القائمة الرئيسية

الصفحات

منك واليك اهتديت الفصل السادس حتى الفصل العاشر بقلم زيزي محمد كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات

 

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 
بقلم زيزي محمد
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

فتح "زيدان" جفنيه بعد أن قرر إغلاقهما لخمس دقائق يريح بهم نظره المشوش من إرهاق متزايد في عمله لمدة يومين كان يختطف النوم بهما كمن يقتنص ثمرة شهية من أعلى شجرة بعد أن عزفت بطنه أناشيد الجوع.

مد أصابعه يدلك جبينه برفق في حركات دائرية ربما يصمت هذا الألم الطارق في جانبي رأسه بصورة متواصلة جعلت من ملامحه الوسيمة مكفهره وكأنه انتهى التو من نقاش سَافِر.

صعد رنين هاتفه بموسيقى هادئة، فحول رأسه جانبًا يرى المتصل وما كانه منه سوى الاعتدال  في مقعده، منظفًا حلقه عدة مرات قبل أن يرد بنبرة جادة للغاية:


-أهلاً يا باشا.


استمع لصوت الأخر باهتمام بالغ وحين وصل لمبتغاه عادت ملامحه تتجهم بعدما تأجلت غايته التي كان يسعى من خلالها الهرب بعيدًا، لذا قال بنبرة ثابتة خشنة:


-يعني إيه الموضوع ممكن يطول.


استمع لرئيسه الغاضب من استعجاله في الأمر:


-في إيه يا زيدان مش عادتك الاستعجال، قولتلك الموضوع حاليًا مش سهل.


مد يده يضغط بها على فمه في غيظ، وظل يحرك رأسه في تفهم مع حديث رئيسه المتواصل، وحينما انتهى أغلق الهاتف واضعًا إياه بنزق فوق المكتب، وشياطين الدنيا تتلاعب برأسه الآن دافعة إياه بتكسير كل قطعة أثاث في مكتبه كي يهدأ من غليان مشاعره وتدهور أفكاره لمنحدر لا يعجبه.

تقلب بين جنبات دواخله كالمجنون الذي فقد هويته، لا يعلم السبيل في الخلاص مما يؤرقه، طرق كل أبواب الصبر لديه ونفذ مخزونه في تحمل الترهات التي تتقاذف خلف بعضها وهو يقف مكتوف الأيدي وأخرهم ظهور "مليكة" في حياته من جديد.

تلك التي سرقت روحه وجذبته مسلوب الإرادة نحو عالم كان يخشى الدخول به، متمسكًا بغروره وشخصه الفريد في اختياره للفتيات، فأتت هي وخالفت كل توقعاته، هادمة كل أسواره ومعتقداته بنظرات متبادلة بددت من مشاعره الصلدة لأخرى يغمرها الشوق لرؤيتها والتشبع من ملامحها وحركاتها الأنثوية غير المقصودة، والتي كانت تزيده اشتعالاً، جارفة عينيه الراغبة لها في تتوق يتفاقم كل يوم عن سابقه.

كانت ولا زالت أفضل أيام حياته حينما كانا يعيشان قصة حب سرية بعيدًا عن زملائه وأصدقائها قصة حب بدأت بشيء ربما يكون تقليدي ولكن المشاعر المتبادلة بينهما كانت تسمو لارتباط أكبر فيما بعد لولا رغبتها المحققة بما أرادته فخالف هو بعنفوان شبابي شرس وما كان منها سوى الضغط عليه حتى استفزته وقررا الابتعاد بعد أن أصرت ولم تُبدي أي عواطف للعلاقة التي تصدعت في لحظة لم يكن يتوقعها، حرك رأسه نافضًا طاقة سلبية تحيط به  أصبحت مؤخرًا كنقمة تسلبه لحضيض أفكاره.

قاوم عواطفه الفياضة المتبلورة في صورة حنين مولع بها متمنيًا في قرارة نفسه عودة علاقتهما كما كانت ولكن تلك القيود عادت تلتف حوله تمنعه من القيام بذلك، والاكتفاء بجلوسه كشريد قرر التمسك ببعض ذكريات رطبة تلطف من حالته البائسة.

لانت ملامحه بسخرية قاسية لحالته المزاجية المتقلبة، فمد يده بتلقائية يلتقط كوب العصير يرتشف منه القليل، فهاجمته ذكرى لقاء مُحبب لقلبه بعد أن شعر بمذاقه السُكري في فمه، كمثل ذاك اليوم الذي رآها تتهادى في خطواتها خارج الجامعة، تمسح حبيبات العرق عن جبينها بعد أن ارتفعت حرارة الجو كحال انصهار مشاعره وهو يسير خلفها كالمراهق...

                                            **

أنزل "زيدان" نظارته الشمسية بعد أن لمح طيفها يعبر من بين الطلاب، سالكة طريق جانبي تختار الظل لتسير فيه بعد أن ارتفعت درجة الحرارة وانصهرت هي غير قادرة على تحمل اليوم فقررت الهرع لمنزلها.

كانت "مليكة" غافلة عنه وهو يتحرك خلفها كاللص منتظرًا فرصة الإيقاع بها بعيدًا عن الجمع، وعندما اقتربت من الانحراف لطريق أخر، سارع في خطواته حتى أصبح خلفها مباشرة، مقررًا إنهاء مراقبتها الخفية بأخذ خطوة أخرى تختلف عن سابقتها ليعبر من مشاعر الإعجاب التي تحوم حوله، معتقدًا كمثل باقي الشباب أن وصل إلى مبتغاه سيقل شغفه ويعود باحثًا عن هدف أخر.

نعم هي كانت هدف يغزو أفكاره ليلاً حتى الصباح وهو ينتظرها بشغف أحرق جوفه كلما يراه برقتها المعهودة ونظراتها الشغوفة ووجنتاها المتلونة بحمرة خفيفة كمثل تلك الحمرة تمامًا حين نطق بصوت أجش أرعبها:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

-بطاقتك يا أنسة.


التفتت "مليكة" بذعر وهي تقبض فوق أجندتها البيضاء تنظر له في عدم فهم لوجوده خلفها، فما كان منها سوى أن تنطق بنبرة متلعثمة:


-نعم!


هز رأسه مستنكرًا إمارات الخوف المرتسمة فوق وجهها، سألها بجدية أرعبتها منه:


-بطلب حاجة غريبة؟


بدأت تشعر بالتيه أمام عيناه المثبتة فوق ملامحها تشمل كل تفصيلية بها في جرأة لمست قلبها الغض وحركت مشاعرها من معقلها فبدت كالطفلة وهي تحاول تجميع كلمات لتكوين جملة مناسبة تكشف بها سر مراقبته لها بعد تأكدها من ذلك خلال الأيام السابقة:


-بس حضرتك شفتها قبل كده.


ردت ببساطة والتزمت الصمت، فتقبضت يدها بعد أن لاحظت غرور غزا عينيه المشعة بوميض أربكها أضعاف ما هي عليه:


-اه يعني بترفضي تنفذي أوامري.


أخفت الاضطراب الكامن داخلها، وردت في ثبات:


-اه برفض ومن حقي.


ضيق عينيه وهو يقترب منها في خطوات مدروسة متلاعبًا بأعصابها لكم كان بارعًا في ذلك وخاصةً مع الفتيات العنيدات مثلها، إلا أنه مدركًا أن العناد المُنير في عدستيها غريب عليه، لذا قرر الاستمتاع به:


- لا مش من حقك وكده ممكن أعاقبك.


-تعاقبني!


ردت في دهشة سيطرت على ملامحها الجميلة، وزادت من حمرة خديها، فحرك رأسه بإيجاب مستكملاً في جدية استطاع تصديرها ولم تستطع كشف حقيقتها بأنها ليست سوى مداعبة جافة:


-اه هعاقبك ومش أي عقاب، أولاً هركبك البوكس وبعدها تروحي القسم وهناك هعمل...


أشارت له بالصمت والصدمة تطفو فوق ملامحها لا تصدق كلامه، فما أخطأت حتى يأخذها... هي حتى تخشى التخيل، فقد جف حلقها وارتعب داخلها كالفرخ الصغير:


-أنا معملتش حاجة لكل ده، أنا أصلاً معرفش ليه عايز بطاقتي تاني.


وضع يده في جيب سرواله مررًا بصره عليها وهي ترمقه بخوف حقيقي من جديته المفرطة، فضحك ملئ شدقيه وقال بعدها: 


-مالك خايفة كده ليه؟


استشعرت سخريته منها، فرفعت ذقنها لأعلى تقول بضيق محتدم:


-أنت اللي بالغت في كلامك ليا.


مال رأسه جانبًا وهو يرمقها بنظرات ذات مغزى وبنبرة غامضة قال:


-مكنتش ببالغ، بس ممكن الغيها بشرط واحد.


-إيه الشرط.


ردت بتسرع عضت عليه لسانها فورًا، فسارع بإخراج ما يصبو إليه قبل أن تتراجع:


-تيجي معايا اعزمك على عصير.


لم تحتاج لوقت كي تفكر فالرفض ظهر في عينيها وضوح الشمس وهذا ما أحرقه وزاده إصرار عليها، لم تكتفي بالرفض الصامت بل عقبت بصراحة:


-لا طبعًا.


انخفضت نبرته وهو يسألها بهدوء خالط كلماته:


-لا ليه؟


لم تفكر كثيرًا وهي تجيب بصدق امتزج في حروفه نسيج البراءة:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

-بابا ممكن يزعل مني.


قسى ثغره بسبب ابتسامة ساخرة وهو يعقب عليها:


-يعني مش هيزعل لو راح وجابك من القسم.


زحف القلق لجوفها وهي تنظر له تحاول التأكد من سلامة حديثه، والخوف يطرق أبواب قلبها المسكين أن حدث ذلك... وباتت تنظر له باستعطاف للحظات حتى يتركها وشأنها ولكن ابتسامة الاستهجان المُحلقة فوق شفتيه دفعتها لتسبل أهدابها  وصمتت ثواني قبل أن تحتد ملامحها وهي ترفع وجهها تطالعه بتحدٍ:


-بقولك إيه أنا عصير مش هشرب وقسم مش هروح ولو سمحت ابعد عني.


أطرق للحظات قبل أن يقول بنبرة عابثة:


-متأكدة.


هزت رأسها بتعنت والتفتت تستمكل خطاها ولكن...

ولكن هي لا تعرف كيف رافقته لإحدى الكافيهات القريبة للجامعة وكيف أثر عليها كالمحتال وضعفت أمامه وهي ترتشف أخر قطرة في العصير، فظهر صوته بعدها يسألها بابتسامة جذابة واثقة:


-اجبلك عصير تاني.


                                       **

فتح جفنيه على واقعه الأليم من دونها، فلم يدرك أنه يضغط بقسوة على الكوب وكأنه يحارب شعور خالط الجنون يدعوه الآن برؤيتها حتى لو لم يكن هناك سبب واضحًا لذلك، ناقمًا عليها معتقد أن تلك النيران المستعرة تطاله وحده أما هي تنعم في جنة الهدوء، لن يتركها وحدها في جنانها ولن يرضى بنيران غيابها، هب بطوله الفارع وجسده المتشنج يجتاز مكتبه ومبنى عمله في خطوات سريعة يقسو بها على حاله كي لا يتراجع عن قراره. 

                                    ***

قضت مليكة اليوم بأكمله في فراشها تتجرع ويلات الألم النفسي حتى قررت الذهاب لعملها بعد أن انتبه زوج والدتها السيد "مصطفى" لها وقد سألها مرارًا وتكرارًا عن سوء نفسيتها فلم تكن تعقب سوى بجملة واحدة.


"حادثة جت المستشفى أثرت فيا" 


اختلقت حُجة كي تهرب من أسئلته المحاصرة لها والتي ظهر بها عدم تصديقه ولكنه كالعادة التزم الصمت معطيًا إياها مساحتها الشخصية الكاملة، ورغم محاولاتها في كشف سرها اللعين إلا أنها لم تقوَ..لم تجرأ على تخطي باب غرفتها وإخراج ما جعبتها، سجنت نفسها في غرفتها الصغيرة تبحث جاهدة لحل تلك المعضلة دون المساس بشرفها، فمجرد اظهار تلك الصور للعلن يُعني هلاكها، تدمير مستقبلها، أحيانًا تشعر بالإحباط فتعود للبكاء بقلة حيلة وكأنه سيعالج آلامها النفسية، وأحيانًا يصيبها الحماس دافعًا إياه للبحث عن مساعدة من أي شخص للتخلص من وطأة تشتد حولها كلما مر الوقت..ولكن أي مساعدة ستجدها ومَن هو منقذها مِن وحل ماجد؟ فمن الأساس مَن سيصدقها ويشعر بها ويقدم تضحية الوقوف في وجه ذلك الخناس؟


فزوج والدتها رجل بسيط، ليس له علاقات كبيرة كي يمتلك القوة في مواجهة رجل كماجد يحظى بكل القوى في يده والمساندة من الجميع، بالإضافة أنها لن تستطع تحمل الخذلان حينها، حقًا لن تصمد، ستنهار ربما ستشعر بمرارة تفوق مرارتها الآن إن سدد زوج والدتها لها أي عتاب يؤلمها..هي تدرك جيدًا طبيعية العلاقة بينهما، تتفهم حماسه لأخذ شهادتها وتصبح طبيبة يفتخر بها وسط أصدقائه وجيرانه، تحترم سعيه كي يتأكد الجميع أنه لم يكن مخطئًا أبدًا عندما لم يتخلى عنها مثلما كان ينصحه البعض، فبدلاً من إسعاده ستوحله في مصائب الله يعلم وحده كيف ستنتهي.

إذن من الثاني يا مليكة؟ سألت نفسها وهي تستكمل خطاها الضعيفة نحو المشفى، بحثت وبحثت لم تجد أحدًا، يبدو أنها فعلاً كانت ستعاني إن استمع زوج والدتها للجيران وتركها تواجه وحشة الشارع، للأسف لا تمتلك عائلة كبيرة مثل باقي صديقاتها، فلم تجد الأخ أو ابن العم أو ابن الخال..لا أحد حولها سوى زوج والدتها و...

تقطعت أنفاسها للحظات عندما وصلت للمكان الذي قابلت فيه "زيدان"، اختلجت عواطفها حين ذكرت اسمه في همس وكأنه طوق نجاة طاف أمامها دفعها للابتسام ولكنه اختفى كالسراب فجأة حين ذكرها عقلها بكونه رجل غريب عنها، ومن المحتمل رفضه، ربما يزيد الأمر سوءًا بفهمه الخاطئ لها وخاصةً أنها تعرف شخصه حق المعرفة.

هزت رأسها برفض تحارب تلك الفكرة، لن تشوه صورتها لديه، وان كانت بقايا صورة بعد مرور كل تلك السنين في فراقهما.

توقفت للحظات تسبل أهدابها تشعر بالخزي يتسلل لصدرها ليعتلي ساحة مشاعرها وذلك بعد أن آل تفكيرها أن ما يحدث لها على يد ماجد ليس سوى عقاب إلهي بسبب خطأ اقترفته زمان عندما تجرأت وخاضت علاقة عاطفية ضد مبادئها.

ترقرقت الدموع في عينيها وارتفعت أنفاسها بهياج مفرط، وهي تهمس بما يجول في خاطرها:


-بس عقاب شديد اوي.


تقطعت أنفاسها وهي ترفع بصرها الفاقد للحياة تناجي ربها بأسف مزق قلبها المنكسر، تستغفر ومن بين كل ثانية وأخرى تدعو ربها بأن يمدها بالقوة والصبر كي تتخطى تلك المحنة.

مسحت دموعها وأخرجت أنفاسها بهدوء، وبدأت في تشجيع نفسها للدخول للمشفى أصبحت تشابه القبر في ظلمته ووحشته.

كانت تحرك رأسها بسلام صامت للأطباء والممرضين وبعض المرضى وهي تمر من الأبواب حتى وصلت لغرفة تبديل الثياب، دخلت وهي ترسم قناع الهدوء لطالما كانت بارعة في إخفاء باطنها، ولكن تلك المرة تحديدًا سيسقط ذلك القناع بالتأكيد لن تصمد هكذا طويلاً.

فتحت خزانتها وبدأت في ارتداء ثوبها الطبي وحينما انتهت استمعت لصوت الباب من خلفها يُفتح، ظنت أنها إحدى الطبيبات، فلم تلتفت واستكملت ما تفعله في وضع حقيبتها داخل الخزانة، حتى اسود كل شيء من حولها، وشعرت بالغثيان يضغط على جوفها عندما استمعت لصوت ماجد يهمس من خلفها:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

-اتأخرتي يا مليكة.


استدارت برعب جلي وأبعدته عنها بكفيها ومن بعدها مسحت كفيها في ثوبها وكأنه خارج التو من مستنقع وسيلوثها، أغضبه ما فعلته ورفع أنفه بتعالي رغم نظرة الكره المنبعثة منه:


-إيه حد قالك عليا مش نضيف، دا مفيش حد في حلاوتي..


دفعته مرة أخرى والاشمئزاز يعتلي وجهها:


-حلاوة لما تقرفك.


لم تعرف كيف وجدت تلك القوة للرد عليه، ورغم حدة نظراته لها إلا أنها تشعر بالفخر لمواجهته.


-أكيد عارفة إنك بتلعبي بالنار صح؟


سألها بتهديد مبطن للتراجع عما تفعله، فردت بشراسة:


-ميفرقش.


لمعت عينيه بشر وهو يختصر كل المسافات بينهما مهددًا إياها بقسوة:


-يعني هيفرق لما أطلع حالاً وافضحك.


لم تأبى لاقترابه وردت بكلمات بها شيء من الثقة رغم الخوف المتعلق بقلبها:


-كلهم عارفين مين هي دكتورة مليكة؟


ضحك ضحكات متقطعة يشوب بها السماجة محركًا رأسه عدة مرات بإيجاب قبل أن يقول بوقاحة:


-ما هو عشان عارفين مين هي الدكتورة مليكة، هيهتموا أوي بالصور بتاعتها...


فاجأته حين تمسكت بمقدمة قميصه بقوة والقسوة تغزو كلماتها رغم بحة صوتها:


-أنت عايز مني إيه يا أخي؟


رد في قساوة مماثلة ونبرة حاقدة:


-تيجي بإرادتك، مستسلمة والباقي احب انك تجربيه بنفسك أحسن من الكلام.


لمعت عيناها بالشر وخرج صوتها يستنكر وقاحته بضراوة اهتز داخله من قوتها في دفعه للخلف بشراسة:


-مش هيحصل لو على جثتي.


تراجع للخلف عدة خطوات بعد أن فقد اتزانه وتبعثر قميصه المرتب حتى أنه خرج من سرواله من الأمام بسبب تمسكها الغليظ به..فبدا كالأخرق أمام وهج عينيها ونارية حديثها.


-براحتك يا مليكة، بس لسه ليكي عندي شوية صبر ما نشوف أخرتها..


تقدم من الباب وخرج وهو يرتب ثيابه واضعًا قميصه في سرواله في ذات الوقت كان يقف "زيدان" على بُعد خطوات من الغرفة بعد أن غازل ممرضة ما واوصلته لمكان "مليكة"..تعجب من خروج هذا الطبيب بشكله غير المفهوم ولكن ما أشعل لهيب الغيرة داخله هو خروج "مليكة" خلفه وملامحها شاحبة عجز عن تفسير.

تسمرت في مكانها غير قادرة على تفسير وجوده أمامها، وقبل أن تتحدث، كان صوته المعنف يسألها في قساوة جارحة:


-إيه اللي بيحصل هنا دا؟


ردت بعدم فهم:


-إيه؟


أشار بيده في أثر ماجد سائلاً إياها بصمت ولكنها لم تحتاج لخروج صوته بالغيرة فكادت تقفز من مقلتيه: 


-بتسأل في حاجة متخصكش ليه؟


واجهته بسؤال حاد فرد بإجابة فجة:


-مالكيش فيه، أنت تجاوبي وبس.


غروره استفزها، أوقد نيران الغضب لديها، لم تنقصه حتى يظهر أمامها بعجرفته في الرد وهي تعاني من ثقل لا تقدر على إزاحته.


-مش هجاوب، ثم أنت جاي ليه أصلاً؟


-أجاي في أي وقت أنا عايزه، وحابب أشوفك فيه كمان.


لم تكن أبدًا سلعة كي يحادثها بهذا الشكل المهين ذلك الفظ الغليظ لم يتغير دومًا، نفس غبائه يتمسك به بل أنه يتفاخر به، لقد فشلت في التعامل معه، حتى أنها فاشلة في الابتعاد عنه الآن بعد محاصرته لها ونفس السؤال يتردد داخل عينيه المظلمة، فباتت تتأكد أن الشك سيداهم عقله من ناحيتها، ولكنها لم تأبى لذلك فيكفيها ما تمر به.

لقد كانت ناجحة في قراءة عينيه، فحقًا رواده الشك قليلاً، ناعتًا نفسه بالأحمق، حيث كان هو يتلوى بنيران الشوق والحنين، بينما هي كانت تغدو في علاقة أخرى تاركة إياه في قاع الحضيض.

دأبت على التحرك من أمامه ولكنه منعها وقال بحدة طفيفة:


-أنتي رايحة فين؟


-ماشية عشان مش مقتنعة بكلامك، أنت بتكلمني وكأن كل حاجة رجعت زي الأول مع أنها عمرها ما ترجع، وعن اذنك عايزة اشوف شغلي.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

برزت أسنانه بابتسامة مستفزة وهو يقول:


-مش مهم تقتنعي أو لا المهم...


احتفظ بالجزء الأهم داخله قاصدًا إثارة الغيظ على وجهها الجميل الذي أصبح لا يقوَ على التحمل صبرًا أمامه دون التهامه واعتصرها بين يديه كي تشعر بعشقه لها تلك جامدة المشاعر...قاسية الفؤاد.

تركها تتحرك من أمامه وقد أقسم على زيارة جنتها كما يحلو له، مقتطفًا من شهدها ما يعطيه طاقة كي يصمد في ظل ما يعانيه دونها.

                                   ***

استند "سليم" بظهره على صدرها، عندما أبدت مبادرة لطيفة منها باحتوائه هي هذه المرة، فلم يتردد ثانية واعتدل سريعًا يرمي بنفسه بين أحضانها التي دومًا تفيض بحنان يرق له قلبه بل وينتظر تلك اللحظة على أحر من الجمر، هنا مأوى يخصه وحده، لا يشاركه أحد، يسعه بكامل همومه ومشاكله النفسية، بل يجد دومًا الترحيب وكأنها أمورًا بسيطة يصلح حلها ليست ندبات يصعب عالجها.

تنهد بثقل وهو يضغط برفق على صدرها وكأنه يقول أريد أكثر احتواء أيتها الصغيرة، فما منها سوى أنها عصفته بعناق محمل بالمشاعر الجياشة، قد يصفه بأنه أجمل عناق قد يتلقاه المرء.

لم تصمت شمسه عند هذا الحد، يبدو أن مزاجية الحمل اليوم تدفعها لعاطفة ليست مثيل لها، فقد استمرت في تقبيله في جانب وجهه وهو مغمض العينين، فقط يستمتع بها وبجرأتها، فكلما كبرت في عمرها نضجت وأدركت هوية مشاعرها نحو، إلى جانب شقاوتها في الوصول لِمَ تريد وقتما تريد.

انتبه على همسها بجانب أذنيه، وسألها الذي أصبحت تتفوه به بلا تبرير سوى أنها تريد ذلك:


-سليم...بتحبني؟


همهم بصوت خافت ولم يجب، فطبعت قبلة رقيقة عفوية في عنقه وقالت بصوت دافئ:


-بحب أسمع صوتك.


فهمس بها فورًا وكأنها وحدها تملك مفاتيحه:


-بحبك.


تمهل في نطقها، فابتسمت وكأنه يطرب في غنائها، وبابتسامة شقية زادتها جمال فوق جمالها:


-كنت عارفة.


إجابة أصبح معتاد عليها مؤخرًا، حتى أنه يرددها معها بداخله، هنا ستنتقل لسبر أغواره، صغيرته لن تكف حتى تجعله يفيض بما يخفيه عنها:


-حساك مبسوط هنا أكتر من مصر؟


فتح عينيه ورمقها بنصف عين قبل أن يجيب بخبث:


-وأنت عرفتي ازاي؟


مال بجانب وجهها حتى يطالعها وهي تلقي عليه همسات كانت كنفحات الربيع الرائعة:


-بالك مرتاح، وقلبك بيدق كتير وده أكيد عشان عيلتك وحشتك، ملامحك صافية وعيونك...


ركز ببصره عليها واعتدل قليلاً ينظر في عمق عينيها وهي تردف:


-اتغيرت، بقت هادية أكتر.


نعم هدير أمواجه قد هدأ بمجرد ابتعاده عن عائلته، ولا يجد تفسير لذلك، فقال بتخبط ظهر جليًا على نبرته:


-يمكن عشان بعدت عن المشاكل.


مدت أناملها الرقيقة تمررها فوق ملامحه الرجولية الوسيمة تواصل بذكاء:


-يمكن عشان حسيت دلوقتي قد أيه هما بيحبوك وأنت بتحبهم.


-يمكن.


كررها خلفها بخفوت، وتابعها بسخرية حانقة:


-يعني هنا مستنين لما أسافر ويظهروا قد إيه بيحبوني، دا أثبتلي ان عندهم إعاقة في مشاعرهم.


كادت تهمس وتخبره أن تلك الإعاقة هي سمة عائلتهم، لديهم صعوبة في التعبير عن مشاعرهم وإن أطلقوا لها السراح تظهر بشكل غير لائق، لقد قضت سنوات في فهم مكنوناتهم الغريبة، جميعهم متشابهين حتى يزن المرح يملك جزء صغير داخله منهم.

طالت نظراتهما المتبادلة في صمت، فأحست بضرورة كسرها قبل أن يفقد أعصابه معلنًا عصيانه على تنبيهات الطبيب بتروي قليلاً في علاقتهما الزوجية وذلك لضعفها، فقالت ببسمة بشوشة وهي تعلم تمامًا أنها ستثير أعصابه:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

-بتحبني؟


رفع جانب شفتاه وقد رأت تحول ملامحه للضيق وهو يتمتم بغيظ أثناء استقامته:


-لا.


تابعت بضحكة خفيفة تثير أغاظته أكثر:


-كنت عارفة.


تكونت كلماته الوقحة على طرف شفتيه ومنعها بصعوبة وهو يكمل مغادرته للبحث عن طفله، بعدما استطاعت سلب ما في أعماقه بعناق محمل بالعواطف.

                                  ***

أخيرًا وافق على مقابلتها، فقد احتاجت ذلك اللقاء بعد أن تركت نفسها تغوص في ذكريات أليمة، ذكريات لم تقتصر على زيدان بل ايضًا على طفولتها، منذ أن تعلم عقلها ينقش آلامها النفسية فوق جدران قلبها.

لقد سئمت من محاولاتها في مساعدة ذاتها، هي تحتاج فقط لشخص يكن كالبئر لها، يدفن مخاوفها وأسرارها، وتكون هي مطمئنه أنه لن يقوم بإذلالها ولم تجد سوى "زيدان" خطيبها وحبيب طفولتها.

ورغم كل التشجيع المنطلق من عينيه، ومحاولاتها في إخراج ما تريد أن تلقيه بعيدًا عن صدرها الذي أصبح مشحونًا على آخره، فشلت كالعادة فاستمرت بالصمت حتى أصابته بالملل وخافت هي بجنون من إنهاء لقاؤهما.

ولكنه خالف مخاوفها بسؤاله لها:


-نهى أنتي كويسة؟


ردت بإيجاب وعيناها نطقت بعكس ذلك:


-اه كويسة.


-عينك بتقول غير كدا.


قالها وهو يرتكز ببصره عليها، فشحب وجهها فجأة وكأنه نطق بكلمة في غير محلها، وتبدلت ملامحها في الثانية التالية بحزن عندما فاضت عينيها بالدموع، لقد ارتبك من مراقبة حالتها الغريبة من شحوب لبكاء لـ... ابتسامة!، ما بها؟ ما الذي أصابها؟ كي ينشق محياها ببسمة واسعة!

لم تتركه يبحث عن إجابة كثير حيث قالت بعفوية صادقة:


-أول مرة حد يحس بيا.


ألمته جملتها البسيطة متفهمًا أنها تحمل بين طياتها آلام نفسية يصعب مداواتها بالكلمات.


-أنا يئست.


تابعت بكلمتين لا ثالث لهما، شددت الصدمة خيوطها فوق وجهه ولكنه تدارك حالتها النفسية وسألها بفطنه:


-من إيه؟ وليه؟


ارتعشت يدها الموضوعة أمامها، وبدأ تلعثمها يلعب دور في حديثها المغلف بالانكسار والاحباط:


-من ماما، وليه؟ فـ دي محتاجة كلام كتير، يمكن تزهق منه.

-منتظرة منها إيه؟


رفعت عينيها الذابلة مجيبة بصدق:


-مبقتش منتظرة، كنت زمان بتمنى..بتمنى.


صمتت بعجز طال روحها الضائعة بين تشتت عائلتها ووحدتها وسذاجة مشاعرها.


رد هو بالنيابة عنها وقد أدهشها أنه يفهمها ويفهم احتياجاتها:

-بتتمني تعاملك كويس.


انفجرت ينابيع البكاء تغرق وجهها وهي تقول بانهيار:


-بقت أسوء، كل مرة بتكون أسوء.


لانت الشفقة من ملامحه وأدرك أن شخصيتها تعاني من أمورٍ غير سوية غرستها بها والدتها، فمد يده بمنديل ورقي وقال بعقلانية:


-اهدي يا نهى.


التقطت المنديل وجففت دموعها في ظل استماعها له:


-مشكلتك أنك لسه بتستني من والدتك انها تتغير، أنا من رأي تتجاهليها.


-مش قادرة..يمكن مش عارفة ازاي، بس هي أمي ومن حقي انها تتغير علشاني.


قالتها بنبرة يغلب عليها الأمل رغم مرارة واقع والدتها، فهتف زيدان بلطف:


-هتفضل طول عمرها كدا، حاولي تدوري على نفسك أنتي.


حاول مساعدتها للوصول إلى بر الأمان، فبدت كسفينة أكلها الصدأ على شاطئ مهجور.


-زيدان هو أنا وحشة؟


سألته بعد تردد كبير منها، وأخفت رعشة يدها أسفل الطاولة الصغيرة في حركة غير مقصودة لإخفاء توترها من إجابته.


-لا جميلة..جميلة جدًا..


اتسعت ابتسامتها المهزوزة تحاول إيجاد صدق مشاعره في حديثه، فردت بحيرة انفجرت من كتمان طال لسنين:


-امال ليه كل حاجة نفسي فيها مبتجيش بسرعة.


ضم شفتيه مفكرًا محاولاً في انتقاء الفاظ حتى لا تؤلم نفسيتها أكثر، جاهدًا في وضع يده على مشكلتها الأساسية:


-يمكن عشان بتجري وراها.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

أسبلت أهدابها وهي تسأله في ارتباك:


-قصدك إيه؟


تنهد قبل أن يجيب بهدوء:


-قصدي انك تسيبي كل حاجة نفسك فيها تيجي لوحدها.


حركت رأسها بتفهم، ولانت ملامحها من حزن لعب بريشته فوق ملامحها التي تبدلت للابتسام مرة أخرى وهي تقول برقة:


-صح، ووقتها بيبقى احساسها أحلى، أنا عمري ما أنسى اللحظة اللي اعترفت فيها بـ حبك ليا.


لا ينقصه أن يتذكر تلك اللحظة المشؤومة حين لعبت العاطفة دور كبير في قرارته ودفعته للحفاظ عليها بنطقه لكلمة رغم أنها أثارت سعادتها إلا أنها كانت مُثقلة وهو يخرجها من ثغره..زفر بهدوء وهو يستجمع بقايا ثباته ولم يجد التظاهر سوى في سيجارته التي التقطها سريعًا يشعلها متجاهلاً ابتسامتها المصوبة نحوه وكأنها حصدت على جائزة بعد عناء طويل.

                                      _________________________


الفصل السابع...


وضع زيدان قدحه الخاص فوق رخام المطبخ ينتظر نضوج القهوة بعد أن قام بإعدادها في تروٍ بسبب صداع حاد لازمه منذ الأمس حتى الصباح رغم تناوله لبعض الأدوية إلا أنه كان بشع لدرجة أنه حظى بساعات قليلة من النوم بسبب أحلامه المتراقصة ما بين عاطفة جياشة منحصرة في بعض اللقطات لمليكة وظهور غامض لنهى أمامه من العدم.

لن يتوارى عن مشاعره الثقيلة في الصباح عندما فتح عينيه يستقبل نور الصباح والشغف يتسلل منه كـ كهل ينتظر الموت كل يوم ولا يأتيه.

أعاد بصره للقهوة ينتظرها بملل، وتفكيره المضني يرفض تركه حتى في أبسط الأمور، قلب رأسه يمينًا ويسارًا عله ينسى أمر مليكة ونهى... وهنا توقف مبتسمًا معترفًا بداخله أن أمر نهى يمكن التغاضي عنه مؤقتًا ولكن مليكة كيف ومتى وهي حبيسة أفكاره، سجينة قلبه حتى في غيابها..

أقلقه حالة الشحوب التي رآها بها في الأمس حينما خرجت خلف الطبيب الذي لم يعجبه هيئته إطلاقًا وبسببه طرق الشك أبواب قلبه بعنف ولكن لمعرفته بشخصيتها وخصالها القوية الشريفة التي تجعلها مختلفة عن بقية الفتيات، يكاد يقسم أنها أكبر من أي انحدار أخلاقي قد تقع فيه.


-مليكة لا يمكن تعمل كدا أبدًا، دي غير أي بنت.


همس بها لنفسه وتوسعت ابتسامته برضا حتى في فراقهما لا يزال يراها ملكة فريدة في عصرها، ورغم تجاربه العاطفية التي أغرق نفسه بها بعد ابتعادهما إلا أنه دومًا يراها الأنسب والأفضل والأجمل، ورغم أن تلك التجارب لم تكن سوى إلهاء له للخروج من شرنقتها لكنه فشل وبجدارة وكأنها ألقت عليه سحر أمازيغي كي تبقى في قلبه كل تلك السنين.


-ست سنين ومش عارف أهرب من حبك.


عاد مجددًا ليحاكي نفسه الملتاعة بنيران الهوى، وكأنه اعتاد على محاكاة قلبه ليواسيه في غيابها، قبض فوق حافة المطبخ بعنف يحارب مشاعره التي تدفعه للجنون بسبب اشتياقه الدائم لها، تدفعه للحاق بها في كل مكان دون سبب أو رابط بينهما، أصبح كالمراهق من جديد بمجرد ظهورها وكأن قلبه كُتب عليه الشقاء في عشقها.

فارت القهوة وفاضت بسخاء كحال مشاعره التي تفيض حنينًا لها، فأجفل من شروده على صوت ساخر خلفه يعلق بشفقة:


-حرام حالتك صعبة خالص.


التفتت زيدان يرمق أخاه المستند بجانب جسده على المبرد يمرر بصره عليه في سخرية أزعجته، فصاح بنزق وهو يبتعد:


-ابعد عني أحسنلك.


ترك زيدان كل شيء خلفه مبعثرًا كحال مشاعره الآن بعد نظرة الشفقة المصوبة نحوه، دخل غرفته يهرب من أي حديث قد يتطرق لقلبه المجروح، يبحث عن أي شيء يُلهي به نفسه حتى لو كانت ملابسه التي بدأ في شدها بعنف ثم إعادة طيها وترتيبها دون هدف، الأهم أنه لا يعود لذكرى قسمت قلبه لشطرين وكانت هي نقطة الوداع.

وبعد عدة دقائق خارت يداه بجانبه تزامنًا مع إخراجه لعدة أنفاس ملتهبة وهو يعلن استسلامه، سامحًا لنفسه بخوض ذكرى كانت الدافع لفراقهما...

                               **

دخل زيدان مكتبه بعد أن قضى ليلة أمس في مهمة كبيرة أفضت بنتائج عظيمة وقد يسمو إلى ترقية مبكرة، من المفترض أن يسعد لأمر كهذا ولكن الحزن خيم عليه منذ صباح الأمس حينما حاول الاتصال بها مرارًا وتكرارًا وهاتفها مغلق، لقد تلفظ حينها بأقذر الألفاظ، وفقد أعصابه محترقًا بسبب غيابها ليلة كاملة عنه لا تُجيب على اتصالاته وبالأخير أغلقت الهاتف بكل تبجح، لقد أطلق وعودًا بعدم مسامحتها بعد ما مر به من قلق في حين أن مشاعره المضطربة تقابلت مع غضب عصف بذاته لتعلقه الزائد بها واهتمامه المبالغ بها بينما في المقابل هو لا يحظى بربع ذلك الاهتمام وكأن العلاقة أصبحت بعد سبعة أشهر من طرف واحد، لقد سئم من تحفظها في مشاعرها، وبرودها الدائم نحوه، وكأنه شحاذ يطلب جرعات من الغرام والحب ليس من حقه وإن تكرمت ومنت عليه تكون بخيلة.

جلس فوق أريكة جلدية مريحة وأراح جسده المنهك بينما يده كانت تفتح صندوق يخرج منه هاتف جديد بعد أن فقد أعصابه بالأمس وكسر هاتفه بعصبية مفرطة، وضع شريحته بالهاتف الجديد ثم قام بتشغيله منتظرًا اتصالات عائلته للاطمئنان عليه، وقد أصابه اليأس منها، معترفًا أنها لن تتنازل من برجها العالي وتتكرم للاطمئنان عليه!

رن هاتفه بأرقام يعرفها جيدًا، لقد خدعت ظنه هذه المرة وأجرت اتصالاً به قبل عائلته، مد أنامله للرد ولكنه تراجع بغضب سافر متذكرًا ما عانى به بالأمس، رفض الرد وغضبه يتفاقم بشراسة قاصدًا إثارة قلقها عليه هو الأخر..انتهى اتصالها وقد شعر براحة تعتلي صدره الملتاع شوقًا، مقررًا ألا يرد عليها اليوم وأن يعاملها مثل ما تعامله، ترك هاتفه فوق الطاولة ناظرًا إليه بتحدٍ وابتسامة شرسة تلتصق بفمه، مرت الدقائق وهو على نفس الحالة لا يصدق ما تفعله لقد اكتفت باتصال واحد.. واحد فقط لتطمئن عليه، ربما لا يكون اطمئنانًا وكانت مجاملة عابرة لكثرة اتصالاته بها بالأمس، تهدجت أنفاسه بلهيب مستعر وأمسك الهاتف بقبضته القوية، مقررًا هدم قرارته من أجل مواجهتها لمعرفة سبب جسور الجفاء بينهما.

 قفز بغيظ مجريًا اتصالا بها حتى انقطع الرنين وجاء ردها الناعم أخيرًا:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

-زيدان أنت كويس.


-وليكي عين تسألي عن حالة زفت دلوقتي.


قالها بغضب ناري، جعلها تندهش وهي تخفض صوتها سائلة إياه بقلق:


-مالك في إيه؟


-إيه قلقتي عليا من اتصال واحد عقيم اتصلتي عليا فيه وياريتك كررتيه، أومال أنا اعمل إيه دا أنا على كدا جبل.


اندفعت حروفه بغيظ، والانشداه يغزو كلماتها من جديد:


-جبل ليه؟ أنا بجد مش فاهمة أي حاجة، تليفونك مقفول ولما فتحته اتصلت ومردتش وفي الآخر أنت متعصب.


اختلجت نبرته بحدة وهو يسألها:


-مليكة أنتي كنتي فين إمبارح من الصبح لغاية بالليل؟


توقعت سؤاله بالفعل ولكن ليست بطريقته الحادة تلك وكأنها أجرمت في حقه، نفضت كل ما تفكر به وامتثلت الهدوء مؤقتًا وهي تجيب:


-خرجت من الساعة ٦ وكنت مشغولة في الكلية والكورسات ومخلصتش إلا بالليل، رجعت اتقتلت نوم.


هنا ظهرت القسوة في صوته وهو يسألها:


-أنا فين من دا كله؟، اتصل مترديش وفي الآخر تليفونك يتقفل.


ردت بنفس البساطة التي أشعلت فتيل غضبه:


-ما أنا نمت وهو كان فصل شحن، وحقيقي كنت تعبانة مركزتش.


-فـ نمتي وارتحتي وجاية تدوري عليا صح من اتصال واحد بس؟


سألها بتهكم، فردت بضيق عارم:


-أنت عايز تتخانق صح؟


-بمزاجي أعمل اللي أنا عايزه.


تجسد البرود في صوته وهو يجيب عليها، قسى صوتها وهي تقول:


-لا مش بمزاجك أنت المفروض تحفظ أدبك معايا.


-لا مش هحفظ أدبي وأرد زي ما أنا عايز.


ركب العناد كليهما وأردفت في تهديد صريح:


-زيدان اتكلم بأسلوب أحسن من كدا، يا إما..


-إما إيه؟


سألها بترقب وصوت أنفاسه تهتاج بشراسة.


-هقفل ومش هتشوف وشي تاني.


-ماشي اقفلي.


قالها بتحدٍ بالغ فأغلقت الاتصال فعلاً مما زاد من اندهاشه من ردة فعلها السريعة، لم تحاول مراضاته حتى أنها أغلقت الهاتف ببساطة لمجرد التخلص منه، وكأنه عقبة تعيق حياتها، هو من قام بتدليلها، هو من ألقى كامل محبته دون مراعاة أن العلاقة بينهما أخذ وعطاء، لقد تعود على العطاء دون أن يُرضي قلبه بشيء منها، فأصبح كالمحموم يتوهم مشاعرها نحوه، وبالأخير تفاجئ بمشاعر عقيمة مغلفة بالبرود، ألقى هاتفه الجديد أرضًا بغيظٍ شديدٍ وأقسم على تأديبها...

                                   **    

 عاد من شروده رافضًا استكمال ما حدث بينهما، لن يعود لتلك الذكريات البشعة، لن يترك نفسه للضياع، ها هي قد انبثقت كالنور من ظلمات حياته، سيتمسك بشعاعها حتى تعود حياته لمجراها الطبيعي، ورغم خوفه المتكرر من معاملتها الجافة إلا أنه يدرك خلف هذا القناع الصوري عشق كبير تكنه له وقد تأكد من ذلك منذ أن رأى عينيها تكاد تأكله أكلاً في أول لقاء بينهما بعد غياب دام لسنين.

غرق في جنبات عقله يضع خطوط عريضة لإيقاعها من جديد في غرامه، ولكن كيف؟، ومتى؟، والسؤال الأكبر كيف سيحدث ذلك دون أن يهدر كرامته معها؟، لن يتحمل عذاب جديد، لن يتحمل قساوة منبعثة منها، يريد ذوبانها مثلما هو يذوب بهيام حتى لو لم يظهر ذلك، لم يكن أمامه سوى حبيب الفتيات، سارق قلوب العذارى "يزن" الوقح.

                                ***

في ذات الوقت كان يزن يتمعن بالنظر لثيابه الموضوعة فوق فراشه بعد أن اختارها بعناية فائقة مستعدًا للقاء فتاة جميلة تعرف عليها في إحدى النوادي وها هو اللقاء الثاني بينهما، متأكدًا أنه لن يعود تلك المرة سوى وأن ملامح الإعجاب تتحول لحب مطلق، كعادته تبسم فخر لنفسه ولذكائه الشديد في اقتناص قلوبهن بكل بساطة، مستمتعًا بحياته المرحة والتي لم يقيدها أغلال الزواج أو خطبة مملة، متنقلاً بين مراحل الإعجاب والحب ببساطة عهدها منذ أن كان مراهقًا، لم يتأثر بواحدة منهن ولكنه لم يمنع غريزته الفطرية بالإعجاب بكل ما هو أنثى، فقد تمتع بالطويلة والقصيرة، النحيفة وذات القوام الممشوق، والقوام الممتلئ، العصبية، الهادئة، كلهن تمتع بهن، فـ لِمَ الزواج من الأساس والارتباط كل شهر بواحدة له متعة خاصة سيكون مختل إن تخلى عنها من أجل علاقة رسمية قد تهدد بالفشل. 

مد أصابعه نحو عطر مميز يختاره في اللقاءات ذات المهام الصعبة ينثره بكثرة فوق قميصه الأسود ولكنه تفاجئ بهجوم شرس على الباب دون استئذان، ومن يكون غيره، الهمجي المستفز ذو الطباع الحادة القاسية "زيدان" أخيه الأكبر.

التفت ببرود اكتسح تقاسيم وجهه وهتف:

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

-مفيش باب تخبط عليه زي الخلق.


كالعادة الحدة تملأ ملامحه وأنفاسه، تجاهل كلماته ودخل الغرفة ثم تقدم نحو الفراش يزيح الملابس جانبًا بعشوائية دفعت الدماء لوجه يزن بعد عنايته بها تفوق ساعة كاملة، جحظت عيناه بغيظ وشر:


-أنت إزاي تعمل كدا في هدومي يا عديم الإحساس والمسئولية.


استنكر زيدان كلمات أخيه المغتاظة ومد يده يدعي ترتيب الثياب، وقد نجح في إخفاء سخريته من عناية أخيه الفائقة، متبعًا مقولة شهيرة..

" إن كان ليك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي".

يبدو أنه همس بتلك بالكلمات الأخيرة بصوت مسموع جعل يزن يعقد حاجبيه بترقب وتساؤل صامت، فسارع بالتبسم مشيرًا له بالجلوس:


-اقعد يا يزن..اقعد عشان أنا خلقي ضيق.


لن تتغير طريقته في التعامل لا يفرق بين أخ ومجرم كليهما واحد، نفس نظرة التهديد والجحود، اضطر للجلوس أمامه متشبثًا بالهدوء:


-سيب هدومي، وقول عايز إيه؟


كان يمسك بقطع ملابس يزن بين قبضته وحين نطق يزن بذلك، ألقاها فوق الأرضية في لا مبالاة أيقظت الغضب لدى يزن فهب صائحًا:


-إيه يا عم قلة الذوق دي.


ضرب "زيدان" كفًا فوق الآخر والضيق بدأ في اجتياح ملامحه، فلم يتحكم بنفسه وهو يقول بغيظ امتزج بالحدة:


-أنت هتقعد ساكت وتسمعني ولا أقوم أولع في هدومك كلها وأخلص، بقولك خلقي ضيق.


كور يزن يده في ضيق وهتف بكلمات مثقلة:


-قول عايز إيه؟


تنهد زيدان يجذب أنفاسًا كثيرة يدخلها لصدره المشحون بمشاعر جمة، محاولاً التمسك بطرف الشجاعة للانطلاق في ما يريده رغم أنه يشعر بالحرج من أخيه الأصغر وهو يطلب نصائحه في علاقة سابقة يسعى لإحياء العاطفة بها.


-في واحدة كنت بحبها زمان، حصل بينا خلاف وانفصلنا...


-قد إيه؟


سأله يزن ببرود، فارتبك زيدان قائلاً بحنق:


-وأنت مالك؟


-عايز تاخد عصير خبرتي؟، لما أسأل تجاوب.


هدده يزن بصورة مباشرة فلم يتحمل ذلك المتهور تلك المعاملة وقال بأسلوب فظ:


-تصدق بالله يا يزن البت لو ما رجعتلي بعد ثقتك دي، أنا هقتلك وأشرب من دمك.


-ربنا نجدها منك أقسم بالله، أكيد أمها بتحبها، يا بني أنت عندك خلل عاطفي صدقني.


قبض يديه في غيظ وهدر بصوت عنيف:


-بعدنا عن بعض ومالكش دعوة كام سنة، المهم عايزها ترجعلي بس...


ضيق يزن عينيه بمكر وقد تفهم ما يرمي إليه ذلك المتعجرف، فاقتصر محادثتهما الشرسة وقرر مساعدته، فزيدان يبقى زيدان في محاورته وأحاديثه الهجومية.


-رغم إني مش عارف أنت عملت إيه بالظبط خلاها تبعد، بس أنت يا معلم لازم تسحرلها عشان ترجعلك تاني.


حاول ترجمة ما يقوله يزن بتفكير استغرق لثوان ولكنه فشل، فشمل أخاه بنظرات غير مفهومة، ولكن ما جعله متوترًا هو تأكيد يزن القوي:


-أيوة صدقني لازم تسحرلها ومش أي سحر.. سحر من نوع خاص اللي خليها تقولك شبيك لبيك في ثواني.


لا زال عقله يرفض ما استطاع فهمه، لن يدخل في تلك الأمور السخيفة، لن يركض خلف دجالين لإيقاعها في شباكه بسحر مشعوذ، وقد تيقن أن أخاه متعدد العلاقات له سابقة في تلك الأمور المشعوذة، فحقًا سرعة إيقاع الفتيات في حبه يتعجب لها وها هو قد وضع يده على سر جاذبيته.

تابع نهوض يزن المتكاسل وكلماته المترددة في ثقة:


-عشان بس أنت أخويا، هجبلك حاجة خطيرة وببلاش..


تعلق بصره المتحفز بيد يزن الممدودة داخل خزانته يعبث بصناديق كبيرة جميعهم على علم أنها من هدايا فتياته، أخرج صندوق صغير مغلف بقماش فاخر، ثم اتجه نحوه وهو يفتحه يلتقط خاتم فضي أنيق للغاية، ثم مد به نحو زيدان وقد توسعت عيناه غير مصدقٍ ما توصل إليه أخوه، حتى أنه هتف بصياح واستمتاع:


-يا ابن الإيه يا يزن، جبته ازاي دا يا ياله.


تعجب في بداية الأمر ولكنه وجد الأمر ممتع في كسب انبهار جديد من أخيه:


-شوف مش أي حد يقدر يجيب خاتم زي دا.


أمسكه زيدان والابتسامة الممزوجة بالاندهاش تغزو ثغره:


-يعني دا اللي هسحرلها بيه.


أومأ يزن دون أن يتكلم فتابع زيدان حديثه بلهفة:


-وأنا أقول بتوقع كل البنات دي إزاي يا ظالم، وأنت ليك في شغل الأعمال والسحر.


في بادئ الأمر تيبست ملامحه من شدة الصدمة، لم يتوقع أبدًا أنه سيفهمه خطأ أي أعمال وسحر يقوله هذا المعتوه، ولكنه بعدها انفجر ضاحكًا وهو يقول من بين ضحكاته:


-أنت متأكد إنك ظابط يا ابني.


لم يعجبه سخريته فدفع الخاتم بوجهه وقال بتحذير:


-الزم حدودك أحسنلك، مش أنت بتقول أسحرلها بيه.


-أنا أقصد تسحر دماغها توقعها في غرامك من جديد وأكيد مش بالخاتم بس دا هيكون حاجة من حاجات كتير.

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

نهض زيدان يدعي العصبية متمتمًا:


-ما تبقى توضح كلامك، وبعدين أنا غلطان أصلًا إني فكرت أستعين بواحد زيك.


نظر إليه يزن في استمتاع متوقعًا رد فعله الأخير الذي سيعقبه خروج غاضب من الغرفة:


-عيل بق ولا عندك عصير خبرة ولا زفت.


غادر بالفعل وترك يزن يستند بمرفقه فوق فراشه وهو ينظر في أثره وحدسه يؤكد له أنه سيعود مرة أخرى، فيبدو أن العشق وصل لذروته حتى يتلبسه الضياع بهذا الشكل.

هز رأسه باستنكار وهو ينهض يلملم ثيابه:


-الحب إهانة وأنا لا يمكن أتهان.

                                  ***

دخل "خالد" لشقته والإرهاق يشكل خطوطه العريضة فوق ملامحه، بعد قضائه ساعات طويلة في عمله دون راحة، فقد كاد يقسم أنه سيقع فريسة مرض ما بسبب إقامة خاله وابنه معه.

لقد تغاضى عن سوء تصرفاتهما، وأحاديثهما التافهة عن التجارة والأسواق، وأصواتهما العالية ليلاً غير مراعين أنه يرقد غافيًا للاستيقاظ صباحًا من أجل عمله الذي يجني منه المال فيعود ليصرف عليهما دون حياء منهما وكأنه أصبح حق مكتسب لهما.

لقد كره العائلة ونقم على الأصول، مغتاظ من تلك ال "نهى" عديمة الإحساس لتأخرها في مساعدة أبيها وأخيها طالما حل القضية يكمن في خطيبها.


-كنتي خلصيني من قرفهم، حسبي الله ونعم الوكيل فيكي.


قالها بصوت خفيض وهو يفكر بحقد نحوها لقد كانت ستنقذه من مستنقعهما إن وافقت على التدخل بإخبار خطيبها كما يدعون، امتزجت ملامحه الحاقدة بالتهكم بسبب تفكيره الأحمق تجاه فرد من عائلة خاله فبالتأكيد هي تحمل نفس الجينات الوقحة، صحيح أنه لم يرها ولم تعد تشغل له بال سواء كانت ابنة خاله أو أي صلة أخرى ولكنه توقع شخصيتها الدنيئة المشابهة لخاله وابنه.

شعر بالهدوء يعم الشقة فقد توقع ذهابهما للتسوق أو ما شابه ذلك، إلا أنه وصله أصوات خافته ضاحكة من غرفة خاله، في بادئ الأمر تجاهل ذلك مثلما يفعل ولكنه تسمر حين استمع لصوت رجولي آخر يبغضه، تقدم ناحية الغرفة مقررًا تسديد هجوم قوي عليهم إلا أنهم كانوا الأسرع حين خرج رجل في سن الستين مواطن يحمل الجنسية القطرية يسكن في شقة بالطابق الرابع، متعدد الصفات السيئة حيث جميع من بالبناية يكنون له الكره والبغض من معاملته السيئة وأسلوبه المتعجرف الساخر، غير أنه يملك سمعة غير طيبة بالمرة، فهو مشهور بزيجاته المتعددة وخاصة صغار السن، كما يسمع دومًا من أحاديث الجيران أنه رجل سادي يقسو على نسائه بالعنف ويتمتع بإذلالهن، والغريب أنه يجهر بذلك علنًا، متفاخرًا بنفسه لثروته وأمواله الطائلة التي يستغلها في الزواج لبضعة أيام  ويطلق ثم يعيد الكارة مرة أخرى وجمعيهن مجرد وسيلة ليكسب أهلهن المال بسخاء منه.

توقف خالد بشموخ يقابل الشيخ بابتسامته الكريهة، دافنًا الاشمئزاز خلف هدوئه وهو يستقبل كلمات الشيخ الساخرة بلكنته المصرية الضعيفة:


-ازيك يا خالد، أخبارك إيه؟


راقب اتساع ابتسامته الممزوجة بالفخر وهو يوزع نظراته يمينًا ويسارًا حيث يقبع سمير وإبراهيم:


-بسببكم بقيت أتكلم مصري لبلب.


انفجر ضاحكًا بعدها وهو يشير نحو نفسه، فبدا وكأنه الممثل الوحيد على خشبة المسرح:


-شوفت اتكلمت إزاي.


مد سمير يده وضغط بها فوق كتف الشيخ يخصه بنظرات يملئها الطمع:


-ولسه يا شيخ لما تقعد معانا أكتر هتبقى أشطر من كدا.


تمتم الشيخ وهو يتجه نحو باب الشقة متجاهلاً صمت خالد: 


-أكيد..أكيد.


ودع كلاً من سمير وإبراهيم الشيخ والاتفاق يلوح لخالد بتكرار اللقاء مجددًا، أغلق سمير الباب وهو يوجه حديثه لوالده:


-شوفت مش قولتلك شوال فلوس.


ابتسم إبراهيم باستهزاء على ذلك الرجل:


-ونقطة ضعفه الستات.


أجفل كلاهما على صوت صفيق متردد خلفهما، فالتفتا والتعجب ينبثق منهما، وأول من لمح ملامح خالد المستنفرة  هو إبراهيم ولكنه تمسك بالبرود ليقول:


-في إيه يا خالد مالك؟


أجاب خالد بكلمات غاضبة عبرت عن استنفاذه لطاقته في تحملهما:


-لا ماليش هو أنا ليا حق أتكلم وأقول إزاي راجل زيه يدخل بيتي.


تمسك سمير بطرف اللعبة كما فعل أبيه ورسم البرود فوق وجهه:


-وماله الراجل ما هو زي الفل.


لم يعجبه ما يحاولان فعله، فرد بهجوم شرس:


-لا مش زي الفل ودا بيتي يعني قبل ما حد يدخل تستأذنوني.


دأب سمير بالتحدث إلا أن خالد لم يعطه الفرصة وهب موضحًا بتحذير:


-أنا بعدي أي حاجة أنتم بتعملوها إلا إنكوا تخلوا بيتي لقعدات قذرة.


رمقه إبراهيم بنظرة مطولة ثم سأله بغموض:


-اعتبره تهديد؟

منك واليك اهتديت 
الفصل السادس حتى الفصل العاشر 

ترك خالد الأصول جانبًا مع هذين الحمقى ورد بوضوح أشعل الكره في عيني سمير:


-آه اعتبره، إقامتكم هنا قصاد إن الراجل دا يدخل بيتي تاني.


أنهى حديثه بقول واحد ثم دخل غرفته تاركًا إياهما يشتعلان بالحقد لإحراجهما بهذا الشكل الصريح، وقد تيقن إبراهيم أن رحيلهما قد أصبح قيد المحك، لزم عليه الأمر استعادة زمام أمور ابن أخته كما في السابق، محاولاً كسب تعاطفه بأي شكل، ماذا سيفعل دون مال وفي بلد غريب وعلاقته بهذا الشيخ لم تتوطد بعد، سيلعب على الجانبين حتى يختار أيهما أكثر أمان.

__________________

الفصل الثامن..


تمسكت "مليكة" بيد زوج والدتها السيد "مصطفى" حيث أصر على إيصالها للمشفى بنفسه بعدما شعر بشحوب ملامحها حتى أنه جادلها في الصباح بضرورة غيابها اليوم، فجسدها بدا ضعيفًا وعيناها يغزوها الارهاق، ولكنها أبت وتمسكت بضرورة ذهابها وبالمقابل تمسك برأيه وأصر على إيصالها بنفسه.

شعرت باحتوائه يحاوطها بهالة تقدرها جيدًا في ظروفها تلك، بل وأنها كانت تتوق لأبسط اللمسات الأبوية منه بعدما كانت تبتعد عنه بقدر ما يمكنها إخفاء عينيها عنه حتى لا تبوح بما يؤرق عقلها.

وصلت سيارة الأجرة أمام المشفى وترجلت معه بعد أن أعطى السائق حسابه، انتظرت انتهائه وعودته لها مبتسمًا ببشاشة بعثت الطمأنينة في قلبها:


-لسه مُصرة على رأيك.


مدت أناملها الرقيقة تتمسك بيده وهمست بلطف ونبرة تخلو منها الحياة:


-مينفعش يا بابا لازم احضر.


رفع كفه الأخر ومسد بيه فوق ذراعها يهتف بقلق حقيقي:


-بس أنتي تعبانة حتى لو بتتجاهلي دا، أنا لا يمكن اتجاهل أبدًا.


-شوية برد عادي وهيروح.


قالتها بخفوت وهي تبعد بصرها المضطرب بعيدًا عنه، فلم يكن جسدها مريض بقدر قلبها المنكسر بفعل خيبات الحياة.

انتبهت على صوته الأبوي اللطيف:


-طيب يا حبيبتي هروح اقابل صديق ليا، ولو تعبتي وعايزة تروحي كلميني.


-حاضر.


همست بكلمة واحدة، تخفي عيناها المتأججة بدموع لا حصر لها، واستدارت بخفة نحو باب المشفى الكبير تعبر البوابة الامنية، بينما هو ظل واقفًا يعاني من صمتها المفجر للقلق في صدره كلما يراها على هذا النحو.


مسحت دموعها بحرص ورسمت ملامح البرود وبعض من الشراسة المصطنعة وهي تدخل من باب المشفى تحسبًا لرؤية ذلك الفظ برؤيته القابضة لقلبها وكما توقعت رأته يهرول نحو الباب بخطوات سريعة للغاية يركز ببصره على هدفٍ ما وفمه يرسل الأحاديث الغاضبة عبر هاتفه.


توقفت في زاوية ما بعيدًا عنه تجنبًا لتقابلهما ولم تمنع فضولها من التفافة بسيطة للخلف تراه وهو يصعد لسيارته ثم غادر وكأن هناك كارثة، علت إمارات الكره الممزوج بالشراسة فوق تقاسيم وجهها الجميل وهمست لنفسها:


-كارثة تاخده وتخلصني منه.


أجفلت بذعر على يد "كوثر" المبتسمة بسعادة كأن راتبها زاد الضعف:


-في إيه يا كوثر؟


سألتها بصوت مضطرب، فردت الاخرى بابتسامة عميقة:


-معلش يا ست البنات، خضيتك.


بللت طرف شفتيها قبل أن تجيب بهدوء بعدما استعادت البعض منه عندما تأكدت أنها لم تسمع أي شيء قالته:


-لا عادي في حاجة، مبتسمة ليه كدا؟


سألتها وهي تخطو نحو المكاتب السفلية وتحديدًا نحو السيد "عطية" بابتسامته البشوشة الطيبة، كي توقع في دفتر الحضور والانصراف كما هو معتاد كل يوم.


-النهاردة اعتبري المستشفى كلها فرحانة.


توقفت لحظة وهي تنظر لها بتساؤل صامت، فلم تبخل الأخرى وفاضت بما تخفيه:


-دكتور ماجد سافر البلد لأبوه شكله تعبان اوي واخد اجازة كمان.


هل ابتسمت الدنيا لها أم أن عقلها المضني خيل لها ذلك، أيًا يكن الإجابة بما تحويها من صعاب، الأهم هو أنها شعرت بأن الأدعية التي لم ينقطع بها صوتها في الأيام الأخيرة عادت بنفع، وكأن ربها استمع لها ولمناجاتها اليومية.


اضمحلت ابتسامتها وهي تقول بصوت يعتمل فيه مشاعر جمة:


-أكيد اجازة مش طويلة يعني يومين ولا حاجة...


قطعتها "كوثر" وهي تؤكد بثقة:


-لا شكلها اجازة طويلة.


اكملت خطواتها نحو مكتب السيد "عطية" ودخلت تبحث بعينيها عنه، فوجدته يجالس موظف أخر ويضحك بصدر رحب، ابتسمت متهكمة يبدو أن اثر تلك الإجازة كان مفيدًا للجميع ليس لها فقط.


مضت بجانب اسمها وتركت كوثر تغدو نحو عملها بينما هي انطلقت لتلك الغرفة البسيطة التي تنزوي بها بعيدًا عن أنظار الجميع، تستجمع بها قواها قبل أن تخرج تباشر عملها.

وضعت هاتفها فوق المنضدة الصغيرة، ومدت يدها تلتقط ثوبها الطبي وقبل أن تخلع سترتها الجلدية القصيرة وصلتها رسالة عبر هاتفها، قرأتها بصوت مسموع بينما تخيل عقلها نبرته المدغدغة وهو يتفوه بها:


-حلوة الجيبة اللي أنتي لابساها، بس..


تقلصت ملامحها تمرر أناملها صعودًا وهبوطًا فوق شاشة هاتفها، ما هذا؟ هل اقتطع الرسالة هنا؟ هل يريد إرباكها؟ لكن مهلاً من أين له برقم هاتفها الجديد؟ عادت بسمتها الساخرة تعتلي ثغرها الباهت من سذاجتها المفرطة والاجابة تلوح لها بإمكانيته الحصول على شيء طالما يريد.


اهتز هاتفها برسالة أخرى وأكمل فيها كلمة واحدة كانت تعبس بسببها منذ قليل لعدم اكتمالها ضمن الرسالة الاولى...


-ضيقة.


 أحست بالسعادة تغزو قلبها لغيرته عليها وكأن لحظة سُقيها بعاطفة الحب أتت الآن.


-زيدان.


تلفظت باسمه في همس شديد تزامنًا مع خفق ضربات قلبها بقوة، ما زال له تلك الهيبة في فرض سيطرته عليها،  وكأنه يملك خيوط الجاذبية في يده حتى في أبسط كلماته وردود أفعاله، يسلب إرادتها دومًا حتى في ظل ابتعادهما فتبقى أسيرة لظله، ظنت أن البُعاد يجمد من عاطفتها ويمدها بالصبر لتحظى بحياة أفضل دونه، ولكنها كانت خاطئة، عاشت تلك السنين في جفاف وكأنها أرض بور، تروي أحيانًا ظمأها ببعض بالذكريات المتعطشة، تطبطب على قلبها ببعض من كلماته ذات الدفء المميز، لقد خلع فؤادها من مكانه حين شقت كلمة الوداع بينهما لتجد لنفسها مكانًا بسبب عدم قدرته في مجاراته أبسط أمانيها كفتاة..نشطت ذاكرتها بأخر لقاء بينهما ورغم أنه كان موجع وقاس إلا أنها لا زالت تتذكر ملامحه..ملابسه..نوع سيارته..أبسط واتفه الامور عنه..تنهدت باستسلام وارتمت بجسدها نحو مقعد صغير تستند برأسها على حافة مكتب صغير، متذكرة ما حدث بينهما...      

                                               **

تقلبت "مليكة" في فراشها الصغير يمينًا ويسارًا تحاول السبات بسلام دون أن تقع فريسة لصراع شرس قائم ما بين قلبها المتلهف لسماع صوته وعقلها العاصي عندما فرض هيمنته ودفعها لخصامه لمدة يومين كاملين لا تسمع فيهم صوته ولا تعرف عنه شيء..لن تنكر أن صوت داخلها دفعها للإغلاق في وجهه متأكدة  أنه سيحاول الوصول إليها لعودة وضعهما كما كان عليه ولكنه فاجأها ببرود صقيعي أصابها برجفة الخوف مما هو قادم، انتهى اتصالهما ببساطة لم تعتمل في حروفهما النارية، لقد تركا نفسهما للضياع وكلاً منهما تشبث برأيه.

هبت فوق فراشها تعقد ساقيها في وضعية الجلوس، وعيناها تحتد شراسة وضيق، هامسة من بين شفتيها:


-ماشي يا زيدان.


أمسكت الهاتف وقررت كسر قرارها المنيع بعدم الاتصال به، ولكنها تراجعت مفكرة كعادتها وماذا بعد؟ هل سترسم نهايتهما كما تتمناها؟ هل سيفرق الزمن بينهما؟ تدفقت الاسئلة كتدفق حبات المطر الفجائية، حاولت الهرب منها مرارًا وتكرارًا ولكنها تعود إليها والعجز يحيط بها، يحزنها اتهامه لها ببرود المشاعر حتى لو لم ينطقها صراحةً ولكن عينيه دومًا تبوح بها بطريقة فجة تضايقها، لا يفهم مقدار ما تعانيه من آلام وهي تحاول أن تخفي عاطفتها نحوه، هي تخشى أن تظهرها كاملة فيصبح التمادي طريقًا سهلاً بينهما، تحافظ على علاقتهما من أي شوائب قد تعكرها في يومٍ ما وفي المقابل هو يفيض بغزارة بعاطفته الجياشة وهي لا تملك سوى الصمت القاتل لمشاعره، بل وأحيانًا كانت تتجاهل عاطفته تلك بكلمات باردة مصطنعة، هي لا تعلم سبب ما تفعله معه، ربما شعورها الدائم بالخطأ يلتف حولها فيخنقها، ربما ثقة زوج والدتها السيد "مصطفى" تحوم حولها فتخشى كسرها، ربما هي لم تتعود بعد على طبيعة علاقتهما المستمرة نحو سبعة شهور، تاهت بين الاجابات المنصبة حول شيء واحد هو أنها لم تعتاد أن تفعل أمور كهذه في الخفاء تحتاج فقط للنور كي يضيء حياتهما، يزين مجرى قصتهما برابط رسمي وبالتأكيد هو لن يمانع طالما الحب بينهما.

عزمت على تنفيذ ما تؤل إليه نفسها في الأيام الأخيرة، واقسمت على تنفيذ مطالب عقلها الراجح بأن رابط الخطبة سيكون هو نهاية آلامها النفسية وحينها سيعرف "زيدان" كم تحبه؟ بل كم تعشقه بجنون؟..

أمسكت هاتفها وكتبت رسالة نصية سريعة تخبره بضرورة لقائهما.


"لازم اشوفك ضروري لو سمحت هنزل استناك في *** لو فاضي رد عليا".


وضعت الهاتف وعيناها تزداد حدة وشراسة حينما أضاء برسالة مرسلة منه.


"اوك هشوفك".


نهضت بعزم وارتدت ثيابها ثم خرجت للطريق بعد أن اقنعت زوج والدتها بأنها تذكرت أشياء بسيطة تساعدها في دراستها بالكلية، عبرت الطرق المختصرة لتصل للمكان المنشود وعندما خطت فيه رأت سيارته تقف في أحد جوانبه، فسارعت في خطاها رغم مخاوفها وخجلها المتمثل في عدم رؤيته ليومين..رباه كم اشتاقت له بجنون، حاولت رسم العبوس إلا أنها فشلت فاكتفت بملامحها الهادئة وهي تدخل لسيارة تجلس بالمقعد المجاور له.


-ازيك؟


سألته بهمس اخترق حواسه وهو ينظر أمامه يتجاهل دخولها الهادئ المحبب لقلبه، كاد أن يعصي قراره ويحول بصره نحوها يغدقها بمشاعر فياضة كانت سجينة قلبه ليومين ولكنه تراجع حينما ساد الصمت بينهما لفترة بسيطة وجاء بعدها رده الصلد:


-الحمد لله.


أجاب ببساطة أشعلت فتيل غضبها عندما لوح لها بالبرود وهي لم تعتاد منه على ذلك، وما يغيظها هو علمها بأن ذلك البرود ليس سوى ادعاء منه كعقاب لها! ولكن بحق حبهما ما الذي أخطأت فيه كي تنال عقابه، فاندفعت تسأله بفظاظة:


-مالكش أي حق تعاملني كدا، أنت أصلا زعلان ليه؟


ثانية..بل دقيقة ولم يلتفت نحوها فهدرت فيه بضيق عارم:


-زيدان بصلي ورد عليا؟


هنا التفت ورمقها بجمود أقلقها متلفظًا ببعض الكلمات الحانقة:


-ارد على إيه وأنتي مش شايفة نفسك غلطانة!


زفرت بحنق وعادت تعقد ذراعيها في ضجر شديد قائلة من بين أسنانها:


-عايز تطلعني غلطانة بأي شكل، وأنا قولتلك مكنتش اقصد أنا رجعت تعبانة ونمت وتليفوني فصل، ولما اتصلت مرة واحدة كنت هتصل تاني بس بابا مصطفى نادى عليا فخرجتله.


انتهت من كلماتها المندفعة بحرقة تمتزج بالتوسل كي يصدقها فيما تقصه عليه، حتى أنها واصلت بصدق:


-الموضوع مكنش إهمال مني أبدًا.


ضرب المقود بقبضتيه في غيظ شديد مردفّا:


-لا أنتي مهملة...مهملة فيا جدًا، بس في المقابل أنا بعمل كل حاجة علشانك.


تجمعت الدموع في مقلتيها وهي ترى غضبه يتفاقم، فحاولت امتصاصه بهمس خافت خرج من معقله سهوًا:


-والله بحبك.


استدار إليها بنصف جسده وهو يطالع اعترافها المدغدغ لمشاعره وقد أطرب أذنيه وكأنه سيمفونية رومانسية كان يتتوق لسماعها:


-وليه بتعامليني كدا؟ هو أنتي مش حاسة بحبي؟


سألها والحزن يغزو حروفه، فحركت رأسها بإيجاب وهي تقول بحسرة غصت في قلبها:


-حاسة بس...بس في حاجة منعناني.


انتابه الاضطراب وهو يسألها بهدوء زائف:


-إيه هي؟


رفعت وجهها المبلل بالدموع وهي تجيب عليه في نبرة مهتزة:


-علاقتي بيك غلط ومينفعش تحصل.


-وأنتي لسة عارفة انها غلط بعد سبع شهور!


كم تكره كلماته الجارحة حين تتمكن منه قسوته، لم تشفق دموعها عنده، بل ظل على نفس الصلابة وهو يحادثها:


-مليكة قولي في إيه بصراحة ومن غير لف ودوران.


أغاظها طريقته الفجة في التعبيرعنها، فردت بعنفوان شرس يناقض تمامًا دموع الضعف المتسلقة فوق وجهها:


-اللف والدوران هو اللي احنا فيه بقالنا سبع شهور يا زيدان..


صمت لبرهة تحدج فيه بقوة رغم خجلها المتواري خلف قوتها التي تنظر بها إليه:


-زيدان لازم علاقتنا تظهر للنور.


-يعني إيه؟


جذبت أنفاس عميقة تهدأ بيه ثوران مشاعرها وقالت ببساطة جعلت من حاجبيه تنعقد:


-يعني تخطبني وتتقدم رسمي.


انعقاد حاجبيه استفزها لدرجة أنها أخرجت ما تكنه طول فترة سبعة أشهر دفعة واحدة:


-أنا مش عارفة اكمل معاك وأنا حاسة ان بعمل حاجة غلط، اللي بينا حرام وكمان مينفعش، أنا بهز ثقة بابا مصطفى فيا.


-جوز امك.


هتف باستنكار فهدرت بعنف:


-زيدان دا ابويا مينفعش أبدًا تقلل من شأنه عندي لمجرد انك مش مقتنع باللي بقوله.


هز رأسه بعنف هو الأخر: 


-ايوا مش مقتنع، هو إيه اللي بينا غلط وميصحش أنا حتى مبقدرش امسك ايدك، وبعدين خطوبة إيه واحنا لسه مش عارفين هنكمل مع بعض ولا لا.


رمشت بأهدابها غير مصدقة فكررت حديثه بنبرة يملأها الغل والغضب:


-مش عارفين نكمل مع بعض ولا لا، على أساس ان اللي بينا كان تحت تجربة سيادتك.


عاود لنفس التبجح وهو يجيب بحماقة وقد أعماه غضبه أو ربما قناعاته الشخصية أثرت فيه ومنعته من تفهم موقفها:


-اه تحت التجربة، أصحابي وبيحبوا بالسنة واتنين وبعدين...


همست بغضب ناري:


-وبعدين كل شيء قسمة ونصيب وربنا اكيد هيبعتلك حد أحسن مني صح، وأنا بقى خسرت نفسي وقلبي وكل حاجة.


-أنتي ليه عايزة تضغطي عليا، أنا لسه مش جاهز، لسه حتى مش متأكد ان كان حبنا دا...


بتر حديثه بعدما فشل في إيجاد كلمات مناسبة يعبر بها عن حاله المختلج بأفكار لا زالت تترسخ داخله بل وشكلت هيكل رئيسي لتصوره عن الحب ومراحل تطوره، فتردد داخل أذنيه كلمات أصدقائه المعبرة عن الزواج بأنه ليس إلا مقبرة الحياة، وتعقيدات الخطبة التي لا حصر لها، هو لم يكن جاهزًا بالمرة لخوض تلك الأمور، ما زال في ريعان شبابه يريد أن يحظى بكامل عنفوانه بطريقته هو ليست مفروضة عليه كما تفعل.

أجفل من شروده اللحظي على صوت أنينها وجسدها المتشنج لتقول بحزن:


-مكنتش عايزة كدا من الاول.


-كنتي عايزاني اقولك يلا هخطبك يبقى بضحك عليكي، أنا لسه في بداية شبابي يا مليكة، هروح اقول لابويا واخويا الكبير إيه، اتعرفت على واحدة من سبع شهور..


اخرسته بصوتها الهادر بينما ارتفع صدرها وهبط في وتيرة سريعة:


-أنا أسفة على كل لحظة كنت بتخيل انك بتحبني فيها، أسفة على غبائي عشان اتوهم حبك.


هدر بها بالمقابل وجسده ينتفض بغضب:


-انتي ليه بتحكمي عليا، حاولي تفهميني.


جففت دموعها بهدوء أربكه، وقالت بتحدٍ ضاري وعيناها تثبتها بقوة فوق عينيه المحاولة لفهم تغيرها السريع:


-مبقاش في وقت عشان افهمك، زيدان هتخطبني ولا كل واحد يروح لحاله.


وقبل أن يجيب عادت تهمس بتوعد أيقظ خلايا العناد الاحمق داخله:


-اختيارك وانت حر فيه، بس تأكد ان لو كان قرارك بالرفض صدقني مش هتشوف وشي تاني طول حياتك.


حارب حروفه المتقدة بلهيب مستعر بعد أن اتسعت الفجوة بينهما وذلك بعد أن تشبثت برأيها في ظل محاولاته بالتزام الهدوء إلا أنه انفجر بتحدٍ مماثل متمسك بقناعاته ولاح أمامه شعورًا أن ما بينهما ما هو إلا حب وهمي كالسراب الذي يلاحق ضال في ليلة مظلمة بأحدي الصحاري القاحلة:


-وأنا مقتنع برأي وكلامي..


-اللي هو؟


سألته بصرامة بددت من قوته أمام ارتجاف شفتيها فتمسك بالصمت كحل أخير ولكنها رفضت حين رفعت ذقنها وقالت بخفوت امتزج ببحة حزينة مجروحة:


-أنت اللي اختارت، مع السلامة.


 ظل يتابع طيفها بندم أكله وكاد يدفعه بالركض خلفها منفذًا لرغبتها، وأفكار أخرى تقسو عليه بالعناد لتعمدها في إجباره على شيء لم يريده حاليًا، يسعى لتحقيق حياة مليئة بتجارب الحب في ظل محاولاته لتحقيق مراكز أعلى في عمله، الزواج سيعيق كل هذا ولن يقع مجبور لأحلامها.

أما هي بعد مغادرتها له ورغم كل البكاء المتحجر في عينيها إلا أنها شعرت باعتدال مسارها في طريقها الصحيح، لقد جُرح قلبها أضعاف مما هي تخيلت وكانت حمقاء حينما ظنت أن تلك العاطفة المتأججة نابعة من قلبه، ولكنها اكتشفت بأنها عاطفة مغلفة بتمرد شبابي لإيقاع بها في شباكه، والخسارة كانت من حقها وحدها لتتحمل أوجاعها وتعتاد على ذنبها مما اقترفته بحقها.


-مش هتشوف وشي أبدًا يا زيدان.

                                              **

عادت من ذكرى فراقهما وهي تقول بتهكم صريح:


-اهو شافك تاني يا هبلة.


زفرت بضيق ونهضت بشموخ ينافي ما تشعر به بكل ما تحمله من ضجيج بعتلي أفكارها واشتياق يغلف أحاسيسها تجاهه.

خرجت من غرفتها تستقبل طلبات المرضى بصدر رحب في محاولة منها للهرب من كل شيء والأهم الهرب من طيفه المرافق لها في كل مكان.

                                              ***

في المساء..

أخذت مليكة الملفات من الممرضة العابسة وكأن طاقتها اوشكت على النفاذ في تحمل الساعات المتبقية في اليوم، وضعت إمضائها بسلاسة داخل  الملفات ثم أغلقتها وأعطتها إياها بابتسامة واسعة تقلصت حين قالت الممرضة ذات الوجه العابس:


-في واحد مُصر انك تكشفي عليه، بيقول انك عالجتيه كويس قبل كدا.


أومأت مليكة بتفهم وأشارت نحو الغرف الموجودة في الممر بتساؤل:


-في انهي اوضة.


-في أخر واحدة، عايزني اجي معاكي.


هزت رأسها برفض واتجهت صوب الغرفة على الفور، ممتنة لصلابتها في استكمال يوم طويل كهذا دون أن تخر واقعة أرضًا من شدة الارهاق والتعب الجسدي.

طرقت الباب بخفة ثم دخلت تجتاز الممر الصغير ومنه إلى غرفة واسعة بها سرير يستخدم في الكشف وأجهزة طبية، رفعت أنظارها نحو السرير ووجدت عليه..

                                              ***

حرك "زيدان" الخاتم الفضي في إصبعه بتفكير عميق بينما كان جالسًا بأريحية فوق سرير يستخدمه الاطباء للكشف ينتظر قدومها وذلك بعد أن فر هاربًا من عمله، تاركًا مخاوفه على جنب مقررًا الاستماع لقواعد يزن حينما فاضت به محاولاته في التحدث معها بالتجاهل المرير من ناحيتها ولم تدرك أنها تضاعف من عذابه، حاول كثيرًا إلهاء نفسه ولكنه فشل فقرر اللجوء لأخيه الأصغر لقدرته الفائقة في سلب لب الفتيات دون عناء منه، وللحظة بدا حاقدًا عليه بينما يلهو بين الفتيات يستمتع بحبهن هو يتذوق مرارة العذاب بسبب حب ظنه أنه سيموت مع الزمن، ولكن ما مات هو ظنونه الحمقاء.

تقلبت عيناه في ملل يرفض خوض ذكريات ظلت سجينة عقله لتذكره دومًا أنها بداخله، فمع ظهورها من جديد لن يظل تابع لماضيهما ويترك الحاضر والمستقبل كالأحمق دون تدخل منه لاسترجاعها من جديد، ولكن كيف؟ وهي تغلق جميع الابواب في وجهه، يأمل بأن الاعيب يزن تعود بفائدة بدلاً من قتله، فلم يكن صبورّا قط مثلما كان صبورًا معه وهو يستمع لبعض الخطط الخبيثة في إيقاعها من جديد، شعر بغصة في حلقه وهو يود الاعتراف لأخيه بأن علاقتهما ليست بهذا اللؤم، وانما كانت واضحة وجميلة إلا أن الحظ أعاقه وعرقله في استكمالها ففقد حبال الوصل بينهما.

ولكن ما بيده سوى الاستماع له وتنفيذ خطته الخبيثة كي يعود ينبوع الحب ويضخ في أوردتهما من جديد، أغلق عيناه مفكرًا بهدوء عن الخطوة التالية بعد أن امتهن الألم بسهولة في استقبال المشفى وطلبها خصيصًا تطمئنه على حالته ولسلطته نفذت أوامره فورًا دون عناء مزيد منه.

وفي ظل تفكيره العميق دخلت وهي تتهادى في خطواتها، فحول بصره نحوها يستمتع بالصدمة المرسومة فوق وجهها من فكرة وجوده:


-زيدان؟


هل تلك النظرة كانت قلقة أم أنها مجرد صدمة عابرة لوجوده؟ لا يجد إجابة مريحة له طالما كانت بارعة في إخفاء باطنها، حيث اسبلت أهدابها للحظات وبعدها رفعت عيناها تسأله بجمود استفزه:


-مالك، خير؟


اعتدل في جلسته وهو يجيب بغيظ:


-زي ما أنتي شايفة تعبان.


اقتربت وهي تضع يدها في جيب ثوبها الطبي، فحانت منه نظرة لتنورتها مررًا بصره عليها بإعجاب سافر، ولكنها أفاقته بوحشية عندما طرقت بعنف فوق المكتب سائلة إياها بوجوم:


-تعبان مالك، بتشتكي من إيه؟


خصها بنظرة حاقدة بسبب ثباتها الانفعالي أمامه وقال بحنق:


-ما تكشفي، هو انتي مش دكتورة؟


اقتربت منه خطوة وأشارت بيدها في استهزاء كانت تتعمد اظهاره لاستفزازه كي يتركها ويفل دون تعذيب أكثر لها:


-إيه اللي بتشتكي منه بالظبط؟


-قلبي.


قالها ببساطة جعلتها تندهش وهي تقول:


-نعم؟


-مبتعرفيش تكشفي عليه؟


سألها بتهكم واضح، فاكتفت بالاقتراب منه وجديتها امتزجت بالعناد في ظل اتابعها لعملها حيث وضعت سماعتها الطبية فوق قميصه إلا أنه فاجأها بوقاحة حين أبعدها وفك أزرار قميصه العلوية، فظهر صدره العريض أمامها وبكل وقاحة اعاد موضوع السماعة فوق قلبه ولمست أصابعه أناملها الرقيقة دون قصد منه فسرت رجفة قوية في جسدها وكأن هبات هواء بارد اجتاحتها في ليلة شتاء قارس.


-المفروض تكشفي كدا يا دكتورة.


هل تقتله أم تقتل نفسها، ماذا يريد أن يفعل بها وهو نائمًا بهذا الشكل وابتسامته الوقحة تزين ثغره وكأنه نجح في إثارة مشاعرها، هل ذابت قرارتها المنيعة في الابتعاد؟ هل انصهار أحاسيسهما المتقابلة وخاصةً وهو ينظر لها بهذا الشكل لها أثر على تسمرها أمامه دون حراك، فقد أطلقت الحرية لعينيها للعبث بملامحه كما يحلو لها، ولكنها استفاقت من غفوتها الرقيقة بعد لحظات كانت الاجمل بينهما على الاطلاق، جذبت السماعة بعنف زائف بينما كانت تحارب لإخراج جمل واضحة وقوية:


-أنا هبعتلك دكتور تاني.


وقبل أن تدير مقبض الباب كانت يده تعيق حركتها قابضًا فوق كفها الرقيق بقوة وبذات الوقت كان يخشى عليها فكانت قبضته قوية بها قدر كافي من الحنو اللطيف، ولكن..ولكن تخبط تفكيرها بخجل وهو يقف خلفها مباشرةً يحتجزها بينه وبين الباب، ونبرته الملتاعة تهدم أخر أسوارها:


-رايحة فين وسيباني تاني.


كان صوته معذب لقلبها فقد لاح لها اتهامه بتركها له من جديد، فهمست بضعف تحاول السيطرة على مشاعرها:


-سيبني اخرج.


لان قلبه لصوتها المبحوح حيث اختلطت حروفها بالتوسل الطفيف، فهمس بجانب أذنها سائلاً إياها ولوعة العشق تتملك من صوته:


-لسه بتحبيني؟


همست باسمه في توسل أكبر:


-زيدان.


خارت قواه وهو يستمع لاسمه تلفظه بهذا الضعف، فكاد الشوق يدفعه بجنون لاعتصارها بين يديه، او أبسط امانيه التهام شفتيها الوردية المتلفظة باسمه بتلك الطريقة، هل خيل لها أنه قديس كي يتحمل ذلك العذاب دون أن يروى قلبه النابض بعنف وهي قريبة منه بهذا الشكل، غامت عيناه بعاطفة ملتهبة وهمس بتروي جعلها تغلق عيناها بقوة وصوت أنفاسها يتسارع وكأنها تقبل على الموت:


-مليكة.


شعر برجفتها..أحس بقوتها تتصدع بين يديه، وبدأت تخيلاته عن أول قبلة بينهما تدفعه بحرص نحوها، فمال بجانب وجهه وأنفاسه الساخنة تلفح بشرتها الرقيقة، أغمضت عيناها بقوة أكبر وهمست باستعطاف:


-عشان خاطري بلاش.


تراجع عما كان يريد فعله في أخر لحظة بهدوء عجيب، كاسرًا قواعد يزن بل ضاربًا إياها بعرض الحائط، همس بحنق اختلجت فيه مشاعره الثائرة:


-الله يخربيتك يا يزن.


فتح عينيه على برود يحاوطه عقب مغادرتها بعدما كان ينصهر اثر اقتراب بسيط حدث بينهما، فماذا سيحدث إن تزوجها مثلاً وهو يحمل كل تلك العواطف الفياضة، ابتسم ببلاهة مردفًا:


-بلاش افكر أحسن.

__________________

الفصل التاسع..


بعد مرور يومين..


وضع "السيد مصطفى" أطباق الجبن المختلفة فوق طاولة صغيرة في المطبخ وبدأ في اعداد وجبة الافطار لـ "مليكة" كعادته دومًا والبسمة لا تفارق وجهه انتظارًا لرأيها الثمين في طعامه متلذذًا برؤيتها التي لم ينقطع عنها البراءة رغم أنها أصبحت أكثر نضج إلا أن نظرة السعادة ذاتها تُلقيها نحوه بكل امتنان وحب لتقديره الدائم لها، ورغم أن تلك الأيام يشعر بقلق ما يحوم حولها حيث بدت عيناها غائمة بشكل يخيفه عليها ولكنه لا زال يتمسك بمساحتها الشخصية منتظرًا إياها حين تُقدم عليه كطفلة صغيرة تفيض بما يسبب لها الأرق.

ارتفع رنين هاتفه فخرج من عمق تفكيره الغارق بها وبتصرفاتها الغريبة مؤخرًا والتفت نحوه يجذبه تزامنًا مع تنهيدة صغيرة كانت تحاول الانفلات من صدره إلا أنها سجنت بين ضلوعه حين رأى أسمها يتلألأ ويزين شاشته لأول مرة منذ سنين.

أسبل أهدابه مفكرًا للحظات في ظل خضم مشاعره وشعوره بالسعادة لمجرد سماع صوتها مرة أخرى، لذا اقتنص بعض ذرات الهواء قبل أن يجيب بنبرة ظاهريًا كانت هادئة:


-الو، ازيك يا نادية؟


علت ضربات قلبه وكأنه شاب في العشرينات وغزت الحيوية ملامحه مستمعًا لصوتها الأنثوي ذي البحة المميزة التي لم تتغير بمرور الزمن:


-مصطفى اللي بتعمله مينفعش وميصحش.


قالتها بحزم قاس لم يعير له أي اهتمام طالما نبرتها تغزو خلايا قلبه المظلم لتعيد فيه الحياة من جديد، استمر في حالة التيه تلك تاركًا ثرثرتها حول العادات والأصول ولم يأبى لنبرة الحدة الملازمة لها إلا حين نادته عدة مرات قائلة:


-مصطفى أنت معايا، لو سمحت رد عليا، مينفعش تيجي عند بيتي تاني.


كان يريد الاعتذار ولكن لسانه أعلن العصيان وتمرد بعنفوان ناطقًا بكلمة خرجت من معقل مشاعره المتأججة:


-وحشتيني يا نادية.


نطقها وترك جلد الذات جانبًا، لقد أراد التلذذ بحلاوة لحظة ربما لن تتكر ثانيًا، ومع استمرار الصمت بينهما حول الهاتف أمامه للتأكد من جودة الاتصال فوجدها قد أغلقت الاتصال محتفظة برد فعلها لنفسها، وبقي هو كعاداته يتلوى بنيران الفراق والوجع منذ أن تعلم قلبه قراءة سطور العشق والغرام.


 تمالك أعصابه حين نادته "مليكة" من خلفه بنبرة متعجبة:


-بابا...بابا مصطفى.


التفت بنصف جسده والهاتف لا زال يمسكه بقوة وكأن تلك اللحظة الفريدة يخشى أن تكون من أوهام هاجمت واقعه بين حين وآخر.


-أيوا يا مليكة، في حاجة يا حبيبتي؟


-أنت كويس؟


سألته والقلق يسيطر على صوتها الرقيق، فأجاب بهمس هادئ:


-أنا كويس جدًا الحمد لله يا حبيبتي.


صحيح من أسمى صفاته الهدوء دومًا ولكن ليس بتلك الطريقة، كانت تريد الاستفسار أكثر عن حالته ولكنها ابتلعت أسئلتها حينما لاحظت عودته واندماجه في تحضير الطعام، فاكتفت بهز رأسها ومساعدته دون أن تفتح مجالاً أكثر للحديث بينهما فيعود ويسألها عنها وكالعادة تهرب كالجرو الصغير نحو غرفتها تنزوي بها تفكر في إيجاد حل لمصيبة تأجلت قليلاً بسبب سفر" ماجد" المفاجئ.

                                   ***

تابع "يزن" تأفف زيدان المتواصل منذ الصباح والتزم الصمت محاولاً ضبط ابتسامته كي لا يهجم عليه ذلك الثور حيث كان على وشك الانفجار بالجميع الآن، عاد بظهره للخلف وركز أكثر بكلمات "زيدان" المتناثرة في غضب:


-وقولت أن الخاتم هيرجعها تاني وهي ولا أخدت بالها منه.


-جبلة يعني مبتحسش؟


تسأل "يزن" بمزاح، فاستدار الأخر المواصل لاستكمال ثيابه وأمسك بوساده صغيرة وألقاها في وجه أخيه بكل عنف متمتمًا بضيق:


-ما يمكن أنت مبتفهمش وأنا أهبل عشان ماشي وراك.


رفع "يزن"حاجبيه في غيظ مردفًا:


-طيب ما أنا قولت أجي معاك وأخلص الحوار أنت مرضتش، عرضت مساعدتي ولا معرضتش.


-مستغني عنها يا سي روميو.


انتهى من ارتداء ثيابه، ووضع الخاتم فوق السراحة بإهمال وقبل خروجه أوقفه يزن بصياح:


-أنت رايح فين البس الخاتم.


-لا أنا همشي بدماغي بعد كدا.


توسعت أعين "يزن" بقلق وأردف:


-لا أنت اوعى تمشي  بدماغك، دا البت تهاجر وتسيب البلد.


عبس بملامحه وخرجت حروفه غليظة قوية:


-مش معنى أن باخد رأيك أنك تتعدى حدودك معايا فاهم ولا لأ.


تمتم يزن بصوت هامس لنفسه والاشمئزاز يطفو فوق ملامحه:


-ليها البت تهرب منك

لكزه زيدان بذراعه قائلاً بخشونة:


-ها انجز عايز ايه؟


-يا زيدان افهمني البس الخاتم وامشي زي تعليماتي والبت هتبقى زي الخاتم في صباعك.


انفجر زيدان في غيظ:


-يا بني أدم افهم بقولك بقالي يومين بروحلها وهي بتصدني.


عقد يزن ذراعيه وعينيه تظهر مدى استشاطته:


-عشان بتروحلها في شغلها، استني يا قبل يا بعد ولو فلتت منك ازنقها بقى حتى لو غصب.


رسم اللامبالاة فوق وجهه ليقول:


-هو أنا فاضي للحوارات دي.


عض يزن فوق شفتيه بقسوة وكور يده بعصبية:


-تصدق أنا اللي غلطان، أنا اللي غلطان..


عقد زيدان حاجبيه بتعجب وهو يتابع حالته المستاءة بينما استمر الأخر بحديثه حتى خارج الغرفة:


-أنا اللي غلطان...يا ماما أنا اللي غلطان.


تقدمت "منال" صوبه في قلق متسائلة:


-مالك يا حبيبي.


-أنا حاشر نفسي ليه المفروض اخاف على نفسي من الجلطة.

شهقت بنعومة وهي تمسد فوق ذراعيه:


-بعيد الشر عنك يا روحي.


حول يزن عينيه صوب زيدان الواقف بجانب غرفته والقسوة الممزوجة بالتحذير تعلو وجهه:


-هي ليها الجنة اقسم بالله.


-هي مين دي؟


تنقلت بنظراتها بينهما منتظرة إجابتهما بفضول فتقدم زيدان منهما ودفع يزن بقوة داخل غرفته، واستكمل احتضانه لوالدته واضعًا ذراعيه حولها:


-الساعة...الساعة كام دلوقتي فين الفطار يا ست الكل؟

                                 ***

في المساء..


خرجت "مليكة" من المشفى تتابع خطواتها في تمهل وفي ذات الوقت تحظى ببعض الهدوء مستغلة الصمت المطبق من حولها في الطريق المؤدي للطريق العام..

غاصت بتفكير في إيجاد حل مناسب لتواجه ذلك اللعين "ماجد" دون المساس بشرفها أو الافصاح عن تلك الصور والمحادثات المشينة، وكلما توصلت لتلك النقطة تحديدًا يملأها مشاعر جمة تتشاحن في جنون ما بين الغضب والخوف وفي نهاية المطاف تبقى مُعلقة حتى إشعار آخر.

خرجت من دائرة التفكير خاصتها على صوت أقدام من خلفها وقد أحست حينها بالتوتر فكلما سارعت بخطواتها تشعر بأن المسافة تتقلص أكثر، بدأت في السير بطريقة أشبه للجنون ولكن التنورة التي كانت ترتديها أعاقتها قليلاً فعلى التذمر تقاسيم وجهها تزامنًا مع احمرار طغى بقوة فوق وجنتيها.

لم تدري أي قوة هاجمتها حتى تستدير بهذا الشكل المفاجئ وتحرك حقيبتها الجلدية بطريقة دافعية أمامها تنوي ضرب هذا المتحرش بكل قسوة ولكنها تراجعت في أخر خطوة حين رأت "زيدان" يبتعد للخلف ممسكًا بالحقيبة بين يديه ضاحكًا:


-أيه حاسبي هتفقعي عيني.


أطرقت بعينيها أرضًا قليلاً قبل أن ترفع بصرها إليه تحدجه بقوة ومن بين أسنانها قالت:


-لو ينفع كنت عملتها.


وضع يده فوق صدره مشاكسًا إياها بلطف وبنظرة استعطاف اتقنها جيدًا أردف:


-وأهون عليكي.


كسا الخجل ملامحها وعجز عقلها عن الرد بعد نظراته تلك ولكن شيء ما جذب أنظارها وجعلها تركز ببصرها عليه حتى أنه انفلت لسانها بسؤال نهرت نفسها عليه فيما بعد:


-من امتى وأنت بتحب الخواتم؟، ما أنا جبتلك واحد وأنت...


انقطع صوتها فجأة وعم الصمت بينهما بعدها، فتشابكت أنظارهما في لحظات انفردت بها لغة العيون وأباحت بما يجيش بصدورهما.

قرر "زيدان" قطعها بقوله الهادئ المصاحب لبسمة شعرت بالارتباك منها وهو ينظر نحو الخاتم بتنهيدة قصيرة:


-الخاتم دا عزيز عندي شوية.


كاد أن ينفجر الفضول من مقلتيها  وبذات الوقت ودت أن تلكمه على تنهيدته تلك، بالطبع هي حمقاء ساذجة تغرق في أوهام الحب حتى بعدما جسد الفراق جسر بينهما، أما هو ينعم بين فتياته ويتلقى منهن كل الاهتمام والحب، حقير، متكبر، غبي...

اتسعت عيناه بصدمة وتراجع برأسه متسائلاً:


-قولتي إيه؟


يبدو أنه ارتفع صوتها قليلاً وهي لم تشعر كعادتها:


-قولت عايزة امشي.


أجابت بضيق وقررت الابتعاد واستكمال خطواتها إلا أنه اعترض طريقها مرة أخرى ليقول بخشونة:


-هو أنا مش واقف معاكي ازاي تمشي وتسيبني!


رفعت حاجبيها في استهجان متسائلة بصوت يبدو عليه الحنق:


-تقربلي إيه أنت عشان تقف معايا ولا تكلمني.


تجاهل كلماتها عن قصد مررًا ببصره فوق ملابسها في تمهل أحرجها وأصابها بالخجل الشديد وخاصةً حين قال بهمس قاصدًا التلاعب بمشاعرها:


-مش ملاحظة الجيبة ضيقة، مش هعلق كتير عن كدا.


تشدقت بخبث قبل أن تواجهه بحماقة:


-المرة الجاية هخليها ضيقة أكتر من كدا.


عقد ذراعيه أمامه بتحدٍ:


-ودا اسمه؟


-رخامة..غتاتة أي حاجة وابعد عني.


قالتها في حنق شديد، شاعرة بالحزن من نفسها لتجاوب عاطفتها معه وبالأخير ستصطدم بقلبه الصلد وتبقى هي الخاسرة الوحيدة بينما هو يحظى بهدايا يرتديها بكل حب من فتيات حمقاوات مثله.


-وأنا مش هبعد يا مليكة واعتبريه تحدي.


ردت بعناد امتزج فيه التذمر:


-هتبعد يا زيدان، ومينفعش كل شوية تيجلي في مكان شغلي.


-طيب تيجلي أنا عادي يعني.


رمشت بأهدابها بعدم فهم متسائلة في صمت عن مقصد حديثه، فتابع حديثه بخبث:


-موافقة يعني تمام براحتك.


زفرت في ضيق وهزت رأسها كمحاولة منها لإخراجه من تفكيرها، لن يعود تأثيره عليها كما كان سابقًا، فـ بعد الآن ستلجم عاطفتها في غيابه قبل وجوده.

التفتت بجسدها والتزمت الصمت وتابعت خطواتها دون أن تعير له أي انتباه، وفي ظل حركتها شعرت بالخجل والتوتر وهو خلفها يسير بكل هدوء وفي داخلها كانت تدرك تمامًا أين مستقر عيناه الآن، فتوقفت فجأة بعصبية:


-روح اركب عربيتك لو سمحت وسيبني.


تجاهل نبرة صوتها المرتفعة الغاضبة ورد في برود:


-عربيتي برة على الطريق وبعدين استحالة اخليكي تمشي لوحدك..


كادت أن تفتح فمها للرد عليه ولكنه اقتصر عليها بقوله الحازم:


-متجادليش كتير وسيبني امشي وراكي.


أنهى حديثه ببسمة واسعة قاصدًا إثارة غضبها وخجلها لطالما تحظى بجمال فريد يعشقه حين تثور وتعترض بغضب.

خفضت نبرتها بعدما فقدت جزء من قواها في مجادلته، وأشارت له بأن يتقدم أمامها ولكنه تظاهر بالغباء حتى فقدت هدوئها الزائف وقالت:


-امشي أنت قدامي وأنا وراك.


تقدم بخطواته حتى وصل بجانبها وأمال عليها قليلاً هامسًا:


-يا خسارة الجيبة هتفوتني.


وما أن أعطاها ظهره حتى رفعت حقيبتها وضربته في كتفه بغيظ:


-قليل الأدب.


نظر إليها بطرف عينيه قائلاً بتحذير مصطنع:


-متتكررش عشان متزعليش.


لم تمنع نفسها من نبرة العناد وردت:


-هتعمل إيه يعني؟


التفت بكامل جسده مشيرًا بيده في توعد :


-هقبض عليكي ووقتها لو مين جه عشان يطلعك محدش هيقدر.


-ليه رئيس جمهورية وأنا معرفش.


ردت عليه في استهزاء، فخالف توقعاتها بغمزة من عينيه وبوقاحة أجاب:


-هتبقي ممتلكات خاصة ودي طبعًا صعب افرط فيها.


تلعثمت في حديثها من فرط خجلها وقالت بصوت غلب عليه الارتباك المخالط للحرج من وقاحته على غير عادته:


-أنا بكلمك ليه..أنا بتكلم مع واحد زيك ليه.


تحرك من أمامها بعدما دفعته بحقيبتها فتمتم بضحك :


-طب والله الشنطة دي متمرطة معانا.


ردت في نزق تخفي به عاطفته المتأججة:


-مالكش دعوة ويلا خلصنا من الشارع دا.


ارتفع صوته في ضحكة صغيرة مستمتعًا بأطول حديث بينهما منذ أن التقيا بعد فراق دام لسنين:


-بس افتكري انك وافقتي.

                                            ***

حاولت "نهى" فتح جفنيها ولكنها وجدت صعوبة فعادت إغلاقهما ولكنها انتبهت ليد تمسد فوق ذراعيها بحنان بالغ سرقتها من أحلام خالطها كوابيس مزعجة رغم إصرار عقلها الباطن الغرق في أوهام علاقة عاطفية مع زيدان، فكانت تتمنى أن يحالفها الحظ ولو مرة واحدة وتستمع لصوته يغازلها بأرق الكلمات ولكن يبدو أن تلك الكوابيس تزعجها في نومها بعد أن قررت الهرب إليه للخروج من شرنقة الواقع بآلامه الصعبة وتجاهل زيدان المستمر لها، وكلما عجز عقلها عن تفسير معاملته الجافة لها يعود متقهقر لفكرة الانتحار فيبدو أنها نهاية مطاف علاقتها معه وفكرة الشروع في حياة جديدة على وشك الانهيار.

عادت تلك اللمسات من جديد فداعبت قلبها المتشوق لمثل هذه المشاعر، ولوهلة ظنت أن تلك اللمسات من قبل والدتها فارتسمت بسمة صغيرة فوق ثغرها الباهت ورافقته دمعة ساخنة سقطت من عينيها المغلقة، لم يدم ظنها طويلاً وذلك عندما تبعثر كحال كل مرة فأول من رأت حين فتحت عيناها، كانت الخادمة تجلس بجوارها بابتسامتها المعهودة.


-إيه يا ست الكل هتفضلي طول اليوم نايمة كدا.


خرج صوتها المتحشرج ليقول:


-مفيش حاجة اعملها، خليني نايمة أحسن.


انطفت معالم الحياة من وجهها الجميل وبدت كعجوز على فراش الموت، وبدأت تشعر بشفقة منبثقة من نظرات الخادمة حتى أنها لم تكف عن محاولتها البسيطة في التخفيف عنها:


-قومي يا ست نهى واشغلي نفسك بأي حاجة، ما تدوري على شغل ولا وتقعدي مع صحابك.


أسبلت أهدابها بحزن شديد وهي تقول بصوت يغلب عليه البكاء:


-ماليش نفس أعمل حاجة، وماليش أصحاب.


اختفت بسمة الخادمة للحظات ثم عادت تقول بحماس:


-قومي اتكلمي معايا أو اتصلي على سي زيدان.


هنا فقدت القدرة تمامًا وانهمرت دموعها كالأطفال تقول بقلة حيلة وفقدان للشغف:


-حتى هو بدأ يتهرب مني، هو أنا وحشة عشان يعاملني كدا؟، طيب ليه طلب يخطبني من الاول؟، لما ساعة يعاملني حلو وطول اليوم زي الزفت، عايز يوصل لإيه أنا مبقتش عارفة.


 لم تكن الخادمة تدرك أن بمحاولاتها البريئة ضغطت عليها فالأمر يشبه وكأن جاء أحدهم وقام بالضغط على بالون، تلك كانت حالتها  تمامًا عندما أفضت بما لا تقوَ على قوله، حاولت الخادمة تهدئتها بكل الطرق ولكن نهى كانت في عالم آخر تسعى لإيجاد سبب ترضي به انكسار قلبها من تصرفات زيدان معها.


-خلاص يا ست نهى، يا ستي أنا غلطانة ان صحيتك.


-ولا غلطانة ولا حاجة، خليها تصحى وتفوق من الوهم اللي هي فيه.


انتبهت "نهى" على صوت والدتها فرفعت بصرها في حزن وهمست:


-تاني هتقولي وهم.


نهضت الخادمة تحاول جذب ميرفت للخارج مراعاة لظروف الفتاة ولكن الأخرى أبت بل وقالت بتهديد:


-حسك عينك تقربي مني، هو أنتي هتعيشي الدور كأنك واحدة من البيت ولا إيه، دي بنتي وأنا حرة فيها.


عادت الخادمة للخلف بحرج شديد وقالت بصوت خفيض وعيناها تلازم الأرض:


-أسفة يا هانم.


حولت ميرفت بصرها بعد أن هدأت قليلاً والزمت الخادمة مكانتها، ثم قالت بصوت قوي وهي تتقدم من نهى الغارقة في البكاء:


-اقولك أنا يا حبيبتي سبب معاملته ليكي.


-لا مش عايزة أعرف، اطلعي وسيبني في حالي.


قالتها نهى في لحظة اندفاع وكأنها تخشى صعوبة الوضع المتمثل في أعين والدتها، حتى أنها وضعت يدها فوق أذنيها، فثارت ميرفت بغضب وتقدمت من ابنتها المعلنة تجاهلها لها وهذا ما أغضبها بل وأشعل فتيل الانتقام من ابنتها حتى تتجرأ وتُقدم على مثل هذا الفعل أمام الخادمة: 


-فوقي يا بت..أصل والله ألطشك قلم من بتوع زمان.


ضغطت نهى اكثر فوق أذنيها واشتدت ملامحها وهي تنكمش فوق فراشها، فتقدمت والدتها أكثر وجذبت الغطاء وألقته أرضًا ومن ثم ابعدت يدها واقتربت بوجهها منها عندما مالت بنصف جسدها العلوي تقول بكل جرأة ممزوجة بالوقاحة:


-عارفة ليه بيعاملك كدا، عشان أنا طلبت منه كدا، قعدت اترجاه واطلب منه يمثل عليكي دور انه بيحبك وبيموت فيكي لما عملتي العملة المنيلة بتاعتك وانتحر*تي.


حركت نهى رأسها بجنون ترفض التصديق، لم يكن زيدان كاذبًا من قبل، لقد أقسم على حبه ومشاعره في المشفى وحين رفضت الخطبة عندما أرادت تعزيز نفسها، أصر هو على ذلك معلنًا سبب جرحه لها في البداية، كانت عيناه صادقة، مشاعره لامست قلبها، هل كان يتوهم عقلها ذلك؟ هل وصلت بها السذاجة لذلك الأمر؟ أم أن الشفقة دفعته لتمثيل دوره بإتقان؟

-بتفكري في أيه؟ كل اللي بقوله حقيقي، واسأليها اهي وهي واقفة ولو تقدر تكدب.


استدارت للخادمة التي أخفضت بصرها أرضًا تهرب من نهى  والحزن يكسو وجهها، فتابعت ميرفت حديثها:


-هتكدب ازاي وهي اللي قالتلي على الفكرة دي، قال إيه عشان ننقذك، بس متعرفش ان النكد والنحس هيفضل ملازمك عمرك كله طول ما أنتي حاطة سي زيدان في دماغك.


انفجرت مشاعرها كالبركان وصرخت بصوت يغلب عليه الوجع والخذلان بينما كانت عدستيها تختفي خلف غلاف رقيق من الدموع:


-بس كفاية اطلعي برة، مش عايزة اسمع منك كلمة تاني، أنا هخلصكم مني، ارحموني.


كانت تدفع والدتها بيدها وقد فقدت كل ذرة هدوء واستكانة وباتت تتحرك بجنون تدفعهما معًا خارج غرفتها، بينما كان صدرها يضيق بها وكأن جدران الغرفة تنقبض عليها، فاختفت أنفاسها وأصبحت ثقيلة مع خروج الخادمة واغلاقها للباب بقوة من خلفهما.

ومن بعدها سقطت أرضًا تبكي بصوت عال وعادت فكرة إنهاء حياتها تسيطر عليها من جديد، فلم تكن تريد التفكير لو للحظة بحديث والدتها المؤذي..نعم مؤذي جدًا لها وأصبحت لا تطيق التنفس والاستمرار في تلك الحياة المخزية فالموت أهون مئة مرة مما تمر به حاليًا.

                                                 ***

في مساء اليوم التالي..


وقفت "مليكة" أمام دكان صغير بجوار المشفى هي وإحدى زميلاتها، تختار الحلوى المفضلة قبل الذهاب للحافلة الكبيرة الموجودة دائمًا  بالطريق الرئيسي..انتهت أخيرًا وبدأت في وضع الحلوى في حقيبتها ما عدا واحدة قررت أكلها لتساعدها قليلاً في القضاء على الجوع المسيطر عليها طيلة اليوم.


-بس أنتي متغيرة اوي يا مليكة اليومين دول.


انتبهت لصوت صديقتها المجاورة لها وتدعى "أمل"، فجذبت نفس قصير قبل أن تجيب بهدوء يخفي خلفه آلام تحاول دفنها عن الجميع بابتسامات مصطنعة:


-لا أنا متغيرتش ولا حاجة.


هزت "أمل" كتفيها لتقول بصوت يشوبه عدم الاقتناع:

-يمكن، بس..


بترت حديثها فجأة وقررت الصمت كي لا تزعجها بأقوال قد تثير غضبها، ولكن "مليكة" أصرت على التحدث بقولها:


-كملي يا أمل، متكتميش حاجة في قلبك.


ضحكت الأخرى قبل أن تثرثر كعادتها بطيبة قلب:


-يا بنتي مقصدش، الايام اللي فاتت كنت بحس دكتور ماجد بيرخم جامد عليكي، قولت يمكن دا سبب معاملتك للكل وزعلك طول الوقت بس حتى بعد ما سافر واتنيل اخد اجازة متغيرتيش ولسه زعلانة.


وقف الطعام بفم مليكة فلم تجد طريقًا للخروج من ذلك المأزق أو التبرير بشكل لا يثير شك صديقتها أو أي فرد بالمشفى خاصةً أن أمل كثيرة الثرثرة.

وقبل أن تفتح فمها مبرر وقفت سيارة شرطة أمامهما وهبط منها ضابط يبدو عليه صغر السن، ملامحه مشدودة وكأنه يُقدم على إمساك بمجرم خطير..


-أنتي مليكة.


جف حقلها من التوتر وحولت بصرها لصديقتها التي ردت بالنيابة عنها قائلة بقلق عارم:


-ايوا يا فندم..في حاجة؟


تجاهل فضولها الممزوج بالقلق وأشار لمليكة بالصعود لسيارة  الشرطة بنبرة حاسمة غليظة حولت قلب مليكة المتماسك لورقة هشة فكاد يتوقف عن النبض حين جذبها الضابط وحركها نحو السيارة:


-يلا اطلعي..بسرعة.


اختفى صوتها كحال اختفاء أنفاسها وهى تصعد في السيارة بالخلف فواجهها ظلام بالداخل مما جعلها تحول بصرها سريعًا للجهة الأخرى وقد قابلها أضواء الطريق الخافتة وأمل صديقتها المحدقة بها بقلق وخوف حقيقي:


-في إيه يا مليكة؟


كانت أخر جملة تصل إليها قبل أن تتحرك السيارة ببطء في البداية فتداركت مليكة موقفها بالإضافة إلي هاتفها الفاصل فقالت بصوت مرتفع:


-تليفوني فاصل، كلمي بابا مصطفى يلحقني.


-يلحقك فين؟


قالتها "أمل" سريعًا وهي تركض خلف السيارة ولكنها فشلت بسبب سرعة السيارة بينما أحست مليكة بفقدان الأمل وحاولت فتح الهاتف مرارًا وتكرارًا ولكن قد نفذ مخزون الشحن وبقيت هي في تلك الكارثة وحدها.

                                           ***

قبل قليل..

حرك "زيدان" قلمه بعشوائية فوق مكتبه، مفكرًا بجدية حول تعليمات يزن الجنونية، لم يتوقع أن يصل به الأمر لتلك الوقاحة في التعامل مع مليكة، ولكنها هي من أجربته على ذلك، فقد حاول مرارًا وتكرارًا التعامل بشكل لطيف ولكنها دائمًا تضع مائة حاجز بينهما، فشعر باليأس من الوصول لقلبها من جديد، وبذات الوقت يشعر برغبة جامحة في مزج عاطفتهما كما كان سابقًا، لقد كان ساذج وأحمق حين تمسك بأفكاره وتخلى عنها بكل بساطة أوجعتهما فيما بعد، بالإضافة أنه حاول كثيرًا الوصول إليها ولكنها كانت دومًا تقف بالمرصاد له، تترفع عنه بكل كبرياء، فأحس بإهدار كرامته وخاصةً حين أخبره أحد أصدقائه عن سوء نيتها وأنه ليس سوى صيد ثمين  تحاول اقتناصه، فـ أصدر فرمان ضد قلبه معلنًا فيه العصيان على مشاعره.


-ما كنت اتنيل واتجوزها كان عيالي دلوقتي بيلعبوا حواليا، بدل الهم اللي أنا فيه.


قالها بحنق قابضًا فوق قلمه بعنفوان شديد، متراجعًا عن ذكريات الماضي محاولاً التركيز في حاضره فأولى اهتماماته حاليًا تتمثل في عودتها له.

ترك قلمه جانبًا، جاذبًا نفس عميق قبل أن يمسك هاتفه مقررًا الاتصال بأحد زملائه وأصدقائه بالقسم وبعد محاولات عديدة رد صديقه أخيرًا:


-محمود...أنت سامعني.


جاءت أصوات متداخلة في البداية مما جعله يفقد السيطرة على نفسه وقال بعصبية مفرطة:


-ما تقف في مكان في شبكة يا عم.


وبعد عدة ثواني قال محمود:


-أيوا انت كدا سامعني.


-اه اه سامعك، بص بعتلك معلومات واحدة على واتس عايزك تجبلي البنت دي هنا على القسم، بس خد بالك في معاملتك معها يا محمود دي حد مهم بالنسبالي.


صمت مطبق اثار حفيظة زيدان حتى قال عدة مرات:


-أنت يابني سامعني، محمود.


-اه..سامعك، خلاص ماشي سلام.


اغلق الاتصال أخيرًا وملامحه واجمة مفكرًا في رد فعلها، قد يكون غضب جنوني أو صدمة مثلاً بالتأكيد لن تكون سعيدة أبدًا، وسيحظى ببعض المشاحنات ولكن يكفي رؤيتها والحديث معها في فترة أطول دون الهروب منه.

                                                  ***

بعد قليل..

وقفت "مليكة" قبال مكتبه والشر يتصاعد من عينيها المتوهجة بنيران الانتقام لِمَ فعله بها فقالت بصوت متهدج تحارب رغبة متوحشة في الانقضاض عليه تنهي حياته بيديها ذلك المستفز:


-أنت عارف ومدرك اللي عملته فيا؟


سألته بتهديد وبصرها مثبت فوق عدستيه الهادئة فكان ينقاضها تمامًا بجلسته الهادئة وابتسامته الوقحة:


-اه.


تقدمت "مليكة" خطوة لإمام وسألته بنبرة مرتفعة ووجهها يتوهج باحمرار أعجبه فمالت نظراته للهيام غير مدركٍ ما تمر به:


-ياعني عادي عندك تجبني القسم واتفضح؟


-مين جاب سيرة الفضيحة، هو انتي اخر مرة زعقتي وشوحتي بايدك الحلوة دي عشان مجيش شغلك تاني.


أخفت يدها خلف ظهرها بحرج وأومأت بقوة ونبرة معنفة:

-اه، عملت كدا.


حرك كتفيه بلامبالاة ممزوجة بالبساطة:


-بس خلاص جبتك شغلي أنا، بسيطة ومش محتاجة تعقيد.


دارت حول مكتبه في عصبية وغضب عارم تزامنًا مع توسع حدقتيها بصدمة من وقاحته في استغلال ذلك الأمر، وهتفت بحنق:


-تجبني في البوكس..أنا اركب البوكس و تدخلني قسم يا مجنون.


مالت بنصف جسدها نحوه وكورت قبضتيها في غيظ:


-اقتلك على اللي عملته فيا.


-تقتليني عشان بحبك وعايز اشوفك.


خرج اعترافه سهوًا عنه وكأن مشاعره فاضت ولم تعتد تحتمل كتمانه أكثر من ذلك، فكان وقع اعترافه عليها كوقع زلزال قوي دك حصون فؤادها فرمشت بأهدابها عدة مرات تستوعب ما يفعله ذلك المجنون من بداية اصطحابها للقسم بسيارة الشرطة حتى اعترافه بتجديد ميثاق الغرام بينهما.

نهض زيدان مستغلاً حالة التيه التي تلبستها واقترب خطوة هامسًا بحب:


-بذمتك مش مبسوطة انك شوفتيني، بلاش دور انك مش طايقني دا عشان مبقاش لايق عليكي.


أطرقت برأسها ثوان قبل أن تجيب بنبرة معنفة تخفي خلفها ارتباك أصاب تماسكها:


-زيدان لو اللي أنت بتقوله دا صح، فبعد اللي انت عملته دلوقتي مخليني مش طايقك فعلاً.


تسأل ببراءة زائفة:


-أنا عملت إيه، دا كله عشان قولتلك بحبك.


استدارت سريعّا تخفي أثار اعترافه عليها، تحاول التمسك بأوجاع الماضي في محاولة ضعيفة لتجاهله، دارت حول المكتب وهي تقول بنبرة تأرجحت بين الغضب والضعف:


-انت عارف كويس اقصد إيه، ومفيش حاجة هتغفر انك جبتني في البوكس.


-لا دي أنا مظلوم فيها، محمود اللي فهم غلط.

رد اثار صدمتها فأردفت بضيق:


-وأنت تجبني ليه أصلاً هنا؟


-عشان اشوفك.


أجاب ببساطة أدهشتها فدفعتها لتقول بتعجب:


-تقوم تبعت ظابط يجبني.


-ما أنا لو كنت جيت بنفسي كنت هترفضي، فقولت اجيبك بطريقة رسمية.


كانت إجابته صادقة هادئة ظنت بها بعض البرود فثارت بجنون:


-دا حب دا...أنت كدا يعني بتحبني.


-والله الحب عندي كدا، عاجبك تمام..مش عاجبك...


صمت قليلاً قبل أن يقول ببسمة واسعة:


-هيعجبك بردو، مليكة أنا حقيقي ببذل مجهود في حياتي معاكي مجربتش اعمله مع حد تاني.


حولت بصرها تلقائيًا نحو الخاتم باتهام واضح لم تصرح به علنًا، ولوهلة بدأ يشعر بواقع خطة يزن، وقبل أن يردف بكلمة، طرق العسكري الباب عدة مرات، فعاد زيدان لمقعده مشيرًا له بالجلوس، فامتثلت له على مضض، وقبل أن يدلف العسكري خاصها بنظرة محملة بمشاعر الحب امتزج فيها الأسف، فارتبكت وأخفضت بصرها تحاول الافلات منه.

دخل العسكري قائلاً برسمية:


-والدها برة يا افندم.


-والد مين؟


تسأل زيدان بتعجب، فرد العسكري سريعّا:


-والد الدكتورة يا افندم.


نهضت مليكة تهتف بهمس:


-بابا مصطفى.

_____________


الفصل العاشر..


-أنت مدخلتش بابا مصطفى ليه؟


تساءلت في قلق امتزج بالضيق من بروده في وقت لا يحتمل فيه تصرفاته الجنونية، فرد بتساؤل مقابل والتعجب يغزو حروفه:


-مين عرفه انك هنا؟


تحاملت على نفسها وردت في هدوء:


-أنا كلمته قبل ما ادخل من تليفون واحد.


أسبلت اهدابها لحظات قبل أن ترفع بصرها وترمقه بحنق والاحمرار يغزو وجهها من جديد:


-عشان كنت مفكرة رايحة في مصيبة.


خرجت نبرتها مكتومة فابتسم لها مردفًا بهمس:


-وأنتي ينفع تروحي في مصيبة وأنا موجود.


ابتعدت ببصرها بعيدًا عنه تخفي خجلها في قولها الصارم: 


-بابا مصطفى كدا هيقلق، دخله.


خصها بنظرة حانقة قبل أن يتمتم:


-مالكيش في الرومانسية.


رفعت أحد حاجبيها له في غيظ وقبل أن تتحدث قطع عليها فرصتها وسمح بدخول السيد "مصطفى"، وما هي إلا ثوان قليلة حتى دخل  ووجه يعبر عن مدى قلقه وتوتره وما أن وقعت عيناه عليها بكامل صحتها حتى تنفس صاعدًا متمتمًا:


-الحمد لله، انتي كويسة يا حبيبتي.


وقبل أن تنهض اندفع نحوها يحتضنها بعناق أبوي هدأ من الارتباك المسيطر عليها، فتركت نفسها تستمتع بتلك اللحظات، بينما زيدان كان يشعر بغليان وهو يتابع عناقهما، شاعرًا بالغيرة تنخر عقله وخاصةً أنه ليس والدها بل زوج والدتها المتوفية، فقرر قطع لحظتهما بصوته الخشن والحازم:


-اتفضل حضرتك.


ابتعد "مصطفى" عن مليكة وبدأت الحياة ترسم معالمها فوق ملامحه بعد أن كانت باهتة:


-هو في حاجة حضرتك، بنتي دكتورة وكانت في شغلها...


بتر زيدان حديثه وهو يشير له بالجلوس متظاهرًا بالجدية:


-حضرتك والدها؟


-ايوا يا افندم..


أجاب "مصطفى" بتلقائية، فقرر زيدان التلاعب بأعصاب مليكة مستمتعًا بمشاعرها المشحونة بالغضب والارتباك فقال بخبث كان على علم بإثارة عصبيتها:


-بطاقتك لو سمحت.


أخرج "مصطفى" إثبات شخصيته على الفور واضعًا إياها فوق المكتب بينما كانت مليكة تتابع ما يحدث بصدمة من وقاحته المتزايدة، فتعمدت النظر إليه وتثبيت بصرها في جرأة تحمل التهديد اللاذع.


-بس أنت مش والدها...


خرجت حشرجة منها قاصدة بها جذب انتباهه، وقد نجحت في ذلك حين حول بصره نحوها متسائلاً بنبرة هادئة لطيفة أشعلت فتيل غضبها من استفزازه له باستمرار:


-اجبلك مايه؟


-لا.


قالتها بانفعال ممزوجًا بالتحذير مما يفعله، فتجاهلها عن قصد وأردف:


-نكمل شغلنا..اه..أصل أنا لازم اشوف شغلي.


تابع حديثه وهو يثبت بصره فوق مصطفى المتابع لهما بعدم فهم:


-نكمل؟


تسأل زيدان في رسمية مصطنعة، فهز مصطفى رأسه بإيجاب بينما كانت مليكة تحارب شعور يدفعها بجذب أي قطعة حديدية والصاقها بوجهه عمدًا عما يفعله بكل وقاحة، وخاصةً هي تعلم أنه يعشق التلاعب بأعصاب الأخرين وتحديدًا إن كانت هي.

                                       **

بعد قليل..


خرجت مليكة من الغرفة هي ومصطفى ووقفا معًا يستكملان حديثهما مع زيدان المودع لهما بكل لطف اثار إعجاب مصطفى:


-احنا متشكرين جدًا لزوقك يا باشا.


-انا معملتش حاجة وان شاء الله يا دكتورة مليكة الظابط اللي ركبك البوكس دا هيتكدر متقلقيش.


رفعت حاجبيها معًا من لطفه الزائد وشعرت بمحاولته لإتمام شيء ما بداخله وبالطبع هي تجهله ولكن لم يمنعها تفكيرها في الرد عليه بطريقة ذكية جعلت الابتسامة تعلو ثغره:


-والله أنا شايفة ان المفروض اللي يتكدر هو الظابط التاني..بجد قليل الذوق بشكل مش طبيعي، حقيقي لازم توصله أن  أنا مكرهتش حد في حياتي قده.


ضغط مصطفى فوق يدها بتحذير محاولاً استدراك الأمر خوفًا عليها من الوقوع في خطأ ما ولكن رد زيدان ادهشه:


-هقوله حاضر.


حمحم مصطفى محاولاً إنهاء وقفتهما تلك فقال:


-فرصة سعيدة يا باشا، يلا يا مليكة.


اومأ زيدان برأسه وتركهما يسيران باتجاه ممر الخروج، بينما كان مصطفى يسير بجانب مليكة معاتبًا إياها بهدوء:


-ليه كدا يا مليكة، الراجل كان زوق جدًا معانا.


-اه فعلاً زوق جدًا.


قالتها بانفعال خرج سهوًا منها، يبدو أن ما تمر به فاق طاقتها فلم تعد مسيطرة على أي رد فعل أبدًا لذا التزمت الصمت تمامًا في ظل إعجاب مصطفى بزيدان وقبل أن يخرجا نهائيًا أوقفهما عسكري يخبرها بضرورة عودتها لغرفة التحقيق مجددًا لاستكمال أوراق مهمة..مشددًا على وجودها وحدها، فاضطر مصطفى للجلوس بالخارج بينما دخلت مليكة للغرفة وقد بدا وجهها هادئًا أو أنها اعتادت على الوضع:


-خير يا زيدان؟


نهض من مقعده متجهًا نحوها حتى وصل أمامها مباشرةً محركًا يده في جيب سرواله وهو يمرر بصره فوق ملامحها في تروٍ أشعل أحاسيسها المحاطة بجبل جليدي تحاول حمايته كي لا ينصهر ويبقى قلبها بلا حماية في مواجهة عنفوان مشاعره وبالنهاية ستجد نفسها رهينة مستقبل مجهول تخشى معظم معالمه.


أمسك أخيرًا ببصرها الهارب دومًا منه قائلاً بنبرة هادئة:


-اللي قولتيه من شوية كان بجد؟


رمقته بنظرة مطولة تدرك تمامًا ما يحاول الابتعاد عنه والهائها بأمورٍ يعلم تمامًا أنها ليست سوى عناد نابع منها له عما فعله من قبل، فردت بنبرة صريحة حازمة وكأنها لاعب متمرس يعلم تمامًا دواخل خصمه:


-قول اللي انت عايزه من غير لف ودوران.


زفر بخفة ومن بعدها زحفت ابتسامة فوق ثغره مردفًا بنبرة حانية خرجت من أعماق قلبه:


-متزعليش، أنا كنت عايز اشوفك بس.


عادت تبحث بين وجهه ونظراته عن أي خداع تستطيع من خلاله الابتعاد عنه، ولكن كالعادة لم تجد سوى مشاعر صادقة خارجة من بركان متأجج بالعاطفة، دومًا تدرك حقيقة مشاعره وصفائه نحوها ولكن لحظة فراقهما وسرعة تخليه عنها تؤلمها كثيرًا، فقالت بجفاء:


-ماشي، في حاجة تانية ولا امشي.


كانت تظن أن نبرتها الجافة والحادة ستحطمه ولكن هي من تحطمت وتحديدًا عقب نظراته الهائمة في ملامحها، فزادت نبضات قلبها بجنون وكأنها أوشكت على كسر صدرها من شدة سعادتها لمحاولته المستمرة  في استرضائها حتى من خلال التقاء عيونهما في لحظات كانت تسمح بها لعدستيها باختطاف لمحة بسيطة لتقاسيم وجهه الوسيمة تروي بها ظمأ قلبها.


-اه في حاجة تانية، مينفعش الاحضان اللي حصلت دي تتكرر.


عبست بوجهها متسائلة بعدما استطاعت السيطرة على ذاتها المنساقة خلفه:


-أحضان إيه؟


-أنا عارف ومقدر أنه أبوكي اللي رابكي، بس مهما كان بردوا دا مينفعش ولازم تعرفي أنه...


بترت حديثه بعدم فهم وكأن عقلها يخشى ما يحاول إيصاله لها، وحين ادركت ذلك منه سارعت بإسكاته في انفعال قاسٍ بينما انهمرت دموعها من مقلتيها في لحظة فقدت السيطرة عليهما، وشقت طريقًا في خديها، فظهرت بحة حزينة التصقت بصوتها الباكي وهي تقول:


-علاقتي بـ بابا مصطفى مالكش دعوة بيها نهائيًا، أنا محرومة من كل حاجة متجيش وتقف على أكتر حاجة بتحسسني بالأمان، انت مستكتر عليا أحس أني انسانة طبيعية ليها أب يخاف عليها؟


حرك رأسه بنفي يبعد عنه ذلك الاتهام، فكل ما يقصده هو تسليط الضوء على فعل ربما هي لم تدرك أنه خطأ بالإضافة إلى شعوره بالغيرة وكان ذلك أمر طبيعيًا يشعر به كلما تتحدث عن مدى حبها لزوج والدتها في السابق،  ورغم مرور أعوام على فراقهما لم تتغير مشاعره نحوها بل كانت تتضخم في صمت حتى أنه كاد يظن أنه سيموت صريعًا لعشق لم يتهنى به ووصف نفسه حينها بالأحمق .


انتبه على تحركها نحو الباب، فسارع بالتقدم منها متجاهلاً شعور قوي بطبع قبلة عميقة في كفها الصغير القابض فوق مقبض الباب، فهمس باسمها كي تتوقف وبذات الوقت رفض بصره التخلي عن دموعها المتسابقة في جنون وكأنه ضغط فوق جرح غائر وهو لا يدرك، تنهد بعمق قبل أن يحاول توضيح وجهه نظره حيث أعلنت عاطفته تضامنها الصريح مع دموعها متغاضيًا عن عقله المتمسك برأيه في تنبيهها:


-مليكة أنا مقصدتش كل اللي أنتي فهمتيه، أنتي عارفة كويس...


مجددًا تصر على قطع حديثه حين قالت بإجهاد واضح في نبرتها:


 -مش عايزة اعرف حاجة يا زيدان، كل اللي انا عايزاه حاليًا أمشي.


سمح لنفسه بالانسياق خلف مشاعره وقرر ملامسة يدها الموضوعة فوق المقبض، فسحبتها سريعًا بخجل استطاع اثبات نفسه وسط اجهاد تقاسيم وجهها والحزن البادي بعينيها.

سمح لها بالخروج بعدما ابتعد وأفرج أخيرًا عن قلبيهما، ورغم مرارة نهاية لقاؤهما إلا انه سعيد جدًا بالتطور الذي حدث بينهما، وبعد جدال طويل مع نفسه قرر متابعة خطة يزن فمن الواضح أنه لديه خبرة طويلة بالفعل مع النساء.

                           

                                  ***   

لا زالت نهى تتأخذ فراشها موضوعًا في الانزواء عن العالم بأجمعه بعد صدمة زلزلت كيانها..لقد تعكر صفواها التي كانت تسعى لأجله، وأصبحت تمقت عاطفتها المتمثلة فيه..حتى قلبها أصبحت لا تطيق نبضاته وتتمنى لو تصمت نهائيًا، وعندما قررت اللجوء لفكرة الانتحار مجددًا لم تجد قوى تساعدها في ذلك، فبقيت كجسد مريض يتوسط فراش لعين وسط غيمة فارقت بها روحها التي لم تتذوق طعم السعادة قط بل كانت تعيش لتتمنى حتى التمني فشلت في تحقيقه!

شعرت بدخول أحدهم للغرفة ولكنها لم تبدي أي رد فعل، حتى مع هدوء الخطوات نحوها التزمت الصمت..صمت قد تعودت عليه وأصبحت لا تطيقه لو تملك فقط صلاحية الصراخ علنًا للتنفيس عن مشاعرها حتمًا ستهدأ وتشعر حتى لو بقليل من الراحة.

اغمضت جفونها بقوة ترفض الاستماع لصوت الخادمة الحاني:


-يا ست البنات قومي كلي أي حاجة تسندك.


ألم تشعر بالملل من محاولاتها تلك؟،  تسألت نهى بتعجب وقد اختلط عليها الأمر في تفسير ما تسعى إليه تلك المرأة؟ فاندفعت بجسدها المنهمك في وصلة بكاء وتشنجات متواصلة منذ ليلة أمس تهاجم مشاعر الأخرى بشراسة:


-أنتي عايزة مني إيه، انتي متخيلة ان مصدقة انك بتحبيني؟


توسعت أعين الخادمة بذعر من اتهامات متراشقة نحوها، فسارعت بالدفاع ونبرتها تتأرجح بين الحزن والشفقة:


-والله يا ست البنات بحبك وما عايزة منك أي حاجة غير أنك تبقى كويسة.


ضحكت نهى بسخرية وعدم التصديق يلوح من عينيها المنتفخة وواصلت هجومها بشراسة أكبر:


-انتي متخيلة اني مصدقة حبك دا، ليه أنتي بس اللي بتحبيني؟ ليه كلهم بيكرهوني وأنتي غيرهم؟ لازم تكوني معاهم.


أحست الخادمة أن ذلك الهجوم السافر لم يكن موجهًا نحوها اطلاقًا بل كان مصوبًا نحو نهى ذاتها....وكأنها اصبحت مرآة تواجه فيها مشاكلها مع الأخرين.

ومع استمرار صمت الخادمة وارتفاع صدر نهى وهبوطه في وتيرة سريعة بعدما فقدت القدرة على التمييز وأصبحت غير قادرة على تقبل مشاعر الحنان والحب..وكأن قلبها تعود على الصدمات، عادت نهى بوهن تستلقى للخلف، تغمض جفونها بتعب وإرهاق لازم روحها مؤخرًا، فتابعت الخادمة انكماشها في الفراش وكأن لحظة الشجاعة التي تملكتها اضمحلت بعدما نجحت في الهرب من ضعف فارض طغيانه عليها، فبدت كـ لوحة امتزجت فيها ألوان الحزن لتعبر عن أميرة ترقد في فراش الموت بعد فقدانها لحبيبها.


-يا ست هانم انتي جميلة وألف مين يتمناكي ليه تدفني نفسك مع واحد تستاهلي أحسن منه.


صمت مطبق من ناحيتها ولكن الجيد في الأمر أنها لم تعود بكامل جسدها للنوم، فقد استندت بظهرها على ظهر السرير تتابع حديث الخادمة بعيون فاقدة للشغف فاستمرت الأخرى في متابعة ما تقوله ومحاولة إظهار حسن خصال نهى بكل صدق وحب:


-انتي طيبة وبنت أصول ولو هو مش عايزك يبقى مع السلامة، والله بكرة لما تتجوزي غيره هتقعدي تضحكي على نفسك.


ابتسمت نصف ابتسامة باردة وهمست بصوت مبحوح:


-تعرفي أنا زعلانة من نفسي اوي.


عقدت الخادمة ما بين حاجبيها بتساؤل صامت، فجاءها الرد من قبل نهى الباكية بانهيار:


-مقدرتش اواجهه ....حاولت اكلمه اقوله ليه عملت فيا كدا، مقدرتش...


صمتت قليلاً عندما تحشرج صوتها واختنق بفعل اضطرابات تصيب صدرها المشحون بمشاعر الخذلان والضعف:


-خفت اسمع كلام يوجعني، نفسي اوجعه بس مش عارفة، أنا فيا إيه ناقص عشان يعمل فيا كدا؟


صرخت في أواخر حديثها فسارعت الخادمة بتهدئتها من خلال تربيتات خفيفة فوق ساقيها مردفة بحنو:


-الحب مش بإيدينا يا ست البنات، ينفع تضغطي على قلبك وتقوليله يحب مين وميحبش مين أصله مش ريموت، دي حاجة كدا ربنا بيزرعها فينا.


لم تكن الخادمة تدرك بأن واقع كلماتها كانت مجرد دفاع عن زيدان، فبساطتها جعلتها تفيض بما داخلها دون توخي الحذر من نهى المحطمة التي كانت تعاني من اضطراب نفسي فمعظم ما قالته الخادمة لم يصل بمفهومه الصحيح لنهى، وكأن عقلها يعاني من حواجز منيعة لتقبل الواقع كما هو، فما زالت تدور حول نفسها في إيجاد سبب لرفض زيدان لها.


-وليه محاولش معايا؟


- ان شالله عنه ما حاول، المهم أنتي تحاولي عشان نفسك.


مسحت نهى دموعها بطرف أصابعها وتمتمت بعتاب:


-اللي عملتيه أنتي وماما فيا كسرني، خلاني ولا قادرة اواجه ولا حتى أرمي الدبلة في وشه.


كانت مجرد كلمات خائبة تخفي خلفها ضعف شخصيتها، لم يكن ذلك السبب الحقيقي في إنهاء قصتها معه، فكان السبب يتمثل في عدم قدرتها على الوقوف أمامه ولا النظر في عينيه، حتى أنها تساءلت بحيرة متى ستستطيع دفن حبه نهائيًا؟ متى ستتخطى فكرة زواجها منه؟ هل ستصبح أسيرة لعلاقة اتسمت بالعقم؟ هل ستظل تتلقى الصدمات هنا وهناك دون مأوى يحميها من هلاك مُحتم؟ كانت مجرد أسئلة ترفض البحث عن إجابتها لعلمها بمرارة واقعها وأن الذنب يحوم حولها لتشبثها الزائد به وكأنه تعلق مرضي غير قادرة إنهائه. 

 انتبهت على حديث الخادمة الذي يبدو أنها تتحدث منذ فترة وتدافع عن نفسها بينما هي كانت تغرق في عمق وجدانها:


-أنا لما قولتلها الفكرة دي عشان بس نحاول ننقذك يا ست الكل، حرام شابة جميلة زيك تموت كدا وتنهي حياتها بإيدها..الحياة جميلة ونعمة كبيرة.


أثار حديث الخادمة التهكم في عيون نهى حتى أنها قالت:


-مش حاسة بأي نعمة فيها.


-لا ازاي، وصوتك الجميل اللي بسمعه دا نعمة، يا ست الكل معنى انك بتسمعي وبتاكلي وبتتكلمي وعايشة حياتك من غير مرض دا في حد ذاته نعمة.


وماذا عن ابتلاء القلب، هل جربتي قساوته من قبل؟

 كانت تريد نهى البوح بذلك ولكنها اكتفت بالحمد في همس مصاحب لتنهيدة عميقة خرجت من صدرها أخيرًا وكأن هناك جزء ثقيل قد أُزيح من فوق صدرها وسمح للهواء بالدخول لصدرها المرهق من ليلة قضاها في التشنجات والانقباضات.


-انتي عارفة يا هانم، انتي عايزة إيه؟


لم تجيب نهى بل ظلت صامتة تتابع حماس الخادمة البريء دون إبداء أي اهتمام، حتى أن الأخرى شعرت قليلاً بالحرج من صمت نهى المتعمد ولكنها لم تعير لذلك اهتمامًا وتابعت بنفس نبرة الحماس:


-إيه رأيك لو تسافري معايا البلد تعيشي كدا يومين في روقان وراحة من غير حاجة تنكد عليكي، تشوفي ناس جديدة وتشغلي نفسك بحاجة غير اللي بيوجعك.


يا ليت علاجها يتمثل في تلك البساطة ولكنها تعلم مرارة ألمها جيدًا، فمن الصعب مداوة جراح تأصلت بقلبٍ أصبح مشوهًا من كثرة ندباته.


-إيه رأيك اتحايل على ست هانم واقولها تسافري يومين؟


نهضت نهى من الجهة الأخرى للفراش وتابعت بخطواتها الهادئة نحو النافذة تفتحها على مصراعيها تستنشق بعض ذرات الهواء في محاولة منها للتفكير للخروج من شرنقة آلامها، وتردد بداخلها فكرة اللجوء للسفر وكأنها هي الحل الوحيد للابتعاد عن كل ما يسبب لها الألم! محاولة ساذجة ولكنها دعوة للأمل والتمسك بالحياة والبحث عن الذات.

ارتفع رنين هاتفها فالتفتت للخلف تسأل الخادمة الجالسة فوق الفراش وبحانبها الهاتف:


-مين؟


-استاذ ابراهيم بابكي.


جذبت نفس طويل قبل أن تقول بنبرة هادئة غلب عليها الوهن:


-هاتيه واطلعي انتي.

                                           ***

في صباح اليوم التالي..


خرجت "مليكة" من غرفتها تتابع استكمال ارتدائها لحجابها ووجهها المرهق يزداد في شحوبه أكثر حيث قضت الليل بأكمله في التفكير ولم تأخذ سوى قسط بسيط انقطع بسبب حلم كانت تركض فيه خلف والدتها وحينما اختفت نهضت مليكة تتنفس بسرعة كبيرة وكأنها تعاني من أثار الركض.

شعرت بحاجتها لزيارة قبر والدتها والتحدث معها في كل ما لم تستطع البوح به، ربما تشعر حينها براحة بسيطة تستطيع من خلالها استكمال رحلة إنقاذها من وحل ماجد والذي اصبحت على بُعد مسافة قريبة منه إما تنجو دون المساس بسمعتها إما يلوث شرفها ظلم وقهر ...أما زيدان فبكل الضغط الذي يمارسه عليها لم تشعر أبدًا بالخوف منه بل دومًا تتلذذ بفكرة وجوده حولها رغم أنها لا تظهر ذلك له.


تناولت وجبة الافطار مع زوج والدتها كعادتهما كل صباح ومن بعدها ودعته أمام الباب:


-زي ما قولتلك يا بابا..هروح لماما ازورها وبعدها أروح اقعد مع واحدة صاحبتي شوية.


أومأ مصطفى برأسه مبتسمًا وهو يعود بجسده نحو الطاولة:


-حطتلك فلوس في الشنطة عشان لو عايزة تشتري حاجة.


ابتسمت بامتنان وأغلقت الباب خلفها بينما اتجه مصطفى يتابع رفع الاطباق من فوق الطاولة واتمام مهمة تنظيفها بعد كل وجبة، ولكنه توقف في منتصف عمله ينظر أمامه حين غلب عليه شعور متمرد بسماع صوتها في تلك اللحظة أو الذهاب أسفل منزلها ينتظرها كعادته ليسرق منها نظرات خجولة ممزوجة بالغضب بالرغم تقدمها في السن إلا انها تملك حمرة قانية تكتسح وجهها حين تغضب أو تخجل.

زفر بتفكير وقرر اختيار أبسط الحلول وأقلهما ضررًا لها وجرب الاتصال بها وهو يعلم أنه حظه لن يحالفه أبدًا ولكنه تفاجأ بصدمة حين وجدها تجيب بنبرة حادة:


-الو..في إيه يا مصطفى بتتصل ليه؟


رباه لو تظل تكرر اسمه هكذا لن يمل أبدًا، فكان صوتها يملك نغمة خاصة بها تلازمها حين تنطق باسمه، فاندفع نحو غرفته يجذب صورها في مختلف مراحل عمرها من صندوق خشبي صغير يحرص على إخفاءه عن مليكة، ولم يكن يعلم بأن الاستماع لصوتها ورؤية صورها حفز لديه رغبة في رؤيتها وجهًا لوجه.


-نادية، ممكن أشوفك؟


 اندفع بسؤالٍ لم يكن يفكر به اطلاقًا لصعوبة تحقيقه فكان أكبر احلامه سماع صوته أما رؤيتها والجلوس معها أبعد ما يكون عن تحقيقها وخاصةً وهما في ذلك السن.


-لا مش ممكن، مصطفى لازم تفوق وتراعي سننا.


أجابت بحدة أخفت خلفها سعادة ورغبة حقيقية في الامتثال له.


-وهنفضل لغاية امتى نراعي كل حاجة غير حبنا؟


خالط سؤاله الألم المعبر عن الفراق المحتوم حولهما، متى سيشفق عليه قدره ويجمعهما في بيت واحد؟ حقّا لا يعلم حتى أنه بدأ يفقد الأمل تدريجيّا..لذا وضع الهاتف على مكبر الصوت وأمسك بصورها بين قبضتيه وكأنه يوجه لها كل مشاعره المدفونة، فوصله صوتها المتأثر بذكريات الماضي وأصرت على حصر حبهما في نطاق المراهقة كي لا تفتح في جراحٍ هي أضعف من مواجهتها.


-دا كان حب مراهقة و خلاص كبرنا..


رفض حديثها وقاطعها بانفعال مدافعًا عن حبه لها:


-عمرك ما كنتي حب مراهقة أبدًا يا نادية، أنتي حب حياتي اللي بتمنى يجمعني بيها بيت واحد.


ضحكت بتهكم ظهر فيه وجع فراقهما:


-بعد إيه..كانت فين الامنية دي زمان؟ 


شارع في إلقاء اللوم عليها من خلال قوله:


-أنتي اللي بعدتي عنه ومتمسكتيش بيا، مشيتي ورا أهلك واتجوزتي اللي هما عايزينه مع أنك عارفة أن كنت اتمنالك الرضا ترضي بس مكنش في ايدي حاجة وقتها.


- وأنت اتجوزت بردو ونسيتني..اتجوزت حتى بعد ما عرفت أن جوزي اتوفى.


-كنت بعاقب نفسي على حبك وفاكر أن لو رجعتلك ابقى بضيع كرامتي، مكنتش عارف أن روحي اللي ضاعت.


رد في صدق وأخبرها بجزء من معاناته النفسية في محاولة تدمير كل ذكرى تعلقت بها ولكنه فشل حتى في حرق صورها بل أنه حفظها بعناية فائقة وكلما زاده الشوق لها يركض إليها في حنين.


-وفايدة الكلام دا دلوقتي؟


-فايدته نرجع زي زمان على الاقل محتاجين تعويض حتى لو بسيط عن عمرنا اللي ضاع.


أجابها بصدق نابع منه، مما جعلها تسأله في ترقب تخشى سعادة لن تدوم طويلاً طالما يوجد طرف من الممكن لن يتقبلها:


-متأكد من اللي بتقوله؟، طب وبنت مراتك هتعمل فيها ايه؟

-مليكة!...تقصدي أيه؟


هبطت يداه بالصور وغرق عقله في تصور رأيها حول زواجه..


-هي هتوافق على جوازنا يا مصطفى ولا هتسببلك مشاكل.


انبثقت الحيرة من حروفه فبدا وكأنه يقدم على حقل ألغام وهو لا يدرك حجم مصائبه.


-مفكرتش ومش عارف ان كنت اقدر اقولها على جوازي.


-يعني هنفضل رهن موافقتها؟


ساد الصمت من ناحيته فأثار تحفظها منه مما دفعها لإنهاء الاتصال سريعًا:


-سلام يا مصطفى..سلام ومتفتحش معايا موضوع الجواز تاني طالما بنت مراتك موجودة معاك.


أغلقت الاتصال وتركت مصطفى وحده يعاني من آلام فراقها ثانية بعدما شعر بموافقتها المبدئية على فكرة زواجهما حتى وإن كانا في ذلك العمر، ولأول مرة منذ أخذ عهد على نفسه بتربية مليكة يصطدم بصراع ما بين قلبه وعقله.

لم يكن مصطفى على علم بأن هناك شخص آخر يسمعه وقد تلقى صدمة جديدة لم يكن يتوقعها...

_____________

قراءة ممتعة ♥️


تكملة الرواية من هنا

تعليقات

التنقل السريع
    close