك بحد مهما إيه حصل حواليكي انتي جوهرة غالية وهحطك جوا عنيا.


استكانت كالطفلة تستمع له ورغم أن أثار مخاوفها لا زالت متروكة بها إلا أن حديثه كان كالبلسم لها، ربت فوق قلبها الخائف وخاصةً ان كانت نظراته صادقة شغوفة بالحب الكامن بقلبه ولكن تلك الصور تثير زوبعة من القلق  داخلها رغم أن نصفها حقيقي ونصف كاذب! هل سيصدق ذلك، مجددًا قيد لسانها بحِبال الصمت وتوقفت كلماتها عند حاجز منيع لم تستطع تخطيه.

طال تمسكه بها وكأنه طفل وأخيرًا وجد لعبته بل أن سعادته المرسومة فوق وجهه فجرت التعجب بملامحها فخرج سؤالها سريعًا يرشق به:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-افهم ايه من سر سعادتك دي؟


-ان انا قادر اسيطر عليكي في ثواني، من شوية كنتي مهيبرة ودلوقتي هديتي وبقيتي زي القطة كدا انا اطمنت على نفسي لما نتجوز.


حاولت جذب كفها من قبضته بغيظ شديد:


-والله! طيب سيب ايدي بقى.


-هي عليها رهن ولا أيه، كل شوية سيب ايدي لو عليها رهن قوليلي.


مازحها بخفة فاغتاظت أكثر ورفعت أحد حاجبيها قائلة:


-لا مش هتمسكها الا لما نتجوز...عشان تطمن على نفسك حلو.


تركها ببساطة وعاد تشغيل سيارته وهو يتمتم:


-معقدين، تقولوا لا ومينفعش الا لما نتجوز وانتوا اصلاً هتموتوا كدا ونمسك ايديكم.


-والله!


قالتها بتحدِ ساخر، فحول بصره نحوها يقول:


-هو انتم فاكرين اننا هنموت ونمسك ايديكم والجو الفارغ دا لا خالص احنا بنحقق رغباتكم بس، أصلنا غلابة اووي.


ضحكت بتهكم قائلة:


-غلابة جدًا.


حرك زيدان يده الأخرى بين نافذة الباب والمحرك بعشوائية وهو يتحدث قاصدًا ذلك ومن بعدها ارتطمت يده بقوة في باب السيارة فتألم بقوة واوقف السيارة مما اثار قلقها واندفعت بالقرب منه تقول بخوف:


-مالها ايدك في إيه؟


امسكت بكفه تمرر بصرها فوقه بهلع وهو يبتسم بشقاوة في صمت فارتفعت بعينيها له رأت تلك البسمة واضحة.


-شوفتي مين هيموت ويمسك ايد التاني، عيب يا مليكة حركات النص كم دي.


تركت يده بانفعال شديد ونظرة حاقدة التصقت بوجهه المبتسم باستفزاز، فأشارت بيدها ونبرتها المكتومة بالغيظ اردفت:


-وصلني حالاً البيت.


استدارت بعدها للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها عن مشاكسته لها ولم تكن تعلم أن صورتها معكوسة بالمرآة جذبت انتباهه فكان متربصًا بكل صغيرة وكبيرة تصدر منها كعادته دومًا معها.

                                            ***

في اليوم التالي..


-انتي يا بنتي اخلصي دا كله بتعملي القهوة.


رفعت نهى عيناها قائلة بهدوء: 


-خلصت يا سمير والله، خدها اهي.


قدمت له الصينية فأخذها بضيق منها، تجاهلته وتقدمت صوب غرفة خالد تنزوي بها بسبب وجود ضيف غريب لا تعرفه، ورغم انه كان يجلس بغرفة والدها إلا أنها أحبت الجلوس بغرفة خالد وذلك بعد أن رأت نظراته لها حينما كان يستقبله أخيها على باب الشقة، في البداية اوهمت نفسها أنه في عمر ابيها ولن تسيء به الظن ولكن مع تحريك بصره فوق جسدها بتمهل وهي تتحرك اثار الاشمئزاز في نفسها فقررت عدم الظهور أمامه والاختفاء في غرفة خالد.

وقبل أن تدخل الغرفة، ارتفع رنين هاتف سمير فاضطر إلى مناداتها من جديد:


-خدي دخلي القهوة دي لغاية ما اكلم امك.


تعلقت عينيها بالهاتف وهتفت بنبرة مبحوحة تسأله:


-دي ماما.


-اه امك ومالك بتقوليها بفرحة كدا ليه، اتنيلي دخلي القهوة عشان متبردش.


أخذت الصينية منه على مضض وداخلها يتمنى أن تلتقط هذا الهاتف وتركض بعيدًا تخبر والدتها بكل شيء.

طرقت نهى الباب ثم دخلت في هدوء تقدم القهوة للشيخ قاسم، الذي ما ان رآها حتى مرر بصره الوقح فوق جسدها بتروٍ دون خجل، فشعرت نهى حينها وكأنها متجردة من الثياب رغم أنها واسعة ومحتشمة..الزمت نفسها على تقديم الواجب دون أن تدخل معه في الحديث لذلك وضعت الصينية وكادت أن تستدير للمغادرة..اندفع الشيخ يقول بلكنته المصرية الضعيفة:


-إيه يا حلوة مش هتقدمي ليا القهوة؟


ضغطت على نفسها ولم تجيبه بأي شيء سوى أنها التفتت له ترفع له كوب القهوة في ثبات، ولكن تعمده لاحتضان يدها الممسكة بالكوب جعلها تنتفض بذعر وتعود واضعة للكوب مرة أخرى فوق الطاولة ثم خرجت سريعًا بخوف، قابلت بسمير الذي رآها ترتجف فسألها بخشونة:


-مالك يا بت؟


-مـ..مفيش.


رمقها باستياء من توترها وقال بتحذير:


-اوعي تكوني زعلتي الشيخ قاسم..


وقبل أن تجيب ظهر صوت الشيخ من خلفها قائلاً:


-ما شاء الله عليها جميلة لا يمكن تزعلني.


انتفخ صدر سمير وهو يحاوط كتفها قائلاً بفخر لم تعرف نهى مصدره:


-دي نهى أختي، سلمي على الشيخ.


اخفت نهى يدها خلف ظهرها قائلة بنبرة مهزوزة:


-سلمت عليه، عن اذنكم.


دخلت بعدها لغرفة خالد تختبئ بها، فازداد اعجاب الشيخ بها ليقول بصوت يغلب عليه الرغبة:


-اختك جميلة يا سمير.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-دا من زوقك يا شيخنا..تعال ندخل جوا نكمل كلامنا لغاية ما بابا يجي.

تعلقت عيون قاسم بالغرفة ولمعت عيناه بمكر مفكرًا في التعرف عليها أكثر..

                                  ***

مساءًا..

اعدت مليكة وجبة عشاء خفيفة ثم حملتها واتجهت صوب غرفة زوج والدتها "مصطفى" لم تطرق الباب لأنه كان مواربًا وفتحته بهدوء فوجدته يغلق الهاتف سريعًا فور ملاحظته لها ثم وضعه فوق المنضدة مبتسمًا باهتزاز وهو يشير لها:

-تعالي يا حبيبتي..تعبتي نفسك.

تقدمت منه والهدوء يسيطر عليها رغم أن عقلها دفعها نحو توتره الواضح فيبدو انه كان يحادثها وأغلق بمجرد مجيئها، أحست بعدم الراحة بعد أن وجد الجفاء طريق بينهما، رغم أن علاقتهما لم تكن ذلك أبدًا..زفرت بضيق ثم وضعت الطعام أمامه قائلة:


-كنت بعملي عشا، قولت أكيد حضرتك ما اكلتش.


-تسلم ايدك يا حبيبتي.


هدأت ابتسامته وأصبحت أكثر صدق وعمق، فقالت بعدها بهدوء:


-تصبح على خير.


-اقعدي معايا كُلي مقعدناش كتير مع بعض.


دومًا نبرته لطيفة محببه لقلبها ولكن شعور بالاستياء يسيطر عليها فلم يكن منه بل من نفسها بعد أن أحست بكونها عقبة تعيق استكمال حياته بالشكل الذي يتمناه، ورغم عنها نظرت للهاتف ودون شعور منها وجدت نفسها تقول بنبرة خالطها الحزن:


-لا اسيبك تكمل كلامك براحتك.


حول مصطفى نظراته نحو الهاتف وادرك من نبرتها أن بها شيء وتحديدًا مع لمحة الحزن الغارقة بها، فقد تغيرت كليا معه، تصر على الابتعاد.. حتى مشاعرها أصبحت مقيدة، أصابه الشك من ناحيتها فاندفع بشجاعة يجذب ذراعها ويجلسها رغم عنها وهو يقول:


-اقعدي يا مليكة عايز اتكلم معاكي.


وفور جلوسها أمامه اندفعت بحماقة تقول:


-أنا كويسة مفيش أي حاجة!


عقد مصطفى ما بين حاجبيه مردفًا بتعجب من اندفاعها غير المبرر وكأنها تنهي معه الحديث بأي شكل، فقال برزانة:


-وليه اتسرعتي وفكرتي هسألك عنك، مش يمكن أنا اللي فيا حاجة وعايز اقولك عليها!


تلجلجت وهي تسأله فقد كانت تخشى أن يصارحها بأمر زواجه:


-فـ...في حاجة؟


اخفى تعجبه من تصرفاتها وأردف بصراحة ووضوح رغم أنه كان يحاول انتقاء الكلمات كي لا يحزنها، مركزًا على ردود أفعالها والخوف داخله يتلاعب به معتقدًا أنها ستحزن أن فكر في ذلك:


-يعني بما انك اتخطبتي وانا خلاص هعيش لوحدي يعني فكرت ....فكرت اتجوز.


ردت بتسرع ندمت عليه فظهرت وكأنها تُلقي نشرة اخبار:


-بجد الف مبروك.


-مالك يا حبيبتي في أيه انتي زعلانة مني، عشان قررت اتجوز.


سألها بترقب والقلق يغزو قلبه، لم يكن لديه استعداد  لخسارتها بأي شكل حتى لو كان على حساب نفسه، الأهم هي..وان عبرت عن استيائها سيغلق ذلك الأمر حتى لو كانت أمنيته الوحيدة، ولكنها فاجئته حينما ابتسمت قائلة بهدوء:


-لا خالص يا بابا انا فرحانة طبعًا ولو مكنتش عملت كدا كنت هصر عليك تتجوز..


أطرقت للحظة ثم عادت تسأله بنبرة ثابتة ولكن خالط فيها الارتجاف قليلاً:


-في حد مناسب ولا لسه هتدور.


ربت فوق يدها بلطف وحنو وهو يجيب:


-في واحدة اعرفها من زمان بس طبعًا كل حاجة واقفة لما تتجوزي.


ظهر الرفض فوق ملامحها فهذا يشعرها بالضيق كونها حاجز يمنعه من تحقيق ما تؤل إليه نفسه:


-وليه اتجوز من دلوقتي.


أجاب بصدق وهو يحتضن وجهها بكفيه ناظرًا بحنان أبوي لها محاولاً محو أي مخاوف لديها متعلقة بأمر زواجه حتى لو كانت موافقة:


-لا وعلى إيه السرعة لسه العمر قدامنا، المهم أنتي دلوقتي..بس أنا حبيت اتكلم معاكي عشان متعودتش اخبي عليكي حاجة.


حاولت التحدث فمنعها ثم قال بصرامة:


-مليكة الموضوع انتهى بالنسبالي مفيش أي خطوة هعملها إلا لما تتجوزي الاول واطمن عليكي.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

أومأت بإيجاب وعقلها غرق في أمر آخر أصرت على تأجيله واوضعته في خانة الانتظار فكانت الخطوة الأولى رهن أن يخبرها مصطفى برغبته في الزواج، فقالت بهمس:


-اللي أنت شايفه يا بابا.

                                   ***

بعد مرور أسبوعين..

مرت الأيام عادية على نهى..مسجونة في شقة خالد لا تستطيع الخروج، تتعامل بحذر مع والدها وأخيها تنفذ لهما أمرهما دون اعتراض، تنزوي في غرفة خالد طالما هو في عمله وعندما يعود تصبح الصالة مكانها تجلس أمام التلفاز لا تفعل شيء سوى متابعة أي مشاهد تمر أمامها تساعدها في مرور الوقت، وبالطبع لم يخلو وقتها من مشاكسة خالد أحيانًا يحادثها بجدية وصرامة تقلقها وأخرى يمازحها بسخرية..لم يمر يوم سوى ويحضر لها الطعام معه فمعظم الأيام تشاركه الجلوس معه وأخرى تأكل وحدها وعندها فقط تشعر بضجر يحتل ملامحه، بدأت تشعر بالراحة معه والأمان حينما يكون موجود داخل الشقة..بوجوده يمنع أي حد من صفعها او أي تطاول وقح مثلاً من أخيها، فأحبت كثيرًا وجوده أكثر من غيابه..مثلما تنتظر الآن مجيئه كي يغادر ذلك الشيخ من الشقة..فذهابه متعلق بمجيء خالد وما توصلت إليه أنه لا يعلم بحضوره في شقته..فاضطرت للسكوت حتى لا تتلقى توبيخ من والدها..رغم أنها تشعر بعدم الراحة لوجود ذلك الشيخ وخاصةً بعد نظراته وتلميحاته  الجريئة الوقحة.

انفتح الباب بقوة ودخل سمير متجهم الوجه قائلاً:


-بتعملي إيه؟


وقفت فور دخوله وهتفت بترقب:


-مفيش قاعدة...


قاطعها سمير بأمر صارم:


-طيب غيري هدومك واطلعي اقعدي مع الشيخ قاسم.


-اقعد مع مين؟!


رددت خلفه ببلاهة، فاقترب منها يدفعها بعنف للخلف ووقعت على الفراش مبتعدة بجسدها تخشى صفعة منه بعد أن ظهر الشر بعينيه:


-بصي أنا على اخري منك، اسمعي الكلام ومتضيعيش الراجل من ايدينا واخرجي اقعدي معاه.


ابتلعت لعابها وهي تشير برأسها بنفى وبتلعثم أضافت:


-لا مش هخرج..الراجل دا بكرهه.


-بطلي تمثيل ويلا يا بت..


نهضت تمسك بذراعه تقول بتوتر من رد فعله:


-أنا مكنتش عايزة اقولك بس هو بيعاملني...يعني..مش كويس بيحاول يمسك ايدي ونظراته...


بتر جملتها متحدثًا بهدوء أصابها بالصدمة:


-وماله...خطيبك وبيتصرف زي ما هو عايز.


شهقت بعدم تصديق وعادت للخلف قائلة بهمس:

-إيه؟!


-ايوا..خطيبك وانا وابوكي وافقنا والجواز بعد أسبوع.

                                   **

خرجت مليكة من بناية موجودة في إحدى المناطق السكانية الهادئة، فتحت حقيبتها تبحث عن هاتفها الذي لم يهدأ من كثرة رنينه، فوجدت معظم الاتصالات من زيدان..زفرت بهدوء ثم أجابت:


-الو ايوا يا زيدان.


-انتي فين؟


-انا في المستشفى.


قالتها بضيق بسبب عدم رغبتها في الكذب ولكن ما اضطرت لفعله هو من دفعها لذلك..ولكن ظهر صوته بوضوح وهو يقول بنبرة منفعلة شرسة:


-بتكذبي ليه؟


استدارت بفزع حينما شعرت بوجوده خلفها ولم تصدق حينما رأته يقف يضع يده في جيب سرواله والأخرى ممسكة بالهاتف، انتقل ببصرها بينه وبين البناية في ارتباك بينما كانت نظرات الاتهام تتراشق نحوها وكأنها حجارة تسقط من كل مكان..

_____________

الفصل الثامن عشر..


-ومحكتيش ليا ليه؟


قالها زيدان وملامح وجهه صارمة، بينما كانت مليكة تخفض بصرها تخفي نظراتها عنه بحرج بعدما كذبت عليه واكتشف هو كذبتها ببساطة فالأمر كان أشبه بدلو ماء وسكب فوقها بقوة، تمسكت بالصمت كخير نجاة من تأنيبه لها ونظراته المحملة بالغضب كانت تزداد قساوة وذلك لشعوره بالضيق من صمتها الملازم لها الفترة الأخيرة فقال بنبرة غاضبة:


-ما تتكلمي هو أنا هسحب منك الكلام.


رفعت عينيها المهددة بسقوط دموعها ووجهها غاص في احمرار شديد فبدت وكأنها على وشك الانفجار، فهمست بصوت مبحوح قائلة:


-مفيش كلام تاني.


ضغط بأسنانه فوق شفتيه السفلية بقسوة مكورًا يده بقوة وكأنه يحاول التمسك بخيط التريث معها ولكنها تثير جنونه بصمتها وإصرارها على معاملته وكأنه شخص غريب عنها، بينما كانت هي تلاحظ تعبيرات وجهه المنفعلة فسمحت لحبال الصمت بالانفلات وحررت مشاعرها في كلمات كانت بدايتها مبعثرة:


-أنا بقيت عايشة في تعب اعصاب، متفكرش انه سهل عليا اعمل كدا بس دا أفضل حل ليا ولبابا مصطفى، بـ...بابا...


اطرقت لحظة تستجمع مشاعرها المبعثرة تستعيد رباطة جأشها ثم واصلت:


-بابا يستحق يعيش ويتبسط ويفرح بحياته، وجودي عقبة في حياته.


-ومحكتيش ليا ليه يمكن كان عندي حل تاني غير انك تروحي تأجري شقة وفي الأخر هتكسري فرحته بردو.


رفعت عينيها الباكية تنفي بنظراتها ما يقوله قائلة بحزن:


-أنا لما اقعد في شقة تانية ابقى كدا بكسر فرحته!، بالعكس أنا كدا بقدمله هدية انه يكمل حياته مع الانسانة اللي بيحبها، زيدان...


عاد السكوت يطرق أبوابه على طرف لسانها، فعقد ذراعيه يركز ببصره عليها يعطي لها فرصتها الكاملة في فك قيود عاطفتها لتحررها مما كانت تعاني منه، فاستكملت بضعف:


-بابا عملي كل حاجة حلوة، زمان كنت بشوف نظرات الشفقة من الجيران مكنتش بفهم ليه، دلوقتي فهمت هو دفن شبابه وحياته بسببي على الاقل اديله فرصته وويعيش مع الانسانة اللي بيحبها ليه اكون عقبة لغاية ما اتجوز واحنا اصلاً مش عارفين هنتجوز امتى؟


زفر زيدان بعدما ادرك حقيقة مشاعرها المضطربة ما بين الخوف على مستقبل زوج والدتها ولجوئها لخطوة مثل هذه ولكن يبدو أن سذاجة عقلها  تمسكت بمبررات واهية غير مدركة حجم خطأ مثل هذا في حق زوج والدتها الذي ثابر بقوة في وجه كل من حاول اقناعه بتركها وحدها، وسلبه ابسط حقوقه في الاطمئنان عليها فرد بصرامة:


-بردو ليه محكتيش ليا يمكن كان عندي حل تاني؟


أجابت ببساطة ادهشته:


-وتشيل همي ليه، وبعدين هتعمل إيه مفيش حل غير اللي أنا قولته، بابا مصطفى ممكن يزعل مني بس أكيد هيفهم وجهة نظري وفي الاخر ابقى رضيت ضميري.


-الموضوع مش بالبساطة دي يا مليكة، في مية حل تاني ممكن تعمليه وفي نفس الوقت تشتري خاطر الراجل اللي تعب عشانك.


كان صوته يحمل لمحات من العتاب، فهزت كتفيها بعدم اقتناع قائلة:


-صدقني انا فكرت كتير ومفيش حلول..


بتر قولها بنبرة ساخرة وهو يقول:


-ومجاش في بالك اننا نتجوز مثلاً وكدا تبقي فرحتي الراجل وحسستيه انه ادى مهمته في الحياة ويتجوز ويعيش حياته بنفس راضية.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

تعلق بصرها به بعدما القى بقوله بسلاسة زادت من ضياعها فبدت وكأنها في دوامه لا تعرف ايهما أكثر صواب، فخطوة مثل هذه كانت من المستحيلات فبعد ما عاشته من قلق حول معرفة زيدان بأمر ماجد لن تستطيع أن تقدم على مثل هذه الخطوة قبل أن تخبره..فكانت على وشك أن تهز رأسها بالرفض ولكنها فوجئت بقوله بعدما أخرج تنهيدة مثقلة:


-بعد ما وصلتك الصبح المستشفى، جالي خبر انه هيتم نقلي الاقصر، فرجعت عشان اقولك اتفاجئت بيكي بتمشي من المستشفى، استغربت ومشيت وراكي...


قطعت حديثه بقولها الشرس:


-بتجسس عليا، شاكك فيا؟


-لا طبعًا، ومتحكميش عليا الا لما تسمعي الاول، انا اتصلت بيكي بس انتي خرجتي التليفون من شنطتك ورفضتي المكالمة وكملتي في طريقك استغربت ومشيت وراكي اشوف في إيه ومالكيش حق تلومي وانتي غلطانة..


زمت شفتيها بضيق وصمتت، فلم تكن تملك أحقية الرد بعدما اقدمت على الكذب بكل ساذجة، ومع استمرار صمته سألته بحزن امتزج فيه الضعف:


-يعني هتقعد فترة كبيرة ومش هشوفك؟


-اه للأسف، قبل ما اشوفك كنت عايز اتنقل بس الموضوع اتأجل فترة، وبعدين بلغوني بالموافقة.


-ليه كنت عايز تبعد كدا؟


سألته بتعجب، فتجاهل تعجبها ورد بثبات ينافي تمامًا ما يشعر به من لغط كبير يجلجل حياته حينما حركته عاطفته واوهم نهى بخطبتهما:


-مفيش، مكنتش مبسوط  فكنت عايز ابعد.


هزت رأسها بتفهم بينما هو واصل حديثه بإصرار:


-أنا شايف ان دا انسب حل هنتجوز في اسرع وقت.


-جواز أيه يا زيدان الموضوع مش بالبساطة دي، بابا مصطفى هيرفض.


ردت بارتباك، فقال هو بهدوء:


-ليه يرفض؟ انا اصلا كنت مخنوق ان هسيبك فترة كبير مش هقدر اشوفك فيها، وانتي كنتي هتسيبي البيت عشان هو يتجوز، يبقى دا انسب حل.


ابتلعت لعابها واصابها التوتر وهي تجيب:


-حتى لو بابا اقتنتع، أنا مش حاسه ان جاهزة...


رمقها بشك فرفعت يدها تمسح جبتها التي تعرقت بشكل ملحوظ مما دفعها تردف بضيق:


-متبصليش كدا، انا لسه قدامي سنة تكليف الموضوع صعب جدًا..


-دي بسيطة يا مليكة اقدر اخدك معايا في المكان اللي أنا فيه وانقلك.


توسعت عيناها حينما استمعت لكلامه، فتعلقت بعينيه وسألته بترقب:


-انت تقدر تنقلني من المستشفى دي؟


-اه طبعًا في ثواني الموضوع يخلص، هو انتي مش عارفة مخطوبة لمين؟


رمشت بأهدابها عندما انبثق شعاع الأمل من وسط ظلام فرض قيوده على حياتها، تسارعت أنفاسها وهي تفكر في الأمرولكن لم يعطيها زيدان فرصة وذلك حينما استمعت له يقول بصرامة:


-فكري يا مليكة كويس الموضوع كله في ايدك، بس موضوع ان تسكني لوحدك مرفوض.

                                  ***

وقفت نهى تواجه غضب والدها المتفاقم بعدما عاندت بشجاعة زائفة ورفضت الخروج للشيخ قاسم مما اثار غضبه وحنقه واضطر للمغادرة، وكانت اقصى ما تتخيله نهى حينها انها ستواجه عدة صفعات ونقاش عنيف ولكن لن يفعل والدها بها شيء ضد رغبتها وخاصةً بعدما علمت بنية ذلك الزواج.. مجرد زواج عرفي مقابل مبلغ مالي كبير، انفجر الاندهاش فوق ملامحها وهي تواجه والدها وسمير معًا، فلم تصدق ما تراه منهما، لقد كانا يراها مجرد سلعة وستباع دون أحقية الاعتراض من قبلها، فتشجعت قائلة:


-لا يا بابا..لا.


لم تعرف من أين أتت تلك القوة الغريبة التي ظهرت فجأة أمام والدها ولكنها جيدة فقد ظهرت للنور في أكثر وضع كانت تحتاجه بها، لتواجه طمع والدها وأخيها، وكما توقعت تلقت عدة صفعات من سمير وهو يقول:


-انتي هتسمعي كلامنا مش هنحتاج منك رأي يا بت، هتتجوزيه يعني هتتجوزيه.


ارتجفت بخوف وهي تواجه الشر المتطاير من عينيه فقالت بصراخ:


-انت بتكرهني ليه أنا اختك!


-اختي تسمع كلامي أنا وابوكي، ولا انتي يا مهزقة مستنيه زيدان يحس بيكي ويعطف عليكي بالجواز.


صرخت مجددًا تقول بانهيار:


-انا مش مستنيه حد، سيبوني في حالي.


ابعد ابراهيم ولده بهدوء غريب تملك منه، واقترب منها ممسكًا بكتفيها قائلاً بنبرة هادئة تفوح منها الشر فارتجف قلبها منه:


-يا نهى دا مجرد جواز كام شهر وخلاص، فلوس الشيخ قاسم كتيرة هتنسيكي انه كبير او انه جواز عُرفي.


حركت رأسها برفض ممزوج بالخوف، وذلك عندما تحولت نبرة والدها الهادئة لخشنة جافة:


-لازم تساعدينا نخلص من الديون اللي علينا، مهرك هيكون كبير، الشيخ قاسم هيموت عليكي وعنده استعداد يدفع دم قلبه.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

ارتجفت بذعر وهي تراقب تحول ملامحه لتهديد مبطن لها ان اصرت على الرفض، فلم تقوَ على مواجهتهما حيث تبددت قوتها اثر نظرات الحقد والكره المصوبة نحوها وكأنها أصبحت عدو لهما بعدما اعلنت عصيانها..حاول سمير بمواصلة الحديث ولكن يد ابراهيم منعته حينما استمع لصوت خالد خارج الشقة فقال سريعًا:


-ادخلي الحمام اغسلي وشك يا حبيبتي..


وجه حديثه لسمير قائلاً بأمر:


-وأنت تعال ورايا الاوضة.


تحركت نهى صوب المرحاض ودخلت برعب تضع كفيها فوق رأسها تعلن ضعفها في حل تلك الكارثة، كيف ستنجو وهي تحت سيطرتهما! ممن ستطلب المساعدة والفوضى تحاوطها من كل اتجاه، لقد سئمت مما تعيشه، وخابت ظنونها مجددًا حينما فكرت أن الابتعاد عن زيدان سيعطيها قوة تستطيع من خلالها مواجهته بصلابة، لم تعرف أن المصائب ستتدفق فوق رأسها كاللعنات التي تصيب الأنسان موصومة به حتى الممات، فالأغرب أن عائلتها في حد ذاتها لعنة قاتلة وأصابتها، لقد ذاقت ويلات الخذلان منهم ولم يكتفوا بعد، فقدت انسانيتها على أيدهم  وضاعت ماهيتها وسط اطماعهم، فوقعت في فلك الظلام تتلقى الخيبات دون معالجة الماضي، وأي ماضي والحاضر أسوأ والمستقبل يهدد بصورة قاسية أرعبتها عما ستعيشه ان ارضخت على ذلك الزواج.

عاد عقلها يعمل بجهد للخروج من تلك الكارثة، ولم تجد سوى والدتها هي من في يدها تنهي ذلك العبث، ولكن كيف ستصل إليها؟ ضغطت فوق رأسها وكأنها تحفزها للعمل بجهد أكثر دون لفت انتباه والدها أو اخيها وبعد عدة ثواني فتحت عينيها ببارقة أمل ثم توجهت للخارج تبحث عن خالد فاندفعت نحو غرفته بسرعة وفتحت الباب بقوة ولم تدرِ أنه كان يبدل ثيابه بأخرى مريحة بعد يوم طويل بالعمل، فشهقت بخجل واغمضت عينيها سريعًا تقول بتلعثم:


-والله ما شوفت حاجة.


انفرج فمه وهو يهبط ببصره قائلاً بتعجب ساخر:


-أنا لسه لابس البنطلون.


هزت رأسها وهي ما زالت على نفس الحالة تشير بأصابعها نحو صدره في صمت، فأدرك مقصدها قائلاً:


-يا شيخة شككتيني في نفسي، أنا قولت البنطلون نزل من الصدمة.


جذب سترته القطنية وارتدها ثم قال:


-فتحي عينك خلصت.


فتحت عينيها ومن ثم التفتت نحو غرفة والدها وجدتها  لا زالت مغلقة، فتنهدت بارتياح وتقدمت للداخل تغلق الباب خلفها، ثم تابعت خطواتها نحوه تفرك يدها بتوتر جعلته أسير كل رد فعله يصدر منها فلاحظ تورم وجهها وعلامات حمراء ترتكز فوق وجنتيها، فمد أصابعه يلمس وجنتيها بغضب وهو يقول:


-هو في حد ضربك؟


ابعدت يده بخجل عنها قائلة بضعف وتوسل:


-عايزة اكلم ماما يا خالد، أنا محتاجة اكلمها ضروري.


امسك ذراعها يسألها بصوت خشن صارم:


-مين ضربك، اكيد سمير أنا هطلع...


بترت حديثه بوضعها لكفيها فوق صدره تمنعه برجاء خالطه البكاء:


-عشان خاطري اسمعني عايزة اكلم ماما ضروري، وممعيش تليفون اقدر اوصلها بيه.


زفر بضيق متجاهلاً اضطراب قاس اصاب صدره بسبب لمسة كفيها فوقه بكل أريحية متناسية ما يشعر به الآن اثر لمستها تلك، فقد انقسم داخله لنصفين نصف يتمنى استمرار كفيها فوق صدره لوقت أكبر مع نظرة عينيها المتوسلة ونصف أخر يجاهد عاطفته التي تدفعه لتقبيلها وقد بات ذلك الشعور ملح الفترة الأخيرة كلما تعامل معها، وكان ذلك في حد ذاته أشبه بالوقوف فوق حافة هاوية اما تحقيق رغبته والسقوط في بئر جنونه أو أن يكون أكثر صمودًا معها والتمسك بعقلانيته التي باتت تختفي أحيانًا في حضرتها، لذا تحرك نحو الكومود والتقط هاتفه ثم فتحه واعطاها إياها ومن بعدها جلس فوق الفراش تاركًا إياها تكتب ارقام هاتف والدتها في سرعة وكأنها على وشك الموت...عقد حاجبيه عندما ابتعدت لأخر الغرفة وهي تضع الهاتف فوق أذنها وكأنها لا تريده يسمع ما ستقوله! مجرد بلهاء فالغرفة صغيرة بقدر تجعله يسمع حتى صوت تنفسها السريع..


اما نهى فوجهت وجهها نحو الحائط بل كادت تلتصق به تستمع لرنين الهاتف بنفاذ صبر، حتى جاء أخيرًا صوت والدتها الصلب فسارعت نهى بقولها:


-الو..ماما، انتي سامعني.


-نهى! ايه يا موكوسة قافلة تليفونك ليه؟


مسحت دموعها وهي تسارع بالحديث قائلة:


-مش وقته يا ماما..بابا وسمير عايزين يجوزوني.


-اه قالولي وأنا وافقت.


صدمة أخرى وجههت لها، فأصابتها بالشلل المؤقت، فقدت بها النطق وتجمدت بها اطرافها ممن ظنت بها الملاذ ولكنها كانت كالسراب، فتابعت ميرفت بصوت محمل بالأمل والطمع:


-فلوسه كتيرة يا بت وهتساعدنا في ديون المحلات، سفرك طلع بفايدة.


ارتجف صوتها وهي تخرج من حالة الخدر التي أصابتها فقالت:


-دا راجل كبير، قد بابا..هيتجوزني عُرفي..


-وماله قد ابوكي يعني الجواز مش بالسن، وبعدين حكاية عرفي دي عشان ظروف البلد اللي انتي فيها والاوراق وكدا عادي كلها امور تتحل بشطارتك حببي الراجل فيكي وهيقلبه رسمي.


اغلقت نهى الاتصال عند هذا الحد، وتخبطت بين بالألم والصدمة والخذلان، حتى والدتها وافقت على ذلك الزواج وكأنها سلعة تريد الخلاص منها، لقد انهكت حقًا وانهارت ببكاء وهى تهبط نحو الارض تستلم بضعف، ولكن يد خالد منعتها ناظرًا لها بعمق محفزًا إياها بالتحدث، فانطلقت تقول ببكاء متقطع:


-هيجوزوني عرفي  لشيخ قاسم.


تركها خالد تسقط فوق الأرضية بعدما انهارت قواها وغادر الغرفة يعلن عاصفة عاتية من الغضب، فاستمعت لشجار عنيف بينه وبين والدها وأخيها، تحاملت على نفسها وجرت قدمها تراقب الوضع المحتدم بالصالة بين ثلاثتهم.


-انتوا مجانين، ازاي تفكر تعمل كدا في بنتك يا خالي.

هز ابراهيم كتفيه بلامبالاة وابتسم ببرود:


-وماله بنتي وانا شايف دا الانسب ليها.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-قاسم عمره ما كان انسب، انت كدا بتنهي عليها.


زمجر فيه سمير بغضب:


-وانت مالك..ابوها واخوها موافقين.


اقترب منه خالد بهجوم مهددًا بضربه وذلك عندما كور قبضتيه مستعدًا لذلك: 


-وهي رافضة، هتغصبوها ولا ايه؟


-لما تكون مش عارفة مصلحتها يبقى هنغصبها.


قالها ابراهيم بإصرار وضيق، فضحك خالد بسخرية والغضب يهدد بالانفجار في وجه خاله وابنه:


-مصلحتها ولا مصلحتكم.


-مالكش دعوة يا حبيبي دي أمور عائلية بينا.


ارتفع صدر خالد اثر تنفسه السريع وأصبح وجهه مسودًا من شدة غضبه، فلم يجد نفسه سوى وهو يقول بتهديد:


-وانتوا قاعدين في بيتي ومن حقي ادخل وامنع المهزلة دي.


نظر ابراهيم لسمير نظرة طويلة ومن بعدها التفت بوجهه لخالد وهو يقول بنبرة تفوح منها الحقد والقسوة:


-وماله من النهاردة هنسيب البيت، لم هدومك يا سمير انت ونهى يلا بينا.


انفلت زمام الأمور من خالد فجأة فالتفت بوجهه لنهى الظاهر منها رأسها فقط حيث كانت تختبئ خلف باب غرفته، وجد التوسل يطفو فوق ملامحها، فأدار رأسه لخاله مجددًا يقول بهدوء تعجب منه سمير الذي رمقه بشك:


-خلاص يا خالي براحتكم أنا نصحتكم كتير وفي الأخر دي بنتك.


لم تتوقع نهى رد فعله فكتمت شهقتها وامتنعت عن النظر إليه بعدما تخلى عنها هو الأخر وأصبحت هي في مهب الريح وحدها.


لم تستمع له وهو يستكمل حديثه فقد هرولت صوب المرحاض تبكي بانهيار تحت انظارهما.


-البيت بيتكم اقعدوا فيه لغاية ما تقرروا تمشوا، عم اذنكم.


انسحب خالد بهدوء فتابع ابراهيم خطواته خلفه، محاولاً ألا يحزنه كي تسير خطته وفقًا لما يريده:


-يا حبيبي متزعلش من كلامي، انت واحد مننا بس جواز نهى دا موضوع شخصي شوية وله ابعاد تانية..


قطع خالد حديثه بقوله الذي أصر على إظهار اللامبالاة فيه:


-براحتكم والموضوع ميخصنش فعلاً.


ربت ابراهيم فوق كتفه ومن ثم دخل الغرفة مغلقًا الباب خلفه، فتقدم منه سمير قائلاً بشك:


-ليه اتغير كدا؟


-ولا حاجة أنا احرجته، أصل خالد متربي وابن اصول وعنده دم، كان بيدافع عنها من باب الشهامة بس.


شرد سمير قليلاً ثم قال بعدها:


-نهايته، هنمشي نروح فين؟ عند الشيخ قاسم.


ضحك ابراهيم ساخرًا من تفكير ابنه الاحمق:


-نمشي فين يا مجنون أنت، لازم نعزز من اختك عشان قاسم يعلي من المهر شوية، وفي نفس الوقت مش عايزين شوشرة ونضمن نهى في ايدنا.


زفر سمير بحقد وهو يقول:


-نفسي اكسر عليها باب الحمام عشان تروح تستنجد بخالد الحيوانة.


-لا سيبك منها خالص، ومتضغطش عليها وفر مجهودك لموافقتها بالجواز.


اومأ سمير موافقًا على رأي والده وفي نفس الوقت يتمنى أن يكسر باب المرحاض منفذًا بها أبشع طرق الضرب كي تحاول الاستنجاد بأحد وخاصةً خالد، ولكنه اضطر للرضوخ لأمر والده تاركًا تلك المسكينة تواجه مخاوفها بالمرحاض وحدها فلم يعد أمامها سوى طريق واحد جربته من قبل وفشلت فيه ولكن لن تترك نفسها لأهوائهم ستحبط أمالهم حتى وان لجئت للموت.

                               ***

تابعت مليكة عملها بالمشفى وحديث زيدان لم يفارق عقلها، كلما مالت نفسها للموافقة والهرب معه لمكان بعيد لا يعرفها به ماجد تعود مخاوفها تخرج من خلف قبضناها وتصارع ذاتها بأن ما تميل إليه ليس سوى جنون وسيدمر حياتها.

تنقلت بين أسِرة المرضى تتابع عملها بعقل حاضر احيانًا وأحيانًا أخرى تغرق في عمق مصائبها،  ولوهلة خُيل لها صوت ماجد يتردد في الغرفة الواسعة التي كانت تضم مجموعة من المرضى، استدارت ببطء وكأنها عروس خشبي تنظر برعب جلي لمصدر الصوت وها هو قد صُدم خيالها بواقع بشع حينما وقعت عينيها عليه يشير لها بالتحرك خلفه ونبرته حازمة بقدر جعلها تتحرك خلفه بتروٍ بعدما لاحظت نظرات زملائها لها بعضهم كان يقتله الفضول والبعض الأخر يساندها بتعاطف كبير:


-ورايا يا دكتورة.


تابعت السير خلفه وقلبها يدق بخوف رهيب تمنعه من الظهور للعلن فيستغل ماجد ذلك ويصيبها في مقتل، لن تسمح له وستظل على حالة الرفض عله يصيبه الملل منها ويتركها..ولكن متى قطع اجازته وعاد وهي لا تعلم شيء منذ الصباح، فأصبح ظهوره يشبه ظهور الاشباح المخيفة..دخلت غرفة مكتبه خلفه ولكنها تركت الباب مفتوح، فأشار إليها بإغلاقه ولكنها أبت وتعمدت أن تعلن تمردها عليه مما أثار ذلك جنونه واندفع يهددها بشراسة:


-بلاش تتحديني يا مليكة احسنلك.


-عُمر الباب دا ما يتقفل علينا لوحدنا يا دكتور، قول اللي انت عايزه وخليني امشي.


خرجت نبرتها قاسية فهاجمها باستنكار:


-شاطرة يا مليكة باين ان وقت غيابي نساكي مصيبتك.


ابتلعت لعابها لعله يرطب حلقها الجاف ويهدأ من روعها، فردت بثبات تعجب منه:


-الكلام دا المفروض تقوله لنفسك، أنت اللي زورت الصور والمحادثات دي ومية الف واحد يقدر يثبت دا.


ضحك باستهجان وهو يقترب منها خافضًا نبرته:


-دا اللي عقلك المريض صورهولك، هتخرجي من المصيبة كدا يعني، طب وصورك اللي بشعرك مزورة بردو؟


اثار جنونها وأشعل فتيل الغضب لديها بضحكاته التي لم تنقطع بل استمرت وكأنه يلعب فوق أوتار تماسكها:


-دي سمعة يا حلوة، وشوشرة كبيرة اوي وفي الاخر بردوا مش هسيبك الا لما انفذ اللي انا عايزه حتى لو وصلت ان اخطفك.


زهلت وهي تتابع حديثه الذي شارف على الجنون، فردت بنفور:


-اللي في خيالك لا يمكن يحصل، من رابع المستحيلات واللي عندك اعمله، أنا مش هخاف منك.


-كذابة الخوف هياكلك والود ودي استغله في الوقت دا..


صمت للحظة يشملها بنظرات متفحصة وكأنه يحاول زعزعة هيكل تماسكها، فتابع بهمس بيشبه فحيح الافاعي:


-واللي عندي كتير اووي ومش هسيبك الا لما تكون كل حاجة براضكي.


لوت فمها بسخرية كناية على مدى استهزائها به واستدارت لتغادر فاستمعت لصوته يحلق بنبرة مرتفعة قاسية:


-حظك ان انا لسه مخلصتش اللي ورايا وهكمل اجازة صغننة خالص ومن بعدها هتلاقيني هنا كل يوم، بس صدقيني مش هسيبك وقتها والاوضة دي هتشهد على امجادنا أنا وأنتي.


ومن بعدها ضحك بتهكم بعدما ألقى بتهديده المبطن، فأصابها الغثيان من مغزى حديثه الوقح واتجهت صوب المرحاض تفرغ طاقتها بالغثيان بدلاً من الانقضاض عليه وقتله عمدًا.

رفعت وجهها تطالع نفسها بالمرآة، أحست بتشوش يضرب خلايا عقلها، فتداخلت الافكار ببعضها البعض وكأنها شبكة عنكبوتية، تسلل منها الصبر ونفذ في مواجهة ذلك الوقح الذي أصبح تهديداته أكثر وقاحة وجرأة، تعقدت الأمور أكثر فبدت كسجينة مقيدة بأغلالٍ رهن لحظة تخشاها، عودته من جديد ستساعده في الضغط عليها، سلطته بالمشفى وعلاقاته تشعرها بكم هي ضئيلة، فالمواجهة بينهما غير متكافئة، لقد كرهت موقفها الضعيف وهواجسها المخيفة، تسعى للخلاص ولكن كيف وهي لا تلمك سوى اعلان رفضها له دون الافصاح عن شيء، أغلقت عيناها ترغب في محو تلك المصائب وكأنها لم تأتي لتلك المشفى ولم تقابل ذلك الخسيس، آه طويلة اخرجتها وهى تتخيل حياتها مع زيدان دون مخاوف تعيق سعادتها معه، فقد تلخصت أبسط امانيها في الفرار من كارثة تلاحقها وتهدد بهدم أسوارها وقد تكشف ما تخشى ظهوره للعلن حتى وإن كانت مجرد ضحية فالمجتمع لم ولن يرحمها حتى وان ثابرت وواجهت،  حتمًا ستصطدم بعقول بشرية ترشقها بالاتهام ترفض تصديقها، فكل ما تعانيه بصمت يصب في خوفها من "المجتمع".

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

ارتفع رنين هاتفها يكسر الصمت المطبق على المكان، جذبها من عمق تفكيرها فتنفست وكأنها كانت تستسلم للغرق ولكنها جُذبت للسطح عنوة فالتقطت أنفاسها بقوة وما كان المتصل سوى زيدان..

رفعت انظارها للأمام تشرد للحظات في حديثه بالصباح وشعاع أمل زائف انبثق لها، فسارت خلفه كالمغيبة وتمسكت بطرفه علها تنهي ما يخفيها في صمت بعيدًا عن ماجد والمشفى بأكملها، وبالتأكيد باختفائها سينساها ماجد ولن تعود تزور احلامه الدنيئة.

جذبت نفس عميق تهدأ به اضطراب قلبها وارتجاف نبرتها وهي تجيب:


-إيه يا حبيبي خلصتي أبعتلك عربية تروحك.


شعور بالاطمئنان غزا روحها ودفعها لتجيب بابتسامة عميقة رغم أن عيناها كانت على آخرها بالدموع المتجمعة بها:


-زيدان.


همست باسمه بحب، فأجاب بهدوء:


-عيونه.


سكتت لبرهة تستجمع قوتها وهي تقول:


-أنا موافقة نتجوز، شوف هتقول لبابا مصطفى امتى.


استمعت لنبرته السعيدة وهو يتمتم:


-لا مش أنا اللي هقوله، عندي اللي هيقوله ويقنعه كمان.

                              ***

شعرت نهى بحاجتها للمياه، فخرجت من الغرفة واتجهت صوب المطبخ وقبل أن تدخل توقفت تلقي بنظرة آسفة نحو غرفة خالد فقد كانت تتمنى أن يستمر في الدفاع عنها ويقنع والدها بإنهاء ذلك الزواج ولكنه تخلى عنها بكل بساطة ولم يحاول من أجلها! وقد توسمت فيه بسبب شهامته ونبله.

تابعت خطواتها نحو المبرد والتقطت كوب المياه ترتشف منه القليل ولكنها شعرت بوجوده خلفها، التفتت سريعًا فوجدته خلفها مباشرةً يمسك يدها يمنع سقوط كوب المياه أرضًا فقد يستيقظ خاله او ولده الارعن ويكشف مخططه.


-اسمعني بهدوء عشان ولاد**** دول ميصحوش.


تجاهلت سبه لعائلتها وركزت معه وهي تقترب منه أكثر كي تسمعه ولم تدرك أن المسافة بينهما أصبحت شبه منعدمة فخفق قلبه بقوة وهي ترفع بصرها كالهرة حينما تستعطف صحابها ولوهلة كاد أن يفقد اعصابه ويقترب منها يلثم شفتيها هامسًا لنفسه:


-كدا كدا رايح في داهية.


اقترب برأسه منها فسألته بقلق وعدم فهم:


-داهية إيه؟!


تراجع عما كان يريد فعله ودفنت امنيته مع باقي امنياته وهتف بحنق:


-طول ماانا ماشي وراكي هروح في داهية.


اخفضت بصرها بحرج قائلة:


-خلاص، أنا فهمت كلامك النهاردة ومش محتاجة مساعدتك..


رفع ذقنها للأعلى بطرف اصابعه فواجهت عينيه اللامعة تحت ضوء الإنارة البسيط:


-أنا مش هتخلى عنك ومش هسمح يحصل فيكي كدا أبدًا.


رمشت بأهدابها غير مصدقة:


-بجد يا خالد، هتكلم بابا تاني؟


-لا اكلم ابوكي إيه احنا نسيبنا من الادب ونبدأ في قلة الادب اهلك مش عايزين الا كدا، اسمعني كويس يا نهى واتصرفي زي ما أنا هقولك.


أومأت بحماس والأمل يشق صدرها المظلم، تتمسك بعينيه وكأنها طوق نجاة للخروج من بحر معتم أمواجه هادرة كادت أن تقتلها.

_______________

الفصل التاسع عشر..


-أنا شايف الموضوع بسيط يا عم مصطفى، مكبره ليه بس!


صدح صوت يزن بلطف محاولاً اقناع مصطفى بزواج مليكة وزيدان في نهاية الشهر..ولكن الرفض حلق فوق تقاسيم وجه مصطفى، مما أثار ضيق زيدان وبنفس الخطى التي رسمها يزن تمسك بالصمت حتى لا يثير أي بلبلة قد تؤدي إلى رفض قاطع من جانب  زوج والدتها، وفي الحقيقة أن زيدان قد استنزف جميع قواه في اقناع يزن ووالدته وقد استغرق الأمر منه يومين كاملين في مجادلات حادة وأحيانًا هادئة لم يخرج منها بشيء سوى احساسه بالفشل وخوفه من فقدها بعدما اقتنعت برأيه وتقبلها بمساعدته من خلال زواجهما، لن يكسر بخاطرها ولن يتحمل فكرة ابتعادها عنه، ربما تريد الحياة مكافئته عما يعانيه من جلد ذاته بسبب نهى، ورغم أنه حاول الوصول لها مرارًا وتكرارًا إلا أنها اختفت تمامًا عندما سافرت، فاختار الانتظار وفور عودتها سيخبرها بكل شيء ويغلق تلك الصفحة بل سيدفنها في قناع النسيان وكأنها لم تكن...ولوهلة شعر زيدان بمدى تعلقه بوجود مليكة في حياته، فبدأ عقله يقتنص كل فرصة في الاقتراب منها حتى لو كان على حساب مخاوفه التي تجسدت في سليم أخيه.

عاد بانتباهه للحديث القائم بين مصطفى ويزن أخيه، ويبدو أن يزن جيد بالإقناع حيث اختتم قوله بابتسامة واسعة:


-خلاص يا عم مصطفى قوم اسال مليكة واحنا مستنين.


زفر مصطفى في هدوء ثم نهض متجهًا صوب غرفة مليكة وتركهما يتحدثا بهمس وكانت من البداية من قبل زيدان:


-إيه وافق!


-وأنت كنت نايم ولا عقلك مشغول بالجوهرة بتاعتك.


رفع زيدان جانب شفتيه في غيظ وهمس بحنق:


-احترم نفسك وليها اسم تقوله.


-لا لو سمحت تحجر على رأي هرجع في كلامي.


لاح التهديد بنبرة يزن حيث تعمد اخراجها مستغلاً كل فرصة في اذلال زيدان وقد أدرك زيدان ذلك ورفع حاجبيه غير مصدقٍ وقاحته.


-أنا اللي راجل اهبل عشان اعتمد على واحد زيك.


ضحك يزن بتكبر ورمقه بتحدٍ:


-هيخرج دلوقتي ومعاه موافقته، ووقتها هتعرف أن انت اختارت الشخص الصح.


 أشاح زيدان بوجهه بعيدًا متظاهرًا بلامبالاة رغم انه داخله كان يحترق شوقًا لتلك الموافقة التي ستبدد جزء كبير من الظلام المحيط بحياته، اما يزن فتعلقت عينيه بأخيه الذي مهما حاول إظهار تجاهله إلا انه يتمنى انهاء ذلك الأمر بما تميل إليه نفسه، ورغم أنه ثار برفض قاطع عما أخبره به زيدان ومحاولته الجادة في اقناعه هو ووالدته في اتمام الزواج في أسرع وقت إلا انه استكان بعدما علم السبب الرئيسي في سرعة زيدان في الزواج منها، لن ينسى نظرة الشفقة في أعين والدته عليها حتى انها أخبرته برغبتها في اقامة مليكة معهم وبالنهاية لن يضطر للجوء لفكرة الزواج من الأساس ولكنه رفض وتمسك برأيه حينها لمح يزن شبح الخوف المسيطر على أخيه المتمثل في فقدانها، فكل محاولاته تصب في بئر تملأه رغبة وجودها بجانبه دومًا، لذا رضخ واعتبر أن العراك مع سليم سيكون جامع للخطوبة والزواج معًا وسينتهي الأمر بالتأكيد دون عناد من قبل سليم فهو كان يخشى تعنت سليم ومحاولاته لبث الربكة في اتمام الزواج لمجرد معاقبتهم فقط.

***

بداخل الغرفة...كان الصمت يسود بين مليكة المتوترة ومصطفى المعاتب لها بنظراته، فكانت تبتعد بقدر كبير عنه حتى لا تواجه اعصار غضبه منها بسبب اعلانها لموافقتها على الزواج بتلك السرعة وهذا ما يرفضه بالمرة، وقد حركته فطنته أن السر في ذلك هو رغبتها في اتمام زواجه هو الأخر فبدون قصد اخبارها أن زواجه متعلق بزواجها هي الأخرى لذا لجئت تلك المسكينة على الموافقة، فقرر نفض غضبه بعيدًا وصب تركيزه في محاولة اقناعها بكل ذرة صبر لديه:


-يا حبيبتي زيدان ابن ناس وكويس ووظيفته ما شاء أي حد يحلم بيها، بس أنا رفضي للجواز مش متعلق بكدا بالعكس أنا بديكي فرصة تتعرفي عليه أكتر.


سيطرت على رجفتها ورفعت عينيها الحزينة ترمقه بتردد:


-ما أنا اتعرفت عليه.


-في اسبوعين وكام يوم يا مليكة!


ظهر الضيق بصوته، فعادت تهذي بأي مبررات:


-مش بالمدة يا بابا..أكيد في ناس بتقعد فترة كبيرة ومبتقدرش تحكم على اللي قدامها..


قاطع حديثها بصرامة امتزج بها العتاب وذلك عندما قال:


-أنا عارف السبب الحقيقي اللي خلاكي توافقي.


جف حلقها وهي تنفي بارتباك وصوت مهزوز:


-لا مفيش سبب ولا حاجة أنا مقتنعة بس.


مجددًا قطع حديثها غير مصدق ما تتفوه به فالحقيقة تتجسد بعينيها:


-أنتي عايزة تتجوزي عشان انا اتجوز...أنا عارفك وفاهمك كويس.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

تملكت البحة من صوتها وهي تحرك رأسها بنفي:


-لا خالص زيدان قالك السبب كل الموضوع يا بابا انه هيبعد فترة كبيرة فقال نتجوز ومنضيعش وقت، أنا وهو ناضجين يا بابا ونقدر نتغلب على اي حاجة مخوفاك.


ضيق مصطفى عينيه غير قادرٍ على فهم ما يجول بعقلها، فحاول اثارة جلجلة بعقلها حتى تظهر ما تخفيه:


-مليكة لو موضوع جوازي دا ضايقك، فأنا ممكن الغيه ومفكرش فيه خالص.


سارعت بالرفض قائلة بحزم:


-بابا متلغيش حاجة وتحسسني بالذنب أكتر، أنا مقتنعة برأي زيدان..


أطرقت للحظة تدرك تهورها في الحديث، فأسبلت ذراعيها بإنهاك واضح قائلة بأسف:


-دا طبعًا بعد موافقة حضرتك.


صمت طويل غرقا به حتى هتف مصطفى بموافقته المصاحبة لنبرة لوحت بعدم رضاه ولكن مليكة تجاهلتها بالسكوت معتقدة أن أمر حزنه منها سيتخطاه بمجرد زواجه وبالتأكيد ستنسيه الأيام تعارضها لرأيه.

تركها مصطفى وغادر الغرفة يبلغ زيدان بموافقته، بينما هي عادت بحسدها للخلف ترقد فوق الفراش، تنظر لسقف الغرفة بتفكير ومشاعرها قد أنهكت في المحاربة في اتجاهات لم تعد تعلم متى ستنتهي، بداية من ماجد وضغطه عليها للرضوخ لشيء قذر ينافي دينها مما يثير ذلك الاشمئزاز والكره لديها، ومحاولاتها في انقاذ حياة مصطفى لاعتقادها أنها تمثل عقبة قوية في استكمال حياته بالشكل الذي يتمناه رغم أنه لم يصرح ذلك ولكن ربما هو لا يدرك تلك النقطة بسبب مشاعره الابوية نحوها فأبسط حقوقه وأقل تقدير يحصل عليه هو ابتعادها عنه حتى يحظى بمحبوبته، مرورًا لخوفها من فقدان زيدان..تريده بكل جوارحها.. هوببساطة الهدى بعد ضلال جامح نجح في فرض طغيانه عليها، ينقصها شيء واحد هو الاطمئنان له حتى تخبره بكل شيء وتطلب منه مساعدته وداخلها يطمئن لعدم تخليه عنها وألا يجد الشك طريق بينهما..فإن كانت فترة حبهما في السابق سبعة أشهر ومن بعدها افترقا لسنوات لم تكن كافية لفهم مكنوناته بالكامل وخاصةً بعد غيابه كل تلك السنين..ماذا حدث بشخصيته؟ هل تغيرت طباعه؟ ورغم مخاوفها إلا أن الحنين والحب الكامن بقلبها له يدفعها نحوه بكل جنون فباتت تشعر بعدم تريثها معه وأن زمام الأمور تفقد منها تدريجيًا وخاصةً بعد تمسكه بها بهذا الشكل فهل سيكون اصراره مجرد تعلق مرضي تمثل في رغبته بالحصول عليها أم أن مشاعره اصبحت أكثر نضج ووضوح لذا يرفض التخلي عنها.


- يا رب اكون بتصرف صح...


أسبلت أهدابها وعادت تهمس بحزن خالطه الأمل:


-مجرد وقت اقدر احكيله كل حاجة وانا مطمنة.

                                ***

وقفت نهى تصنع كوب شاي ساخن لخالد وعقلها يشرد في عالم آخر فلم تنتبه لسمير الواقف بجانبها يرمقها بشك إلا عندما أصدر صوت فانتبهت وحولت بصرها له، قابلت نظراته الغامضة مما فجر ينابيع القلق بعينيها فقالت بصوت مرتبك:


-نعم يا سمير!


-عملتي الشاي لخالد؟


أومأت وهي تقدمه له قائلة بحرص:


-اه اتفضل اهو.


-دخليه انتي.


حمحمت محاولة تنظيف حلقها وهي تقول:


-لا اديله أنت، مش عايزة ادخله.


ابتسم بتشفي وهو يقول:


-ليه مش كرهتيه عشان محاولش يدافع عنك.


ابتعدت ببصرها عنه ورسمت الحزن فوق ملامحها فاقترب منها سمير يهمس باستهزاء واضح لها:


-مشكلتك يا نهى انك عبيطة، فاكرة ان خالد أو امك هيدافعوا عنك، متعرفيش أن خلاص جوازك من قاسم مفيش رجوع فيه، بطلي أنانية وتفكير في نفسك شوية.


قبضت فوق رخام المطبخ ونظرت له بلوم قسم قلبها لشطرين وهي ترى الكره المنبثق من عدستيه نحوها:


-وأنا لما ارفض اتجوز واحد عرفي وقد ابويا ابقى كدا أنانية.

حرك رأسه بتبجح وهو يقول:


-طول عمرك بتفكري في نفسك ازاي تتخطبي لزيدان ..ازاي سي زيدان يحبك انتمائك لزفت زيدان وبس واحنا آخر اهتماماتك، وقولنا ماشي طالما دا اللي بتحبيه.

ابتسمت باستنكار وهي تردف:


-لا علشان دا كان هيبقى في مصلحتكم لما زيدان يتجوزني سليم يتجنن فيها وانتم كدا قدرتوا تقهروا سليم مش صح؟


رفع احد حاجبيه لجرأتها في الحديث ولكنها لم تخشاه واستكملت:


-ولما لقيتوا مفيش رجا من زيدان، قررتوا تبيعوني لشيخ قاسم واهو فلوس كتير هتدخل من ورايا.


قبض فوق ذراعها يعنف بقوة:


-وانتي مستكترة علينا يا بت نكسب شوية فلوس من وراكي، طول عمرك مالكيش لزمة..ويوم ما يكون ليكي لزمة تفكري تعترضي.


كتمت اهانتها بصعوبة وهزت رأسها بموافقتها قائلة:


-تمام..أنا وافقت خلاص عالله تكونوا كدا رضيتوا عني.


-داهية تقرفك وتقرف شكلك عيلة مالكيش أي صنف اللزمة.


اطرقت رأسها للأسفل تمنع نفسها من التأثر بسبب أسلوبه الفظ والوقح، فانتبهت لقوله الحازم:


-دخلي الشاي لخالد يلا.


أومأت بصمت وحملته بحذر ومع استمرار خطواتها لاح بداخلها صوت يدفعها بالالتفات نحو سمير والقاء كوب الشاي بوجهه وهكذا تشفي غليلها منه ولكن يبدو أن تخيلها الشرس اصطدم بصوت اغلاق الباب في وجهها فتحت عينيها تنظر للباب والدها المغلق، استغفرت بسرها وتمسكت بالكوب بقوة تمنع نفسها من الانسياق خلف أفكار الشيطان التي قد تدفعها نحو الهاوية.

دخلت غرفة خالد بعد ان طرقت الباب وسمح هو لها بالدخول، اغلقت الباب وتوجهت صوبه وملامح وجهها تسرد كم كانت تعاني بالخارج من توبيخ قاسٍ، فوضعت الشاي بجانبه حيث كان يرقد فوق الفراش يضع يده فوق رأسه متصنعًا التعب:


-الف سلامة يا خالد.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

امسك ذراعها وجذبها للأسفل نحوه وهو يهمس:


-أنا دور المريض دا مش لايق عليا.


ارتجفت من لمسه يده فوق يدها ولكنها تغاضت وهمست بتوتر:


-أنت اللي قولت كدا، اعمل إيه اقولهم انك خفيت.


رمشت بأهدابها في براءة فنفى سريعًا:


-لا طبعًا معنى كدا هنزل الشغل، وأنا مينفعش اسيبك معاهم.

ابتسمت بامتنان له، فاحتضن كفها بين كفيه وهو يقول بحنو:


-استحملي يا نهى، كلها أيام ونخلص من الهم دا.


تركت نفسها للتلذذ بشعور الاطمئنان لقد كان لذيذ يتخلله رقة داعبت قلبها الخائف ولكن بمجرد النظر لخالد يضمحل أي خوف لديها.


-أنا خايفة اكون بضر شغلك.


-متخافيش شغلي وأنا هعرف احافظ عليها، اول ما اطمن عليكي وانتقم من ابوكي واخوكي هرتاح.


اهتزت ابتسامتها بعد ان اكتشفت هاجس خطير يتمثل في عدم رؤيته مرة ثانية فكيف ستحظى بطمأنينة ناعمة وحده يملكها، حتى نظراته تلك ستفتقدها بمجرد غيابه عنها ولكنها كتمت ما يعتمل داخلها وتنهدت بصمت تومئ برأسها في اقتناع:


-ربنا يوفقك يا رب زي ما بتحاول تساعدني.


ربت فوق كفيها بحنو بالغ، ولكن خيال ما جذب انتباهه أسفل فتحة الباب بالأسفل، فسارع بعلو صوته قائلاً:


-لازم تسمعي كلام أهلك يا نهى، اكيد ابوكي واخوكي...


اخفض نبرته قليلًا واخرج سبه داعب لسانه فاطلق لها الصراح:


-*****

ثم عاد وارتفع صوته من جديد:


- عايزين مصلحتك، رغم اني بكره الشيخ قاسم بس هما اهلك وهما ادرى بمصلحتك.


تعجبت نهى في بادئ الأمر ولكن مع ملامح وجهه وهو يشير للأسفل الباب وغمزة عينيه ادركت مقصده ولبلاهتها لم تستطع مجاراته فحثها بالحديث مما دفعا لتخرج صوتها المتلعثم:


-أنا خايفة منه اوي.


جذبها نحوه اكثر حتى فقدت اتزانها وجلست بجانبه تستمع تحذيره الموبخ لها، حيث اقترب منها برأسه وهمس بأذنها:


-ما تقوليلهم احسن اللي أنا قولتلك انه سادي وابن*** وبيضرب اي واحدة بيتجوزها.


التفتت بوجهها تنظر له فلم تدرك أنها بالقرب منه بهذا الشكل إلا عندما قابلت عينيه حيث استطاعت  رؤية خيوط العسل المتداخلة بعدستيه المتمردة ودون إرادة منها وقعت في سحرها وتركت نفسها لمشاعرها المبعثرة بسبب انفاسه الساخنة التي كانت تلفح وجهها بنعومة وبنفس الوقت كان كفيهما يتشابكان برقة، ربما حينها عاطفتها كانت مبهمة عكسه فكانت عاطفته تدفعه نحو الجنون مرة أخرى ولكنه استطاع التمسك بطرف خيط الواقع بعد أن سرح بخياله في تذوق شفتيها..فابعدها عنه بعنف وهو يلهث بقوة:


-الجو حر..شغلي التكيف.


ابتلعت لعابها عله يرطب جفاف حلقها وهي تشير بأصابعها: 


-شغال.


-بجد اطفيه بقى عشان بردان.


عقدت حاجبيها بعدم فهم لِمَ يحدث له، فاستدرك نفسه وغمز بطرف عينيه يخفي حقيقة ما حدث له نتيجة اقترابه منها:


-عيان وكدا..


ضحك بخفة وهو يخفى نظراته عنها...بينما وقفت تنظر له تحاول سبر داخله وذلك بعد أن أصابها بالربكة في عدم فهمه..احيانًا يسدل ستار الغموض عليه وأخرى تنقشع الغمامة عنه وتستطيع فهمه بوضوح، تنقلت بين تقلبات طباعه بفضول، بينما هو كان يخوض معركة ضد احاسيسه المتأججة معركة لا يعلم شراستها إلا هو.

**

داخل غرفة ابراهيم كان يستمع لسمير بتريكز وابتسامة نصر تحلق فوق شفتيه:


-قولتلك خالد مبيحبش وجع الدماغ ومش هيفكر يحاول معانا تاني.


-اللي حارقني البت اللي مُصرة تفركش الموضوع، قال أيه خايفة من قاسم.


قالها سمير بحقد، فحرك ابراهيم رأسه بإيجاب: 


-حقها متنساش انه راجل كبير، بس بكرة لما تغرق في فلوسه هتنسى فرق السن وتشكرنا.


كور سمير يده بضيق امتزج فيه الطمع:


-كل خوفي تتجوزه وتنسانا، البت دي لازم متطلعش من تحت ايدينا.


-أنت شد عليها وأنا هرخي خالص خليها كدا تايهة ومش عارفة تعمل إيه.


هز سمير رأسه بإيجاب وقال بتأكيد:


-وأنا بعمل كدا فعلاً، وكلها أيام وتتجوزه، بس ربنا يهدي الشيخ قاسم أصله مش مبطل زن عليا.


-سيبه كدا خلي شوقه ليها يزيد واحنا نضغط ونعلي المهر أكتر.


اختلطت ابتسامتهما بالطمع والمكر وقد اضمحلت انسانيتهما جراء السعي في تحقيق اطماعهما التي لن تجدي سوى بضلال يزهق أرواحهما.

                                ***

ضربت منال بيدها فوق ركبتيها تندب بخوف وهي تواجه زيدان ويزن معًا:


-يالهوي على اللي هنشوفه من سليم لما يرجع، يا ابني استني بس شوية.


-مش هينفع يا ماما، أنا المفروض اسافر خلاص لازم اخلص كل حاجة.


قالها زيدان بضيق فتابع يزن بقوله:


-متخافيش يا ست الكل لو على سليم أنا اللي هتحمل كل حاجة.


ابتسم زيدان باستهزاء:


-مضحي اوي، على أساس أني مش هنول من الحب جانب... دا أنا هشربه كله.


غمز يزن له ومال نحوه بشقاوة:


-كله من أجل الجوهرة.


ضغط زيدان فوق لحم شفتيه السفلية من الداخل يهتف بغيظ:


-مش هتعصب يا يزن..مش هتنجح انك تعصبني.


-وانت تقدر..مين اللي خلص الموضوع في لمح البصر.


وضم اصبعيه كناية على سرعته، فهز زيدان رأسه موافقًا على مضض، فرمقه يزن بطرف عينيه بفخر ولكن حديث والدته جذب انتباهه:


-أنا مش عارفة ايه بيحصلنا، كل ما اقول الدنيا هتروق ترجع تولع اكتر.


هب زيدان مغتاظًا:


-تولع عشان هتجوز الانسانة اللي بحبها ومش هستنى سليم..هو انتي شايفني فرحان اوي وهو ومش موجود كل حاجة غصب عني وانا مش هتخلى عنها وسليم المفروض يقدر كدا.


-هو يعرف عشان يقدر.


قالتها منال بغضب، فنهض يزن محاولاً امتصاص غضب اخيه بقوله الهادئ الرزين:


-يا ماما سليم اللي في دماغه بيعمله، وبعدين احنا منعرفش رجوعه امتى..وكل لما نسأله بيتهرب مننا وكأنه مش عايزنا ندخل في حياته تاني، خلاص بقا كل واحد يعمل اللي هو عايزه، طالما مفيش ضرر.


-يا بني مش ضرر دي أصول يا يزن.


- والأصول ممكن نغيرها عشان الظروف اللي بتجد علينا، زيدان كان واضح معانا وحكالنا ظروف البنت رغم أنه مش مجبر يعمل كدا.


تابع زيدان حديث يزن ووالدته وقد اعجبه مدى قدرة يزن في فهمه وادراك ما يجول بخاطره، فأخيه يملك خاصية مميزة في اقناع من حوله بما يريده لذا تركه يقنع والدتهما وانسحب بهدوء للغرفة، ولكن منال أبت واستكملت في اظهار اعتراضها:


-طيب لما أنت شجاع اتصل على سليم وقوله.


اقترب يزن منها وهبط على ركبتيه يقول بنبرة حانية:


-ونزعله مننا وهو مشغول بشمس وخايف عليها، وكمان يا ست الكل انتي ادرى واحدة بعند سليم وهيتشبث برأيه..وفي النهاية زيدان قلبه هيتكسر وهو البت الغلبانة التانية.


-دا على أساس اخوك همه اوي اخوه الكبير.


قالتها منال بضيق رغم التعاطف الكبير الذي بدأ في فرض هيمنته عليها واخماد حالة الرفض التي تلبستها:


-بالعكس زيدان يهمه سليم، بس الظروف كانت اقوى منه، وبعدين البنت مش عايزة فرح وهياخدها ويسافر في سكات يعني مفيش فرح اصلاً.


-وسليم لما يرجع.


ظهرت نبرة القلق بنبرتها، فربت يزن فوق ساقيها:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-هتتحل ان شاء الله، ولما سليم يسمع كل حاجة هيفهم ويقدر صدقيني بس هو شوية تكسير على عصبية على زعيق هنتحمله والموضوع هيعدي.


تنهدت منال بشرود والخوف دق أبواب قلبها:


-يا خوفي يا بني من اللي جاي، سليم صعب ومش هيعديه بالساهل.


مازحها يزن بلطف وهو يقول:


-متخافيش هبقا اقوله انك مالكيش دعوة بحاجة.


رمقته بعتاب حينما لمس وتر تخشى ظهوره وتحاول اخفائه فاستكمل برفق:


-مش عيب انك تكوني خايفة على زعله أنا فاهم ومقدر اللي حاسة بيه، بس صدقيني هتعدي وفي نفس الوقت قدرنا منخسرش زيدان.


لاح عدم الفهم من نظراتها فهمس يزن وهو يشير نحو غرفة زيدان:


-دا مجنون.. متهور لازم نحتويه ونقدر ظروفه ومشاعره ممكن يفكر اننا منحازين لسليم على حسابه، لازم نمسك العصاية من النص.


صمت للحظات ثم عاد وواصل حديثه بجدية:


-هيتجوزها ويسافروا ولما يبقى يرجع سليم هناخده على الهادي أنا وأنتي وواحدة هيتقبل الموضوع ان شاء الله.

نظرت للأعلى قائلة بتمني:


-يا رب يا يزن.

                                 ***

مرت الأيام سريعًا على مليكة..وتمت اجراءات نقلها في عدم فهم اثار الفضول لدى زملائها وخاصةً فرح التي حاولت الوصول لماجد ولكنه يرفض جميع اتصالاتها فاستسلمت بالنهاية وتركته يتلقى خبر انتقالها بالصدمة التي تليق به وحينها ستشفي غليلها منه رغم أن هناك شعور حاقد لديها بعدما لم تخوض مليكة نفس تجربتها فـ لازلت تترفع وتملك الحظ في طريقها...أما مليكة كانت تتسوق في المول بناء على طلب مصطفى حيث أصر على شراءها لملابس جديدة رغم رفضها..ولحظها لحمت في إحدى المحلات شريهان زميلاتها فسارعت مليكة بالركض نحوها وهي تقول:

-شريهان...شريهان.

استدارت شريهان التي كانت برفقة والدتها تنظر لصوت المنادي لها وفور رؤيتها لمليكة تقدمت منها واحتضنتها:

-مليكة وحشتيني اووي.

عناقتها مليكة بحب حاولت اغداقها به وكأنها تربت فوق جراحها، شعرت ببكائها فابتعدت ترمقها بتعاطف:

-متعيطيش يا شيري أنتي اقوى من كدا.

-قوليلها يا بنتي انه نصيب.

ربتت والدة شريهان فوق ذراع مليكة فابتسمت لها برضا، ولكن صوت شريهان صدح متقطعًا:

-لا دي غلطتي عشان اتسرعت في الجواز، مكنتش اعرفه على إيه الكلب الحيوان.

لم تجد كلمات لديها لتساند بها شريهان بينما استمرت الأخرى قائلة:

-يلا الحمد لله دا نصيبي وربنا يسامحه.

-بابكي وصل يا شريهان.

أومات الأخرى بحزن فسارعت مليكة بتوديعهما مع بث القوة لدى زميلاتها من خلال كلمات بسيطة أخيرًا وجدتها في قاموس حياتها البريء.

تحركت من بعدها مليكة تتخبط بين جنبات عقلها، ولكنها نهرت نفسها سريعًا فالفرق واضح بين زوج شريهان وزيدان..فالحب يتجسد في حبال الوصال بينهما وبالتأكيد سيكون له دور في ذلك، غير انها لم  تعد تملك وقت للتراجع فزواجها غدًا ومن بعدها ستبدأ حياة جديدة معه..حاولت تهدئة نفسها فاهتدى عقلها لفكرة مالت نفسها إليها وبتحقيقها ستشعر بالاطمئنان، لذا رفعت هاتفها وقررت الاتصال بزيدان والحماس يُكمل جوانب فكرتها فالأول مرة يتفق قلبها وعقلها معًا..هي فقط تبحث عن الأمان وعند تحقيقه ستحلق عاليًا كطير صغير أهلك خوفه من التحليق جناحيه.

                                 ***

-بقالك ساعة بتلفي وبتدوري وأنا مش فاهم أي حاجة منك.

ظهر الحنق فوق ملامحه، فزفرت مليكة بضيق:

-أنت موترني.

توسعت عينيه ونظر لها بتهكم:

-دا كله موترك، طب إيه رأيك اغمض عيني وتقولي.

شعرت بالاستهزاء يلوح من نبرته، فخصته بنظرة عتاب وعلى اثرها تراجع قائلاً باستسلام:

-طيب قولي يا حبيبتي اللي انتي عايزاه، في مية حاجة لازم اخلصها قبل بكرة.

لعقت شفتيها بتوتر وخجل وهي تقول:

-يعني...ينفع نتعامل على اننا صحاب...

ظهرت البلاهة فوق وجهه، فسارعت بتفسير قولها بوضوح:

-اقصد يعني بعد ما نتجوز.

كانت ملامحه ساكنة ونظراته مبهمة فاستكملت بخجل وكلمات شريهان تسبح في تفكيرها:

-انا نفسي اقرب منك اكتر تعرفني واعرفك.

 طرق بأصابعه فوق الطاولة التي تفصل بينهما معطيًا لها فرصتها في الحديث أكثر، فعبرت عن مخاوفها بارتجافة قوية في صوتها:

-اه احنا بنحب بعض، بس بعدنا عن بعض سنين كتيرة أنت أكيد اتغيرت فيها وأنا كمان، الخطوبة كنا هنفهم فيها بعض اكتر بس اللي حصل خلاني بقيت متوترة أكتر.

تعمق بنظراته داخل عيناها اللامعة بوميض الخوف ورغم ذلك شعر بها فحاول الحديث ولكنها منعته واستكملت بشجاعة:

-وكمان يعني أنا اتحرمت من حاجات كتير البنات بتعملها، زي ان اجهز شقتي واعيش معاك ذكريات  نفضل فاكرينها..في حاجات كتير غايبة عني فيك وانت كمان أكيد في حاجات نفسك تفهمها فيا ودا مش هيكون الا لما ندي لنفسنا فرصة نتعرف على بعض.

صدح صوته ساخرًا وابتسامة حمقاء شقت شفتيه الصلبة:

-واحنا صحاب طبعًا.

اسبلت اهدابها ثم فركت يدها بتوتر قائلة بهمس حزين:

-لو مضايق من كلامي خلاص...

-خلاص أيه بقى نمشيها اصحاب وماله....طب متمشيش معاكي مخطوبين.

رفعت بصرها والأمل يغزو حياتها من جديد وبحماس قالت:

-لا صحاب هنقدر نتعرف اكتر على بعض، تحكيلي واحكيلك هنكون بير اسرار لبعض وهنفهم بعض زيادة لكن المخطوبين اوقات بينهم اسرار بيخبوها..يعني مثلاً أنت اكيد عندك سر مش عايز تقوله بس لما نكون صحاب هتقدر.

لامست وتر داخله فأمر نهى يحاول دفنه حتى يسير زواجه منها على ما يرام، لذا قال ببرود:

-رغم ان مفيش اسرار بس تمام نتصاحب يا مليكة.

توسعت ابتسامتها بسعادة:

-شكرًا يا زيدان انك فهمتني وحسيت بيا.

تمتم هو بغير رضا لنفسه:

-وامتى تحسي بيا وتفهميني.

ولكنه سرعان ما رمقها بابتسامة مصطنعة كي لا تسيء فهمه فهو يدرك تمامًا مخاوفها من تلك الخطوة لذا قرر اثبات مدى حسن نيته وأن غرامه بها أسمى من اي افكار مسيئة قد تهاجم عقلها، بينما غمرت السعادة قلب مليكة فيبدو أن الأمور تسير على ما يرام.


                                ***

في اليوم التالي مساءًا...

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

انتهت اجراءات الزواج في حفل صغير اقتصر على مصطفى ويزن ومنال وبالتأكيد العروسين...اختلطت الفرحة صوت منال مع عدم الرضا:

-مبروك يا زيدان..مبروك يا حبيبتي.

وربتت فوق ظهرها فهزت مليكة رأسها ببسمة صغيرة ولم تستطيع الحديث فقد اختنقت الكلمات بجوفها كحال اختناق صدرها عكس زيدان فقد خفقت ضربات قلبه بجنون وتراقصت أوتاره بسعادة لتلك اللحظة مغدقًا إياها بنظراته الشغوفة فقد كان يجهل ما تشعر به من اضطراب سحق سعادتها وخاصةً مع لمحة الحزن النابعة من اعين مصطفى..لذا نهضت معتذرة:

-هشوف الشنط، عن اذنكم.

مرت دقائق ومصطفى يطرق برأسه ارضًا غير قادر على تفسير مشاعره في تلك اللحظة يغمره شعور بالحزن لعدم رؤيتها من جديد، وفي ذات الوقت هاجمت السعادة مقر حزنه لإتمام رسالته بالحياة على أكمل وجه..وهنا رفع عينيه لزيدان فرأى ابتسامته الواسعة وسعادته الظاهرة بوضوح وكأنه حظى على نجمة كانت بعيدة المنال عنه، فاطمئن قلبه له وهدأت انفاسه مقررًا عدم الانسياق خلف حزنه كي تخلد تلك اللحظة بمشاعرها الطيبة داخل ذاكرته.

انتبه لقول يزن الذي كسر الصمت المطبق على الجلسة:

-قوم يا زيدان شوف عروستك خلصت ولا لأ..

رفع زيدان حاجبيه لجرأته، فلم يجرأ هو على  هذه الخطوة والوقح صرح بها علنًا دون تهذيب..فمال يزن عليه يقول بمكر:

-قوم يا زيزو متضيعيش اللحظة دي كدا.

تجاهله زيدان مردفًا بهمس:

-لحظة إيه يا بني.

غمز يزن بطرف عينيه وابتسامة وقحة شقت محياه، ومع نهوض مصطفى الذي قال:

-عن اذنكم اجيب حاجة نشربها.

تشجع زيدان بحماس وانطلق سريعًا يفتح الباب دون استئذان وكأنه ينوي شن هجوم مستغلاً عدم ادراك الطرف الأخر بشيء، فكانت نتائج هجومه شلل لجسد مليكة الواقفة بمنتصف غرفتها تحدق به، ودون أي حديث أو مهلة لفهم ما يحدث كان هجومه ينتقل من اللحظة للأخرى حتى استقر بشفتيه الطالبة لأكسير الحياة المتمثل في شهد شفتيها ونهل منهما ما يحاول اشباع عاطفته بها، ولكن الأمر فاق توقعاته وخرج عن قدرته فأصبحت مشاعره تتطلب بجنون لذا ضم جسدها الصغير بين ذراعيه مستمرًا في ما تدفعه إليه عاطفته وكأنها ستكون قبلتهما الأولى والأخيرة فقد كان يحاول اشباع ذاته بقدر يمكنه مواصلة رحلته معها...بينما مليكة استكانت بين ذراعيه بعدما شن هجومه الشرس عليها وكانت غير واعيه لِمَ يبعثره زيدان بها بقبلاته الشغوفة..توقف قلبها عن النبض واغمضت عينيها بعد فشلها في مقاومته ومن أين لها تلك القوة وهى تواجه عنفوان مشاعره بهذا الشكل الذي يشل حركتها ويخمد ذهنها أما مشاعرها كانت تحلق عاليًا معه دون قيود.

ابتعد زيدان بعد مدة لم يعلم كم استغرقت هل كانت ثوان أم دقائق أم كانت من محض خياله فقط، فاستند بجبينه فوق جبينها وترك لأنفاسه حرية الانطلاق بعد أن كتمها لفترة..شهقت مليكة بضعف وتلك كانت الاشارة التي تأكد بعدها أن ما حدث بينهما حقيقي وواقع لذيذ أضفى على بستان حبهما زهور جديدة.

ضحك بصوت خافت على حالتها المصدومة فقال بمرح مشاكس:

-انا نسيت اننا صحاب.

رفعت عيناها الزائغة بسبب تفاقم عاطفتها، فردد بشقاوة لمعت بعينيه:

-صحاب وبس.

                                   ***

خرج خالد من غرفته يمسك بطنه متظاهرًا بالألم، فقابله سمير الجالس فوق الأريكة أمام التلفاز الذي سارع بالحديث:

-يا بني ما تروح لدكتور.

جلس خالد بجانبه وهو يكتم صوته فخرج متألمًا:

-روحت وانتوا نايمين ومطلعش برد في معدتي، طلعت الزيادة.

مط سمير شفتيه ثم قال ببرود:

-ان شاء الله تبقى كويس.

مرر خالد بصره في الصالة وهو يتساءل:

-امال خالي فين، كنت عايزه يجبلي دوا وطلبات للبيت.

ثم وضع المال فوق الطاولة، فلمعت أعين سمير بحماس قائلاً:

-بابا مش هنا، أنا هنزل اجبهملك.

-لا مش عايز اتعبك.

سارع سمير بالتحدث قائلاً:

-ولا تعب ولا حاجة وبعدين بابا هيرجع متأخر، مش كفاية الطلبات دي لينا بردو يعني كتر خيرك، ابعت كل اللي انت عايزه في رسالة.

وقبل أن يغادر سمير توقف وهتف:

-اصحيلك البت نهى تعملك حاجة.

هز خالد رأسه بنفي وهو يقول:

-لا سيبها أنا كمان هدخل انام.

-متنساش طيب تكتب اللي انت عايزه في رسالة، سلام.

وافق خالد والتقط هاتفه يتظاهر بالكتابة بينما غادر سمير للشقة ومع مرور الدقائق اعتدل بوقفته وسارع نحو غرفة خاله، يطرق الباب بعجالة، فظهرت نهى وحقائبها بجانبها..

-يلا مفيش وقت عشان معاد الطيارة.

______________

الفصل العشرون...


وصلت السيارة المُقلة لزيدان ومليكة من المطار حتى البلدة التي كانت تقع على أطراف مدينة الاقصر...قضت مليكة أغلب الوقت في الصمت بعدما نفذت طاقتها في الحديث وخاصةً بعد رحلة الوداع التي خاضتها مع زوج والدتها، فقد أغرورقت عينيها بالدموع وهي تقابل نظرات الحزن الممزوجة بالأسف من قبل زوج والدتها بينما كانت يداه ترفض ترك يدها الصغيرة وعقله يدفعه نحو ذكرياتهما معًا منذ بداية طفولتها حتى لحظة زواجها، لم يكن يعلم أن تلك اللحظة ستكون مهيبة بهذا الشكل، موجعة لأقصى حد وتحديدًا سفرها وبعدها عنه لم يتقبله، فحين يشتاق قلبه لعناق أبوي من سيشبعه بذلك الشعور غيرها! لمن سيضيء وجهه لابتسامتها الرقيقة...بالنهاية هي من اختارت لذا قرر الاستسلام وعدم المقاومة وقد رأت ذلك في عينيه مما أدى إلى تسلل الراحة لصدرها فقد كانت تخشى ضميرها والذي كان سيتراقص بجنون فوق أوتار تماسكها ان غادرت ورأت نظرة اللوم في عينيه.

انتبهت مليكة ليد زيدان المربتة فوق يدها، فنظرت إليه ورأته يحثها للنزول من السيارة، حركت رأسها بإيماءة وهبطت تقابل حياة جديدة محاولة أن تنسى ما يؤرق عقلها مؤقتًا، يكفي انها ابتعدت ولم يعد لها أثر في القاهرة..وها هي هنا في مدينة بعيدة جدًا وبلدة متطرفة.

قابلت السكون المطبق على البلدة، وغرق وجهها بملامحه المُرهقة في التعجب، فاندفع رجل قمحي البشرة، قصير وجسده سمين بعض الشيء يقابلهما بابتسامة مرحبة وأول من كسر امارات التعجب فوق وجهها هو صوته المجيب:


-عندنا البلد بتبدأ تنام من المغرب، نورتوا يا باشا.


حرك زيدان رأسه بتحية بسيطة وتقدم نحوه في خطوات بسيطة فتراجعت مليكة خطوة تترك له المساحة الكافية للتحدث معه، بينما زيدان رفع وجهه للبناية قائلاً:


-الشقة هنا؟!


ارتفع صوت الرجل بتأكيد وقد سرق انتباه مليكة التي كانت تمرر بصرها على البناية الكئيبة ذات الاضواء الخافتة:


-اه يا باشا...الشقة هنا في الدور الثاني.


فأشار له زيدان بالتحرك وتحرك خلفه ولكنه لاحظ وقوف مليكة وتحدقيها بالبناية فعاد إليها وحدثها بصوت خافت:


-يلا يا مليكة، واقفة ليه؟


تقدمت نحوه ثم قالت بصوت مرتبك:


-زيدان العمارة دي كئيبة اوي.


نظر حوله بسخرية مردفًا:


-المنطقة كلها مش دي بس..


أومأت برأسها تؤكد على حديثه، لمحت كفه الموضوع أمامها فوضعت كفها الصغير بين قبضته الرقيقة وتركته يحركها خلفه بلطف حتى وصلا لشقة بالطابق الثاني..دخلا سويًا كانت الانارة جيدة والاثاث مغطاه بأغطية بيضاء كثيرة يملأها الغبار..فيبدو أنها كانت مهجورة لفترة كبيرة.

شعرت مليكة بيد زيدان التي تركتها فوقفت بالمنتصف تحدق بأرجاء الشقة بداية من الصالة فكانت متوسطة حجمًا وغرفة واحدة موجودة أمامها مباشرةً ومرحاض بجانبها والمطبخ في الجهة الأخرى، فخرج صوتها يسأل بضيق:


-زيدان دا مفيش إلا اوضة واحدة.


قابلها زيدان بثبات وهتف ببرود:


-اه ما أنا اخدت بالي.


كادت تواصل حديثها ولكن الرجل نظر لزيدان بنظرة غامضة وابتسامة ماكرة التصقت بشفتيه:


-أصل يا هانم الشقق هنا كلها اوضة واحدة بس.


وضحكة غريبة خرجت من جوفه، فضرب زيدان وجهه بخفة هامسًا:


-الله يخربيتك يا عباس.


تقدمت نحوهما تسأل في تعجب:


-معقولة البلد كلها كدا، طيب واللي معاه اطفال يعمل إيه!


تدخل زيدان سريعًا وحرك عباس نحو باب الشقة:


-يلا أنت بالسلامة طرقنا.


فهمس عباس له بحماس:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-إيه رأيك يا باشا فيا، فهمتها ان الشقق كلها فيها اوضة واحدة.


وغمز بطرف عينيه، فابتسم زيدان له بسماجة ودفعه نحو الخارج مردفًا:


-متشكرين لافضالك يا عم.


من ثم أغلق باب الشقة مرة واحدة، ثم التفت نحو مليكة مرتديًا قناع الغضب وهو يقول:


-ايه يا مليكة دا كلام تتكلميه مع الراجل؟


-ايوا جايبلنا شقة فيها اوضة واحدة ازاي.


ردت بضيق، فأجاب بسخرية:


-ما تروحي تقوليله على الاتفاق اللي بينا وهو يروح يفضحنا في قسم الشرطة بين زمايلي.


حاولت التحدث ولكنه هتف ببصرامة وحزم:


-انا وافقت على كلامك عشان مزعلكيش بس مش معنى كدا ان  أي حد يعرف باللي بينا المفروض تحافظي على وضعي قدام أي حد.


تحرك بعدها نحو الغرفة، فاندفعت خلفه تقول بخجل:


-أنا مقصدش على فكرة، بس أنا محرجة اننا هنام جنب بعض.


توقف فجأة وهو يهتف بصوت مرتفع:


-يا ستي هبقى أنام على الارض، ارتاحتي.


-أنت متعصب ليه؟!


قالتها بتعجب خالط فيه الاستنكار لحدته، فرمقها بنظرة مطولة وخرج يجلب حقيبته ثم دخل مرة أخرى وهو يتمتم بصوت حاد:


-أنا هدخل استحمى.


زمت شفتيها بضيق وقررت أن تتركه وتخرج للصالة تتجول بها وتستكشف قطع الاثاث والمطبخ، بينما هو فتح حقيبته بغيظ جاذبًا بعض قطع ثيابه القطنية المريحة متمتمًا بحقد:


-حظي هباب أنا عارف اقسم بالله.


ترك الحقيبة مفتوحة على مصراعيها ثم خرج نحو المرحاض ولم يلاحظ الحقيبة التي قد أعيدت غلقها باحكام!


دخل المرحاض وبدأ في خلع ثيابه والحنق يتملك من وجهه فبدا محمرًا للغاية وجسده يتشنج مع نزول قطرات المياة  فقرر الاسترخاء قليلاً لذا التفت نحو ستارة صغيرة مُعلقه حول حوض الاستحمام واغلقها عليه مع صعود البخار اغمض عينيه وانشغل عقله في كيفية كسر الحواجز الحائلة بينه وبين مليكة، ومع صوت قطرات المياة المتساقطة استمع لصوت أخر خلفه، فاستدار ببطء وفتح عينيه بصدمة حينما رأى الستارة مفتوحة كما كانت من قبل وكأنه لم يلمسها..فحرك رأسه بعنف شديد وزفر بغيظ لتهيؤات ساذجة تسربت لعقله ثم أعاد غلقها..وقرر استكمال رحلة الاستحمام الغريبة، فجذب الصابون وبدأ في فركه بقوة ثم وضعه فوق وجهه ولكن نفس الصوت اخترق عقله ففتح عينيه نصف فتحة ورأى الستارة مفتوحة كما كانت من قبل، فارتفع صوته بتوتر:


-احنا هنهزر ولا إيه!


أغلقت الاضاءة لجزء من الثانية وثم عادت مرة أخرى، هنا تأكد أن هناك شيء مريب يحدث بذلك المرحاض، فقرر غسل الصابون عن وجهه في ثبات تام ثم فتح عينيه مرة واحدة ولكنه وجد الستارة مغلقة بالكامل كاد أن يضحك بحماقة عما يحدث معه، ولكن استكمل ما يفعله حتى ينهى ذلك المزاح وخاصةً حينما دفعه عقله نحو عالم الجن، وعندما التفت وجد الستارة فتحت على مصراعيها..كتم اعتراضه بداخله وخرج من حوض الاستحمام نحو ملابسه ولكنه وجد سترته البيضاء فقط وسرواله غير موجود، استدار عدة مرات يحرك بصره في أرجاء المرحاض لم يجد شيء، لوهلة شك بنفسه فارتدى ملابسه الداخليه وسترته وفتح الباب يبحث عن مليكة، استمع لصوت جلبة بالمطبخ فتأكد أنها هناك خرج سريعًا ودخل الغرفة نحو حقيبته وجدها مغلقة باحكام وكأنها لم تفتح من قبل، فهمس لنفسه بثقة:


-اكيد مليكة اللي قفلتها.


فتحها مرة أخرى وبحث عن سرواله الأسود لم يجده، فقد كاد يجن لقد رآه قبل دقائق وأمسكه بين يديه، و رغم كل هذا لم يريد تصديق ما يؤل إليه عقله، لذا جذب سروال آخر وخرج للصالة فوجد مليكة واقفه تحدق بالشرفة فسألها:


-في إيه يا مليكة!


-مين فتح البلكونة دي..أنت!


ووجهت إصبعها نحوه، فتمالك نفسه وهتف بثبات:


-اه..


ثم توجه نحوها ليغلقها ولكنه رأى سرواله معلقًا فوق الحبال، توسعت عيناه واستدار بجسده يسألها عما ان كانت هي فعلت ذلك ولكن تقاسيم وجهها تعطيه إجابة مناقضة لما يريد سماعه.

جذب سرواله في صمت وتقدم نحوها عندما قالت متعجبة:


-أنت ازاي اخدت شاور والمياة مقطوعة في المطبخ.


تشابكت الحروف لديه ولم يعد يعلم كيف يجيب عليها وقد تأكد من ظنونه، فتظاهر بلامبالاة حتى لا يثير الرعب لديها.


-عادي تلاقي شوية مشاكل في مواسير المطبخ، هنحلها بعدين.


-طيب هدخل اخد شاور.


ترك السروال جانبًا ورمقها بنظرة غامضة:


-بلاش انتي كدا حلوة.


-ليه احنا جايين من سفر، والشاور هيخليني افوق.


هز كتفيه باستسلام وهو يتمتم:


-بس افتكري ان قولتلك بلاش.


وقفت في طريقها وهتفت بسؤال:


-ليه؟!


-شايفك مأفورة في النضافة وانتي زي العسل، خليكي كدا.


-دي مجاملة ولا معاكسة ولا بتزهقني ولا في إيه؟


قالتها بعدم فهم امتزج فيه السخرية، فابتسم وقال بمزاح مهزوز:


-بهزر معاكي، ادخلي يلا، بس متقفليش ستارة الحمام...


شملته بعدم فهم، فسارع بالتوضيح:


-عشان البخار خايف عليكي.


-اوك..شكرًا.


همست بها وتوجهت نحو المرحاض بعد أن جهزت ثيابها، وفور اغلاقها للباب اندفع زيدان نحو الأسفل بعدما جذب هاتفه وأجرى اتصال بعباس الذي أتى مهرولاً من إحدى البنايات المجاورة وقابل زيدان بأسفل البناية..

وقف يرتجف بخوف وهو يقابل زيدان بملامح وجهه الشرسة، مختنقًا بكلمات الأسف محاولاً اظهار بعض من التجاهل بعد أن رأى نظرات التهديد والغضب منبثقة نحوه كالسهام، فتغاضى عن فعلته وعقد حاجبيه وهو يسأله:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

-خير يا باشا نازل ليه؟!


ضغط زيدان فوق أسنانه بغيظ شديد وهو يتمتم:


-جايبلي شقة فيها عفاريت..


-عفاريت!


ردد خلفه باستنكار، فهز زيدان رأسه مؤكدًا والشر يتطاير من عينيه، بينما سارع الأخر بكلمات اختلط فيها السخرية:


-ما عفريت إلا بني آدم يا باشا.


-متخلنيش اقل منك وأنت راجل كبير، دول فتحوا عليا ستارة الحمام وأنا بستحمى تلات مرات.


رسم عباس ابتسامة لزجة وهو يقول:


-تلاقيه مدام سعادتك بتهزر معاك يا باشا.


اخشن صوت زيدان بنبرة معنفة:


-انت هتهزر معايا..


أطرق للحظات واقترب من عباس يهدده بنظراته الشرسة:


-أنا قافل باب الحمام بايدي.


-يمكن متهيالك يا باشا.


قست ابتسامة زيدان والغيظ يأكله من ذلك المستفز حيث كان واضح جدًا كذبه ولكنه قال بصرامة:


-لا ازاي والبنطلون اللي واخده معايا، لقيته فجأة منشور على البلكونة.


ضحك عباس وهتف بمزاح رغم نبرته المرتجفة:


-طب كويس بيخدموك اهو.


اختصر زيدان المسافة وقبض فوق عنقه، فاهتزت ابتسامته بخوف من رد فعل زيدان التالي وكما توقع  أبدى زيدان غضبه يشكل واضح:


-لما أنت عارف انها مسكونة، جايبهالي ليه؟


-آآ...أنا قولت يا باشا ان الظباط مبيخافوش من الجن، مش انتم يا باشا مبتخافوش من أي حاجة.


سخر زيدان بصوت مختنق:


-اسكت مش طلعوا بيخافوا وزي باقي البشر، رد على سؤالي.


ارتفع صوته بنبرة مهددة، فأجاب عباس بصدق:


-ما هو يا باشا أنت فضلت تقولي عايز فيها اوضة واحدة وتأكد عليا، وأنا خوفت اجبلك حاجة غير طلبك ازعلك.


التوى فمه بتهكم وأردف بغيظ:


-والمركز دا كله مفيهوش الا الشقة دي، ما ترد.


اطرق عباس بنظراته أسفل وهتف بأسف:


-الراجل صاحب العمارة قالي لو اجرت اي شقة فيهم هيديني مكافأة كبيرة، فأنا اخترت اقل شقة بيحصل فيها لامؤاخذة حاجات وقولت أنت ظابط ومش هتخاف.


-ليه العمارة كلها فاضية؟


-اه يا باشا.


اشتدت ملامح زيدان بالغضب الشديد منه، فهتف بنبرة خشنة قاسية:


-حالاً تجبلي شقة تانية غيرها.


-مش هينفع يا باشا الناس هنا نايمة والشقق الحلوة مُلاكها موجودين في نفس العماير، الصبح بدري هجبلك أحلى شقة بس الصبح مينفعش نتعدى الأصول ونخبط على أي حد بليل كدا.


كانت نظرات النفي في أعين عباس صادقة وقد تأكد زيدان بسبب خلو الاناس من الطريق..واحاديث زملائه عن قواعد تلك البلدة، فقرر السكوت ملتزمًا بالهدوء النسبي وصبر نفسه بالساعات المُتبقية من الليل.

لذا تركه على مضض وصعد للأعلى فوجد مليكة كادت تخرج من الشقة ولكنه قابلها فجأة، قرأ علامات الذعر بعينيها وصوتها يرتجف بخوف:


-زيدان أنت كنت فين، ومين اخد هدومي من الحمام.


دفعها للداخل وهو يحاوط كتفيها مهدئًا إياها ولم يجد إجابة مناسبة لسؤالها، فنظرت إليه بشك:


-أنت اللي اخدتهم وحطيت تاني في الشنطة.


همس بسؤال واحد:


-هدوم إيه؟


مسكت قطع ثيابها التي كانت ترتديها قائلة بغيظ:


-دي..اللي أنا لابسها.


-ولقيتها فين؟


زفرت بضيق:


-في الشنطة ولبستها مع اني كنت واخدها معايا في الحمام، وبعدين أنت ازاي تعمل فيا المقلب دا مفيش غيرك يقدر يعمل كدا.


التوى فمه بغيظ به لمحة من الحقد:


-طيب ما كنت استنى اللحظة اللي هتخرجي فيها من الحمام.


ثم همس بحنق:


-اقسم بالله نحس فعلاً ما كنت استنى شوية.


ضربت بخفه فوق كتفه قائلة بتهديد:


-أنت بتقول إيه؟ وازاي تعمل كدا؟


-معملتش حاجة.


همس بها دون وعي ولكن نظرات الرعب جذبتها للحالة التي انتباتها فقال سريعًا بابتسامة واسعة:


-لا عملت كدا طبعًا، يعني أنا فيا طبع بحب اهزر مع أي حد بيستحمى.


تجاهلت حديثه وهي تقول بابتسامة مرحبة:


-اهلاً بحضرتك..احنا جارينكم الجداد، تعالوا اتفضلوا.


التفتت زيدان ببطء للخلف يخشى ما سيراه ولكنه لم يجد أحد فعاد يسألها بترقب:


-مين..بتكلمي مين؟


-واحدة وبنتها الصغيرة كانوا ماشيين، شكلهم رايحين الشقة اللي جمبنا.


اختلطت التعابير لدى زيدان وترك مليكة ثم تقدم نحو الباب بخطوات ثقيلة للغاية ومد برأسه يتابع الطرقة التي تفصله بينه وبين الشقة المقابلة فلم يجد أحد، دخل وأغلق الباب فوجد الغيظ يأكل مليكة:


- ست سئيلة بشكل المفروض كانت ترد عليا، والله لو شوفتها ما عبرها.


-اه اوعي تكلميها.


هتف زيدان مؤكدًا وقليل من الخوف بدأ يسيطر عليه، ولكن نبرة مليكة المملتئة بالغيظ جذبت انتباهه:


-زيدان متهزرش معايا كدا تاني لو سمحت، أنا بجد خوفت وشكيت ان في حاجة في الشقة...بس قولت انك استغليت اني قفلت ستارة البانيو.


-وفي حد فتحها ولا لا...


سألها بشك، فأجابت بغيظ من أسئلته الغامضة: 


-أنت بقيت تسأل حاجات غريبة اوووي...


لم تكمل حديثها وفتحت ابواب الشرفة على مصراعيها بقوة فعادت للخلف عدة خطوات برعب ثم ركضت نحوه حيث كان يقف يتابع ما يحدث في صمت وثبات يحسد عليه، التصقت به وهي تشير بخوف:


-مين فتح البلكونة؟


خرج صوته مبحوح يجيبها:


-الهوا.


إجابة مقتصرة لم يستطيع أن يخرج غيرها، وعيناه تعلقت بأبواب الشرفة فلم ينتبه لمليكة التي كانت تحتضن خصره بذراعيها تنظر لنفس المكان بارتجاف، ومع ارتفاع حرارة جسده بسبب قربها انتبه لوجودها فاستغل الوضع وحاوط جسدها بذراعيه قائلاً بمشاكسة لطيفة:


-أنا بشكر الهوا اللي خلاكي تحضنيني بالشكل دا.


ابتعدت في خجل قائلة بصوت مهزوز:


-آآ...أنا بس خوفت..يلا هدخل أنام.


تحرك خلفها وسمح لبصره بالتجول فوق جسدها بحرية بعد أن اصبحت زوجته، فقد كانت ترتدى منامة بيضاء اللون باكمام طويلة وسروال طويل، لم تكن المنامة تشف جسدها ولم تصفه، لقد حرصت على اختيارها باهتمام ولكن ما جعله يبتسم بسعادة هو خصلات شعرها المنسدل فوق ظهرها فتعلق بصره به ولم يحاول إصدار مغازلة صريحة لها حتى لا تعاند وتقوم بتخبئته أسفل حجابها والدافع لذلك هو اتفاقية الاصدقاء التي قد عقدتها معه، فقرر التعامل بشكل طبيعي ودخل الغرفة معها يسألها بحيرة:


-هنام فين؟


شعور ما هاجم صدرها بعدم الراحة لتلك الشقة، فلم تعلم لِمَ خرجت إجابتها بهذا الاندفاع والسرعة:


-نام هنا على السرير معايا.


لم ينتظر زيدان ووجدته يتوسط الفراش بابتسامة كبيرة، فعادت تقول بتبرير:


-حرام تنام على الأرض يعني، فقولت تنام هنا.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

وأشارت على طرف الفراش وتوجهت هي للطرف الأخر تقول:


-وأنا هنام هنا.


وبالفعل رقدا فوق الفراش وحاول زيدان اغلاق الانارة ولكنها صاحت بذعر ترفض اغلاقها ففتح اضاءة بسيطة واستدار نحوها يتساءل:


-كدا حلو!


نبرته الحانية جعلها تبتسم له بحب قبل أن تغلق عيناها، فاستدار هو بجسده واعطاها ظهره حتى يعطيها الحرية الكاملة وأغلق عينيه مستسلمًا للنوم محاولاً تجاهل ما يحدث بتلك الشقة، ولكن صوت جلبة جذبت انتباهه وجعلته يفتح عينيه، فهمس بضيق:


-بدأنا.


اقتربت مليكة منه بجسدها بل والتصقت به من الخلف وهي تقول بتلعثم:


-أيه الصوت دا؟


تركها تحتضنه من الخلف وهمس بلطف:


-متخافيش تلاقي جيرانا.


-زيدان أنا حاسة ان في حد بيتنفس ورايا.


كان صوتها مختنق بعض الشيء والبكاء كان على مشارفه لديها، التفت سريعًا ولم يجد أحد فقال وهو يبادلها العناق يجذبها نحو صدره العريض:


-مفيش حاجة يا حبيبتي..متهيألك.


رفعت بصرها تتعلق بنظراته تسأله بشك:


-بجد والله.


هز رأسه بتأكيد، فأغلقت عينيها ترفض التخلي عنه وذلك الاحساس يسيطر عليها بوجد أحد خلفها ولكن جسد زيدان المحاوط لها جعلها تطمئن قليلاً، وبعد دقائق من الصمت اخترقت حاسة الشم لديهما رائحة طعام شهي، ففتحت عينيها وهمست برعب:


-ريحة الأكل دا جاي منين؟


انتظر ثوان ولم يستطع الاجابة فالرائحة تزداد وكأن أحدهم يطهو في الشقة وأصوات الجلبة تزداد وفجأة فُتحت صوت أغنية قديمة لأم كلثوم، تشبثت مليكة به أكثر ودفنت وجهها بصدره حتى زيدان قد شلت حركته تمامًا وتوقف عقله عن العمل ولكن صوت أنثوى خارج الغرفة وطرقة بسيطة فوق الباب أيقظ خلاياهما المصابة بشلل مؤقت:


-يلا يا حبيبي الأكل خلص خلاص.


هب زيدان واقفًا يجذب مليكة التي كانت ترتجف بخوف والدموع تتساقط فوق وجنتيها تزامنًا مع ترديدها لآيات قرأنية..بدأ زيدان في لملمة أشيائهما والبحث عن حجابها فوضعه فوق رأسها بينما كانت تسبل ذراعيها جانبها وتغلق عيناها بقوة، استمعت له وهو يردد:


-احنا هنخرج من هنا وعلى الباب على طول ولا تبصي يمين ولا شمال، فاهمة.


أومأت بارتجاف والآيات القرأنية ترددها بشكل سريع، أمسك زيدان بالحقائب الكبيرة، وترك يدها رغمًا عنه بسبب كبر الحقائب تحركت مليكة خلفه تضع بصرها في الأرض وهي تتجه خلف زيدان مباشرة ولكن هناك فضول دفعها للنظر نحو للمطبخ وما انقذها هو اغلاق زيدان لباب الشقة..حاولا التحرك نحو الدرج ولكن أصوات نسائية تصرخ بالاستغاثة بالشقة المقابلة فتوقفت وهمست لزيدان:


-حد بيضرب الست اللي جوا هي وبنتها.


دفعها زيدان نحو الدرج أمامه قائلاً:


-مفيش حد ساكن في العمارة كلها..بسرعة.


- لا في الست ..


قطع حديثها بنبرة حازمة:


-بقولك مفيش بشر غيرنا..بسرعة.


توسعت عينيها بذعر حقيقي وصرخت وهي تهبط الدرج:


-إيه...يالهــــــوي.


هبطت الدرج بسرعة كبيرة متناسية زيدان خلفها فقد كانت أشبه بمن ركب بساط سحري وهي تركض نحو الطريق وزيدان خلفها يحاول إيقافها...

                                ****

تحرك إبراهيم في الصالة ذاهبًا وإيابًا والغضب يحتل كل ذرة به، فقد كاد يجن بعدما دخل الشقة  هو وسمير ولم يجد نهى ولا حتى خالد حتى ثيابهما وحقائبهما اختفت، أصاب بالجنون حينها وأسرع يحاول إجراء اتصالاته ولكنه لم يصل لشيء حتى أنه قرر إبلاغ ميرڤت التي صاحت بجنون وشر لغبائه هو وسمير وتلقى منها توبيخاً لاذع بعد اعترافهما بكل شيء وخسارتهما للمال ولجوئهما لخالد والاقامة معه.

ساعات طويلة مرت عليهما وهما على نفس ذات الوضع هو يتحرك بعنفوان في الصالة وسمير يجلس على نفس صدمته بعد أن اخذ خالد كل متعلقاته من الشقة ولم يترك ورقة واحدة أو أي شيء آخر يخصه وعند تلك النقطة صاح بحقد:


-ابن ال*** قاصدها وسابلنا الشقة واحنا نلبس.


استدار إبراهيم بصوته الخشن يسأله:


-قصدك إيه؟


-الواد قاصد يسيبنا من غير سكن ولا فلوس والشيخ قاسم لما يعرف يسبنا، قولتلك الحقد بياكله من جواه من ناحيتنا مصدقتش.


زفر ابراهيم بغيظ شديد وهو يردد:


-مش مشكلة، مش هنعرف الشيخ قاسم اصلاً لغاية ما نوصلها، هو يعني هياخدها ويروح فين أكيد سافر مصر وهيرجعها لأمها.


وقف سمير يردف بتفكير محاولاً لملمة جميع الأمور المبعثرة:


-وان مكنش عند ماما يبقى عند زيدان حبيب القلب ووقتها احنا نضغط على زيدان يا أما نعرف سليم بحوار خطوبته منها...يا أما يرجعها وهو هيرجعها عشان يخاف يخسر اخوه.


صاح ابراهيم بحماس شديد:


-ايوا صح يا سمير بدأت تشغل دماغك، هاتلي التليفون نقول لامك تبعت حد يراقب بيت خالك.


سارع سمير بجذب الهاتف واعطاه لوالده الذي سارع للحديث مع ميرفت الغاضبة والتي لم تعلم عن نهى شيء حتى الآن متوعدة لها بأقصى عقاب، أما سمير حاول ضبط نفسه وعدم السماح للخوف بالسيطرة عليه، فلن يفقد احلامه وآماله بسبب سذاجة أخته التي تركت أموال طائلة من أجل أمور تافهة..سيعديها ويرغمها على الزواج الذي سيكون بمثابة طاقة القدر له.

                                ***

في إحدى الفنادق الكبيرة في القاهرة كانت نهى تجلس في قاعة الاستقبال تنتظر خالد كي ينهى اجراءات الاقامة لعدة أيام كما أبلغها، لم تصدق أنها تركت قطر أخيرًا فقد كانت الأيام التي قضاتها هناك كبيسة ومخيفة بشكل كاد يخنقها، تلألأت دموع الفرح بعينيها حينما تمسك بها خالد وحاول مساعدتها بكل الطرق بداية من تجهيزه لسفرهما معًا حتى مجيئهما لذلك الفندق، ولوهلة شعرت أنها في حلم تعيشه بكل تفاصيليه بداية من الخوف للترقب وصولاً لسعادة التي ملأت صدرها..

تقدم منها خالد وهو يشير لها باتابعه فخطت خلفه على استيحاء وكلمات الشكر تتجمهر بجنون على طرف لسانها تتمنى التعبير عن امتنانها بشكل يليق به بعدما جازف بكل شيء من أجلها..


وصلا أخيرًا أمام غرفتين متجاورتين..فأعطى لها مفتاح الغرفة الالكتروني وهو يبتسم بإرهاق:


-مفتاح اوضتك.


مدت أصابعها الرقيقة والتقطته منه والخجل يطغو فوق وجهها فأضفى على ملامحها جمال فريد وهي تنظر له على استيحاء وكأنها تشبه الهر الصغير حينما يكافئه صاحبه بطعامه المفضل.


-شـ...شكرًا اوي يا خالد.


-وفري أي شكر لما ندخل ونريح خالص، في صداع بيعمل شقلابظات في دماغي.


ضحكت بخفة وأومأت بصمت بينما هو دخل لغرفته وتركها وحدها، ابتلعت لعابها بتوتر وهمست لنفسها بتساؤل قلق:


-هو ندمان ولا إيه؟!


لم تعطي لنفسها فرصة للتفكير أكثر ودخلت للغرفة تضع حقائبها جانبًا ثم توجهت للشرفة تفتحها على مصراعيها دخلت وهي تنظر لأسفل تحاول استنشاق الهواء الهليل..فشعرت بالدوران الطفيف وعادت رهبة خوفها من المرتفعات تسيطر عليها لذا عادت للخلف خطوة و لكن الشرفة المجاورة جذبت انتباهها فقد آل عقلها أنها لخالد لذا ابتسمت واقتربت بحذر كالأطفال تحاول النظر فيها وقد ساعدها تجاور الشرفتين بشكل كبير ولكن ظهر خالد فجأة من خلف الزجاج يبتسم لها بمشاكسة، فتسرب الحرج إليها ورفعت يدها تشير له مرحبة به بحماقة، فتح الباب الزجاجي وهو يقول بسخرية:


-لاقيت حد متطفل بيحاول يبص عليا، قولت يا ترى يكون مين..


تقدم للسور الفاصل بينهما يستند عليه وهو يوجهه حديثه إليها مباشرةً بضحك:


-قولت مفيش حد غير نهى.


أشارت نحو نفسها وهمست بعتاب:


-أنا متطفلة!


-اومال بتبصي عليا ليه يا قليلة الادب.


صاحت بنفي وهي تقول:


-لا لا أنت فهمت غلط، أنا كنت بحاول اطمن ان البلكونة دي بتاعتك.


ضحك بصوت عالٍ وهو يؤمئ برأسه بتأكيد:


-تقومي تتشقلبي بالشكل دا.


عبست بوجهها وهمست:


-أنا أسفة مكنتش اقصد على فكرة، وان كان على البلكونة أنا مش هدخلها تاني، عن اذنك.


دخلت وتركته ينظر لأثرها بتعجب، ولكنه هز كتفيه بلامبالاة وعاد لتدليك رأسه بينما كانت تتحرك بضيق في الغرفة وهي تردد:


-قليل الذوق..بس أنتي بردو غبية.


زفرت بضيق واحتدت مشاعرها فتوجهت صوب حقيبة يدها تخرج أشيائها وهي تلوم نفسها:


-مكنش المفروض اتقمص بسرعة وهو كتر خيره ساعدني..يووووه.


لمست يدها اقراص طبية مسكنة للصداع، أمسكتها بتفكير وتردد ولكنها حسمت أمرها وخرجت نحو غرفته ثم طرقت الباب بخفة وما هي إلا ثوان وفتح خالد الباب فرفع حاجبيه معًا وابتسامة وقحة تسلقت فوق شفتيه:


-والمرادي بتحاولي تتأكدي مين في الاوضة دي؟!


قدمت له الاقراص الطبية وقالت بصوت حاني لطيف:


-دي حبوب هتساعدك تنام وترتاح، تصبح على خير.


اخذ الاقراص منها مبتسمًا بامتنان لاهتمامها الذي داعب مشاعر يحاول لجمها بعقلانيته وفرت تلك الغازلة الحزينة من أمامه لغرفتها دون أن تعطيه فرصة للشكر..دخل الغرفة وهو يتناول قرص ومن بعدها ارتمى بجسده فوق الفراش يغلق عينيه محاولاً نفضها من عقله حيث أصبحت تحاصر كل جانب فيه بهمساتها...صوتها المبحوح...عينيها ذات النظرة الحزينة..أما عن ملامحها الرقيقة فقد استحوذت على عاطفته وأشعلت به لهيب يهدد بانفجار مشاعره الجياشة فشعر بحرارة غريبة منه ورغمًا عنه همس:


-ودي هخلص منها ولا هتخلص عليا.


هاجمته رغبة مُلحة لمواصلة الحديث معها ربما يكمن الدواء فيها وحدها وذلك بعد أن جرب الاقراص ولم تفعل شيء حتى بعد مرور دقائق عديدة، توجه نحو هاتف الغرفة ورفع السماعة مجريًا الاتصال برقم غرفتها وذلك بعد ان اوهم نفسه بالاتصال بها لتقديم الشكر ليس إلا ولكن رنين المتواصل جعله يهتف لنفسه بنزق:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس عشر حتي البارت العشرون 

 -لا هتردي متأخر هلم مشاعري واوزعهم على الفقرا.


 انتظر رنين الهاتف بفارغ الصبر متعجبًا من ذاته                    التي باتت تتصرف بشكل جنوني هو لا يستطيع تفسيره سوى أنه قد أعجب بها ولوهلة عاد يضحك وهو يضع الهاتف لموضعه هامسًا:


-دي أكيد لعنة كل ما اشوفها اعجب بيها..


قديمًا كان يظن أنها مجرد لحظات من المراهقة الساذجة المليئة بعنفوان الشباب بوقعه صريعًا لنهى تلك الفتاة البسيطة التي كُلما رآها يدق قلبه بشكل جنوني وعندما واجه والدته بحقيقة مشاعره ذات مرة سعدت كثيرًا واخبرت ميرفت من باب توفيق الاثنين لبعضهما ولكن جاء ردها اللاذع أن ابنتها لن تتزوج سوى من شخص مرموق له مكانة عالية بالمجتمع وأكدت عن إعجاب نهى الشديد بزيدان الذي له سيكون له مستقبل باهر فتحطمت آماله وقسى قلبه من ناحيتهم جميعًا ورغم أن نهى كانت تناقض تمامًا شخصه الشرس فكانت طباعه جامحه لا أحد يستطيع إيقافه ولكنه دفن جزء من شخصيته داخله بسبب ضغوطات الحياة وتعرضه لعدة صدمات أنهكت من شبابه فرضخ للتعقل وهو يرفع راية الاستسلام..وها هو يعود كالابله يعجب بها من جديد فمجرد النظر إليها تسحره نحو عالم تملكه بعينيها المُسبلة وكأنها تخبئ خلف جفنيها نقوش من الحزن تجعله مسحورًا بها...

______________

قراءة ممتعة ♥️♥️♥️

أنا كار الرعب دا مش كاري قلب معايا بالضحك 😂😂

تفاعل حلو كدا يشجعني اكتب الفصل الجديد وهستنى رأيكم في الكومنتات 😍

تعليقات

التنقل السريع
    close