القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية كبير العيله الحلقة 7/8/9/10/11/12/13/14 بقلم الكاتبه مني لطفي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج

اعلان اعلى المواضيع

 رواية كبير العيله الحلقة  7/8/9/10/11/12/13/14 بقلم الكاتبه مني لطفي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 


رواية كبير العيله الحلقة  7/8/9/10/11/12/13/14 بقلم الكاتبه مني لطفي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 


نظرت الى زوجها الجالس فوق الفراش يطالع أوراقا في يده, ترددت في البداية من الحديث اليه ولكنها عزمت أمرها واتجهت اليه قائلة بهدوء وان تلون صوتها برعشة طفيفة لم ينتبه زوجها الغارق في مراجعة الأوراق التي بيده لها:

- كان فيه موضوع إكده عاوزه أشورك فيه يا ابو غيث..

رفع عثمان عينيه اليها وقال بهدوء:

- خير يا ام غيث؟, موضوع ايه دِه؟..

اتجهت اليه لتجلس فوق طرف الفراش بالقرب منه وأجابت بابتسامة:

- خير يا أخويْ ما تجلجش, بس هو موضوع جديم وصار وجته دِلوَكْ اننا نخلّصه!

عقد عثمان حاجبيه في تساؤل ورتك الأوراق التي بيده والتفت اليها ليوليها اهتمامه كليّة وهو يستفسر:

- موضوع جديم ولازم نجفّله!, موضوع إيه دِهْ؟!

تنفست راوية بعمق وشحذت نفسها وقالت وهي لا تستطيع النظر الى عينيه الثاقبة:

- جواز الولاد!, معينفعشي نجعدوا رابطين البنتِّة جارنا إكده!

زادت تقطيبة عثمان وتساءل بحيرة:

- جواز مين وولاد مين وبنتّة مي نديْ اللي بتحكي عنيهم؟!

هتفت ببراءة مصطنعة:

- باه. انت نسيت ولا إيه؟, احنا مش جولنا انه هند بنت اختي زينب رايدينها لغيث ولدنا؟, وهند خلاص كِلها كم شهر وتخلص مُدرسة, يبجى نستنّى إيه بجه؟, أني عاوزة أفرح بولدي انّهاردِه جبل بُكره!

عثمان يفهم جيدا زوجته وما يدور في رأسها ولهذا ابتسم ابتسامة ساخرة صغيرة وقال:

- لاه, ريحي روحك إنتِ, وجت ما ابنك يريد يتزوج هيجول, وبعدين بت اختك لسّاتها اصغيرة واللي اعرِفُهْ انها عاوزة تكمّل علامها, يعني ما أظنيش توافج ع الجواز ..

هتفت راوية باستهجان:

- باه, واحنا عندينا بنات توافج وترفض؟, بوها موافج يبجى خلاص هي مالهاش كلمة تاني بعد كلمته!..

قطب جبينه ومال برأسه تجاهها وهو يردد بتساؤل دَهِشْ:

- انتي بتجولي ايه؟, بوها موافج؟, وانتي عرفتي منين انه موافج؟, اني ما اتحدتيتيش إمعاه خالص في الموضوع ديْ, كان كلام بيني وبينك لمّن جعدت تمدحي لي في بت اختك, وافتكر اني جولتلك اني بفكر فيعا بغيث ما دام هي منيحة اكده كيف ما بتجولي وأظن برضيكي اني جولتلك ونبّهت عليكي ما تجيبيشي سيرة لمخلوج ولا حتى أختك لغاية ما نتوكد انه غيث رايدها وموافج, حوصل ولّا لاه؟!

تلعثمت راوية في الاجابة وقالت وهي تفرك يديها الاثنتين:

- حوصل يا خويْ حوصل, واني ما جولتش حاجة لحد ما غيرها بس حبيت أجس النبض ولمّحت ع الخفيف لزينب أختي ووجتها اسيت انها مرحبة ومنى عينها انه حد من عيالنا ياخد بتّها وجالت لي انه زوجها مش هيوافج وبس لاه, دِه هيطير من الفرح كُمان لو دِه حوصل!

قبض على يدها بقوة شهقت بألم لها, وشدت أصابعه على أصابعها بقوة كادت أن تفتتها وتحدث بغضب مكتوم قائلا:

- كلمة ومش هتنّيها, إوعاكي تفتكري انك بتحطيني انا ولا ابني جودام الامر الواقع بحديتك مع اختك من ورايْ, ولدي مش بت عشان أزوجه بالطريجة ديْ!..

ثم مال هامسا أمام وجهها وهو يطالعها بقوة:

- اوعاكي تكوني فاكرة انى مش خابر انتي بتفكري كيف؟, لاه يا أم الوِلْد.. اني عارفك زين ةخابرك زين الزين كُمان!, ولو على جواز ولادنا خلاص.. تجدري تطمني.. كِلها حاجة بسيطة وتفرحي بيهم التنِّيين سوا!!..

شهقت بدهشة وهتفت ناسية ألمها:

- واه!, هيتجوزوا في ليلة واحدة؟!, على اكده اختاروا العرايس بجه؟!

عمل عقلها كالمكوك وهي تتمنى أن يخيب ظنها ولكنه تحدث بابتسامة ساخرة متشفية:

- اكيد اختاروا العرايس, أومال هيتجوزوا من غير عرايس ولاّ إيه؟.

نظرت اليه قائلة بتشكك:

- ويبجوا مين بالصلاة على النبي إكده؟, مش ع الأجل تجولي, أجلّه ظلني أمهم!

تركها ومال مفترشا السرير بطوله وأجاب بابتسامة صفراء مستهزئة:

- لاه اطّمني, عرايس تشرح الجلب ابصحيح, وأكيد هنجولك, ما تستعجليش على رزجك, ودلوك همّليني عاوز أرتاح شويّ.

نهضت راوية متجهة خارج الغرفة ثم وقفت في المنتصف لتلتفت اليه وتقول وقد قررت شيئا في ضميرها:

- طب ممكن أروح أزور أختي انهارده, اتوحشتها..

لم يكلف نفسه عناء النظر اليها وأجاب ببرود:

- روحي لها وماله....

ثم رفع رأسه وتابع آمرا وبصرامة:ط

- بس إياكي تجوليلها حاجة على زواج وما زواجش, بتّها اصغيرة على ولادك , بيناتهم اكتر من 15 سنة, اعجلي اكده عشان ما تخسريش أختك الوحيدة, اني حذرتك يا راوية ومش هجولك اني ممكن اعمل ايه لو خالفتي اللي جولتلك عليه!

طأطأت برأسها وهي تتمتم بالايجاب ثم استدارت متجهة للخروج بينما احتلت عيناها نظرة كره وحقد واعتلى وجهها تعبير الشر ما ان لفت بظهرها, وتوعدت في سرها قائلة:

- فكرك أني معرفش أنت بترتب لإيه انت وبوك؟, لكن لاه, على جثتي ان بنات ألفت يتزوجوا ولادي, ما كونيش راوية امّا خليت نأبهم يطلع على شونة, مش كفاية امهم خدت بوهم جايين هما كمان عاوزين يخطفوا ولادي منّي!!

*********************

نفخت سلافة في ضيق وهي تنظر الى غيث الواقف أمامها شزرا, عقدت ذراعيها بينما كان يتحدث الى أحد المحاسبين لديهم, وما إن انصرف حتى التفت اليها ليراها وقد وقفت تتحاشى النظر اليه عاقدة جبينها تزفر في حنق كالأطفال, كتم ابتسامته واتجه اليها حيث كانت واقفة بجوار النفاذة العر يضة بغرفة مكتبه في الديوان وانعكست أشعة الشمس على خصلاتها لتلمع كجناح غراب, وقف على بعد خطوات قليلة منها وهو يتطلع اليها عارفا بما سبب ضيقها وحنقها منه, ولكن كيف له أن يسمح لها بأن تقوم هي بتدريب الموظفين على النظام الجديد الذي أدخلته على العمل, لا ينكر أنها قد أجهدت نفسها في الاسبوع المنصرم, كانت تأتي معه باكرا وتقضي الساعات بين الملفات والأوراق حتى غروب الشمس, وأحيانا لما بعد الغروب, فقد نظمت بيانات جميع العملاء بل والفواتير والميزانية السنوية ونظام المدفوعات, وجدولة المديونيات, قامت بعمل كثير وفي مدة بسيطة وبإتقان رائع, وبقي أن يتدرب المحاسبون لديه على النظام الجديد, ولكنه أبى ورفض أن تقوم هي به, كيف تقف أمام عددا كبير من الرجال تتحدث وتشرح وذلك يسأل وهذا يستفسر, وهي تجيب بابتسامتها التي تثلج الصدور وتجعل الواقف أمامها يتيه سابحا في عالم آخر!

انتبه من شروده على صوت تأففها العالي ليضبطها وهي ترنو إليه بنظرة ساخطة, ارتفع طرفي فمه المظلل بشارب كثيف في شبح ابتسامة وتحدث مصطنعا البراءة:

- ايه رايك يا سلافة؟, أها... كل اللي جولتي عليه ماشي زي الساعة..

التفتت اليه وأجابت بحنق مكبوت:

- يا سلام!, هو فين دا؟, بقه أنا أشقى وأتعب وغيري ياخد على الجاهز؟..

اقترب منها وقطب بتساؤل:

- هو مين دِه اللي خد وخد ايه؟

أنزلت ذراعيها وسارت حتى وقفت أمامه وهي تجيب بحدة ساخرة:

- بقه حضرتك متعرفش مين وخد ايه؟, انا اسبوع كامل مواصلة الليل بالنهار لغاية ما رتبت كل الغل من فواتير وملفات وميزانية ومديونيات, كل اللي في الديوان هنا بقه داخل على سيستم الكمبيوتر اللي عممته هنا, ولما آجي بقه أشرح انا عملت ايه وأفهم الموظفين هيشتغلوا ازاي تيجي انت وبكل بساطة وسهولة وتقول – وضخمت صوتها مقلدة له – لاه يا بت عمي, ما عينفعشي انت اللي تدرِّبيهم.. أني هشوف مكتب متخصص في البرمجيات تشيّع لنا حد من عنديهم ايدرّبهم!

لم يستطع غيث كبح جماح ضحكته التى انطلقت عاليا مما جعل سلافة تقف فاغرة فاها, فمن يضحك أمامها ليس هو غيث ابن عمها البارد المتجهم دوما, لا.. ان من يقف أمامها الآن رجل ينضح جاذبية أكسبته ضحكة وسامة لم تنتبه اليها قبلا, ارتسمت ابتسامة شاردة على شفتيها الكرزتين, انتبه غيث الى تركيزها الشديد فيه, فهدأت ضحكاته ثم اقترب منها حتى اشتم رائحة عبيرها الخاص وهمس بصوت أجش:

- ايه يا بت عمي, فيه حاجة غريبه فيّ انهارده؟

نفت بهزة من رأسها وأجابت بصدق أسر لبّه:

- لا بس أول مرة أشوفك بتضحك بالشكل دا!, احنا تقريبا قربنا على 3 اسابيع هنا وفي المدة اللي فاتت دي نادر لو شوفتك ابتسمت على طول مكشّر, زي ما تكون خايف تضحك وشّك يشقق!!.

نظر اليها بدهشة وهتف:

- كيف دِهْ؟, ازاي يشجج يعني؟

زفرت سلافة بعمق وأجابت:

- لا دي شرحها هيطول, المهم حاول تضحك كتير لأن كُتر التكشير بتخلي الوشّ يعجز بسرعة, انت لسه ما دخلتش دنيا, استنى لما تدخل وبعدين اعمل ما بدالك...

ثم تمتمت بينها وبين نفسها:

- لو جدعه مش هتخليك تكشر, ولو اني خايفة شكلك انت اللي هتخليها تكشر, ما هو أصلكم باين عليكم عيلة بتمشي كلمتها في كل حاجة حتى التكشيرة!

قال غيث مقطبا:

- انتي جولتي حاجة يا سلافة؟

أغمضت عينيها ورفعت رأسها الى الأعلى ثم فتحتهما ناظرة الى سقف الغرفة وهي ترفع يديها هاتفة:

- الصبر من عندك يارب!.., ثم التفتت اليه وتابعت:

- أنا عاوزة أعرف حاجة لو ممكن... قبل ما نشتغل سوا ما كنتش بتنادي لي غير بت عمي, ودلوقتي من ساعة ما اشتغلنا مع بعض وانت حلي في عينيك اوي اسمي, كل شوية سلافة وسلافة, ما تنساه وتسكت؟!

واضعة يديها في منتصف خصرها, تظاهر غيث بالبرودة وأجاب:

- كفاياكي كلام مالوش لزمة, واتفضلي علشان نشوف المهندس اللي جاي يدرب الموظفين على البرنامج ابتاعك...

وقف مفسحا لها الطريق فابتسمت واتجهت اليه وما ان أصبحت بالقرب منه حتى نظرت اليه وقالت بابتسامة وكأنها تهنّئه على عمل ممتاز:

- أيوة كدا, السيدات أولا.. ليدز فيرست يا كابتن..

حرك غيث رأسه يمينا ويسارا يأسا من ابنة عمه ولسانها..

دخلت حيث الغرفة التي سيقوم بها مهندس الحاسب الآلي بتدريب الموظفين على كيفية استخدام النظام الجديد, وقف غيث بجانبها وأشار اليها قائلا بينما سكت المهندس عن الشرح:

- أستاذ منير.. أحب أجد ملك الأستاذة.....

هتف المدعو منير بغير تصديق وهو يبتسم ابتسامة واسعة:

- مين؟, سلافة الخولي!, مش ممكن!, أزيك يا.. سولي!

هتفت سلافة بحبور:

- معقول؟, منير عزمي!, أنا مش مصدقة عينيا!, معقول الدنيا صغيرة أوي كدا؟!

مد منير يده مصافحا سلافة وسط نظرات غيث الذاهلة والتي ينقلها بينهما, وما إن لمحها وهي تمد يدها وتخطو ناحيته للسلام عليه حتى سارع بالقبض على راحتها لتضيع بداخل يده العريضة وهو يحدجها بنظرات قوية استغربت لها بينما لفّ الى منير الواقف ولا يزال مادًّا يده أمامه وقال بابتسامة صفراء:

- أهلاً بك يا باشي مهندز!.

ارتبك منير وأنزل يده بينما نظرت سلافة بغيظ الى غيث وحاولت جذب يدها من قبضته القوية والتي اشتدت ما ان شعر بمحاولتها الفاشلة لترك يده, رسمت سلافة ابتسامة صغيرة فوق ثغرها الوردي وقالت موجهة حديثها لمنير وهى تستشعر شرارات تتطاير من ذلك الواقف بجانبها ولكنها تكون ملعونة لو خافت من تهجّمه الواضح, فمنير من أفضل زملائها في الجماعة ولن تدعي غير ذلك ولو من أجل ذلك الـ.. غيث!.

قالت سلافة:

- انا ما صدقتش لما شوفتك, اخبارك ايه يا منير؟

أجاب منير بابتسامة صغيرة وهو يسترق النظر الى ذلك العملاق الضخم الواقف بجانبها ينظر اليه شزرا بينما تعتلي سيمات وجهه البرود:

- الحمد لله يا سولي, انما ايه المفاجأة الحلوة دي, معقول انتي بتشتغلي هنا؟

ضحكت سلافة وأجابت وهي تنظر الى غيث بترفع والذي ضغط على أصابعها بقوة أشد ما أن سمع اسم التدلل الخاص بها يتلفظ به هذا المعتوه الذي ينظر اليها بابتسامة لزجة تتراقص على شفتيه:

- مش بالظبط, أنا جدي يبقى عبد الحميد الخولي صاحب المزرعة!

ليطلق منير صافرة طويلة و.... إلى هنا وكفى!, لم يستطع غيث الصمت أكثر من ذلك, هتف به بخشونة وغلظة:

- باجول ايه يا باشي مهندز, خلص التدريب للناس علشان عاوزين يروحوا بيوتهم, عن إذنك...

وخرج وهو يجذب سلافة معه, والتي رسمت ابتسامة اعتذار خفيفة وهتفت لمنير والذي وقف يراقبهما بتقطيبة حائرة:

- فرصة سعيدة يا منير, هشوفك تاني أكيد...

صاح منير بينما يخطو غيث خطوات واسعة جعلتها أشبه بالراكضة لتلحق به:

- أكيد يا سولي...

زمجر غيث وحاولت سلافة جذب يدها من قبضته بلا فائدة, حتى وصلا الى غرفة المكتب فدفعها الى الداخل بقوة وصفق الباب خلفه ووقف أمامها وهو يرغي ويزبد بينما أخذت تفرك معصمها موضع قبضته وقد تلونت بشرتها الرقيقة باللون الأحمر القاني, فعلمت أنها ستتلون بألوان الطيف السبعة في الغد..

هتف غيث وهو يقترب منها بحنق:

- انتي كيف تسمحي لنفسك انك تتحدتي مع راجل غريب بالطريجة ديْ؟ لاه وفين.. جودام الموظفين كُمان!, انتي جنِّيت أكيد!

هتفت سلافة بغيظ وقد اعتلت وجنتيها حمرة الغضب بينما تناثرت خصلات من شعرها حول وجهها ولمعت عيناها لغضبها الشديد مما أكسبها فتنة ظاهرة لم تنتبه لها:

- انت انسان رجعي ومتخلف!, منير دا يبقى زميلي وانا ما اتعدتش الحدود معاه, انت بتصرفك دا اللي خليت الكل يستغرب!

تقدم منها بخطوات سريعة غاضبة وقبض على مرفقها بقوة آلمتها وصاح بغضب:

- وكما بتعاندي في الغلط!, مية مرة جولتلك عندينا إهنه مش كيف عنديكم في مِصِرْ, جولتلك أي كلمة محسوبة على الحرمى خصوصي اننا اهنه في بلد اصغيرة, مش بندر ولا هو مركز, لاه, اهنه سلونا غير, يعني مينفعشي توجفي تضحكي وهو يجلعك بالطريجة الماسخة ديْ جودامي!, تجدري تجوليلي الموظفين اللي شافوكم دول هيجولوا عليكي ايه؟, ما تونطوجي؟, واحد غريب عم بينادم عليكي باسم ماسخ ومايع زييكي, هيجولوا ايه؟, احمدي ربك اني مسكت نفسي ولا كان هيوبجالي تصريف تاني!!

نظرت اليه بقوة وقالت بجدية بينما تلمع مقلتيها بشدة وكأنها النجوم تلمع في سماء ليلة شديدة السواد:

- انا اللي ماسكة نفسي لغاية دلوقتي احتراما انك ابن عمي الكبير, لكن كلمة زيادة صدقني مش هسكت, وطالما أي حاجة بعملها مش عجباك أنا هريّحك خالص!

وجذبت مرفقها بشدة واندفعت متجهة الى الخارج عندما صدح صوته آمرا لها بالوقوف, بينما سار اليها ليقف أمامها تماما ناظرا اليها ومال عليها وقال وهو مقطبا جبينه بحيرة وتساؤل:

- هتريحيني كيف يعني؟

نظرت اليه مجيبة ببرود:

- حاجة بسيطة جدا, هقطع أجازتي وأنزل مصر, أظن ان الزيارة طوّلت أوي بما فيه الكفاية, والعيلة اتلم شملها, يبقى مالوش لزوم قعاد أكتر من كدا, وقبل ما تتكلم – رفعت يدها مقاطعة اياه عندما وجدته يهم بالكلام وتابعت – انا بتكلم عني أنا, انا مش عاوزة أخلي بابا يسيب جدي وجدتي, انا بتكلم عن نفسي, الموضوع سهل جدا, انا هقطع أجازتي وهرجع مصر, والوقت اللي بابا حابب يقعده هنا هو براحته, فاطمّن خالص, اوعدك انه دي آخر مرة تشوف فيها وشي أو أعمل حاجة مش من عواديكم, عن اذنك!

وغادرت مسرعة تاركة له وهو يقف متسمرا في مكانه, حتى اذا ما انتبه, وجدها قد اختفت من أمامه فخرج مسرعا في إثرها وهو يتمتم بشراسة بينه وبين نفسه:

- انسي انك تخطي بجدمك خطوة واحدة برّات المزرعة يا سلافة, وابجي وريني يا بت عمي هتمشي كيف, خصوصي بعد ما بوكي يسمع اللي هجولهوله!

**************************

- اجعدي يا راوية يا ختي, زارتنا البركة...

جلست راوية على الاريكة المذهبة الكبيرة في غرفة جلوس منزل زينب التي رحبت بها بشدة, قالت راوية بابتسامة:

- منوِّر بوجودك يا اختيْ, عاوزاكي في كلمتين إكده..

قالت زينب بحبور:

- وماله, نشربوا الشاي وبعدين جولي اللي عاوزاه..

- فهمتيني يا زينب!

سألت راوية شقيقتها بعد أن أنهت حديثها, نظرت زينب اليها بتقطيبة خفيفة بين حاجبيها وأجابت:

- لاه, مش فهمانه!

زفرت راوية في ضيق وقالت بتأفف:

- ايه يا بنت أبوي, مش لازم لها نباهة ديْ!, عاوزاكي تشجعي هند بتّك انها تاجي عندينا كتير, عاوزة اللي ما تتسمى اللي حدانا هي وبناتها يعرفوا ان هند اللي داخله وهما اللي طالعين!

هتفت زينب:

- داخلين ايه وخارجين ايه يا أم غيث؟, انتي عم بتجولي ايه؟

راوية بتأن:

- افهمي يا زينب, أني عاوزة هند بتّك لغيث ولدي وأظن اني سبج ولمحت لك بإكده, كل اللي عاوزاه انّا نلحلحوا الموضوع شويْ!, خلي بتّك تعلج الحاج والحاجة فيها, هما اللي هيطلبوها بخشمهم لولدي غيث, ما تشوفي كيف بناتها واكلين بعجول الكل حلاوة!

نظرت زينب بحدة الى راوية وقد اشتمت رائحة غير مستحبة في الأمر وقالت بجدية بالغة:

- بجولك ايه يا راوية أني وبنتي مالناش صالح باللي بينك وبين مَرَتْ ابن عمّي, انتي كارهاها واني خابرة زين ليه, بس اني حاسّاها ست أصيلة والعيبة ما تطلعش منّيها والا ما كانيش عم الحاج وعمتي الحاجة حبوها, وجبلوها بيناتهم..

ارتبكت راوية وقالت بتلعثم خفيف:

- انتي جصدك ايه يا زينب؟, يعني ايه انتي عارفة سبب كرهي ليها؟, هيكون ايه غير انها السبب ان ولد عمي فاتك جبل الفرح وخلّانا سيرة في البلد كلاتها....

زينب بحزم:

- لا يا راوية دِه مش السبب!, وانتي خابرة زين انه وجتها الزعل مان بالأخص بوي وعمي , لكن اهل البلد ماحدش جدر يفتح خشمه منيّهم, ميجدروش يفتحوا عينيهم في عين كبير البلد, لكن اني خابرة زين ان زعلك وكرهك ليها لأنه ولد عمي فضّلها هي عليكي انتي مش عليّا أني!!

هبّت راوية واقفة وهتفت بسخط:

- ايه التخريف اللي عم بتجوليه دِه؟!, احنا كلاتنا عارفين انه بوي وعمك جروا فتحتنا من واحنا صغار اني لعتمان وانتي لرؤوف!

نهضت زينب وربتت على كتفها وقالت بابتسامة:

- ما تزعطيش إكده شين عشانك!, بس اللي بجوله دِه مش تخريف يا راوية, دِه أني سمعته بدناتي التنيين الدول!, كنت وجتها جاية لعمتي فاطنة ولاجيتك واجفة تحت التكعيبة اللي فيآخر الجنينة مع رؤوف, ربنا يسامحنى معرفشي ايه اللي خلاني أتسحب وأجف عشان عرف سبب وجفتكم إكده, يمكن لأني استغربت وجفتك إكده, المهم, وجفت وشفت وسمعت!

راوية باضطراب حاولت إخفائه:

- سمعت ايه وشفتي ايه؟

زينب وهي تدور حولها لتهمس في أذنها الأخرى:

- شوفت اختى الكبيرة وهي بتترجى ولد عمي, سمعتها وهي بتجوله انه يجول لعمي انه رايدها هي مش أختها الصغيرة, وان بوها مش هيرفض, التنيين أختين وهياخدوا ولاد عمهم, مش فارجة بجه مين لمين!

سكتت زينب بينما أحست راوية بالبرودة تغزو أطارفها, تابعت زينب بأسف:

- ولأسف ولد عمي صارحها انه فعلا هيكلم بوه بس مش عشانها هي لاه!, عشان بيحب زميلة ليه وعاوز يتجوزها!, وسمعته وهو بيجولك انه عتمان طيب وحنين , هو يمكن يبان انه شديد لكن جلبه أبيض, وفاتك واجفة ومشي, وجتها أني اتداريت بسرعة جبل ما يلمحني, وعشان تبجي عارفة عياطي وحالتي اللي حوصلت لمن فاتني مش عشان انه همّلني وراح يتزوج من تلبندر لاه!, دِه عشان اختي بنت امي وبوي هي اللي كانت عاوزة تاخد خطيبي منّي, وراحت رمت بنفسها عليه وجالت له انها بتحبه عشانه احنيّن عليها وانها بتخاف من عتمان, وهو حاول انه يطمنك من ناحية خوه, ويوم فرحك اني كنت شايفة الدموع في عينيكي وانتي بتحاولي تكتميها, ومرت الايام وربنا عوضني برياض, وفكِّرت انك خلاص نسيت الموال الجديم دِه, لكن لاه.. واضح انه لسّاته في بالك, واني ما تزعليش منّي يا ختيْ مش عاوزة أعرض بتي لحكاية جديمة, ومن الآخر إكده.. هند بتّي خوكي عدنان طالبها لوِلده زين وبوها وافج, بس اشترط عليهم انها تكمل علامها كيف ما بدّها!

راوية بغير تصديق:

- كل دِه في جلبك يا زينب وما جولتيشي؟

زينب بابتسامة حزينة:

- هجول ايه يا ختيْ؟, اللي فات مات, وخديها نصيحة من اختك.. انسي اللي فات يا راوية, أم سلمى مرة زينة والعيبة ما تطلعشي منّيها, جربي منها, وانسي حدوتة رؤوف ولد عمك دِه!

راوية بحدة:

- رؤوف ايه و حكاية ايه؟, لو ع الحكاية ديْ اني نسيتها من زمان, لكن اني مش هخليها هي وبناتها يسرجوا اعيالي منّي, ومش بس اكده لاه, والمال والحلال, ده أمي فاطمة مش بتجولها غير بتّي وبتّي, اني في وسطيهم بجالي اكتر من 30 سنة ما سمعتش كلمة بتي ديْ واصل!

زينب بتربيتة عطف على كتف أختها:

- نضفي جلبك يا اختي, وصدجيني هتلاجي الحب مالي جلوبهم من ناحيتك زييها تمام!!

أزاحت راوية يد أختها بحدة ونظرت اليها هاتفة:

- ومستغربة بكرهها ليه؟, اذا كانت جدرت تاخدك انتي اختي مني وتخليكي في صفها, انما ولا يهمك, اني جادرة أجف جوصادها لوحدي, وما بجاش راوية اما خرجتهم من البلد بفضيحة!

وانصرفت مغادرة بسرعة الصاروخ وزينب تركض في أثرها منادية لها ولكنها لم تقف, لتعود زينب أدراجها وهي تدعو في سرها:

- يا رب سلّم يا رب, يا رب اهديها يارب وعجّلها, اختي واني عارفاكي اجنانك مش على حد!

************************

- هتسافر ميتى يا راضي؟

أجاب راضي وهو يعقد عمامته جيدا حول رأسه:

- دلوك يا بوي بإذن الله..

اقترب ليث من راضي الواقف بجواره بينما يطالعهما عدنان بفخر, قال ليث بصوته الخشن الذي يرسل الرعب في النفوس:

- عرفت اللي هتعمله امنيح يا راضي؟, مسعود ولد الراجي لينا عنديه اكتر من 350 الف جنيه, فات شهر وما فيش ميلم واحد اندفع منيهم, اني كنت عاوز أروح له, بس انت اللي اتفجت امعاه من الاول, لو ما وافجش يدفع بالحسنى وجتها تبجى ديْ سكّتي أني!

راضي بابتسامته الطيبة:

- اطمن يا ليث يا خوي, الراجل مش حرامي, السوج بس جصّر امعاه, وان شاء الله هرجع ومعايا الفلوس, احنا ممكن نرفع عليه جضية بالشيكات اللي حدانا من غير رصيد, لكن اني بجول الطيب أحسن!..

عدنان بهدوء:

- تمام يا راضي, روح يا ولدي, تروح وترجع بألف سلامة..

مال راضي على يد والده يقبلها, وصافح أخيه الأكبر مقبلا رأسه ثم اتجه الى خارجا عندما توقفه صوت بكاء ضعيف, عرف مصدره من دقات قلبه المتسارعة’ فتش بعينيه قليلا ليبصر طرف عباءتها من خلف أحد الأبواب, فاتجه اليها ليفتح الباب ويدخل بينما شهقت سلسبيل وتراجعت للخلف, تقدم منها راضي وهو يقول بابتسامة:

- مالك يا جلب راضي؟, خفتيْ!

سلسبيل وهو تمسح وجنتيها بينما اقترب راضي يحيطها بذراعيه:

- طبعا, جلبي كان هيجف, انت المفروض كنت خارج, اعرف منين انك عاودت تاني؟

راضي وهو يحتضنها بقوة:

- سمعتك يا جلب راضي, مالي يا نور عيني, بتبكي ليه؟, هي أول مرة أسافر إيّاكْ؟

سلسبيل بحزن وهى ترفع عينان تلمعان ببريق الدموع:

- ما هى كل مرة بتكون كيف أول مرة, عشان خاطري يا راضي خدني معاك!.

أبعدها راضي عنه وهتف بابتسامة دهشة:

- باه!, جرالك ايه يا سلسبيل؟, تاجي معايا كيف؟, من ميتى وانتي بتاجي معايا في شغلي؟

سلسبيل وهي على شفا الانهيار:

- جلبي مجبوض يا راضي, مش عارفة ليه, عشان خاطري خدني امعاك...

احتواها راضي بين ذراعيه وقال بحنانه المعهودة:

- وانتي فاكرة يا جلب سلسبيل لو ربنا كاتب لي حاجة في السفرية ديْ انتي هتجدري تمنعيها عنِّيْ؟, يا جلب راضي اللي ربنا رايده هيكون ولو كنت في حضنك!

تنشقت سلسبيل عاليا ورفعت رأسها ناظرة اليه وهي تجيب:

- طيب اوعدني انك تاخد بالك من نفسك, راضي أني لو جرالك بعيد الشر هموت يا راضي, هموت!

نهرها راضي وهو يعتصرها بين ذراعيه:

- باه, ما تجيبيشي سيرة الموت, اني ما جادرشي أعيش دجيجة واحده من غيرك, انتي نوارة حياتي..

ورغبة منه بتغيير مزاجها مال عليها حتى ضربت أنفاسه الساخنة وجهها وقال بمكر:

- وبعدين عاوزين أول ما أرجع بالسلامة ان شاء الله نبدا في التالت بجه!, خلاص شبل كبر تلات سنين ما شاء الله عليه, نفسي في بنيّة تكون شبهك بالتمام, جهزي نفسك, مش هفوتك واصل, اعاود بس!..

هتفت سلسبيل وقد تخضب وجهها بحمرة الخجل التي تأخذ بلب راضي وهي تضربه بخفة بقبضتها الصغيرة على كتفه العريض:

- لازمته ايه الكلام ديه؟, أني اللي غلطانه اني بتحددت امعاك من أصله!

قال راضي وهو يعتصرها بين ذراعيه بينما سلط نظراته على ثغرها الشهي:

- لساكي بتخجلي برضيكي؟!, اهو خجلك دِه اللي بيدوبني فيكي دوب....

أسدلت جفنيها معترضة بضعف قضى على البقية الباقية من صبر راضي:

- راضي.. كفاياك!

هتف راضي: 

- كفاياكي انتي..

ليلتهم شفتيها في قبلة عميقة, راغبة , شغوفة, متطلبة, ولدهشته بادلته سلسبيل القبلة بقوة, بينما تطوقه بذراعيها النحيفتين بقوة تخالف بنيتها الضئيلة وكأنها تريد إدخاله بين جوانحها, قطع عناقهما صوت جهوري يناديه, ابتعد عنها وقال بابتسامة وهو يلهث:

- دِه ليث, شكله استعوجني, همشي اني وهبجى أطمنك علي لما أوصل ان شاء الله, لا الاه الا الله..

هتفت وهو يسحب يده منها:

- محمد رسول الله..

ووقفت تراقبه من شق الباب وهو ينصرف خارجا, ليصطدم نظرها بعينان سوداوين تطالعانها بنظرة غريبة أثارت الذعر في أوصالها, لتشهق مبتعدة الى الخلف لتختفي عن تلك العينان اللتان تشعر بهما وكأنهما يتغلغلان داخلها!..

******************

- آآآآآآآه, اعوذ باله من الشيطان الرجيم, اعوذ باله من الشيطان الرجيم..

نهض عدنان مفزوع ليبصر زوجته جالسة بجواره وعيناها مليئتان بالدموع, ناولها كوب الماء وهو يأمرها بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم, بعد ان ارتشفت عدة رشفات, وضع الكوب جانبا وهتف بقلق:

- خير يا أم ليث, ايه اللي حوصل؟

هتفت بصوت ضعيف متقطع:

- كابوس يا ابو ليث, كابوس شين جوي!

وفجأة تتعالى الاصوات خارجا ليعرف من بينها صوت ليث, وقد تسببت هذه الاصوات في ايقاظ سلسبيل التي لم تكن قد استرسلت في النوم بعد فقد جافاها هذه الليلة لمدة طويلة, خرج عدنان من غرفته ليجد ليث وهو يهرول بهلع بينما يديه تعملان بديناميكية للف العمامة البيضاء, نظرت سلسبيل من شق الباب واضعة يدها فوق قلبها تهدأ من ضرباته المتسارعة, هتف عدنان بإبنه الكبير:

- فيه ايه يا ليث يا ولديْ, ايه الصوت دِهْ!

أجابه ليث وهو يلهث:

- معرفش يا بويْ, ارتاح انت اني نازل اشوف مين اللي بيخبط بالطريجة دي!

ليسمعوا جميعهم صوت الغفير صابر وهو يصرخ ما ان فُتح له الباب:

- الحجني يا كبير, الحجنا.. راضي بيه اتجتل..

لتصرخ والدته عاليا وهي تضرب صدرها بقوة:

- ولدااااااااايْ..

بينما تسمرت سلبيل لتردد بدهشة وهي تهز رأسها يمينا ويسارا:

- لاه, راضي!, لاه, راااااااااااااااااضيْ!

وتركت نفسها تسقط في هوة سحيقة تسحبها الى الأسفل, فما رغبتها في حياة تخلو من حبيبها, ولكن....... تتلقفها ذراعين لم تخطيء أذن صاحبهما شهقتها الملتاعة ليحتويها بين ذراعيه القويتين حاميا جسدها من ارتطامه القوي المؤكد بالأرض الرخامية!!

الحلقة الثامنة

كبير العيلة (منى لطفي)

صوت آيات الذكر الحكيم بصوت الشيخ المنشاوي يصدح من المذياع, بينما يجلس الجد وابنيه عثمان ورؤوف مع عدنان وولده ليث في الاستراحة التابعة لمنزل عدنان, مع باقي رجال عائلة الخولي فقط, فلم يأت أحد من أهل البلد لتقديم واجب العزاء, فقد أقسم ليث أنه لن يتقبل أي عزاء في وفاة شقيقه الأصغر إلا بعد أن يأخذ بثأره ممن قتله!..

تحدث الجد والذي قصم موْت راضي ظهره, وقد كَبِر عشر سنوات فوق سنون عمره وقال بصوت خافت ولكنه متمالك لنفسه:

- عرفتو مين وِلْد الحرام اللي اعْمِلْها؟.

عدنان بنظرات حزينة وصوت مشروخ وقد شعر أن بموْت ابنه قد مات جزء من قلبه وروحه:

- ليث مش ساكت يا عمِّي, هنجيبوه فين ما يروح, هيروح منينّا فين؟

ليث بنظرات سوداء مرعبة وصوت غليظ:

- ولمّن نجيبه هخليه يتمنى الموت ما يطولوشيْ!

غيث وهو يربت على كتف ليث:

- وأني معاك يا ولد عمي في أي حاجة تريدها, جولي بس أعمل ايه وأني اعمله..

ليث بهدوء:

- تسلم يا ولد عمي, انما دِهْ طاري أني, وأني اللي هاخده بيديْ.

ثم صمت قليلا قبل أن يتابع بصوت قد اهتز بشكل طفيف:

- راضي ما كانِش خويْ وبس!, لاه.. دِه كان ابني كُمان!

تعالى صوت من بين الرجال الجالسين يقول صاحبه:

- احنا كلاتنا تحت امرك يا شيخنا, ابو عدنان ما كانيش ولد لوحديك ولا خوك لوحديك يا ليث, دِه كان ولدنا كلاتنا وابننا واخونا كًمان, واحنا رجابينا فداكم كلاتكم, اؤمروا واحنا علينا التنفيذ..

رؤوف بهدوء:

- دا العشم بردو يا رجالة...

ثم مال الى شهاب الجالس بجواره قائلا:

- طمني يا بني, اختك عاملة ايه؟

زفر شهاب بحزن وأسى وقال:

- 3 ايام لغاية دلوقتي وهي تايهة خالص, ساكتة, تصدق يا عمي انها من ساعة ما وقعت من طولها بعد ما سمعت الخبر وبعد ما فاقت ما عيطتش؟!, انا قلقان عليها اوي يا عمي, سلمى وسلافة معاها من وقتها وكل ما أجي ادخلها علشان أشوفها يقولوا لي انها رافضة خالص تشوف حد, حتى أمي ومرات عمي لما بيدخلوا عندها ولا كأنها حاسة بيهم, أنا بجد قلقان, بفكر فعلا أجيب دكتور يطمنا عليها...

وفجأة على صوت جلبة وضوضاء ثم ركض الغفير صابر الى الداخل بوجهه الملهوف واقترب من عدنان ليُسرّ اليه ببضعة كلمات أنتفض واقفا على أثرها ثم التفت الى رؤوف الذي وقف بدوره ليميل عدنان اليه هامسا:

- رؤوف يا ولد عمي خلِّك مع جدِّي والرجالة اهنه, أني هروح عند الحريم دجايج وجايْ!

انتبه ليث الى وجه والده الذي يعتريه القلق الشديد, تقدم منه وقال مقطبا جبينه يعترض طريق والده أثناء خروجه من الاستراحة:

- فيه ايه يا بويْ؟, رايح فين دلوك؟, الواد صابر جالك ايه خلّاك تنتفض اكده؟

عدنان بقلق وأسى:

- الله يرضى عنِّيك يا ليث يا وَلدي, خليك مع عمك رؤوف وجدك, اني رايح اشوف الحريم ضروري...

ليث وقد تعمقت عقدة جبينه وبدأ القلق يغزوه:

- ليه يا بويْ, أمي جرالها حاجة بعيد الشر؟!

عدنان وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا مجيبا بأسى وحزن:

- أستغفر الله العظيم, لاه مش أمك يا ولدي, دِه.. سلسبيل!

ازدرد ليث ريقه وتساءل بتردد طفيف:

- مالها.. مالها أم عدنان؟

عدنان وهو يهم بالسير:

- معرفش يا ليث يا ولدي, صابر بيجول انه أمك شيّعت له ياجي ينادم عليّ ضروري لانها تعبانة جوي...

ليث وهو يمسك بمرفقه ويهم بالسير معه بخطوات واسعة:

- أني جاي معاك يا بويْ..

عدنان وهو يحاول ملاحقة خطوات ليث:

- بالراحة يا ولدي, ما جدرش ألحج عليك..

ليتمهل ليث بالسير بينما اعتلت عيناه نظرة غامضة لا تفصح عما يجيش بداخله...

وقف عدنان أمام غرفة سلسبيل وهو يسأل زوجته وبجانبها والدة سلسبيل التي تبكي بصمت وهي تمسح دموعها بطرف وشاحها الأسود, هتف عدنان بقلق وتساؤل:

- خبر ايه يا أم ليث؟, سلسبيل مالها؟

أجابت أم ليث ودموعها تغسل وجهها:

- معرفاشي يا حاج, حالتها وعرة جويْ...

ثوان وفُتح باب الغرفة لتقبل عليهم سلسبيل والتي ما ان رآها عمها حتى حدق فيها بعينين واسعتين لا يصدقان ما يرتسم أمامهما, فقد كانت سلسبيل ترتدي احدى عباءتها الملونة المزركشة, بل وتتزين كعروس في انتظار عريسها, وهي تضع وشاح باللون الابيض مزين بوردات باللون الزهري, قالت بابتسامة ناعمة وهي تطالع عمها ومن معه بدهشة:

- عمي.. ايه اللي موجفكم اهنه؟, فيه حاجة؟؟

ابتلع عدنان ريقه بصعوبة وقال بصوت متحشرج:

- سلـ.. سلسبيل يا بتي؟

ردت سلسبيل بابتسامة واسعة:

- اؤمرني يا عمي..

عدنان وهو يزدرد بريقه بصعوبة:

- ايه.. ايه اللي انتي لابساه دِه وعاملاه في نفسك دِه؟

سلسبيل بخجل وقد تلونت وجنتيها بحمرة الحياء:

- ابدا يا عمي, أصل راضي بيحب يشوفني بالعباية ديْ, جولت ألبسها عشان لمّن ياجي ينبسط..

أُسقط في يد عدنان وردد بذهول حزين:

- را.. راضيّ!

أومأت سلسبيل برأسها وهي تجيب بابتسامة فرح كبيرة:

- إيوة يا بويْ, راضي, حدتني من شوي وجالي انه جرّب يوصل..

لمح عدنان سلمى وسلافة تقفان خلف سلسبيل, أشارت له سلمى برأسها ألا يتحدث بما يخالف قولها, سارت سلسبيل ونزلت الدرج يتبعها عدنان والباقين, ما ان أكملت نزولها والتفتت حتى وقع نظرها على ليث الذي ما ان رآها حتى انتفض واقفا كمن لسعته أفعى وهو يردد في دهشة وعدم تصديق:

- سلسبيل!

سارت سلسبيل حتى وصلت اليه وهي ترميه بنظرات مشككة قلقة, وصلت اليها والدتها ومدت يدها تتناولها بين أحضانها وتقول بصوت باكي وهي تربت على كتفها:

- اهدي يا سلسبيل, اذكري الله يا بتّيْ..

قطبت سلسبيل وأجابت باندهاش وحيرة:

- ليه بتجولي اكده يا مّايْ؟

الأم بنواح:

- حرام اللي بتعمليه ديْ يا نضري!

هزت سلسبيل برفض يمينا ويسارا وتعبير استهجان تام يعتلي سيمات وجهها الخمري واستنكرت هاتفة:

- هو ايه ديه اللي بعمله؟ ايه.. بلبس لجوزي... حرام ألبس له وأتغندر له؟, مش فاكرة حديتك ليِّ انه لازمن جوزي ما يشوفش مني الا اللي يعجبه!, جوزي وعلى وصول, واني مستنياه, انما انتو اهنه ليه؟, فيه حاجة؟

اقتربت منها سلافة وربتت على كتفها وهي تقول:

- جايين نقعد معاكي يا ستي.. ايه بلاش؟

سلسبيل بارتباك واعتذار:

- لاه ما جصديشي يا بت عمي, أني بس مستغربة ان كلاتكم اهنه؟..

ثم ضحكت متابعة:

- لا يكون بوي وخواتي هما كمان اهنه واني معرِفش؟!

ليصدح صوت قويا من خلفها يقول بنبرات ثابتة:

- مش هما لوحديهم, عمك رؤوف وبوكي واخواتك وجدي وجدتي كمان, بس جدتي بعافية شوية دخلت تريّح شوي!

قطبت سلسبيل وتساءلت وهي تنظر الى غيث بريبة:

- وليه؟, فيه حاجة ولا ايه؟

تقدم منها ليث ليسلط نظراته على عينيها العسليتين وهو يجيب بتأن:

- جايين يجفوا جنبينا, لغاية ما ناخد بحجنا!

ابتلعت سلسبيل ريقها بصعوبة, وحاولت متابعة سيرها بعيدا عنه وهي تقول بابتسامة مهزوزة رافضة الاسترسال في هذا الحديث الذي بدأ يثير سخطها ولكن هذا هو ليث لا يصدر عنه الا كل ما هو مستفز ومغيظ سواء قول او فعل:

- عموما بيتهم ومُطرحهم, عن اذنكم اني هروح اشوف الوكل, راضي على وصول..

ما ان ابتعدت عنه خطوتين حتى سمعت صوته يعلو من ورائها متسائلا بقوة:

- ما عاوزاشي تعرفي حجنا ايه؟

اضطربت انفاس سلسبيل وسريعا اقتربت منها سلمى وسلافة في حين وقفت ألفت وراوية وأمها يتابعان ما يجري ودموعهن تجري بلا انقطاع, هتفت سلسبيل وهي تعود الى الخلف بينما يتقدم منها ليث بثبات:

- اني ما عاوزاشي اعرف حاجه؟

كادت أن تتعثر في المقعد خلفها عندما امتدت يد ليث سريعا تسندها وأجاب بقوة:

- حجنا في دم خويْ وجوزك.. راضي يا سلسبيل!

صرخت سلسبيل وهي تصيح بعنف:

- انت اتجنيت؟, حج ايه؟, راضي ما جرالوشي حاجة, راضي هياجي, هو جالي انه مش هيتأخر عليّ, هياجي وهنجيب البت اللي بيحلم بيها, بعّد عني, فوتني يا ليث!

حاولت دفعه بعيدا عنها ولكن كانت قبضتيه على كتفيها كالكماشة, بينما كانت في حالة من الهذيان, فلأول مرة تلفظ باسم مخيفها, ووحشها الذي يرعبها بصوته.. لأول مرة تلفظ باسم.. ليث!

هتف ليث بقوة وهو يقرص على كتفيها:

- راضي مات يا سلبيل, مااااااااااات!.

أخذت تحرك برأسها يسارا ويمينا عدة مرات وهي تضع يديها فوق أذنيها رافضة الاستماع بينما اهتزت تعابير وجهها, لتقول بصوت بدأ منخفض ليعلو تدريجيا منتهيا بصرخة عالية:

- لا.. راضي.. راضي.. راضي ما ماتِش..راضي.. تعالى يا خويْ... راضي.. راااااااااااااضي....

لتسقط مغشيا ليها ولكن هذه المرة كانت ذراعي شهاب شقيقها من أنقذتها من الارتطام بالأرض!.

*******************

خرجت سلمى من غرفة سلسبيل بعد أن حقنتها بحقنة مهدئة, كان الجميع بانتظارها وما ان رأوها حتى اندفعوا اليها, سأل شهاب وليث في نفس واحد:

- كيفها دلوك/ عاملة ايه دلوقتي؟

أشارت سلمى بيدها لهما بالتزام الهدوء, ثم دعتهما باللحاق بالباقيين في الاسفل حتى لا يصدروا أصواتا تُقلق سلسبيل.

ما ان نزلوا الى الاسفل حتى التفت شهاب الى ليث هاتفا بحنق:

- لو سلسبيل جرالها حاجة يبقى انت السبب!, انت ازاي تعمل كدا؟, ازاي قدرت تخليها تنهار بالشكل دا, مش كفاية اللي هيا فيه؟

ليث بهدوء ينافي النار التي تستعر في داخله:

- اللي اعملته دِه هو الصوح, وكان لازمن يتعمل من زمان, اختك ما انهارتش زي ما انت فاهم, اختك فاجت دلوك!

قطب شهاب صائحا باستهجان:

- يا سلام, عيّل صغير انا بقه وهتضحك عليه بكلمتين؟!, انا ما صدقتش نفسي وانا داخل وانا بسمعك بتصرخ فيها بالكلام دا, يعني لو ما كانش جدي بعتني أشوف فيه ايه.. كنت ناوي تعمل فيها ايه تاني؟

وقفت سلمى واتجهت اليهما وقالت مقاطعة شجارهما الكلامي:

- معلهش يا شهاب.. بس ليث بيتكلم صح!, اللي عمله دا هو اللي أنقذ سلسبيل من اكتئاب حاد كانت رايحاله برجليها وبسرعة كمان, انفجاره فيها هو اللي خلاها تفوق وتوعى للي حصل, يعني هو فعلا أنقذها من انهيار عصبي واكتئاب حاد.. الله اعلم كان ممكن نهايته توصل معاها لإيه؟!

لفّ شهاب رأسه ناظرا اليها بذهول وهتف:

- انت بتخرفي تقولي ايه؟

سلمى ببرود ولم يعجبها طريقته في الحديث اليها وأمام الجميع لذا أجابت ببرود:

- اظن اني الدكتورة هنا, واعتقد اني أفهم أحسن منك في الموضوع دا, سلسبيل زي أي حد داخل في هستريا, أول حاجة بتعملها لشخصي هستيري انك تحاول تفوقه حتى لو اضطريت تضربه بالقلم, سلسبيل كانت داخله في هستيرية اكتئاب حاد ممكن توصلها انها تفكر في الانتحار, كلام ليث ليها هو القلم اللي فوّقها من اللي كانت فيه, عموما انا اديتها حقنة مهدئة, على الصبح ان شاء الله هتكون كويسة!

ثم التفتت الى الحاضرين متابعة:

- بعد اذنك يا ماما أنا وسلافة هنفضل هنا معاها مش هنعرف نسيبها خصوصا في الفترة دي, يار يت تبلغي بابا, وحضرتك يا طنط - موجهة كلامها الى راوية التي كانت تضع يدها فوق رأسها بينما تمسح دموعها التي تهطل بصورة مستمرة براحتيها - حضرتك يا طنط يا ريت تدخلي تنامي, انتي تعبت اوي انهرده.

ثم نظرت الى تلك السيدة التي فقدت ابنها ولكنها تحاول التجلد والصبر واتجهت اليها بخطوات هادئة وقالت وهي تمسك بكتفيها:

- أنا مش عارفة أقولك ايه ولا أواسيكي ازاي, بس علشان خاطري حضرتك ضغطك كان عالي اوي انهرده, يا ريت تحاولي ترتاحي شوية..

ردت ام ليث من وسط بكائها:

- وهتاجي من فين الراحة يا بنيتي؟, هتاجي من فين؟

اومأت سلمى برأسها ثم ابتعدت وهى تشير لسلافة للحاق بها قبل أن تقف وتوجه حديثها الى ليث متجاهلة تماما ذلك الشهاب الذي يتابعها بنظرات ساخطة غاضبة مذهولة:

- البقاء لله يا ليث, ربنا يجعلها آخر الاحزان..

ثم اتجهت الى الدرج للصعود الى الاعلى مع سلافة لقضاء الليلة مع سلسبيل في غرفتها..

شعر شهاب ان أعصابه على وشك الافلات منه وقال وهو يستدير متجها للخارج:

- أنا ماشي..

أوقفته يد ليث التي وضعها على كتفه وقال بتنهيدة عميقة:

- شهاب, ما تزعلشي منِّي, لكن اللي انى اعملته دِه كان في موصلحتها تمام كيف ما الدكتورة سلمى جالت..

أومأ شهاب برأسه وأجاب وهو يربت بدوره على كتفه:

- أنا مش زعلان يا ليث, ربنا يكون في عوننا كلنا...

**************

جلس شهاب فوق فراشه وهو يقبض يده اليمنى ليضرب بها راحة كفه الأيسر بينما ينفخ بضيق, ثم نهض من مكانه وأخذ يسير جيئة وذهابا في المكان حتى كاد يحفر الأرض من قوة خطواته, هتف بحنق وغضب:

- بقى أنا ما بفهمش حاجة وعامله عليا دكتورة؟..

سكت قليلا قبل أن يتابع وهو يقلّد طريقتها في الكلام:

- ليث صح, ليث عمل المفروض يتعمل, القاء لله يا ليث, ما تقلقش يا ليث.., ليث.. ليث.. ليث.. , اللي يسمعها يقول ليث دا عارفاه عمرها كله, دا أنا اللي اسمي ابن عمها وأقرب لها منه ما بتنطقش اسمي خالص الا نادر جدا, ايه دا؟, وبعدين ازاي عمي يوافق انها تقعد هناك؟, سلسبيل علشان العدة مش هينفع تخرج, لكن الواجب أمي هي اللي تقعد وهي.. قصدي هما.. هي وسلافة يرجعوا بقه!..

ثم ضرب بقبضته حافة النافذة التي يقف أمامها وهو ينفخ بضيق وتأفف بالغين!

*************************** 

بعد شهر

********

- بابا بعد اذن حضرتك, انا عاوزة أنزل مصر أجدد اجازتي وبالمرة أشوف الدكتور المشرف على الرسالة بتاعتي..

نظر رؤوف الى سلمى ابنته الجالسة فوق المقعد الخيزران في الحديقة الى يساره بينما تجاوره من الجهة اليمنى ابنته سلافة, قال رؤوف:

- انا عارف ان الفترة اللي فاتت دي كانت صعبة عليكم اوي, خصوصا ان ولاد عمكم انشغلوا في موضوع ليث والشغل تقريبا بقه على اكتفاكم انتم..

لا يستطيع رؤوف الانكار أنه يشعر بالفخر ببناته, فقد انشغل غيث وشهاب مع ابن عمهم ليث في البحث عن قاتل راضي, فأخذت بناته على عاتقهن أمر الاهتمام بالمزرعة والديوان في غيابهما, تحت اشرافه هو وأخيه عثمان, بينما التزم الجد الهدوء, وقد أنحنت كتفاه بعد مقتل راضي حفيده, والذي كان أقرب أحفاده إليه, وانشغلت الجدة بالاهتمام بصحة الجد بينما دخلت راوية في حالة من الحزن العميق على ابنتها, لتتولى زوجته ألفت شؤون المنزل لتثبت للجميع حُسن اختيار رؤوف لها, وتثبت لهم يوما بعد يوم أنها بالفعل واحدة منهم....

قالت سلافة بهدوء:

- أنا كلمت زمايلي في الشغل, وبعت ايميل للشركة ببلغهم فيها بمد أجازتي, وانا الحمد لله عندي رصيد كبير من الاجازات..

هز رؤوف رأسه وقال موافقا:

- تمام, يبقى سلافة توصلك الصبح لمحطة القطر تخلصي اللي وراكي وترجعي في نفس اليوم, وتبقي تكلمينا علشان نستناكي في المحطة..

- محطة ايه يا عمي ومين اللي هيسافر؟

قاطع صوت شهاب رؤوف, الذي التفت اليه ليبتسم مجيبا بينما جذب شهاب كرسيّا ليجلس في مواجهة عمه والى يسار سلمى:

- ابدا يا بني, دي سلمى عاوزة تسافر تجدد أجازتها وتشوف الدكتور المشرف على الرسالة..

ألقى شهاب بنظرة سريعة عليها بينما تجاهلته كلية فمنذ صدامهما ذاك اليوم ببيت عمه عدنان وهي تتحاشاه, مع انها تتولى مهام المزرعة بشكل مثير للاعجاب فهي تتحكم بالأمور هناك جيدا وتتعامل مع عمال المزرعة بطريقة حازمة وهادئة, قال شهاب ببرود بينما يحاول ان يسترق النظر اليها بين كل كلمة وأخرى:

- تمام يا عمي, تشوف هي عاوزة تسافر امتى وانا هوصلها!

حدقت فيه سلمى بدهشة ولكنها حاولت اخفائها, تحدثت ببرود نسبي:

- لا مالوش لزوم, سلافة هتوصلني المحطة وهاخد القطر وهرد في نفس اليوم, مالوش لزوم تتعب نفسك!

نظر اليها مجيبا بسخرية هي وحدها اشتمت رائحتها من بين أحرف كلماته:

- تعبك راحة يا بنت عمي, بس ما ينفعش يكون ابن عمك موجود وأختك توصلك المحطة وتاخدي قطر, انا هوصلك وأرجعك..

حاولت سلمى كتم زفرة ضيق كادت تفلت منها وقالت محاولة الهروب من مرافقته:

- لا ما فيهاش حاجة, انا بحب السفر بالقطر..

كانت سلافة تتابع بدهشة طفيفة وريبة ما يدور بين أختها وشهاب في الخفاء, لا تعلم لما تشعر وكأن هناك نظرات سخط متبادلة بينهما, ولكن مؤكد أنه يريد فرض سطوته عليها تماما كأخيه غيث, قد يكونان توائم غير متشابهة شكلا ولكنهما متطابقان تماما في صفاتهما, أرادت انقاذ أختها من إصراره الغريب على مرافقتها وهى تعلم أن أبيها قد بدأ يميل لحل شهاب ليطمئن عليها خاصة أنها لا هي أو أمها تستطيعان مرافقتها, فهتفت بأول شيء طرأ على بالها:

- خلاص.. بسيطة.. نكلم كريم يستناكي في محطة مصر, وأنا متأكده انه هيجيبك زي ما عمل معانا المرة اللي فاتت..

ما ان انتهت من عبارتها حتى رسمت بسمة واسعة فرحة بنفسها أنها قد اهتدت للحل الصحيح, ولكنها فوجئت بشرارات تنطلق من مقلتي شهاب, بينما نظرات أختها الباردة لا تفصح عما إذا كانت قد لاقت الفكرة قبول لديها, ولكن لم تنتظر طويلا لتسمع سلمى وهى تقول بإيجاب:

- فكرة بردو, أساسا عمو وطنط وحشونى أوي, وممكن أروح أسلم عليهم بالمرة..

هتف شهاب بحدة رغما عنه مقاطعا لها:

- لا!, أنا اللي هوديكي..

اندهش رؤوف وقال:

- ليه يا شهاب؟, البنات مش عاوزين يتعبوك, وانا شايف انه حل كريم دا حلو, بس بدل ما يرجعها بنفسه ممكن يوصلها المحطة وترجع بالقطر...

التفت شهاب الى عمه وحاول تمالك أعصابه وهو يجيب:

- معلهش يا عمي, بعد اذن حضرتك.. أنا ما فيش مشكلة انى أوصل سلمى وأستناها ونرجع سوا, وبعدين الحركة هتبقى أسهل بالنسبة لها معانا العربية وأنا اللي سايق يعني مش هتسوق في الزحمة ولا هتلف على ركنة ولا مخالفة ولا حاجة أبدا, وبدل ما نزعج الناس, ويضطر يسيب شغله, ايه رأي حضرتك؟

رؤوف باستحسان:

- والله فكرة مش بطالة..

لترتاح أسارير شهاب ولكن يتابع رؤوف:

- لكن مش تعب عليك يا بني تروح وترجع في نفس اليوم؟

نفى شهاب بقوة بهزة رأس منه:

- لا لا لا أبدا يا عمي...

كانت سلمى تنظر اليه وهى تتحرق غيظا, تكلم والدها قائلا:

- جهزى نفسك يا سلمى الصبح هتروحي مع ابن عمك..

ثم التفت الى شهاب متابعا:

- شكرا يا شهاب, هنتعبك معانا..

أجاب شهاب وعيناه تلمعان من الغبطة لقبول عمه رأيه وأنه اخيرا سيجعل تلك المتحذلقة المغرورة تبتلع لسانها ذاك والذي كال له الكلمات النابية ذلك اليوم بعد انهيار سلسبيل..

***********************

- انت بتجول ايه يا حاج عبد الحميد؟

زفر عبد الحميد ورجع الى الخلف ليستند الى ظهر الفراش وأجاب:

- اللي انت سمعته يا ولديْ..

عثمان بغير تصديق:

- غيث اللي جالك إكده؟, وميتى؟

أجاب الجد بصوت هاديء يحمل رنة شجن واضحة:

- جبل ما يجيلنا خبر المرحوم راضي, في نفس اليوم, بس اللي حوصل خلّا الموضوع يوجف, اني عارف وهو عارف انه مش وجته دلوك لكن هو عاوزنا نفاتحو عمّه في الموضوع علشان يكون عنده علم باللي رايده غيث..

قطب عثمان وقال:

- وليه ما جاشي يتحدت معايا أني؟

ابتسم الجد ابتسامة صغيرة وقال:

- عادي يا ولدي, هو جالي انه هيفاتحك في الموضوع, هو اساسا يومها ما كانِش هيجول لي حاجة لوما أني شوفت حالته كيف وضيّجت عليه في الحديت لوما جال لي....

قال عثمان:

- وانت رأيك ايه يا حاج؟, الوجت فعلا كيف ما انت خابر مش الوجت المناسب, واني أخجل اكلم خوي في حاجة زي ديْ خصوصي في الظروف اللي بتمر بيها بتّي, كلّمه انت يا حاج الله يخليك..

هز الجد رأسه موافقا على كلام ابنه الاكبر وقال:

- ماشي يا أبو غيث, أني هفاتحه في الموضوع وهبلغك باللي هيوحصل...

*****************

- ليث بيه, يا ليث بيه...

صاح الغفير صابر مناديا لسيده ليث الجالس تحت سقيفة العنب الخشبية في حديقة المنزل, نهض ليث واقفا مكشّرا في وجه الغفير وصاح به معنفا إياه:

- فيه ايه؟, عم بتنادم بصوت عالي كيف التور اكده ليه؟

كان صابر يلهث محاولا التقاط أنفاسه بشق الأنفس, تكلم من بين أنفاسه المتقطعة وهو ينحني ساندا راحتيه على ركبتيه:

- لا.. لاجيـ.. لاجيناه يا كبير!

لمعت عينا ليث وتقدم من صابر ببطء حتى وقف بجواره وهو يسأل بهدوء مخيف:

- لاجيتو مين؟

رفع صابر رأسه ثم اعتدل في وقفته وأجاب باحترام لسيّده:

- ولد الحرام اللي جتل راضي بيه!

تساءل ليث بينما عيناه تلمعان لمعة عيني الأسد الذي أوشك على اقتناص فريسته:

- مين يا صابر؟

قال صابر وهو يتنفس بعمق:

- عسران أبو الليل, جاطع طريج, مايعرفناشي وما يعرفش راضي بيه, طلع هو ورجالته على راضي بيه وهو راجع, جطعوا الطريج عليه هو والسواج, هددوهم وضربوا السواج, لكن سي راضي ما وافجش يسيب لهم المال والحلال فجتلوه واخدوا كل حاجة.....

ليث بغضب مكتوم يعتمل في أحشائه كبركان يثور بالتدريج قبل أن تندلع حممه عاليا فيحرق الأخضر واليابس:

- عرفت طريجه؟

هتف صابر:

- ايوة عرفت, اللي دلّنا عليه واحد من رجالته كان سهران عند البت بدوية وهلفط بالكلام على كبيرهم واخر عمليه عِملوها, وحضرتك خابر احنا لينا رجالة في كل مُطرح, والليلة يكون راسه عندك..

ليث سريعا وبحدة وعيناه تلمعان بنشوة الانتقام:

- لع, اني عاوزه صاحي.... جيبهولي متكتف من يديه ورجليه كيف الدبيحة!..

صابر بطاعة:

- تمام يا ليث بيه..

وانصرف ليسارع بتنفيذ ما طلبه سيده بينما قبض ليث على أصابع يده اليمنى وهتف بوعيد:

- أنى بجه هعرفك مين هما الخولي؟, إمّا كُتْ أخرّج جلبك ابيدي من صدرك ما كونِش أني ليث الخولي!!

وضغط على يده بشدة حتى ابيضت سلاميات أصابعه بينما يعد الدقائق والثوان التي بدأت عدّها التنازلي ليأخذ بثأر أخيه.. راضي!!

الحلقة التاسعة

كبير العيلة (منى لطفي)

انطلق شهاب وسلمى في رحلتهما الى القاهرة في ساعات الصباح الباكر, ساد الصمت الرحلة أول الوقت, حتى عرج شهاب على محطة وقود لملأ خزان السيارة, أوقف المحرك ونظر اليها يسأل بهدوء:

- عاوزة حاجة من السوبر ماركت؟, أنا نازل أجيب مايه..

هزت رأسها نفيًّا ونظرت اليه مجيبة بهدوء:

- لا شكرا...

قال شهاب:

- ثواني هجيب مايه, انا فتحت له التانك...

لم يغب سوى عدة دقائق ليعود بكيس كبير, دلف الى السيارة ووضعه في الفراغ بينهما قبل أن يدفع فاتورة الوقود ويمنح العامل الكهل بقشيشا سخيًّا جعل الأخير يبتسم داعيا له بأن يحفظ عليه زوجته!..

احمرت وجنتي سلمى قليلا لدى سماعها وصفها بزوجة شهاب, ولم تلتفت اليه, فيما ابتسم شهاب للعامل ابتسامة صغيرة ورنا اليها بنظرة ليجد البرود هو سمة وجهها كالدارج, كتم زفرة حنق ثم شغل المحرك استعدادا لمواصلة الرحلة, وهو يدعوها لتناول العصير وبعض الشطائر الذين ابتاعهم من السوبر ماركت..

وصلا الى الجامعة, تركته قائلة:

- هشوف الدكتور ولو إتأخرت يبقى عنده محاضرة هستناه يخلصها, لو حبيت ممكن تستناني في كافتيريا الكلية, ولو اني بقول انك تروّح وانا هظبط أموري في الرجوع...

نظر اليها بتركيز وأجاب بتأن وهو يضغط على حروفه:

- شوفي يا سلمى..انا قلت لعمي اني هودِّيكي وأرجعك, فيا ريت ما تفتحيش الموضوع دا تاني, دا أولاً, وثانيا خلّصي اللي وراكي وما تشيليش هم.. أنا مش هزهق, هستناكي في العربية لغاية ما تخلصي, بس يا ريت تديني نمرة موبايلك لأنها مش عندي.. للظروف يعني....

حركت كتفيها صعودا وهبوطا بلا مبالاة وقالت:

- براحتك, هات رقمك أرن لك..

وتبادلا أرقام الهاتف, لتترجل سلمى بعدها من السيارة متجهة الى داخل الجامعة..

لم يمر سوى وقت قصير قبل أن يسمع شهاب طرقات على نافذة السيارة, كان يستند برأسه الى ظهر المقعد مرتديًّا نظارته الشمسية, كانت عينه قد غفت ريثما تعود سلمى, استيقظ من غفوته على صوت طرقات النافذة, نظر الى يساره ثم رفع النظارة فوق رأسه ليرى سلمى وهي تشير اليه بفتح الباب لها, ضغط على الزر التحكم الداخلى بقفل الأبواب, فتحت الباب وصعدت الى مقعدها, نظر اليها بحيرة وتساءل قائلا:

- معقولة!, لحقتي تخلصي؟..

زفرت سلمى بضيق وأجابت:

- لا طبعا, بس على حظي أنا طلع انهرده يوم العمليات بتاع الدكتور, وهو في المستشفى انهرده, يعني يبقى كتّر خير الدنيا لو عرفت ألمحه بس!..

كانت بالنسبة لشهاب المرة الأولى تقريبا التي يشاهد فيها سلمى وقد تخلّت عن برودها المعتاد وتتحدث بحنق طفولي نوعا ما, كتم ابتسامة داخله ووجد نفسه وهو الثائر دوما يحاول تهدئتها وطمأنتها انها ستستطيع مقابلة أستاذها كما خططت اليوم, قال شهاب بابتسامة صغيرة:

- ولا يهمك, يعني هو هيبات في المستشفى مثلا؟, ليكي عليّا يا ستِّي مش هترجعي كفر الخولي إلّا وانتي مقابلاه واللي أنت عاوزاه من سفرية انهرده دي اتحقق!

نظرت اليه بدهشة لم تستطع إخفاؤها وتحدثت بحيرة:

- شكلك متأكد أوي؟

أجاب بتلقائية:

- عادي, أنتي عاوزة تقابليه وهو أكيد في وقت معين هيخلص شغله ساعتها بقه دي فرصتنا تقابليه وتورّيه الرسالة بتاعتك..

انطلق شهاب الى المشفى بعد ذلك من جهة تجدد سلمى أجازتها ومن جهة أخرى تحاول مقابلة أستاذها....

صف شهاب السيارة وانطلقت سلمى الى الداخل فيما جلس هو يراقبها الى ان اختفت عن ناظريه, لترتسم ابتسامة شاردة فوق شفتيه لا يعلم سببها ولكن ما يعلمه جيّدا أن ابنة عمّه تخفي جانبا من شخصيتها, جانبا طفوليّا جذابا على وجه الدقة, ولا يدري لما استساغ عدم ظهور هذا الجانب منها, قد يكون لأنه علم كم أنه جانب بريء طفوليّ ينال إعجاب أيًّا كان, فأراد ألا يظهر لأي أحد سواه!!..

مرّ أكثر من ثلاث ساعات عندما حانت من شهاب القابع في سيارته نظرة الى باب المشفى ليفاجأ بسلمى خارجة وهي تبتسم ولكن تلك الابتسامة لم تكن موجهة إليه بل الى هذا الرجل الذي يرافقها!!..

ترجل شهاب من السيارة في نفس اللحظة التي وصلت فيها سلمى اليه برفقة زميلها والذي ما إن تمّعن شهاب النظر فيه جيّدا حتى علِم أنه كريم قريبهم ذاك, تبادلا التحية, صادقة من جهة كريم, وباردة كالجليد من طرف شهاب, قال كريم لسلمى بابتسامة:

- مافيهاش كلام هتيجي يعني هتيجي!..

ثم وجه حديثه الى شهاب قائلا:

- وطبعا الدعوة لحضرتك بردو, سلمى عارفة الطريق, أنا هسبقكم وهنستناكم اوعوا تتأخروا!..

ما ان غاب كريم عن الأنظار حتى التفت شهاب الى سلمى قاطبا بين حاجبيه متسائلا:

- دعوة ايه ونروح فين؟

أجابت سلمى ولا تزال البسمة تنير وجهها:

- أبدا, طنط وفاء صممت اننا نتغدى عندهم انهرده, وأنا وافقت..

أجاب شهاب :

- وإزاي حضرتك توافقي من غير ما تاخدي رأيي الأول؟, ايه تكونيش فكّرتي اني السواق الخصوصي بتاع حضرتك؟!..

كتمت سلمى تأففها وهي تهمس في نفسها:

- مهما عملت بردو بترجع تاني شهاب المدب!, انا افتكرت انى كنت واخده عنك فكرة غلط لما قعدت تطمني اني هقابل الدكتور زي ما انا عاوزة, أتاري دا اللي كان الاستثنا والقاعدة قلة الذوق!, دا انت حتى ما سألتنيش قابلته ولا لأ؟, ضيعت فرحتي بكلام الدكتور اني قربت أخلّص الرسالة!..

انتبهت من شرودها على صوت شهاب النزق وهو يهتف:

- هاي بكلمك أنا, روحتي فين؟

زفرت بعمق وأغمضت عينيها لتفتحهما بعد ذلك ناظرة اليه وقد رسمت ابتسامة بلهاء على وجهها لتجيب ببرود توصلت انه الطريقة المثلى للتعامل مع ناره المتّقدة دائما:

- ولا في أي حتة!, ما روحتش في حتة, عموما ولا تزعّل نفسك, أنا طبعا عارفة انك مش السواق اللي جابهولي بابا, وعلشان كدا أنا بقولك بمنتهى البساطة أنا معزومة على الغدا وقبلت الدعوة, انت مش عاوز براحتك ارجع انت وانا هتصرف, ما تقلقش من الموضوع دا!..

حاول شهاب تمالك نفسه واقترب منها ليقف أمامها تماما ومال ناحيتها حتى رأى انعكاس صورته في غابات الزيتون خاصتها وهمس من بين أسنانه المطبقة:

- سلمى لآخر مرة أقولك ما تفتحيش موضوع انك ترجعي لوحدك دا تاني, ودلوقتي اتفضلي اركبي, ويا ريت ما تختبريش صبري عليكي أكتر من كدا, أنا مطوّل بالي عليكي لغاية دلوقتي!!

تمتمت سلمى بصوت مسموع بينما تفتح الباب لتصعد:

- كدا ومطوّل بالك؟!, أومال لو مقصّر بقه؟..

أمسك شهاب الباب ما أن همّت بإغلاقه ومال عليها ليدخل رأسه ناحيتها وهو يقول بتقطيبة عميقة:

- نعم؟, انتي بتقولي حاجة؟..

نظرت اليه ببراءة مزيفة وأجابت:

- ولا حاجة أبدا, بقول اتفضل علشان ما نتأخرش!..

كاد أن يصفق باب السيارة بقوة ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة, فما ذنب سيارته في غضبه بسبب هذه الباردة العنيدة التي تقبع ببراءة وكأنها لم توقد نار غضبه منذ لحظات!..

وصلا حيث منزل عائلة كريم, ترجلا من السيارة, وتقدما ناحية مدخل البناية السكنية عندما اكتشف شهاب أنه قد نسيَ هاتفه المحمول في السيارة فطلب منها انتظاره وعاد سريعا لجلبه, لم يغب سوى ثوان معدودة ليعود فيجدها تقف مع كريم منشغلان بالحديث حتى أنهما لم ينتبها لعودته, كانت سلمى تضحك عاليا عندما حانت منها التفاتة ناحيته لتجده يقف على مسافة ليست ببعيدة منهما يعقد ساعديه ناظرا اليهما وعيناه تقذفان شرراً من نار, هدأت ضحكاتها بينما انتبه اليه كريم, ليقول:

- اهلا يا شهاب نورتنا, اتفضل..

انتظروا وصول المصعد وكانت سلمى تقف بجانب كريم بينما يقف شهاب الى الجانب الآخر من المصعد بمفرده, دخلوا الى المصعد ولا تزال سلمى وكريم والذي حاول إشراك شهاب في الحوار يتبادلان الأحاديث, ولم يكن نصيب كريم من حديث شهاب سوى بضعة كلمات متباعدة علم منها كريم أن شهاب قد لا يكون من النوع الأجتماعي فلم يحاول توجيه الحديث اليه مرة أخرى احتراما لما اعتقده من ان شهاب لا يميل للتحدث مع غرباء!

خرجوا من المصعد متجهين الى شقة عائلة كريم الذي تقدمهما, فما كان من شهاب إلّا أن قبض على يد سلمى بقوة جعلتها تشهق دهشة وألما, بينما تحدث شهاب بصوت منخفض يخفي غضبا ناريًّا:

- عارفة لو بعدتي عنِّي خطوة واحدة بعد كدا هعمل فيكي ايه؟, أنا مش السواق ولا البودي جاري بتاع جنابك انتي تمشي قودامي وأنا وراكي!..

لم تستطع الاجابة فقد قاطعها صوت كريم يدعوهما الى الدخول, ما ان دخلا حتى وجدت خالتها وفاء تحتويها بحب بين ذراعيها قابلته بالمثل, بعد السلام والتحية, جلس الجميع في انتظار عودة نبيل والد كريم والذي لم يتأخر, تبادلوا الأحاديث الخفيفة ورحّبوا بوجود شهاب بينهم بطريقة أخجلت شهاب بأن يتعامل معهم ببرود, فانبسطت أساريره نوعا ما خاصة مع نبيل ذلك الرجل الذي يقارب عمّه رؤوف كثيرا سواء في الأسلوب أو الطباع....

تركته سلمى مع نبيل وكريم ولحقت بوفاء في المطبخ لمساعدتها, وما إن تم تجهيز المائدة حتى دعت وفاء الجميع لتناول الطعام, قال كريم لسلمى أثناء جلوسهم الى المائدة البيضاوية الشكل المذهبة ذات الست مقاعد مذهبة أيضا:

- على فكرة ماما أول ما كلمتها وقلت لها انك هنا في مصر وأني شوفتك في المستشفى بالصدفة يا سلمى هانم كانت محتارة تعمل غدا ايه.. بس انا اللي قلت لها على الفكرة دي, انا عارف أد أيه انتي بتحبي السي فوود..

ابتسمت سلمى وقالت:

- ما تحاولش, علشان تبقى عارف أنا قلت لبابا أني هاجي أسلم عليكم, طنط وفاء وعمو نبيل وحشوني أوي بصراحة, يعني حتى لو ما كنتش شوفتك كنت هتلاقيني طبِّيت عليكم هنا, بس بصراحة.. فكرة ممتازة يا كريم, عشرة على عشرة, انا بموت في حاجة اسمها سمك, الأكلات البحرية عموما....

انشغل الجميع بالطعام وكان نبيل بين كل فينة وأخرى يدعو شهاب لتذوق أنواع الأطعمة المختلفة, مالت سلمى الجالسة الى يسار شهاب وهمست:

- ايه يا شهاب انت ما بتحبش السمك ولّا إيه؟

أجاب شهاب بنفي:

- لا لا لا طبعا بحبه..

استغربت سلمى وواصلت:

- أومال مش شايفاك بتاكل غير رز وسلطة بس؟, السمكة بتاعتك لسه زي ما هي ما لمستهاش, حتى الجمبري ما جيتش ناحيته؟!..

لم يعلم شهاب بما يجيبها, ولم يجد بدًّا من أن يقول في الأخير بنزق طفولي:

- مش بعرف أفصص السمك ارتحتي؟.

سكتت سلمى قليلا محاولة استيعاب ما نطقه لتجيب بينما لم ينتبه لهما الآخرون:

- نعم؟, ما بتعرفش تفصص السمك؟, أومال حضرتك مين اللي بيقوم بالمهمة دي؟.

نظر اليها بحنق لتجيب بنفسها على سؤالها:

- ماما؟!..

ثم تابعت بهمس مسموع له فقط:

- امممم, كويس, تمام, ما فيش مشكلة...

لتقوم بتبادل الأطباق في غفلة من المحيطين بهم, هتف شهاب وهو يسترق النظر الى الآخرين خوفا من أن يكون هناك من يراقب ما يجري بينهما:

- انتي بتعملي ايه؟؟

أجابت بعد أن أتمت مهمة تبديل الأطباق بنجاح:

- ولا حاجة أبدا, أنا نضفت سمكتي وفصصتها, والجمبري متقشر وجاهز أهو, اتفضل كول...

تمتم بكلمة بصوت غير مسموع علمت أنها أغلب الظن كلمة شكر!, حركت كتفيها وهي تزفر بحنق, حتى كلمة شكر واضحة لا يرغب بقولها, غريب أمر هذا الشهاب, ثم التفتت الى السمكة الموضوعة في الصحن أمامها لتقوم بنزع الشوْك منها وتقشير الجمبري....

همّت سلمى بتناول الطعام عندما انتبهت أنها لم تبدل ملعقة الطعام مع الصحن, نظرت الى شهاب لتخبره لتجده يتناول طعامه بلذة واضحة, فخجلت من أن تقول له أن هذه الملعقة والتي يبدو أنها قد التصقت بفمه هي ملعقتها هي, وبدلا من ذلك تناولت أخرى نظيفة من أمامها وشرعت في تناول الطعام, وهي لا تعلم أن شهاب كان يراقبها من طرف خفي وأنه شعر باليأس والإحباط عندما وجدها قد انتبهت لأمر الملاعق وتركت ملعقته متناولة أخرى نظيفة, بينما هو يعلم منذ البدء بأن الملعقة التي بيده هي ملعقتها هي والتي ما إن وضعها في فمه متناولا أول ملعقة طعام حتى شعر بلذة لم يختبرها قبلاً, لينكب على الطعام ملتهما إياه وبين كل لقمة وأخرى يترك الملعقة في فمه ما لا يقل عن دقيقة كاملة, كانت كافية لجعله يغيب في إحساس رائع, لا يعلم كنهه, ولا يعلم سببه, أو لعله يعلم السبب ولكنه يأبى الاعتراف.. بأن لذة الطعام تكمن في طعم الشفاه الكرزي العالق في الملعقة مكان شفتيها!!..

****************

- حضرتك بتقولي إيه يا ماما؟

هتفت سلافة غير مصدقة لما تخبرها به أمها, ألفت بابتسامة فابنتها قد غدت عروس يطلب رضاها القاصي والداني:

- بقولك غيث ابن عمك اتقدم لك...

هتفت سلافة بعدم تصديق وذهول حائر:

- معقولة؟, غيث!!..

ثم سكتت قليلا مقطبة وما لبثت أن تمتمت بينها وبين نفسها في دهشة بالغة لِما توصّل اليه عقلها:

- لالا دا مجنون فهمي نظمي رسمي أكيد, يعني لما شافني شاورت لكريم اتخانق معايا ولما شافني بتكلم مع منير عاوز يتجوزني, أومال لو شافني بقه وأنا بضحك مع عمرو هيعمل ايه... ياخد بالتار ولا يضربه بالنار؟!..

قالت ألفت بتقطيبة خفيفة وابتسامة متسائلة:

- بتقولي حاجة يا سلافة؟

أجابت سلافة محاولة رسم ابتسامة على شفتيها:

- ها؟, لا ما فيش يا ماما, طيب هو ما قالش ليه؟

قطبت أمها معلقة:

- ليه إيه؟

سلافة بتلقائية:

- ليه عاوز يتجوزني؟

ألفت بضحكة قصيرة:

- معقول يا سلافة واحد عاوز يتجوز بنتنا هنسأله ليه؟, أكيد يعني زي أي عريس ما بيتقدم, هو كل اللي قاله لجدك أنه عاوز يتقدم لك, لا هو قال ليه ولا احنا طبعا سألنا!..

أجابت سلافة بابتسامة واسعة:

- تمام, وهو طبعا عاوز الرد؟

أومأت أمها في انتظار سماع رأي ابنتها وإن كان داخلها متخوّف منها, فهي تعلمها جيدا وتعلم أنها لن توافق بهذه السهولة التي يتخيلها والدها أو الجد كما ألمح لها رؤوف عندما أخبرها بالأمر وأن تفاتح سلافة بشأن رغبة ابن عمها في الاقتران بها وأخبرها أيضا بأن الجد مرحّب للغاية بهذه الزيجة, قالت سلافة ببراءة:

- معلهش يا ماما, يا ريت بابا يعتذر له ويقوله لأ!..

ألفت بحيرة:

- طيب يا بنتي لأ على طول كدا؟, مش تفكري كويّس الأول؟, وبعدين لأ ليه؟, ايه سبب الرفض؟

حركت سلافة كتفيها ببرود وقالت:

- وهو كان قال عاوز يتجاوزني ليه لما أنا أقول رافضة ليه؟, هو ما قالش ليه وأنا كمان من غير ليه!!..

-----------------------------------------------------

هبّ غيث واقفا وهو يهتف بحنق:

- انت بتجول ايه يا جدّي؟

أجاب الجد محاولا كتم ابتسامته وفي داخله اعجاب بتلك الشيطانة الصغيرة التي ستنجح لا محالة في نزع قشرة البرود التي يغلف بها غيث عواطفه:

- أنا بجولك اللي جالته لامها, جالت هو ما جالش رايد يتزوجني ليه, وأني كمان بجوله لاه ومن غير ليه!..

لمعت عينا غيث ببريق التحد وسارع بالانصراف وهو يقول لجده:

- عن اذنك يا جدي...

كانت تقف أمام حوض الورود الذي نال اعجابها منذ قدومها الى البلدة, كان الجو ليلا وقد أضاء القمر سماء الليل البهيم, وكانت هناك نسمة هواء عليل تحمل رائحة الزرع بين طياتها, عدلت سلافة من وضع الوشاح الخفيف التي تضعه فوق كتفيها, بينما هربت بضع خصلات من شعرها المربوط على هيئة ذيل الفرس, لتحيط بوجهها فتكسبها جمالا فاتنا خاصة مع لمعة عينيها البراقتين, سمعت صوتا من وراءها يقول بنبرة خشنة جعلتها تقفز هلعا فهي لم تشعر بأي خطوات قادمة وكانت تظن أنها بمفردها:

- أجدر أعرف أنت رافضة ليه؟

شهقت سلافة واستدارت الى مصدر الصوت والذي ما إن رأته حتى تنفست الصعداء وهتفت وهي تغمض عينيها براحة:

- غيث!, خضتني...

اقترب منها حتى أصبح في دائرة الضوء الذي يرسله القمر في هذه الليلة المقمرة وقال:

- سلامتك من الخضّة يا بت عمي, بس ما جاوبتنيش على سؤالي.. انتي رفضتي ليه؟

تقدمت منه بضعة خطوات لتقف أمامه تماما وترفع رأسها تنظر في عينيه بقوة ليتيه في سرمدي عينيها وتقول:

- لما تقولي انت الأول ليه عاوز تتجوزني أقولك أنا!

قطب غيث مجيبا بحنق:

- كيف دِه؟, يعني ايه عاوز أتجوزك ليه؟, عاوز أتزوج زي أي واحد مش عَجَبَهْ يعني!.

ابتسمت بخفة وقالت وهي تحرك رأسها يمنيا ويسارا:

- لا يا غيث, أنا ما بقولش عاوز تتجوز ليه, أنا بقول عاوز تتجوزني أنا ليه, وأظن تفرق؟

حاول الهروب من عينيها بعيدا وهو يجيب بتلكؤ بسيط:

- هيكون ليه يعني؟, انتي بت عمي واني وصلت لسن لازمن أتزوج وأعمل عيلة, يبجى ليه ما يكونش انتي؟

نظرت اليه ببرود مجيبة بابتسامة خفيفة:

- مش جواب لسؤالي, أبسط حاجة ولو هنتكلم بالعقل سلمى أختي تناسبك أكتر مني, أولا من ناحية السن هي الكبيرة, يعني سنها مناسب عني, الفرق بينكم تقريبا 4 سنين لكن انا 8, وبعدين هي كمان بنت عمك, يعني رجعنا تاني لنفس السؤال.. ليه؟, أنا ليه؟.

اغتاظ غيث وهتف مشيحا بيده عاليا:

- أني مش فاهم انت بتلفي وتدوري على ايه؟, عريس وجالك ومش أي عريس دِه يُبجى ولد عمك, مش رايداه ليه؟

سلافة بنظرات جديّة غريبة عنها:

- انت اللي بتلف وتدور يا غيث, لكن أنا هجاوب على السؤال اللي انت بتتهرب منه, انا اتكلمت قودامك عن كريم انت اتغاظت وانت شايف طريقتي معاه, وبعد كدا منير اللي كان زميلي من ايام الجامعه, قلت في عقل بالك أتجوزها وأطبعها بطبعنا وعوايدنا, لأنك عارف ومتأكد اني مش هسمح لك تتدخل في طرقة التعامل بتاعتي مع أي حد, صح؟؟

هز غيث برأسه يمينا ويسارا وهو يقول بجدية:

- لاه, غلط, مش دِه السبب, أني كان ممكن أجول لعمي انه يعرّفك عوادينا وطبعنا اهنه, أو أضعف الإيمان أجول لجدي انك ما ينفعش تشتغلي معايا في الديوان, فيه 100 طريجة غير اني اتزوجك..

قطبت وتمتمت بينها وبين نفسها:

- ما هو مش معقول يعني يكون الحب ولّع في الدرّة يا بن عمي علشان كدا عاوز تتجوزني؟!..

غيث بتساؤل:

- انتي بتجولي ايه؟

سلافة وقد انتبهت من شرودها:

- ها؟, لا ما فيش حاجة, بقول انت لسه ما قولتش سبب واحد مقنع, البلد مليانه بنات, وعيلة الخولي مليانه عرايس, أقربهم هند بنت خالتك!, يبقى ايش معنى أنا اللي عاوزها تنول الشرف السامي دا؟

زفر غيث بحنق ومال عليها لتضربها أنفاسه الساخنة بينما يشتم رائحة عبيرها الخاص وتمتم بين شفتيه:

- مش لازم لها تريجة احياة أبوكي, انتي مش كيفك كيف أي بت عاوزة تتجوز, واني ولد عمك, وجحا أولى بلحم توره!

شهقت سلافة عاليا بغيظ وأجابت بحنق وحدة:

- نعم؟, تور!, تور ايه يا عم الجزار إنت؟, ايه تور دا؟, فيه حد في الدنيا يقول للبنت اللي عاوز يخطبها تور؟..

وضعت يديها فوق رأسها وأغمضت عينيها وهي تهتف بأسى زائف:

- يا للهول!, على آخر الزمن يا سولي عريس بيقولك انتي تور؟

ثم فتحت عينيها ونظرت اليه وهي تشيح بيدها اليمنى يمينا ويسارا متابعة:

- لالا دا كتير يا غيث, أبسليوتلي فعلا, مش ممكن, شوف أنا ممكن أديك دورة تدريبية ازاي تتقدم لبنات الناس ودي مجانا علشان غلاوة عمي عثمان وجدي عبد الحميد وعلشان أملهم فيك ما يخيبش, ما هو أصل ما فيش واحده هتوافق على عريس بيقولها تور ولحم ومعرفش ايه؟, ناقص يقول كبدة وفشة وممبار, سارحين على عربية كبدة احنا في السيدة!!..

لم يستطع صدقا لم يقدر كبح جماح ضحكته العالية والتي انطلقت لتلجم لسان سلافة وتجعلها ولأول مرة تنتبه لوسامته الخشنة, وجاذبيته القوية, نعم.. ابن عمها يملك جاذبية ساحقة وجمال رجولي واضح, ولكنها تلك التقطيبة والواجهة الباردة التي يقابل بها الجميع من يجعل من يقف أمامه لا يتمعن في النظر اليه, لقد صغر ما يزيد عن عشر سنوات عندما أطلق هذه الضحكة فانبسطت أساريره وشعرت بنفسها تقف أمامه محدقة به كالبلهاء وكأنها أمام واحد من المشاهير, انتبهت لنفسها ولتحديقها فيه, فحاولت نزع عينيها بعيدا عنه بينما طغى تعبير رقيق على نظرات عينيه وهو يلاحظ تدقيقها في النظر اليه, مما جعل دقات قلبها تتسارع رغما عنها, حاولت الهروب من نظراته المسلطة عليه وقالت وهي تحاول الابتعاد:

- عموما انا قلت ردّي, وانت ما جاوبتش على سؤالي, وانا معنديش كلام تاني أقوله!

ما ان همّت بالابتعاد حتى مد يده قابضا على ذراعها برفق وهو يهتف بصوت أجش:

- استني, أني هجولك ليه؟

اعتدلت في وقفتها أمامه, وما إن هم بالمتابعة حتى تعالى صياح الغفير راجح مناديا له, قطب بحنق ونظر الى الغفير الذي وصل اليه وهو يكاد يلتقط أنفاسه بصعوبة, هتف به غيث بغيظ بينما لا تستطيع سلافة تفسير شعورها الآن فهي من جهة شعرت بالراحة لمقاطعة الغفير لهما وهي لأول مرة تجد نفسها في موقف كهذا, ومن جهة أخرى كانت تتمنى سماع اجابته على سؤالها.. لما هي؟, سمعت غيث وهو يصيح بالغفير مغتاظا فكتمت ضحكتها لعلمها بسبب حدته:

- فيه ايه يا بجم؟, صوتك عالي اكده ليه؟

الغفير وقد بدأت أنفاسه ترتاح:

- فيه حاجة حوصلت ولازمن أجول لجنابك عليها...

انتظر غيث سماعه ولكنه لم يتكلم فنهره قائلا:

- ما تجول يا تور ايه اللي حوصل؟

تمتمت سلافة:

- بردو تور؟, واضح كدا ان تيران مزرعتكم كتير اوي..

لم ينتبه غيث اليها وهو ينتظر سماع الغفير الذي كان مترددا في الاجابة لوجودها ولكنه لم يجد بدًّا من الحديث وإبلاغ سيده بما يحمله من أنباء:

- ليث بيه لجا جاتل سي راضي!..

هتف غيث وعيناه تبرقان بوحشية:

- بتجول ايه؟, عرف مين اللي طخّه؟,,

أومأ راجح بالايجاب فقال غيث وهو يهم بالانصراف سريعا:

- تعالى معايْ بسرعة...

صوت رقيق أوقفه ليلتفت الى صاحبة الصوت التي وقفت أمامه تطالعه بقلق وهي تقول:

- رايح فين يا غيث؟, طالما عرفتوه يبقى بلغ البوليس, بلاش تروح انت...

غيث بابتسامة صغيرة:

- اطلعي دارك انتي دلوك يا بت عمي, تار الخولي ما ياخدوش غير ولادها, القانون اللي في البلد اهنه هو قانوننا احنا, عموما ما تجلجيش, هنعاود بسرعة....

سارع بالانصراف لتهتف منادية له, التفت اليها لتهمس له وعيناها تلمعان:

- خلي بالك من نفسك يا غيث...

أبتسم وأومأ بالإيجاب قبل أن ينصرف سريعا وفي أعقابه غفيره, وما هي الا لحظات حتى رأته يمتطي فرسه الأسود الضخم, وقد خلع عباءته ليعطي صورة متناقضة بين لون الجواد الأسود وبين ثوبه الناصع البياض, رفعت يدها تلوّح له من بعيد بينما لم ينتبه لها فيما تدعو له بالسلامة, رافضة أن تفسر شعورها بالخوف والقلق ناحيته سوى بأنه أمر طبيعي فلو كان شخص غريب كانت أيضا سيصيبها ذات القلق تجاهه فكيف به وهو إبن عمّها؟!!..

************************

انتهت زيارة سلمى وشهاب لعائلة كريم, وبدآ في رحلة العودة, كانت الشمس قد غربت, تبادلا بعض الأحاديث الخفيفة مبتعدين عن مناوشتهما المألوفة, وكان شهاب قد مدح في والديْ كريم, لا يعلم أي هاجس ألح عليه لمعرفة طبيعة العلاقة بينها وبين كريم, رسم ابتسامة صغيرة على وجهه وقال بلامبالاة زائفة:

- انما يعني أنا شايف ان كريم دكتور وشاطر ومن عيلة كويسة, باباه راجل محترم ومامته كمان, وانتو تعرفوهم من زمان, ايه اللي مخلاهوش مثلا يفكر يتقدم لواحده منكم انتي او سلافة مثلا؟

أخفت سلمى ابتسامة ساخرة وساعدها الظلام في ذلك, بينما أجابت مصطنعة الاهتمام:

- يعني انت شايفه انه عريس مناسب؟

قطب شهاب ولا يعلم لما شعر بالانقباض لسؤالها ولكنه تصنع اللامبالاة وأجاب:

- آه طبعا, من اللي باين قودامي أنه عريس كويس ومناسب جدا كمان, علشان كدا مستغرب انه ما اتقدمش لواحده فيكم؟

سلمى بابتسامة مكر لم يرها للظلام السائد بداخل السيارة:

- وانت عرفت منين انه ما اتقدمش لواحده فينا؟

حانت منه لفتة سريعة اليها حتى أن مقود السيارة كاد ينزلق من بين يديه ولكنه استعاد سيطرته على السيارة سريعا حامدا الله أنه لم يكن هناك أي سيارة بجانبهما بعد أن خرجا الى الطريق السريع, أجاب شهاب ببرود:

- معلهش, حصل خير, قولتيلي بقه اتقدم لمين فيكم؟

سلمى ببرود:

- شهاب ممكن تبص قودامك وتاخد بالك من الطريق كويس؟, أنا مش هكلمك لغاية ما نوصل, انا عاوزة أوصل حتة واحدة!

سكت شهاب على مضض, بعد أن حدجها بنظرة نارية...

أكملا الرحلة في صمت تام حتى وقفا لإعادة ملأ خزان الوقود, وكانا قد قاربا على الوصول, خرق شهاب الصمت السائد بسؤالها عما إذا كانت ترغب بشيء من السوبر ماركت الموجود داخل المحطة, نفت بهزة من رأسها, ليستأنفا السير بعد ذلك وبعض الأحاديث الخفيفة عندما نسيت سلمى قرارها بعدم توجيه أي سؤال له وقالت:

- صحيح فيه حاجة محيراني فيك انت وأخوك؟

ألقى أليها بنظرة مستفسرة قبل أن يعيد انتباهه الى الطريق وأجاب:

- ايه هي؟

سلمى باهتمام:

- انتو توأم, مش متشابه في الشكل صحيح, بس بردو بينكم فروقات كتير, أبسط حاجة طريقة اللبس والكلام؟

ابتسم شهاب وأجاب ونظره مثبت على الطريق أمامه والذي بدأ يمر ببعض القرى الصغيرة:

- ولا غريبة ولا حاجة, أنا بعد ثانوية عامة صممت أدخل الجامعة في مصر, دخلت زراعة القاهرة, وقعدت مع صحابي في شقة, وبعد ما خلصت ورجعت البلد أمسك المزرعة كل خروجاتي تقريبا هنا في مصر في آخر الاسبوع, انما غيث حياته كلها في البلد دخل تجارة أسيوط, ومن ساعة ما اتخرج لغاية دلوقتي ما اخدش اجازة يوم واحد, حتى لما كان بينزل مصر علشان يخلص مصالح وبس, دا غير ان غيث بيحب أي حاجة متعلقة بالبلد من لبس لكلام للهجة, وبيرفض يغيّر أي حاجة فيه, وعلى فكرة اوعى تفتكري انى مش بتكلم صعيدي, لا بتكلم بس في مواقف معينة!...

سكت شهاب قليلا ثم قال وقد شجعته بسؤالها عنه وعن غيث:

- انما إنت وسلافة أختك مع ان الفرق بينكم اربع سنين تقريبا لكن قريبين من بعض اوي, زي ما تكونوا توأم...

ابتسمت بحنان لدى ذكره لشقيقتها الصغرى المرحة دائما سلافة وقالت:

- انا وسلافة مش بس أخوات لا وأصحاب كمان, يمكن اللي قرب بيننا اكتر كمان الغربة, اصحابنا كانوا قليلين في المدرسة وبابا كان مانع اننا نزور حد في بيته هما ييجوا أهلا وسهلا احنا نروح لأ, وطبعا اللي هييجي مرة مش هيكررها لغاية ما تترد له الزيارة, فبقيت انا وسلافة أصحاب أكتر مننا أخوات كمان, وطبعا كانت معانا سهى..

شعر بالغبطة لوجود منفذ يستطيع منه أن يعود الى نفس السؤال عن طبيعة العلاقة بينها وبين كريم فقال:

- أخت كريم مش كدا؟

أجابت:

- تمام..

انتهز الفرصة وسأل بلا مبالاة زائفة بينما كانت كل حواسه مترقبة لأجابتها:

- واضح جدا ان عيلتكم كانت قريبة جدا لعيلة كريم, انا فعلا مندهش ازاي ما خطبش واحده فيكم؟

أجابت وقد قررت منحه الجواب الذي يريد:

- وأنا هقولك زي ما سبق وقلت لك مين اللي قالك انه ما خطبش؟..

ألقى أليها بنظرة مستفسرة لتتابع مصطنعة الاهتمام:

- بس بجد يا شهاب أنا عاوزة أعرف يعني انت شايف كريم شاب ما يترفضش صح؟, واضح من كلامك انه عجبك أوي..

شهاب بلا مبالاة زائفة:

- يعني...

أجابت سلمى بجدية مصطنعة:

- تصدق.. رأيك دا هيخليني فعلا أفكر جديّا إني أوافق!

هتف شهاب وهو يلتفت اليها بذهول:

- نعم؟, توافقي على ايه؟

سلمى بلا مبالاة:

- على طلب كريم!, كريم فاتحني انهرده في الجواز!

شاهدت سلمى شيئا يتحرك أمام السيارة مقتربا منها بسرعة مما جعلها تشهق صائحة:

- شهاب خلي بالك!

ولكن يفقد شهاب السيطرة على مقود السيارة, ليفاجأ بذات الشيء الأسود وهو يمرق سريعا من أمامهما فضغط على المكابح بقوة لتدور السيارة حول نفسها عدة مرات, ثم ترتطم بمرتفع رملي ويقف محركها عن العمل تماما!!..

فك شهاب حزام الأمان, ثم مال على سلمى وهو يتحسس وجهها باضطراب واضح متسائلا بقلق فلم يسمع لها أي صوت:

- سلمى, سلمى أنتي كويسة؟!, سلـ....

ليفاجئ بقبضة ضعيفة تهوى على كتفه وسلمى تجيب بصوت حانق غاضب:

- آخر مرة أركب معاك في عربية واحدة, واضح جدا انك نادرها اني مرجعش سليمة أبدا...

ثم دفعت يده بعيدا عنها, وكان لا يزال ملمس نعومة شعرها بين يديه, كتم شهاب احساسه بالراحة لعدم اصابة سلمى بأي سوء وأجاب وهو يترجل من السيارة:

- يا ريت, لأنه واضح كمان ان وشّك عليّا مش ولا بُد, أنا عمري ما عملت حادثة في حياتي وانهرده كم حادثة كانت هتحصل؟, وآخرها دي!...

نظرت اليه ببرود, بينما تناول مصباحا يدويا وفتح مقدمة السيارة, وتطلع الى المحرك قليلا ليغلقها بعد ذلك, ثم يصعد ثانية الى مقعد السائق ويدير المحرك ليصدر صوتا عاليا ولكن ترفض عجلات السايرة الكبيرة التحرك, شتم من بين أسنانه وقال:

- العجل غرز, مش هينفع نمشي, لازم حد يشد العربية!

قالت سلمى بسخرية:

- عربيتك دي لو ما كانتش جيب 4 باي 4 محترمة كان زمانها مقلوبة فوقها تحتها في الرمل مش غارزة في الرمل!!

زفر بحنق وقال:

- تسمحي تسكتي خالص, انتي السبب, اسلوبك مستفز وبارد لازم طبعا كنا نلبس في حاجة, والحمد لله انها جات في الرمل, مش شجرة ولا حيطة!

أجابت سلمى بحدة:

- يعني أنا السبب؟, وبعدين اسلوب ايه واستفزاز ايه, لا وانت الصادق دا علشان مناخيرك الطويلة اللي انت حاشرها في حاجات مالكش فيها!, مالك انت كريم يتقدم ولا يتأخر حتى؟!

تطلع اليها دهشة وهو يتلمس أنفه مردداً بذهول:

- مناخيري طويلة!

وما لبث أن تابع بصرخة غضب ناري:

- شوفي بقه أنا ساكت لك من الصبح, انما كلمة زيادة مش هسمح لك, حطي لسانك جوة بؤك وما تنطقيش بكلمة واحده بس, مفهوم!

لأول مرة تشعر سلمى بالرهبة منه, تكفي لمعة عيناه الشرسة, فآثرت الصمت وهي تدعو الله أن ينقذها من هذا الكائن المجنون المسمى ابن عمها وأقسمت بينها وبين نفسها أنها ستبتعد تماما عن طريقه ما إن تنزاح هذه الغمّة, ولكنها لم تعلم أن خطواتها وخطواته سيسيران معا في طريق واحد وقريبا... قريبا جدا, أقرب مما تتصور!!

نعيد النشر للألبوم 


الحلقة العاشرة

كبير العيلة (منى لطفي)

وصل غيث بصحبة غفيره راجح الى مخزن قابع على مشارف البلدة, كان المكان محاط برجال ليث, ابتعد الحارسان الواقفان أمام الباب جانبا ليدلف غيث الى الداخل, كان الظلام يسود المكان الذي يضيئه مصباح قديم موضوع على الحائط في آخر المخزن, تقدم غيث من مصدر الضوء ليشاهد رجلا قابع فوق كرسي خشبي, مقيّد اليدين والقدمين, اتجه ناحيته ليبصر ليث ابن عمه وهو يقف على رأسه وبجواره غفيره صابر الذي انتبه لدخول غيث برفقة غفيره راجح, قال صابر بصوت خشن:

- غيث بيه..

التفت ليث ليرى ابن عمه وهو يقف بجانبه, ثم أعاد نظره ثانية الى ذلك الملقى فوق الكرسي الخشبي المتهالك, مغمى عليه, لم يستطع رؤية معالم وجهه جيدا, أشار ليث لصابر بعينيه, فانصرف صابر ليعود بعد أقل من دقيقة حاملا دلوا مملوءا بالماء, أشار له ليث فقذف بمحتواه فوق رأس ذاك الجالس دفعة واحدة ليشهق عاليا وهو يصحو من غيبوبته تلك, رفع رأسه ونظر حوله وهو يهتف برعب:

- فين؟, أني فين؟, ايه اللي جابني إهنه؟

تحدث ليث ببرود وهو يبتسم بتشف بينما يدور حوله:

- عملك الاسود اللي جابك اهنه..

نظر اليه غيث ليجد رجلا قد تخطى الاربعون عاما بوجه كالح وشارب ضخم يحتل معظم وجهه, بينما عيناه جاحظتان بشكل مخيف, وعندما تحدث لمح أسنانه الصفراء فيما هناك سن ذهبي يتوسطهم, كانت ثيابه عادية جلباب بني اللون وعمامة صوفية تلتف فوق رأسه بينما تهدلت أطرافها, جذبه ليث من مقدمة جلبابه وهو يزأر في وجهه مائلا عليه ينظر في عينيه بقوة:

- فاكر الراجل اللي جتلته من شهر تجريبا حدا اول البلد؟, راضي الخولي؟!..

سكت الرجل قليلا ثم تحدث برعب:

- إيـ..أيوة افتكرته, مالُه دِه؟

ليث وهو يشده بقوة تجاهه:

- أني أبجى خوه, وهو يبجى راضي الخولي, ولد عيلة الخولي, تسمع عنّيها؟

الرجل بالتياع:

- باه!, يا وجعة مجندلة!, ايوة طبعا أسمع..., ومين ميعرفشي عيلة الخولي وكفر الخولي كلاته؟

ليث بغضب ناري:

- جِه الوجت اللي تدفع فيه حساب كل اللي إعملته..

صرخ الرجل بفزع وهو يرى ليث ينتصب واقفا ليأتي آخر يشبهه في البنية والهيبة يقف بجواره, ثم يرفع ليث قبضته لتهوى على فكه بقوة جعلته يطلق صراخا كخوار الثور, لتسقط إحدى أسنانه الأمامية وتنزف لثته, قال ليث بعنف وهو يشير الى صابر:

- أني مش هموّتك وانت مربط اكده كيف الدبيحة.. لاه!, فكّه يا صابر..

قال غيث بتقطيبة:

- ليث يا ولد عمي كيف دِه؟, نجتله ونخلص عليه ونخلص الناس من شره وناخدوا بتارنا..

ليث وهو لا يحيد بعينيه عن ذلك المجرم عسران:

- لاه يا غيث, لازمن يدفع تمن كل فعايله, الموت بالنسبة له راحه وأني مش هنولهاله بسهولة..

فك صابر وثاق عسران الذي دلك معصميه ليهدأ من ألمهما, رفع عسران عيناه لليث وقال بضراعة:

- هدّيك كل الحلال اللي عندي بس اعتجني ابوس يدك...

نزع ليث عمامة عسران المحلولة جانبا ثم أمسك بمقدمة رأسه الأمامية جاذبا لها إلى الوراء بعنف وقال بفحيح غضب قاتل:

- حلالك؟, هو حلالك يا ولد الحرام؟, من ميته السرجة والجتل بتجيب مال حلال, جولي يا ابن الـ..... مين الناس اللي انت أذيتهم, تعرفهم ولا لاه؟

أشار برأسه نافيا وهتف:

- لاه, اني جاطع طريج, بطلع ع الناس سوى اعرفهم ولا معرفهومش, أخد اللي اخده وخلاص!

جذب ليث بشعره حتى تقطعت خصلات منه بين يديه جعلت عسران يطل صيحة ألم عالية وقال ليث بحزم وعينيه تبرقان ببريق مخيف يبعث الرجفة في الأوصال:

- يبجى تكفر عن اللي اعملته..

نظر اليه عسران برعب محدقا فيه بخوف شديد وهو يتساءل بتلعثم واضح:

- كيـ... كيف يعني؟, ما فاهمش!

ليث بابتسامة سخرية صغيرة:

- أني هفهمك...

ثم خلع عباءته الكشميرية الثمينة ملقي بها الى غفيره الذي تلقاها, قطب غيث ورفع يده آمرا الرجال المحيطين بهم بالابتعاد, فهو يعلم غرض ابن عمه, هو يريد قتله بيديه العاريتين..

ابتعد الرجال مشكلين دائرة كبيرة يتوسطها ليث وعسران بينما يقف غيث ليس ببعيد عن ابن عمه تحسبا للظروف, كان ليث يدور حول عسران كمالليث يدور حول فريسته بينما شعر ذلك المجرم بالدوار من شدة الرعب ومراقبته لليث تحسّبا لتصرف مباغت منه..

قبض ليث يديه رافعا لهما أمامه وزأر قائلا:

- دافع عن نفسك لو انك راجل صوح, مش متحامي بشوية عصبجية خلِّصنا عليهم كيف الحشرات, تمام كيف ما هخلص عليك بيديْ كيف البرغوت اللي بيمص دم الناس لكن فعصة اصغيرة تجضي عليه...

زمجر عسران وقد حسبها سريعا, هو في كل الأحوال ميت إذن فليمت بعد أن يقتل ذلك الليث الثائر أولا, هو عسران من ترجف له الأبدان هلعا عند ذكر اسمه, صاح صيحة غضب وهجم هاتفا:

- موتة بموتة يبجى على جولتك أموت راجل أهون...

ورمى بنفسه فوق ليث, لم يكن عسران بالضئيل البنية بل كان ثقيلا وان لم يكن سمين, لكم ليث بقبضته ليتلقى ليث اللكمة على ذراعه ويعاجله بلكمة في معدته بقوة جعلته يقذف دما من فمه, مسح فمه بكم جلبابه ثم عاد لينقض من جديد على ليث راكلا له بقوة فيحاول ليث تفاديها لتتسبب في تعثّره ووقوعه فيقفز فوقه عسران محيطا عنقه بيديه, حاول رجال ليث التدخل فمنعهم غيث رافعا يده عاليا بينما يراقب الموقف بعيون كما الصقر, قد يبدو أن عسران ذاك المسيطر حاليا ولكنه يعلم ابن عمه تماما ويعلم أنه في حالته الطبيعية يستطيع صرع عسران ذلك وبسهولة فكيف بالآن والغضب قد منحه قوة مضاعفة ليس لصرع ذاك القاتل بل وتهشيم عظامه لتصبح فتاتاً!..

التحم ليث وعسران وأخذا يدوران فوق الارض الترابية فمرة يكون عسران فوق ليث وأخرى يكون ليث من يرقد فوق عسران, لتأتي الأخيرة فيكون عسران هو المشرف على ليث ويحيط عنق الأخير بكفيه الغليظين ويضغط محاولا خنقه, انحبس الهواء عن ليث, قطب غيث بقلق وما إن هم بالتدخل حتى ركل ليث عسران بقوة بين ساقيه ليصرخ الأخير كالبهيمة المذبوحة ويرتمي جانبا, يسعل ليث بقوة, ثم ما لبث أن قفز واقفا, أمسك بمقدمة ثوب عسران وأوقفه أمامه بينما الأخير لم يستطع الوقوف بصلابة فلا يزال الألم قويًّا, كال له ليث اللكمات تباعا وهو يصرخ به, حتى شارف عسران على السقوط مغشيا عليه, عندما رماه ليث جانبا وهو يصرخ عاليا متوعدا له أن يصحو ليجهز عليه, وفجأة لا أحد يعلم كيف ذلك, ولكن استطاع ذلك المجرم أن يستل سكينا كان مخبئا أسفل سرواله الذي يرتديه أسفل جلبابه, أمسك بالسكين ونظر الى ليث وهو يشير به بينما يدعوه للاقتراب منه بيده الاخرى وهو يقول بابتسامة صفراء:

- تعالى يا ليث بيه, ما تاجي, خُفت ليه؟, ايه خايف السلاح يطول؟, هيطول ما تخافش, أني ميت ميت بس مش هموت جبل ما اخدك امعايا أجلُّه تروح تطمن على أخوك.. راضي!

وكأنه بذكره اسم راضي قد بعث بقوة غريبة في أطراف ليث الذي زأر عاليا لينقض على عسران في نفس اللحظة الذي أشاح بها عسران بالسكين لتشرط ثوب ليث فتصيب صدره بشق طولي ولكنه سطحي, لم يجد غيث بدّا من التدخل, خلع عمامته ولفّها كحبل, لم ينتبه اليه عسران فقد كان كل تركيزه منصبا على ليث الذي لم تضعفه الإصابة, صرخ عسران وهمّ بالتهجم على ليث عندما سمع صوت صيحة غاضبة من خلفه ولم يُتح له الوقت للالتفات حيث رمى غيث بعمامته التي أصبحت أشبه بحبل ملفوف يمسك بطرفيها, فرمى بها ليحيط بها عنقه جاذباً له بقوة فجحظت عيناه بينما ارتخت يده القابضة على السكين لترتمي أسفل قدميه فأسرع ليث بركلها بعيدا, ثم انقض على عسران الذي إزرق لونه بينما خرج لسانه يلهث كالكلب بحثا عن الهواء, لكمه لكمات متتالية عديدة وشد غيث الرباط حول عنقه من الناحية الأخرى, أمسك ليث برأسه جيدا بين يديه ناظرا في عينيه ببريق مخيف وقال:

- دِه عشان تبجى عبرة لغيرك..

ثم ضربه بقوة من مقدمة رأسه في جبهة ذلك القاتل ليرتد الى الخلف بشدة فيستلم ليث الرباط من غيث ويشده بقوة ثم يلفه حول يده ويشد وكلما سمع صوت أنينه يجذب بقوة أكبر حتى أصدر صوتا كالخوار بينما تدلى رأسه جانبا وجحظت عيناه وتهدل لسانه خارج فمه اعلانا عن موته!!

لهث ليث بقوة وترك الرباط ليسقط عسران مصدرا دويّا قويا, نظر اليه ليث ليركله بمقدمة حذائه في جسده بقرف واضح ويقول آمرا رجاله:

- ارموه للديابة في الجبل تاكله, لازمن يكون عبرة لغيره, كلب وراح ولا له ديّة, والكل لازمن يعرف انه أي واحد يعمل كيف الكلب دِه نهايته هتبجى زييه تمام....

وضع غيث يده مربتا على كتف ليث بينما ربت ليث بدوره على كتف غيثي قائلا بخشونة:

- تسلم يا ولد العم, اكده نجدروا ناخدوا عزا راضي خويْ الله يرحمه..

*******************

- طيب احنا هنفضل كدا, ما تتصرف..

زفر شهاب للمرة التي لا يعلم عددها بضيق والتفت الى سلمى الجالسة بجواره في سيارته المعطلة وقال بحنق:

- اسكتي شوية, دي المرة الكم اللي بتقوليلي فيها نعمل ايه؟, اعملك ايه؟, مافيش شبكة والموبايلات مش شغالة والدنيا ليل, يعني أتصرّف ازاي؟

نظرت اليه سلمى بنزق وقالت:

- ودي مشكلتي؟, مشكلتك انت.. انت اللي حطيتنا في المطب دا, قال وبابا كان مطمن عليا علشان معاك, ييجي يشوف, لو كنت لوحدي ما كانش كل دا حصل!

كتم شهاب شتيمة كادت أن تنطلق من فمه ونظر اليها قائلا بسخرية:

- ولا يهمك يا سلمى هانم, انت قصدك انك لوحدك بتعرفي تتصرفي أحسن مني صح؟, طيب يا ريت يا دكتورة سلمى لو تعرفي تلاقي لنا حل, اتفضلي فكري في حل بقه ولما تلاقيه ابقي صحيني انا ما نمتش ساعتين تلاته من امبارح, تصبحي على خير!

وعقد ساعديه دافعا بمقعده الى الخلف بواسطة زر أسفل المقعد حتى أصبح أشبه بفراش مائل وأغمض عينيه بينما سلمى تطالعه بذهول صاعق وهي تردد بغير تصديق:

- أصبح على خير؟..

ثم هتفت بسخط:

- تصدق انك بارد!

لم يلتفت اليها وما هي إلا ثوان وسمعت صوت انتظام أنفاسه فعلمت أنه قد غطّ في نوم عميق فهتفت بحنق وهي تكور قبضتيها تتمنى لو كالت له اللكمات غيظا وقهرا منه:

- دا بيشخّر كمان!!..

لا تعلم سلمى كم مر من الوقت فلم يغمض لها جفن, وبين كل حين وآخر تلتفت الى شهاب الذي يبدو كمن ينام على ريش نعام, فهو لم يقلق ولو لثوان كما ارتسمت على شفتيه ابتسامة من يرى أحلاما سعيدة في منامه!.

لفت نظر سلمى ضوءا شحيحا من بعيد ليقترب هذا الضوء منهما شيئا فشيئا, ابتلعت سلمى ريقها بوجل, فهما على أطراف البلدة والليل يسود المكان, وتعلم جيدا مخاطر الصعيد, نادت شهاب بصوت خائف:

- شهاب..

ولكن ما من مجيب, والضوء يقترب أكثر فأكثر فوضعت يدها على كتفه لتهزّه منادية بإلحاح وهي تكاد تبكي:

- شهاب قوم يا شهاب اصحى...

وكأن الصوت في الحلم, ليفتح عيناه جاهلا بمكانه باديء الأمر ثم تذكر أنه وابنة عمه العنيدة يقبعان داخل سيارته المعطلة في الصحراء, نظر اليها وهو يمسح وجهه براحتيه قائلا:

- ايه يا سلمى, فيه ايه؟

أشارت الى الخارج باصبعها بينما احتبس صوتها من الخوف, قطب ناظرا اليها لينقل نظره الى الخارج, فيلاحظ شبح انسان يقف بجوار نافذتها, مال عليها هامسا في أذنها وهو يضع يده فوق مقبض الباب:

- أنا هخرج أشوف مين دا, أول ما أخرج اقفلي الباب من السنتر لوك على طول..

قبضت بيديها الاثنتين على ذراعه معيقة خروجه وهي تتوسل اليه بخوف:

- لا يا شهاب ما تخرجش, هو هيزهق ويمشي..

قال شهاب محاولا تهدئتها:

- وافرضي ما زهقش؟, وافرضي كان معاه ناس تانية؟, لازم أخرج أشوف مين دا؟, مش يمكن يقدر يساعدنا؟, عموما ما تخافيش احنا قريبين اوي من البلد يعني يمكن واحد من اهل البلد أو من نواحيها, يعني هيطلع عارفني!, اقفلي انتي الباب ورايا كويس, وخلي بالك في مسدس في التابلوه لو احتجتي تستخدميه, صوّبي على الرِّجلين بس.. ماشي؟

زاد هلعها بعد كلامه وترجته ألا يخرج ولكنه خلّص ذراعه من قبضتها وخرج ففعلت كما أمرها مغلقة الأبواب, غاب دقائق كانت فيها تحاول مراقبة ما يجري بالخارج, وقد أخرجت سلاحه من صندوق السيارة الأمامي تحسّبا للظروف ممسكة به بين يديها ولكنها لم تجذب صمام الأمان, وما هي الا دقائق معدودة حتى فتح شهاب الباب المجاور لها فشهقت لترفع السلاح مصوبة إياه في وجهه فهتف حانقا وهي يجذبه من يدها المتشبثة به:

- انتي بتعملي ايه؟, مش تشوفي الأول مين اللي قودامك؟!

أفلتت السلاح ليتناوله شهاب واضعا اياه أسفل ملابسه, ثم قال:

- أمان ما تخافيش, بيته مش بعيد, هنقضي معاه الليلة ومن الفجر هيتصرف ويقطر لنا العربية..

سلمى برفض قاطع:

- لا طبعا أنا مش موافقة!, افرض طلع نصاب ولا قاطع طريق, ايش عرفك انه بيتكلم بجد؟!

شهاب بصبر:

- علشان سألته عن كم حاجة وطلع عارف البلد واهلها كلهم وكمان كم سؤال كدا تانيين خلوني اتأكدت انه مش كداب, ياللا اتفضلي بقه بدل ما المرة اللي جاية يطلع قاطع طريق بجد!..

ترجلت سلمى من السيارة فأحكم شهاب إغلاق الأبواب بينما تقدمهم الرجل مضيئا بمصباحه اليدوي لهم الطريق, وصلوا الى بيت من الطين, نادى الرجل عاليا لإفساح الطريق, قال الرجل وهو يشيح بنظره بعيدا عن سلمى التي علمت ما ان نظرت اليه أنه رجل في العقد الخامس من العمر:

- اتفضل يا شهاب بيه, وحرمتك تتفضل داخل مع حريمنا!

لم يسنح لسلمى الفرصة للاستفسار عن قصد الرجل فتوجهت حيث أشار لها, دخلت الغرفة لترى ستة أزواج من الأعين تتطلع إليها, شاهدت إمرأة تبدو في أواسط العقد الرابع علمت أنها الزوجة, ثم خمسة أبناء ثلاث بنات يقاربن بعضهن في العمر الفرق بين كل ابنة وأخرى لا يتعدى العامين, وولدين أحدهما يبلغ الـ 11 عاما والآخر السنتين, علمت بعدما رحبت بها الزوجة وتمت عملية التعارف ان البنات صفا وهنا وسما تبلغ الكبيرة 19عاما والوسطى 18 والأخيرة 16 عاما, وان الكبرى متزوجة ولكن زوجها يعمل في البلدة ويأتي نهاية كل اسبوع بينما هنا فهي معقود قرانها على ابن عمها وتنتظر انتهائه من أداء الخدمة العسكرية قبل أن تزف اليه بينما سما فقد تمت خطبتها قريبا لابن عمها الآخر وزفافها مع شقيقتها هنا..

استمتعت سلمى بالجلوس معهن وان كانت شعرت في البداية بالترقب والقلق اللذان ما لبثا أن تلاشيا ما ان انخرطن في الحديث, سألت صفا بينما كانت أم علي الزوجة تقوم بتحضير الطعام:

- وانتي بجه اتزوجت ميتى؟, شكلك اصغيّر؟, انت متعلمة؟, مش من بلادنا صوح؟ شكلك ولبسك بيجول اكده؟ 

ضحكت هنا وقالت:

- بشويش عليها يا صفا مالك جولتي سؤالاتك كلاتها مرة واحده اكده كيف المدفع الرشاش؟

لم تعلم سلمى بما تجيب, ولا تعلم ما الذي أوحى اليهن أصلا بأنها وشهاب زوجين, قد يكون والدهم استنتج ذلك لوجودهما سوية؟, أنقذها من الجواب صوت الأم وهي تدعوها لتناول الطعام الذي انشغلن به وتركنها, نظرت الى محمود ذلك الطفل البالغ من العمر سنتين, ابتسم وركض سريعا ليجلس في حضنها, كانت الجلسة أرضية, نهرته والدته قائلة:

- محمود عيب اكده, تعالى عندي أني..

قالت سلمى والتي شعرت بالدفيء ما ان احتوت ذلك الصغير بين ذراعيها:

- لا يا أم علي سيبيه, بسم الله ما شاء الله ربنا يخليهولك, اومال فين علي صحيح؟

أجابت سما وهي تهم بوضع قطعة من الخبز المغمسة بالبيض المصنوع بالسمن الطبيعي في فمها:

- تلاجيه عند ابوي, علي ما بيبحش جعدتنا بيجول أني راجل أجعد مع الحريم كيف..

ضحك الجميع وكانت سلمى تتناول لقمة لتطعم محموداً الأخرى..

بعد أن أنهى الجميع تناول العشاء واحتساء الشاي, قالت أم علي لسلمى التي نسيت تماما شهاب وما حدث لهما في الساعات السابقة:

- معلهش جهزنالكم مُطرح اكده مش جد المجام, عشان تريّحوا جتتكم , شكلكم يا نضري من زمان وانتو جاعدين كيف ما ابو علي لاجاكم؟

أومأت سلمى بالايجاب وكان التعب قد أخذ منها كل مأخذ فلم تنتبه لعبارة أم علي كاملة فكل ما اهتمت له أنها أخيرا ستنام فوق فراش آمن:

- ايوة يا ام علي, احنا بقالنا اكتر من 3 ساعات تقريبا!

دخلت سلمى حيث أشارت أم علي بعد أن استخدمت الحمام, كانت تريد الاغتسال ولكنها لم تستطع فاكتفت بغسل يديها ووجهها ورقبتها, دخلت حيث الغرفة, لتجدها مفروشة بأثاث بسيط للغاية عبارة عن سرير خشبي مكتنز وبساط قديم ولكنه معتنى به جيدا فوق الأرض الطينية, ومرآة بطرف مكسور موضوعة فوق الحائط, وأريكة خشبية صغيرة أسفل نافذة صغيرة, أغلقت الباب خلفها لتشاهد عدة مسامير مثبتة خلف الباب لتعليق الثياب, خمّنت أن الغرفة للزوجين, وذلك من الجلباب الأسود الرجالي المعلق خلف الباب وبجانبه وشاحا نسائي ملون..

كانت أم علي قد وضعت لها ثوبا للنوم يظهر عليه القدم لكثرة الغسيل, فلونه الأصفر باهت بشدة, كان قصير الأكمام ويصل الى أعلى قدميها بقليل, علمت أنه لصفا فهي تقصر سلمى بعدة سنتيمترات, بينما مقدمته تعلوها ثلاثة من الأزرار لم تغلق منهما سوى اثنين بينما الثالث يكاد يطبق على حلقها فتركته مفتوحا!, بعد أن أبدلت ثيابها رقدت فوق الفراش ساحبة الغطاء البالي لتغطي قديمها وهي تغمض عينيها فالنوم يلح عليها لتستسلم له وهي ترسم على شفتيها ابتسامة هانئة فأخيرا ستنال قسطا من الراحة في هذا اليوم الطوييييل... ولكن مهلا! ما هذا الصوت الذي تسمعه؟, فتحت عيناها واسعا وهي ترى شهاب يقف على مدخل الغرفة يتحدث موجها كلامه الى الخارج وما لبث أن أغلق الباب ليلتفت فيفاجأ بها جالسة فوق الفراش تنظر اليه بغيظ ورغبة بالقتل واااضحة!!..

********************

لم تستطع سلافة أن يغمض لها جفن حتى أبصرت غيث وهو يعود راكبا جواده الأسود, كانت تقف في شرفتها تتطلع بين كل فينة وأخرى الى الطريق, وما ان شاهدته حتى ركضت خارجا تسابق الدرجات نزولا حتى وصلت الى المدخل في نفس اللحظة التي دخل بها, وقفت تنظر اليه بلهفة تدفعها الرغبة في الاطمئنان عليه والفضول لمعرفة ما حدث, قطب غيث جبينه واقترب منها متسائلا في قلق:

- باه!, ايه اللي مصحيكي لحد دلوكيت يا بت عمي؟, فيه حاجة؟

ابتسمت ابتسامة ناعمة كان لها أثر كبير على غيث الذي تسارعت دقات قلبه بينما لم تفطن هي لما ألمّ به, أجابت محاولة بث الهدوء اليه:

- لا يا غيث احنا الحمد لله بخير, أنا بس ما جاليش نوم كنت عاوزة أطمن وأعرف حصل ايه؟

ابتسم غيث بتعب ومال عليها ناظرا في عينيها اللتين هربت بهما بعيدا وهو يقول:

- عاوزة تطمني على ايه بالظبط يا بت عمي؟

أجابت بتلعثم طفيف:

- على.. على اللي حصل يا غيث, مش بتقول ان ليث ابن عمك مسك القاتل, يا ترى عملتو فيه ايه؟

أجاب غيث:

- خد اللي يستاهله وبزيادة كومان..

تساءلت سلافة ولم يطمئنها جواب غيث:

- يعني ايه يا غيث؟, انتو عملتو فيه ايه بالظبط؟

أجاب غيث وهو يواصل سيره الى الداخل:

- مش وجت حديت دلوك يا بت عمي, اطلعي دارك نامي دلوك والصباح رباح..

قطبت سلافة لتهتف بوجل بعد ذلك:

- داري!, ها... سلمى!

التفت غيث مقطبا وسأل بصوت خشن:

- مالها أختك؟

نظرت اليه سلافة برجاء وهلع وأجابت والخوف يقطر من أحرف كلماتها:

- سلمى وشهاب لسه ما وصلوش يا غيث, وانا من قلقي على موضوع القاتل دا نسيت خالص..

قطب غيث وهتف:

- كيف دِه؟

وسريعا أخرج هاتفه المحمول محاولا الاتصال بشقيقه ليجيبه النداء الآلي ان الهاتف خارج نطاق التغطية, وبالمثل فعلت سلافة, نظرت سلافة الى غيث وقالت بخوف:

- هنعمل ايه دلوقتي يا غيث؟

قاطع حديثهما صوت رؤوف وهو ينزل سريعا تتبعه ألفت, نظر رؤوف اليهما وقال مقطبا وهو ينقل نظراته بينهما:

- فيه ايه؟ ايه اللي موقفكم هنا الساعة دي؟

سعل غيث وقال وهو ينظر الى سلافة سريعا:

- ابدا سلافة جلجت على الدكتورة سلمى وكانت بتخبّرني أحاول أكلم شهاب..

رؤوف بلهفة:

- وكلمته يا غيث يا بني؟

هز غيث برأسه نفيا وقال:

- للأسف المحمول حجُّه مجفول يا اما فاصل شحن او المنطجة اللي هو فيها مافيهاش شبكة, ان شاء الله خير يا عمي ما تجلجش...

ثم نظر الى نقطة خلف عمه وتابع:

- ما تجلجيش يا مرت عمي خير ان شاء الله, تلاجيهم طلعوا متأخرين من مصر ولا حاجة..

أجابت ألفت بقلق قوي:

- لا يا غيث يا بني, سلمى كلمتني وهما خارجين, طلعوا على المغرب تقريبا, الساعه دلوقتي 3 الفجر, يعني المفروض كانوا هنا من 11 بالكتير اوي...

قال رؤوف بتقطيبة حادة:

- انما انت ايه اللي مبهدلك كدا يا غيث؟

تبادل غيث وسلافة النظر قبل أن يجيب غيث بجدية:

- خدنا بتار راضي يا عمي..

هتف رؤوف بينما شهقت ألفت واضعة يدها فوق فمها:

- ايه؟, قصدك لاقيتو القاتل؟

تحدث غيث بفخر:

- لاه, احنا مش بس لاجيناه, احنا لاجينا وخد جزاته على يدينا..

رؤوف بتساؤل بينما نظرت سلافة الى يديْ غيث:

- انتو مين؟

غيث بزفرة عميقة:

- انى وليث يا عمي..

ألفت بتردد:

- قصدك.. قتلتوه؟

أجاب غيث بابتسامة صغيرة:

- ما اسمهاشي جتلناه يا مرت عمي, اسمها خدنا بتارنا وهو خد جزاته, وزمانها الضباع نهشت جتته النتنة..

لتكون سلافة من يشهق عاليا هذه المرة وتهرع ركضا الى شقتهم بالاعلى لتدخل من فورها الى الحمام لتفرغ ما بمعدتها بينما يدي غيث الملطختين بالدماء لا تبرح مخيلتها, لم تكن تظن أن القتل هيّن لهذه الدرجة, هو مجرم وقاتل نعم ولكن هناك قانون وعقاب, ولكن من الواضح أن القانون الوحيد المطبق في هذا البلد هو قانون الخولي كما سبق وأخبرها ليث في وقت سابق!!

**************

- اتفضل شوف لك حتة تانية تنام فيها..

هتفت سلمى بعبارتها تلك بمنتهى الحنق, كانت تتحدث بصوت منخفض وهي تقف في منتصف الغرفة بينما يقف أمامها شهاب وقد بلغ منه التعب أقصى الدرجات, تحدث للمرة المائة يحاول افهامها:

- أروح فين؟, قلت لك الراجل افتكر اننا متجوزين, وانا مقدرتش أنكر لأنه ببساطة حاجة من اتنين يا احنا ناس اخلاقهم بايظة وساعتها ممكن يضربنا بالنار لانه دا شرف واحنا ناس فلتانة, يا اما هيسيبنا مكاننا وكنا هنبقى صيدة سهلة اوي للمطاريد وقطاع الطرق, وأديكي شوفتي اللي جرى لابن عمي راضي!

ضربت سلمى بقدمها في الأرض كالأطفال وأجابت بحنق:

- بردو ماليش دعوه!, انا تعبانه وعاوزة انام ولو اتطبقت السما على الارض لا يمكن أنام معاك في اودة واحدة, ايه رأيك بقه؟

أزاحها جانبا واتجه ناحية الفراش ليجلس ويقول وهو ينزع حذائه جانبا بينما يتأوه محركا أصابع قدميه لإراحتهم من ضغط الحذاء عليهم طوال اليوم:

- بكيفك, انا هنام, اخرجي انتي وقوليلهم اللي عاوزة تقوليه!

اتجهت اليه ووقفت أمامه واضعة يديها في منتصف خصرها وقالت بغضب:

- يا سلام!...

لم يجبها فنفخت بضيق ثم قالت بنزق ولم تجد بدا من الاستسلام ولو مؤقتا:

- خلاص, انما انت هتنام هناك على الكنبة اللي تحت الشباك دي, اتفضل, ووشك يبقى في الحيطة يكون تلتفت ناحيتي..

زفر بضيق ونهض وهو يرفع يديه عاليا ويهتف برجاء ناظرا الى الأعلى:

- الرحمة يااااااارب...

ثم رماها بنظرة غيظ قبل أن يذهب الى الأريكة فيضع احدى وسائدها العريضة كوسادة تحت رأسه, ثم يشرع في خلع قميصه, فقفزت فوق الفراش وهي تهتف بحدة واضعة يدها فوق عينيها:

- ايه ايه, انت بتعمل ايه؟

اتجه اليها بخطوات غير مسموعة, فأزاحت يديها جانبا لترى لما لم يرد على سؤالها لتفاجأ به واقفا أمامها عاري الصدر, شهقت باستنكار بينما مال فوقها يستند باحدى يديه على عارضة السرير الخشبية ويشوح بسبابة الأخرى في وجهها هاتفا بحدة:

- بقولك ايه, انا اللي فيا مكفيني!, خلي اليوم الطويل دا يعدي على خير, ماذا وإلا هتشوفي مني وشّ عمرك ما تخيلتيه أبدا!

ثم نفخ عاليا واتجه الى الاريكة ليرقد معطيا لها ظهره, بينما قدميه تتدليان خارج الأريكة الصغيرة التي بالكاد تتسع لجسمه العضلي الضخم!..

رمقته سلمى بنظرة قلق قبل أن تسحب الغطاء لتغطي جسدها كاملا حتى رأسها, وتوليه ظهرها وهي تدعو الله أن يأتيها النوم سريعا لتمر الساعات المتبقية في هذه الليلة بسرعة, ولكنها تقلبت عدة مرات قبل أن تغفو وقد استغربت كيف نام شهاب ما ان لمست رأسه الوسادة فهو لم يتقلب أو يغير من وضعه ما جعلها تتيقن من تعبه الشديد, وهي لا تعلم أن شهاب كان طوال الوقت يمنع نفسه وبصعوبة من الالتفات ناحيتها لمراقبتها فصورتها وهي تحتضن محمود الصغير تداعبه وتقبله لا تزال في مخيلته وكان قد لمحها وهو يتجه الى الحمام المقابل للغرفة التي كانت تجلس بها, وسؤال يتردد في ذهنه ترى كيف سيكون شكل أولادها؟, وهل سيرثون غابات الزيتون خاصتها؟

***************

بزغ الصبح وكان أبو علي وشهاب بعد أن فرغا من صلاة الفجر وبمساعدة بعض الرجال قد استطاعوا اخراج السيارة من الرمال التى علقت بها, فحصها أحد الرجال سريعا وكان يعمل في ورشة تصليح سيارات وأخبره أنها بحالة جيدة, صافح شهاب الجميع, وفي الداخل ودّعت سلمى أم علي وبناتها على وعد منها بحضور زفاف هنا وسما, صعدت الى السيارة بجوار شهاب الذي انطلق من فوره للوصول الى البلدة..

كانت سلمى تسترق اليه النظر دهشة من أمره, فهو لم يوجه اليها أي حديث سوى بعض الكلمات المقتضبة, هزت كتفيها بلامبالاة واعتقدت ان طبعه النزق قد عاد اليه, خاصة أنها كلما وجهت اليه الحديث كان جوابه حادا مبتورا, فقررت ألا تحادثه الى أن يصلا, وبعد ذلك ستقطع علاقتها نهائيا معه, ولن تكلمه الا في أضيق الحدود..

وصلا بعد قرابة الساعة, ما ان أوقف شهاب السيارة حتى سارعت سلمى بالترجل واتجهت الى المنزل بخطوات سريعة, دخلت لتجد عائلتها جميعها مجتمعة, اتجهت الى والدتها التي احتوتها بين ذراعيها هاتفة بقلق أمومي:

- سلمى حبيبتي كنتو فين كل دا؟

لحق بها شهاب الذي صافح جده ووالده وعمه, بينما ربت غيث على كتفه هامسا:

- كنت فين يا ولد أبويْ؟, احنا منمناشي واصل من ليلة انبارح!

همس شهاب وعيناه على سلمى:

- ومن سمعك يا أخويا, ولا أنا عيني غمضت!

رؤوف وهو يحتضن ابنته:

- حمد لله على سلامتك يا بنتي, ايه اللي حصل, تليفوناتكم مقفولة ليه؟

صافحت سلمى جديْها وجلس الجميع قبل أن تجيب سلمى:

- معلهش يا بابا المكان اللي كنا فيه ما كانش فيه شبكة, واتفاجئنا انهرده ان الموبايلات فاصلة شحن..

سمع الجميع صوتا ساخرا يأتي من أمام غرفة الجلوس يقول بينما تتجه صاحبته اليهم داخل الغرفة:

- وليه ان شاء الله؟, كنتي فين يا دكتورة؟, تلاجيها بيتت في مصر وشهاب ما راضيشي ياجي من غيرها صوح يا ولدي؟

حدقت سلمى دهشة من ظن زوجة عمها الظالم في حين أجاب شهاب بجدية:

- لا يا أمي, أنا وسلمى ما نمناش في مصر!

شهقات بين دهشة واستهجان تعالت في حين رمقت سلافة شقيقتها بتساؤل وحيرة, قالت سلمى بحيرة وهي لا تعلم لما هذا الاستنكار الذي يعلو الوجوه حولها محاولة رسم ابتسامة خفيفة:

- جرى ايه يا جماعة فيه ايه؟, العربية عطلت في اول البلد والحمد لله ربنا رزقنا براجل ابن حلال ضيفنا عنده في بيته والصبح صلحها وجينا..

ثم حانت منها التفاتة الى شهاب وتابعت بابتسامتها الشاحبة بينما نغز في صدرها ينبئها بأن هناك أمر غير سار على وشك الحدوث:

- ما تقولهم يا شهاب!

ليتحدث الجد قاطعا السبيل امام أي أحد للتحدث موجها كلامه الى سلمى وشهاب:

- انتو جصدكم تجولوا انكم بايَّتُّوا حدا راجل غريب؟

علم شهاب ما يعنيه الجد فسارع بالايضاح في لهفة:

- يا جدي الراجل كتر خيره شافنا وعرض اننا ننزل عنده لغاية الصبح, انت عارف الليل مخاطره كتيرة, فوافقت!

الجد بحزم:

- الراجل دِه نعرفوا؟

شهاب وهو يومأ بالإيجاب غير قادر للنظر في وجه الجد أو سلمى فهو لم يصارحها بحقيقة الرجل:

- بيشتغل غفير عند.. عند عيلة أبو سويلم, وسبق له وشافني كم مرة قبل كدا وانا مع عزت!

شهقت الجدة استهجانا ونفخ عثمان بضيق في حين تبادل رؤوف وألفت نظرات التساؤل والجهل بينما زفر غيث بحنق, ونظرت سلافة بقلق الى سلمى التي قطبت في حيرة وكادت تهتف بالجميع حانقة عمّا يجري وما هذه الألغاز كلها؟....

الجد بصرامة:

- وجولت ايه للراجل عنيِّك انت وبت عمك؟

شهاب وهو يسترق النظر الى جده :

- انا ما قولتش يا جدي, هو اللي استنتج لوحده!

انتظر الجد لسماع تتمة جواب شهاب الذي تابع زافرا بضيق:

- فهم انها مراتي وعلشان كدا ضايفنا, ما كنتش أقدر أقوله يا جدي غير كدا, انت أكتر واحد عارف أهل البلد ممكن يفكروا ازاي لو عرفوا اني راجع مع بنت عمي لوحدنا وفي وقت زي دا ومن سفر كمان!!

قال الجد بصرامة:

- طالما الراجل دِه عرفك يبجى كلها ساعتين وهتلاجي الخبر ملا البلد والكل هيعرف ان شهاب ولدنا وعروسته كانوا في ضيافة ابو علي غفير عيلة ابو سويلم..

لم يرق لسلمى الحديث الدائر وخاصة عندما رأت والدها وقد اعترى وجهه الشحوب لينظر الى الأسفل, فالتفتت اليه لتربت على يده وتقول بشبه ابتسامة:

- بابا فيه ايه؟, انا مش فاهمه؟, مين ابو سويلم دول وايه المشكلة في اللي حصل؟, دا ما كانش ذنبنا؟!

ربت والدها على يدها ونظر الى عينيها اللتان تطالعانه بقلق واضح وقال وهو يتمنى أن تمر هذه المشكلة على خير:

- الناس هنا للأسف مالهاش الا الظاهر يا بنتي!

لتهب راوية واقفة وهي تهتف ناسية وجود زوجها وعمها:

- على جثتي!, يستحيل أوافج انك تكوني مرت ولدي!

هتف عثمان عاليا وهو ينهض من فوره واقفا:

- أم غيييييييييييث!, اجفلي خاشمك واصل!, ولا كلمة بعد اكده, ما بجاش غير الحريم اللي هيجولوا اللي يوحصل واللي ما يوحصلش, ياللا روحي دارك ويكون تخرجي برّاه من غير أمري!

لتنصرف راوية بخطوات سريعة غاضبة ولكن ليس قبل أن ترمي بنظرة نارية الى سلمى ووالدتها, قالت سلمى بقلق حقيقي:

- فيه ايه يا جماعة انا بجد مش فاهمه؟

الجدة بصوت حنون:

- فيها اننا هنفرحوا بيكي جريّب يا دكتورة!

هتفت سلمى بذعر وهي تنظر الى والدها تريده ان يكذِّب حدسها:

- هتفرحوا بيا؟, ازاي مش فاهمه؟!

قال الجد وهو يشير الى شهاب الذي يجلس مسلطا نظراته على سلمى, بعينين غير مقروءتيْن, وتعبير غامض يرتسم على وجهه:

- واضحة كيف عين السمس يا دكتورة, وعريسك أهاه.. شهاب ولد عمك!

شهقت في ذهول وقفزت واقفة وهتفت غير مصدقة وهى تهز رأسها يمينا ويسارا:

- لا مش ممكن!, انا يستحيل أوافق!

هتف رؤوف وهو يقف فهو يعلم أنه من المرفوض تماما أن تقف ابنته تصيح برفضها خاصة في وجود جدها وعمها الكبير:

- سلمى, اطلعي على أودتك دلوقتي..

التفتت اليه وقالت بعينان متسعتان من شدة الصدمة:

- لا يا بابا, عشان خاطري قول انك مش موافق على الكلام دا!, ناس ايه وجواز ايه؟, انا مش ممكن أوافق!

هتف رؤوف بصرامة بينما نهضت ألفت لتحيط ابنتها بذراعها:

- سلمى هي كلمة واحدة.. أنا قلت فوق يعني فوق, اتفضلي..

نقلت نظراتها بين الموجودين بحنق لتستقر على شهاب بكره وحقد فيما وقف يبادلها النظرات بأخرى متحدية يشوبها الغموض, هتفت سلمى قبل أن تنصرف يرافقها والدتها وسلافة:

- مهما حصل يا بابا, أنا بقول لحضرتك اني مش موافقة على الجوازة دي, ومش ممكن أوافق!

لترمق شهاب بنظرة غضب ناري أخيرة قبل أن تنصرف, بينما جلس رؤوف ثانية يتبعه شهاب, نظر رؤوف الى شهاب بغموض قبل أن يلتفت الى الجد قائلا بجدية:

- أنا تحت أمرك يا حاج, اللي تقول عليه هنفّذه!!

الحلقة الحادية عشر

(كبير العيلة (منى لطفي

صوت طرقات على الباب تعالت ليدخل بعدها رؤوف الى غرفة ابنتيه فيبصر سلمى تجلس في منتصف الفراش يحيط بها من الجانبين امها وأختها, بينما ترفع هي ركبتيها تحيطهما بذراعيها, نظرت ناحيته ليجد عينيها مليئة بدموع محبوسة وسط نظرات لوم وعتاب, تقدم اليها ووقف أمام الفراش يطالعها بنظرات أبوة حانية, ثم تحدث بصوت هاديء:

- معلهش ممكن تسيبوني مع بنتي الكبيرة لوحدنا شوية؟

نهضت سلافة مقبلة جبين أختها ونظرت الى والدها قبل أن تنصرف وكذلك فعلت ألفت التي ربتت على كتف سلمى, غادرت ألفت وسلافة التي أغلقت الباب خلفهما, تقدم رؤوف ليجلس على طرف الفراش بينما عدلت سلمى من جلستها, تحدث رؤوف بهدوئه المعهود قائلا:

- ممكن نتكلم بالراحه وبهدوء؟

أومأت سلمى بالايجاب وهمهمت بنعم, تنفس رؤوف عاليا وتابع:

- أول حاجة عاوزك تكوني متأكدة منها ان عمري ما هغصبك على شيء, بس في نفس الوقت ما يرضيكيش انه بعد العمر دا كله أطلع معرفتش أربي بناتي!

شهقت سلمى وهتفت باستنكار:

- لا يا بابا ما عاش اللي يقول على حضرتك كدا..

رؤوف بابتسامة صغيرة:

- وقوفك انهرده في وش جدك وعمك ورفضك لابن عمك بالاسلوب دا هيخليهوم يقولوا كدا وأكتر من كدا كمان, مش بس كدا.. أنا لولا اني حاولت أحتوي الموقف كان زمان أبويا زعلان مني, انتي مش عارفة يعني ايه تنتقدي تفكيرهم وعاداتهم؟, كأني بسخر منهم, بيكون فيه نوع من السخرية والتجريح أنا لا يمكن أسمح لنفسي ولا لكم بيه..

سلمى برجاء:

- يعني يا بابا يا أوافق على ابن عمي اللي انا مش مقتنعه بيه أصلا يا اما أبقى بنت عاقة؟, بابا شهاب مش متقدم لي عادي زي أي عريس .. لأ... السبب اللي عاوزيني أوافق عليه مش سبب أساسا وأرفض اني أكون محل شك, بابا حضرتك علمتنا انه طالما أنا صح يبقى ماليش دعوة مين بيقول ايه, وانا معملتش حاجة غلط, مش مشكلتي هما هنا بيفكروا ازاي ولا عوايدهم ايه, الحاجات دي مزروعة جواهم انا مش هربي مجتمع بحاله لكن في نفس الوقت أرفض اني أعيش حياتي بأسلوبهم, بابا أنا مش هفسد حياتي علشان خاطر فلان قال ايه ولا مين هيعمل ايه!...

رؤوف بجدية:

- خلصتي كلامك يا سلمى؟, ممكن تسمعيني بقه؟

تابع بدون أن ينتظر رد منها:

- شوفي يا سلمى انا زمان رفضت جوازة اتفرضت عليا علشان حبيت والدتك, وأول مرة أقولها اني كنت غلطان لما ما حاولتش مرة واتنين وتلاتة, ركبت دماغي والعناد خدني وسيبت اهلى وسافرت, انا مش بقول اني ندمان على جوازي من مامتك... لا طبعا, لو الزمان رجع بيا كنت مش هتجوز الا هي.. انا ندمي على الطريقة نفسها, كرهوا مراتي من قبل ما يشوفوها, عارفة لما بلاقيهم دلوقتي فرحانين بيها وأمي مش بتقولها غير يا بنتي وأشوف فرحتهم بيكم.. على أد فرحتي بكدا على أد ندمي اني حرمتكم من حضن العيلة, سلمى يا بنتي أنا عمري ما هعمل حاجة تكون مش في مصلحتكم, انتو ثروتي الحقيقية اللي طلعت بيها من الدنيا, لازم تكوني واثقة ومتأكده من كدا..

زحفت سلمى لترمي بنفسها بين أحضان والدها وقالت ودموعها تلمع مهددة بالسقوط:

- ربنا ما يحرمنا منك أبدا يا بابا, أنا عارفة ومتأكدة حضرتك بتحبنا أد ايه, وانت محرمتناش من حاجة أبدا, بالعكس كنت دايما لينا الأب والصديق والأخ, ربنا ما يحرمنا منك أبدا انت وماما...

أحاطها رؤوف بين ذراعيه وقبلها على جبينها ثم قال:

- طيب ممكن أسألك سؤال؟

رفعت نظراتها اليه وأجابت:

- اتفضل يا بابا.

رؤوف بهدوء:

- ممكن أعرف سبب رفضك لأبن عمك؟, وقبل أي كلام تاني عن اللي حصل.. ابن عمك صارحني تحت انه فعلا عاوز يخطبك, وكان ناوي يفاتحني أول ما ترجعوا من مصر, بس اللي حصل هو اللي قدّم المسألة شوية, وهو على فكرة متضايق انك تفتكري انه عاوز يتجوزك علشان كلام الناس ولا حاجة, هو قاللي بالحرف الواحد انا مش هلاقي زي سلمى بنت عمي.. هي دي الانسانة اللي أتمنى إني أكمل معاها مشوار حياتي..

سكتت سلمى مشدوهة, لم تستطع التعليق عمّا سمعته من والدها, أمعقول أن شهاب كان ينوي مفاتحة والدها في أمر ارتباطه بها؟, لا مؤكد هناك سببا آخر ولكن ترى.. ماهو؟

أيقظها والدها من شرودها قائلا:

- شوفي يا سلمى أنا مش هطلب منك غير حاجة واحده بس.. شهاب يبقى ابن عمك مهندس محترم واحنا عارفين أخلاقه كويس, ممكن تفكري فيه بعيد عن أي حاجات تانية؟, أنا مش هقولهم ردّك دلوقتي.. بس اوعديني انك تفكري بجدية وتصلّي استخارة, وفي وسط دا كله لازم تكوني عارفة اني هكون مطمّن عليكي وانتي معاه, ممكن؟

زفرت سلمى بيأس وأسدلت أهدابها وهي تتمتم بصوت خفيض:

- ممكن يا بابا, حاضر..

ثم نظرت اليه وهي تردف برجاء:

- بس ممكن محدش يضغط عليا؟, سيبوني أنا أوصل للقرار لوحدي, وأنا أوعد حضرتك انك هتكون مقتنع بيه..

زفر رؤوف براحة وأجاب:

- وانا موافق يا حبيبتي..

ثم قبل جبهتها ونهض وهو يقول:

- أسيبك دلوقتي ترتاحي شوية..

وانصرف تتابعه بعينيها حتى اذا ما أغلق الباب خلفه زفرت بيأس متمتمة:

- يا رب اتصرف ازاي انا دلوقتي؟, وتابعت بحنق:

- لا والاستاذ رايح يقول لبابا انه كان بيفكر فيا من زمان!, يعني عاوز يطلع هو الملاك اللي بجناحين وانا الشرير ولما أرفض يقول شوفتوا هي اللي ر افضة لو عليا أنا موافق!..

برقت عيناها ببريق التحد وقالت بعزم:

- طيب, ماشي يا باش مهندس.. بس ابقى افتكر انت اللي ابتديت, أما أشوف هتعمل ايه بعد ما تعرف ردي, بس مش معنى كدا اني هريحك خليك قلقان كدا كم يوم لغاية ما يجيلي مزاجي أقول رأيي؟!

وارتسمت ابتسامة مكر على كرز شفتيها وهي تتخيل منظر شهاب ما ان يسمع جوابها على طلبه!

******************

دلف رؤوف الى غرفته هو وألفت التي نهضت ما ان رأته, جلس رؤوف الى الصوفا الموضوعة تحت نافذة غرفتهما, تقدمت ألفت لتجلس بجواره فيما أسند رأسه الى الخلف زافرا بتعب, قالت ألفت باستفهام:

- عملت ايه يا رؤوف؟

نظر اليها رؤوف وأجاب بتعب:

- اتكلمت معاها, وربنا يهديها وتوافق...

نظرت ألفت الى زوجها بتقطيبة وصرحت بما يدور بخلدها: 


- هو انت موافق يا رؤوف؟, ايش معنى شهاب يعني؟, ما سلافة رفضت غيث وانت سيبتها براحتها؟


تنهد رؤوف بعمق لينظر الى زوجه ويجيب بما يقلقه: 

- اولا سلافة غير.. سلمى بنتك الوضع اللي هي فيه غير اختها ولو اني متأكد انه غيث مش هيقبل برفضها دا لكن مش موضوعنا دلوقتي, اهل البلد هنا عندهم عادتهم وتقاليدهم, ما ينفعش اقف في وش ابويا بعد العمر دا كله واقوله لا او معلهش يعني توز في العادات دي, بنتك مش عاوزة تسيب لي فرصة احلها بمعرفتي وقفت قودام الكل وقالت لا..

نظرت أليه ألفت لا تعلم لما يخالجها الشك ان هناك سبب آخر وراء سكوت رؤوف, تحدثت بما يجيش في نفسها من تساؤلات وقالت:

- مش عارفة ليه يا رؤوف حاسة انه فيه سبب تاني, ممكن تصارحني.. انت موافق على شهاب فعلا ولا علشان ما تزعلش والدك؟

نظر اليها رؤوف واعتدل في جلسته ملتفتا اليها وهتف: 

- بصراحة آه, تقدري تقوليلي بنتك عندها كم سنة؟, 28 سنة, رفضت كم عريس لغاية دلوقتي؟ احنا مش عايشين لها هي واختها, ماله شهاب مهندس محترم وابن عمها وهيخاف عليها, بنتك لازم تفكر انه فرصها بتقل في الجواز كل ما بتكبر, ومن الاخر كدا كفاية اللي حصلها قبل كدا, انا مش مستعد اكرر حكاية اللي اسمه احمد دا تاني, كفاية اللي جرالها المرة الاولانية دي كانت هتروح من ايدينا, احنا جربنا اختيارها وشوفنا النتيجة خلِّيها هي بقه تجرّب توافق على اختيارنا احنا وانا متأكد انها مش هتندم..

ألفت بدهشة: 

- يعني ايه تجرّب يا رؤوف؟, دا جواز!, يعني معنى كلامك انك موافق بجد؟.

رؤوف بحسم:

- أيوة موافق, ولما تعرفي أسبابي انتي كمان هتوافقي!

نظرت اليه ألفت بتساؤل ليجيب بجدية بالغة:

-احمد رجع يا ألفت, عارفة يعني ايه رجع؟!, رجع ومصمم يعيد اللي فات بينه وبين بنتك, ايه رأيك بقه؟

شهقت ألفت عاليا واضعة يدها فوق فمها وهي تردد بذهول: -

- رجع, مش ممكن؟, دي.. دي تبقى مصيبة!!..

زفر رؤوف بيأس وهو يجيب:

- عرفتي أنا ليه كنت عاوز نيجي هنا البلد بأي طريقة؟, البيه كلمني في التليفون وروحت قابلته, جاي بمنتهى الصفاقة وقلة الأدب يقوللي أنا آسف!, تخيلي بعد اللي عمله دا كله وآسف!

قطبت ألفت وهتفت بغضب:

- دا مجنون.. أكيد مجنون!

رؤوف بابتسامة سخرية:

- أنا قلت له كدا بردو, بس هو قالي انه عارف هيقدر يقنع سلمى ازاي!

ثم أردف بيأس:

- شوفي يا ألف أنا منكرش ان سلمى بعد اللي حصل منه ولما فاقت من اللي كانت فيه انه اسمه نفسه كرهته, لكن أنا خايف.. خايف يرجع يحوم حواليها تاني, الزن على الودان أمر من السحر, خصوصا لو شغل لها اسطوانة انه ندمان ومش قادر يعيش من غيرها زي ما قالي, هو كان أول واحد مشاعر سلمى تتفتح له, ما أقدرش أنكر رعبي كأب عليها, ألفت سلمى لو وافقت ترجع له وعمل فيها حاجة تانية كدا يبقى احنا خسرنا بنتنا وربنا يستر المرة دي, مش هيبقى انهيار عصبي وشهرين في المصحة زي ما حصل لها قبل كدا!

ترقرقت الدموع في عيني ألفت ثم حاولت تمالك نفسها وقالت بعزم:

- بنتي قوية يا رؤوف, على أد ما بتبان هادية وباردة لكن أنا عارفة سلمى كويس أوي, على أد ما بتسامح لكن عمرها ما تنسى اللي كسرها وهو كسرها وكسرنا.... مش ممكن توافق ترجع له, لو انت شايف ان شهاب هو الحل أنا معاك, ومن ناحيتي هحاول أٌقنعها ولو بطريق غير مباشر...

نظر رؤوف الى ألفت حبيبته وشريكة عمره وقال وهو يحتويها بين ذراعيه ليلقي بحموله إليها:

- ربنا يستر يا ألفت, يا ريت تقتنع بكلامنا يا ريت..

***************

- عتمان يا ولدي ما تنساش تبجى تجول لاخوك رؤوف انه الليلة عزا راضي الله يرحمه, اللي حوصل دِه نسّانا كل حاجة, اني رايح داري أريح شويْ, معايا يا أم عتمان...

نهض الجد من مجلسه تلحقه الجدة بينما تطلع عثمان الى ولديه غيث وشهاب بتركيز قال بعدها:

- أجدر أعرف ايه اللي حوصل بالظبط؟, مرة واحده عاوزين تتجوزوا وانتو التنيين رايدين بنات عمكم رؤوف؟!, ايه مش غريبة حبتين ؟!..

نظر غيث الى شهاب قبل أن يلتفت الى والده مجيبا بهدوءه المعتاد:

- ما غريب الا الشيطان يا بويْ, بنات عمنا واحنا أولى بيهم, واحنا وصلنا لسن لازمن نتجوزوا, يبجى ايه المانع؟, ولا انت شايف انهم مش مناسبين لنا؟

نفى عثمان سريعا هاتفا:

- لاه.., يشهد ربنا من يوم ما شوفناهم وايجو حدانا ما شوفنا منيهم الا كل طيّب, أني بس مستغرب حبتين, لكن لو متوكدين يبجى خلاص, انتو فاتحتوا عمكم في الموضوع نسيب له وجت يفاتح بناته وربنا يعمل اللي فيه الخير..

شهاب بغموض:

- تفتكر يا حاج انه هيقنعهم؟

عثمان ببراءة مزيفة:

- والله يا ولدي دِه زواج.. يعني لو ما وفجوش منجدرش نغصبوا عليهم, ما تنسوشي انهم تربية البندر!

قفز شهاب هاتفا بحنق:

- يعني سلمى ممكن ترفض؟, حتى بعد ما عرفت انه البلد كلها ساعتين وتعرف انها مراتي؟

نظر اليه عثمان بصرامة وأشار له بعصاه قائلا:

- ولد.. جعمز اهنه..

نظر اليه شهاب متمتما بنزق وهو يجلس مكان ما أشار والده:

- ولد ايه بس يا بويْ؟

لم يستطع عثمان كتم ابتسامة صغيرة وعلق على تبرّمه الواضح:

- طالما اتحدت بلغوتنا يبجى الموضوع إمأثّر فيك صوح!

كتم شهاب زفرة حانقة, وحاول التحدث بهدوء بعيد عنه تماما:

- انا مش شايف سبب تخليها ترفض بصراحة..

عثمان وهو ينظر الى غيث بمكر مستتر:

- ليه.. ما سبج وأختها رفضت خوك!

شهاب بدهشة بينما زفر غيث حانقا مشيحا بعينيه بعيدا:

- هو غيث اتقدم لسلافة؟

عثمان بتلقائية:

- إيوة, والبنيِّة رفضت حسب ما جدك جالي!

غيث وقد بدأ بروده الظاهر بالتصدع:

- لاه يا بوي هي رفضها كان لحاجة تانية وأني كنت هتفاهم معاها لوما جات حكاية ليث ابن عمي خلتني انشغلت بيها, بس اني عارف هقنعها كيف!

عثمان بهدوء:

- مش هنغصبهم على حاجة, اني مش بجول انكو تهمّلوا الموضوع لكن اتعاملوا امعاه بعجل, جدكم موافج بس ما تضمنوش.. بنات عمكم واخدين عجله ويمكن يجدروا يجنعوه برفضهم دِه, وجتها محدش فينا كلاتنا هيعرف يفتح خشمه واصل, يبجى العجل يجول بالراحة إكده والهداوة, ها.. فهمني يا باشي مهندز.. بالراحة مش بالخناج والصوت العالي...

ثم نهض مردفا:

- افوتكم أني دلوك, وما تنسوشي تجولوا لعمكم على عزا ولد عمكم انهاردِه بعد صلاة المغرب ان شاءالله..

وانصرف تاركا ولديه كلا منهما يفكر كيف يقنع متمردته الحسناء بقبول الارتباط به؟!..

********************** 

دلف عثمان الى جناحه هو وراوية التي سرعان ما خرجت من غرفة النوم الملحقة بالجناح على صوت صفق الباب بقوة, نظرت الى عثمان الذي وقف يطالعها بنظرات غامضة, حاولت التحدث مدعية القوة:

- بجه يصوح برضيكي تزعّج لي جودام الجاعدين كلاتهم كيف البت الصغيرة؟

تقدم عثمان بخطوات بطيئة حتى وقف أمامها وأجاب بصوت هاديء يخفى وراؤه غضبا مستعر:

- وانتي يصوح تجفي جودام بوي وجودامي وجودام خوي وتجولي بالفوم المليان انك مش رايده بناته لولادك؟

راوية باضطراب وهي تهرب بنظراتها من نظرات عينيه القوية:

- أني ما غلطتش, دول ولادي واني من حجي اني اجول آه ولا لاه!, ولو مش هيتزوجوا واصل بنات ألفت لاه ومليون لاه كماني!

شعت عيني عثمان بغضب ناري وتحدث بهسيس غضب من بين أسنانه المطبقة:

- ما اسمهومشي بنات ألفت, دول بنات خوي رؤوف!

راوية وقد تسلط شيطانها عليها ونسيت من هو عثمان الخولي وكيف يكون غضبه الذي لا قبل للرجال به, فهو كالبركان ما أن ينفجر لا يبقى ولا يذر:

- ولو, ما كانيش يصوح تحدتني اكده وتجولي روحي دارك كاني واحده مهبولة, أني مهما كان مرتك انت يعني كرامتي من كرامتك, ولمن اللي اسمها ألفت دي تسمعك بتحدتني بالطريجة دي هتعمل هي معاي ايه؟

عثمان وهو يقبض بشدة على رأس عصاه حتى ابيضت سلاميّات أصابعه:

- المرة اللي ما بتعملشي احترام لجوزها وترد على كبير العيلة يتعمل امعاها أكتر من اكده!, انتي سمعتيها فتحت خشمها بكلمة واحده؟, ما الموضوع كيف ما يخص ولدك شهاب يخص بتّها, حتى لما بت اخوي فتحت خشمها خوي عرف يسكتّها كيف, الدور والباجي ع الكبيرة العاجلة اللي كنها مخّها ضرب ولازم لها تأديب من أول وجديد!.

راوية بشهقة عالية:

- انت بتجول ايه يا عتمان؟, عاوز تضربني؟!

عثمان بصرامة وبريق شرس يلمع بين مقلتيه:

- لا إنتي أكبر منّيها ولا أني أصغر من أني أسوِّيها!

راوية بدموع التماسيح:

- طب اعملها يا عتمان وشوف مين هيجعد لك فيها بعد إكده!, أني ما اتبهدلش على آخر الزمن وجودام اللي يسوى واللي ما يسواش!

وفي أقل من لمح البصر يسكتها عثمان بصفعة مدوية على وجهها جعلتها تصرخ عاليا ألما, وغضبا, و... خوفا!!

نظرت اليه ويدها تغطي وجنتها اليسرى حيث علامات أصابعه الخمسة موضع صفعته, والتي شكلت مكانها لونا أحمر قان, همست راوية بغير تصديق:

- انت بترفع يدك عليا يا عتمان؟, اني مش مصدجة!, انت عمرك ما اعملتها!, بترفع يدك عليّا عشان ألفت وبناتها!

مد عثمان يده ليقبض على رأسها فيسقط وشاحها جانبا بينما تتأوه ألما وهو يقول بغيظ وغضب جعل أوداجه تنتفخ وبشدة:

- انتي واعية للي جولتيه؟, هما مين دول اللي ما يسووش؟, بوي وامي واخوي؟, انتي كل اللي هامك ألفت وبناتها؟, ايه ما عاوزاشي تنسي انها هي اللي فضّلها عليكي!

سكتت راوية في ذعر بينما تابع عثمان بين غضب وأسى:

- سنين وأني شايل جوايا ومعبِّي, وأجول خلاص يا ولد احنا ولاد انهارده, سنين وأني كاتم جواتي, فكرك مش عارف انك كتِّي حاطة عينك عليه.. على خويْ؟!, ومن فُجرك صارحتيه باللي جواك!

نظرت اليه راوية وقد غرقت معالم وجهها في دموعها المنهمرة بينما تشكلت كدمة زرقاء في زاوية فمها وتحدثت بتلعثم واضح:

- انت.. انت بتجول ايه؟, كدب ما حوصلـ.......

ليصرخ عاليا:

- اوعاكي تجولي كدب, اني سمعتك بدناتي التنيين يا بت عمي, يوميها شوفتك وانتي واجفة امعاه, آخر يوم كان فيه إهنه جبل ما يسيب البلد ويسافر, كانت اختك شايفاكم وأني كت بالصدفة جاي أتكلم امعاه أحاول أجنعه انه ما يزعِّلش بوه منِّيه لمن شوفت وسمعت كل حاجة....

ودفعها بقوة جانبا , ليهز برأسه أسى وأسف, ثم ينهار جالسا فوق المقعد خلفه وهو يردف بأسف وغضب:

- كت أتمنى يكون كدب, بس ما جدرتش أكدب وداني, ولمن جوم بعد الغيبة الطويلة ده كلاتها عرفت انك لساتك شايله في جلبك منيه ومنيها, مع ان هي مالهاش ذنب..

ثم رفع رأسه ناظرا اليها متابعا بحدة:

- لكن توصل بيكي انك تهيني خوي وبناته ومرته في وجودي ووجود بوي كبير العيلة.. يبجى لاه.. أدفنك مُطرحك ولا انك تكوني سبب في فرتنة العيلة..

لم تصدق راوية ما سمعته أذناها, هو يعلم!, انه على علم بكل شيء ومن قبل اتمام زيجتهما!, لما لم يخبرها؟, فجأة تغيرت صورة عثمان في ناظرها, ذلك الرجل التي كانت تسيّرها رهبتها وخوفها منه, لم تسأل نفسها أبدا عمّاهية شعورها تجاهه, فهو ابن عمها الذي أجبرت عليه, كانت طوال عمرها تخافه وتهابه لشخصيته القوية, فيما كان رؤوف هو الدائم الابتسام والطيبة, لذلك كان رؤوف هو فتى أحلامها, بينما عثمان صورة مطابقة من أخيها عدنان!

ارتمت أسفل قدميه وقالت وهي لا تتصور أن تخلو حياتها من عثمان!, رجلها ووالد أبنائها, هتفت برجاء:

- ليه ما جولتليش؟, والله العظيم ويمين تلاته ان عمري ما اتحدت مع خوك واصل, غيرشي هو اليوم دِه, انت ما تجدرش تحاسبني على عجلي واني لساتني بت 15 سنة, بس احلف لك على مصحف اني من وجت ما بجيت مرتك على سنة الله ورسوله ما فكرت في غيرك واصل, اني مش خاينه يا عتمان, مش خاينه يا ولد عمي!

نظر اليها برفض وأشاح بعينيه بعيدا, فانحنت على يده تقبلها وهي تغسلها بدموعها هاتفة:

- أحب على يدك تصدجني, صدجني وسامحني, اني طول عشرتي امعاك زعلتك مني واصل؟, كل اللي كت بتجول عليه كت بنفّذه بالحرف الواحد, اني مش غيرانه منيها زي ما انت فاكر عشان اللي حوصل زمان.. لاه!, هي جات خدت كل حاجة ع الجاهز, حتى مرت عمي ما بجيتش معايا زي الاول!, حتى انت يا ابو غيث... بشوفك بتشكر في أي حاجة بتعملها, دِه حتى زينب في صفّها, اني خالص ما عادليشي عازة, حتى زواج ولادي ماليش صالح بيه, عارف يعني ايه يتزوجوا بناتها؟, يعني تبجى مجابلاني يا هي يا حد من طرفها طول ما اني عايشة, ما جدراشي يا عتمان, افهمني!

جذب عثمان يده بعيدا ونظر بجدية اليها مجيبا:

- لازمن تنسي يا راوية, الست من يوم ما جات ما شوفناشي منيها غير كل خير, غيرك انتي!, فكرك اني معارفش اللي بيوحصل من وراي!, كلامك اللي بتسمي بيه بدَنْها!, أمي كات لازمن تبجى في صفها.. خصوصي انه الغلط راكبك من ساسِك لراسك, انتي اللي بتنفِّريهم منيك وتبعديهم عنّك, ده بدل ما تحاولي تاخديهم في حضنك, وتحبيهم وتبجى كيف أمهم!

زفر بضيق وأردف:

- أني عارف انك عمري ما خنتيني ولو بفكرك حتى, بس تفتكري ما زعلتش انك كت حاطة عينك على خويْ, وانك كت عاوزاه هو؟!, مش هكدب وأجولك اني لساتني متضايج من اكده بس برضيكي انتي مش بتخليني أنسى!

راوية بيأس ولا تزال راكعة على ركبتيها أمامه:

- أحلف لك بالله انه ما فيه حاجة في بالي من الحديت الجديم دِه, أني.. اني يمكن أكون زودتها اشوي خصوصي جودام عمي ومرات عمي بس..

رفع عثمان يده مانعا اياها من المتابعة وقال بجدية وهو يميل ليأسر عينيها في نظرة قوية:

- من غير بس, مرت خوي هي وبناتها كرامتهم من كرامة خوي, آخر مرة أسمح لك انك تتعاملي امعاهم ولا تلجحي عليهم بكلامك الماسخ دِه!, وموضوع زواجهم من ولادنا مالكيش صالح بيه واصل, ده موضوع الرجالة هي اللي تتكلم فيه, مفهوم ولّا لاه؟, ما عاوزشي أتحدت في الكلام دِه تاني!

أومأت بالايجاب وهي تسدل عينيها الى الأسفل, تنهد عثمان بيأس وهو يطالع وجنتها حيث بدأ اللون الأزرق يزحف مكان الصفعة, أشاح بعيدا وهو يقول بصوت خشن:

- خلاص, جومي شوفي هتعملي ايه وهمّليني لحالي, عاوز أرتاح شوي!

ونهض متجها الى غرفتهما تتابعه راوية بعينيها ودموعها تغرق وجهها ولكن ترى هل هي دموع الندم أم الحزن أم الغضب ممن كان السبب فيما حدث من وجهة نظرها؟! 

***********

- ليث يا ولدي تعالى عاوزك في موضوع..

لحق ليث بوالده في غرفة الجلوس, بعد أن استقر بهما المقام, نظر عدنان الى ولده وقال بهدوء:

- هنعملوا ايه مع ام عدنان؟

قطب ليث وتساءل:

- هنعملوا ايه في ايه يا بوي مش فاهم؟

عدنان بجدية:

- يعني لمن تفوت العدة.. هتفضل معانا اهنه ولا هتعاود لاهلها؟, ولمن تعاود هتاخد امعاها الولد ولا هتسيّبهم حدانا, الولد لساتهم اصغيرين حرام نحرمهم من امهم مش كفاية بوهم!

ليث عاقدا جبينه بقوة:

- وليه السؤالات دِه دلوك يا بوي؟, لا هي جالت عاوزة تعاود لاهلها ولا عمي جال انهم هياخدوها!

اغمض عدنان عينيه وزفر بضيق ثم فتحهما ناظرا اليه بتركيز مجيبا بجدية بالغة:

- لانه دِه اللي هيوحصل, ولازمن نكون مرتبين نفسنا وجتها ونعرفوا هنجول ايه..

ليث بزفرة حنق:

- ممكن تدخل في الموضوع طوالي يا بوي؟, اني مش فاهم انت عاوز توصل لايه بالظبط؟

نظر عدنان لابنه قائلا بصرامة:

- اتجوزها يا ليث!

هتف ليث بدهشة وهو يقفز عن قدميه واقفا كمن لدغته أفعى:

- باه!, بتجول ايه يا بوي؟

أشار اليه عدنان بالجلوس فأطاعه ثم أجاب عدنان بحزم:

- بجول اللي لازمن يوحصل!, بت عمك لساتها اصغيرة وحلوة ومن عيلة كبيرة وألف عيلة تتمنى تناسب الخولي, وما يعيبهاشي انها أرملة.. دِه أمر الله, واحنا مش هنجدر نجفوا جودام نصيبها, مهما كان هي لساتها اصغيرة ووكيد بوها مش هيوافج انها تفضل مترملة العمر كلاته! 

ليث باستهجان:

- يعني ايه؟, هيزوجها إيّاك!

عدنان بجدية:

- طبعا, واني هوافجه, دِه حلال ربنا!

ليث بانفعال رغما عنه:

- بس كيف نخلي غريب هو اللي يربي اعيالنا؟, لو رايده الزواج هي حرة بس تهمّل لنا اعيالنا..

عدنان بزفرة تعب:

- يا ليث افهم, حرام العيال لساتهم اصغيرين ليه يتحرموا من امهم مش كفاية بوهم؟

ليث رغبة منه بانهاء النقاش في هذا الموضوع الذي بدأ يثير حنقه و... غضبه!, وقف وأجاب:

- لمن تبجى عدتها تخلص ويجي لها عريس يبجى نشوف هنعملوا ايه, عن اذنك يا بوي!

ليصدح صوت عدنان خلفه مانعا اياه عن التقدم ما ان لفظ كلمته:

- وان جولتلك انه عريسها موجود!

تسمر ليث واقفا في مكانه قبل أن يلتفت الى أبوه مرددا بغير تصديق:

- عريسها موجود!, كيف دِه؟, ومين؟, هي لساتها في العدة!

عدنان وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة:

- يبجى مجاهد ولد جابر الخولي, من الخولي برضيكي, مجاهد كان صديج المرحوم الروح بالروح, بوه حدتني أني ما ينفعشي يكلم عتمان وبتّه لساتها في العدة, هو عارف انها مطمع ناس كتير جوي, زينة ومن عيلة و...

هتف ليث وغضب من نوع آخر يتصاعد في صدره:

- بكفاياك يا أبويْ, ما عاوزشي أسمع جالو ايه!, الحديت دِه مالوشي عازة دلوك.. واحنا مش جاصرين على ترباية اعيالنا..

عدنان محاولا توضيح الصورة له:

- يا ولدي افهم, كلامهم خلاني أوعى انه سلسبيل مسيرها تتزوج, وسلسبيل خسارة وألف خسارة, وأديك شايف امك روحها فيها وفي العيال, وانت ما شاء الله عليك رجل طول بعرض وولد عمها وانت اولى بتربية صغار خوك من غيرك, جولت ايه؟

زفر ليث بيأس وهتف:

- ربنا يجدم اللي فيه الخير يا بوي!

ألح عدنان قائلا:

- برضيكي يعني ايه؟

هتف ليث قبل أن يولي مغادرا:

- اللي تشوفه يا بوي اللي تشوفه!

لينصرف والشياطين تتراقص أمام عينيه بينما ارتسمت ابتسامة راحة على فم عدنان, فيما وقف ليث ما أن غاب عن ناظري والده متمتما وهو يستند برأسه الى الجدار خلفه ليضربه بخفة مرات عدة:

- أتزوجها كيف بس؟, ده كانت مرته يا بوي مرته!

ليعتدل واقفا وهو يتابع بعينين يملؤهما التحد والاصرار:

- لكن طالما اكده ولا اكده هتتجوز تاني يبجى أني هكون جدرك ونصيبك يا سلسبيل, زي ما انتي جدري اللي مجدرتش أهرب منِّي واصل مهما حوصل!

************************

التزم رؤوف برغبة سلمى في عدم الضغط عليها, وكان قد مر أسبوع على حديثه معها, كانت لقاءاتها بشهاب تقتصر على تبادل السلام والتحية, كان كثيرا ما يزورها في المستوصف الصغير الذي تم الانتهاء منه, كانت تتعامل معه بمنتهى البرودة والرسمية الأمر الذي كان يجعل شهاب يستشيط غيظا وغضبا ولكنه كان يحاول تمالك نفسه تماما كما وعد عمه!, بينما حاول غيث مرارا مفاتحة سلافة في أمر ارتباطهما والتي ما ان تقع عيناها عليه حتى تنظر الى يديه وتشيح بنظرها سريعا لتبتعد عن أي مكان يصدف وجوده به حتى أنها امتنعت عن الذهاب الى الديوان وكان كل العمل المطلوب منها تقوم به عن طريق الحاسوب من المنزل الأمر الذي كاد يذهب بعقل غيث, وعقد العزم على مواجهتها قريبا جداً!!..

- دكتورة سلمى شعبان تعبان جوي يا دكتورة..

نهضت سلمى وقالت لسالم الممرض الخاص بالمستوصف:

- ماله يا سالم؟, لو معاك بره دخله!

خرج سالم من فوره ليعود في غضون ثوان برفقة شعبان وشخص آخر يسنده, أمرت سلمى بوضعه فوق سرير الكشف, وقف معها سالم ومتولي رفيق شعبان, بعد أن فحصته قالت:

- دي كريزة كلى, مش انا قلت لك كذا مرة لازم تروح عند دكتور مسالك بولية شاطر يا شعبان؟؟

استمعت اليه وهي تتناول محقنا لتجهيز الدواء اللازم لحقنه عندما دلف شهاب الى العيادة بغتة, نظرت اليه رافعة حاجبها بدهشة وتساؤل, قال شهاب وهو يدير نظراته بين الرجال الثلاث الذي يحيطون بها هي الأنثى الوحيدة وكأن ما يراه لم يرق له فقال مقطبا جبينه:

- معلهش مالاقيتش سالم, قلت اطمن عليكي!

لم تجبه وبدلا من هذا التفتت الى شعبان الذي يضع يده على مكان الألم في جنبه الأيسر وهو يتأوه بقوة من شدة الألم, قالت وهي تشير الى سالم ليساعده في رفع ثوبه لتحقنه بالمسكّن:

- معلهش يا شعبان الدوا دا بإذن الله هيهدي الألم...

نظر شهاب الى سالم الذي يساعد شعبان في رفع الجلباب ثم الى سلمى التي وقفت بعيدا تتظاهر بالانشغال بالنظر الى المحقن بيدها, تاركة له المجال حتى يجهز لحقنه, تقدم اليها بخطوات سريعة ووقف أمامها وهو يهتف بحدة بصوت منخفض:

- انتي فاكرة نفسك هتعملي ايه؟..

نظرت اليه بدهشة حائرة وأجابت:

- أفندم؟, هعمل ايه يعني؟, هديلو حقنة...

سخر شهاب مقلدا اياها:

- هديلو حقنة!, يا سلام!, لا طبعا ما ينفعش!..

سلمى بنزق محاولة عدم رفع صوتها وهي تسترق النظر بين كل كلمة واخرى الى مريضها:

- هو ايه دا اللي مينفعش!, سالم مش بيعرف يدي حقن, وانا الدكتورة هنا ودا مريض, يبقى مين اللي هيديلو ان شاء الله.. انت؟!

مشيرة اليه بسخرية, فنظر اليها ضاغطا على شفتيه بقوة قبل أن يجذب المحقن من يدها بشدة أجفلتها وهو يحتد قائلا:

- آه..

هتفت به بصوت منخفض غاضب:

- تعالى هنا.. هو ايه اللي آه؟, انت عمرك اديت حقن قبل كدا؟

شهاب بسخرية:

- للبهايم ولا مؤاخذة, وبيتهيالي البني آدمين مش هتبقى بعيدة اوي عنهم, مش كيميا يعني..

سلمى محاولة أخذ المحقن من يده بينما يبعد يده عنها:

- بقولك ايه يا شهاب دي مش اول مرة أدي حقن لرجالة, ودا بالذات انا عارفة حالته كويس وسبق واديتو قبل كدا, هات الحقنة الراجل تعبان احنا مش عيال صغيرين!

شهاب برفض قاطع:

- لا يعني لا, وحكاية تدي حقن لرجالة دي لينا فيها كلام تاني, محدش هيديلو الحقنة الا أنا, قوليلي ازاي لو خايفة عليه أوي!

سلمى بزفرة يأس:

- يا ربي أقوله دكتورة يقول لي حقن لأ, يا بني أنا بعمل عمليات مبفرّقش بين راجل وست دول كلهم حالات بالنسبة لي!

لم تر تجاوبا منه فزفرت بحنق وأشارت اليه بكيفية اعطائها, تقدم شهاب منه وحدجها بنظرة زاجرة ما ان اقتربت منه لتبتعد, سمعت صوت صراخا عاليا من الرجل سكت تماما بعدها, ما جعلها تقطب, تقدمت ببطء وكان سالم قد ساعده على ترتيب ثيابه, قالت:

- انت كويس يا شعبان؟

رفع شعبان عيناه الذابلة اليها وأجاب وهو ينقل نظراته بينها وبين شهاب الواقف امامه يحدجه بنظرات تحذيرية واضحة:

- الحمد لله يا دكتورة, الباشي مهندز يده بصراحة تجـيلـ... خفيفة.. خفيفة...كيف المرزبة تومام!

ساعده متولي زميله في النهوض, وناولته سلمى وصفة طبية مع تشديدها عليه في الذهاب الى طبيب متخصص, ما ان انصرفوا حتى التفتت الى شهاب هاتفة بحنق وهى ترفع سبابتها في وجه:

- آخر مرة تيجي لي العيادة فاهم؟, أهو دا اللي ناقص دكتورة وأعالج العيانين بتوعي بالمراسلة!

هتف شهاب بغضب:

- وانا ما اقبلش انه يتكشف عليكي رجاله, عاوزة تكشفي يبقى ستات بس, الرجالة يروحوا المستوصف بتاع المركز, وانا هقول لجدي كدا!

سلمى بذهول:

- ايه التخريف دا؟ يا باش مهندس افهم.. انا دكتورة.. وجراحة كمان.. يعني بعمل عمليات للصنفين ستات ورجالة مش على أد حقنة وبس..

شهاب بأمر:

- كانت أيام وخلاص, من هنا ورايح انت تخصص ستات بس!

تخصرت سلمى هاتفة بحنق:

- يا سلام ومين اللي قال كدا ان شاء الله؟, وبمناسبة ايه؟

تقدم منها شهاب حتى على أصبح على بعد انملة منها ومال عليها ناظرا بعمق في زيتون عينيها مجيبا وهو يشدد على كل كلمة تخرج منه:

- أنا اللي بقول, أنتي مش هتكشفي على رجالة تاني, انا مقبلش ان مراتي تتعامل مع أي صنف مذكر غيري!

عقدت سلمى جبينها في حيرة ورددت:

- مراتك!

أكد قائلا:

- ايوة, مراتي..

هتفت بجنون:

- مرات مين؟, شهاب انت جرالك حاجة؟, أنا مش موافقة ومش ممكن...

ليقطع سيل حديثها صوتا لم تصدق أذنيها حين سماعه, كان صاحب الصوت يقف أمام الباب المشرّع وهو يهتف:

- سلمى حبيبتي, أخيرا عرفت أوصلك, وحشتيني أوي يا سمسمة!

لتفتح سلمى عينيها واسعا وهي تلتفت الى مصدر الصوت في ذهول لينقلب الى دهشة عارمة وهي تهتف بغير تصديق:

- أحمد!!

بينما ينظر شهاب الى هذا الواقف فاتحا ذراعيه على وسعهما وترتسم ابتسامة عريضة بلهاء على وجهه الوسيم, ضيق شهاب عينيه ناظرا له نظرة تساؤل وغموض بينما يحدج سلمى بنظرات أقل ما يقال عنها أنها.. ناااااااارية!!

الحلقة الثانية عشر

(كبير العيلة (منى لطفي

- مين دا يا سلمى؟.

تساءل شهاب مقطبا الجبين, دلف احمد الى الداخل متجها الى سلمى غير ملتفت الى من يقف بجوارها, وقف أمامها وقال بنظرات مشتاقة:

- وحشتيني...

لتمتد يد كالكلّاب تمسك بمقدمة قميصه ويجذبه شهاب اليه بقوة ناظرا اليه بغضب وحشي وهو يزمجر من بين أسنانه: 

- احترم نفسك!, انت مش شايف راجل جنبها؟..

حاول أحمد دفع يد شهاب بعيدا وهو يهتف بغلظة:

- ايه يا عم انت, انت مالك؟, انا جاي علشان د. سلمى انت تبقى مين؟

شهاب وهو يدفعه بعيدا عن مسار سلمى ويكور قبضته متأهبا لضربه هاتفا بغضب عاصف:

- انا هعرفك دلوقتي أنا أبقى مين؟

وما ان هم بلكمه حتى هتفت سلمى:

- بس كفاية..

اتجهت اليهما في حين نظر اليها شهاب ورغبة في قتل هذا الكائن الطفيلي تتفاقم لديه, وقفت سلمى بجوار شهاب ناظرة الى أحمد ببرودة وهي تقول:

- نعم.. أقدر اعرف سبب الزيارة؟

أزاح أحمد يد شهاب جانبا ودفعها بقوة ليعيد ترتيب ثيابه التي تجعدت من هجوم شهاب المباغت عليه, ثم أجاب وهو يرمق شهاب شذرا: 

- عاوزك لوحدنا يا سلمى...

زمجرة شديدة صدرت من شهاب وصرخ وهو يهم بالانقضاض عليه: 

- لاااا... دا انت قليل الادب بقه وعاوز تتربى..

سلمى وهي تقبض على ذراع شهاب وتنظر اليه مطالبة له بالصمت, لتلفت الى احمد متسائلة بجمود تام:

- عاوز ايه؟, أي حاجة عاوز تقولها اتفضل قولها دلوقتي انا مبخبيش على شهاب حاجة!

قطب أحمد وسأل باستهزاء:

- ليه؟, يبقى مين ان شاء الله؟

شهاب بترفع ونظرة غضب سوداء تلمع في مقلتيه: 

- انا ابن عمها... وخطيبها!

ليبتسم أحمد ابتسامة ساخرة ويرد ببرود تام:

- وأنا أحمد.. جوزها!!.. 

كتمت سلمى شهقة داخلها وهمّت بالرد عليه عندما فاجئها شهاب بأن نظر الى أحمد نظرة استعلاء واضح قبل أن يقول ببرود وابتسامة صفراء تزين ثغره المغطى بشارب ولحية خفيفة:

- قصدك اللي كان.. جوزها!

أفلتت شهقة سلمى هذه المرة ولكن من عبارة شهاب, نظرت اليه بعدم تصديق في حين تمتم أحمد مقطبا جبينه:

- إنت عارف أنها كانت مراتي؟

بصعوبة تمالك شهاب نفسه من أن يكيل اللكمات الى هذا المغرور السخيف, فكلمته التي ادلى بها بمنتهى البرود من أن سلمى إمرأته جعلت الشياطين تتقافز أمام عينيه.. نسبها الى رجل آخر يثير لديه غريزة رجل الكهف في الدفاع عمّا هو له.. وهي له... لن تنتسب الى رجل غيره.. وسيكون ملعونا ان لم يحصل عليها وسيعمل على جعلها تؤمن بأنه هو رجلها الوحيد وسيجعلها تعترف بذلك إن آجلا أو عاجلا!....

أجاب شهاب بحدة مكتومة واسلوب ساخر:

- قصدك مكتوب كتابكم؟, الموضوع دا كان من سنتين تقريبا والحمد لله ربنا نجاها منك بعد ما أثبت أد إيه انت انسان ندل وخسيس وواطي... أقدر أعرف راجع عاوز ايه؟

هتف أحمد بحدة:

- أنا مسمحلكش تكلمني بالاسلوب دا؟

شهاب باستهزاء:

- انا أساسا مش عاوز أتكلم معاك خالص, لكن زي ما انت شايف انت اللي جيت برجليك... وبما إن سلمى بقيت تخصني يبقى أنا لازم أتلكم معاك وافهم...

احمد ينقل نظراته بين هذا الليث الغاضب وبين سلمى المذهولة التي تتابع ما يحدث بذهن غائب, قال أحمد ببرود مغيظ وهو يزيل شيئا وهمي عالق بكم سترته:

- وانا اعتقد اني قلت انى عاوز سلمى لوحدها؟!..

ثم وجه نظرة مليئة بالتحدي لشهاب وهو يتابع:

- زي ما انت خطيبها دلوقتي أنا كنت في فترة من الفترات جوزها أو.. اللي كاتب كتابه عليها, وأعتقد انه فيه حاجات بيننا مالهاش أي صلة بيك؟!

الى هنا ونفذ صبر شهاب ولم يستطع السيطرة على غضبه أكثر من هذا لينفلت غضبه من عقاله ويهوي بقبضة كالحديد محطمّا فك أحمد لتنزف شفته وأنفه على حد سواء وينظر مبهوتا الى شهاب الذي يقف يلهث من شدة ما يضطرم بداخله من نيران تتأجج مهددة في حرق كل من يقف في طريقها!

انتبهت سلمى من شرودها وذهولها نتيجة مفاجئتها بمعرفة شهاب بأمر ارتباطها السابق بأحمد لتهتف باعتراض وهي ترى أحمد ينزف ويقف محاولا ايقاف سيل تدافع الدماء من أنفه وفمه على حد سواء بينما يقف ذلك الليث الهائج متحفزا على أهبة الاستعداد لأعادة الكرة مرات كثيرة, هتفت بنزق وهي تسرع باعطاء أحمد محارم ورقية لمسح الدماء التي تقاطرت على قميصه:

- مش ممكن يا شهاب, كويس كدا؟, انا أقدر أوقفه عند حده, بس ما ينفعش الضرب!

نار... نار تزداد وتتأجج وهو يستمع لتقريعها له وكأنه طفل صغير قام بفعل سيء!, بينما ذلك المتحذلق المغرور يقف محاولا مسح جرحه وهو يطالعه بنظرة ساخرة متشفية, هتف شهاب وهو يقترب منها والنيران تتصاعد من فحم عينيه المشتعل:

- امشي دلوقتي يا سلمى وسيبيني أنا هتصرف...

وقفت بينهما تهتف بحنق:

- انا مش همشي, الموضوع يخصني أنا..

ثم التفتت الى أحمد الواقف يطالع شهاب باستفزاز لتهتف به محتدة:

- في كلمة ونص أعرف ايه سبب زيارة حضرتك يا دكتور!

نظر احمد الى شهاب الواقف كالصقر المتربص به يحاول تمالك أعصابه بصعوبة, أجاب أحمد محاولا كسب عطفها:

- هتكلم ازاي والاستاذ واقف فوق راسي كدا, عاوز اتكلم معاكي على انفراد لو سمحتي...

نفخت سلمى بضيق ولم تجد بدّا من القبول بسخط والتفتت لتطلب من شهاب تركهما بمفردهما لتبتر كلماتها قبل أن تتلفظ بها ما إن وقعت عيناها أسيرة عينيه!, نظر اليها بتركيز وتقدم منها ليقف قبالها تماما ويقول بغضب مكبوت بينما خافقه يضرب بعنف في جنبات صدره وهسيس أنفاسه الساخنة تضرب وجهها بلهيب حارق:

- اوعي تقولي انك موافقة على طلب المجنون دا؟, اقسم بالله على جثتي أني أمشي وأسيبك معاه!

هتفت سلمى بيأس:

- شهاب أرجوك.. دي مشكلتي أنا وأنا بس اللي أوافق ولا أرفض!

نظر اليها بجدية هاتفا بصرامة بكلمة واحدة ولكن باترة حادة كشفرة السكين:

- لا....

زفرت بضيق في حين لم يتحمل أحمد هذا البائس الذي يقف بينه وبين الانسانة الوحيدة التي خفق لها قلبه, ليتقدم برعونة لم يدرك خطؤها الّا لاحقا وهو يهتف بغضب:

- قالت لك سيبنا لوحدنا, هي عافية يا أخينا؟!

لمعت عينا شهاب وانطلقت يده كالقذيفة تمسك بتلابيب أحمد وهو يهتف بصوت ترجف له الأبدان وترتعش له المفاصل:

- أه عافية, ووريني بقه هتعمل ايه؟

وما إن أنهى عبارته حتى لكمه بقوة على وجنته ولكن أحمد لم يسكت هذه المرة ليرد له الصاع الصاعين وبدأ الصراع بينهما بين ركل وضرب وسباب, ابتعدت سلمى عنهما ووقفت تنقل نظراتها بينهما لتنفخ في يأس ثم تسرع حاملة حقيبتها اليدوية الى الخارج بينما لا يزالان يكيلان لبعضهما الركلات واللكمات, وجدت سيارة شهاب الرباعية المكشوفة واقفة خارج المستوصف ولحسن حظها كانت المفاتيح بداخلها, صعدت الى السيارة وانطلقت بها وسط عاصفة ترابية ضخمة لتصدر عجلاتها صوت صرير عال دليلا على مدى السرعة التي انطلقت بها, فينتبه شهاب واحمد الى صوت السيارة فيدفع شهاب بأحمد جانبا بقوة بعد أن يلكمه اللكمة الأخيرة التي أطاحت به بعيدا ويسرع في إثر سلمى فيفاجأ بعدم وجود سيارته, ويبصر غيث آتيا من بعيد على حصانه فيشير اليه ليتقدم منه ويقف وهو مذهول من حالة توأمه المزرية, ترجل غيث من فوق حصانه وتقدم الى شهاب هاتفا:

- باه.. ايه اللي عِمِل فيك إكده يا وِلد أبويْ؟

اندفع شهاب صاعدا الى فرس غيث وهو يهتف هامّا بالانصراف:

- هقولك بعدين, فيه ضيف عندك في العيادة اتأكد انه يخرج بره البلد وما يهوّبش ناحيتنا هنا تاني, سلام...

وانطلق كالقذيفة بينما تتابعه نظرات غيث المحتارة وهو يعقد جبينه في تساؤل لم يلبث أن تحول الى دهشة بالغة وهو يفاجأ برجل غريب يخرج من المستوصف وحاله ليست بأحسن من حال شهاب بل أسوأ بمراحل!!

************************

صفّت سلمى السيارة وترجلت لتنطلق الى الداخل, ما ان دلفت حتى اتجهت من فورها الى الأعلى دون أن تلتفت الى مناداة أمها لها والتي راعها حال ابنتها, اتجهت ألفت من فورها الى غرفة الجلوس حيث رؤوف زوجها وهتفت بخوف:

- رؤوف الحقني, سلمى راجعه من بره شكلها غريب أوي, زي ما تكون منهارة!

لينطلق رؤوف من فوره تاركا أخيه ووالده يتبادلان نظرات التساؤل والحيرة!

ما أن وصل رؤوف الدرج متأهبا للحاق بابنته حتى أبصر شهاب وهو يدلف كالطلقة هاتفا بلهفة واضحة:

- سلمى.. فين سلمى؟, عمي سلمى جات؟

نظر اليه رؤوف مليا واقترب منه وجال بعينيه على شهاب من قمة رأسه الى أخمص قدميه ليتساءل بتقطيبة عميقة بين حاجبيه:

- أقدر أعرف ايه اللي حصل؟, وايه اللي عمل فيك كدا؟, وبنتي راجعه شبه منهارة ليه؟

نظر شهاب الى عمه وأجاب بقوة:

- أنا هقول لحضرتك كل حاجة....

دفعه رؤوف الى غرفة المكتب وما ان دخلا وأغلق الباب خلفهما حتى أوقفه أمامه وقال وهو يميل ناظرا اليه بجدية:

- اتفضل أنا سامعك...

بعد أن انتهى شهاب من سرد ما دار بينه وبين سلمى وذاك المتحذلق حتى سكت وجلس يرمق عمه بنظرات تساؤل وقلق في انتظار سماع تعليقه عمّا حدث, تحدث رؤوف بنظرات غامضة وهو يكتف ساعديه مستندا الى ظهر مقعده:

- يعني أحمد رجع وعاوز يتكلم مع سلمى؟

أومأ شهاب بالايجاب وهتف:

- حقير!, بني آدم أحقر وأوطى منه ما شوفتش!!

رؤوف بتساؤل:

- وسلمى كانت موافقة على كلامه؟

شهاب بغيظ:

- كانت رافضة في الأول لكن لما هو صمم وافقت, بس أنا اللي ما رضيتش....

ثم توجه بإلحاح الى رؤوف مردفا:

- عمي لازم أنا وسلمى نعلن ارتباطنا رسمي, لازم الكلب دا يعرف أنه ما عادلوش سكة رجوع مع سلمى, لولا اني وعدت حضرتك ان الموضوع يفضل سر بيننا كان زماني دافنه بالحياة في مكانه, يسيب بنت عمي قبل الفرح بأيام!, يحمد ربنا انه حضرتك سبت بلادنا من زمان لو دا حصل عندنا هنا كان زمانه قال على نفسه يا رحمن يا رحيم, بناتنا مش لعبة, ولازم اللي عمله دا كان يدفع تمنه!

رؤوف بزفرة خانقة:

- ما انا قلت لك يا بني, وقتها كنت عاوز أخلصها من بين إيديه بأي طريقة, ما كانش هاممني الا بنتي, شهرين في المصحة بتتعالج من انهيار عصبي حاد أدى ان صوتها يروح بسببه, عمري ما كنت أعتقد انه يطلع بالندالة دي كلها, ومش عاوز كمان يسيبها لأ قال ايه بيحبها والتانية اللي اتجوزها في ألمانيا كانت علشان ياخد الجنسية وبس, بعد ما سافر عشان الدكتوراه ولاقى نفسه ما فيش شغل والفلوس معجزة معاه واهله هنا ناس من طبقة متوسطة الأب موجّه على المعاش والأم ست بيت وعنده أخين وتلات أخوات بنات غيره, طبعا الحالة ما تسمحش خالص انهم يساعدوه, المنحة اللي جات له من كلية الطب عشان يكمل دراسات عليا مش شاملة مصاريفه هو, الاقامة بس والدراسة, شاروا عليه ولاد ال... حلال انه يتجوز عشان ياخد الجنسية ويقدر يلاقي شغل, اتجوز من ورانا, كان خاطب سلمى من قبل ما يسافر وقالت له هستناك, كانوا زملا في الكلية, هو سابقها بسنتين, كان بيلح عليها علشان تقبل بارتباطهم ولما جالي وقعدت اتكلمت معاه ما انكرش اني اتغشيت فيه, كان بيتهيالي انه راجل وأد كلمته, وبعد ما خد الدكتوراه رجع عشان يتمم جوازهم, كان صمم انه يكتب قبل ما يسافر بحجة انه خايف سلمى تضيع من ايده, وانا وافقت اتخطبوا آخر سنه له في الكلية وعارفين بعض كويس, رجع عشان الفرح, وقبل الفرح باسبوع واحد بس عرفنا انه متجوز في المانيا واحده عندها فوق الاربعين سنة, واللي قالنا صاحبه اتخانقوا سوا ففتن عليه, الموضوع سهل, شهرين بتتعالج وهو رافض الطلاق لغاية ما هددته اني أروح السفارة وأقدم لهم ما يثبت انه متجوز وهناك الجمع بين زوجتين بيعاقب عليه القانون, فوافق انه يطلقها, بعدها ابتدت تتحسن شوية بشوية, الموضوع فات عليه سنتين, اتفاجئت بيه من كم شهر نزل مصر وعاوز يستقر ولما عرف ان سلمى لسه ما اتجوزتش لاقيته بيكلمني عاوز يقابلها وعاوز يرجع لها تاني, وقتها انا فعلا كنت بفكر أني أرجع البلد هنا, وقلت خلاص... لازم أمشي, خفت حالتها تتنكس تاني وجبتهم وجيت على هنا....

سكت قليلا ليلتقط انفاسه ثم تابع بيأس:

- انا قلت لك كل دا لما فاتحتني انك عاوز تخطبها, بنتي ما غلطتش وكنت لازم اكون صريح معاك من أولها لكن المشكلة دلوقتي انها عرفت انك عرفت.. ودي حاجة خاصة بيها, أنا متأكد انها متضايقة لكدا, غير طبعا اللي اسمه أحمد دا اللي انا مش عارف هو عاوز ايه ولا ناوي على ايه؟

كشر شهاب عن أنيابه وقبض يده بقوة وتحدث بحزم مخيف:

- طيب خليه يقرب من سلمى بس وهو يشوف اللي هيجرالو!..

ثم أردف بعزم:

- عمي أنا مصمم على جوازي من سلمى وأملي انه حضرتك تقدر تساعدني...

رؤوف بقلة حيلة:

- ايوة يا بني الأول كان ممكن لكن بعد سلمى ما عرفت انك عندك خبر باللي حصل معاها قبل كدا هتفتكر انه دا شهامة منك ولو كانت رافضة فكرة ارتباطكم بنسبة 50% هتبقى رافضاه دلوقتي بنسبة 200%!!

زفر شهاب بحنق وأجاب:

- الله يبشّرك بالخير يا عمي...

قال رؤوف بشرود:

- هو فيه حل بس....

ليندفع شهاب هاتفا:

- الحقني بيه يا عمي أبوس ايدك!

نظر رؤوف اليه قبل ان يقول بجدية تامة:

- اعرف الاول ايه سبب اصرارك الرهيب دا انك تتجوز بنتي؟, وما تقوليش بنت عمك وانت أولى بيها والكلم دا.. خليك صريح وقولي الحقيقة!!

ازدرد شهاب ريقه بصعوبة ونظر الى عمه بنظرات يشوبها الارتباك قبل ان يتماسك ويوجه نظره اليه بثبات مجيبا بجدية بالغة وعيناه تلمع ببريق العزم والتحد:

- انا هقول لحضرتك السبب...

********************

- يوووه يا سلافة...

هتفت سلمى بغيظ الى سلافة التى كانت تُخرج ما تضعه سلمى في حقيبتها الكبيرة, هتفت سلافة بعناد وتشبث وهى تخرج ثياب سلمى التى تضعها في الحقيبة:

- ما هو انا مش هتحرك من هنا قبل ما تفهميني فيه ايه؟.

نظرت اليها سلمى بغيظ وزفرت بحنق هاتفة:

- هنزل مصر.. ارتحتي؟

سلافة بتساؤل:

- ليه؟

سلمى بتهديد:

- سلافة.. بلاش شُغل كرومبو دلوقتي, مش فايقالك!

سلافة بعناد:

- بردو مش همشي غير لما أفهم فيه ايه؟, وبعدين انتي فاهمه ان بابا هيرضى يخليكي تنزلي مصر؟, يا بنتي قوليلي فيه ايه؟

صرخت سلمى بيأس ودموعها تطفر من عينيها رغما عنها ما جعل سلافة تشعر بأن الأمر جلل:

- فيه اني تعبت!, والله العظيم تعبت!

ثم ارتمت فوق الفراش تبكي لتجلس سلافة بجانبها تربت على كتفها بينما تدفن سلمى وجهها بين ذراعيها منخرطة في بكاء حار شبه راقدة فوق الفراش, همست سلافة وهي تكاد تبكي معها:

- سلمى فيه ايه؟, طيب أنا آسفة حبيبتي ما تزعليش, سلمى أنا...

اندفعت سلمى تلقي بنفسها بين ذراعي أختها وهي تتمتم بكلمات خافتة جعلت سلافة تقطب محاولة الانصات وما ان فهمت ما تقوله حتى فتحت عينيها واسعا وهي تردد:

- ايه؟, احمد رجع تاني؟..

لتكشر عن أنيابها مردفة:

- والمأسوف على شبابه دا رجع يهبب إيه تاني؟, مش كفاية اللي عمله؟

ابتعدت سلمى عن أختها محاولة كفكفة دمعها وابتسامة تشق طريقها وسط دموعها وتقول:

- يخرب عقلك يا سلافة, مش عارفة أضحك ولا أعيّط؟!

سلافة بغيظ:

- لا طبعا تضحكي.. تعيطي بتاع ايه ان شاء الله؟, ما يستاهلشي انك تعيّطي علشانه!, عيّطوا عليه ساعة وسكتوا البعيد!

لتخرج ضحكة مبتورة من فم سلمى, ثم سكتت قليلا لتنظر الى أختها بأهداب مبللة من بقايا دموع وهي تقول:

- بس اللي مش متصوراه انه.. شهاب طلع عارف!

قطبت سلافة مرددة:

- شهاب طلع عارف!, عرف منين؟, وعارف إيه؟...

لتتوسع حدقتاها وتتابع مجيبة على سؤالها بنفسها:

- انتي قصدك عارف بموضوع مخفي الذكر اللي اسمه أحمد دا؟

أومأت سلمى بالايجاب, قطبت سلافة ناظرة اليها بتركيز قبل أن تميل عليها هامسة وكأنها تكاد تفشي سرّا دوليّا خطيرا:

- وانتي بقه بتعيطي علشان شهاب عارف ولا علشان البتاع دا رجع؟

نظرت اليها سلمى لثوان ثم أشاحت بعينيها بعيدا فتابعت سلافة بلهجة من توصل الى سر الذرّة:

- يبقى بتعيطي علشان عرف صح؟, انما السؤال دلوقتي... ليه يا أختي يا حبيبتي؟, ما يعرف انت معملتيش حاجة غلط.. الظروف وقعتك مع واحد واطي والحمد لله اتكشف لنا في الوقت المناسب, يببقى تمسحي دموعك يا آمال... أووه.. أقصد يا سلمى, وتعالي اغسلي وشّك كدا, وبعدين نتكلم في موضوع الباش مهندس....

تعالى صوت طرقات الباب لتدلف ألفت بعدها وهي تقول بقلق أمومي:

- سلمى حبيبتي انتي كويسة؟

طالعتها سلمى بعيون دامعة وأبصرت ألفت حقيبة السفر الكبيرة فوق الفراش فهتفت مشيرة اليها:

- ايه دا يا سلمى؟

واتجهت الى ابنتها فوقفت سلافة معيقة سير والدتها وهي تقول بجدية مفتعلة:

- ما حصلش حاجة يا لولو, كانت لطشة شمس في دماغها وفاقت الحمد لله...

زفرت ألفت قائلة:

- على العموم بابا وشهاب ابن عمك برّه.. بابا عاوزك...

أجابت سلافة بدلا عنها في حين همّت سلمى بالإعتذار عن الخروج:

- قولي لبابا ثواني وهتكون عنده..

خرجت ألفت والتفتت سلافة الى سلمى متابعة:

- قومي اغسلي وشّك وانا هروح اعمل لنا كلنا لمون وغيري هدومك وحصّليني..

وانصرفت سلافة تاركة سلمى تحاول استيعاب ما يحدث لها!

*******************

انضمت سلمى لباقي أفراد عائلتها في غرفة الجلوس حيث كانوا يحتسون شراب الليمون الطازج الذي قامت بإعداده سلافة, وقف شهاب ما إن لمح هيئتها, فقطب رؤوف ليتتبع مسار عيني شهاب, فاستراحت أساريره بعد ذلك وأشار لسلمى بالقدوم قائلا:

- تعالي يا سلمى يا بنتي...

تقدمت سلمى لتجلس على أول مقعد يقابلها ليأتي حظها في مقابل شهاب تماما..

خانتها عيناها بالنظر اليه لتطالعها كدمة زرقاء أسفل عينه اليسرى وأخرى فوق وجنته اليمنى, قطبت فقال شهاب بابتسامة خفيفة واعيا لنظراتها:

- لا دي حاجة بسيطة, بس ولا يهمك.. غيّرت لك ديكور وشّه خالص!!

صوت رنين جرس الباب فنهضت سلافة لتفتح, ثوان وعادت في أعقابها غيث, نهض شهاب ينظر الى غيث مقطبا, في حين قالت سلافة للوجوه المتسائلة:

- غيث ابن عمي ما حبش يدخل بإيده فاضية,’ بس بصراحة انا ركنت الشيء اللي جايبه معاه برّه لغاية ما آخد اذنك يا بابا!

تقدم شهاب من غيث وهمس له:

- شيء ايه دا اللي معاك؟

غيث بقهر:

- الجدع اللي حضرتك ضربته لحد ما يبان له صاحب!, مش عاوز يحكي حاجة وانت موبايلك مجفول, صمم يجابل عمي رؤوف, ما رضيتش حد من اللي تحت ينضُرُه دخلته من الباب الجنينه الورّاني, على اهنه على طول!

في حين قال رؤوف لسلافة:

- مين يا بنتي اللي بره؟

سلافة بزفرة ضيق:

- الشيء اللي اسمه احمد!

لينهض رؤوف في دهشة تبعته سلمى, في حين قالت ألفت وهي تنظر الى ابنتها الكبرى في جدية موجهة حديثها الى رؤوف:

- اعتقد يا رؤوف لازم تشوف هو عاوز ايه؟, مش معقول يجري وراها في كل مكان كدا؟

قطب غيث بعدم فهم لما يدور حوله في حين قبض شهاب على أصابعه حتى ابيضت سلاميات أصابعه, قال رؤوف وهو يشير الى ابنته الصغرى:

- دخّليه يا سلافة!

قطبت سلافة بغضب واتجهت حيث تركت أحمد بالخارج وهى تتمتم بصوت مسموع لقطه غيث بسرعة:

- الهي يدخّلوك مرابعة يا شيخ روح!

نظر غيث الى شهاب المتحفز بجانبه وهو يهمس بدهشة:

- بت عمك اتجننت!, بتكلم روحها!

دخلت سلافة وفي أعقابها أحمد الذي دار بعينيه في وجوه الموجودين, حتى تقدم الى بغيّته رافعا يده للمصافحة وهو يقول:

- أزي حضرتك يا عمي..

نظر رؤوف لثوان الى يده الممدودة من دون أن يمد يده للمصافحة وما لبث أن بادله المصافحة ببرود وهو يقول فيما كان لا يزال جالسا في مكانه لم ينهض لاستقباله:

- الحمد لله..

ثم أشار لمقعد خال بجواره قائلا:

- اتفضل..

وجّه حديثه بعد ذلك الى سلافة قائلا:

- كوباية لمون بسرعة يا سلافة...

سلافة وهي تنظر الى الضيف الغير مرغوب به بغيظ:

- اللمون خلص, ومعندناش شاي, ومالناش في القهوة!

هتف رؤوف بجدية:

- بنت!

انصرفت سلافة وهى تهمهم بغيظ وتدعو على ذلك الأرعن في سرّها!!..

بعد أن استقر الجميع في أماكنهم, بادر أحمد الى الحديث وهو يختلس النظر الى سلمى القابعة فوق كرسيها بجمود تام:

- عمي بعد اذن حضرتك, انا عارف اني غلطان وهما قلت عمري ما هقدر أكفّر عن اللي عملته, بس رجاء أخير عاوز أتكلم مع سلمى, عمي اديني فرصة أخيرة أرجوك!

همّ شهاب بالقفز للكم هذا الأرعن بقبضته الساحقة علّعا تسكته الى الأبد, فأمسك غيث بمعصمه , ليطالعه شهاب فنظر اليه غيث آمرا له بالتزام الصمت, ليتأفف ويعاود النظر الى ذلك الأحمق..

رؤوف بجدية:

- سلمى قودامك أهي.. إسألها..

أحمد برجاء حار الى سلمى:

- أرجوكي يا سلمى, اسمعيني لآخر مرة..

سلمى بجمود وهي تطالعه ببرودة وخواء:

- لآخر مرة؟, يعني هتتقبل قراري بعد كدا مهما كان؟

ازدرد أحمد ريقه بصعوبة وتمتم بنعم, نهضت سلمى وهي تقول لوالدها: 

- بعد اذن حضرتك يا بابا, هنقعد في الصالة شوية...

وخرجت تحت نظرات شهاب النارية, وما ان غابت عن ناظريه حتى وجه كلماته الحادة التي لم يستطع ايقافها:

- حضرتك ازاي توافق انه يقعد معاها بعد كله؟

رؤوف بهدوء:

- سلمى لازم هي اللي تقول الكلمة الاخيرة في الموضوع دا علشان يفقد الأمل خالص...


وفي الخارج

***********

تقف سلمى عاقدة ذراعيها أمامها بينما يقف أحمد مقابلا لها وعلامات الترجي ترتسم على وجهه وهو يقول:

- سلمى أنا غلطت, ظروفي كانت أقوى مني, مهدد اني أفشل في الرسالة, ما كانش قودامي الا الحل دا, انا رجعت لك يا سلمى وعاوز نبتدي من جديد...

سلمى ببرود وابتسامة ساخرة:

- انت ما غلطتش غلط بسيط, ما دوستش على رجلي غصب عني وجاي بتقولي انا آسف وأنا المفروض أني اسامحك, انت اناني, وكداب, كدبت عليا, ولولا صاحبك اللي اتخانقت معاه هو اللي فضحك عندي انت ما كونتش هتقولي حاجة, وبردوا تصرفت بمنتهى الندالة لما سيبتني قبل فرحنا باسبوع أواجه الناس ومعظمهم مش مصدق انه الفرح اتلغى علشان اكتشفت انك متجوز عليا, وقالوا اكيد فيه حاجة غلط سمعتها عني هي اللي طفشتك, ما هو أصل الناس مش بتصدق الا الوحِش بس!

أحمد بتوسل:

- أرجوكي يا سلمى انسي...

استدارت سلمى توليه ظهرها وقالت بجمود:

- شرفت يا دكتور, بس للأسف طلبك مش عندنا, ويا ريت تبقى دي آخر مرة أشوفك فيها...

هز برأسه يأسا وتقدم منها ليهمس لها:

- صدقيني عمري ما هنساكي يا أحب مخلوقة ليا, أنا اللي خسرت يا سلمى وخسارتي كبيرة اوي ولا يمكن هقدر أعوضها!!

لينصرف من فوره بينما كست عيني سلمى نظرة خواء, لتفيق من شرودها على صوت شهاب وهو يقول:

- مشي؟

نظرت اليه من فوق كتفها ليتابع:

- لو كان قعد ثانية زيادة كان زمانهم شايلينه مرابعه على رأي أختك!

لتنفجر سلمى ضاحكة فنظر اليها شهاب مشدوها ويأتي الجميع على صوتها, اتجهت سلافة اليها وهي تتساءل:

- فيه ايه يا سلمى؟

ثم وجهت سؤالها الى شهاب المندهش:

- انت عملت لها ايه؟, يعني الشيء دا يدخل علينا وكأن قطر داسه من اللي انت عملته فيه, ودلوقتي اختي مش بتبطل ضحك.. ايه انت فول أوبشن؟!

ابتسم شهاب وأجاب ولا تزال نظراته معلقة بسلمى التي احتوتها والدتها بين ذراعيها:

- تقدري تقولي كدا, عموما أي حاجة عاوزاها أنا في الخدمة!

وغمز لها بتخابث فأومأت سلافة بابتسامة متواطئة في حين كانت هناك أعين تراقبهما يكاد صاحبهما ينفث نارا من فمه, ما ان هدأ الجميع حتى اقترب غيث من شهاب هامسا:

- قسما عظما اما كنت خوي ولد أمي وبوي كان زماني دافنك مطرحك!, أجدر أعرف ايه الضحك والغمز واللمز اللي بيناتكم انت وسلافة دِه؟!

حدق به شهاب بغير استيعاب أولا ثم هتف بدهشة:

- ايه يا عمدة انت بتغير ولا ايه؟

كشر غيث عن انيابه وأجاب:

- اجفل خشمك واصل يا شهاب بيه, ماذا وإلا أني هورّيك ديكور وشّك هيبجى ازاي مش كيف ما اعملت للغندور اللي غار دِه!

قال رؤوف قاطعا تهامسهما الجانبي:

- بيتهيألي ننزل لجدكم وابوكم تحت أكيد مستغربين فيه ايه..

قال شهاب وهو يلقي بنظرات مختلسة الى سلمى:

- بعد اذن حضرتك يا عمي, عاوز بنت عمي في كلمتين...

غاب سلمى وشهاب في غرفة الجلوس لمدة لا تقل عن الساعة أو أكثر ليخرجا بعدها ويقفا أمام الجميع ليكون شهاب أول من يتحدث وقد ارتسم على وجهه تعبير جدي:

- عمي..

ليقف رؤوف يتبعه غيث فسلافة وألفت في حين يتابع شهاب وقد بدأت ابتسامة بالظهور لتفترش وجهه الرجولي الجذاب:

- حدد حضرتك المعاد اللي يناسبك عشان ننزل نشتري الشبكة...

هتفت ألفت بغير تصديق:

- ايه؟

همس غيث له:

- خطوبة!

شهاب بفخر وهو ينظر الى سلمى الواجمة والممتقعة خجلا:

- كتب كتاب يا كبير!

شهق الجميع بين دهش وحائر في حين سارع رؤوف بتقديم التهنئة وهتفت ألفت بسعادة لتحتوي ابنتها بين ذراعيها, انحنى غيث على شهاب يهتف بسخط:

- اعملتها كيف دِه؟, دِه ما كانتشي طايجاك واصل!

شهاب بثقة شديدة:

- أنت مستقلّ بأخوك ولا إيه؟, عموما لما ننزل... هقولك!!

الحلقة الثالثة عشر

كبير العيلة (منى لطفي)

جلس عدنان وولده ليث وزوجه حول مائدة الطعام لتناول الغذاء, دارت أحاديث خفيفة بين عدنان وليث حتى نظر عدنان الى زوجته وتساءل:

- هي سلسبيل لساتها مصرة انها ما تخرجشي من دارها؟

زفرت أم ليث بتعب وأجابت بشفقة وأسى:

- والله ما أني عارفة يا حاج أجولك ايه, على جد حرجة جلبي على ولدي الله يرحمه على جد ما جلبي متشحتف عليها يا نضري, دي لا وكل ولا شرب واصل, وعلى طول تحس انها في دنيا غير الدنيا, ولمّن تفوج تاخد عيالها في حضنها وما ترضاشي يبعدوا عنيها واصل, أني جلجانه جوي عليها يا حاج, وخصوصي لمّن عدّتها تُخلص.. يا ترى بوها هيرضى يسيبها حدانا؟, ولو رفض.. هستحمل ما أشوفهاشي هي وعيال الغالي كيف؟, دولم اللي مصبريني على فُجدان الغالي...

ولم تستطع كتم دموعها لتنهمر مغرقة وجهها, ترك عدنان ملعقته وهو يستغفر الله بصوت مسموع ويقول موجها حديثه اليها بينما يقبض ليث على أصابعه في قبضة قوية حتى ابيضت سلاميات أصابعه:

- وحّدي الله يا أم ليث, ابنك شهيد عند ربنا, وربنا عوضنا عنّيه بولاده, مش همّا بيجولوا اللي خلّف ما ماتِش؟!, وان كان على جعاد سلسبيل واولادها حدانا إهنِه... ما تحمليش هم واصل, أني وليث مرتبين كل حاجة!

تفاجأ ليث ورفع رأسه دفعة واحدة يطالع أبوه بدهشة ليبادله الأخير النظرات بأخرى قوية ويشير بطرف عينه الى أمه الثكلى, ليزفر ليث بتعب ويغمض عينيه, مسحت أمه وجهها بطرف وشاحها ونهضت وهي تقول بصوت مبحوح يحمل أثر البكاء:

- هروح أشوفها كالات ولا لاه, معاها اعيالها وجالت لي هتوكّلهم وتاكل امعاهم..

وانصرفت تاركة عدنان وهو ينظر الى ليث بجدية, وما ان غابت من أمامهما حتى وجه عدنان حديثه الى ليث قائلا:

- فكّرت في اللي جولت لك عليه؟

زفر ليث بحنق وأجاب بلهجة تحمل حدة طفيفة:

- فكّرت يا بوي, بس مش بالعها واصل...

انفعل عدنان وهتف بحدة وصرامة:

- هو اللي هنعيده هنزيده, نجول تور... يجولوا احلبوه! (واضح كدا ان تيران البلد دي كتييييرة أوي على رأي سلافة.. ما علينا!), يا بني افهم... أديكي شايف حالة أمك كيف... طاوعني يا ولدي.. والا أقسم بالله العظيم يا أنا بيدي اللي هزوجها للي بوها يجول عليه.. وانت عارف سلسبيل زينة وما تتفوّتش واصل, ده غير إنك كبرت وعاوز أفرح بخلفتك...

لم يحر ليث جوابا مما أغاظ عدنان فأردف بقوة وحزم:

- شوف يا ليث.. أنا عمري ما غصبتك لا انت ولا خوك راضي الله يرحمه على حاجة.. لكن زواجك من سلسبيل أمر مني أني.. هتنفّذه وإلا هغضب عليك ليوم الدين!

صعق ليث ونظر الى أبيه وهو يردد بذهول:

- عتجول ايه يا حاج؟, هي حصّلت لكده؟

عدنان بتحد:

- إيوة يا ليث, لمّن توجف جصادي وتخالف شوري وتخرج عن طوعي يبجى لا انت ابني ولا أعرِفَكْ!

ليث وهو يهز برأسه الى أعلى وأسفل وبنبرة مكتومة وقد احتقن وجهه غضبا وكمدا:

- ماشي, الشور شورك والراي رايك يا حاج... اللي تجول عليه أني... أني مو.... موافج عليه!!

وانتفض من مكانه واقفا ليتجه بخطوات سريعة الى الخارج عندما سمع والده يقول:

- اعمل احسابك أول ما سلسبيل توفي عدتها هفاتح عمك طوّالي...

كان ليث يقف أمام الباب موليا أباه ظهره وما أن سمع عبارته حتى أومأ بالايجاب دون أن يلتفت ثم انطلق خارجا تلاحقه شياطينه بينما زفر أبوه بتعب وأغمض عينيه وهو يهمس لنفسه قائلا:

- غصب عني يا ولدي, بس لو ما كونتش جبرتك عليها ما كنتش هتجدمها واصل, كفاياك مرار لغاية دلوك يا ولدي, أني خابر باللي جواك زين, هي وحديها اللي هتعرف ترجع لك ضحكتك اللي فجدتها من اكتر من 6 سنين!!

*****************

جلست سلافة فوق فراشها المقابل لفراش سلمى راكعة على ركبتيها وهي تهتف بحماس:

- ها.. احكي لي بقه وافقت على الباش مهندس ازاي؟

نظرت سلمى بهدوء الى سلافة بينما داخلها يشتعل كلما تذكرت القنبلة التي فجرها شهاب أمام الجميع ألا وهي.. كتب الكتاب!, تبّا لم يكن هذا ما اتفقا عليه!, لقد خدعها وغشّها!, فقد علم مسبقا أنها لن تستطيع تكذيبه ووأد فرحة أبيها وأمها, تبا لك شهاب الخولي, ولكن أقسم أن أقتص منك وأجعلك تعض أصابعك ندما, فأنا أيضا... سلمى الخولي!

سلافة بنزق:

- يا هوووووه.. ايه يا بنتي روحتي فين؟, بكلمك أنا!..

سلمى بغير رضا:

- إيه يا بنتي فيه ايه مالك؟

تعجبت سلافة لتحدق فيها هاتفة:

- مالي؟!, مالي في جيبي يا دوك!, ايه يا بنتي بقولك وافقتي ازاي؟...

ثم غمزت بخبث بطرف عينها اليمنى متابعة:

- ولا تكوني وقعت ولا حد سمى عليكي, دا هندسة دا طلع مش سهل على كدا!...

نهرتها سلمى وهي تطالعها بحنق مشيحة بيدها في وجهها:

- ايه ايه ايه, وقعت ايه ووقفت ايه؟, وهندسة مين دا ان شاء الله؟, انا كلية الهندسة بحالها ما تأثرش فيا!, وبعدين بطلي أسلوبك دا.. اومال لو ما كنتيش خريجة جامعة امريكية كنتي هتقولي ايه؟

سلافة بجدية مفتعلة:

- كنت هعمل الجُلّاشة معاكي!

فتحت سلمى عينيها واسعا وكررت باستهجان وعدم تصديق:

- كنت هتعملي ايه ياختي؟, جلاش إيه دا اللي كنتي هتعمليه؟

سلافة وهي تشرح بهدوء بلهجة العارف ببواطن الأمور:

- يا بنتي هو أنا عشان جامعة أمريكية أبقى بعيدة عن الشارع المصري؟!, جلاشة دي يا ستي يعني الواجب!, يعني أحلى واجب هعمله معاكي!, بصي ما تزبهليش كدا واقفلي بؤك اللي انتي فاتحاه دا لغاية ما أنا شايفه اللوز وأنا قاعده هنا, المسألة بسيطة خالص... سمعت بنت البواب بتقولها لأختها ولما ٍسألتها قالت لي هي اللي بتستفزني ولو ما سكتتش هعمل الجلاشة معاها!, من هنا لهنا عرفت ان الجلاشة دي يعني هتروقها من الآخر!..

وضعت سلمى يدها فوق رأسها وهتفت بتضرع وهى تتطلع الى أعلى:

- يا رب.. ارحمني وارحمها....

ثم نظرت اليها مردفة بنزق:

- تصدقي المفروض ما استغربش!, ما انا هنتظر ايه من واحدة سابت سلافة ومسكت في سولي!

قطبت سلافة وأجابت بغضب طفولي:

- نعم نعم.. يعني ايه أن شاء الله؟, بصي يا سلمى مالكيش دعوة بسولي.. كفاية انه فيه اللي مش عجبه وعاوز يناديني بـ زلافة!!

سكتت سلمى قليلا مندهشة ثم قالت ضاحكة:

- دا أكيد غيث صح؟...

زفرت سلافة بغيظ وتخصرت هاتفة:

- آه يا ستي هو, بقولك ايه عماله تشرقي فيا وتغربي ولسه بردو ما قولتليش ايه اللي حصل بينكم وخلاكي توافقي؟

تنهدت سلمى بعمق واستسلمت مجيبة:

- هقولك.....

لتغيم عيناها بينما أحداث الساعة السابقة تتسابق أمامها لتغوص ثانية فيها مسترجعة ما دار بينها وشهاب وجعله ينتزع موافقتها انتزاعاااااااا.......

-------------------------------------------------

وقفت تنظر أمامها بينما يغلق شهاب باب غرفة الجلوس بعد أن إستأذن عمه بالتحدث معها بمفردهما, استند بظهره الى الباب يطالع تلك الفاتنة العنيدة التي تكاد تصيبه بالجنون لفرط عندها وتشبثها الأرعن برأيها, ولكنه لن يكون شهاب إن لم يجعلها توافق على الزواج به سواء طواعية أو إجبارا وسيعمل على استخدام كافة الوسائل لذلك فكل شيء مباح في الحب والحرب!

تقدم منها بضعة خطوات وهي لا تحيد بنظرها بعيدا عن تلك النقطة الوهمية في الجدار أمامها والتي سلطت نظراتها عليها, وقف على مقربة منها وقال بصوت يحمل نبرة هدوء خادعة:

- ممكن نتفاهم بالعقل, وأعتقد اننا في الاخر هنوصل لحل يرضي الجميع؟..

التفتت اليه تطالعه ببرود وأجابت بهدوء:

- الموضوع مش عاوز نقاش, اتقدمت لي وأنا رفضت, نقطة نهاية السطر!

كتم شهاب شتيمة كادت تفلت من بين شفتيه على جوابها الوقح البارد ذاك, حاول التحدث بما أمكنه من طول بال وصبر:

- لا... دي بداية السطر!, أعتقد حقي أعرف سبب رفضك ايه خصوصا بعد اللي حصل والبلد كلها تقريبا عارفة دلوقتي انك مراتي؟!

نظرت اليه بسخرية لترفع حاجبها الأيمن مجيبة بلهجة لا مبالاة لم ترقه:

- بص يا شهاب جواز علشان الناس هتتكلم وتقول ومعرفش إيه.. مش هيحصل!, أنا مش هعيش حياتي تبع للناس ولأفكار وعادات أكل عليها الزمان وشرب زي ما بيقولوا, أنا بابا رباني على ان يكون عندي ثقة في نفسي, وطالما ما غلطتش يبقى ما يهمنيش.. دي نمرة 1, نمرة 2... احنا مش ممكن نتجوز لأن ارتباطنا هيبقى فاشل!, أحنا الاتنين مختلفين جملة وتفصيلا يا باش مهندس!

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وأجاب باستهزاء وهو يطالعها من أعلى رأسها لأخمص قدميها:

- هو من ناحية اننا مختلفين... فأنا معاكي تمام في النقطة دي!, لازم أساسا نكون مختلفين.. مش ممكن يعني نكون شكل بعض!

ونظر اليها بعبث غامزا بمكر لتكتم شهقة دهشة من وقاحته بينما يحمر وجهها غيظا وغضبا لتتكلم من بين أسنانها المطبقة بغضب مكتوم:

- تصدق انك وقح وقليل الأدب كمان؟!, وأنا أرفض أني أقف اتكلم معاك ثانية واحدة زيادة بعد كدا!

وما ان استدارت حتى تعالى صوته الآمر هاتفا:

- استني عندك...

ليقطع المسافة التي تفصلهما في خطوتين واسعتين ويقف خلفها تماما ويميل عليها متابعا بلهجة لا تقبل النقاش :

- ارجعي مكانك وخلينا نقعد ونتفاهم زي الناس المتحضرين ماذا وإلا أقسم بالله لا تشوفي مني وش عمرك ما كنت تتوقعيه أبدا!

فتحت عينيها واسعا واستدارت مندفعة بغيّة اطلاق كلماتها النابية في وجهه ناسية أنه خلفها تماما لترتطم بصدره فتطلق شهقة صغيرة دهشة وما إن أبصرت عيناه حتى تحولت الى شهقة غضب فيما سارع هو للإمساك بمرفقيها بتلقائية بينما غابات الزيتون خاصتها تحدق في ليل عينيه البهيم بغيظ وغضب جعل زمرد عينيها تشعان كحجر نفيس لتضيع الكلمات منه وينسى ما كان على وشك قوله, بينما تتكسر الحروف على طرف شفتيها وهي ترى نظرة عيناه التي تكاد تبتلعها, لتزدرد ريقها بصعوبة وتحاول الافلات منه وهي تتلعثم قائلة بحدة مبتورة:

- ابـ.. ابعد عني!

ليتلفظ شهاب بكلمة واحدة خرجت حادة كحد السيف:

- أبداً!!

لتبتلع سلمى كلماتها وهي تطالعه بذهول بينما يرجف قلبها بين جنبات ضلوعها رهبة من نظرة العزم والتصميم التي تراها في عينيه وكأنه يخبرها بدون كلمات أنه لن يقبل سوى بما يريده هو... وهو.. يريدها... هي!

حاولت الهروب من نظرات عينيه القوية وهي تتحدث بارتباك حاولت اخفائه معتمدة الغضب لتفاجئ بأن غضبها ذاك قد هرب منها!, قالت:

- طيب ممكن تبعد شوية عشان نقعد أنت...

ليقاطعها آمرا بقوة:

- ما تهربيش بعينيكي.. بصّي لي!

وكأنها مسيّرة لا مخيّرة فرفعت عينيها تلقائيا لتطالعه فأردف وقبضته تشتد بدون إرادة منه بينما نغمات صوته وكأنها تعويذة سحرية ألقيت عليها لتمتص غضبها وتتركها شبه مغيبة بل وطوع بنانه!, قال:

- قوليلي انك مش حاسة باللي بيجرى بيننا بجد!, انت عارفة زي ما أنا عارف ومتأكد اني بالنسبة لك مش عريس والسلام زي ما انت بالنسبة لي مش بنت عمي وعروسة مناسبة وخلاص!, أنا كنت رافض مبدأ الجواز من أساسه, لكن اللي أنا بحس بيه معاكي معنديش أي أستعداد أنى أخسره علشان شوية مخاوف بسيطة ان ارتباطنا هيفشل, خلينا ندي نفسنا فرصة ونشوف هنوصل لفين, انا مش بقولك نتجوز حالا – كاتما بداخله صوتا يصيح به أنه كاذب وأنه لو تُرك الأمر له لكانت زوجته منذ أبد بعيد منذ أن وقعت بين ذراعيه أول مرة لتسرق عيناها قلبه بلمحة واحدة! – فيه حاجة اسمها خطوبة ولو حاسينا اننا مش قادرين نكمل وقتها اعتقد ما حدش هيغصب علينا اننا نكمل, انا مش جبان يا سلمى.. انا بواجه, لو على حكاية الكلام اللي طلع انك مراتي محدش يقدر يفتح بؤه في كبيرهم, وعيلتنا هي اسياد البلد, بكلمة واحدة مني أخلي كل واحد يبلع لسانه ويحط كلامه جوة بؤه, لكن أنا مصمم على الارتباط بيك عشان انا عاوز كدا!, عاوزك انتي.. عاوز لما يتقال اسمك يبقى مرتبط بيا, عاوزك لما تحسي انك محتاجة حد جنبك يبقى اسمي أول اسم ينط في بالك وعلى.. شفايفك!

لتتغير وتيرة صوته ويهمس بكلمته الأخيرة وهو يراقب شفتيها المكتنزتين بينما تستعر في أحشائه رغبة ضارية بتذوق شهدهما ولكنه يمنِّي نفسه بالصبر الى أن توافق على الارتباط به ويقسم بداخله أنها ما إن تصبح إمرأته فلن يرحمها... فهل رحمته هي سابقا بزيتون عينيها الذي يشيع الفوضى في حواسه بينما تعتريه مشاعر لم يسبق له وأن اختبرها قبل ذلك ليرحمها هو الآن؟!...

زفر بعمق وتابع بينما أسرت لبه بنظراتها المذهولة وكأنها طفلة لا تفقه شيئا من عالم الكبار الذي يريد اقحامها فيه:

- سلمى فكري مش هتخسري حاجة, احنا الاتنين لو حاسبناها بالعقل مناسبين جدا لبعض, انتي عندك اعتراض على أي حاجة فيّا؟!

نظرت سلمى الى يديه اللتان تمسكان بها بقوة وكأنه يخشى فرارها وقالت:

- ممكن طيب تسيبني أحسن حاسة اني متهمة مقبوض عليها خايف لتهرب منك!

- انت متهمة فعلا... سرقة وخطف!, والحكم صدر بس لسه التنفيذ.. وصدقيني وقتها ما فيش حاجة هتخليكي تفلتي من ايدي!..

كان شهاب يهمس بهذه الكلمات بينه وبين نفسه, ولكن رسم أمامها ابتسامة خفيفة جعلت معالم وجهه تستريح وهو يغازلها بنظراته العابثة ويقول وهو يخفف من قبضته مبتعدا عنها قليلا:

- اتفضلي أديني شلت ايدي أهو..

ليبتعد لمسافة خطوة واحدة لا تكفي لابتعادها هي عنه رافعا يديه الى أعلى لتنظر اليه بنصف عين وتهتف بحنق وهي تشير الى المسافة التي تفصلهما لا تكاد تمرر قطة:

- يا سلام!, شهاب..امشي هناك...

مشيرة بسبابتها الى الحائط المواجه لها..

تتبع بعينيه مسار يدها ليلتفت ثانية اليها مجيبا بحنق طفولي جعلها تكتم ابتسامة أوشكت على الظهور من منظره الطفولي الحانق:

- هو انا تلميذ عندك في الحضانة غلط ولا حاجة وعاوزة تذنبيه وتقوليله وشّك في الحيط؟!

زفر بعمق ليطالعها بعد ذلك مشيرا الى أريكة عريضة خلفها وهو يتابع:

- اتفضلي اقعدي هنا بقه خلينا نخلص...

نظرت خلفها واتجهت للجلوس وما ان استقرت حتى فاجئها بالجلوس بجانبها يفصل بينهما فراغ صغير, رفعت عينيها اليه تطالعه باعتراض وهتفت باستنكار:

- قوم من هنا!, اتفضل اقعد في أي حتة تانية....

زفر شهاب بيأس وقال وهو يهز رأسه يمينا ويسارا بنفاذ صبر:

- يعني انتي من ثواني تقريبا كنتي في حضني ودلوقتي مش عاوزاني أقعد جنبك؟!

هتفت سلمى باعتراض حاد:

- ايه كنتي في حضني دي؟, ما تحاسب على كلامك!

زفر بغيظ وامتدت يده لتقبض بقوة وسرعة على معصمها شهقت لها دهشة وألما بينما تابع من بين هسيس أنفاسه الغاضبة:

- بقولك ايه يا سلمى.. مش هنقعد في حكاية اقعد وقوم دي ساعة يعني, عمي بره وكلها دقايق ونلاقيه معانا, عاوزين نتكلم في المهم, عندك اعتراض عليا كعريس مناسب؟!

هربت بنظراتها منه بينما حاولت جذب معصمها بعيدا عنه ولكنه لم يتركها تفلت منه فأجابت بنزق:

- لو على مواصفات العريس بالورقة والقلم يبقى لأ!, مهندس ومن عيلة وابن عمي وسنك مناسب, اوعى بقه!

محاولة جذب يدها ولكنه لم يلتفت لمحاولتها وقال بجدية بالغة:

- طالما هو كدا يبقى مش موافقة ليه؟

طالعته بنصف عين مجيبة بسخرية:

- كدا.. أنا حرة!, مش بالعاك!, دمك تقيل على قلبي يا سيدي!

ضغط على يدها الصغيرة التي تقبع في راحته القوية بشدة كعصفور صغير وقع بين براثن نسر جامح حتى كادت تقسم أنها سمعت صوت طرقعة أصابع يدها وتأوهت بألم رغما عنها وهو يقول وفحم عيناه يشتعل:

- كدابة!

فتحت عينيها واسعا هاتفة بحنق:

- إيه؟!

أجاب بقوة وقبضته تهشم يدها الصغيرة بدون وعي منه:

- أيوة كداية!, عينيك فضحت كدبك.. انتي خايفة يا سلمى.. يعني جبانة!

نسيت ألمها من قبضته التي تكاد تفتت أصابعها الهشة وهتفت بحدة واستنكار:

- نعم؟, جبانة!, وخايفة؟, ليه ان شاء الله؟, هخاف من مين ولا ليه أساسا؟

أجابها بتحد وهو يطالعها بنظر ثاقب:

- خايفة مني... بتعاندي نفسك, جبانة من فكرة انك تقعي في حبي!

سكتت قليلا قبل أن تصدح ضحكتها عاليا كماء عذب رقراق يجري في جدول مياهه باردة في يوم شديد القيظ!, هدأت ضحكاتها وهي غير منتبهة لما أثارته ضحكتها العذبة تلك في نفس القابع أمامها يطالعها كمن يرى كنزا نفيسا أمامه يخاف أن يطرف بجفنه حتى لا يتلاشى من أمام ناظريْه!, قالت رافعة حاجبها بتحد:

- واثق في نفسك أوي إنت!, يعني معلهش.. ايه كمية الغرور دي اللي فيك؟, لعلمك بقه أنا اللي خايفة عليك لو سمعت كلامك واديت نفسنا فرصة انك انت اللي تقع وانا مش حاسة بيك,وقتها أنا مش ممكن أكمل معاك شفقة وعطف على حالك!

لينتهز الفرصة التي قدمتها اليه على طبق من ذهب ويعاجلها قائلا:

- تمام يا سلمى... وانا قبلت التحدي!, انا موافق نعلن خطوبتنا وندي نفسنا فرصة وانا أؤكد لك انه في ظرف شهرين تلاتة بالكتير هتكوني مراتي ومش هتقدري تقولي لأ!

لم ترُقها نبرة التحد والثقة بالنفس التي غلفت كلماته لتندفع بالقول وقد تخلت عن حذرها وهدوءها المعتاد هاتفة:

- اوكي يا شهاب, لكن وقت ما أقولك اني مش هكمل تطلع أد كلمتك فعلا ونفترق بهدوء...

لمعت عيناه بنظرة ظفر لا تعلم لما جعلت دقات قلبها تضطرب وأوشكت على الرجوع في كلامها ولكنه لم يمنحها الفرصة لذلك ليميل باتجاهها وهو يقول بلهجة المنتصر:

- وهو كذلك...

ويميل عليها خاطفا قبلة سريعة حيث لمس بفمه الحازم حرير وجنتها القشديّة لتشهق مبتعدة وقد أخذت تكيل له الضربات المتلاحقة بيدها الحرة فيما الأخرى لا تزال أسيرة يده وهي تهتف حانقة:

- سافل, وقح, قليل الأدب..

وهو يضحك محاولا تفادي ضرباتها قائلا:

- أيه دا انتي بتضربي بجد!

هتفت حانقة وهي تواصل ضرباتها الصغيرة:

- آه طبعا.. أومال بهزار؟!

هتف وهو يمسك بيدها التي تكيل له الضربات:

- هشششش, خلاص, انا جوزك فيه واحدة تضرب جوزها؟

سكتت تناظره بذهول وهي تجيب:

- نعم؟, جوزها؟, جوز مين؟, انت خطيبي بس!

أجاب مفتعلا الهدوء:

- ماشي, خطيبك يا دكتورة, اتفضلي بقه معايا عشان نطلع نقولهم نتيجة المباحثات المغلقة بتاعتنا...

************

عادت سلمى الى الواقع بعد ان انتهت من سرد ما دار بينها وبين شهاب غافلة عن قصد بعض الأمور التي لن تثير سوى مزيدا من التساؤلات لدى سلافة والتي لن تتوانى عن إغداقها بها كـ.. قبلته المسروقة لها مثلا!...

هتفت سلافة وهي تضحك:

- والله ابن عمك دا طلع لعب وفن وهندسة تمام!, قدر يقنعك...

نفت سلمى مستنكرة:

- لا يا حبيبتي السبب الوحيد اللي خلّاني فعلا أوافق اني أثبت للكل اننا ما ينفعش نرتبط لأنه هيبقى ارتباط فاشل, علشان بابا كمان يقتنع بكدا, انتي مش شايفه عينيه كانت فرحانه ازاي وهو بيقول لي انه شهاب اتقدم لي؟!

زفرت سلافة بعمق وأجابت:

- آه في دي معاكي حق, تمام زي ما كانت الفرحة مش سايعاه وهو بيقول لي انه غيث عاوز يخطبني, وازاي حاسيت أنه فرحته دي انطفت أول ما رفضت..

هتفت سلمى بحماس:

- بقولك ايه يا سولي.. ما تعملي زيي كدا!

قطبت سلافة جبينها بعدم فهم وتساءلت:

- زيك ازاي يعني مش فاهمه؟

سلمى بحماس:

- وافقي على غيث انتي كمان عشان تثبتي لهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع انكم مختلفين تماما, ووقتها محدش هيقدر يجبرك انك تكملي في علاقة محكوم عليها بالفشل...

ابتسمت سلافة بسخرية وأجابت:

- لأ طبعا.. مش ممكن أعمل زيك, لسبب بسيط جدا, أنا كان ممكن أوافق على اللي بتقوليه دا قبل ما غيث يعمل اللي يعمله لكن دلوقتي لا وألف لا كمان!

قطبت سلمى متسائلة:

- وهو عمل ايه؟

سلافة بابتسامة:

- آه صحيح ما انتو محضرتوش.. كنتي في مصر انت وشهاب, أنا هقولك عمل ايه....

وانبرت سلافة تقص على مسامع سلمى ما حدث في تلك الليلة الليلاء!!.....

---------------------------------------------------------

في الأسفل:

جلس الجد محاطا بأولاده عثمان ورؤوف وحفيديه غيث وشهاب, سكت الجميع في انتظار سماع تعليقه, نظر الجد بجدية الى حفيده قائلا بهدوء:

- يعني انت رايد بت عمك رؤوف صوح؟

أومأ شهاب مجيبا بلهفة لم يداريها:

- أيوة يا جدي...

تمتم الجد وهو يلاعب رأس عصاه العاجية بين أصابعه ناظرا الى موضع قدميه:

- امممم..

ثم رفع رأسه ناظرا الى ابنيه وهو يتساءل بينما عيناه تنتقلان من أحدهما الى الآخر:

- وانت يا عتمان يا ولدي موافج على كلام ولدك وانت يا رؤوف موافج على طلب شهاب؟

ليومأ الإثنان مجيبان في وقت واحد:

- تمام يا بحاج/ صوح الكلام يا حاج...

لينظرا الى بعضهما البعض مبتسمان فيبتسم الجد هاتفا:

- وده يوم المنى, ألف مبروك يا ولادي...

ثم أردف:

- لكن ما فيش حاجة واصل هتتم جبل ما تخلِّص سلسبيل عدتها, مهما كان الأصول أصول..

هتف شهاب:

- طبعا يا حاج, أنا بس بعد إذنك عاوز قراية فاتحة بس ان شالله حتى دلوقتي بيننا وبين بعض وبعدين نبقى نعمل الافراح بعد عدة سلسبيل ان شاء الله...

أجاب الجد وهو ينقل نظراته بين إبنيه:

- ها موافجين..

ليومأ كلاهما بالايجاب فيقول الجد باسطا يديه الى أعلى:

- يبجى على خيرة الله..الفاتحة....

- آمين.. صدق الله العظيم...

ومسح الجد بكفيه على وجهه, هنأ الجميع شهاب الذي مال على كف والده وعمه مقبلا لها ثم اتجه الى الجد مقبلا ظاهر يده ورأسه, وبعد أن استوى الجميع في جلستهم قال الجد وهو يطالع غيث من طرف خفي:

- يا مكتر الافراح في العيلة, وكلاتهم مستنيين عدة بتّنا تخلص عشان يفرحوا..

قطب عثمان متسائلا:

- ليه يا حاج هو مين تاني هيتزوج؟

أجاب الجد بتلقائية مصطنعة:

- ولدك شهاب وبنات خوك رؤوف!

نظرعثمان الى رؤوف بتساؤل واستفسار في حين نظر شهاب بريبة وقلق الى غيث الذي قبض على أصابعه بقوة وهو لا يصدق كلمة الجمع التي طرقت سمعه كطلقة الرصاص, ليقطع الصمت صوت عثمان متسائلا:

- بنات روؤف خوي؟!, هو فيه حد اتجدم لسلافة بت اخوي واحنا معنديناش خبر ولا إيه؟

تطلع عثمان بتساؤل الى رؤوف الذي أجاب بابتسامة هادئة مشيرا الى الجد:

- بصراحة الموضوع كله مع الحاج, هو يدوب لمّح لي عليه..

ليقطع الجد التساؤلات بقوله:

- دِه الشيخ عبد الهادي.. كلمني رايدين سلافة بتّنا لإبنه سيف اللي بيِّشتِغِل إمهندز في مصر, جماعته شافوها يوم العشا اللي عِمِلناه عشان نفرّح البلد بجدومك يا رؤوف يا ولدي ونعرِّفهم بمرتك وبناتك, هو واد وحيد على أربع بنات وبوه نفسه يفرح بيه, دا غير انه الشيخ عبد الهادي كبير عيلة السوالمة ونسبه يشَرِّف أي عيلة!..

أحمر وجه غيث غيظا وكمدا ولم يفت جده ما ارتسم على وجهه من غضب عنيف مكتوم, ليواصل الجد صب الزيت الساخن فوق النار بقوله:

- فاتحني من فترة في الموضوع وجتها غيث كان جايل عليها فما رضيتش أجول حاجة لكن لمن عرفت انها رفضت جولت خسارة نجفوا في طريج البنية, عموما أنا جولت له يأجل الموضوع لغاية ما بتّنا توفي عدتها ووجتها ربنا يعمل اللي فيه الخير ان شاء الله....

لم يستطع غيث الجلوس صامتا أكثر من ذلك ليهتف محاولا تمالك ذاته:

- بس أني ولد عمها ورايدها, وسبج واتجدمت لك يا عمي..

قال رؤوف بهدوء وابتسامة صغيرة تعتلي وجهه:

- أيوة يا غيث يا بني, وأنا كمان سبق وقلت لك اني هكون مبسوط ومطمن على بنتي لو ربنا سهل وارتبطوا, لكن بنتي مش مقتنعة وانا ما اتعودتش أجبرهم على حاجة مش عاوزينها, لكن لو انت تقدر تغيّر رأيها... وقتها أنا معنديش أي مانع!...

قفز غيث واقفا وهو يهتف باندفاع مخالف لهدوئه المعتاد:

- وأني بعد أذنك هتكلم إمعاها, وأني خابر هجدر أجنعها كيف..

لينصرف من فوره ويلحق به شهاب فلأول مرة يرى شقيقه بمثل هذا الغضب الذي يكاد يتفجّر من بين حناياه!!..

مال عثمان على الجد الذي كان يراقب غيث من طرف خفي بينما ترتسم شبح ابتسامة مكر على شفتيه, همس عثمان للجد:

- هو صحيح يا بوي اللي انت جولته دلوك؟, يعني الشيخ عبد الهادي كلمك بخصوص سلافة بت خوي رؤوف؟

الجد بنظرة صارمة:

- هكدب إيّاك على آخر الزمن ولا ايه؟

ليهتف عثمان معتذرا:

- حاشاك يا بوي, كل الحكاية إني مستغرب ليه ما جولتش من وجتها؟

الجد بحسم:

- لانه الحكاية طوّلت ومسّخت, ابنك لازمن يحس انها هتطير من يده لو ما اتحرِّكشي, شوف خوه كيف جدر يجنع بت عمه, الهدوء وطولة البال مش ميزة على طول يا عتمان يا ولدي...

قطب عثمان متسائلا:

- يعني ايه يا بوي؟, هو الشيخ عبد الهادي مش فاتحك كيف ما جولت؟

الجد برود:

- اللي جولته حوصل يا عتمان, بس فيه حاجة اصغيرة اللي ما جولتهاش... سيف ولد الشيخ عبد الهادي خطب من مصر.. اخت صاحبه وشريكه في المكتب ابتاعه اللي هناك وبتشتِغل امعاه.. على ما أفتكر اسمها منة... والشيخ بذات نفسه كلمني يعزمنا عشان نحضرو العزيمة اللي عملها لابنه لمن يرجع من شهر العسل مع عروسته حداهم في البلد, بس لازمن كان يبجى فيه حاجة تحرّك المايه الراكدة, وبيتهيألي انه حوصل..

وغمز الجد بمكر لابنه الذي كتم ضحكته بصعوبة احتراما لوالده، ليردف بعدها الجد بجدية مزيفة:

- وحاجة تانياه كومان... هو سيف متزوج بجاله خمس اسنين وعنديه بتِّين وواد، لكن أني ما كادبتش الشيخ عبد الهادي جبل ما يتزوج فاتحني انه رايد يناسبنا ووجتها بناتنا كانوا يا اما صغار يا اتزوجوا، وبعدين هما جماعتاه شافوم سلافة يوم العزيمة.. ولا إيه؟!!!

ليصمت عثمان قليلا مطالعا في أبيه بذهول ويهتف بعدها بغير تصديق:

- الكابير.. كابير صوح يا بويْ... وانت كابيرنا يا كابير!!

********************


لحق شهاب بغيث حتى وصل إليه وهو يلهث قائلا بينما يجذب مرفقه بقوة ليوقفه:

- ايه يا بني, واخد في وشّك كدا ورايح فين؟

غيث بزمجرة محاولا الافلات من قبضة شهاب:

- بجولك إيه يا شهاب همّلني لحالي دلوك....

شهاب بنفي قاطع:

- لا طبعا, تعالى بس اهدى الأول, اسمعني وبعدين يا سيدي اعمل اللي انت عاوزه....

ليذعن غيث بعد معارضة طويلة وهو يهتف بنزق:

- ماشي يا ولد أبوي لما أشوف عاوز تجول إيه...

جلسا أسفل نخلة باسقة بأوراقها العريضة, قال شهاب:

- مش عاوز تعرف أنا أقنعت بنت عمك بالجواز ازاي؟

ليهتف غيث موافقا وقد لمعت عيناه:

- طبعا عاوز أعرِف..

شهاب بابتسامة:

- شوف يا سيدي...

وطفق يروي له كلما ما صار ما عدا بعض الأمور التي تخصّه وسلمى فقط ولا يهم غيث معرفتها في شيء!!..


- انت عاوز تجول انك فهِّمتها انه ارتباطكم دِه عشان بوك وبوها يجتنعوا انكم ما تصلحوش لبعض واصل وفي الحجيجة انت ناوي تكمل الموال لآخره؟!

ابتسم شهاب وهو يجيب:

- مظبوط, عليك نور يا كبير, ما كانش فيه غير طريقة واحدة بس عشان توافق, وأنا مستعد أعمل أي حاجة الا أن سلمى تروح من ايدي..

ضيّق غيث عينيه يطالع في شقيقه الذي جلس بجانبه أسفل تلك النخلة الباسقة وفوق الزرع الأخضر يستند بظهره الى جذع هذه النخلة وقال:

- ممكن أعرِف ليه انت متمسك بيها جوي إكده؟

لف شهاب رأسه لينظر الى توأمه بابتسامة ساخرة مجيبا:

- لنفس السبب اللي خلّاك تتقدم لسلافة واللي شوفته في عينيكوجدك بيحكي على عريس الغفلة وخصوصا لما قال انها رفضتك....

زفر غيث بيأس وقال وقد نسي تهرب شهاب من الاجابة على سؤاله:

- أعمل ايه يا ولد ابوي, عامله كيف الزيبق.. مش عارف آخد امعاها لا حج ولا باطل واصل!, واللي زاد وغطى انها بتجول عني اني جاتل!, بجه عشان ساعدت ليث انه ياخد بتاره اللي هو تارنا كلاتنا أبجى جاتل؟, عشان جتلت مجرم وخلصت الناس من شره ابجى جاتل؟, بنت عمك دي لخفنت مخي واصل!

رد شهاب بهدوء:

- غيث.. بنات عمك اتربوا في مجتمع غير مجتمعنا, خلي بالك هما يعتبروا أغراب عننا خالص, بالنسبة لها هو مجرم يبقى يتسلم للعدالة ويتعدم بالقانون, لكن اللي انت عملته دا كأنك بترجع شريعة الغاب تاني.. كل واحد ياخد حقه بدراعه, انت بالنسبة لك انت خدت بتارك وانه دا مجرم وقاتل وخد عقابه وبالنسبة لها لأ القانون هو اللي بيعاقب وهو اللي بيفصل بين الناس..

هتف غيث باستنكار تام:

- يعني غرضك تجول انه اني الغلطان وهي عنديها حج؟, باه... شهاب انت نسيت سِلْوِنا ولا إيه؟, دِه جتّال جُتلة.. عليه احكام تجعّده في السجن مش أجل من 100 سنة, وكل مرة يتجبض عليه بيهرب منّيه, يعني لو عِملنا كيف ما هي عايزة يبجى دم ولد عمنا هيروح هدر!..

شهاب بنفي قاطع:

- لا طبعا انا مش بقول ان اللي عملتوه غلط, بالعكس أنا كان نفسي أكون موجود عشان أشفي غليلي منه, أنا بوضح لك وجهة نظرها مش أكتر, بقولك ايه يا غيث... بنات عمك دول عاوزين الاقتحام.... طريقتك الهادية دي ما تنفعش...

قطب غيث متسائلا:

- كيف يعني؟

غمز شهاب بمكر:

- اعمل زي ما أنا عملت, اقتحم وما تديهاش فرصة للتفكير, وأي حاجة تقدر تعملها اعملها عشان توافق, كل شيء مباح في الحب وفي الحرب يا كبير!!

لترتسم ابتسامة ظفر على شفتي غيث ويهب واقفا وهو يقول:

- عن اذنك يا خوي..

ليهتف شهاب مناديا:

- على فين يا غيث؟

أجابه وهو يسرع بخُطَاهْ:

- رايح أقتحم يا ولد ابوي...

لتتعالى ضحكات شهاب بينما يسرع غيث في خطوات مهرولة متجها الى ابنة عمه وقد أتخذ قراره النهائي... سلافة ستكون له شاءت أم... أبت!!

الحلقة الرابعة عشر

(كبير العيلة (منى لطفي

مر يومان لم يستطع فيهما غيث الانفراد بسلافة فدائما ما تكون محاطة بأحد أفراد عائلتها أو... عائلته!, وهذا مدعاة للسخرية, فكأنهم قد اجتمعوا على ألّا يتيحوا له الفرصة التي يريدها للتحدث اليها منفردا حتى فاض به الكيْل فقرر أن يحادثها وإن كانت محاطة بعائلة الخولي أجمع وإن أدى الأمر لاختطافها فسيفعل!!

وقفت سلافة عند حوض الورود الذي جذبها منذ أن وقعت عيناها عليه منذ أول يوم لها في القصر, كانت تتجاذب أطراف الحديث مع عم مدبولي البستاني الرجل الستيني العمر, كانت ترتدي فستان طويل ينسدل بطولها حتى أعلى كاحليها بقليل, كان باللون الليموني موشح بأزهار بيضاء كبيرة مطبوعة عليه, ومغلق بأزرار بيضاء كبيرة من الأمام من أعلى وحتى منتصف خصرها حيث يضيق الفستان ثم يهبط متسعا الى الأسفل, كانت أكمامه تصل الى مرفقيها مطوية بزر أبيض لدى كل كُم, وانتعلت في قدميها حذاءا صيفيا مفتوحا باللون الأبيض, بينما جمعت شعرها الأسود الطويل الى أعلى على هيئة ذيل الفرس, واكتفت بوضع ملمع للشفاه باللون الخوخي, وبعض الماسكارا الخفيفة التي أكسبت أهدابها طولا وكثافة, ورشّت بضع قطرات من عطر الياسمين الخفيف الرائحة خاصتها, كانت تقف تتحدث وتضحك مع مدبولي غير واعية لصورتها الفاتنة التي خلبت لبّ ذلك الشاب الذي يتقدم ناحيتهما, وكلما قصرت المسافة بينهما كلما وعى أكثر لفتنتها وغضب أكثر من تلك الفتنة!..

كانت تميل برأسها الى الخلف ضاحكة عندما انتبهت الى ارتباك مدبولي الطفيف ثم اعتداله وهو يقول بكل احترام:

- أهلا يا بيه...

قطبت والتفتت لترى غيثا وهو يقف على بعد أنملات منها بلباس ركوب الخيل الأسود والذي أكسبه جاذبية رجولية طاغية, ولفت نظرها خصلات شعره الشديدة السواد القصيرة حيث انعكست عليها أشعة الشمس فتوهج لونها وأضحت كجناح الغراب في لمعانه....

تحدث غيث بصوته الخشن وهو يرمقها بنظرات غريبة:

- أهلا نبك يا مدبولي...

ثم أردف موجها الحديث الى سلافة:

- كيفك يا بت عمي..

هزت سلافة كتفيها وأجابت بتلقائية:

- الحمد لله, غريبة يعني انت مش في الديوان دلوقتي...

غيث وهو ينظر الى مدبولي بنظرة عرفها الأخير فأسرع بالاستئذان:

- عاوزك في موضوع ضروري...

هزت سلافة رأسها بنعم ولكنها أسرعت بنداء مدبولي هاتفة وهي تمد يدها بباقة من ورد الجوري:

- شكرا يا عم مدبولي على الورد...

نقل غيث نظراته بذهول من وجهها المبتسم الى وجه الرجل الكهل والذي تخضب باللون الأحمر لثنائها له!, تبًّا هل ينبغي لها أن تثير اعجاب كل رجل تقابله حتى وإن كان كهلا قد تخطى الستين من عمره؟!, من الواضح أنه سيمنع تعاملها مع أي صفة مذكر يتراوح عمره من السادسة عشر وحتى الثمانون!

التفتت سلافة الى غيث وتساءلت بينما لا تزال الابتسامة مرتسمة على شفاها الخوخية اللون والتي جعلت غيث يشرد فيهما فلم يسمع ما تقول حتى رفعت صوتها:

- هاااااي.. غيث روحت فين؟

انتبه من شروده وسعل قليلا ليجلي حنجرته قبل أن يقول:

- ما أني امعاكي أهاه...

سلافة بتساؤل:

- كنت عاوزني في إيه بقه؟

غيث بعد أن زفر بعمق:

- شوفي يا بت عمِّي أني لا بحب اللف ولا الدوران, هو سؤال وعاوز جواب عليه دوغري إكده.. انتي ليه مش موافجة على زواجنا؟

ابتسمت سلافة ابتسامة صغيرة وحركت رأسها يمينا ويسارا بخفة ثم رفعت نظراتها اليه مجيبة بهدوء:

- تاني يا غيث؟!

غيث بإصرار:

- وتالت ورابع وعاشر كومان!, أني مش هسكت غير لمّن أعرِف السبب الحجيجي لرفضك دِه, خصوصي وإن عمي رؤوف متشجع جوي دِه حتى الست ألفت هي كمان معندهاش أيتها مانع, يبجى تصليبة رايك ده وتنشيف دماغك ليه؟

ابتسمت سلافة قائلة بدعابة:

- صعيدية بقه تقول إيه؟..

ثم نظرت اليه مجيبة بكل جدية:

- شوف يا غيث.. اوعى تكون فاكر اني بتعزز مثلا ولا أني فرحانه علشان فاتحتني في موضوع الارتباط دا أكتر من مرة؟, لالالا أبدا, أنا هكلمك بوضوح أكتر يمكن سبب رفضي ما وصلكش في الأول..

سكتت قليلا فيما وقف أمامها مترقبا لسماع ما ستقوله, تنهدت عميقا وقالت:

- غيث الموضوع مش موضوع انك اخدت بالتار بإيدك وما لجأتش للقانون وبس.. لا!, الموضوع إنه اللي حصل دا أكّد لي اننا مختلفين في وجهات نظرنا ومبادئنا!, غيث أنا مش هينفع أرتبط بواحد أبسط قواعد الحياة أو الأساسيات عموما مختلفين عليها..

زفر غيث بعمق وقال بصبر:

- ممكن أسألك سؤال وتجاوبيني عليه؟

سلافة بهزة من رأسها بنعم:

- أكيد اتفضل إسأل..

غيث بجدية:

- انتي شايفاني ظالم ولا متجبّر على خلج الله؟

حركت سلافة كتفيها وأجاتب بصراحة تامة:

- بصراحة.. لا!, كل الناس اللي بتشتغل تحت إيدك بتشكُر فيك جدا وبيقولوا انك كريم ورحيم بيهم, يمكن جد في شغلك لكن في نفس الوقت مش ماسك لهم الكرباج...

غيث:

- امنيح, طيب سؤال تاني.... المجرم اللي اني وليث خلصنا الناس من شرِّه دِهْ حاسة انه مظلوم؟؟

سلافة بنفي قاطع:

- لا طبعا, أنا اعتراضي مش على أنه يستحق القتل ولا لأ دا يستاهل أساسا يتشنق في ميدان عام عشان يكون عبرة لغيره, أنا اعتراضي على طريقة تنفيذ الحكم دا, فيه قانون احنا مش في غابة ما ينفعش كل واحد يطبق العدل بإيده في جهة مختصة بكدا, لأنه لو عممنا هتكون كارثة لأنه كل واحد هيطبق العدل اللي من وجهة نظره هو حتى المجرم في اجرامه بينتقم من المجتمع لأنه لاقى نفسه هيموت من الجوع ومحدش سائل فيه أول جريمة لأي حد بيكون لها سبب وقوي من وجهة نظره, ويا روح ما بعدك روح.. القاتل بقه بيقتل والحرامي بيسرق وكله عشان الفلوس, انا مش ببرر لهم الجريمة لأ.. أنا بوضح لك انه ما ينفعش كل واحد ينفذ العدل من وجهة نظره هو بدراعه فيه قانون كفيل بحماية الناس وانه يرجع لهم حقوقهم وفوق القانون فيه ربنا سبحانه وتعالى لو عدالة الأرض ما قدرتش تطبق العدل بين الناس لأي سبب فعدالة السماء عمرها ما تظلم...

غيث بإصرار:

- يعني الطريجة هي اللي مش لادة عليكي.. لكن الاساس احنا متفجين فيه انه مجرم وبلطجي ويستاهل جطع رجبته...

سلافة بعجز عن افهامه:

- يا غيث أنت ليه مش عاوز تفهمني؟, بقولك انه تفكيرنا نفسه مش واحد, الصح بالنسبة لك غلط بالنسبة لي يبقى نرتبط ازاي ببعض ونكمل حياتنا مع بعض ازاي بس؟.

ثم نفخت بضيق وأردفت بجدية لتنهي هذا النقاش العقيم بالنسبة لها:

- شوف يا غيث.. انت ابن عمي وانسان كويس ومحترم لكن للأسف انا مش مقتنعة بارتباطنا وان شاء الله ربنا يعوّضك بواحدة أحسن مني 100 مرة كمان...

أجاب غيث بصرامة:

- وأني مش رايد غيرك!.

قطبت سلافة ناظرة اليه وقالت:

- طيب ممكن انت بقه تجاوبني على سؤالي.. ليه أنا بالذات يا غيث؟

غيث بلا مبالاة مزيفة:

- وليه لاه؟, انتي بت عمي وزينة ومتعلمة يبجى ليه ما افكّرشي فيكي؟

عقدت سلافة ذراعيها أمامها وقالت ساخرة بابتسامة صغيرة:

- اللي بتقوله دا يبقى معقول لو انت تقبلت رفضي, لكن انت مصر يا غيث ليه؟

نظر اليها غيث نظرة سمّرتها في مكانها وهمس بصوت أجش:

- لأن مواصفاتك هي اللي عاوزها تكون في ولادي, انتي شخصيتك جويّة, عنيدة, كرامتك فوج, ما بتخافيشي من حد واصل, من الآخر عاوز ولادي يكون عنديهم نفس صفاتك ديْ..

سكت قليلا ليتابع بابتسامة:

- ده طبعا غير دمك الخفيف...

كانت سلافة طوال تعداده لصفاتها وهي فاغرة فاها بينما سرت قشعريرة في سائر جدسها لدى ذكره أنه يريد أبناءا منها يحملون جيناتها!, فكرة أن يجمع بينها وبين غيث أطفال كانت كفيلة بجعل الدم يجري في أوردتها ليغدو كالعسل الدافيء بينما تخضب وجهها باللون الأحمر القان لدى تخيلها لأطفال يحملون لون بشرته السمراء ونغزة خدّه الأيمن والتي تظهر عند ابتسامه, وهو يركضون حولها هنا وهناك بين المروج الخضراء...

حركت رأسها لتفيق من حلم يقظتها هذا وهمّت بالكلام عندما قاطعها صوت رنين هاتفها المحمول والذي تحمله في جيب فستانها فأخرجته ليطالعها اسم سلمى فتلقت المكالمة وتمتمت ببضعة كلمات مفادها أنها لن تتأخر, نظر غيث اليها وتحدث قائلا:

- عرفتي أني ليه عاوزك ومصر عليكي يا سلافة؟, أني بختار أم لولادي... وأني متأكد إني مش هلاجي أم أحسن منيك, إيه رأيك دلوك؟

همت بالكلام ثانية عندما أتت وردة - الفتاة التي تبلغ من العمر اربعة عشر ربيعا وتعمل لديهم في القصر- تهرول منادية سلافة وعند وصولها اليها أخذت تلهث لالتقاط أنفاسها الهاربة قبل أن تتكلم بصوت متقطّع:

- ست سلافة.. عمي الحاج جالي أبلغك انك تلحجيه على داره عاوزك ضروري...

أجابت سلافة بتقطيبة:

- ماقالكيش عاوزني في ايه؟

نفت وردة بهزة من رأسها قائلة:

- لاه, ما جاليش...

قالت سلافة:

- تمام يا وردة, إسبقيني انتي وأنا هحصلك..

زمجر غيث ما أن توارت وردة عن الأنظار وقال بتأفف:

- ايه دِه؟, كانهم عمالين روباطيِّة عليّ عشان معرفش أتحدت امعاكي, بجولك ايه تعالي نمشي من اهنه نروحوا أي مكان, مش هنخلصوا منيهم دول.

هزت سلافة برأسها رفضا وأجابت وهي تهم بالسير بعيدا عنه:

- مالوش لزوم يا غيث, احنا قلنا المفيد, احنا ما ننفعش لبعض, ربنا يرزقك بواحدة تانية ويا سيدي تكون جيناتها أحسن مني كمان...

قطب غيث وقال باستهجان لم تنتبه اليه:

- بس أحنا لساتنا ما خلصناش حديتنا..

ثم تابع بصرامة وهو يشير بسبابته أمامه:

- سلافة مشِّي جودامي ياللا...

نظرت اليه سلافة باستنكار وهتفت:

- ايه دا؟, أمشي أروح فين؟, لا طبعا.. مش ر ايحه في حتة..

غيث بتهديد مبطن:

- سلافة طوعيني, اسمعي الكلام ومشِّي معايْ...

حركت سلافة رأسها بقوة يمينا ويسارا حتى تطايرت خصلات شعرها المربوط حولها وقالت مؤكدة بعناد شديد:

- وأنا قلت لأ يعني لأ....

تقدم منها غيث حتى وقف أمامها تماما ومال عليها ناظرا في ليل عينيها وهو يكرر بتحذير:

- سلافة أني مش بهزّر, اتجي شرِّي الساعة دي واعملي كيف ما بجولك..

حركت سلافة كتفيها باستهانة وأجاب ببرود:

- والله انا قلت لك اللي عندي, مش همشي معاك خطوة واحده من هنا أيه رأيك بقه؟

هز غيث كتفيه بلا مبالاة وقال بلهجة جعلتها تقطب ريبة:

- ماشي يا بت عمي كيف ما انت رايدة, استعنا بالله....

ليخفض هامته فتقطب بحيرة تبددت عندما رفع جذعه ثانية ولكن.. حاملا إياها فوق كتفه كجوال البطاطا!, هتفت به بقوة وهو تضربه بقبضتيها الصغيرتين فوق كتفه:

- نزلني يا غيث أنت اتجننت؟

أجاب غيث وهو يحثّ في السير:

- انتي اللي جبتيه لروحكِ, جولتلك من الاول ما سمعتيش الحديت....

كان رأسها يتدلى خلفه بينما ساقيها تضربان صدره, سار بها حتى وصل الى كوخ مخصص لأدوات الزراعة الخاصة بمشتل الزهور المزروع في حديقة القصر, أنزلها عن قدميها وأغلق الباب خلفه, ما أن لمست قدميها الأرض حتى سارعت بابعاد شعرها عن وجهها وقد حُلّت ربطته, وصرخت في وجهه بحدة وهي تشير بيدها الى الباب حيث يقف مستندا اليه بظهره:

- شوف لو ما بعدتش حالا مش هيحصل لك كويس!, سيبني أرجع بالذوق يا غيث بدل ما أصرخ وأطلع جناني عليك, انت متعرفنيش لما بتجنن بتجنن!!

تقدم غيث منها حتى وقف على بعد بوصات قليلة ومال برأسه ناحيتها قائلا باستهانة:

- واني ما بنتهددشي يا سلافة, ايه رايك بجه؟, جولتلك جبل سابج لازمن اقتنع برايك انتي لغاية دلوك ما جولتيش سبب محدد لرفضك دِه, يعني ايه احنا مختلفين في الطريجة ديْ؟, شوفي يا بت عمي.. أني بجولهالك أهو.. أني ما جابلشي غير موافجتك على زواجنا, انتي لساتك اصغيرة وماخبراشي الدنيا زين, ولو على اختلافنا اليل تعبه بيه نافوخي دِه هنجدروا نوصلوا لحل وسط!!

وقفت أمامه تغمض وتفتح في عينيها لا تستطيع تصديق ما فعله هذا المتبجح؟؟, لقد حملها كجوال البطاطا فوق كتفه وأتى بها عنوة الى هنا ليجبرها على الاستماع اليه وأخيرا ينذرها أنه لن يقبل بغير نعم جوابا على أمره إياها بالزواج به!!!!!

تبا وسحقا واللعنة عليك وعلى رأسك يا غيث يا ابن أم غيث!!!!, سأوريك من هي سلافة رؤوف الخولي, لست بأنثى كسائر النساء, فأنا لا يملكني إلا أنا... أنا حرة وأبدا لن أخضع, كرامتي فوق هامتي وأبدا لن أركع!!

طالعته تبادله النظرات قوة بقوة, قال وهو يزفر بعمق: 

- يعني لازمن تحديني اني أجيبك غصب يا سلافة؟, ما عتسمعيش الكلام من الاول ليه؟, لكن معلهش كيف ما جولتك انتي لساتك اصغيرة مع الوجت هتتعلمي....

سلافة ببرود وهي تقف عاقدة ذراعيها أمامها:

- وانا مش عاوزة اتعلم, واوعى تفتكر اللي انت عملته معايا دا هيعدي كدا, ابدا يا غيث, ودلوقتي بقه انا لا عاوزاك تتكلم ولا انا عاوزة أسمع زي ما جبتني هنا ترجعني مكاني والا همشي من هنا وارجع بأي طريقة واضح؟.

اقترب حتى أصبح على بعد بوصات منها ومال ناحيتها يطالعها بقوة وهو يقول بينما تضرب أنفاسه الساخنة بشرتها الحليبية: 

- لمن تاجي تكلمي جوزك تكلميه عدل, أني مش هسمح لك تتطاولى علي بأي طريجة واضح؟؟.

كادت سلافة أن تشد شعرها وتشققت واجهة البرود التي تعتمدها وصاحت:

- جوز مين؟, غيث لآخر مرة بقولك انا مش موافقة, اتجوزك ازاي؟, اتجوز قاتل على آخر الزمن!!

هتف ليث صارخا بغضب عنيف:

- هي سيرة أبو زيد الهلالي هندنّا نحكّوا فيها طولة اليوم؟, يا بت النااااااس افهمي.. اني مش جاتل, انا اخدت بتاري وتار ناس اتظلموا كتير جوي, انتي لساتك اصغيرة مافاهماشي حاجة, فكرك البوليس لو مسكه ايه اللي هيوحصل؟, هيهرب زي ما بيعمل كل مرة, سلافة انا مش ببرر اني لو الزمن عاد مش هعمل غير اللي عملته..

سلافة بعناد وتشبث بالرأي:

- وانا بردو مش مقتنعه.. اتجوزك ازاي وانا ضد افكارك دي,

وبقولك فيه قانون تقولي انا القانون ليه يعني... معلّى جانون وانا معرفش!!

غيث بحدة: 

- وانى مش موافج على كلامك ده... انى رايدك ليه مش عاوزة تدي نفسك وتديني فرصة, يمكن اطلع غير ما انتي متخيلة؟؟؟

سلافة بزفرة عميقة:

- غيث افهم انا مش مقتنعة يبقى هتجوزك ليه بقه.. خلاصة حق ولا تكفير ذنب؟؟

هتف غيث بغيظ:

- هي وصلت لأكده؟, طب اسمعي يا بت عمي آخر كلام.. ماحدش هيجدر يجرب لك طول ما اني جايل عليكي, وعشان تبجي عارفة خروج من اهنه جبل ما توافجي انسي, وادي جاعده....

وجلس على الكرسي الخشبي ذو الأربعة قوائم وتابع وهي تطالعه وكأنه قد نبت له قرون فوق رأسه فأضحى كائن خرافي: 

- وعشان تبجي عارفة عمى اللي هو بوكى عارف انك امعايا دلوك, فكري اكده واعرفي صالحك فين!!!

هتفت سلافة بحنق:

- صالح إيه وطالح إيه بس؟

ثم أغمضت عينيها فنظر اليها وهو يقول ببرودة:

- خلاص ما تتزرزريش إكده, أني هحلهالك...

قطبت سلافة متسائلة بنزق:

- يا سلام وهتحلها ازاي دي ان شاء الله؟

غيث رافعا حاجبه الأيمن بتحد:

- هم مش بيجولوا فترة الخطوبة دي عشان التنيِّن يجربوا من بعض ويتعرفوا على بعض أكتر؟, خلاص... احنا نتخطب وناخد الفترة دي فترة تعارف ونحاول انجرّب من بعض فيها..

هزت سلافة برأسها نفيّا وأجابت:

- مينفعشي للأسف, اللي بين شهاب وسلمى غيرنا خالص, هما مش مختلفين في الأساسيات, يمكن كل واحد له طريقة معينة لكن مش زينا, احنا واحد فينا في الشرق والتاني غرب, وموقفك دا دلوقتي أكبر دليل على كلامي, أنت مش مقتنع برأيي ومش عاوز تقبله, ومنشّف دماغك ع الأخر...

غيث بابتسامة ساخرة:

- دا الموج فدِه أكبر دليل على أننا ما نصلحوش غير لبعض!

سلافة باستخفاف وهي تضع يديها في خصرها:

- يا سلام!, وازاي بقه يا فيلسوف عصرك وأوانك؟

نهض غيث وتقدم منها ثم وقف ومال برأسه ناحيتها وهو يجيب بابتسامة نصر صغيرة:

- عشان انتي كومان مش عاوزة تجتنعي بكلامي, انت كومان دماغك أنشف من الحجر الصوان, يعني دماغ صعيدية صوح, يبجى أحنا الاتنين أكتر تينين لايجين على بعضهم!

زفرت سلافة بيأس وهتفت وهى تنظر الى الآعلى:

- يا ربي أٌوله ايه دا بس ولا أعمل إيه؟

سكتت قليلا ثم نظرت اليه لتجده واقفا يطالعها بمنتهى البرود فتحدثت بحنق هاتفة:

- طيب بص.. أنا هوافق مبدئيًّا... شوف مبدئيًّا.. بس مش على خطوبة لا.... تعارف بس!

قطب غيث وقال مستهجنا بعد أن كانت الابتسامة بدأت بالظهور لدى سماعه موافقتها ولكنها سرعان ما غابت عند سماعه باقي عبارتها:

- كيف دا؟, تعارف ازاي يعني؟

سلافة بنزق:

- يعني تعارف يا غيث, ما فيش أي حاجة رسمي خالص ولا حتى قراية فاتحة, هو مش كدا.. كدا كل حاجة واقفة لغاية عدة سلسلبيل ما تخلص؟, خلاص... لسه أكتر من شهرين تقريبا على العدة تبقى فترة كافية اننا نحاول نعرف بعض أكتر, ايه رأيك ولعلمك.. دا آخر كلام عندي!!

قال غيث وهو يشعر بنشوة الانتصار فيكفي أنها قد وافقت على الفكرة وأن ظهر أنها مرغمة ولكنه يعلم بداخله أنها تحمل له شعورا خاصا, لقد لمسه في تلك الليلة التي سألته عن سبب إصراره على الزواج بها قبل أن يقاطعهما غفيره الخاص ويخبره بأمر ذلك المجرم ليذهب ليقتص هو وليث منه:

- وأني موافج يا بت عمي...

ثم مد يده لمصافحتها فنظرت قليلا الى يده قبل أن تم يدها فيتناولها في راحته لتضيع يدها الصغيرة وسط كفه القوي, ويضغط عليها لا شعوريا بينما تطالعها عيناه بنظرة جعلت دقات قلبها تدوي بهدير قوي أوشك أن يصم آذانها, وحبست أنفاسها تخشى أن تقطع سحر هذه اللحظة بينما ترسل يده ذبذبات كهربائية ليدها فتسري في سائر أنحاء جسدها وكأنها لمست سلكا كهربائيا عار ذو تردد عال لتشعر بقشعريرة تسري في عمودها الفقري وحتى أطرافها, حاولت سحب يدها لتقطع هذه اللحظة التي شكّتى أنها قد تدوم الى الأبد, فتنحنح غيث تاركا يدها على مضض وهو يقول بصوت خرج أجشّأ من فرط انفعالاته التي اختلجت داخل جنبات صدره:

- جريب جوي يا بت عمي مش يدك بس اللي هتبجى حجي..لاه!, كلك على بعضك اكده هتكوني حجي أنا وبس!

زاد احمرار وجهها وأجابت وهي تهرب بنظراتها:

- طيب ممكن نرجع بقه....

وخرجا عائدين الى القصر ولكن شتّان بين حالهما عند الدخول وحالهما الآن بعد الخروج!! 

*************************

بعد انقضاء عدة سلسبيل:

***********************

مرت شهور العدة ولم يحدث فيها أي جديد, فلا تزال المناوشات بين شهاب وسلمى وان خفت عن السابق كثيرا, بينما غيث وسلافة فعلاقتهما في منحنى صعود وهبوط بالتزامن, فأحيانا تشعر بامكانية المضي قدما في ارتباطهما وأحيانا أخرى تكاد تجزم باستحالة نجاح أي ارتباط بينهما..

أما ليث فلم يفاتح عمه بعد بشأن ارتباطه بسلسبيل, وكان يماطل ما إن يفاتحه والده في الأمر حتى قرر والده أن يضعه أمر الأمر الواقع بأن فاتح هو الجد برغبته في ارتباط سلسبيل بليث وكانت سلسبيل حينئذ لدى عائلتها لقضاء بضعة أيام برفقتهم بعد انقضاء عدتها!!...

- انت بتجول ايه يا بوي؟

هتفت سلسبيل غير مصدقة لما تسمعه آذانها من والدها بينما يجلس الجميع حولها في غرفة الجلوس حيث أمر الجد بأن يتجمع أفراد العائلة لأمر خاص بسلسبيل وأولادها!!

عثمان بحزم يخالطه حنان أبوي:

- بجول ان عمك عدنان طلبك لليث عن ولادك, انتي لساتك شابة صغيرة ومش هتجعدي عزبة اكده من غير زواج..

هتفت سلسبيل وهي تقفز عن قدميها واقفة باستنكار تام وعينيها تغشاها دموع محبوسة:

- لاه يا بوي, أني مش هتزوج بعد راضي, كفاية علي ولادي هربيهم...

تدخل الجد مقاطعا بجدية:

- سلسبيل يا بتّي الحديت اللي بتجوليه دِه انتي عارفة انه مينفعشي حدانا اهنه, كيف نسيبك عزبة وانك لساتك بت 26 سنة؟, وعيالك أكبرهم 5 سنين؟, يا بتي المشوار لساته طويل ولازمك راجل امعاك!

اندفعت سلسبيل تجذب يد جدها تقبلها وهي تهتف بتوسل:

- ربنا يخليك ليا يا جدي انت وبوي واخواني, أني ما عاوزاشي حاجة من الدنيا تاني غير ولادي وبس, أحب على يدك يا جدي..

مسد الجد على الوشاح المغطي لرأس سلسبيل وهو يقول:

- ارفعي راسك يا بتي, بت الخولي ما تطاطيش راسها واصل, احنا اللي بنعملوه دِه عشان كانت وعشان عيالك, ليث عمهم وهو أكتر واحد هيشيلهم في عينيه, وانت شايفه كيف عدنان ولدك من يوم ما جيتو ما عيبطلش يسأل هتعاودوا حدا عمه ميتى؟

نظرت سلسبيل الى غيث بترجي واتجهت اليه وهي تقول:

- اجنعهم يا خوي, أني ما عاوزاشي جواز, ولو على عمهم وجت ما يحب يشوفهم أني مش همنعهم عنيه...

نهض غيث وقال وهو يربت على كتف سلسبيل التي بدأت دموعها بالانهمار في صمت:

- سلسبيل يا ختي ليث راجل وجدع واحنا هنكون مطمنين عليكي انتي والعيال وانتو في حمايته...

هزت رأسها بياس واتجهت الى شهاب الواقف يراقب ما يدور بينما يعقد ذراعيه وقد ارتسمت علامات الوجوم على وجهه:

- شهاب أحب على يدك يا شهاب...

وجذبت يده لتقبلها فسحبها سريعا فركعت وهي تصيح:

- أحب على رجلك يا خوي...

ليسارع شهاب رفعها وهو يهتف:

- بس يا سلسبيل كفاياكي يا ختي...

لم تستطع سلافة الصمت أكثر من ذلك ووقفت هاتفة:

- ايه دا احنا فين هنا؟, هو الجواز بالعافية؟, دا حتى شرعا حرام ما ينفعش!

نهرها أبوها بنظرة صارمة وهو يقول:

- سلافة... صوتك ما يعلاش في وجودنا...

اتجهت سلسبيل وكأن سلافة هي حبل النجاة ووقفت أمامها تصيح:

- جوليلهم يا سلافة, جوليلهم ما يموتنيش بالحياة, ليث لاه.., ليث لاه يا بوي, لاه....

تقدمت سلمى منها تحيطها بذراعها وهي تقول بعطف:

- هدي نفسك انتي يا سلسبيل وان شاء الله كل شيء يتحل..

أجابتها سلسبيل بينما عيناها تتطلعان الى أمها أملها الأخير ولكن هذه الأخيرة تشيح بنظرها فهي تعلم عادات بلدها وترى أن ليث أصلح شخص لتربية صغار ابنتها وفي نفس الوقت تحتفظ بحقها من ميراث زوجها بل وترث أيضا من ليث!!

قالت سلسبيل بلهجة المغلوب على أمره بعد أن علمت أن أمها قد خذلتها كالعادة:

- مافيش حاجة هتتحل يا سلمى, مش هيسكتوا, لكن انا لا يمكن أوافج...

وابتعدت عن سلمى متقدمة من والدها وهي تهتف بتحد غريب عنها:

- سمعتني يا بوي.. لاه, على جثتي أني أتزوج ليث, ليث لاه يا بوي لاه....

لتهوى يد أبوها بصفعة مدوية على وجنتها جعلتها تصرخ ألما بينما هب غيث وشهاب يعيقان تقدم والدهما لمواصلة ضربها فيما احتوتها سلافة بين ذراعيها, وهتف عثمان صائحا:

- بتعلي صوتك علي يا جليلة الحيا, طيب علمن يصلك ويتعداكي كمان... زواجك من ليث ولد عمك مع هلال الشهر الجاي, وابجي وريني هتعملي ايه!!

لينصرف مغادرا بغضب بينما نظرت سلافة وسلمى اليها بإشفاق وتحدث الجد بجدية يغلفها الحزن:

- غيث.. شهاب, الحجوا بوكوا شوفوه وين راح..

لينفض الجمع وتنهض الجدة متجهة الى حفيدتها تجذبها من بين يدي سلمى الى حضنها الحنون الدافئ وهي تقول مانعة دموعها من الانهمار بقوة:

- هدِّي يا بتي هدِّي.. بوكي بيحبك ومارايدلكيشي الا الخير, تعالي ريحي في دارك دلوك...

اتجها للانصراف ومرا برازية التى وقفت أمامهما وقالت بجمود محاولة عدم التأثر بدموع ابنتها:

- امسحي دموعك يا سلسبيل, انتي ما عدتيشي اصغيرة للي اعملتيه دِه, بوكي ورايد مُصلحتك..

لم تحر سلسبيل جوابا وانصرفت تاركة راوية ترغي وتزبد فقد تجاهلتها أمام ألفت غريمتها والتي سرعان ما لحقت بسلسبيل هي وابنتيها..

نظر الجد الى راوية وتحدث بجدية:

- كويس انك عارفة انه بوها ما عاوزشي الا صالحها...

هتفت راوية وهى تقترب لتجلس بجانبه:

- أومال يا عمي, بو غيث ما يعملشي حاجة تضر بولادنا واصل...

ابتسم الجد شبح ابتسامة ساخرة وقال:

- تمام, على إكده يبجى اعملي حسابك زواج اعيالك كلاتهم هيبجى سوا..

قطبت راوية وهتفت:

- كيف يعني مش فاهمه؟

الجد ببراءة مزيفة:

- ايوة صحيح انتى معترفيشي.. اصلنا مارضيناشي نجول لغاية ما سلسبيل تُخلص عدتها...

راوية بقلق ولا تعلم لم نغزها قلبها:

- تجولوا ايه يا عمي؟

الجد بتلقائية مزيفة:

- شهاب وغيث خطبوا سلمى وسلافة واحنا ما رضيناش نجول لغاية ما تفوت عدة سلسبيل, ودلوك أني هجول لرؤوف وعتمان الاولاد كلاتهم يتزوجوا سوا, فكرة مش اكده؟

وكأن دلوا من المياه الباردة قد سُكب فوق راوية, فقد طالعته بذهول تام وهي تردد:

- انت بتجول ايه يا عمي؟, ولادي أنا خطبوا بنات ألفت وأني معرفشيِ؟ّ

الجد بلا مبالاة:

- جولتلك كنا ما عاوزينيش الموضوع يتعرف جبل عدة بتِّك ما تفوت, ولو كنت عرفتي خابرك زين ما يتبلشي بخشمك فولة, كانت البلد كلاتها هتعرف!

نظرت راوية الى الجد وهتفت بدون شعور منها وقد ارتسمت علامات الكره والبغض على وجهها ليجعلها في أبشع صورة:

- دِه يستيحل يوحصل, على جثتي ان ولادي ياخدوا بنات ألفت... لا يمكن!!

ليصدح صوت عثمان عال:

- رااااااااوية!!!

فتشهق بذعر وتلتفت خلفها لتراه واقفا وعيناه تطلقان شررا من نار, تقدم عثمان منها وفي أثره ولديه وشقيقه, وقف عثمان أمامها وهتف من بين أسنانه:

- انتي اتجنيتي؟, انتي كيف توجفي جودام بوي وتجولي الكلام اللي جولتيه دِه!

نهض الجد فأسرع رؤوف يسنده وقال وهو متجها الى الخارج ناظرا الى راوية بجدية وصرامة:

- عتبة دارك عوجة يا عتمان يا ولدي, يا تصلّحها يا.. ترجّعها!!

لتشهق راوية غير مصدقة, فيما استمر الجد في طريقه الى الخارج برفقة رؤوف بينما نظر عثمان اليها وهتف بقوة:

- أمرك مطاع يا بوي, والعتبة العوجة ما عادت تلزمني..

سكت قليلا ثم أردف بحزم:

- زواج ولادك يخلص وبعد اكده تاخدي خلجاتك وتعاودي دار ابوكي من تاني, بيتي يتعذرك يا راوية......

ويتجه بخطوات حادة الى الخارج تلاحقه صرخة راوية عاليا:

- لااااااااااا........


تكملة الرواية من هنا


بداية الروايه من هنا


🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹

ادخلوا بسرعه حملوه وخلوه علي موبيلاتكم من هنا 👇👇👇

من غير ماتدورو ولاتحتارو جبتلكم أحدث الروايات حملوا تطبيق النجم المتوهج للروايات الكامله والحصريه مجاناً من هنا


وكمان اروع الروايات هنا 👇

روايات كامله وحصريه من هنا


انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا


🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺



ادسنس وسط المقال

تعليقات

التنقل السريع
    close
     
    CLOSE ADS
    CLOSE ADS