رواية كبير العيله الفصل 15/16/17/18/19/20 بقلم مني لطفي حصريه وجديده على مدونة النجم
رواية كبير العيله الحلقه 15/16/17/18/19/20 بقلم مني لطفي حصريه وجديده على مدونة النجم
رواية كبير العيله الجزء15/16/17/18/19/20 بقلم مني لطفي حصريه وجديده على مدونة النجم
سارت سلافة في الحديقة التي يغلبها الظلام إلا من بضعة أنوار تشع من مصابيح موزعة في الأرجاء وهي شاردة فيما صار هذا اليوم من أحداث جعلته يوما طويلا للغاية, لم تستطع النوم بعد أن تحدثت مع شقيقتها وقد أشفقت على سلسبيل, حاولت مرارا التحدث مع والدها بشأن التدخل لإقناع عمها بقبول رفض سلسبيل للزواج من ليث ولكن والدها كان صريحا معها أنها العادات والتقاليد التي تحكم هذا المجتمع ولكنه سيحاول أن يؤخر موعد الزواج حتى تلين سلسبيل قليلا, تركت شقيقتها نائمة وقررت السير في الحديقة علّ نسيم الليل يهدأ من روحها المتمردة التي تتواثب في صدرها بغضب شرس من تلك العادات البعيدة كليّة عن تعاليم ديننا الحنيف, فالإسلام نهى عن تزويج الفتاة أو الثيب إلا بإذنها, فالثيب تستنطق أي لا بد من أن تتلفظ بالموافقة بينما البكر فإذنها سكوتها حيث يمنعها الحياء من الإدلاء بموافقتها علانية, ولكن ما يحدث هو ضد كل الشرائع السماوية ولا يستطيع عقل بشري استيعابه...
قادتها قدماها الى شجرة باسقة ذات جذع عريض ضخم تسبح في السماء بأغصانها العالية التي تحمل أوراقها الخضراء, ارتكزت برأسها الى جذعها وزفرت بعمق مغمضة عينيها وهي تهمس في سرها أنه كلما مرّ الوقت تأكدت من صواب قرارها برفض غيث زوجا لها حتى وإن كانت.....
- مين هناك؟
انتفضت سلافة من وقفتها وفتحت عينيها متلفتة حولها لتستطلع مصدر الصوت الذي تعلم صاحبه جيّدا, كيف لا وهو من كان يشغل تفكيرها حالا!!
خرجت سلافة الى دائرة الضوء وقالت بصوت هاديء بينما يقف غيث على مسافة غير بعيدة منها وهي تجيب بهدوء:
- أنا يا غيث...
عقد غيث جبينه وتقدم منها بضعة خطوات حتى وقف على مقربة منها وتساءل بحيرة قاطبا:
- سلافة؟, غريبة!, ايه اللي امصحيكي لدلوك؟, وكيف تجفي لوحديكي في الجنينة إكده؟
سلافة بزفرة خانقة:
- ما جاليش نوم يا غيث قلت أتمشى شوية, ما حاصلش حاجة يعني...
تكلم غيث بإصرار:
- كيف ما حوصلش حاجة؟, ميت مرة أفهّمِك انك ماعينفعشي توجفي لوحديكي في وجت زي دِه, انتي ما عاوزاشي تسمعي الكلام ليه؟
وكأن غيث بحديثه هذا قد فتح أتون غضبها ليفلت من عقاله فتقطع الخطوات الفاصلة بينهما وتقف أمامه هاتفة باشمئزاز بالغ وكأنها تبصق الكلمات:
- عشان عاداتكو وتقاليدكو صح؟
غيث بحيرة لا يفهم سبب انفجارها:
- إيوة بس...
لتقاطعه باسطة يدها وهي ترفعها أمامه هاتفة بحدة:
- بس خلاص مش عاوزة أسمع حاجة تاني, تأكد اني من هنا ورايح مش هعمل أي حاجة تخالف عاداتكم وتقاليدكم العظيمة..
سكتت قليلا لتنظر اليه بقوة متابعة:
- عارف ليه؟..
لم تنتظر سماع جوابه وأجابت بتحد:
- لأني مش هكون موجودة عشان أسيء لعوايدكم العليا, عن إذنك!..
لم تبتعد سوى خطوتين اثنين قبل أن يعلو صوته وراؤها هذه المرة آمرا اياها بالوقوف!, ليتقدم منها ويقف أمامها متسائلا بغلظة وتقطيبة عميقة بين حاجبيه فيما يطرق القلق جوانحه بقوة عن معنى عبارتها الأخيرة التي رمتها في وجهه بكل تحد:
- جصدك إيه مش هتكوني موجودة؟
عقدت سلافة ذراعيها ورفعت ذقنها الصغير لأعلى دليل التحد لتجيبه بقوة:
- يعني ماشية, مش هستنى هنا أكتر من كدا, خلاص الأجازة طوّلت أوي ولازم تنتهي!
وكأنها مدت يدا من حديد لتنتزع قلبه بقسوة وجبروت وهي تخبره بلامبالاة متناهية عن عزمها على الرحيل و... تركه!
ولكنه يكون ملعونا لو سمح لها بتنفيذ ما رمته في وجهه, ليأتي دوره هو هذه المرة ليجابهها بمنتهى الصلف والغرور وهو يهتف بقوة بينما لمعة عيناه تأسران نظراتها فلا تستطيع الإشاحة جانبا:
- ومين اللي جال أنك هتعملي التخريف اللي بتجوليه دِه؟, مين اللي هيسمح لك أساسا إنك تتحركي خطوة واحدة بس من مُطرحِك؟!
نظرت اليه باستنكار وهتفت محتدة:
- ليه ان شاء الله؟, هو سجن؟!, وبعدين أنا بابا بس هو اللي يقدر يوافق أو يرفض غير كدا ما اسمحش لأي شخص إنه يتدخل في شيء يخصني...
ليميل غيث ناحيتها ناظرا بتركيز شديد في ليل عينيها البهيم وهو يشدد على كلماته ليضمن فهمها لها جيدا:
- بس أني مش أي حد, أني ولد عمك.. وزوجك!..
همت بمقاطعته عندما أردف:
- عارف هتجولي انك مش موافجة لكن أنا بجولك أنا اتجدمت لك وعاوز أتزوجك ولغاية ما أسمع موافجتك رجلك مش هتخطي شبر واحد بعيد عن إهنه... أظن واضح؟
خانتها الكلمات وهي تطالعه في ذهول غير مصدقة لما سمعته آذانها قبل أن تتحدث بتلعثم والحروف تتعثر على لسانها من فرط دهشتها:
- إنت.. إنت بتـ... بتقول ايه؟, انت اتجننت أكيد!..
لينفلت لسانها من عقالها بعد ذلك وهي تهتف بغضب ناري جعل عينيها تبرقان كسماء مرعدة في ليل شتوي غاضب:
- لكن هنتظر ايه منك؟, اذا كانت أختك اترمت تحت رجليكم وتبوس ايديكم انكم ترحموها وما ترموهاش لأبن عمكم وما اهتزتش فيكم شعرة, يبقى اللي انت بتعمله دلوقتي دا المفروض ما يدهشنيش, كل يوم بتأكد ان رفضي لارتباطنا كان صح مليون في الميّه!
تحدث غيث بهدوء ينذر بالخطر بينما تطايرت ألسنة اللهب من فحم عينيه المشتعل وهو يجيب:
- اللي حوصل انهاردِه ما يخصيكيش جد ما يخصّني أني واخويْ, سلسبيل أختنا من لحمنا ودمنا, وليث عم اعيالها وولد عمها هيجدر يصونها ويراعاها, هي ما هتجعدشي العمر كله تبكي على راضي الله يرحمه, سلسبيل لساتها اصغيرة وجودامها العمر كله, لكن لأنك مخّك إصغيّر حاكمت وأدانتي من غير ما تسمعي ولا تستفسري, أني كان ممكن ما أبررشي حاجة, لكن أنا جولتلّك يمكن تجدري تفهمي سبب اللي بوي وجدي عِملوه انهرده ايه, ومع إنها أول مرة أبرر نفسي لكن هجولك.. أنا اتحدت مع سلسبيل جبل شويْ, كانت منهارة مش هجدر أنكِر.. لكنها عارفة انه بوها وجدها مش رايدين غير مُصلحتها, وسيبتها تفكِّر.. هما كلمتين اللي جولتهوم لها.. هي عارفة ان بوها مش عيسيبها إكده من غير زواج.. ولو حوصل واتزوجت.. ليث وعمي عدنان مش هيجبلوا حد غريب إيربي اعيالهم, يبجى تتزوج عمهم ويتربوا وسط بيت بوهم وحضن عمهم اللي هيبجى حنين كيف راضي الله يرحمه عليهم, ولا ترفض وتركب راسها وهي عارفة ومتوكدة انها مسيرها هتتزوج يعني هتتزوج بس المرة ديْ هتتحرم من اعيالها, وسيبتها تفكّر في كلامي زين.... وأجدر أجولك انها هتوافج.. لأنها في الأول والآخر أم.. ماعاوزاشي تبعد عن ضناها!!
سكتت تراقبه وهو يطالعها بنظرات غضب ممزوجة بخيبة أمل لا تعلم لما قرصها قلبها لها؟!, تابع بصوت بارد:
- وأأكد لك انها هتوافج... ولوما إني اتكلمت امعاها وفهّمتها كانت زمانها في انهيار كيف اللي جالها بعد وفاة راضي الله يرحمه, يعني يا بنت عمي يا بنت مصر عوايدنا وتجاليدنا اللي مش عجباكي ديْ في الاول والاخير يهمها مصلحة بتّها, احنا بنفكّر لجودام مش فرض راي ولا هي لوي دراع ولا حاجة, عوايدنا اللي مش عاجباكي أول واحد كسرها كان عمي رؤوف.. بوكي.. ولمّن رجع لجى جلوبنا ودراعتنا مفتوحاله ومن غير مجابل.. يا.. بت عمي!
واستدار مبتعدا بخطوات قوية لتفيق سلافة من شرودها في كلماته وتلحق به حتى قطعت عليه الطريق وهي تهتف بيأس وترجي وعينيها لأول مرة يظهران ضعفا لم يسبق لغيث أن شاهده عليها قبلا:
- غيث.. أنا.. أنا آسفة, غيث أرجوك ما تضايقش من كلامي, بس.. بس أنا مش قادرة أنسى منظر سلسبيل وهي بترمي نفسها تحت رجليكم وتبوسها وهي بتترجاكم بلاش الجوازة دي!
زفر غيث بيأس مغمضا عينيه ليفتحهما ناظرا اليها وكأن عيناه تسألانها ماذا يفعل بها؟, بينما طالعته بنظرات حائرة مشتتة وهي تردف برجاء وقد تشبثت أصابعها بمقدمة ثوبه بدون شعور منها:
- أرجوك يا غيث بلاش تجبروها على حاجة هي مش عاوزاها, أصعب شيء لما أقرب ناس ليها اللي فاكراهم ضهرها هما اللي يكسروها, بلاش تكسروها يا غيث.. أرجوك!..
أغمض عينيه ليزفر عميقا ثم فتحهما وهو يطالعها بنظرات لا تعلم لما أشاعت الاضطراب في دقات قلبها والتي علت صوتها حتى خُيّل إليها أنه ولا بد قد سمعها, تحدث وهو يمسك لا شعوريا بأصابعها النحيلة الهشة بين أصابعه القوية وقد غُلف صوته بنبرة حنان لم تألفها منه:
- سلافة.. سلسبيل أختي الوحيدة, دِه نوارة البيت دِه, ما كانش حد فينا يجدر يرفض لها طلب جبل ما تتزوج, ولحد دلوك, بس أنا فهمتك ليه أبوي وجدي مصرِّين على زواجها من ليث, وحاجة كُمان أنا واثق ومتأكِّد إن ليث هيشيلها في عينيه, ما تتصوريش هو بيحب عيال المرحوم كيف, اطمني يا سلافة, بس اللي برجوه منّيِكي انك تهدّيها, افهميني يا بت عمي, آخر حاجة أجبلها اني أكسر أختي.. شجيجتي!
وسكت... لتتابع حديثهما العيون, فتتيه عيناه بين سرمدي عينيها لتعلو دقات القلوب وتتهدج الأنفاس, وتنتبه سلافة ليدها الصغيرة وهى تقبع داخل راحته العريضة بأمان وكأنها قد وجدت فيه ملاذها الآمن فتسحبها بارتباك دفع بحمرة الخجل الى وجهها لتلون وجنتيها, وتقطع حبل الاتصال بين أعينهما مشيحة بوجهها جانبا, ويكون غيث أول من يقطع الصمت المحيط بهما كالشرنقة قائلا بصوت متحشرج محاولا استعادة هدوءه الذي تبعثر بين جفونها الناعسة:
- ممكن تجاوبيني بصراحة يا بت عمي؟
أومأت في صمت فتابع:
- إنتي رافضة عشان الموضوع اللي اتحدتنا فيه جبل سابج عن تارنا اللي خدناه بيدنا ولا عشان ما انى عيشتي كلها اهنه في البلد؟, وانتى خابرة انى يستحيل أهمِّل بيتي وأرضي واهلي وناسي وأعيش في مصِر, ولا يمكن إكمن لغوتي واللبس اللي بلبسه ما عيلدوش عليكي؟
رفعت سلافة ناظرة اليه بتركيز وهي تجيب بثقة وهدوء:
- هجاوبك بصراحة يا غيث, وصراحة شديدة كمان, أولا أنا مش بنت تافهة مش بيهمها غير الشكل واللبس وطريقة الكلام وبس.. لأ!, وبعدين مين قال اني مش بحب البلد, انا لو ما كنتش بحبها ما كنتش استحملت فيها يومين مش داخلين على اكتر من خمس شهور تقريبا, انت عارف إني بشتغل في شركة أجنبية, طبعا الاجازة طويلة جدا, ولأن علاقتي معهم كويسة.. اتفقت معهم إني أعملهم الشغل كله من هنا على النت, والظروف خدمتني لأن القسم اللي أنا بشتغل فيه سهل أوي أني أرتب أموري وأخلص شغلي كله بالكمبيوتر وأبعته على ايميل الشركة, لو ما كنتش مرتاحة كنت قطعت الأجازة ورجعت.. ايه اللي هيمنعني؟, وبابا كان هيوافق عشان ظروف شغلي, ما كنتش اهتميت إني أرتب أموري بحيث أني أشتغل من هنا, دا أولا.., ثانيا بقه....
سكتت قليلا بينما يطالعها في تساؤل وقلق من اجابة سؤاله الثاني عن ملبسه ولهجته, ارتسمت ابتسامة طفيفة فوق شفتيها الكرزتين وهي تردف:
- انت عارف أني متعلقة ببابا جدا؟, أنا كنت أعرف انه من الصعيد, ما كانش بيحكي لنا عنكم بصورة مباشرة بس كان بيكلمنا دايما عن عادات بلده وعن أهلها وناسها لغاية ما شربنا حب البلد دي زيّه تمام, ولما قال لنا اننا لينا أهل والمفروض نيجي عشان نشوفكم كنا متحمسين جدا لكدا, نفسنا نشوفكم على الطبيعة, وأنا بالذات كنت عاوزة أعرف يا ترى الحكايات اللي كان بابا بيحكيها لنا واحنا صغيرين دي حقيقة ولا لأ؟, لما شوفتك بالعباية والعمة أول مرة حاسيت أني قودام عمدة بس شاب, بهرتني بجد, تمسكك بلهجة بلدك وانك لازم تكون مع أهلك وناسك وخصوصا أن أنت كبير عيلتك بعد والدك وجدي خلّاني أحترمك أكتر, عشان كدا يا غيث عمر ما لبسك ولا لهجتك ولا حتى حياتك هنا في البلد ما هتكون سبب لرفضي أبدا, بالعكس.. أنت امتداد لبابا في نظري, انت بتحقق لي الصورة اللي رسمتها في خيالي من وانا طفلة على حكايات بابا للصعيد ولأهله ولناسه, بحس إن بابا لو كان قعد هنا كان هيبقى شبهك تمام دلوقتي, بس أنا زي ما قلت لك قبل كدا.. على قد ما أنا اللي يشوفني يفتكرني متسرعة وعصبية وانفعالية لكن دا – ورفعت سبابتها مشيرة الى عقلها – فيه نقط معينة بيشتغل وجامد جدا, وارتباطنا صدقني حواليه علامات استفهام كتير, وأهم حاجة فيه إن رأينا مش واحد في الحاجات الأساسية اللي هي القاعدة اللي بيتبني عليها حياتنا بعد كدا, فهمتني يا غيث؟..
زنظرت اليه برجاء ويأس ليفهمها, بينما لم يستطع غيث وصف شعوره وهو يسمعها تتحدث بهذا الشغف الذي لمس صدقه بين نبرات صوتها عن والدها وعن ولعها ببلدها من قبل أن تراها, ولكن.. تظل العقبة الوحيدة... عقلها!, ترى ما الحل؟, ولكنه لن ييأس وإن كان ارتباطهما يخالف أوامر عقلها فهو كفيل بأن يُفقدها هذا العقل لتصبح طوع بنانه بعد ذلك, وسيبدأ منذ اللحظة!!...
مال عليها تائها في ليل عينيها البهيم وتحدث بصوت متهدج من فرط توقه لاحتوائها بين ذراعيه ليجعلها تلمس وعن قرب بل وتتأكد كيف أن ارتباطهما هو الأمر الصائب الوحيد الذي عليهما فعله قبل أي شيء آخر, قال وأنفاسه الساخنة تضرب وجنتيها المرمريتين:
- إديني فرصة يا سلافة وأني هثبت لك اننا احنا التنييين بنتحدت لغوة واحدة, واننا بنفكر زي بعض, انتي ما عتصدجنيش دلوك لكن الأيام هتثبت لك كلامي دِه, وافجي على خطوبتنا وجربي.. صدجيني مش هتخسري حاجة, مش هما بيجولوا انه الخطوبة دي فترة تعارف؟...
أومأت بالايجاب فواصل بأمل في اقناعها خاصة وأنها لم تعارضه والتزمت الصمت التام:
- يبجى نعملو كتب كتاب كيف شهاب وسلمى جولتي ايه؟
لتفيق من ضياعها في عينيه وبين همسة شفتيه هاتفة:
- لا...
قطب فأردفت تشرح وجهة نظرها:
- أرجوك يا غيث... كفاية خطوبة بس, مش هقدر كتب كتاب, أرجوك افهمني...
جاء وقت غيث ليهتف هو بها من أعماق قلبه وهو يميل عليها لتضربه أنفاسها الدافئة فتشعل نارا في أحشائه لا سبيل لإطفائها إلا بها هي وحدها:
- أرجوك انتي اللي تفهميني يا سلافة, أنا ما أجدرش تكوني خطيبتي وبس, صدجيني... عاوز الحواجز اللي بيناتنا تنجص, لو مكتوب كتابنا هجدر أتعامل امعاكي براحتنا لكن خطوبة إكده.. هيبجى لسّاتو فيه حاجز بيناتنا..
سلافة في محاولة منها لصد هجومه العاطفي الذي يكاد يغرقها به, وهي تراه في عينيه وتسمعه في نبرات صوته.. هو لن يكتفي بخطبة أو عقد قرآن.. بل إنها تكاد تقسم أنه سيتمم زواجهما الى آخره.. مهما كان قرارها النهائي, ومن سخرية الموقف أنها تعلم يقينا أنه يصيبها ضعف من نوع غريب لم يسبق لها وأن اختبرته قبلا ما إن يرتبط الموضوع بغيث, تماما كما يحدث الآن, فهي كانت قد قررت الرفض ونهائيا, ولكن ما حدث عكس ذلك, فقد أقنعها بأن توافق على الخطبة لتمنح نفسيهما الفرصة للتأكد من صحة ارتباطهما من عدمه, ولكنه يتحدث الآن وبعد ثوان من موافقتها على الخطبة ويطلب منها الموافقة على عقد القرآن!, بل إنها تكاد تقسم أنه ما إن يمر خمس دقائق أو أقل فإنه سيعمل على إقناعها بالزفاف!!!!, شدت من أزرها وأجابت بعد أن رطبت شفتيها بطرف لسانها الوردي ما جعل غيث يسمّر نظراته على شفتيها النديتين:
- معلهش يا غيث, خليها خطوبة بس, وبعدين يا سيدي الموضوع في إيدينا لو حبينا نكتب في أي وقت أعتقد عمي وبابا مش هيمانعوا... ايه رأيك؟
سعل غيث ليجلي حنجرته وأجاب بصوت خشن بينما عيناه تراقبان تحرك شفتيها مما جعل الدماء تسير ساخنة في عروقها كالعسل الدافيء وشعرت بنظراته وكأنها... تحتوي شفتيها في قبلة عميقة... داااافئة!!, قال غيث:
- وهو كذلك يا سلافة, هخليها عليّ المرة ديْ..
ابتسمت ابتسامة صغيرة وهمست له وهى تنظر اليه بعينيها الكحيلتين:
- تمام يا غيث, انا هبلغ بابا بموافقتي, ودلوقتي أقولك تصبح على خير...
ثم انصرفت سريعا من أمامه بينما تمتم رادًّا بتحية المساء عليها وهو يضرب رأسه بجذع الشجرة بجواره بخفة بينما يلاحق طيفها الغارب بنظراته المشتعلة وهو يهمس بعذاب:
- واني هيجيلي النوم الليلادي واصل!, طول ما نفسك في البيت امعاي وبعيدة عن يديّْ مش هعرف أدوج طعم الراحة واصل...
ثم رفع عينيه الى السماء مردفا من أعماقه:
- الصبر يا رب.......
************************
نظرت سلسبيل الى والدتها الراقدة فوق فراشها وتنهدت بحزن, فشجار والديها قد أنساها مصيبتها الوشيكة بزواجها من ليث, لا تصدق ما أخبرتها به والدتها من أن والدها أمرها بمغادرة غرفته الخاصة وأن اقامتها في هذا المنزل ما هي إلا إقامة مؤقتة الى أن يتم زواجها وشقيقيها ثم تغادر الى منزل أخيها عدنان والى غير رجعة!..
شعرت سلسبيل أنها بين نارين فمن جهة هي تشفق على والدتها وما آل اليه حالها ومن جهة أخرى فهي تلتمس بعض العذر لوالدها فوالدتها لا تخفي كراهيتها العميقة لعمها وعائلته الأمر الذي يدهشها هي, لقد تقربت منهم وعرفتهم جيدا خاصة بعد مُصابها الأليم في زوجها, لم يتركها أيّ من زوجة عمها أو ابنتيها بل لقد تدخلت سلافة من أجلها ومنذ سويعات قليلة محاولة منع هذا الزفاف الكارثة غير ملتفتة لغضب رجال العائلة من تدخل سافر من إحدى فتياتهم!..
حاولت الحديث الى والدتها قائلة بحنان:
- أمايْ.. أعمل لك كوباية لمون تروّج دمك؟
لم تلتفت راوية الراقدة على جنبها الأيمن الى ابنتها وأجابت ببرودة مغلفة بحزن مرير:
- ماعاوزاشي حاجة, روحي دار اعيالك وهمّليني لحالي..
زفرت سلسبيل بيأس ونهضت من جوارها متجهة الى الخروج عندما تعالت طرقات هادئة فسارعت لفتح الباب لتطالعها هيئة شقيقها الأكبر غيث وهو يسألها بهدوء عن والدتهما...
أفسحت له سلسبيل الطريق ليدخل ثم نظرت اليه وقالت وهي تمسك مقبض الباب:
- حاول امعاها يا غيث يا خوي, ما راضياشي لا تاكل ولا تشرب, انا عند اصغاري لو عاوز حاجة نادم عليّ..., وخرجت موصدة الباب خلفها..
تقدم غيث حيث والدته التي اعتدلت جالسة في الفراش, جلس بجوارها ومال عليها مقبلا رأسها وهو يقول بحنانه المعهود عليها:
- مالك يا ست الحبايب, انتي تايه عنيك الحاج عتمان ولا إيه؟, كلام جالو في ساعة غضب...
رفعت راوية عينان تقدحان شررا وهمست بغضب:
- ساعة غضب!, يبهدلني ويزعِّج لي جودامكم كلياتكم وجدك يسخنه علي وتجولي ساعة غضب وما جاصدش؟, جوم يا غيث روح دارك وهمّلني عاوزة أنعس اشويْ..
تكلم غيث بهدوء:
- ما هو انتي كمان يا أم غيث غُلطت ما تواخزنيش يعني, اني بدي أفهم ليه رافضة بنات عمي؟, زينين ومتعلمين وفوج كل دا بنات عمنا يعني لحمنا ودمنا واذا كان سلوِنا وعوايدنا ان البت ما تتزوجشي إلا ولد عمها يبجى رافضة ليه؟
هتفت راوية بغضب:
- كول اللي حوصل دِه ومعرفشي ليه مش رايداهم؟, دا كفاية أولكشي خلوا بوك يطردني من مُطرحي, كل دِه عشان جولت ما عاوزاهومش لولادي؟,,
غيث محاولا امتصاص غضب والدته:
- يا أم غيث سبج وجولت لك طريجتك هي اللي خلّت بوي يجول ويعمل إكده, من ميته حد فينا بيرفع صوته ولا عينه حتى في بوي ولا في جدي, لكن كرهك ليهم اللي اني معرفلوشيْ سبب هو اللي خلّاك تزعجي في وجه جدي...
راوية بنصف عين وبحنق وحدة بالغين:
- ولساتني ما عاوزاهومشي, وهكون غضبانه عليك انت وخوك لو طاوعتو جدكم وكملتو زواجة الشوم ديْ!
زفر غيث بيأس وهتف حانقا:
- طب جوليلي سبب واحد لرفضك دِه, وصدجيني لو اجتنعت بيه أني بنفسي هجنع شهاب وهنشيل الموضوع من دماغنا واصل, بس أفهم!
سكتت راوية قليلا ثم طالعته بجدية بالغة وأجابت:
- أني أمك ولازمن تسمع كلامي, نعرفهم من فين بنات عمك دولم ها؟, غايبين بجالهم سنين وسنين ومرة واحدة شوفناهم لا هم متعودين على طبعنا ولا عوايدنا ولا سِلْوِنا, شوف طريجة لبسهم كيف ولا دلعهم الماسخ, بنات متجلعين إكده وماعينفعوكوش, أني أمكو وأني أدرى بصالحكو....
غيث بجدية:
- وان جولت لك اني أني وشهاب رايدينهم؟, وان احنا واسجين في تربية عمنا ليهم, ولو على طبايعنا مع الوجت هيتعودوا عليها...
راوية بحسم:
- غيث هي كلمة واحدة انت وخوك تجولوا لابوكو انكو غيرتوا رايكم ومعاوزينهومش!!
نهض غيث ناظرا الى والدته بأسف وهمس:
- وأني مش هكدب, أني وشهاب رجالة يتشد بينا الضهر وما احناشي اصغيرين عشان نرجعو في كلامنا ونجصّر رجبة بونا جِدام خوه, زواجنا من بنات عمنا هيتم كيف ما الحاج عتمان اتفج مع عمنا, وياريت تحاولي تجربي منيهم وتعدِّيهم كيف سلسبيل وصدجيني هتلاجيهم غير ما انت متصورتهم!
أومأت راوية وقالت ببرودة ونظرها مسلط الى البعيد:
- ماشي يا غيث, هملني دلوك تعبانه وعاوزة أنعس...
مال عليها مقبلا رأسها واتجه بخطوات واثقة الى الخارج, وما أن أغلق الباب خلفه حتى لمعت عينا راوية بشر دفين وهمست بصوت خرج كالفحيح من بين أسنانها:
- ماشي يا ألفت.. عاوزة تاخدي ولادي مني كيف ما اخدت الحاج والحاجة وحتى زوجي في صفك وجبلهم ولد عمي... لكن ما هنولكيشي اللي ببالك... ما كونشي راوية إما خليتك تندمي ع اليوم اللي طبِّيتي فيه البلد برجلك انتي وبناتك دولم!
ليسطع بريق الغضب والكره والحقد في سواد عينيها والذي يضاهي سواد قلبها!!..
********************
دلفت سلمى حيث يجلس شهاب في انتظارها بغرفة الجلوس حيث أخبرها والدها بحضوره ورغبته بالتحدث معها, حاولت سلمى عدم إظهار دهشتها وتركت والدها برفقة سلافة يستفسر منها عن موافقتها على طلب غيث والذي أبلغه بها الأخير!!
رفع شهاب رأسه ما إن شعر بتغير ذبذبات الجو حوله وعلم أنها قد حضرت قبل أن تقع عيناه عليها, نهض من مكانه ورحب بها, قالت سلمى:
- ازيك يا شهاب, بابا قال انك عاوزني؟
وجلست مشيرة له بالجلوس بالمقابل ولكنه لم يجبها ولم يلبي طلبها له بالجلوس, وبدلا من ذلك نظر اليها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها متفحّصا ثيابها المكونة من بنطال قطني باللون الأصفر يعلوه بلوزة حريرية بيضاء اللون مرقطة بنقاط صفراء زاهية, وقد رفعت شعرها بطوق للشعر أبيض اللون, تحدث بهدوء لا يفصح عما يمور بداخله من انفعالات:
- انتي كنت بلبسك دا انهرده في العيادة؟
نظرت الى ثيابها ثم أومأت مجيبة بدهشة:
- أيوة, ليه؟, فيه حاجة؟
كتم شتيمة كادت تفلت من بين شفتيه وهتف وهو يشير بسبابتها اليها:
- انتي مش فاهمه فعلا ولا بتستعبطي؟
هبت سلمى واقفة وهي تهتف به بالمقابل رافعة سبابتها في وجهه بتحذير:
- شهاب.. خلي بالك من كلامك, أنا أرفض طريقتك دي في الكلام!
شهاب مقلدا لها بسخرية:
- شهاب.. أنا أرفض طريقتك دي!..
ليتابع بصوته الخشن وقد بدأ الغضب يعلو بداخله حتى بدا كالمرجل الذي يوشك على الفوران:
- وأنا أرفض يا ست هانم طريقة لبسك دي!, انتي مش واخده بالك انك في بلد في الصعيد ولا ايه؟, يعني المفروض البنطلونات والحاجات دي ما تتلبسش!
أجابت سلمى ببرودة حاولت تغليف صوتها بها بينما هي تريد الصراخ به ناعتة اياه بالغباء المطلق:
- أظن دي طريقة لبسي من ساعة ما جيت البلد.. ايه اللي جد دلوقتي؟..
اقترب منها بضعة خطوات حتى وقف على بعد بوصات منها ومال برأسه تجاهها مجيبا:
- اللي جد انك بقيتي مراتي, قبل كدا ما كنتش أقدر أعترض على لبسك ولا طريقتك, لكن من ساعة ما فاتحتنا اتقرت وبقيتي شايله اسمي يبقى حقي اني أتدخل وأتدخل كمان!
هزت سلمى برأسها وابتسامة ساخرة تعلو شفتيها الورديتين قبل أن تنظر اليه وقد عقدت ذراعيها أمامها وأجابت بلا مبالاة:
- والله حكاية ان لبسي دي مش عاجباك مشكلتك مش مشكلتي!, أنا كدا ودي طريقتي ودا لبسي ومش هغير من أي حاجة فيّا عشان أعجب سيادتك- ثم تابعت بهزة لا بمالاة من كتفيها- ولو مش عجباك احنا لسه ع البر, الموضوع كله يدوب قراية فاتحه..
ما إن أنهت عباراتها حتى شهقت عاليا فقد فوجئت بشهاب وهو أمامها تماما يميل عليها ناظرا بعمق في زيتون عينيها وهو يقول بغضب ناري:
- انسي خالص حكاية لسه ع البر دي, انتي وافقتي عليا وأنا بلزمك بالموافقة دي, وطالما ما صدرش مني حاجة وحشة أو في أخلاقي يبقى تنسي اننا نسيب بعض, ودلوقتي اتفضلي اقعدي عشان عاوزك في موضوع مهم...
جلست على الأريكة خلفها حيث أشار وهي كالمنومة فقد هالها حالة الغضب التي تلبسته ما أن نوّهت باحتمالية فض ارتباطهما, لا تدري لما تسارعت دقات قلبها بالقفز ترى هل هو فرح الأنثى لتمسّك خاطبها بها أم.. خوفا وقلقا مما هي مقدمة عليه خاصة وقد اكتشفت لتوها أنها لا تعلم بعد من هو شهاب حقيقة؟!..
تحدث بهدوء بعد أن زفر بعمق ليجلب الهدوء الى نفسه:
- احنا ما اتكلمناش في الشبكة, عمي قال ان الشبكة دي هديتي ليكي لما والدي فاتحه, فكنت عاوز نتفق على يوم ننزل فيه سوا ننقي الشبكة...
بلعت سلمى ريقها ونظرت اليه تجيبه ببرود:
- زي ما بابا قال, هو قالك انها هديتك وأنا موافقاه.. وأعتقد ما فيش حد بيختار هديته؟!
أغمض عينيه يعد في نفسه من واحد الى عشرة, ثم فتحهما ناظرا اليها تلك الفاتنة الباردة التي ستتسبب في اصابته بأزمة قلبية لا محالة ان استمرت على برودها هذا!, تحدث محاولا تصفية الاجواء بينهما:
- بس أنا أفضل انك تختاريها بنفسك, افرضي اخترت حاجة ما طلعتش على زوقك أو معجبتكيش؟!
كتمت سلمى دهشتها من منطقه, فهو يريدها أن تنتقي هي شبكتها بنفسها لتكون على ذوقها هي فلا تضطر الى ارتداء شيء لم ينل رضاها, جلب هذا المعنى الذي توصلت اليه الابتسامة الى شفتيها وأجابت بأول ما تبادر الى ذهنها بتلقائية شديدة:
- ما تخافش, هديتك مهما كان ذوقها فأنا متأكده انها هتعجبني, الهدية في معناها مش في تمنها...
اقترب منها في جلستهما فوق الاريكة ليجيب بصوت أجش بينما تاهت نظراته وسط بركتي الزيتون خاصتها:
- بقولك ايه؟
همهمت بخفوت وقد أسر عيناها برماديْ عينيه:
- امممم...
ليتابع وقد خرجت أنفاسه ساخنة لاهثة تلسع بشرتها الحليبية:
- ما تخلّيه فرح مع سلسبيل وليث أحسن؟.
هربت بنظراتها بعيدا وقد امتقع وجهها خجلا وقالت بتلعثم:
- لا.. لا طبعا, ما.. ماينفعش, وبعدين ما تنساش انك حاطيتني قودام الامر الواقع في موضوع كتب الكتاب دا, احنا اتفقنا كان على خطوبة بس..
ابتسم شهاب وأجاب ونظراته مسلطة على ثغرها الوردي:
- معقولة فرصة جات لي أضمن تكوني فيها مراتي وأضيّعها؟!
لترميه بسهام عينيها عندما رفعت نظراتها اليه متفاجئة من قوله, فتصيب قلبه في مقتل!, وتجيب غير واعية لما أحدثته في نفس القابع أمامها يمنع نفسه بصعوبة بإسكات هذا الفم المثير بقبلة يكاد يفنى في سبيلها ليتذوق رحيق هاتين الشفتين:
- ردودك جاهزة يا باش مهندس...
ابتسم شهاب ابتسامة واسعة أكسبته جاذبية رجولية مهلكة جعلت قلبها يفقد دقة من دقاته وأجاب وهو يميل عليها لتشتم رائحة عرقه الخاص ممتزج بعطره ليكون مزيجا مثيرا أشاع الفوضى والاضطراب في سائر أطرافها:
- صدقني كلامي مش أنشا ومستعد أثبت لك حالا!
قطبت جبيتها وسألته بريبة:
- تثبت لي!, أزاي يعني؟
أشار برأسه الى شفتيها وهو يقول:
- أمضي على كدا!
قطبت محاولة فهم عبارته وما إن انتبهت لاتجاه نظراته الى فمها حتى شهقت عاليا وهتفت بحدة وهي تحاول القيام من جانبه:
- انت هتثبت فعلا... بس اللي هتثبته انك وقح وعن جدارة!
لتقف مبتعدة عنه بينما صدحت ضحكته عاليا فتتغير تقاسيم وجهه ويصبح أصغر من سنواته التي تقارب الثانية والثلاثون, نهض متجها إليها وقال:
- ماشي يا بنت عمي, مش هحاسبك دلوقتي على كلامك دا, بس صدقيني.. وعد مني أوريك الوقاحة بجد أول ما نمضي قسيمة الجواز, ودلوقتي مضطر أمشي عشان مسافر أسيوط في شغل واحتمال أرجع بكرة..
تمتمت:
- بكرة؟, يعني مش هترجع انهرده؟
غمزها بخبث ومال ناحيتها وهو يتسائل بمكر:
- ايه.. هوحشّك؟
لتقطب زافرة بحنق وتتجه الى الباب وتقف قائلة ببرود:
- شرفت يا باش مهندس...
اتجه ناحيتها بخطوات وئيدة ومال عليها فيما هي مشيحة بوجهها جانبا وهمس بجانب أذنها:
- مع السلامة يا حبيبي.. ها؟, الواحدة بتقول لجوزها كدا, مش تديلو وش خشب زي كدا؟
شهقت معترضة والتفتت اليه هاتفة:
- ها؟, وش خـ...
ليعاجلها بقبلة سريعة فوق وجنتها وينصرف في أقل من طرفة عين تاركا إياها وقد تسمرت مكانها وهي تتمتم:
- مجنون.. وأحلف على كدا كمان!..
*****************
- يا بنتي فهميني لازمتها ايه سفرك معايا؟
أجابت سلمى وهي تركز نظراتها على الطريق الممتد أمامها بينما تجاورها سلافة في سيارتهما في اتجاههما الى القاهرة:
- انت مش بتقولي عندك شغل في مصر لازم تسلميه بإيدك؟, وأنا خلصت شوط كبير في الرسالة وفرصة الدكتور يشوفها..
نظرت اليها سلافة بنصف عين وقالت:
- مش عارفة ليه يا سوسو حاسة انك مخبية عليا حاجة!, من ساعة ما شهاب مشي امبارح وانتي مش طبيعية, دا انتي حتى ما قولتلوش على سفريتنا مصر؟!
أجابت سلمى ببرود يخالف العاصفة التي تجيش بداخلها منذ الأمس وتحديدا منذ رحيل شهاب مخلفا اعصار في أحاسيسها ومشاعرها لم يسبق لها وأن اختبرته سابقا حتى مع أحمد:
- ما فيش يا سلافة, بس حاسة انه عامل عليا حصار, ما تلبسيش ما تروحي, وكل شوية يطب عندي في العيادة تعبت خلاص وأعصابي باظت, فرصة أفك شوية وبعدين تعالي هنا هو انتي يعني اللي كنتي قلتي لغيث؟
زفرت سلافة حانقة وأجابت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها:
- هو أنا لحقت!, أنا يدوب بقوله اني محتاجة أنزل مصر علشان الشغل ودا استلمني.. ليه, وعشان ايه, لو عاوزة تشتغلي اشتغلي في مال جدك أهو مالك انتي كمان, قفلني!, قلت في نفسي أنا غلطانه من الأساس إني بقوله حاجة, ثم انه لسه يدوب قراية فاتحة حتى دِبَل ما فيش!
ابتسمت سلمى وعقبت ساخرة:
- قلتها قبلك يا حبيبتي.. لسه قراية فاتحة.. وأحب أبشّرك ان ولاد عمك قراية الفاتحة عندهم كتب كتاب تمام زي ما بيقول المثل!....
وأكملا رحلتهما الى القاهرة والتي وافق بصعوبة والدهما أن يقوما بها بالسيارة فكان يحبذ استخدام القطار ولكن سلمى أقنعته بأن السيارة ستوفّر عليهما مشقة الموصلات وسيستطيعان التنقل بسهولة ويسر....
وصلا الى وجهتهما حيث عمل سلافة وبعد أن رحبت بزملائها وزميلاتها وأنهت ما قدمت من أجله كان لا يزال هناك وقت قبل أن تلحق بشقيقتها التي تركتها متجهة الى مشفاها واتفقا على اللقاء في مقهى قريب من عمل سلافة....
نادت مريم صديقة سلافة عليها وهي تراها تتجه الى المصعد في طريقها الى الأسفل:
- سولي.., سلافة..
استدارت سلافة الى مصدر الصوت وابتسمت بترحيب فيما أقبلت عليها مريم تعانقها:
- مريومة وحشتيني فينك يا وحشة؟
أجابت مريم بابتسامة شعرت بها سلافة وكأنها تخفي وراءها همّا كبيرا:
- موجودة حبيبتي, انتي اخبارك ايه؟
تمتمت سلافة بالحمد لله فواصلت مريم وهي تتلفت حولها:
- بقولك يا سولي.. كنت عاوزاكي في موضوع كدا...
أجابت سلافة قاطبة جبينها:
- انا رايحه دلوقتي كوستا استنى سلمى, تعالي معايا نشرب كابوتشينو ونتكلم...
بعد أن استقر بهما المقام وطلبا قدحين من القهوة الايطالية ذات الرغوة الكثيفة, أولت سلافة انتباهها الى مريم قائلة:
- اتفضلي يا ستي كلي آذان صاغية..
أجابت مريم:
- الاول عاوزة منك وعد ان الكلام اللي هقولهولك دا يبقى سر بيننا ما يطلعش غير في حالة واحده بس...
قطبت سلافة وقالت:
- وأنا من امتى بطلع سر برّه يا مريم؟, عموما يا ستي لكي وعدي بكدا, بس حالة إيه اللي مسموح لي أطلع فيها سرك برّه دي؟..
سكتت ثم تابعت بفكاهة:
- اوعى يكون زي الافلام بتاعتنا... لو جرالك بعد الشر حاجة؟!
لتنظر اليها مريم بجدية جعلت ضحكتها تموت فوق شفتيها وهي تجيب بمنتهى الجدية:
- تمام يا سلافة.. هو كدا!, الحالة الوحيدة فعلا أنه يجرالي حاجة...
قطع النادل حوارهما الدائر واضعا أقداح القهوة وقطع الكعك المحلى بالشوكولا فوق الطاولة الدائرية التي تتوسط جلستهما قبل أن ينصرف, فتابعت سلافة متسائلة بحيرة وقلق:
- فيه ايه يا مريم قلقتيني؟
فتحت مريم حقيبتها اليدوية وتناولت منها اسطوانة اليكترونية وشيئا صغيرا للغاية يوصل بجهاز الحاسوب لتحميل المستندات وقالت:
- الأول الـ سي دي دا والفلاشة دي تحافظي عليهم زي عينيكي, لو جرالي حاجة الحاجات دي تسلميها للنائب العام.. النائب العام شخصيا يا سلافة!
هتفت سلافة برعب بدأ يغزو أوصالها:
- مريم فهميني فيه ايه؟
رجعت بظهرها الى الخلف مستندة الى مقعدها وأجابت بهدوء لا تشعر بأي شيء منه:
- سامح خطيبي انتي عارفة انه دكتور تحاليل وتخصصه نادر في الأنسجة البشرية, من فترة كدا لاقى شغل في مستشفى استثماري والمرتب بالدولار, كانوا بيطلبوا منه انه يعمل أبحاث متطورة علشان علاج الأمراض المستعصية زي السرطان, كانت فكرتهم انه ممكن الأنسجة المريضة تتاخد من مريض يستحيل شفاؤه ويتعمل عليها أبحاث للوصل لعقار يساعد في علاج المرض, زي متطوعين يعني.. وقالوا له انهم بيدوهم طبعا فلوس في مقابل كدا, طبعا المريض بالمرض دا وخصوصا اللي فرص شفاه معدومة كان بيوافق, هما فهموه كدا.. انه الانسجة دي هتساعد في علاج مرضى فرص الشفا عندهم عالية, لكن للأسف الحقيقة طلعت غير كدا!
قطبت سلافة متسائلة:
- طلعت ايه يا مريم؟
رفعت مريم نظراتها اليها لتجيب بهدوء قاتل:
- تجارة أعضاء!..
شهقت سلمى ملتاعة وهي تكرر واضعة يدها فوق فمها:
- ايه؟, تجارة أعضاء؟!
لتهز مريم رأسها بالايجاب وتجيب:
- للأسف يا سلافة, سامح شك في الموضوع, المريض اللي بييجي علشان ياخدوا منه عينة مثلا من الكبد أو النخاع أو العضو المصاب بالخلايا السرطانية بياخدوا منه بردو أعضاؤه الداخلية السليمة, يعني يكون داخل العمليات عشان عينة كبد يطلع من غير كلية, أو طحال, وهكذا, اللي خلّاه يشك الحاجات المطلوب منه يحللها في الانسجة, حاجات مالهاش علاقة بعلاج سرطان , لا.. دي شروط لازم تتوفر في نقل عضو من انسان للتاني, ومعظم اللي دخلوا رجعوا المستشفى يشتكوا من آلام رهيبة في أسفل الظهر ومنهم مريض صعب على سامح فأخده لدكتور زميل ليه عنده عيادة وبعد الكشف ظهرت النتيجة انه المريض معندوش كلية!, دا غير انه الراجل قاله انه كان داخل يتعالج في المستشفى من تليف في الكبد في القسم المجاني اللي عاملينه عندهم, يعني الموضوع طلع كله نصب في نصب, بياخدوا المرضى على أساس انهم بيعالجوهم ببلاش ويسرقوا أعضائهم السليمة وفي نفس الوقت فهموا سامح وهو المسؤول الأول عن التأكد من سلامة الأنسجة انهم بيدوهم فلوس مقابل دا يعني بمعرفتهم, ومش بس كدا دول كانوا بيعملوا لهم تشيك أب كامل ويصمموا يتعمل تحليل للأنسجة الحيوية اللي في الجسم يعني تحليل كامل للكبد والكلى وجميع الأعضاء الداخلية بحجة التأكد من سلامة باقي الاعضاء وهما بيعملوا كدا عشان تجارتهم الرخيصة..
هتفت سلافة بحدة:
- حسبي الله ونعم الوكيل فيهم..
مريم وقد اغرورقت عيناها بالدموع:
- طبعا سامح بعد ما اكتشف الكارثة دي هدد انه هيبلغ البوليس, وطلع انهم مش ساهلين, وقدروا يلفقوا له تهمة تبديد عهدة وسرقة أدوات معمل كان ماضي عليها في أول شغله وهو بيستلم المعمل, الأجهزة دي تكلف فوق المليون جنيه, واتحكم عليه ب 5 سنين سجن بعد عذاب مع المحامي اللي حاول بشتى الطرق انه يثبت اتهام سامح انهم بيتاجروا في الاعضاء لكن للأسف مافيش دليل واحد, لغاية ما الدليل وقع في ايدي من جوة المستشفى نفسها من ممرضة عندهم شافت وسمعت وللأسف أبوها كان واحد من ضحاياهم, وهما عرفوا وبيطاردوني عشان ما أقدمش الحاجات اللي معايا دي للنيابة, وهددوني بأخواتي وأمي أنت عارفة انها ست كبيرة مالهاش بعد ربنا غيري وأخواتي توأم لسه في ابتدائي
هتفت سلافة بحدة:
- حسبي الله ونعم الوكيل فيهم..
مريم وقد اغرورقت عيناها بالدموع:
- طبعا سامح بعد ما اكتشف الكارثة دي هدد انه هيبلغ البوليس, وطلع انهم مش ساهلين, وقدروا يلفقوا له تهمة تبديد عهدة وسرقة أدوات معمل كان ماضي عليها في أول شغله وهو بيستلم المعمل, الأجهزة دي تكلف فوق المليون جنيه, واتحكم عليه ب 5 سنين سجن بعد عذاب مع المحامي اللي حاول بشتى الطرق انه يثبت اتهام سامح انهم بيتاجروا في الاعضاء لكن للأسف مافيش دليل واحد, لغاية ما الدليل وقع في ايدي من جوة المستشفى نفسها من ممرضة عندهم شافت وسمعت وللأسف أبوها كان واحد من ضحاياهم, وهما عرفوا وبيطاردوني عشان ما أقدمش الحاجات اللي معايا دي للنيابة, وهددوني بأخواتي وأمي أنت عارفة انها ست كبيرة مالهاش بعد ربنا غيري وأخواتي توأم لسه في ابتدائي مالهومش إلا أنا..
سلافة بغضب:
- ايه دا, احنا فين هنا؟
مريم بابتسامة ساخرة:
- في الغابة يا سلافة, للأسف فعلا دنيتنا بقيت غابة, وآخر حاجة كنت رايحه للنائب العام بعد محاولتهم معايا انهم يدوني فلوس ويطلعوا سامح من السجن ما فشلت هددوني بقتل أمي وأخواتي..
سلافة بتحد:
- ما يقدروش, لو كانوا قادرين كانوا عملوها, انتي اللي في الموقف الأقوى دلوقتي يا مريم, رقبتهم في ايدك , ما تخافيش وقدمي الحاجة اللي معاكي..
قالت مريم بجمود:
- بس هما قدروا فعلا يا سلافة وعملوها!
سلافة بتقطيبة:
- عملوا ايه؟
مريم بجمودها ونظراتها اتلزائغة:
- قتلوا رجاء الممرضة اللي ساعدتني...
شهقت سلافة بالتياع:
- هااااااا!, مش.. مش ممكن!
تابعت مريم ناظرة اليها:
- ودلوقتي أنا عندي معاد مع النائب العام, المفروض أقدم له اللي معايا ويثبت كلامي, اللي موقّفني خوفي على أمي وأخواتي, عشان كدا أنا هسيب لك الفلاشة والسي دي معاكي, ومعايا نسخة تانية.. معادي مع النائب العام بعد يومين لأنه للأسف مسافر لو سمعتي انهم نجحوا في انهم يوصلوا لي الحاجة اللي معاكي تسلميها انتي للنائب العام, موجود كمان دليل براءة سامح انا زرته من يومين ووصيته على أمي وأخواتي لو جرالي حاجة, اوعديني يا سلافة..
برقت عينا سلافة التي غشيتها الدموع هاتفة:
- اوعدك يا مريم, وان شاء الله مش هيحصل حاجة وسامح هيخرج منها وهتتجوزوا وأفرح فيكي مش بيكي...
وحاولت رسم ابتسامة على شفتيها فتختلط بدموعها المنسابة في صمت.....
**************
- انتي يا بنتي من ساعة ما رجعنا من بره وانتي ساكتة ليه؟
أجابت سلافة على سلمى الجالسة بجوارها في منزلهما بالقاهرة حيث أجلّا موعد رجوعهما الى الغد حيث فضلت سلمى الرجوع في وضح النهار فقد غربت الشمس وهما لا تزالان في القاهرة وقد استحسن والدهما هذا الرأي...
قالت سلافة بصوت يغلفه الأسى:
- مالي بس يا بنتي قلت لك دور برد مهمّدني شوية...
سلمى بنصف عين:
- مش عارفة ليه مش مصدقاكي؟, حاسة انه فيه حاجة تانية.. من ساعة ما شوفت مريم وأول ما شافتني استئذنت وقامت وانا حاسة انه الموضوع فيه حاجة.....
ليقطع استرسالها في الحديث صوت رنين جرس الباب المُلِحّ, فطالعت ساعة معصمها وقالت بتقطيبة حائرة:
- يا ترى مين هيجي لنا دلوقتي الساعة داخله على 12 بالليل؟
وضعت كوب الشاي الذي كانت تحتسيه فوق الطاولة الرخامية التي تتوسط غرفة الجلوس ورتبت بلوزة منامتها القطنية والتي تصل الى أردافها مرسوم عليها أحدى الأميرات, فيما يصل سروال المنامة الى ركبتيها, حاولت النظر من العين السحرية ولكنها لم تستطع رؤية أي شيء, فرفعت كتفيها باستسلام بينما تعالى رنين جرس الباب ثانية وبإصرار شديد فهتفت وهي تدير المقبض لفتحه:
- طيب طيب....
لتشهق من المفاجأة وترتد الى الخلف وهي ترى من ينتصب واقفا أمامها يكاد يفتك بها بنظرات الغضب التي تتطاير من بين فحم عينيه المشتعل وهمست بينما يلج هو الى الداخل لتحل أصابعه مكان يدها ممسكا بمقبض الباب ليغلقه خلفه وهو يركز نظراته التي تكاد تجلدها بسياطها عليها بينما تهمس هي بوجل وقلق من غضبه الوحشي:
- شـ... شهااااب!!
الحلقة السادسة عشر
(كبير العيلة (منى لطفي
وقفت سلمى عاقدة ذراعيها أمامها قاطبة جبينها بينما وقف شهاب على مسافة غير بعيدة عنها وهو ينفث نارا من فمه وأنفه على حد سواء فيما تلمع عيناه بشرر مستطير, بينما وقفت سلافة تنقل نظراتها الى اليمين حينا حيث تقف سلمى مشيحة برأسها الى البعيد مولية إياهما جانب وجهها, والى اليسار حينا آخر حيث ذلك التنين الغاضب, رسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تقول مرحبة بشهاب في حين كانت تسترق النظر الى أختها:
- أهلا يا شهاب, حمد لله على السلامة, ايه المفاجأة الحلوة دي؟!
تحدث شهاب بصوت خشن بينما عيناه مسلطتان على تلك العنيدة المشيحة بوجهها الى البعيد:
- الله يسلمك يا سلافة, هي المفاجأة حقيقي كانت بالنسبة لي أنا كمان!, بصراحة استغربت جدا لما عمي رؤوف قاللي انكم هنا في مصر والدكتورة هي اللي جاية بيكم سايقة المسافة دي كلها لوحدكم..
تجاهلته سلمى تماما بينما استشعرت سلافة ذبذبات توتر تملأ الجو فأجابت محاولة التخفيف من حدة التوتر التي ملأت المكان من حولهم:
- بصراحة أنا السبب, فيه حاجات خاصة بشغلي كنت لازم أنزلها مصر, وسلمى ما رضيتش تسيبني أسافر بالقطر لوحدي, فجينا سوا خصوصا أنها عارفة انه العربية هتريحنا جامد في المواصلات سواء للشركة عندي او المستشفى عندها..
قال شهاب وهو لا يزال يطالع تلك الباردة والتي كأنها تعاقبه ببرودها هذا:
- بس مش المفروض يكون فيه حج معكم؟, الطريق من كفر الخولي لهنا طويل أوي, والسكة مش أمان, أديكي شوفتي اللي حصل لراضي ابن عمي الله يرحمه, الموضوع مش مستاهل مجازفة..
مرة أخرى كانت سلافة من تجيبه وهي تنظر الى أختها برجاء أن تنطق ولو بحرف واحد:
- ما انت كنت في أسيوط يا شهاب, ومحبناش نقلق حد معانا, وبعدين بابا وافق, احنا جينا بالنهار ولما لاقينا الوقت إتأخر قلنا نبات هنا ونرجع بكرة الصبح إن شاء الله..
نظر اليها شهاب وقتها وسأل ببرود وهو ينظر اليها بغموض:
- وغيث؟
اضطربت سلافة لثوان ولكنها سرعان ما حاولت تمالك نفسها وأجابت بتلعثم طفيف:
- ماله غيث؟!
أجاب رافعا حاجبه بسخرية:
- ما قولتلوش ليه؟, غيث ميعرفش انك سافرتي انهرده واتفاجيء زيي تمام وعمي رؤوف بيقول قودامه لجدي انكم هتستنوا هنا انهرده وترجعوا بكرة, هو مش المفروض غيث دا يبقى خطيبك زي ما الهانم اللي واقفة هناك دي تبقى خطيبتي؟, يعني الأصول تقول اننا أول ناس نعرف انتو رايحين فين, ولا أنتو مالكوش كبير يا بنات عمي؟!
الى هنا ونست سلافة أي كلام عن احترام الضيف وطارت محاولتها لتهدئة الوضع المتوتر الذي يسود المكان أدراج الرياح والتفتت الى شهاب ناظرة اليه بسخط وهتفت بحدة:
- أولا أحنا كبيرنا بابا.. ربنا يخليه لينا, تاني حاجة بقه كون ان انت واخوك خطبينّا مش معناه اننا غنم ما نتحركش الى لو سمحتوا لنا, وبعدين عشان تعرف الخطوبة ممكن تتفشكل في ثانية مش عشان خطبتونا يبقى تحجروا على انفاسنا!
رفع شهاب عيناه ناظرا الى الأعلى وهو يهمس في سره:
- ربنا يكون في عونك يا غيث, هتتصرف مع المدفع السريع الطلقات دا ازاي؟!, ايه نار وهيت مرة واحده؟, والتانية واقفة زي التمثال, كمية برود ما حصلتش, بس أنا بقه هشوف أخر البرود دا ايه, وبالنسبة لك يا آنسة كبريت غيث أخويا هو اللي يشوف له صرفة معاكي!.
سكتت سلافة في انتظار سماع رده ولكنه وقف صامتا يطالع في لسمى التي بدأت واجهة برودها بالاهتزاز ما إن هاجمها هي وشقيقتها وفرحت عندما سمعت جواب أختها عليه, نظرت سلافة اليهما وزفرت حانقة وهي تقول بينما تهم بالانصراف:
- اليوم انهرده كان طويل أوي, وواضح كدا ان الليلة دي أطول, أنا هستأذن وأروح أنام خلي اليوم دا يخلص بقه!..
وانصرفت تاركة سلمى وهي تنظر في عقبها بينما شفتيها مزموتين حنقا من تركها لها بمفردها معه, نظر شهاب الى سلمى وقال ساخرا:
- ايه.. مش عاوزة تنامي انتي كمان خلي اليوم دا يخلص؟.
نظرت اليه لأول مرة منذ أن دخلا الى غرفة الجلوس سويةأو تحديدا منذ أن لحق بها الى هنا بخطواته الغاضبة, أنزلت ذراعيها جانبها وقالت ويه تحرك كتفيها بلا مبالاة:
- لما أكون عاوزة أنام هروح أنام مش هستنى عزومة من حد!, بس هو السؤال المفروض يكون...
وسكتت ناظرة اليه بحدة متابعة:
- انت مش شايف انه الوقت متأخر اوي على الزيارة؟, وبعدين بأي حق تيجي لنا في وقت زي دا؟, وزي ما سلافة قالت احنا واخدين الإذن من بابا غير كدا ما حدش له الحق يعاتب أو يلوم أو حتى يطالب بحق مش من حقوقه!..
اقترب منها شهاب قليلا وهو يردد مقطبا:
- إيه؟, مش من حقي اني ألومك انك خليتيني آخر من يعلم؟, مش من حقي أني أعاتبك انك بتتصرفي ولا كأن ليا أي صفة في حياتك؟..
ثم ارتفعت وتيرة صوته وهو يشير بسبابته اليها من أعلى إلى أسفل مردفا بنزق:
- مش من حقي أني أقولك ازاي يا هانم تسمحي لنفسك انك تفتحي الباب في وقت زي دا وانتى واختك لوحدكم لا.. وباللبس دا كمان؟, مش من حقي؟!..
ليصيح عاليا في آخر كلماته, فابتلعت ريقها بصعوبة محاولة تمالك نفسها وأجابت حانقة من نفسها لأنها أحست بالخوف لوهلة من صراخه بها:
- آه مش من حقك!, مش من حقك انك تعد عليّا أنفاسي يا شهاب, مش من حقك الحصار اللي انت عاملهولي دا؟, دا حتى الشغل.. حتى العيادة مش سايبني براحتي, أنا.. تعبت!, تعبت وأعصابي تعبت, عاوز تعرف بجد انا جيت من غير ما أقولك ليه؟.
نظر اليها مستفسرا فتابعت بابتسامة مريرة:
- جاية هربانه منك يا شهاب.. ارتحت؟!
قطب متسائلا بحيرة وقد خف غضبه:
- ايه؟, هربانه مني؟
أجابت بينما تشققت واجهة برودها بالكامل:
- أيوة, هربانة من حصارك ليا, شهاب انت مش مديني فرصة أعرف أنا عاوزة إيه بالظبط وأشوف أنا رايحه لفين؟, من ساعة ما اتقدمت لي وأنا حاسة كأن شريط فيديو بيمر قودامي بسرعة رهيبة, أنا كأني منقادة, مش بفكر بدماغي.. لأ, بفكر بدماغك انت وبعمل اللي عاوزه انت, وأنا مش كدا!, أنا طول عمري قراراتي بتكون نابعة مني أنا, حتى لو فيه قرار مش مقنع بالنسبة لبابا كان بيقعد ويناقشني فيه ويقنعني بوجهة نظره, لكن انت بتشدني في طريقك ومن غير ما تديني الفرصة اني حتى أسألك احنا رايحين فين ولا ماشيين إزاي, ودي حاجة عمرها ما حصلت معايا حتى لما كنت مخطوبة لأحمـ...
ليقطع شهاب المسافة الفاصلة بينهما في خطوتين اثنين ويغطي فمها براحته في أقل من الثانية باندفاع فاجئها وقبض بيده الحرة على ذراعها الأيمن ليهمس بغضب عنيف شرس يخرج من بين أسنانه المطبقة:
- جربي كدا تنطقي اسمه تاني أو تجمعي نفسك معاه في جملة واحدة وانت تشوفي اللي هيجرالك بجد!
كانت تنظر اليه بعينان مدهوشتان بينما غاصت عيناه في غابات الزيتون التي اشتد لونها دليلا على انفعالها, كانت انفاسها تخرج متقطعة تضرب يده, فيما استشعرت راحته ليونة شفتيها الناعمتين تحتها, فأزاح يده بتلكؤ بعيدا عن فمها لتسقط عيناه على ثغرها الوردي وتتهدج أنفاسه, بينما تقف بين يديه كالمشدوهة لا تعرف ماذا أصابها ما أن طالعت سرمدي عينيه, هي لا تريد هذا الشعور, إنه يخيفها وبقوة, فمعه لا تعرف موضوع قدميها, لم يسبق لها وأن اختبرت ارتفاع نبضات القلب بهذه الصورة, ولا شعرت بدمها يسل ساخنا في عروقها ليخضب وجنتيها بدماء الخجل وهي ترى نظراته التي تكاد تلتهم صفحة وجهها وهي ترتفع لتغوص في عينيها حينا ثم تهبط لتتلكأ على ورديْ شفتيها أحيانا!...
أسدلت أهدابها هربا من نظراته التي أشاعت الفوضى في أطرافها, بينما وقف هو مذهولا لا يستطيع تصديق ما حدث حالا!, ربّاه... لقد ضربته الحقيقة كالصاعقة ما أن أقترب منها حتى أصبح يشتم أنفاسها ليغرق بعد ذلك في زمرد عينيها, بينما يده تستشعر رقة عظام ذراعها أسفل قبضته, لقد أخبرته دقات قلبه المتقافزة عاليا عندما استشعر نعومة ثغرها الوردي تحت راحته, تلك الشرارة التي اندلعت في سائر جسده ما إن طالعته بتلك النظرة المشتتة الضائعة الأن وهي بين يديه سرقت قلبه, وجعلت حقيقة ما يشعر به تضربه كالصاعقة الرعدية بينما أضاء مسمى هذا الشعور في عقله كالبرق... فهذا الأحساس لا يوجد اسم صحيح له سوى... الحب!, نعم.. هو يحبها, يحبها بكل قواه, يحبها بكل دقة من قلبه تتلو اسمها وهي تتقافز في خافقه ما أن يراها, بل هو يكاد يجزم أنه قد تجاوز مرحلة الحب الآن الى... العشق!, نعم فهو يعشق كامل تفاصيلها, يعشق تقطيبة حاجبيها حنقا منه, يعشق برودها تلك القشرة تالواهية التي تغلف نفسها بها وهي لا تعلم أنه يعلم أي كيان هش تحاول حمايته ببرودها المفتعل ذاك!..
يعشق حتى أحرف إسمها... س ل م ى ....., أغمض عينيه مرددا اسمه بخفوت وكأنه يتهجاه ... بأحروف منفصلة.. س ل م ى ...
لتسمعه فتهمس بتساؤل رقيق:
- نعم؟.
فتح عينيه يطالعها بنظرات براقة وقد بدأت ابتسامة سعيدة في الظهور لترفع أعلى شفتيه المحاطتان بشارب ولحية خفيفة وأجاب:
- لا أبدا, بس كنت بدوق اسمك!, تصدقي اسمك طعمه حلو أوي!
حدقت به في دهشة وذهول وحاولت الابتعاد عنه محاولة جذب ذراعها من قبضته وهي تتمتم مفتعلة الحنق بينما خجلها ما يجعل الحروف تتعثر فوق لسانها:
- إنت.. إنت مش.. مش هتبطل......
ليقبض على ذراعها الحرة الأخرى جاذا اياها له وهو يجيب بابتسامة صغيرة ناظرا في عمق عينيها بنظرة جعلت دقات قلبها تتقافز بقوة حتى أن أنفاسها قد تعثرت:
- مش هبطل ايه ها؟, خطيبتي ومن حقها عليا أني أقولها كلام حلو... مش عيب ولا غلط أكيد..
همت بالكلام عندما فعل ما جعلها تشهق بدهشة و... خجل وذلك حينما أحنى رأسه ليستند بجبهته الى جبينها ويردف بزفرة عميقة:
- بلاش يا سلمى, بلاش تقولي حاجة تخرجني من الاحساس اللي انا فيه دا....
ثم رفع جبينه ناظرا اليها بعمق متابعا بينما تطالعه بنظرات حائرة:
- سلمى أنا مش ممكن هسيبك بعد ما لاقيتك, عارفة.. من أول يوم شوفتك فيه لما خبطنا في بعض وأنا حاسس انك سرقتي حاجة كبيرة أوي مني, بس ما كنتش عارف هي ايه, لحد ما عرفت.. وبالتحديد دلوقتي بس اكتشفت ايه اللي سرقتيه ومش هسيبك غير لما تديني المقابل ليه!.
قطبت قائلة بحيرة:
- هو ايه اللي سرقته؟, تكون محفظتك وقعتك وعاوز تلبسها فيا؟
زفر بيأس وحرك رأسه يمينا ويسارا بقلة حيلة وهو يجيب:
- أستغفر الله العظيم, سامحني يا رب...
ثم نظر اليها تابعا بحزن مفتعل:
- هو انا مش قلت لك بلاش تتكلمي عشان ما تخرجنيش من الحالة اللي انا فيها دي, سيبينا نعيش اللحظة يا سلمى!, محفظة ايه اللي سرقتيها بس؟, المحفظة وصاحب المحفظة تحت أمرك, اللي سرقتيه أكبر يا سلمى....
سكت لتنظر اليه بعينين متسائلتين فيتابع بهمس داعب أوتار قلبها:
- اللي سرقتيه قلبي... وقلبك هو المقابل ليه واللي مش هرضى بأي بديل غيره!..
شهقة خافتة دليل ذهول.. عدم تصديق... أو خجل صدرته عنها لتحاول الابتعاد عنه فتركها هذه المرة لتعود الى الخلف بضعة خطوات وهي تقول بارتباك:
- شهاب.. شهاب احنا لسه معرفناش بعض كويس عشان الاحساس اللي انت بتتكلم عنه دا, احنا...
هتف مقاطعا بحنق وهويراها تحاول الهروب من مشاعره الواضحة وضوح الشمس:
- احنا ايه يا سلمى؟, انا كنت واضح معاكي من الآول, قلت لك بيننا حاجة مش مستعد أضيعها لغاية ما اعرف هي ايه, بالنسبة لي أنا عرفت واتأكدت من اسمها, وانا قوي كفاية اني أواجه نفسي انه الشيء اللي كنت بسخر منه طول عمري حصل... وحصل بقوة كمان, لكن يا ترى انتي هتكوني قوية وصادقة مع نفسك وانتي بتواجهيها؟, ولا هتعملي نفسك مش واخده بالك؟..
تأتأت هامسة:
- أنا.. أنا...
زفر عميقا وقال وهو يبتعد عنها:
- خدي وقتك كله يا سلمى أنا مش هستعجلك, لكن...
وسكت رافعا سبابته أمامها مردفا بقوة وعيناه تلمعان بشدة وكأنه سيدلي بقسم عظيم:
- أنا مش هبعد, مش هسيبك تضيعي أحلى حاجة ممكن نعيشها سوا, ولو الحصار اللي هيخليكي تواجهي نفسك بسرعة بدل ما الأيام تضيع يوم ورا التاني واحنا لسه محلك سر.. فأنا هحاصرك... مش بس بوجودي حوالي كلأ... هحاصرك بوجودي وبكلامي و...بقلبي يا سلمى لغاية ما ترفعي الراية البيضا!..
هربت سلمى بعينيها فأردف بغرض اضفاء بعض المرح الى محادثتهما التي تسببت في توترها الظار بوضوح:
- ممكن بقه تعطفي على ابن عمك وتجيبي لي مخدة أو أي حاجة أنام عليها؟, أنا من امبارح من نمتش وحتى بعد ما رجعت من اسيوط وعرفت انكم هنا ما استنتش وطلعت على طول عليكم...
ابتسمت ابتسامة صغيرة وقالت:
- طيب مش جعان؟, تتعشى الأول؟
شهاب وهو يتمطى بتعب:
- بصراحة يا سلمى أنا جعان نوم...
همست سلمى وهى تنصرف:
- تمام, ثوانى أجيب لك مخدة ...
عادت بعد ثوان حاملة لوسادة قطنية وملاءة ومنامة لوالدها ومدتهم اليه فتناولهم شاكرا لها بابتسامة عميقة أظهرت نغز ذقنه البارز, قالت سلمى وهي تهرب بنظراتها خجلا من نظراته الجريئة وكأنه بعد تصريحه الذي ألقاه في وجهها قد هدم جميع الحواجز التي كانت بينهما ليقوم بمحاصرتها تماما كما وعد!, قالت سلمى:
- ثوانى وراجعة...
لتعود بعد دقائق حاملة صينية عليها كوب من الحليب الدافيء وبعض الشطائر, وضعت الصينية فوق الطاولة الصغيرة ثم قالت وهى تشير اليها:
- اشرب كوباية اللبن وكول الساندوتشات عشان تعرف تنام, لو نمت جعان هتقلق بعد شوية ومش هتعرف تنام كويس..
اقترب منها ينظر الى الصينية وما رصّ عليها من عشاء سريع ليرفع عيناه اليها بينما تنظر هي الى البعيد ويقول بهمس:
- طيب دا هيسكت جوع بطني, لكن فيه جوع تاني بقه مهما عملت مش بيسكت...
نظرت اليه حائرة والتي انجلت ما ان سمعته يتابع بمكر غامزا بشقاوة وهو يميل عليها هامسا في أذنها:
- جوع قلبي!..
لتشهق مبتعدة وهي تغطي فمها بيدها:
- هاااااا...
ثم وبدون وعي منها ضربته بيدها على كتفه بقوة وهتفت به بحنق وغضب فيما تسرع بالانصراف:
- انت فعلا وقح وقليل الأدب وسافل كمان, وان شاء الله قلبك هيفضل جعان كدا لغاية ما يجيلو مجاعة وما تلاقيش اللي يعبره بنظرة واحدة حتى!..
سارع بالقبض على معصمها بينما تمر من جانبه ومال عليها قائلا بابتسامة مصطنعا البراءة:
- وأهون عليكي؟..
ليردف بصوته الهامس المغلف بتوق ليرسل ذبذبات من التوتر بينما تتسارع نبضات قلبها حتى كادت تخرج من بين جنبات صدرها:
- وأنا مش عاوز يعبرني بنظرة غير عينيكي انتي وبس, وأنا متأكد اني مش ههون على قلبك, عارفة ليه؟
رفعت عيناها بتساؤل فتابع:
- لأنه حبيبي....
همهمت بأن موعد النوم قد حان مرددة تحية المساء, فرفع يدها التي لا تزال في قبضته مقبلا راحتها بدفء وهو يجيب :
- وانت من أهله...
سحبت يدها وانصرفت سريعا بينما لاحقت عيناه طيفها حتى اختفى تماما في حين وقفت هي خلف باب غرفتها ممسكة بيدها التي لا تزال تلسعها من حرارة شفتيه بيدها الاخرى وتشعر ان قلبها قد أوشك على الوقوف من شدة الانفعالات التي تمور به وهمست في سرها:
- واخدني على فين يا شهاب؟, ويا ترى ايه اللي مخبيلي معاك؟!
**********************
بدآ رحلة العودة الى كفر الخولي في الصباح الباكر مستقلين سيارة شهاب والذي صمم على ترك سيارتهم وعندما عاندت سلمى مخبرة إياه أنه لا بد من وجود السيارة معهم تحسبا للظروف أجاب بهدوء مخالف لطبعه الحاد أنه سيتكفل بإحضارها الى البلدة...
كان شهاب يسترق النظر الى تلك الحانقة الفاتنة التي تقبع في الكرسي بجواره بينما احتلت سلافة المقعد خلفها, منذ أن رآها في الصباح وهي تتعمد التهرب منه حتى عندما صمم على الرجوع برفقته جادلته أول الأمر بحدة لم تلبث أن خفتت عندما رأت أختها وهي تقتنع برأيه, تبادل الأحاديث الخفيفة مع سلافة بينما تجهلت سلمى الدخول في أي حوار وباءت جميع محاولاته لإشراكها في الحديث بالفشل بينما لمس روح سلافة المرحة عن قرب ولكنها أيضا تملك من العناد والانفعال الزائد ما يجعله يشفق على غيث شقيقه ولكنه يعلم جيدا أنه جدير بترويضها تماما كما هو جدير بغزالته البريّة!!..
بينما كانت هي تشعر بالحنق منه ومن نفسها ومن الأمر ككل!, رباه لقد تعمدت الاعتماد عنه حتى تفكر بصفاء ذهن في أمر ارتباطهما ولكنه بحضوره المباغت ليلة أمس وبحديثه الأكثر غرابة تسبب في تشتيت ذهنها فلم تعد تعلم ماذا تريد حقيقة, هل هي تريد منه الابتعاد فعلا.. أم تريده أن ينفذ وعده لها ويثبت صدق أحساسه والذي تشي به عيناه!!..
بينما شردت سلافة بالأمر الذي أخبرتها به صديقتها مريم, مريم هي صديقتها وتوأمة روحها, بدأت صداقتهما صدفة حيث كادت سلافة أن تضربها بسيارتها فقد كانت حديثة العهد بالقيادة وكان والدها قد ابتاع لها سيارتها كهدية دخولها الجامعة, كانت شغوفة بالقيادة السريعة, وكنتيجة طبيعية لسرعتها العالية وحداثة تعلمها القيادة كادت تتسبب بحادث سير مروع عندما تفاجئت بمريم أمامها فضغطت مكابح السيارة فجأة لتفاجأ بسقوط مريم أمام سيارتها,, ترجلت من السيارة سريعا وبعد أن ساعدتها بالنهوض ذهبت بها الى المشفى حيث تبين وجود شرخ في قدمها, واحتجزت بالمشفى ولم ترغب مريم بعمل بلاغ للشرطة, فمما رأته أمامه فسلافة كانت على وشك الانهيار وانهالت عليها بوابل من الاعتذرات, بينما أنبتها مريم لتهورها بالقيادة, ولم ينس رؤوف ولا ألفت حسن صنيع مريم فشخص آخر كان قد صمم على تقديم بلاغ في ابنتهما او على احسن حال كان طلب نقودا في سبيل تنازله عن الشكوى ضدها..
وبدأت صداقتهما بعد ذلك لتصبح مريم ابنة ثالثة لرؤوف وكان والدها قد توفى وهي لا تزال في التعليم الثانوي فشعرت به يعوضها حنان والدها المتوفي, كانت مريم قد أنهت دراسة كلية التجارة ( تجارة – لغة إنجليزية ) ولتقوم بسلافة بتقديم أوراقها للعمل بالشركة التي تعمل بها الأخيرة, ووقد ساعدها تقدير مريم في التخرج بامتياز ولكنها رفضت التعيين كمعيدة بالجامعة مفضلة العمل الحر فالمرتب الحكومي لا يكاد يكفي الخبز اليابس!, وبالفعل تم قبولها بعد أن اجتازت وبنجاح كبير سلسلة الاختبارات التي مرت بها, لكي يتلازما فلا تكادان تفترقا الا وقت العودة للمنزل واحيانا كثيرة كانت سلافة تصاحب مريم الى منزل الاخيرة وتقضي باقي اليوم برفقتها....
كانت سلافة قد هاتفتها قبل مغادرتها القاهرة و عرضت عليها أن تأتي معهم وأنه مرحب بها معها ولكن مريم رفضت وأخبرتها أنها لن تهرب بل هي باقية لتواجه ما ستأتي به الأيام, ولكن أكثر ما يثير قلقها أنها أخبرتها عن تأخر موعد مقابلتها للنائب العام لظروف طارئة كما أخبرها المحامي والذي عرض عليها إعطائه ما تملكه من أدلة تدين ذلك المشفى ليقوم بحفظه في مكان آمن ولكنها رفضت قائلة لسلافة:
- انا مش هدي الحاجة دي لمخلوق غيري أنا وانتي يا سولي, شريف المحامي أنا مش بشكك فيه ولا حاجة لكن أنا لازم أحتاط للظروف كلها, ادعيلي انتي بس...
والآن وهي في طريقها الى بلدتها يلهج لسانها بالدعاء لصديقتها الروحية بأن يحفظها الله ويعينها على اكمال ما بدأته...
وصولوا قرابة الساعة الثانية ظهرا, نظر شهاب الى سلمى والتي لم تتبادل معه كلمة واحده طوال رحلتهم التي استغرقت ما يقرب من خمس ساعات وقال بابتسامة خفيفة:
- حمد لله على السلامة...
همهمت بخفوت فخمّن أنها ترد تحيته, والتفت الى سلافة قائلا:
- حمد لله على السلامة يا سلافة....
زفرت سلافة بغيظ وأجابت بتكشيرة:
- الله يسلمك..
لتترجل من السيارة صافقة الباب خلفها ,فينظر الى سلمى هاتفا بدهشة:
- ودي مالها دي؟
كانت أول ابتسامة يراها تنير وجهها وان كانت ابتسامة خفيفة لتقول بعدها:
- انت مش ملاحظ انك مش بتقولها غير سلافة سلافة؟.
ابتسم وهو يرى ابتسامتها التي اشتاق اليها وأجاب وهو يشكر سلافة في ضميره التي كانت السبب وان بشكل غير مباشر في هذه الابتسامة التي ترتسم على وجه مشاكسته الحسناء:
- هي مش اسمها سلافة؟.
سلمى ناظرة اليه مجيبة بتلقائية وقد نست سبب غضبها منه:
- انت عارف كويس أوي ان سلافة مش بتحب حد يناديها باسمها, عادتها لك في المرات اللي قبل كدا, لكن أنا عارفة اختي كويس أوي.. في حاجة شغلاها وطالما المود بتاعها مش اللي هو يبقى غلطت غلطة عمرك لو قلت لها سلافة, عاوز تبعد عن المشاكل يبقى سولي وما فيش غير سولي!..
صدحت ضحكته عاليا ما جعلها تبتسم بالمقابل لينتبه لشرودها في وجهه فمال عليها هامسا أما وجهها بابتسامة حب:
- عشان خلّيتك تبتسمي وتتكلمي معايا ليها عليا أقولها يا أحلى سولي.
نظرت اليه بنصف عين وأجابت بحدة رغما عنها:
- مش أوي كدا..
همس بابتسامة وغمزة ماكرة:
- إيه.. بنغِير ولا إيه؟.
رمقته بحنق وقالت وهي تفتح الباب المجاور لها لتترجل من السيارة:
- ليه ان شاء الله هغير من مين؟, سلافة!, دي زيي تمام, قال غيرة قال....
وترجلت صافقة الباب خلفها في حين ضحك ضحكة صغيرة وقال وهو يلمح طيفها يتهادى حتى اختفى وراء الباب الخشبي الواسع لقصرهم العامر:
- هتروحي مني فين؟, وراكي لغاية ما تعترفي وتقري على نفسك باللي في قلبك ورافضة تسمعيه..
-------------------------------------------------------------
تجمعت العائلة حول مائدة الغذاء والتي غاب عنها شخصين, غيث وأمه, فأما راوية فمنذ غضب عثمان منها وبأمر منه فإنه لا تتواجد في مكان يكون هو فيه, أما غيث فقد آثر ألا يكون موجودا عند عودتهم فهو يشعر بغضب عنيف لم يسبق له وأن مر به من قبل, ولكنها تلك الجنية الصغيرة من تبدع بإخراج أسوأ ما فيه!..
انفردت سلافة بوالدها لتسرد عليه ما كان من أمر مريم وبعد أن انتهت نظر اليها قائلا بذهول وأسى:
- معقول أي بنتي اللي انتي بتقوليه دا؟, لا حول ولا قوة الا بالله.. ربنا معها وهينصرها هي وخطيبها ان شاء الله, عموما عاوزك تكلميها كل شوية تطمني عليها والحاجة اللي سابتها معاكي لو عايزة هاتيها انا هشيلها بمعرفتي..
سلافة بابتسامة صغيرة:
- لا يا بابا أنا هخليها معايا, ادعي لها بس يا بابا...
قاطع حديثهم صوت ألفت تنادي لينضموا الى الجميع فيلا احتساء الشاي, فقالت لوالدها سريعا:
- بابا لو سمحت الموضوع دا بيني وبين حضرتك مش عاوزة حد يعرفه ولا حتى سلمى ولا ماما, حضرتك عارف هما بيحبوا مريم أد ايه دا غير انهم هيقلقوا عليا...
رؤوف بابتسامة صغيرة بينما يتجه معها الى الخارج:
- ولا يهمك حبيبتي...
حضر غيث أثناء احتسائهم الشاي وألقى بالتحية الى الجميع متجاهلا سلافة التي نظرت اليه من خلف جفونها مغتاظة فهو قد رحب بعودة سلمى ولم يوجه اليها أي حرف!, ثم هزت كتفيها بلا مبالاة متمتمة في سرها أنه لا يعنيها في شيء سواء رحب بها أو لا, التفت رؤوف الى شهاب قائلا بينما يتبادل كلا من الجد والجدة النظرات المرحة الخاصة بغيث وسلافة:
- صحيح يا شهاب هتعرف تجيب عربية سلمى ازاي؟
شهاب وهو يضع كوب الشاي جانبا:
- هبعت راجل من رجالتنا وأديلو العنوان عشان يجيبها...
ثم نهض متابعا:
- معلهش أستأذن انا محتاج أنام شوية..
علقت الجدة بحنان:
- اتفضل يا بني, نوم العوافي..
بينما قفزت سلافة واقفة وهتفت به وهي تضع كوب الشاي فوق الطاولة الصغيرة التي تتوسط الجلسة:
- شهاب معلهش عاوزاك في خدمة..
ليلتفت اليها شهاب بتقطيبة حائرة وبابتسامة صغيرة أجابها بينما يوجد آخر يتابع ما يحدث أمامه بينما بدأ اعصار غضبه النادر بالهبوب داخله:
- اتفضلي يا بنت عمي...
سلافة بابتسامة تلقائية جعلت وجهها يزداد فتنة بينما سلط غيث نظراته على ثغرها الوردي هاتفا بداخله أنها لم يسبق لها وأن منحته ابتسامة واسعة كتلك حتى بعد أن وافقت على ارتباطهما, سمعها وهي تقول بدلال محبب:
- ممكن بدل الراجل تبعت راجلين؟, واحد عشان عربية سلمى والتاني عشان عربيتي...
ضحك شهاب وقال بابتسامة مرح:
- يا سلام.. غالي والطلب رخيص, نبعت رجلين, حاجة تانية يا... سولي!.
الى هنا ونفذ صبر غيث الذي هب واقفا ليلفت أنظار الجميع فقال بتلكؤ وهو يهم بالانصراف:
- أني ماشي, عن إذِنْكُمْ...
وانصرف تاركا شهاب ينظر في أثره بريبة لتحين منه التفاتة الى سلمى فيجدها مسلطة نظراتها عليه في حدة وحنق, فما كان منه الا أن بادلها النظر بتحد ثم غمزها خفية عن الجميع بخبث قبل أن ينصرف مغادرا الى غرفته...
كان غيث جالسا تحت الشجرة حيث مكانه المعتاد في الحديقة كلما صادف أمرا يقلقه أو.. يغضبه, وعلى هذه الحالة وجدته سلافة وهو يمسك غصنا بيده يقوم بثنيه بين يديه, كانت سلافة قد خرجت للسير في الحديقة عسى هواءها الطلق أن يهدأ بالها عندما لمحته, علمت أنه قد رآها ولكنه أشاح عنها متجهلا لها عن قصد, فسارت اليه بتحد ووقفت أمامه قائلة:
- ايه يا ابن عمي, قمت وسبت القاعدة عشان تيجي تقعد لوحدك هنا؟, انا افتكرتك تعبان زي شهاب..
لينكسر الغصب بين يديه ويلقي به بقوة ثم ينهض ناظرا اليها بغضب يلمع بين فحم عينيه المشتعل وهو يجيبها بينما أتون غضبه يوشك على الانفجار:
- أحسن لك ما تجيبيشي طاري خويْ واصل, كفاياكي اللي حوصل منٍّيكي, خليني ساكت أحسن لك يا بت عمي..
قطبت سلافة مستهجنة ووضعت يديها في منتصف خصرها هاتفة بحنق:
- نعم؟, هو ايه دا اللي حصل ويعني ايه تسكت لي؟
أجاب غيث مقلدا صوتها وهي تطلب من شهاب أحضار سيارتها هي الاخرى من القاهرة:
- ممكن يبجوا رجلين يا شهاب..., وهو يجولك حاجة تانية يا سولي!, لا تكوني ناسية انك خطيبتي أنا مش هوّ, وبعدين تعالي إهنه.. انتي كيف تسافري مُصر من غير ما تجوليلي؟, ايه مش مالي عينك إيّاك؟
زفرت سلافة بحنق وأجابت:
- الله جرى ايه يا غيث انت قلبت في كله مرة واحدة ليه, اولا شهاب نادى لي بإسمي اللي كلكم عارفين اني بحب أتنادى بيه, وانا متأكده ان سلمى اللي لفتت نظره لكدا, حكاية مصر انا مش شايفه فيها حاجة أبدا, بابا وعارف يبقى أقولك ليه؟, احنا لسه مش مخطوبين رسمي, لما تبقى رسمي وقتها يبقالك الكلام..
كشر غيث هاتفا بنزق:
- يا سلاااام, يعني هو الخاتم اللي عيخليني عريسك صوح؟, طب شوفي يا بت عمي.. جوصر الكلام انت اسمك سلافة, اسم الجلع اللي انتي بتجوليه ده مش مسموح لحد انه ينادم عليكي بيه واصل, واحد بس اللي مسموح له...
نظرت اليه هاتفة بحنق:
- يا سلام.. ومين الواحد دا بقه ان شاء الله؟
لينظر اليها بتركيز مجيبا بثقة:
- أني.. جوزك!.
لتبهت وتسدل ذراعيها بجوارها ويتخضب وجهها بدماء الخجل بينما يتابع هو بلهجة حازمة:
- تاني حاجة بجه.. رجلك ما عتخطيشي برّات البلد من غير ما أعرِفْ.. ماذا وإلا يا سلافة هحبسك في دارك وما عخلكيشي تشوفي السمس حتى..
أشاحت بيدها في وجهه صائحة:
- ايه.. ايه.. حيلك حيلك.. انت فاكر نفسك مين؟, الحاكم بأمر الله!.
قبض على يدها المشهرة في وجهه بقوة واقترب منها وأجاب بقوة بينما تداخلت أنفاسهما الثائرة سوية وهو يجيبها بقوة وعيناه تنظران بعمق الى ليل عينيها السرمدي:
- لع... أني مش الحاكم بأمر الله, أني أبجى... زوجك يا بت عمي!.
حاولت جذب يدها من قبضته لتشتد قبضته لها فأنت بألم ثم هتفت به:
- سيب إيدي, وطالما هي عافية بقه.. يبقى انسى خالص انه يكون في جواز بيننا...
ليميل عليها فتضرب أنفاسه الساخنة صفحة وجهها حتى أنها شعرت بلسعة حارقة في بشرتها وقال بينما قد اشتعل فتيل غضبه ليهب اعصاره عاليا يطيح ما يقف بطريقه:
- نجوم السما أجرب لك يا سلافة, وعلمن يصلك ويتعداك.. انتي خطيبتي وأني مش هوافج ع الخربطة اللي بتخربطيها ديْ, مش عشاني راجل وما عاوزشي أكون شخشيخة في يد مرتي تجولي نفضها سيرة, عمي اللي هو بوكي ذات نفسه لو عرف انك سافرتي من غير ما تجوليلي أول واحد عيلومك, لأنه اللي عرفته يا بت عمي انك واختك ما عرفتهوش انه اني واخوي مش عارفين, هو كان فاكرنا عارفين, يا ترى بجه لمن يدرى بكدبكم عليه وعلينا هيتصرف فيكم امعاكم؟
هتفت سلافة بنزق:
- احنا ما كدبناش, هو بابا ما سألنا شاذا كنا قلنالكم ولا لأ, فسكتنا, لو كان سأل كنا هنقوله طبعا...
غيث ساخرا:
- هو ما سعلكومش عشان عارف انه بالعجل اكده اكيد جولتولنا, جوصر الحديت,... كلامك الماسخ عن فض الخطوبة والخرابيط ديْ تنسيها خالص, وعشان تبجي عارفة اني هفاتح عمي رؤوف اننا نكتبوا مع شهاب وسلسبيل, اللي كنت خايف منيه حوصل, كل ما هيحصل بيننا خلاف هتنطي تجوليلي نفضوها, لازمن أتوكد انك مش هتجلي عجلك وتعمليها..
نست سلافة ألم يدها التي لا تزال قابعة بيده وهتفت برجاء:
- لا يا غيث بلاش, كتب كتاب لأ, صدقني مش في مصلحتنا احنا الاتنين, لو صممت يا غيث هبتدي أقلق بجد أنا ما صدقت ابتديت أهدى شوية من ناحية ارتباطنا, وصدقني لو قلقت هبتدي أفكر وأوسوس, وساعتها ممكن فعلا أكمل بابا واقوله مش عاوزة أكمل..
همس غيث امام شفتيها بينما خفف قبضته لا شعوريا وبدأ ابهامه يداعب ظهر يدها بدون وعي منها مثيرا أحاسيس شتى في داخلها:
- انتي ليه مش جادرة انك تحسي بالنار اللي بتجيد جواتي كلما بشوفك بتضحكي مع حد تاني حتى لو كان خوي ولد أمي وأبوي؟, لساتك مش عارفة اني متمسك بيكي ورايدك جد ايه يا بت عمي؟, هجيبهالك على بلاطة يا بت عمي... لمن تزعلي مني اعملي ما بدا لك, ازعطي, اتخانجي, خاصميني, أي حاجة أنا جابلها منيكي لكن اوعاك يا سلافة.. اوعاك تفكِّري ان اللي بيناتنا ديه ممكن ينتهي كيف ما بتجولي, ولغاية آخر نفس في صدري يا بت عمي.. مش هفوتك واصل, يستحيل يا سلافة..يستحيل..
لتهر بعينيها منه مسدلة رأسها الى الأسفل فيرفع ذقنها اليه يطالعها بنظرة تحكي الكثير ويهمس برجاء:
- افتحي عينيكي يا سلافة..
لتنصاع رغبته بدون وعي منها فتصطدم نظراتها بأخرى رمادية جعلتها تتيه في سماءها بينما أردف هو بتوق يغلف صوته:
- أحلى عيون عمري ما شوفت زييها..
ثم سحب يده بتردد طفيف, لتبتعد عنه عدة خطوات بينما وقف ينظر في أثرها بينما حاربت نفسها كي لا تلتفت إليه فلو فعلت فستعود أدراجها إليه بل إنها قد توافق على جنونه في عقد القرآن....
يوم الزفاف:
********** تم عقد قرآن سلسبيل وزفافها على ليث وسط العائلة, وتم أطلاق أعيرة نارية اعلانا عن انتهاء عقد القرآن ولكن غاب الفرح عن وجوه الحاضرين والذين لم يكونوا سوى أفراد العائلة فقط, بينما لم تهبط سلسبيل من غرفتها بالأعلى فقد حضر غيث وأحد من الشهود لسماع موافقتها وذيلت اسمها على عقد النكاح, ومال غيث على جبينها يقبله وتركها لتتجهز لرؤية زوجها.. ليث!.
كان بصحبتها سلمى وسلافة وهند ابنة خالتها زينب, كان شهاب قد قام بتأجيل عقد قرآنه على سلمى ليكون مع غيث في ليلة واحدة, وبما أن سلافة لا تزال تماطل في تحديد موعد عقد القرآن فسلمى سعيدة للغاية بهذا التأخير خاصة وأن شهاب قد غيّ{ من طريقته معها فأصبح مهادنا معها زيادة عن اللازم, ويكثر من كلماته الحنون وعبارت الغزل حتى أنها أصبحت تتفادى المكوث معه بمفردهما!..
************
في جناح العرائس بمنزل عدنان:
***************************
كان قد تم تجهيز جناح للعرائس سلسبيل وليث بعيدا عن جناحها القديم, فكان الجناح عبارة عن غرفة ليث وقد ضم لها غرفة أخرى بجوارها وتم تغيير أثاث اغرفة بالكامل ودهانه بلون السماء الصافية..
دلف ليث الى الجناح بعد الانتهاء من طعام العشاء وقد استأذن الرجال بالانصراف بينما بقيت بعض النسوة مع والدته التي يرى فرحتها وهي تتقافز في عينيها, أغلق الباب خلفه مستندا عليه زافرا بتعب, ليسمع صوت خطوات ضعيفة, لو كانت تلك الخطوات لشخص آخر لم يكن ليسمعها فهي لا تماد تصدر صوتا, ولكنها خطواتها هي, كيف لا ينتبه اليها, فتح عينيه لتطالعه هيئتها بثوب أسود طويل ووشاح أسود تلفه حول شعرها الذي طالما هاجمه في أحلامه منذ أن رآه آخر مرة قبل أن تتحجب عنه وكانت وقتها ابنة العشر سنوات!..
تقدم منها وهو يقول ببرود:
- هدخل أتسبح وآجي..
ما ان خطى خطةتين مبتعدا عنها حتى سمع صوتها مناديا له بنبرة أراداتها قوية فخرجت مشروخة:
- ولد عمي...
ليلتفت اليها ناظرا الى عينيها لأول مرة منذ دخل الى غرفتهما ليصعق من حجم الكراهية التي تشع منهما, حاول اعتماد البرود وأجاب بجمود:
- فيه حاجة يا بت عمي...
سكتت قليلا قبل أن تجيبه محاولة اضفاء الثقة على صوتها الذي خرج محملا بما تجيش به نفسها من كره لهذا الوضع الذي اضطرت للقبول به:
- احنا زواجنا باطل!..
التفت اليها بعنف واقترب منها بخطوات بطيئة وهو يردد باستنكار:
- باه, انتي اتجنيتي اياك؟!, كيف يعني زواجنا باطل؟, أني زوجك على سنة الله ورسوله وعلى يد مأذون وبموافجة بوكي واتنين شهود كومان, كيف يبجى باطل؟
لتشعر بثقتها تعود اليها بعد أن أطلقت للسانها العنان فهم إذا كانوا قد أجبروها على الموافقة على هذه الزيجة فستكون بشروطها هي!, أجاتب بثقة:
- بس أهم موافجة ما حوصلتش.. أني موافجتش ع الزواج منيك يا ولد عمي!.
قطع الخطوات الفاصلة بينهما في خطوتين وانقض قابضا على ذراعها بعنف بينما برزت عروق رقبته تعبيرا عن غضبه الوحشي لترتعش عيناها وهي ترى أمامها ليث الذي كانت تهرب كلما صادفته في طفولتها, كانت تخافه وتخشاه وتتحاشى التواجد معه في مكان واحد, وعندما تقدم راضي لخطبتها كانت تحمل هم العيش معه تحت سقف واحد ولكنه أغلب أوقاته كان يقضيها خارجا فلم تكن تصطدم به, ولكن الآن فلديه ورقة تمنحه الحق المطلق بالتعامل معها كيفما يشاء, هزها ليث بقوة هاتفا بها:
- انتي معترديش ليه؟.
ازدرت ريقها وأجابت محاولة تمالك نفسها:
- انت خابر زين اللي حوصل, بوي واخواني اللي جبروني ع الزواجة ديْ, ولومن خوفي تاخدوا مني اصغاري ما كنتش وافجت واصل, يعني من الآخر.. انت زوجي جدامهم وبس كيف ما كانوا رايدين, لكن بيناتنا أنت ولد عمي بس...
نفض ليث ذراعها من يده بقوة واستدار موليا اياها ظهره قابضا على يده بشدة وهو يهتف بها من بين أسنانه:
- سلسبيل.. روحي جوة دلوك, ابعدي من وشي الساعة دي أصلح لك..
سلسبيل بتلعثم طفيف ولكن لا بد لها من قول ما يؤرق مضجعها:
- أني مصممة على كلامي يا ولد عمي, شعري ما عينفردش على مخدتك واصل... أني.. أني مش خاطية, ولو حوصل حاجة هتبجى غلط وحرام كومان!!...
التفت اليها وهم بالصياح ولكنه تذكرأن هناك نساء بالاسفل’ فقال بشراسة مخيفة وصوت منخفض ولكنه يبعث الرجفة في الاوصال:
- احمدي ربك انه في حريم تحت, وما عاوزشي صوتنا يوصل لهم, ولا كنت خليتك تبلعي كلامك الماسخ ده, وبعدين مش ليث الخولي اللي عيفرؤض تفسه على حرمة.. حتى لو كانت حرمته ومعاه ورجة رسمي اتخليه ياخد هو اللي عاوزه منيها, بس أني يا بت عمي... ما عاوزشي, النفس عافتك!..
واتجه الى الحمام الملحق بالجناح صافقا الباب خلفه بعنف بينما لا تعلم سلسبيل أتفرح لابتعاده عنها وتسبب كلماتها اليه بأن زهدها أم تحزن لأنها قد كسرت برجولته ويه ترمي اليه بنفورها منه فهو أولا وأخيرا ابن عمها وعم أولادها..
فيما بالداخل وقف ليث يمرر أصابعه في شعره بحدة وانفعال ثم تمتم بينه وبين نفسه بألم:
- ليه يا سلسبيل ليه, بكفاياكي رش الملح ع الجرح يا سلسبيل بكفاياكي!!..
وهبط بقبضته على الجدار الرخامي للحمام ليفرغ شحنة الغضب بداخله فيتشقق الرخام وتنزف يده بينما هو غير واع سوى لعينين سوداء كحيلة قد صرعته منذ زمن... تحديدا
وهبط بقبضته على الجدار الرخامي للحمام ليفرغ شحنة الغضب بداخله فيتشقق الرخام وتنزف يده بينما هو غير واع سوى لعينين سوداء كحيلة قد صرعته منذ زمن... تحديدا منذ أن كانت تركض في الأنحاء بجديلتيها الطويلتين خوفا منه ما ان تراه بينما يضحك ساخرا منها ويسارع بجذبها من جديلتيها ويرفعها الى أعلى وهي تركل بقدميها هاتفة برجاء لينزلها, فيسارع بإنزالها ثم يقبلها فوق جبينها هي ابنة الخمس سنوات وهو اين الخامسة عشر عاما ويهتف بداخله:
- امتى الايام تفوت جوامك يا سلسبيل وتكبري ووجتها لمن هرفعك بين يديني معفوتكيش واصل!..
ولكنها لم تكن أبدا له... فقد كانت لشقيقه الراحل حيّاً و... ميّتاً!!
الفصل السابع عشر
(كبير العيلة (منى لطفي
صوت طرقات على الباب أيقظته من نومه المتململ ليفتح عيناه ويطالع للحظات في سقف الغرفة ثم يعي لصوت الضربات المتتالية, فرك وجهه براحته الخشنة واعتدل من نومته الغير مريحة فوق الأريكة العريضة بالصالة الخارجية لجناحه هو وسلسبيل, وعى لصوت والدته وكأنها تحدث أحدا معها فقفز ناهضا من فوره وأخذ يلملم حاجياته المبعثرة يمينا ويسارا حيث قضى ليلته بعد أن هربت عروسه في الليلة السابقة الى غرفتهما وأغلقت الباب عليها, صاح قائلا وهو يرتدي ثوبه الكتاني:
- دجيجة يا أم ليث...
واتجه من فوره الى الغرفة وطرق الباب عدة مرات ولكن ما من مجيب فهمهم بحنق:
- نومة أهل الكهف ولّا إييه؟.
ثم نادى بصوت منخفض كي لا يصل الى أسماع والدته:
- سلسبيل, جومي كفاياكي نوم.. أمي إهنه..
ولكن ما من مجيب بينما الطرقات تتعالى خارج الغرفة فلم يجد بدًّا من فتح الباب ودخل سريعا وهو يقول بلهفة:
- سلسبيل, جومي, سلسبـ...
لتقف باقي الكلمات في حلقه عندما تفاجأ بما يراه أمام عينيه!, كانت سلسبيل والتي جافاها النوم حتى ساعات الصباح الأولى تنام مفترشة السرير الواسع, كانت ترقد على جانبها الأيمن مولية ظهرها للباب بينما افترشت خصلات شعرها السوداء الوسادة جانبها وانسدلت اسفل ظهرها حتى وصلت الى الأرض!بينما كان الغطاء محسوراً عنها ليبرز ساقيها السمراوين بشكلهما الأنثوي الجذاب, وكأن لقدميه إرادة خاصة بهما فسارت به بدون إدراك منه حتى وقف بجانب الفراش تماما بينما تعتلي وجهه نظرات الذهول في حين قد اشتدت ضربات خافقه حتى شك أنه قد يقف في أي لحظة!, تحدث بصوت خرج مرتعشا رغما عنه وهو يدعو في سرّه أن تنتبه سريعا وإلا فهو غير مسئول عما سيحدث ان استمرت في نومتها هذه وكأنه تدعوه لينضم اليها:
- سلسبيل, جومي...
لتصدر منها همهمة خفيفة ثم وكأنها لم تكتف ببعثرة حالته التي هو عليها, اذا بها تنقلب على ظهرها ليظهر وجهها أمامه مغطى ببعض الخصلات الطويلة, ليمد يدا ترتعش ويزيحها جانبا ليطالعه وجهها الفاتن, رباه.. كم تمنى أن يكون وجهها هو أول شيء يراه ما إن يصحو من نومه وآخر شيئا يراه قبل أن ينام, وبأصابع ترتعش إثارة وشوقاً لم يستطع ردع نفسه وهو يستكشف حنايا وجهها بتوق شديد, ليلامس جبينها نزولا الى رموش عينيها الغزيرة ثم أنفها الصغير الدقيق ثم ثغرها الوردي, و آآآآآآه من هذا الثغر!, كم يتوق لتذوق رحيق هاتين الشفتين, يقسم أنه لن يتمنى شيئا بعد ذلك, فيكفيه الشعور بعسلهما بين شفتيه ليقسم أنه قد نال كل ما يصبو إليه, لا.. بل الشعور بكليّتها بين يديه, ولا يريد أي شيئا آخر, فهي سلسبيل, حلم المراهقة والصبا والذي أصبح محرما عليه ما ان تزوجت من أخيه, ولكن الآن أصبح الحلم واقعاً وأصبحت هي حلالاً له, ملكاً خالصا له , شفتيها وعينيها وكل ما فيها ملكه هو دون سواه, كتم آهة كادت تخرج من شفتيه وهو يتلمس بإبهامه الخشن حدود شفتيها المكتنزتين, لينتبه لتململها فيبعد يده على غير رغبة منه ويعتدل مبتعدا عنها وخطا عدة خطوات الى الوراء في نفس اللحظة التي فتحت فيها عينيها لتصرعه للمرة التي لا يعلم عددها بنظرتهما الناعسة والتي اختفت ليحل بدلا منها نظرة ذعر وهي تنتفض جالسة فوق الفراش وتجذب الغطاء فوقها حتى ذقنها بينما خصلات شعرها الثائرة متشابكة حولها وهي تهتف بصوت قلق فيما تطالعه بنظرات مرتابة:
- فيه ايه؟, ايه اللي حوصل؟, وكيف تدخل إهنه وأني نايمة اكده؟.
عاود اقترابه منها حتى وصل بمحاذاتها تماما ونظر اليها بتركيز قبل أن يجيبها بهدوء ينافي العواصف الثائرة التي تجيش في صدره:
- أوعاكي تنسي أنك بجيتي مرتي, يعني حجي أني أدخل وأخرج في أي وجت, واللي حوصل البارحة ديه معيتكررش تاني, وانتي خابرة زعلي شين كيف, أني لمن هعوزك ولا باب حديد هيجدر يبعدك عني!, لكن أنا اللي عايفك, ودلوك من غير حديت كَتير جومي وضْبِي حالك أمي جات وجايبة الفطور امعاها....
ورماها بنظرة قوية واتجه مغادرا بعد ذلك وقبل أن ينصرف لم يستطع منع نفسه من الالتفات اليه والمتابعة بسخرية:
- فطور العرايس يا.... عروسة..
وخرج صافقا الباب خلفه ليستند عليه مغمضا عينيه وهو يهمس في نفسه:
- وبعدهالك يا سلسبيل, بعدت عنيكي لكن انتي اللي ما عاوزاشي تخرجي من نافوخي ليه؟..
ثم فتح عيناه هامسا بعزيمة بينه وبين نفسه:
- لكن لاه, مش ليث الخولي اللي تعصى عليه حرمة, حتى لو كانت روحه فيها, انتي بديتي يا سلسبيل, وربنا يشهد اني كنت ناوي أعاملك بما يرضي الله وأصبر عليكي لكن لمن توصل انك ترفضيني يبجى أنى اللي عايفك يا بت الناس وهخليكي تتندمي جد شعر راسك, والايام بيناتنا يا بت عمي!..
وانصرف من فوره ليفتح الباب لوالدته التي ما ان شاهدته أمامها حتى تلقفته بين أحضانها كيف لا وهو من أثلج صدرها بزواجه من سلسبيل فضمنت ألا تحرم من صغار ابنها المرحوم..
أمرت والدته الخادمة بوضع صينية الفطور جانبا والانصراف, وما ان همت بسؤاله عن سلسبيل حتى فُتح الباب لتطل من ورائه سلسبيل والتي ما ان وقع نظر ليث عليها حتى تطاير غضبه منها أدراج الرياح, ليطالعها محاولا التغلب على دهشته من مظهرها الجديد عليه بثوبها المشمشي الذي يصل الى الكاحل ولكنه يضيق عند الخصر وبأكمام واسعة للغاية كلما رفعت يدها ينزاح الكم الى الأعلى كاشفا عن بشرة ذهبية, بينما خصلات شعرها مغطاة بوشاح من نفس لون الثوب من أعلى رأسها لتنفلت باقي الخصلات حرة طليقة ظاهرة من أسفل الوشاح القصير لتغطي كامل ظهرها حتى نهايته, وأما عينيها فتلك قصة أخرى, لم يستطع الإشاحة عنهما جانبا بينما يراها تتقدم من أمه بوجه خضبته دماء الخجل حتى شكّ في سلامة عيناه بل وآذانه وهو يسمعها ترد تحية والدته بذلك الصوت الأبح المثير الذي تكسوه رنة الخجل!!...
عانقت سلسبيل حماتها وهي ترى وجه ليث الممتقع الواقف خلف والدتها, لا تنكر أنه استحضر شيطانها بقوله أنه هو من يرفضها ولا يريدها, وفي نفس الوقت تريد أن تثبت لعائلته أنها عروسا لم تبخس حق زوجها فهي تتزين له كما العروس تماما حتى اذا ما شكى منها كانوا هم من يقفون له ويكذبونه!!.
ابتعدت سلسبيل عن حضن حماتها التي ملّست خصلاتها الظاهرة من أسفل الوشاح قائلة بابتسامة واسعة ودموع تترقرق في عينيها:
- بسم الله ما شاء الله عليكي يا بنيتي, جومر أربعتاش, ربنا يهنيكو ويسعدكو وأفرح بخلفتكو عن جريب ان شاء الله..
لم تعي والدته ما تركته عبارتها من تأثير عليهما ما أن ألقتها إليهما, فقد وجم الاثنان أحدهما لعلمه بصعوبة حدوث هذا وان كان يكاد يتحرق شوقا لحصوله والأخرى لإيمانها أنه من سابع المستحيلات أن تسمح لغير حبيبها بالاقتراب منها حتى وان كان حبيبها ذاك قد رحل الى عالم آخر غير عالمها!.
انصرفت والدته تاركة إياهما لتناول طعام الفطور وشددت على سلسبيل ألا تترك زوجها بمفرده مطمئنة إياها على صغارها فهما منشغلان باللعب في الحديقة...
ما ان أغلق الباب خلف والدته حتى رآها تتجه الى غرفة النوم فأوقفها آمرا وهو يقول:
- على وين ان شاء الله إكده؟, مش تستني لمن أفطُر..
كتمت زفرة ضيق , وعادت أدراجها حتى الطاولة التي وضعت عليها الخادمة صينية الطعام, رصت الأطباق فوقها, واتجهت حيث البراد الموضوع في زاوية من الصالة الخارجية وتناولت منه قارورة من الماء المثلج, وبعد أن أعدت الطاولة وكان يقف يطالعها من تحت جفونه المسدلة, أشارت الى الطاولة قائلة ببرود:
- أهاه, حاجة تانية؟
تقدم ليجلس على الأريكة والتي اتخذها فراشا له ليلة أمس, وجذب الطاولة القصيرة اليه, ثم أشار الى الطعام قائلا:
- اجعدي عشان تاكلي امعايْ, ما بعرفش آكل إلوحدي..
لم تأبه لقوله وقالت فيما تستدير لتغادره وهي تمر به لتصل حيث غرفتها ملاذها الآمن:
- ماعاوزاشي آكل, لمن أجوع هبجى أتصرف..
لتقبض يده على معصمها بقوة وبغتة جعلتها تشهق دهشة, وسحبها دون أن يلتفت اليها ليجلسها بجواره على الأريكة بقوة وهو يقول:
- لمن أجول كلمة ما تنيهاشي مفهوم؟, ودلوك هتاكلي يعني هتاكلي, انا متوكّد انك على لحم بطنك من انبارحة..
ترك يدها مشيرا للطعام أمامه ففركت معصمها بيدها الأخرى وهتفت بنزق:
- بس أني ما عاوزاشي آكل, مش غصبانية يعني!.
نظر اليها بحدته التي دائما ما كانت تسبب لها الرجفة فيرتعش داخلها بينما تحاول جهدها إخفاء ذعرها الذي دأبت على الشعور به منه, تحدث بصوت خفيض ولكن يخفي أعتا الرجال:
- أني لمن أجول حاجة تنفذيها وفي ثانيتها, أظن واضح؟!
وتابع تناول طعامه وهو يراقبها من طرف خفي, ليشرد في أصابعها الرقيقة التي تأكل بها لقيمات صغيرة لا تطعم عصفور صغير, بينما تخونه عيناه وترتفع حيث فمها الذي يلوك الطعام ببطء ومن غير شهية حقيقية, ليزدرد بريقه في صعوبة وهو يراقب تلك الشفاه وهي تتحرك يمينا ويسارا أثناء مضغها الطعام, يكاد يقوم هو بالتهام شفتيها بدلا من الطعام, كان شاردا فيها ولم يعي لنفسه وهو يقضم اصبعه مع كسرة الخبز ليصيح متأوها وقد فوجئ بأصبعه تحت ضرسه, نظرت اليه سلسبيل بقلق وهتفت بتلقائية:
- خير يا ولد عمي, فيه حاجة؟!..
نظر اليها بحنق وهو يفرك اصبعه في ثوبه ويصيح:
- لاه ما فيش حاجة, كملي وكْلِكْ...
قطبت مستهجنة ثم لاحت منها نظرة الى اصبعه الذي لا يزال يفركه بين طيات ثيابه لترى احمراره الواضح فكتمت ضحكتها وقالت وهي تشير الى سبابته المتألمة:
- أني هجول لمرات عمي ما عادتش تعِمل وكل حلو إكده لحسن انت بالطريجة ديْ هتاكل صوابع يدينك التنيين ورا وكلها..
نظر الى إصبعه حيث تشير ثم نظر اليها ثانية بنصف عين ليلاحظ نظرتها الماكرة فقال بصوت مهدد:
- بتتمسخري علي يا سلسبيل؟, على آخرة الزمن حرمتك يا ليث الخولي ابتتمسخر عليك!
وسكت قاضما كلامه بينما لم تنتبه لما انتابه من تغيير عندما وعى لما قاله من وصفه لها بـ.. حرمته!, أي زوجته هو, إمرأته اسمها مقترنا باسمه هو!, أجابت وقد فلتت ضحكتها عاليا:
- وأني يعني بتبلّا عليكْ ولّا إييه؟, كاهو صوبعك أهو كيف راس البصلة الصغيّرة..
لفت انتباهها سكونه المفاجئ فرفعت عيناها اليه لتشعر بالاضطراب من نظراته المتفحصة لها, وتصيب القشعريرة سائر بدنها فهبت واقفة في محاولة منها للهروب من عيناه المراقبتان لها كما الصقر:
- أني شبعت الحمد لله, كمّل وكلك انت بالهنا على ما أصب الشاي..
همت بالذهاب عندما قبض على معصمها جاذبا اياها بشدة فتسقط في أحضانه لتشهق من المفاجأة ولكن لا يدع لها الفرصة فما ان فتحت فمها شاهقة حتى ابتلع باقي شهقتها بين شفتيه اللتان اعتصرتا شفتيها ممتصا رحيق ثغرها الشهي ليشعر بطعم حلو كالعسل لاذعا كمذاقه فيحتويها بين ذراعيه غافلا عن مقاومتها له وضربات قبضتيها الصغيرتين اللتان كالتا اللكمات الضعيفة لصدره العريض القوي!!..
بعد وقت طويل وحين كادت تختنق طلبا للهواء أفلتها ليث ولكن ليحكم قبضته حولها ساندا جبهته الى جبهتها محاولا التقاط أنفاسه الثائرة, بينما بعد أن هدأت أنفاسها حاولت الابتعاد عنه وهي تطالعه بنظرات غضب سوداء هاتفة بشراسة:
- بعّد عنّي, جولتلك جبل سابج أني ما عاوزاكش, أني مش مرتك.. أني...
ليسارع بكتم صوتها براحته الخشنة العريضة ضاغطا على فمها بشدة حتى كادت تختنق وتحدث من بين هسيس أنفاسه الغاضبة وهو ينظر الى عينيها اللتان ترميانه بلهيب أسود:
- أنتي مرتي أني دلوك, أسمعك بس تجوليها انك مش مرتي تاني وجتها هثبت لك انك مرتي صوح, وبحج وحجيج, ما فيش راجل له الحج فيكي غيري, اوعاكي تكوني فاهمه اني لمن فوتك البارحة كان عشان الكلمتين الخايبين اللي جولتيهم كيف دلوك, لاه!, أني لمن همّلتك كان عشان أني مش عاوزك وجتها, لكن وجت لمن أريدك مش هتجدري تجولي لاه, اللي عاوزك تفهميه وتحطي في عجلك زين انه مش ليث الخولي اللي تستعصي عليه حرمة.. أي حرمة, ما بالك لمن تكون الحرمة ديْ مرَتُه؟, حلاله؟!, حطي عجلك ابراسك يا بت الناس وبلاش الحديت اللي ما انتيش جدِّيه ديه, وعشان تكوني عارفة أني اللي نفسي عافتك, واللي مش هتدهولي برضاكي معخدوشي غصب عنيكي, أني ليث الخولي يا... بت عمي!..
وأزاح يده دافعا اياها جانبا لتقفز واقفة وتتجه من فورها الى غرفتها مغلقة الباب خلفها بدون أي تعليق منها على كلامه وكأنها تفر من المحتوم بينما طالع ليث حيث توارت خلف الباب وهو يهتف في ضميره:
- ما كونيش ليث اما خليتك اتدوجي العذاب اللي اني فيه يا سلسبيل, جبل ما أدوج جُربك كنت أجدر أصبر على ابعادك لكن دلوك لمن جربت منيك وشوفت الجنة بين درعاتك صبري نفد مني, وهتاجي لحدي يا سلسبيل وبرضاكي يا بت عمي..
وبرقت عيناه بعزيمة واصرار, بينما لا تزال شفتيه تحمل طعم شهد شفتيها اللاذع!!..
**************************
صوت طرقات على غرفة رؤوف الذي كان يطالع الجريدة اليومية فسمح للطارق بالدخول ليطالعه وجه سلافة ابنته من وراء الباب, فأزاح الجريدة جانبا وأشار اليها قائلا:
- سلافة حبيبتي صباح الخير, تعالي يا حبيبة بابا..
لتدلف الى الداخل مغلقة الباب خلفها وتتقدم اليه لتلقي بنفسها بين ذراعيه المفتوحتين لها وتجلس على ركبتيه وكأنها عادت صغيرة وهي تقول بصوت ضعيف:
- أنا تعبانه أوي أوي يا بابا..
أبعدها والدها عن صدره ونظر اليها بقلق مقطبا وسأل:
- مالك يا بنتي؟, حاسة بإيه بعد الشر؟!
لتقضم شفتها السفلى بينةأسنانها اللؤلؤية وتعتدل في جلستها ناظرة اليه وهي تجيب محاولة محاربة دموعها:
- مريم يا بابا, مريم...
تساءل بوجل:
- عرفت حاجة, حصلها حاجة؟
أجابت وقد بدأت شفتيها بالارتعاش:
- بئالي يومين أكملها مش بترد وانهرده مامتها قالت لي لما اتصلت بيها على الأرضي بتاع بيتها انها مختفية من يومين وموبايلها مقفول على طول, طنط هتموت من قلقها عليها يا بابا, وانا جربت تاني بعد ما كان محدش بيرد دلوقتي مقفول على طول!..
قال رؤوف وهو يمسك بذراعيها ناظرا الى عينيها بقوة:
- سلافة اسمعيني حبيبتي, الموضوع واضح انه أكبر منك من مريم ومن سامح خطيبها ومني انا شخصيا, أنتي كنت قولتيلي انها المفروض هتقابل النائب العام ومقابلتها اتأجلت كونها اختفت في التوقيت دا يبقى دا مالوش معنى غير حاجة واحده بس...
نظرت اليه برعب وتحدثت بصوت متقطع مذهول:
- انهم يكونوا... وصولوا لها؟, معقولة يا بابا؟, تفتكر حضرتك انهم يكونوا عملوا فيها حاجة؟, بس المحامي بتاع سامح أكد لها انه لسه محدش يعرف الادلة اللي معاها؟
أبوها بتنهيدة عميقة:
- يا بنتي دول ناس مش ساهلين, يعني تفتكري انهم مش حاطينها تحت عينيهم خصوصا وان سامح خطيبها اللي هما رموه في السجن بإيديهم وبقضية متلفقة عارف كل جرايمهم؟, انا متأكد انهم قدروا يوصلوا لها قبل ما توصل الدليل اللي معاها للنائب العام....
ليقطع حديثهم صوت هاتفها المحمول فتنهض واقفة وتخرجه من جيبها ليطالعها رقما غريبا فتستقبل المكالمة بريبة وما ان سمعت صوت محدثها حتى لانت أساريرها وهتفت:
- أهلا يا طنط, طمنيني عرفتوا حاجة عن مريم؟.
لتسكت متصنتة قليلا بصعوبة للكلمات التي تصلها وسط هستيرية صوت محدثها قبل أن تفتح عيناها هلعا وهي تردد بينما تنظر الى والدها الواقف أمامها يطالعها بتوجس وريبة :
- مر.. مريم لاقوها مقـ.. مقتولة في منطقة مهجورة بعد.. بعد ما اغتصبوها!..
وتقع يدها بجانبها وهي تنظر في صمت الى والدها قبل أن تبدأ بإسدال جفنيها لتسقط مغمى عليها, في حين ركض اليها والدها في هلع مناديا باسمها....
أزاحت سلمى سماعة الفحص جانبا من أذنيها, ثم أمسكت برسغ شقيقتها لتطمئن على معدل النبض, ثم وضعت يدها جانبا قبل أن تنظر الى والديها الواقفين يراقبانها في قلق وتقول بابتسامة شاحبة:
- الحمد لله, الضغط اتظبط, بس انا مش عارفة ايه اللي خلاها يجي لها هبوط مفاجئ في الضغط بالشكل دا, سلافة عمرها ما اشتكت من حاجة زي كدا؟!..
نظرت ألفت الى رؤوف الواقف ينظر الى ابنته الراقدة فوق فراشها بينما نافس شحوبها شحوب الموتى وتقدمت منه قائلة بلوعة بينما قلقها على ابنتها يكاد يفتك بها:
- هي كانت معاك في اودة المكتب يا رؤوف, ايه اللي حصل خلّا بنتي تنهار بالشكل دا؟.
سكت رؤوف قليلا ثم أجاب قائلا نصف الحقيقة وبصوت حاول أن يكون متماسكا فخرج متحشرجا من فرط قلقه على صغيرته:
- معرفش.. جالها تليفون تقريبا واحده زميلتها في الشغل عملت حادثة واتوفت وكانوا بيبلغوها عشان لو عاوزة تروح مع زمايلها تعزي أهلها..
شهقت ألفت ملتاعة وهتفت وهي تضع يدها على قلبها:
- يا حبيبتي, يا قلب مامتها, أكيد شابة صغيرة في السن طالما زميلتها زي ما بتقول, ربنا يصبر أهلها, اذا كانت سلافة اللي هي يدوب زميلتها ما استحملتش الخبر يا ترى أهلها وخصوصا مامتها عاملين ايه دلوقتي؟, انما ما قالتش مين يا رؤوف؟
هز برأسه نفيا وأجاب وهو يشيح بعينيه جانبا:
- ما لحقتش أسألها..
أشارت سلمى لهما بالخروج ووقفت معهما خارج الغرفة قائلة بجدية:
- طالما الموضوع كدا يا بابا يبقى سلافة أكيد هتصمم تروح تعزي وانا لا يمكن أسيبها تروح لوحدها..
قاطعتها أمها بلهفة:
- ولا أنا, رجلي على رجلها, وبعدين العزا واجب, هروح معها أعمل الواجب ونعزي في صاحبتها الله يرحمها..
قاطعهما رؤوف قائلا:
- يا جماعة سلافة مش هتتحرك خطوة واحدة من هنا الا لما أطمن عليها الأول..
ثم نظر الى ابنته متابعا:
- سلمى عشان خاطري لو قالت لك انها عاوزة تروح بأي طريقة اقنعيها انها تأجل المشوار دا قوليلها صحتها لسه تعبانه أي حاجة..
قطبت سلمى متسائلة:
- ليه يا بابا؟
روؤف بحنق غريب عليه:
- يووه يا سلمى, اعملي اللي بقولك عليه....
وتركتهما منصرفا يتبادلان نظرات الدهشة والقلق من حالته التي تشاهدانها عليه لأول مرة!!..
**************************************************
أصاب الجد القلق عندما وصل اليه تعب سلافة المفاجئ ولكن رؤوف طمأنه أنها إصابة برد خفيفة بينما تظاره الجد بتصديقه ولكنه أضمر في نفسه أمرا هاما....
- خير يا جدي أؤمرني شهاب خوي جالي انك عاوزني..
نظر الجد الى غيث الواقف أمام باب غرفة نومه وأشار اليه بعصاه قائلا بهدوء:
- أجفل الباب وتعال عاوزك..
قطب غيث واستجاب لأمره ثم اتجه اليه وبعد جلوسه بجواره على الأريكة الخشبية المشغولة على هيئة أرابيسك مال اتجاهه الجد وتساءل وهو يستند بيديه واضعا ذقنه المكسوة بلحية مستوية بيضاء عليهما:
- انت اعرفت ان بتعب بت عمك؟
قطب غيث وأجاب بتلقائية:
- لاه, شهاب ما جاليش, أكيد لجطت دور برد من العيانين اللي عم بيجوها العيادة, ربنا يكون في عونها..
نظر الجد اليه بتركيز وقال:
- بس مش سلمى اللي تعبانه..
زادت تقطيبة غيث حدة وتساءل بقلق ينضح من نبرات صوته الخشنة:
- أومال ...
ليقاطعه الجد مجيببا بجدية:
- سلافة...
هتف غيث:
- إيييه؟, سلافة!, مين ميتة الحديت ديه يا جدي, وكيف مدراش بيه.’ مش المفروض سلافة ديه تبجى خطيبتي؟.
الجد بهدوء:
- اهدى يا غيث يا ولدي, هي دلوك اكويسة, جدتك كات عنديها, وهي منيحة الحمد لله, بس مش ديه المشكلة!.
تساؤل غيث بريبة عاقدا جبينه:
- وهي فين المشكلة يا جدي؟
الجد بحزم:
- فيه حاجة عمك رؤوف امخبيه, والحاجة ديه تخص سلافة بالذات وأنا متوكّد انها السبب في الوعكة اللي صابتها ديْ لانه من وجتها ورؤوف ولدي مش على طبيعته وكل ما عسأله يجولي ما فيشي يا حاج, شطارتك تعرف فيه ايه بالظبط!..
نهض غيث واقفا وأجاب وعيناه تبرقان باصرار وعزم:
- اطمن يا جدي, اعتبرني اعرفته, اني هتصرف..
وانطلق من فوره الى عمه ولكن قبلا لا بد له من الاطمئنان على السبب الرئيسي لفقدانه طعم النوم والراحة والتي يكاد يجزم انها ستكون السبب الرئيسي أيضا لإصابته بأزمة قلبية مفاجئة من فرط قلقه عليها!..
-------------------------------------------------------
كانت سلافة مع والدها في غرفتها تجادله بشأن سفرها الى القاهرة, صرف والدها ألفت وسلمى قائلا أنه يريد الانفراد بها بعد سماعها ترفض طلب سلمى منها بالتزام الراحة وعدم اجهاد نفسها فأخبرهما انه سيعمل على اقناعها, وقفت سلافة أمام والدها تهتف وعيناها تغشاهما الدموع بينما ترفل في ثوب أسود مقفول من الأمام بأزرار سوداء حتى منتصف الخصر, ونص كم, وجمعت شعرها على هيئة ذيل الفرس, أعرب وجهها عما تعانيه من قلق واضطراب بوجنتيها الغائرتين والهالات السوداء المحيطة بعينيها, هتفت سلافة لوالدها برجاء ودموعها تسيل في صمت مغرقة وجنتيها الشاحبتين:
- يا بابا أرجوك افهمني, أنا لازم أسافر, أنا معايا أمانة لازم أسلمها..
رؤوف بهدوء محاولا اقناعها:
- وانا ما قولتش ما تسافريش, بالعكس أنا هسافر معاكي بس الأول عاوز ناخد رأي محامي في الموضوع دا, يدلنا نروح فين بالظبط, المحامي بتاع سامح أنا بصراحه قلقان منه يمكن أكون ظالمه بس من الآخر كدا أي حد له علاقة بالموضوع دا محل شك بالنسبة لي دلوقتي...
سلافة بعناد وتشبث بالرأي وخوفها على والدها أن يصيبه مكروه من وراء هذا الأمر الخطير يجعلها أكثر تشبثا بمحاولة اقناعه تركها تسافر بمفردها:
- طيب سيبني أسافر أعزي مامتها, وبعدين نبقى نشوف موضوع المحامي دا, أرجوك يا بابا..
- ما انتيشي مسافرة ولا رايحة في مكان يا سلافة..
التفتت باندفاع لترى محدثها يقف بباب الغرفة لفقطبت هاتفة بغيظ:
- غيث!..
تقدم غيث الى الداخل يلقي اليها بنظرات ملتهبة ثم تحدث الى عمه قائلا:
- سامحني يا عمي لو دخلت اكده بس اني خبطت مَتير وما سمعتونيش, وبعدين غصب عني سمعت حديتكم فدخلت ما جدرتش أسكت..
تقدم اليه عمه وقال وهو يربت على كتفه:
- جيت في وقتك يا غيث, أنا هسيبك معاها يمكن تحاول تعقلها..
وخرج تاركا الباب خلفه موارباً..
وقفت سلافة عاقدة ذراعهيا أمامها تطالعه بتحد وقالت بحدة:
- نعم؟, أفندم.. اتفضل قول اللي انت عاوزه, بس قبل أي حاجة أنا هسافر يعني هسافر وما فيش حاجة هتخليني أرجع في كلامي...
تقدم غيث منها بضع خطوات, كان لا يزال يرتدي ثياب الفروسية السوداء بينما خصلات شعره مشعثة بفعل الهواء وتستكين خصلة على جبهته العريضة, مال ناحيتها قائلا بحزم:
- أنتي معتروحيشي في مُكان يا سلافة, أظن واضح؟
نظرت اليه بغيظ وهتفت :
- وانت مالك؟.
هم بالرد لتقاطعه بحدة :
- هتقولي ابن عمك وخطيبك هقولك بردو دا ما يداكش الحق انك تدخل بالصورة دي, انا حرة, وطالما بابا موافق يبقى خلاص, وعشان بس تطمن بابا هييجي معايا..
نظر اليها غيث بغموض الى ان سكتت وهي تلهث تلتقط أنفاسها المتعثرة وتحدث بكل برود:
- خلصتي حكيك الماسخ ديه؟, شوفي يا بت عمي... انتي مش هتتنجلي غير لمن رجلي تبجى على رجلك, أصلا انتي كيف ما تجوليليش؟, دي لومن عمي رؤوف جلجان واني ضغطت عليه عشان اعرف اللي بيه ما كنتش اعرفت!
نظرت اليه بتحد رافضة الاجابة فتابع بينما يميل بوجهه على وجهها حتى اختلطت أنفاسهما الثائرة هي بتحد وهو بتأثر ورغبة ضارية في اخفاء هذه المشاكسة بين جنبات صدره خوفا وهلعا عليها, لن ينسى الصدمة التي شعر بها ما ان صارحه والدها بسر شرودها الدائم ووعكتها الصحية المفاجئة:
- أني المفروض أكون أجربلك من اي حد تاني.....
ازدرت ريقها بتوتر وقالت بسخرية زائفة في محاولة منها عدم الانصات لقلبها الذي يؤمرها بعدم السخرية مما تراه يشع بصدق من بين رمادي عينيه:
- يا سلام ليه بقه ان شاء الله؟
وبدون وعي منه امتدت يداه تقبضان على ذراعيها وهمس بصوته الخشن:
- لأنك انتي أجرب حد ليا في الدنيا ديه كلاتها, انتي لساكي مش عارفة انتي ايه بالنسبة لي يا سلافة؟
هتفت سلافة بحدة بينما تحاول الهروب من نظراتها التي تحاصرها وتهدد بدك حصون قلبها والاستيلاء عليه لاعلانه فارسه ومالكه الأوحد, فيما تحاول إزاحة ذراعيها من قبضته مشيحة بنظراتها:
- سيبني يا غيث, أنا مش عارفة ومش عاوزة اعرف..
ليهتف بحرقة:
- كدابة!
فرفعت عينيها تنظر اليه بذهول فتابع بحدة ونيران عميقة تندلع في عمق عينيه:
- ايوة كدابة, انتي عارفة ومتوكدة بس خايفة, انما أني بجه مش خايف, اني كنت مأجلها ومش رايد أجولها لغاية ما تبجي مرَتي حلالي, عشان خايف عليكي منِّيها, لكن خلاص.. ماجدرش أصبر أكتر من اكده!
وكأنها شعرت بما يوشك على الاعتراف به فهتفت بتوسل محاولة ايقافه عن متابعة حديثه:
- غيث ارجوك سيبني دلوقتي أنا...
ليقاطعها بلهفة ونظرات عينيه تكادان تلتهمان تفاصيل وجهها:
- بحبك.. بحبك يا بت عمي, بحبك ولا عمري حبيت جبلك ولا هحب بعدك, بحبك يا سلافة بحبك!,و...
وسكت بارتا عبارته بينما تابعت عيناه إلقاء قصيدة عشق إلى ليل عينيها البهيم, ليقربها اليه بدون وعي منه بينما تاهت هي في سماء عينيه ليتابع بشغف وبدون إدراك ليديه اللتان وكأنهما يمتلكان إرادة خاصة بهما حيث امتدا ليحتضنا خصرها:
- عارفة ما كونتش عاوز اجولك ليه؟, لأن الكلمة ديْ كانت كيف السد اللي مانع طوفان حبي انه يغرّجك, حبي ليكي كيف الطوفان يا سلافة, كنت مانع نفسي بالعافية اني اجولهالك لأني متى ما جولتها يبجى خلاص, صبري نفد, وإسمعي آخر كلام يا بت عمي.. احنا التنيين هننزلوا مصر سوا.. بس وانتي مرتي وشايله اسمي!.
وينتهز فرصة ذهولها ليميل عليها غير قادرا على منع نفسه من وضع قبلة عميقة فوق جبهتها وكأنه يضع صك ملكيته لها, ويبتعد بعدها بصعوبة ناظرا اليها وأنفاسه متهدجة متابعا:
- أني هكلم عمي الليلة بعد العِشا ان شاء الله, كتب الكتاب هيكون في أجرب وجت...
وسكت ناظرا اليها بعمق بينما سكنت سلافة غير مصدقة لما آلت اليه الأمور, فمن الواضح أن غيث قد عقد العزم على الزواج بها ولن يدع أي شيء يقف في سبيل تحقيق ذلك, حتى وان كانت هي نفسها!, بينما تعالت ضربات قلبها عاليا تكاد تصرخ بها أن غيث قد أعلن انتصاره وفوزه الساحق بقلعة قلبها بعد اقتحامه لمشاعرها وتحطيمه حصونا قلبها واحدا وراء الآخر!!........
الفصل الثامن عشر
كبير العيلة (منى لطفي)
أنوار تلألأ بها قصر الخولي المنيف في البلدة وصدحت بعدها صوت إطلاق الأعيرة النارية احتفالا بعقد قرآن أحفاد عميد عيلة الخولي الحاج عبد الحميد عثمان الخولي, اقتصر عقد القرآن على الأهل والأقارب فقط احتراما لوفاة ابن العائلة راضي, ولكن هذا لم يمنع الرجال من إطلاق الأعيرة النارية احتفالا بأبناء كبيرهم.. شهاب وغيث الخولي...
جلست سلافة وسلمى بجانب بعضهما بينما التفت النسوة حولهما وهن يلقين اليهن بالتهاني والمباركات, ووقفت الجدة تنظر بزهو الى حفيديتها وجمالهما الوضّاء, وكانت قد سمحت للنسوة بالأغاني وإطلاق الزغاريد فالمنزل خال لهن بينما انتصبت خيمة كبيرة للرجال في الساحة الملحقة بالقصر, وقد حضرت أم ليث وسلسبيل شقيقة العريسين وألحت أم ليث على الجدة السماح للحريم بإنشاد الأغنيات والتعبير عن فرحتهم, وبينما جلست ألفت تتلقى التهاني والمباركات من الحاضرات كلهم كانت راوية تقبع في جانب بعيد عنها تنظر اليها دون انتباه الآخرين لها بغموض بينما يعتمل قلبها بكره أسود وحقد دفين وهي تتوعد في ضميرها أنها ستذيقها هي وبناتها الويل على كافة أنواعه بل ستحيل ضحكتها السعيدة بابنتيها هذه الى دموع حارقة تبكي الساعة التي وافقت فيها على زواج ابنتيها من ولديْها هي!..
لم تكن تدري راوية والتي غلبها كرهها فظهرت نظتها السوداء جلية في عينيها أنها موضع مراقبة الجدة فاطمة لها, والتي أسرّت في نفسها وهي تتابعها بعينيها بوعد قاطع:
- ربنا يستر من اللي بتفكري فيه يا مرَت ولديْ, لكن أني واعيالك زين ومفتحالك عينيا التنييين جوي, ولو جلِّيت عجلك واعملت حاجة تفسد فرحتهم لاكون أني اللي واجفالك يا راوية, وانتي عارفة كلمة الحاجة فاطنة.. لمن أجول أنفذّ..
كانت هناك سيدة متشحة بعباءة سوداء مزينة أطرافها بخرز ملون تمسك بيدها دفّاً وتقوم بغناء بعض الأغاني المشهورة لديهم والتي كان يسمعها ولأول مرة ألفت وابنتيها...
ابتسمت سلافة هي وسلمى وهما يسمعان تلك الكلمات التي تراقص عليها بعض الفتيات وكانت تقول:
اتكحرت وأجرى يا رمان .. وتعالى على حجرى يا رمان ..أنا حجرى حنين يا رمان .. ياخدك ويميل يا رمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان.. وتعالى على صدرى يا رمان.. أنا صدرى حنين يا رمان.. ياخدك ويميل يا رمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان.. وتعالى على وسطى يا رمان.. أنا وسطى حنين يا رمان.. يخدك ويميل يارمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان ..وتعالى على (.........) يا رمان ..أنا (........) حنين يا رمان.. يخدك ويميل يا رمان....
جلست سلسبيل تطالع الفرحة المرتسمة على وجوه المحيطين بها, ولفت نظرها تعبيرات وجهي سلمى وسلافة, لا تنكر أنها ترى فرحة تتقافز داخل الأعين ولكنها لا تدري لما تشعر أنها ممتزجة بشعود آخر أشيه بالقلق أو الخوف, هي تعلم أن شقيقيها قد دفعا بالأحداث سريعا وأن عقد القرآن قد تم بعد زواجها هي بأقل من أسبوعين, ليرحل عقلها شاردا في ذلك الذي أقحم نفسه في حياتها ومع هذا يتركها بكامل حريتها!, هو يتحكم بكل شاردة وواردة بها وبدون أي مجهود منه!, يكفي أن ينظر إليها بليل عينيه السرمدي ذلك لتعلم ما يريد, هي منذ عناقه المباغت لها وهي تتعمد عدم الاقتراب منه أو إثارته, تعلم يقينا أن ماحدث كان النتيجة التي ترتبت عن عباراتها الخرقاء تلك التي رمتها بكل غباء في وجهه ليلة الزفاف, لم يكن من الواجب أن تقذفه بتلك الكلمات الصريحة بوقاحة من أنها لا تريد قربه وأنها لا تزال في عين نفسها زوجة لأخيه... راضي!, كتمت تنهيدة عميقة كادت تخرج من أعماق صدرها, حتى الأسم أصبح محرّم عليه تذكره, وقد يكون هذا أكثر ما يثير أعصابها ويوغر قلبها تجاهه, فهي ومنذ أن حملت لقب زوجة ليث أصبح من غير المسموح لها التفكير بغيره وان كان هذا الغير قد كان زوجا لها ذات يوم والآن هو في عالم آخر, ولكنها ليست بخائنة وهي تعد هذه خيانه ان ذكرت اسمه حتى بينها وبين نفسها, وهذا أكثر ما يثير استيائها وحنقها من ليث أنه حرمها حتى متعة العيش على ذكرى زوجها الراحل, لا تنكر أنه لا يحب صغارها فقط بل هو يعشقهم وهما يعشقانه بالمقابل وخاصة شبل, ذلك الصغير الذي أسماه هو وتربى في حضنه أكثر من أبوه البيولوجي والذي كان دائم السفر, فهو يقضي وقتا كثيرا معهما بل أن وقته هذا يعد من المقدسات بالنسبة له حتى أنها تشعر أن الولديْن قاربا أن يصبحا نسخة مصغرة عنه وخاصة شبل والذي يحاكيه في كل حركة تصدر منه ابتداءا من عقد يديه خلف ظهره وهو يتناقش في أمر هام, إلى التقطيبة التي تعتلي وجهه أثناء تركيزه في حل مشكلة ما, انتهاءا برغبته بارتداء عمامة كعمه ليث بل وأن يتعلم هو كيفية ربطها لنفسه!..
هزت رأسها محاولة صرف هذه الأفكار عن ذهنها ولكنها لم تستطع محو ابتسامتها عندما تذكرت وجهه عندما كان يحثها على الاسراع فهو سيكون إحدى الشهود على عقد القران بل أنه الشاهد المشترك على العقدين, كانت قد ارتدت عباءة حريرية وبناءا على نصيحة حماتها لم ترتديها سوداء فهي في نظر الناس عروس والعروس لا ترتدي الا الالوان الزاهية, وكانت قد أهدتها حماتها عباءة حمراء اللون موشية بخطوط فضية محكمة على جسدها تنسدل حتى الكاحل وأطلقت خصلات شعرها الأسود الطويل والتي قاربت ركبتيها, ثم زينت عينيها بالكحل الأسود العربي ولأول مرة تلون شفتيها بلون أحمر كرزي بناءا على إلحاح حماتها, كانت تقول لها بفخر أنها تريد أن تفاخر بها بين النسوة, فهي لا تقل جمالا عن ابنتي عمها, وبعد إلحاح شديد وافقت يتنازعها شعوران... عدم الراحة و...الخجل!, نعم فهي خجلى أن يراها ليث على هذه الصورة, هي لن تخرج كاشفة وجهها طالما أنها قد تزينت, فهي ستقوم بتغطيته كما أنها سترتدي عباءتها السمراء الواسعه ولكنها ستخلعها هي وبرقعها ما ان تصل, لم تكن لتخرج بزينتها تلك أمام الناس, ما ان خرجت من غرفتها وكان هو يزفر مناديا لها بقوة حتى تسمر واقفا أمامها فاغرا فاه مما يراه, النظرة التي أطلت من عينيه أرضت غريزة الأنثى بداخلها خاصة وأنه منذ الليلة التي لم يتمالك فيها نفسه وعانقها عناقا كاد أن يزهق روحها لم يقربها بل أنها كثيرا ما تشعر أنه يتعمد الابتعاد عنها كي لا يلامسها ولو بطريق الخطأ, وكثيرا ما ترردت كلماته من أنه هو الرافض لها في عقلها لتسألن نفسها ولأول مرة.. ترى ما سبب اخفاق زواج ليث ولثلاث مرات؟, بل أن أطول زيجة فيهم استمرت لستة أشهر فقط؟, والسؤال الأكثر إلحاحا هو.. هل ي ترى كان هناك أخرى شغلت قلب ليث ولهذا فشل في زيجاته الثلاث ولهذا أيضا أخبرها وبمنتهى الثقة أنها لا تثير فيه مقدار شعرة من أنملة؟, تكاد التساؤلات تفتك برأسها ولكن الأمر الذي يثير دهشتها وغيظها بل وحنقها هو.. ولما تشغل بالها بمثل هذه الأسئلة؟, لم تكن هي التي فرضت عليه الزواج بها بل أبوه وجدها وأباها بل والعائلة والأصول والأعراف!, فلو كان هناك ضحية لكل هؤلاء فهي الضحية ليس هو, فهو أولا وأخيرا رجل كان يستطيع الرفض ولم يكن ليقوم بما لا يريده فهو ليث.. ليث الخولي, إسمه بمفرده تهتز له الأبدان وترجف له القلوب...
تذكرت كلماته التي ألقاها بذهول اليها وهي يطوف حولها بينما وقفت في مكانها يكسوها الخجل من أعلاها الى أسفلها, ليقف بعدئذ أمامها وهو يهتف بانشداه مشيرا بسبابتها اليها من الأعلى الى الأسفل:
- انتي هرتوحي الفرح إكده؟.
قطبت وأجابت وقد اعتقدت أن منظرها ليس بالجيد وهي تنظر الى لباسها:
- إيوة, مرات عمي هيا اللي جابت لي الخلجات ديْ وجالت لي ألبسهم, ايه شكلهم مش زين؟
أجاب ليث وهو شارد بنظراته بين خصرها المحكم التفصيل وذراعيها الظاهرين من أسفل الكم الطويل الواسع اذا ما حركتهما فان الكم ينحسر الى الأعلى, ثم رفع عيناه الى عظمتي الترقوة الواضحين من فتحة العنق الواسعة, ليبتلع ريقه بصعوبة ويجيب بتلكؤ بينما نظراته تدقق في كل صغيرة وكبيرة فيها:
- هو من ناحية انه زين فهو زين الزين كومان...
ثم قطب متابعا وهو يقترب منها حتى وقف أمامها تماما فلفحتها أنفاسه الساخنة بينما هبّ عليه رائحة عطرها المسكي ليتغلغل داخل أنفه فيسير في دمه لينشر حرارة شديدة في سائر حواسه, رفع اصبعه يلمس به ثغرها الشبيه بثمرة الفراولة الناضجة:
- وايه ديه؟, حُمرة؟, وعينيكي ديْ..
ورفع عيناه الى عينيها ليتيه في عسليهما, هز رأسه بعنف يمينا ويسارا ليجلي عقله ثم هتف بغلظة:
-لاه.. على جتتي تتحركي خطوة واحدة من اهنه وانتي بالمنظر ديه!, روحي بدلي تيابك دي بسرعة ياللا, همّي أومال..
نظرت اليه مبهوتة من انفعاله ثم سألت ببراءة:
- يعني اني بدي أفهم دلوك اعتراضك عشان اللي اني لابساه زين؟
أجاب ليث بحدة:
- زين زيادة عن اللزوم كومان!..
قطبت وأجابت بحنق:
- ليث... أني مش هغيِّر خلجاتي, طالما هما زينيين أغيِّرهُم ليه؟, خصوصي ان مرت عمي هي اللي جايباهوم.., ياللا يا ليث بعدين الجماعه يستعوجونا...
وبدأت بالسير أمامه ليأمرها بالوقوف صائحا:
- استني عندك!..
ثم لحقها ووقف أمامها يهتف بحنق:
- انتي كيف ما تسمعيش أوامري وتنفذيها؟, أني مش عاوز حد يلمحك وانتي إكده!, أظن حجي زوجك وحجي عليكي اتطيعيني!
زفرت بضيق وأجابت:
- طيب مش لمن أفهم الاول ليه؟, انت بتجول انهم عاجبينك يبجى ليه؟, وبعدين مرت عمي جالت لي اني عروسة ولازمن ألبس وأتزين كيف العرايس ما بتعمل وان تجولت لي جبل سابج انه لازمن نظهر جودام الناس اننا مبسوطين وما فيش حاجة بيناتنا, يبجى ايه السبب؟.
هتف غيث بغير وعي منه:
- لأنك حلوة جووي, وأني بغير جوي جوي!.
سكتت لوهلة لتستوعب ما يقول ثم بدأ شبح ابتسامة يشق وجهها للظهور حاولت اخفائه سريعا وهي تقول:
- اني يعني هجعد مع رجالة؟, أني جعدتي كلاتها هتبجى وسط الحريم, حتى وشي هغطيه لغاية ما نوصلوا اهناك ما كونتش هتطلع بيه إكده وأني متزينة!
مال غيث عليها لينظر الى عينيها بعمق وهو يجيب:
- جوليها تاني انك حد من الرجالة هيلمح طرفك حتى لو بتتمسخري عشان أعرفك ان الله حج!, وبعدين حتى لو مع الحريم أني راجل ما أجبلش انه مرتي تظهر بالشكل دِه حتى لو مع حريم... واحده تجول عينيكي حلوة والتانية تجول خشمك والتالتة جسمك و.... لاه لاه لاه غيريه, غيريه لا ما عتروحيشي وديه آخر كلام عندي..
ليقاطعهما صوت طرقات على الباب فأجاب ليث الطارق والذي لم يكن سوى والدته التي دلفت بعد ان فتح لها الباب وما ان أبصرت سلسبيل حتى أدمعت عيناها وهتفت ببسم الله ما شاء الله ثم تابعت بابتسامة عريضة:
- جومر الله أكبر, أيوة إكده أهو دلوك حلاوتك تغلب حلاوة بنات عمك بتوع البندر, أني متأكّدة أن كل اللي عيشوفوكي الليلة عينيهم هتخرج من حجورها من جمالك!.
ليزمجر ليث كزمجرة الليث الغاضب ويهتف بوالدته حانقا:
- باه يا أمايْ, انتي بتكبري راسها ليه؟.
نظرت اليه أمه بدهشة وهتفت:
- باه مرات ولدي وفرحانه بيها, وبعدين ياللا إتأخرنا, بوك باعت يستعوجنا....
هتف ليث محاولا أيقافها وهي تهم بالسير منصرفة جاذبة سلسبيل معها:
- يما أستهدي بالله بس, سلسبيل هتغيِّر خلجاتها وبعدين هنروح..
قطبت أمه باستغراب:
- كيف يعني؟, وليه سلسبيل إتغيِّر؟, الخلجات عليها هتاكل منِّيها حتة!..
رفع ليث يده عاليا وهتف بحنق:
- يوووه يا أمّا... مش عتخرج جودام الخلايج إكده!.
الأم بنبرة زاجرة:
- ليث.. انت جرالك حاجة بعد الشر؟, مرتك مالها ما هي زي الفل أهي؟, اسمع يا ولدي الله يرضى عليك مش وجت مناجرة دلوك, وبعدين مرتك هتلبس عباية سودة وبرجع يبجى لازمته ايه عمايلك ديْ؟.
ارتدت سلسبيل عباءتها السمراء ونقابها الذي أظهر عينيها المخططتين بالكحل الأسود العربي ليزمجر ليث للمرة الألف هذه الليلة وهو يهتف مشيرا الى عينيها:
- ها.. شوفي يا أمّا.. عينيها ظاهرة كيف؟.
نظرت الأم الى عيني سلسبيل وأجابت بلامبالاة:
- وايه يعني عادي, محدش شايف حاجة والدنيا ليل, مش هنخطي من ناحية الرجالة واصل, ياللا يا سلسبيل يا بتي ولدي فاضي باينُّهْ..
خرجت ساحبة سلسبيل معها والتي لمحتى نظرة وعيد رماها بها ليث!!..
عادت الى حاضرها وهي تطالع العروستين لتنهض وتتجه اليهما مهنئة, وبعد قليل مدّت مائدة عشاء للسيدات بالداخل وأخرى للرجال خارجا, وبعد فترة بدأ الحضور بالانصراف ولم يبقى سوى سلسبيل وحماتها وزينب بالداخل وليث وصغار سلسبيل ووالده مع رياض زوج زينب بالخارج..
مالت زينب على أذن راوية هامسة:
- اجصري الشر يا ختي وابتسمي ولو بالكدب, الحاجة فاطنة عينها عليك من أول الليلة, بلاش تِكَبِّري الموضوع..
هتفت راوية بصوت منخفض وبنزق:
- يعني عاوزاني أتحزم وأرجص؟, مش كفاية سرجوا مني عيالي التنيين واني ساكتة وحاطة البُلغة في خشمي وما نطجتش بولا كلمة؟, زينب اجصري انتي في حديتك الماسخ دِه..
نظرت اليها زينب بإشفاق وأجابت قبل أن تنصرف عنها:
- خلي ابليسك راكبك لمن في الآخر هتجولي يا ريتني سمعت كلامك يا ختي..
وتركتها وانصرفت لتعلن الجدة بعد قليل رغبة العريسين بالجلوس الى عروسيهما, فنهضت كلا من سلافة وسلمى واللتان قد تعالت ضربات قلبيهما توترا وخشية مما هو آت, ولكن ظلا متماسكتين كي لا ينكشف ما يعتريهما من توتر وقلق..
دخلت سلافة الى غرفة أعدت سابقا لتجلس فيها مع غيث, كانت هناك مائدة مصفوف عليها أطباق العشاء, وقفت ما إن أغلقت الجدة الباب خلفها تطالع الباب وكأنها تريد حفظ النقوش المزدان بها خشب الباب ليطرق سمعها همسة خشنة:
- ما شاء الله تبارك الله, سبحان من صوّرك..
استدارت سلافة لتشهق بغتة وهي تتراجع الى الوراء عدة خطوات فقد فوجئت بغيث وهو يقف أمامها تماما, نظر اليها غيث بنظرات أشاعت الفوضى والإضطراب في سائر حواسها, أشاحت بوجهها جانبا بينما تقدم ليقف أمامها وهو يتابع بوله شديد:
- الجمال ديِه كلّاته بجى ملكي أنا...
ابتلعت ريقها بصعوبة, فامتدت يده ليقبض بسبابته وابهامه على ذقنها مديرا وجهها إليه ليتابع ونظراته تلتهمان تفاصيل وجهها بدءا من عينيها بليلهما السرمدي ثم حاجبيها الرفيعين مرورا بأنفها الصغير الدقيق حتى ثغرها بلونه الزهري الشهي ليطق وقتها آهة من أعماقه جعلتها تضطرب وهي تسمعه يهتف بصوت خشن من فرط الانفعالات التي تمور بداخله:
- مبروك يا جلب غيث, ما تتصوريشي فرحتي جد إيه دلوك؟.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وأجابت ببحة مثيرة فقد خانها صوتها لفرط توترها مستعدية بعضا من مرحا وهي تسأل:
- جد إيه يا ولد عمي؟.
ابتسم غيث لطريقتها في التحدث باللكنة الصعيدية, قال مبتهجا:
- اعرفتي تتكلمي زيينا أهاه..., مش جولتلك هنعملك حاجات كتير بس انتي اصبري..
قالت سلافة وقد بدأ توترها بالزوال وهي تبتسم ابتسامة سحرت عقل غيث الذي وقف يراقب تحرك شفتيها وهي تتكلم بتوق شديد لمعرفة مذاق هذه الفاكهة التي كانت محرمة عليه قبلا ولكنها أصبحت حلالا خالصا له ما أن عقد عليها ليعلنهما الشيخ زوجا وزوجة أمام الجميع:
- وهتعملني ايه تاني يا ولد عمي..
ليميل عليها فتضرب أنفاسه الساخن صفحة وجهها البيضاء لتشعر بسخونة تنبعث منه بينما تمتد يديه تقبضان على ذراعيها وتسحبان جسدها لتلتصق بجذعه القوي وهو يجيب بينما كان يطالعها كالمسحور لا يكاد يشيح ببصره عن ثغرها الزهري الطري:
- هعلمك كيف تحبيني كيف ما بحبك, لو اني حبي أكتر بكَتير من أي حب ممكن تسمعي عنِّيه, بحبك يا بت عمي بحبـ....
وكأنه وجد أن الفعل أبلغ تعبيرا عن الكلام ليميل على ثغرها الوردي مختطفا إيّاه بقبلة ضارية أودعها شوقه وعشقه وتوقه لها, حاولت الافلات منه في البداية ولكنه كان أقوى منها بمراحل, ليعتصر خصرها الدقيق بذر اعيه فيلمس بشرة ذراعيها المكشوفين ففستانها كان من الشيفون المبطن بالساتان باللون الأصفر الليموني, ينسدل على قامتها حتى منتصف ساقيها, وكانت ذراعيه مكشوفين فهو ذو أكمام قصيرة للغاية, بينما فتحة العنق واسعة تُظهر كتفيها, غاب غيث في عناقه لها, يكاد يقسم أنه كان سيفنى لو لم ينهل من شهدها, فكأنه العليل وثغرها هو ترياقه الوحيد, ضعفت مقاومتها وانتبه لسكونها بين يديه, أبعدها عنه بصعوبة بالغة, واستند بجبينه الى جبينها وهو يقول بصوت خرج أجشا محملا بأحاسيسه القوية التي ولأول مرة يشعر بها بل إنه تفاجأ أنه يملك القدرة على الشعور بها لهذه الدرجة ولكن هذا طبيعي وخاصة في حالته فهو ليس محبّا عاديّاً.. بل هو عااااااشق حتى النخاع لعروسه التي أذاقته الأمرّيْن حتى واقفت على الارتباط به, قال بشوقه كله:
- احنا لازمن نتزوج بأسرع وجت, مش هجدر أستحمل يا سلافة, ارحميني يا بت عمي ووافجي!.
سحبت أنفاسها ببطء وعلى دفعات صغيرة حتى استعادت هدوئها الذي تبعثر على يد غيث بهجومه المباغت لحواسها, أجابت بابتسامة صغيرة لم يرها ولكنه سمع صوت ضحكتها في نبراتها المشاغبة بدلال:
- بعد اللي انت عملته انهرده دا يا ابن عمي انسى يكون في جواز قبل سنة!.
انتهزت فرصة مفاجئته من قولها لتبتعد عنه ما ان ضعفت قبضته لها, رجعت عدة خطوات الى الخلف حتى اصبحت على مسافة كانت بالنسبة لها آمنة فهي أصبحت على يقين أن غيث قد وصل صبره الى منتهاه ولا بد أن تمسك هي بلجام علاقتهما ماذا وإلا وبطريقته تلك قد تصحو في الغد تجده وقد حدد موعد الزفاف مع والدها!..
تقدم غيث خطوتين ثم سأل مستهجنا وهو يقطب حاجبيه, فهو من جهة يشعر بالغيظ من جوابها ومن ناحية أخرى يعر بالحنق الشديد لاستغلالها دهشته وابتعادها عنه وحرمانه من عذب حضنها الدافيء ورائحتها المسكرة:
- يعني إيه الكلام دِه ان شاء الله؟.
أجابت سلاة وهي تغمزه بشقاوة محببة مقلدة لكنته الصعيدية:
- اللي انت سمعته يا كَبير, ياللا دلوك أحسن يستعوجونا!..
هم بالكلام عندما قاطعه صوت طرقات على الباب فانتهزت سلافة الفرصة وركضت لتفتح ليطالعها وجه جدتها المغضن فاترمت بين ذراعيها وهي تهتف بمرح:
- ماما ستو, تصدقي حالا غيث كان لسه بيقول عاوزين الحاجة تيجي تتعشى معانا!.
فتح غيث عيناه على وسعهما وهتف بذهول:
- أني..
لتقاطعه سلافة:
- أيوة طبعا, عموما أيه رأيك أنا بجد شبعانه نطلع نقعد مع جدو شوية أحسن دا وحشني أوي...
ثم تأبطت ذراع جدتها وسارت معها تاركة غيث يلاحقها بنظرات مذهولة يكاد يضرب كفّا بكف من فرط دهشته وألاعيب هذه الجنية الصغيرة التي تكاد تذهب بعقله!.
------------------------------------------------------
عند سلمى وشهاب:
***************
كما فعلت الجدة مع غيث وسلافة فعلت مع سلمى وشهاب إذ أدخلت سلمى الى غرف جانبية قبل أن تغلق الباب خلفها, جالت سلمى بعينيها حولها لتقع عيناها على مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من طعام ولم تكن قد تذوقت لقمة واحدة منذ الصباح الباكر, وكأنها برؤيتها للطعام قد افتكرت جوعها لتعلن معدتها أصوات الاحتجاج, فاتجهت حيث المائدة وأزاحت كرسيا لتجلس, أمسكت شوكتها وتناولت حبة من ورق العنب المحشو والذي تعشقه لتمضغه بلذة وبطء حتى ابتلعتها ثم تبعتها بأخرى تتلذذ بمذاقها وهي تغمض عينيها ليصل همس أجش الى آذانها يقول بخشونة ذكورية جذابة:
- هتخليني أحسد ورق العنب كدا وانتى بتاكليه بالاستمتاع دا!.
فتحت عيناها لتطالعها عيناه وقد دكن لونهما حتى غدا كسماء مظلمة في ليل شتوي بارد, ابتلعت باقي لقمتها ببطء ثم وضعت شوكتها جانبا وقد غادرتها شهيتها لتمسح فمها بمنديل ورقي, ثم تسلط نظراتها على نقطة وهمية فوق مفرش المائدة أمامها بينما تلمح بطرف عينها شهاب وهو يجلس على الكرسي الآخر بجوارها فاردا ذراعه على مسند كرسيها مستندا بذراعه الآخر على المائدةأمامه فكأنه يحوطها من الجانبين!, همس شهاب وهو يميل اتجاهها:
- مبروك, ألف مبروك يا عروسة..
سعلت قليلا لتجلي حلقها قبل أن تجيبه بخفوت قائلة:
- الله يبارك فيك..
سكت يطالع هيئتها المهلكة لحواسه, بدءا من شعرها بخصلاته اللولبية الناعمة التي أطلقتها تحيط بوجهها مرورا بزينة وجهها وعينيها المظللتين بلون الزرع الأخضر ليعزز من لون عينيها, ثم أنفها الشامخ فثغرها الخوخي اللون الذي يتماشى مع فستانها المشمشي اللون والذي يغطيها من أعلاها الى أسفلها ولكن... بفتحت عنق عميقة تظهر عظمتي الترقوة وتختفي حلية سلسالها داخل هذه الفتحة ليبتلع ريقه بصعوبة وهو يحاول اكتشاف أين تماما اختفت حلية السلسال؟!, بينما ذراعاها يغطيهما قماش الفستان الشيفوني حتى المرفقين, مال اتجاهها هامسا وهو تائه في غابات عينيها:
- أكّليني!.
نظرت اليه بانشداه بينما زحف اللون الأحمر الى وجنتيها ليجعلها آية في الجمال, وبدون كلام رفعت شوكة نظيفة وهمّت بالتقاط إحدى محشو ورق العنب عندما اعترض هامسا أمام وجهها:
- لا.. بشوكتك إنتِ!..
قطبت لا تعي ما يقوله ليعيد على سمعها وقد مال أكثر اتجهها هامسا في أذنها لتضربها رائحة عطره الرجولي من خشب الصندل الممتزج برائحته الخاصة صانعا عطرا رجولي أخذ بلبها حتى أنها كادت تشعر بالدوار:
- شوكتك أنتي يا بنت عمي!.
رفعت شوكتها وكأنها مسلوبة الإرادة وتناولت إحدى ورقات العنب وقربتها من فمه ليميل عليها قابضا عليها بأسنانه ليمضغها ويبتلعها وهو لا يبعد بعينيه عنها مقدار شعرة, وما ان انتهى من تناولها حتى تناول الشوكة من يدها لتتلامس أصابعهما فيسير تيارا كهربائي عال التردد بينهما لتشعر برعشة في سائر أطرافها, تناول احدى ورقات العنب بطرف الشوكة ومدها لها لتتناولها بأسنانها اللؤلؤية, وهكذا مرة هي تطعمه وأخرى هو يطعمها حتى شارف طبق محشو ورق العنب على الانتهاء عندما تناول آخر واحدة بالوكة وقال بهمس:
- افتحي بؤك..
لتنصاع طواعية كالمغيّبة, وما ان ترك طرف الشوكة ورقة العنب بين اسنانها حتى سارع هو بالتقاط النصف الآخر بفمه لتيبعها بقبلة كاسحة, كانت بداية لعناق أقل ما يقال عنه أنه قااتل للحواس!, احتواها بشدة ورفعها بين ذراعيه وكأنها طفلة صغيرة لا تزن شيئا ووضعها على ركبتيه مواصلا عناقها المغيب للعقل, مرت فترة طويلة حتى تركها على مضض بعد أن استشعر حاجتها للتنفس, وضع ذقنه فوق خصلاتها الناعمة ملتقطا أنفاسه الثائرة ليهمس بصوت أجش خشن من فرط رغبته التائقة التي تستجديه لينال امرأته الآن وفي التو واللحظة:
- أنا هتفق مع باباكي الفرح يبقى أول الشهر, يعني بعد اسبوعين من انهرده, ولو عليّا ندخل انهرده!.
لتشهق عاليا مبتعدة عنه وتضربه بقبضتها الصغيرة فوق كتفها هاتفة بحنق:
- انت.. انت قليل الأدب!, وأنا بعد اللي انت عملته دلوقتي دا انسى أني أوافقك على الجنان اللي انت بتقوله دا!.
نظر اليها بابتسامة قائلا بمكر:
- حبيبتي الجنان ان مراتي حبيبتي تبقى قودامي وبين إيديا وأتحرم منها, ظلم دا ولا مش ظلم؟.
هتفت بنزق وهي تحاول القيام من جلستها في حضنه بينما يتشبث هو بها مضيقا الخناق حول خصرها:
- لا طبعا مش ظلم, واتفضل بقه ابعد عاوزة أقوم..
هز كتفيه بلا مبالاة وأجاب ببرودة زائفة:
- والله انا واخد مراتي في حضني ومش عاوزها تبعد عني ثانية واحدة, انتي بقه عاوزة تقومي دي مشكلتك انتي مش مشكلتي..
هتفت بحنق بينما اصطبغ وجهها بلون الدم لفرط خجلها وغيظها منه:
- يا سلام انت هتستعبط؟, ابعد يا شهاب خليني أقوم أحسن حد ييجي دلوقتي شكلنا مش هيكون حلو..
قال شهاب بلا مبالاة:
- ايه اللي في شكلنا مش حلو؟, واحد ومراته حبيبته فرحان بيها ومش عاوز يسيبها فيها ايه دي أفهم أنا؟, وبعدين اطمني محدش هييجي..
وكأن الله قد استجاب لدعائها فقد تعالت صوت طرقات على الباب ليعلو صوت الجدة فأفلتت سلمى من بين يديه بصعوبة وساوت ثيابها قبل أن تتجه الى الباب بينما وقف هو قاطبا ليفتح عيناه على وسعهما وهو يطالع جدته تدخل وبيدها سلافة ووراءهما غيث في حالة يطغى عليها الذهول الممتزج بالحنق والغيظ ولا يعلم هاجمه هاجس يخبره أنه ما هي إلا ثوان ويخرج من هنا حاملا لنفس تعبير وجه غيث؟!..
ما هي إلا ثوان الا وكانت الجدة تخرج من الغرفة تتأبط في كل ذراع بسلمى وسلافة يتبعهما غيث وشهاب يسيران بجانب بعضهما ينظران الى من سلبتاهما طعم الراحة تارة والى بعضهما بأسى أخرى وإلى جدتهما برغبة في الاستنكار وبقوة ثالثة!!.
*************************************************
سافر غيث وسلافة لمقابلة النائب العام وتقديم الأدلة التي بحوزة سلافة والتي أدلت بأقوالها كاملة حول معرفتها بقضية مريم وسامح, ورحلا بعد أن اطمئنا الى سير العدالة بمجراها الطبيعي, وكانت سلافة تشعر بالتفاؤل الشديد فهي ستنفذ وعدها لمريم ولن تفرط في أمانتها والجناة سنالون عقابهم الذي يستحقونه بينما هي لن يذهب دمها هدر, ولكن بعد يومين أتاها الخبر الذي قوّض سعادتها تلك!.
كانت سلافة وغيث قد ذهبا الى محامي سامح الذي كان في غاية التعاون معهما وشعرا أنه يريد مساعدتهما في إظهار الحق مما بدد مخاوفهما بشأنه, أخبرهما المحامي بأنه سيتدقم بطعن في قضية سامح معللا ذلك بظهور ادلة جديدة تثبت أقوال سامح السابقة بشأن اتجار المستشفى التي كان يعمل بها بتجارة الاعضاء, وعليه فسيأمر النائب العام بإرفاق الأدلة لباقي مستندات القضية, وبالفعل سارت الخطة كما رسمها المحامي ولكن ما لم يحسبوا حسابه هو مدى قدرة هؤلاء الناس على الوصول الى غايتهم, بل مدى الأجرام الذي قد يصلون إليه في سبيل منع أيّا كان من الوصول اليهم, كان ذلك بعد إعادة فتح قضية سامح بيومين اذ قرأت سلافة خبر حريق في غرفة حفظ الأدلة بالمحكمة!, مما جعلها تقفز بهلع وتتجه مستفسرة من المحامي مهاتفة إياه وهي تصيح به أن يشرح لها حقيقة ما حدث حتى أن غيث قد دخل سريعا على صوتها العالي وهي تصيح:
- يا شريف بيه انا مش فاهمه ازاي حريق في مكان بيحفظوا فيه أدلة مهمة زي دي؟.
أنصتت قليلا قبل أن تتابع وهي تلهث لالتقاط أنفاسها الثائرة:
- يعني ايه ماس كهربائي؟, هو كل مصيبة يقولوا ماس كهربائي, حاضر.. ههدى.. بس يا ريت تعرفني اللي بيجرى أول بأول..
أنهت المكالمة بينما يسألها غيث مقطبا عمّا جرى فسردت عليه آخر الاخبار, احتواها بين ذراعيه وهو يقول بتصميم:
- ولا يهمك يا سلافة, أنا متوكد ان الحج هينتصر برضيكي, وبعدين اني مش هسيبهم واصل, أني أعرف ناس مهمين جوي في الداخلية بحكم شغلنا, بس ما كونتش عاوز أدخِّلهم جولت أستنى لمن نشوف ايه اللي هيوحصل؟.
ثم رفع رأسها ناظرا الى عينيها حب قبل أن يردف بابتسامته المحبة رغبة منه في تلطيف الأجواء:
- انتي لساتك متعرفيشي مين همّا عيلة الخولي؟, عيلتنا كبيرة جوي يا سلافة وبنشتغل مع ناس من كبارات البلد, وصدجيني دم صاحبتك معيروحش هدر, وبعدين انتي ناسية انه لسه جضية جتلها ما اتجفلتش لساتهم عم بيدوروا ع الجاني..
ابتسمت سلافة بتعب وأومأت برأسها ايجابا, فتابع غيث:
- بجولك ايه أني هوصل مشوار اصغيّر إكده ولكن أرجع ألاجيكي روجتي, ماشي الكلام؟..
همهمت بالموافقة, فطبع قبلة علة وجنتها وانصرف, بينما جلست هي تستعيد ما سمعته من المحامي عندما دخل اليها والدها فتجاذبت معه أطراف الحديث حيث أخبره غيث بآخر التطورات ليقطع حديثها ووالدها رنين هاتفها المحمول فطالعت الاسم لتجيب بلهفة ما ان طالعت اسم المحامي شريف, كانت تستمع بلهفة أن يكون هناك تطورات في اقلضية لصالحهم عندما جمدت تعابير وجهها وتسمرت في مكانها لينهض رؤوف واقفا ويتقدم ناحيتها بينما سقط الهاتف من يدها, سألها رؤوف بقلق:
- في ايه يا سلافة؟, ايه اللي جرى؟.
رفعت سلافة عينان مذهولتان اليه وهي تمتم بغير تصديق:
- ضد مجهول يا بابا!, القضية اتقيدت ضد مجهول!, دم مريم راح هدر يا بابا راح هدر!..
أغمض رؤوف عينيه متأثرا وهو يتحوقل قائلا:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...
لتبرق عينا سلافة ببريق وحشي وهي تهتف بعزم وإصرار:
- لكن لأ... أنا صعيدية وتاري لازم آخده, ولو القانون عجز انه ياخد لي بتاري, فأنا مش هسيب تار مريم يروح هدر أبدا!..
رؤوف قاطبا بريبة وقلق:
- يعني ايه يا سلافة؟.
نظرت اليه سلافة ببريق وحشي لم يسبق وأن رآه في عيني صغيرته سابقا وأجابت بشراسة:
- يعني اللعبة لسه ما انتهتش, أنا صعيدية يا بابا ومش ممكن أسيب تاري أبدا, وتار مريم أنا اللي هاخده...
وفجأة ارتسمت صورة مريم أختها التي لم تلدها أمها أمام عينيها لتمتلئ مآقيها بالدموع وتبدأ شفتيها بالارتجاف وهي تتذكر صور عديدة لمريم وهما سوية وأثناء مزحهما سوية وخروجهما وعملهما, صور مختلفة عديدة لتصيح بحرقة عالية:
- آآآآآآه.. يا مريم, مريم...
حاول رؤوف تهدئتها لتلفها فجأة غمامة سوداء ويدخل غيث مسرعا على صيحة سلافة والذي صادف وقت رجوعه ليتلقاها بين ذراعهي قبل أن تهوى وتنظر اليه هامسة بضعف ودموعها تسيل مغرقة وجهها:
- انت صح يا غيث, انت صح!.
وتسقط بعد ذلك في تلك الدوامة السوداء التي ابتلعتها لعلها تبتعد عن ذلك العالم القاسي ولو لدقائق في حين هتف غيث بلوعة وهو يعتصرها بين أحضانه موجها حديثه الى عمه الذي ركض الى الخارج طلبا للمساعدة:
- نادي سلمى يا عمي, سلافة هتروح منينا..
لينظر بعد ذلك الى وجهها المغمض العينين الراقد بين ذراعيه بلا حول ولا قوة وقد غزاه الشحوب الشديد مردفا بقسم ووعيد:
- واللي خلج الخلايج لأخد لك ابتارها ودمها ما عيروحش هدر, بس انتي جوميلي يا جلب غيث, جومي يا سلافة, ما تعمليش فيا إكده..
ولكن سلافة كانت هناك في تلك الغيمة السوداء التي ابتلعتها لا تعي شيئا مما حولها!!..
الحلقة التاسعة عشر
(كبير العيلة (منى لطفي
انتهت سلمى من فحص شقيقتها وقالت لوالديها وزوجها المحيطين بها يراقبان ما ستقوله بقلق وترقب:
- اطمنوا هي الحمد لله بخير, الضغط واطي عندها شوية بس..
قال روؤف بقلق في حين اقترب غيث للجلوس بجانب حبيبته وهو يمد يده متناولا يدها لتضيع داخل راحته الكبيرة:
- بس دي مش أول مرة يا سلمى يا بنتي ضغطها ينزل ويغمى عليها؟.
اعتدلت سلمى واقفة وأجاتب وهي تنظر بتركيز الى والدها:
- واضح يا بابا كدا انه فيه حاجة شاغلة سلافة, أو بمعنى أصح قلقاها وجدا كمان, وزي ما ارتفاع الضغط بيكون اوقات عصبي بردو الهبوط في ضغط الدم ممكن يكون لنفس السبب..
اقتربت ألفت من ابنتها وقالت بلهفة الأم:
- طيب والحل يا سلمى يا بنتي؟.
سلمى بمهنية لم تخلو من قلق ولهفة لمعرفة سبب ما يحدث لشقيقتها الوحيدة ولكنها حاولت بث الطمأنينة في نفس أمها المرعوبة على ابنتها بابتسامة صغيرة:
- ما فيش حاجة يا ست الكل, كل الحكاية انها تاكل كويس وتنام كوي سوهي هتبقى زي الفل, فياريت بقى تجهزي لها أحلى أكل من ايديكي عشان لما تصحى تاكل, وأنا مش هسيبها الا لما تخلصه كله..
هتف غيث مقاطعا بلهفة وهو يعب من ملامح فاتنته:
- أني اللي هوكلها بيدي, ما تشيليشي هم يا مرت عمي..
انصرفت ألفت من فورها لتجهيز الطعام ووقتها التفتت سلمى الى والدها الواقف يراقب ابنته الراقدة بلهفة وشفقة ونقلت نظراتها بينه وبين زوج اختها الذي حاكى شحوبه شحوب أختها الراقدة لشدة خوفه وهلعه عليها عندما سقطت مغشيا عليها بين ذراعيه, اقتربت سلمى من أبيها وتحدثت بجدية بالغة:
- بابا لو سمحت سلافة فيها ايه؟, لو سمحت يا بابا سلافة أختي الوحيدة ودي مش أول مرة يجرالها اللي جرى, سلافة مالها؟.
تبادل رؤوف وغيث النظرات قبل أن يزفر رؤوف بعمق ويجيب باستسلام:
- هقولك يا سلمى بس عاوز منك وعد ماما متعرفش, انتي عارفة هي بتقلق أد إيه ولو عرفت مش هتدوق طعم الراحة!.
اقتربت سلمى من والدها ونظرت اليه واضعة يدها فوق كتفه وهي تجيب بقلق ودهشة:
- كلام حضرتك يخض يا بابا, سلافة مالها, وايه اللي حصل بالظبط؟.
فطفق رؤوف يسرد عليها ما حدث منذ لقائها بمريم في القاهرة الى أن سقطت بين يديهم منذ سويعات مغشيًّا عليها..
هتفت سلمى والدموع تترقرق بين مآقيها وهي تنظر الى أختها الراقدة لا حول لها ولاقوة:
- يا حبيبتي يا سلافة, ثم لتسيل دموعها في صمت وتتابع وهي تغمض عينيها بشدة:
- الله يرحمك يا مريم..
ليصدح صوت هاتفها المحمول قاطعا اياها فنظرت ليطالعها اسم شهاب, استقبلت المكالمة وهي تحاول إجلاء صوتها بينما تمسح دموعها بأصابعها الغضّة:
- اهلا يا شهاب, لا ما فيش انا فوق عند بابا سلافة تعبت شوية فبابا كلمني جيت على طول وبلغت سالم أنه يقفل العيادة..
سكتت لتستمع قليلا قبل أن تجيب:
- معلهش يا شهاب كنت مستعجلة وسالم وقف لي توك توك جيت بيه..
أغمضت عينيها قليلا ثم فتحتهما وقاطعته بحزم:
- شهاب معلهش مضطرة أقفل دلوقتي عشان سلافة بتفوق, مع السلامة..
وأغلقت سريعا هاتفها لتغلقه بعد ذلك نهائيا فهي ليست في مزاج رائق لتحمل لوم شهاب لها من عدم محادثته واخباره بل وركوبها في وسيلة المواصلات المنتشرة بكثرة في البلد "التوك- توك" بمفردها...
أولت انتباهها الى أختها اليت كانت تصحو من إغمائها بينما اشتدت قبضة غيث على يدها وهو يهتف بحب:
- سلافة, جومي يا بت عمي..
فتحت سلافة عينيها لتطالعها صورة مهزوزة في أول الأمر ما لبثت أن استقرت الرؤية بعد ذلك لترى وجه غيث يطالعها بقلق ولهفة ومن خلفها ظهرى لها وجه والدها لتأتي شقيقتها من الناحية الأخرى للفراش وهي تهتف محاول المرح:
- صح النوم يا هانم..
ابتسمت سلافة ابتسامة شاحبة وقالت وهي تدير رأسها للنظر الى أختها:
- انا بقالي أد ايه وانا نايمة كدا؟.
أجابت سلمى:
- ساعة يا هانم لما نشفتي دمنا..
قاطعهما صوت الباب وهو يفتح وتدخل ألفت حالة صينية رصت فوقها أطباق عديدة مما لذ وطعام من طعام يفوح رائحته في الجو ليسيل اللعاب, وضعت الصينية فوق الطاولة الصغيرة الموضوعه أسف النافذة الزجاجية العريضة التي تتوسط الحائط المجاور للفراش, ثم اتجهت الى ابنتها لتفسح لها سلمى لتجلس بجوار ابنتها فيما نهضت سلمى لتقف بجوار أبيها الذي تقدم ليميل على صغيرته مقبلا جبينها وهو يقول بحنو:
- حمد لله على سلامتك حبيبتي..
رددت سلافة بوهن:
- الله يسلمك يا بابا..
ثم وعت ليدها المستكينة بين راحتي غيث فنظرت اليها بينما همس لها وعيناه تلتهمان تفاصيل وجهها الشاحب ولكنه لم يفقد جاذبيته المهلكة أمام عينيه:
- وجعت جلوبنا يا بت عمي..
ابتسمت سلافة بضعف وهي تجيب:
- معلهش يا ابن عمي, شوية وهبقى كويسة ان شاء الله..
هتفت سلمى بمرح وهي تشير الى صينية الطعام الموضوعة جانبا:
- لا يا هانم انتي هتخلصي الأكل دا كله, ولما أشوف شطارة خطيبك بقه, هو قال انه مش هيسيبك الا لما تخلصي أكلك كله..
أجاب غيث وهو يتطلع الى سلافة بحب:
- اطمني يا بت عمي, م هفوتها الا لمن تخلص الوكل كلاته..
ألفت بابتسامة:
- أنا عاملة حسابك معاها يا غيث, كل معاها عشان تفتح نفسها, واحنا هنتطلع نتغدى بره ونسيبكم براحتكم.., ثم نظرت الى سلمى متابعة:
- ياللا يا سلمى عشان نحضر السفرة..
ثم نهضت من مكانها بعد أن قبلت ابنتها وانصرف الجميع تاركين سلافة برفقة غيث الذي كان يريد احتوائها وبقوة بين ذراعيه ومنع نفسه من ذلك بصعوبة وليس المانع وحده هو وجود والدها ولكنه لم يعتد على إظهار مشاعره أمام الآخرين..
مال غيث على يدها القابعة في يده مقبلا لها ثم نهض وأحضر صينية الطعام ليضعها بجوارها فوق الفراش ويقول وهو يكشف الأطباق ليستنشق رائحة الطعام الذكية:
- ياللا يا بت عمي.. الوكل دِه لازمن يخلص كلّاته..
ثم رفع يده بمعلقة الطعام ومدت يدها لتتناولها فأبعدها عن متناولها وهو يردف بابتسامة:
- لاه.. أني اللي هوكلك بيدًّي.
ابتسمت سلافة ابتسامة صغيرة ولم تستطع إلا أن تداعبه بمرحها المعهود بينما خرج صوتها يشي بتعبها:
- هتوكلني بيدك وانت تاكل بإيه؟
مال عليها ناظرا في عينيها وقال وهو يضع الملعقة أمام ثغرها الوردي ففتحته تلقائيا ليدفع بها الى داخل فمها وهو يهمس بينما تتقد عيناه بشرارات من نار جعلت الدم يجري ساخنا في أوردتها كالعسل الدافيء:
- هاكل بيدك إنتي!
أطبقت شفتاها على الملعقة تلقائيا وما ان تناولت ما تحمله اليها من طعام حتى سحبها ولم يتمالك نفسه ليهوى على شفتيها بقبلة خفيفة كرفرفة جناح فراشة ولكنها دغدغت أوصالها لتغمض عينيها سابحة في عالم جديد عليها لم تختبره إلا على يد غيثها وحده!!, ابتعد عنها بعد برهة لينظر الى عينيها وهو يهمس بعشق ملتهب يظهر من بين فحم عينيه المشتعل:
- بحبك...
ابتسمت بخفر وأسدلت عينيها حياءا لتمتد يده ويمسك بذقنها بسبابته وإبهامه رافعا وجهها إليه وهو يهمس أمام شفتيها المكتنزتين اللتان تحملان آثار قبلته الملتهبة:
- مش ناوية تفرحي جلبي وتجوليهالي إنتي كومان يا بت عمي؟.
أجابت بابتسامة مداعبة بينما تتراقص شقاوتها في ليل عينيها وهي تمط شفتيها باستفزاز ألهب أحشائه:
- تؤ تؤ تؤ, لسه يا ولد عمي, لمن يتجفل علينا باب واحد ساعتها أفكّر... ( كانت تحاكي لهجته الصعيدية بابتسامة رافعة حاجبها بتحد مرح )..
سكت غيث قليلا ثن وبكل هدوء حمل صينية الطعام ووضعها جانبا, ثم مال عليها فجأة لتميل الى الخلف وهي تشهق بدهشة خفيفة فيميل بدوره مشرفا عليها ويقول بينما عيناه تراقبان ثغرها المكتنز برغبة مشتعلة بين رمادي عينيه:
- اذا كان إكده.. يبجى حضري حالك, زواجنا على أول الشهر اللي جاي, ودِه آخر كلام عندي, ماذا وإلا ما عتلوميش الا نفسك يا بت عمي, أني خلاص صبري خولُصْ..
حاولت سلافة دفعه بعيدا وقالت وهي تضع راحتها الصغيرة فوق عضلات صدره العارمة لتبعده قليلا لتشعر بدقات قلبه المتلاحقة والتي كأنها تتسابق في سباق ماراثوني:
- لا طبعا ما ينفعش, بطّل تهريج يا غيث, وعموما بابا أكيد مش هيوافق, مش هحلق أجهز ولا أعمل حاجة..
نظر اليها بتحد وأجاب:
- طيب إذا جولتلك أننا متى ما خولصنا من مشوار مصر أني كفيل إني أجنع عمي أنه يوافج؟!.
غامت عينا سلافة ما ان ذكر مهمتهما المقبلة في القاهرة, وانطفأ بريق المرح من عينيها لترفع عينان ترقرقت فيهما دموع صامتة وقالت بصوت خافت حزين:
- تفتكر يا غيث هنقدر ناخد بتار مريم وتار سامح وتار كل اللي اتظلموا في الحكاية دي؟.
مد يده وليضعها أسفل رأسها ويقربها إليه ليحتويها بين ذراعهي وقد اعتدل في جلوسه, وقال وهو يربت على شعرها:
- أوعدك يا سلافة ان دم صاحبتك ماعيروحِش هدر ابداً, احنا صعايدة يا بت عمي, وتارنا معنسيبوش ولو كان في حنك السبع, الحجيجة هتبان واللي عِمل العملة ديْ هياخد جِزاه تالت ومتلّت كومان, ودِه وعد منّي..
رفعت ذراعيها لتطوق عنقه وألصقت نفسها به بقوة وكأنها تود الدخول بين ضلوعه بدون وعي منها وهتفت من أعماقها:
- وأنا مصدقاك يا غيث, مصدقاك وواثقة في كلامك ووعدك ليا, ربنا ما يحرمني منك أبداً.
وكان هذا أكثر من كاف لغيث حاليا, فها هي حبيبته وامرأته ترمي بنفسها بين ذراعيه برغبتها مصرحة له بإيمانها به بل إنها تدعو الله ألّا يفرق بينهما, أوليس هذا يعد إنجازا كبيرا بالنسبة له؟!..
*****************
أنهت سلمى تجهيز مائدة الطعام مع والدتها وما إن جلست هي ووالديها لتناول الطعام حتى تعالى رنين جرس الباب, فنهضت لترى من الطارق, فتحت الباب بينما تتعالى الرنات, لتفاجئ بشهاب وهو يقف أمامها فهتفت باسمه بدهشة:
- شهاب!..
تراجعت خطوتني الى اوراء ليدلف شهاب الى الداخل وتحل أصابعه مكان يدها ليغلق الباب خلفه وهو يقول رافعا حاجبه بسخرية:
- إيه مفاجأة؟, ويا ترى بقه حلوة ولا وحشة؟.
قبل أن يتثنى لها الجواب كان صوت والدها يعلو من الداخل مستفسرا عمن يكون الطارق, أشارت بيدها الى الداخل وهي تجيب والدها قائلة:
- دا شهاب يا بابا..
همى شهاب بالكلام عندما هزت رأسها نفيا ثم رفعت سبابتها لتضعها فوق شفاهها وهي تهمس:
- بعدين مش دلوقتي, تعالى نتغدى وبعدين ابقى قول اللي انت عاوزه, بس بلاش دلوقتي مش عاوزة بابا وماما يحسوا بحاجة كفاية اللي هما فيه بسبب سلافة..
زفر بضيق وقال بحدة مكتومة:
- ماشي يا سلمى, لما أشوف آخرتها معاكي إيه, اتفضلي قودامي..
دلفت سلمى الى غرفة الطعام يتبعها شهاب الذي رحب به والديها وهتف رؤوف:
- معلهش يا شهاب لا سلام على طعام, اتفضل حماتك بتحبك..
سحب شهاب مقعدا وجلس بجوار سلمى التي صبت له الطعام في صحن وقدمته له, مرت فترة تنالو الطعام بين أحاديث خفيفة لم تشارك فيها سلمى الا بالقدر اليسير, بعد انتهائهم من تناول الطعام نظر رؤوف لشهاب قائلا:
- انا هستأذن منك يا شهاب يا بني معلهش هدخل أرتاح شوية أحسن ما فصلتش من الصبح وكفاية قلقنا على سلافة..
نهض شهاب واقفا وقال بابتسامة صغيرة:
- اتفضل يا عمي, براحتك وألف سلامة على سلافة..
ألفت بابتسامة:
- عموما هو غيث جوة معاها بيتغدوا سوا, ولو اني معتقدش انه هيسيبها انهرده قلقتنا جامد عليها...
ثم وجهت عبارتها التالية الى سلمى:
- سلمى حبيبتي اعملي شاي لشهاب وشوفي غيث لو عاوز هو كمان, أنا هستأذن أنا كمان يا شهاب يا بني, معلهش يا سلمى شيلي انتي السفرة حبيبتي..
وانصرفت فيما انشغلت سلمى في جمع الصحون الفارغة, ليفاجئها شهاب بإمساكه يدها, رفعت عينيها إليه وقالت بهدوء:
- سيب أيدي يا شهاب..
كان يقف مقابلا لها من الجهة الأخرى للمائدة, فاستدار حول المائدة ليقف مواجها لها وهو لا يزال قابضا على معصمها وأجاب بحدة مكبوتة:
- مش قبل ما أفهم فيكي إيه؟, هتفضلي لأمتى تعامليني إني غريب؟, ازاي تمشي من العيادة من غير ما تقوليلي؟, وازاي تركبي توك توك ولوحدك؟, وازاي أختك تتعب ومعرفش ألا منك بالصدفة؟..
زفرت سلمى بضيق وأجابت:
- أنا مش فاهمه انت ليه عاوز تعمل مشكلة من لا شيء؟, بابا كلمني وقالي الحقي أختك وقعت من طولها وطبيعي أني أجري عليها أول ما أسمع الخبر, مش قصدي اتجاهلك ولا حاجة, وما فكرتش أكلمك, أنا كل تفكيري أني أروح بسرعة عشان أطمن على سلافة..
اشتدت قبضة شهاب على معصم سلمى حتى أنها أطلقت تأوه خفيف واقترب منها حتى ضربت أنفساه الساخنة بشرتها الحليبية وتحدث بغضب مكتوم:
- المفروض أنه انا اول واحد تفكري فيه في الوقت دا.. أنا جوزك يا هانم يعني الوحيد اللي ييجي على بالك أول ما تلاقي نفسك في مشكلة أو مأزق, لكن انتي اتصرفتي وكأني مش موجود, المفروض كنت كلمتيني عشان أجيلك وتروحي تطمني على أختك لكن أنا ولا جيت على بالك بالمرة, وبعدين وبمنتهى التهور والغباء تركبي توك توك لوحدك في بلد انتي متعرفيش طرقها كويس انتي استهتارك دا مالوش آخر؟!
قطبت سلمى بشدة وجذبت يدها من قبضته بقوة آلمتها ولكنها لم تهتم وابتعدت عنه بضعة خطوات الى الخلف وهي تكرر باستهجان:
- أستهتاري؟, أنا!!..
ثم شهرت سبابتها في وجهه وتابعت بحدة قلما تصل إليها:
- شهاب أنا ما اسمحش لأي حد أنه يتكلم معايا بالاسلوب دا, ولآخر مرة بقولك أنا واحدة متعلمة ومش بس كدا لأ أنا دكتورة وسافرت لوحدي في قوافل طبية كتير من وأنا في الكلية كمان, يعني متعودة أني اعتمد على نفسي, الموقف اللي حصل شل تفكيري أختي تعبانه ومغمى عليها ولازم أروح أشوفها, تعتقد هيكون فيا دماغ أفكر أروح إزايْ؟, اللي كان شاغلني مش ازاي أروح لا أنا كان شاغلني أني أروح لها وبسرعة, يعني الموضوع مافيهوش أي تقليل منك ولا قصد مني أني ما أكلمكش, ودي آخر مرة أسمح لك انك تكملني بالاسلوب دا!.
سكتت تلهث من فرط انفعالها, فيما وقف شهاب يطالعها بغموض قبل أن يتحدث بهدوء يشبه السكون قبل العاصفة:
- والمشكلة هنا!, أنتي بتقولي انت ما تسمحيش لحد انه يكلمك بالاسلوب دا.. لكن أنا مش حد!, أنا جوزك يا.. دكتورة, دا أولا.. ثانيا بقه.. أنا لو كنت فعلا مهم عندك كنت تلقائيا هتفكري فيا أول واحد, النفروض جوزك يا هانم هو دا اللي تلجئي له وقت شدتك, وغضبي أنك ركبت التوك توك دا مش تحكم فيكي ولا حاجة.. لا... دا خوف عليكي يا مدام, الموضوع مافيهوش دكتورة ولا متعلمة ولا جاهلة, لو لاق در الله مثلا طلع السواق ابن تيت مش هيسأل اللي راكبة معاه انتي متعلمة ولا جاهلة ولا دكتورة ولا ست بيت, وشهادتك مش هتخليه يبعد عنك مثلا, فهمت بقه يا دكتور ان الموضوع مش فرض رأي ولا حاجة, وحاجة أخيرة بقه..
سكت قليلا ليتقدم ناحيتها ويقف قبالتها تماما قبل أن يميل عليها لينظر الى غابات الزيتون في مقلتيها وهو يشدد على كل حرف يخرج منه:
- حكاية أنك مش هتسمحي لي اني أكلمك كدا تاني.. اوعي الجملة دي تتكرر منك تاني, أنا جوزك مش مراتك يا هانم.. يعني تاخدي بالك كويس أوي من كلامك بعد كدا.. وصدقيني لو اتكرر منك موقف انهرده دا او كلامك الخايب دا رد فعلي وقتها هيكون عنيف وعنيف جدا كمان, أنصحك ما تحاوليش تجربيه!.
ثم تركها بعد أن رماها بنظرة غضب حارقة امتزج فيها خيبة أمل جعلتها تقف لا تعلم كيف تجيب, هي لا تنكر أنها قد احتدت عليه بعبارات حادة ولكنه هو من دفعها الى ذلك, ولم تستطع اقصاء خوفه عليها الذي لمحته في عينيه ولمسته بين أحرف كلماته بعيدا عنها, فهو قد دغدغ مشاعر الأنثى بداخلها بخوفه وحرصه الذي لمسته في صوته, لتفاجأ بنفسها وهي تهتف باسمه عاليا ملتفتة اليه:
- شهاب..
ليقف قليلا بينما قطبت وهي تعض على لسانها الذي ناداه من غير وعي منها, نظر اليها من فوق كتفه وعلّق ببرود:
- أفندم؟, فيه حاجة يا دكتورة؟!.
سارت باتجاهه تقدم قدم وتؤخر أخرى الى أن وقفت أمامه تماما بينما أشاح برأسه هو الى البعيد, بلعت ريقها وقالت بصوت حاولت أخراجه ثابتا فخرج مهزوزا ضعيفا:
- أنا.. أنا آسفة, ما أقصدش المعنى اللي وصلك, لكن..
نظر اليها شهاب وهو يقول بذات البرود:
- لكن إيه يا بنت عمي؟.
نظرت اليه سلمى بعينين تغشاهما سحابة رقيقة من الدموع حاولت حبسها:
- أنا والله ما أقصد اللي جه في بالك, لكن زي ما تقول الخضّة على سلافة شلِّت تفكيري, معرفتش أفكر, لدرجة أني نسيت أقول لسواق التوك توك انا ساكنة فين, ولما قلت له استغرب وقالي كنت قولتيلي صراية الحاج عبدالحميد الخولي وانا كنت هعرفها على طول, دا غير اللي انا عرفته من بابا, كل دا خلّاني عصبية ومش قادرة أتلم على نفسي..
قطب شهاب وعلق:
- وايه اللي انتي عرفتيه من بابا خلّاكي كدا؟.
نظرت اليه بعينين شفافتين مجيبة:
- الأول قولي انك مش زعلان, أنا عارفة انى زودتها معاك, بس غصب عني والله..
شهاب بابتسامة شاحبة:
- يفرق معاكي زعلي أوي يا سلمى؟, لو كان يفرق ما كونتيش قفلت الموبايل بتاعك وخليتي قلقي يزيد لدرجة انى أجي على هنا على طول وما امشيش لما عمي قال انه تعبان وعاوز ينام, كنت لازم أفهم منك فيه ايه, وانتي لغاية دلوقتي ما قولتليش فيه ايه؟.
قالت سلمى زافرة باستسلام:
- هقولك.. تعالى نقعد في الصالون وانا هحكيلك على كل حاجة..
انتهت سلمى من سرد حكاية مريم التي أخبرها بها والدها, علق شهاب فور انتهائها من سردها:
- يا ولاد الـ... دي بلطجة وإجرام عيني عينك, الناس دي لازم تتشنق وفي ميدان عام كمان..
ترقرقت الدموع في عيني سلمى وأجابت وهي تستند بظهرها الى المقعد خلفها:
- عارف يا شهاب.. مريم دي كانت أختنا التالتة, بنت زي الملاك, في طيبتها وروحها الحلوة, لما اتخطبت لسامح كلنا فرحنا لها أوي, كانت فرحتهم ببعض كبيرة جدا..
نظرت اليه بينما انسابت دمعة كحبة اللؤلؤ انسابت تخدش نعومة بشرتها الحريرية فيما تتابع بحزن عميق:
- ليه يا شهاب؟, مش حارم بنت في عز شبابها يعملوا فيها كدا؟, اغتصاب وقتل!, معقول فيه إجرام بالشكل دا؟!..
امتدت يده ليمسح بابهامه دمعتها الوحيدة وهو يواسيها قائلا:
- هي راحت شهيدة يا سلمى, وتأكدي ان دمها مش هيضيع هدر, شوفي يا سلمى لازم تعرفي ان كل حاجة في دنيتنا سلف ودين, يعني لو دلوقتي لاقيتي القاتل طلع براءة بالقانون اللي مش بيتعامل الا بالورق وبس.. لازم تعرفي انه المجرم هياخد جزاؤه وبالكامل, يمكن مش بقانون البشر لكن بالقانون الإلاهي, يعني مثلا اللي اغتصب سلمى وقتلها معندوش أم.. أخت.. بنت.. زوجة؟, أكيد عنده... هييجي اللي يعمل فيه نفس اللي هو عمله في بنت الناس, افعل ما شئت يا سلمى فكما تدين تدان, وبالنسبة للموضوع دا مش غيث وسلافة لوحدهم الي هياخدوا بتارها لأ.. أنا وانتي كمان لازم نساعدهم, دا مش تار مريم لوحدها.. دا تار ناس ربنا ابتلاهم بمرض خطير وبدل ما نساعدهم ونهون عليهم..لأ.. طلع شوية بلطجية ومجرمين بيتاجروا بآلام الناس دي وبحلمهم في الشفا وبيسرقوهم عيني عينك, الناس دي لازم تتكشف.. ومش بس كدا.. دي لازم تدوق من نفس الكاس... وهيحصل!..
لم تتمالك سلمى نفسها وألقت بنفسها بين ذراعيه هاتفة وهي تخبأ وجهها في كتفه العريض:
- ياااااه يا شهاب, ما تتصورش كلامك ريحني أد إيه, أنا معرفش من غيرك كنت عملت إيه!..
لم يصدق شهاب ما تسمعه آذانه, هل هذه سلمى الباردة تلك التي ألقت بنفسها بين أحضانه جاهرة بأهميته لديها؟!..
شدد من احتضانها ساندا رأسه الى شعرها وهو يقول:
- ولا أنا يا سلمى.. أنا كمان مش عارف أنا كنت عايش قبل ما تدخلي حياتي؟!.
رفعت سلمى رأسها ناظرة في عينيه لتتيه بين دخان مقلتيه فيما أردف وهو يميل عليها بنظرة راغبة مشتاقة:
- أنا بحبك يا سلمى, بحبـ...
لتتيه باقي أحرف اعترافه بحبها بين شفتيها التي فغرتهما دهشة من اعترافه لها بحبه فلم يستطع المقاومة ليقطف ثغرها الشهي بقبلة تحمل أشواقا جمّة فيتنفس أنفاسها ملتهما شهقتها بين أنفاسه الساخنة...
بعد وهلة كبيرة اضطر للابتعاد عنها لحاجتهما الى الهواء ولكنه رفض الابتعاد عنها ليظل محيطا خصرها بذراعيه القويتين بينما أغمضت عينيها وابتسامة خجولة سعيدة ترتسم على شفتيها اللتان تحملان أثر اكتساحه لها وهي تدفن وجهها في صدره الواسع بينما تطرق دقات قلبها السريعة سمعها بقوة شديدة هاتفة باعتراف لم يتعدى شفتيها بحبها لهذا المقتحم الذي انتزع حبها سارقا قلبها بالرغم منها!!.
*******************
- سلسبيل.. مالك يا ابنيتي؟, حالك مش عاجبني اليمين دول؟.
انتبهت سلسبيل من شرودها على سؤال زوجة عمها, فحاولت رسم ابتسامى صغيرة وأجابت:
- ها... لاه يا مرت عمي ليه بتجولي إكده.. ما آني زينة أهاه؟!.
أم ليث بنظرة مشككة:
- كيف ديه؟, انتي ما واعياشي لروحكي؟.
ثم أردفت متابعة بحنق:
- أني عارفة من إيه؟.
لتشعر سلسبيل بختفاء الهواء من حولها وترد وقد وجدت صوتها بصعوبة بينما شحب وجهها بشدة:
- عارفة؟, عارفة ايه يا مرت عمي؟..
أم ليث من دون أن تنتبه للتغير الذي أصاب كنتها:
- من يوم كتب كتاب خواتك وانتي متغيرة, أكيد عين ما صليت ع النبي هي اللي صابتك يا نضري ( اللهم صلي عليك يا نبي).
كتمت سلسبيل زفرة ألم عميقة وهي تتمتم في سرها أن هذه الليلة كانت بالفعل السبب في ما أصابها من تغير بعدها ولكن ليس السبب عين أصابتها بل... هو من أصابها!..
انتبهت على صوت حماتها وهي تناديها بإلحاح فالتفتت ناحيتها وهي تقول بابتسامة شاحبة:
- ها.. جولتي حاجة يا مرت عمي؟.
نظرت اليها حماتها بعطف وقالت:
- لاه يا نضري, جومي ريحي في دارك شويْ, ومالكيشي صالح بالصغار أنا موجودة وهوصي البت وردة تاخد بالها منِّيهم زين..
ابتسمت سلسبيل شاكرة لحماتها واستأذنت منصرفة فهي بالفعل تشعر أنها في حاجة للراحة والنوم العميق الذي هاجرها منذ تلك الليلة من أكثر من اسبوعين... ليلة عقد قرآن شقيقيها والتي كانت ليلة.... زفافها الحقيقية!!..
دلفت سلسبيل الى غرفتها مغلقة الباب خلفها وسارت حتى مرآة الزينة لتجلس على مقعدها المكسو بقماش صوفي فاخر ثم طالعت صورتها المنعكسة في المرآة أمامها, جذبت وشاح رأسها وحلت ربطة شعرها لينفلت من عقدته وينهمر كالشلال لتلامس أطرافه الأرض, عقدت يديها واستندت بجبينها اليهما وهي ترحل بذاكرتها الى تلك الليلة الليلاء!..
بعد أن عادوا من عقد القرآن تعمدت سلسبيل التلكؤ فهي تعلم أن ليث سيصب جام غضبه فوق رأسها, فقد توعدها أن عدم طاعتها لأمره لن يمر مرور الكرام, بعد أن نفدت جميع الحجج لتأخيرها اللحاق به الى جناحهما صعدت كمن يساق الى المشنقة, دخلت الى جناحها, وأغلقت الباب خلفها, سارت الى داخل الغرفة قليلا ليسترعي انتباهها صوت المياه تدفق في الحمام, فعلمت أنه بالداخل, سريعا أخرجت ثوبا للنوم, وجلست على طرف الفراش في انتظار خروجه, فهي لن تجازف بإبدال ثيابها فقد يخرج في أية لحظة وهي لا تريد المغامرة بأي شكل, فيكفيها القلق الذي يعتريها منه وهي تلعن شيطانها الذي وسوس لها لتحديه فلم تكن ستخسر شيئا إن كانت استمعت اليه وأطاعته وبدلت عبائتها اللعينة تلك, ولكنه غرور الأنثى الذي أثاره داخلها ولأول مرة تشعر به ما جعلها توافق حماتها وتستمر في تحديها له الى النهاية, ما يجعلها تندهش من ذاتها فهي لم تكن كذلك أثناء زيجتها الأولى, صحيح أن راضي كان يهيم بها حبًّا ولكن لم يسبق لها وأن خضعت لشيطان تمردها بل وما شعرت به من غرور الأنثى لم يسبق لها وأن شعرت بهذا الإحساس قبل ذلك..
خرج ليث وكان يرتدي سروالا قطني فقط بينما تلمع قطرات المياه على عضلاتت ظهره المشدودة, كان يخفي وجهه في منشفة قطنية يقوم بتجفيف شعره بها, قفزت سلسبيل واقفة ما إن أبصرته بهذا الشكل وقد احمرت خجلا حتى كاد الدم يطفر من وجنتيها, لم تكن قد سارت خطوتين عندما صدح صوت ليث آمرا:
- على فين يا بت عمي؟.
تسمرت سلسبيل في مكانها, هي تعلم جيدا هذه اللهجة الآمرة وتخشاها, كثيرا ما نشفت الدم في عروق أعتى الرجال, ليعود اليها خوفها الأزلي منه, حاولت لملمة شتات نفسها واستدارت لتجابهه, تقدم منها وقد لف المنشفة حول عنقه القوي, بينما لا يزال جذعه العلوي عار وقطرات من المياه تجري على طول صدره لتختفي أسفل سرواله, أشاحت بنظراتها بعيدا بينما نظر اليها ليث بنصف عين وأردف ساخرا:
- ما عتبوصيش ليه يا مرتي المصون؟, فالحة بس تعصيني وتكسري كلمتي؟, لسانك بلعتيه ولا إيه؟.
ازدرت ريقها بصعوبة وأجابت وهي مشيحة بوجهها الى البعيد:
- أني مش فاهمه انت عاوز توصل لإيه بالحديت ديه. الله يرضى عليك يا ولد عمي أني تعبانه وعاوزة أنام, وبعدين انت بتزعج لي اني ليه مش مرت عمي هي اللي جابت لي العباية دي وصممت اني ألبسها, وجودامك لمن انت جولتلي أبدلها رفضت يبجى أني ماليش صالح, يا زعِّل مرت عمي يا زعلك إنت.. وفي الحالتين كنت انت هتزعل مني برضيكي... ما هو لو مرت عمي غضبت مني انت كومان عتغضب مش امك واللي يزعلها يزعلك!..
ابتسم ليث ابتسامة شريرة ومال عليها قائلا بسخرية:
- ايه ديه يا بت عمي.. من ميتى وانتي بتردي على كلامي إكده؟, انت كنت عم بتحفظي في الكلمتين دول طول الليل ولا إيه؟.
أجابت سلسبيل محاولة اخفاء حنقها من سخريته منها:
- لاه مش إكده.. بس أني معًرف شانت بتزعج لي دلوك ليه؟.
ليث وهو يقبض بقوة على مرفقها باغتتها ومن بين أسنانه المطبقة تحدث بغضب دفين:
- انت هتستعبطي يا سلسبيل؟, جولتلك التياب دي غيريها يبجى تسمعي وتنفذي من غير كتر حديت, وأمي مالكيشي صالح بيها, انتي كانُّه اللي عملته أمي جاه على هواكي, عشان إكده اتحججت بيها, جولي انك عاوزاهم يجولوا انك لساتك حلوة وصغيرة.. بس اللي أعرفه يا سلسبيل انه البنتّه هما اللي بيبجوا عاوزين الناس تنضر جمالهم لكن المتزوجة معيهمهاشي غير راي زوجها وبس, ما بتبجاشي عاوزة تكون حلوة غير في عينيه هو وحديه, مش طةل اليوم حتى شعرها ساتراه كانها عايشة مع واحد غريب عنِّيها لكن مع الناس الخلجات الجديدة والزينة والشعر السايح اللي بيسرج العين, واحدة زي ديْ تبجى إيه يا مرتي.. ما عترديشي يعني؟, ايه الجطَّة كالات السانك؟!.
تلعثمت سلسبيل في الرد وهي تجيب بينما تحاول الفكاك من قبضته دون طائل:
- جصدك ايه يا ولد عمي؟, انت خابر زواجنا كان كيف؟, انت كنت أخو زوجـ......
ليسارع ليث بكتم صوتها براحة يده الحرة بينما تضغط الأخرى على مرفقها بقوة وآلمتها وهمس بصوت كالفحيح يحمل بين طياته غضبا وحشي:
- انى دلوك زوجك.. مالكيش زوج تاني غيري.. ومش هيكون يا سلسبيل, اوعاكي أسمعك تجوليها تاني.. أني زوجك حطيها في دماغك زين الكلمة ديْ ولو ما كونتيش واعيالها زين...
وسكت قليلا ليتابع ببطء وجدية شديدة بينما تقبض ذراعيه على خصرها كالكماشة بقوة باغتتها حتى كادت تعتصرها مما جعلها تتلوى بين يديه محاولة الافلات بينما يكمل بعزم شديد:
- أني هخليكي توعيلها يا سلسبيل.. وتحفظيها كومان... وصدجيني بعد الليلادي معتنسيهاشي واصل!..
حدقت سلسبيل في وجهه برعب وهمست بصوت مرعوب:
- جصدك إيه....
ليبتلع باقي عبارتها بين شفتيه التي اعتصرت شفتيها, كانت القبلة أشبه بإعصار ضربه فهو لم يكن يتخيل ولو في أعظم أحلامه جموحا أن تكون لقبلته لها مثل هذا الأثر!, وكأنه قد لمس سلكا كهربائيا عار وذو تردد مرتفع ليصيبه بشرار ناري يسري بطول عموده الفقري حتى سائر أطرافه, كانت ترفرف كالعصفور بين ذراعيه محاولة الافلات منه ولكن هل لعصفورة صغيرة أن تفلت من بين براثن نسر جامح كاد جوعه إليها أن يفتك به؟!, وكأنه تعب من ميله لها لترفعها ذراعاه لنصبح رأسها بموازاته بينما ارتفعت يده تتغلغل خصلات شعرها الأسود المخملي, وهو يعمق قبلته بقوة وقد غاب عن دنياه تائها في عالم آخر لا يوجد فيه سواه هو وسلسبيله.. تلك النبع الصاف الرائق الذي ينهل منه ليروي عطشه الذي طال سنوات عمره كلها, عالم لا مكان فيه إلا له هو وحلم صباه ومراهقته بل وعمره كله, حلمه الذي كان محرما عليه فاضطر للتفتيش عن بديل له بين أوجه النساء فلم يجد لها بديلا, كان الأمل يتجدد كلما تزوج من أنه سيجد من تحل محلها.. ولكن كان يمنّى بخيبة أمل قوية, حتى تعددت زيجاته الى ثلاث مرات لم تصمد سسوى واحدة فقط ولستة أشهر فقط, وفي أي من زيجاته الثلاث ما أن يطلبن الانفصال حتى يسارع بتلبية طلبهن وكأنه يزيح عن كتفيه حملا ثقيلا, وفجأة.. يصبح حلمه... علما!, ويصبح حلالا كاملا له بكل ما للكلمة من معنى, لم يكن يريد تحقيق حلمه بهذه الطريقة بل لو خيروه من أن يبقى راضي على قيد الحياة ( أستغفر الله ) أو يتخلى عن حلمه لكان اختار التخلي عن حلمه وبدون تردد, والآن ما إن احتواها بين ذراعيه وذاق شفتيها تلك الثمرة المحرمة والتي لم يذقها سوى مرة واحدة منذ زواجهما ولا تزال طعمها في شفتيه, حتى نسي كل شيء آخر سوى أنها إمرأته هو... خاصته هو وحده, وليرحمه الله فهو لن يستطيع التوقف الآن ليس وقد اكتشف أن الواقع أجمل آلاف المرات من الحلم, ليس وهو ينهل من شهد شفتيها ليروي عطشا دام سنين طويلة!..
وضعها فوق الفراش بحنان ورقة كمن يخشى على إناء خزفي من الكسر, وأشرف عليها لتنظر اليه بعينيها السابحتين في بركة الشوكولاتة الذائبة, بينما شفتيها منتفختين تحملان علامة ملكيته لهما, قال لها وهو يلهث بينما راحتها الصغيرة ترتاح على كتفه الأيسر لتستشعر دقات قلبه الواضحة السريعة:
- أني زوجك يا سلسبيل... جوليها... زوجك!!..
كان يطالبها بإصرار واستماتة قوية, بل أنها تكاد تقسم أنها لمست لمحة ترجي في صوته!, ورغما عنها أجابت بينما يستجيب جسدها الخائن للمساته الجريئة:
- انت زوجي يا ليث... زوجي...
ليهتف عاليا باسمها ويميل عليها مغرقا إياها في عناق كاسح لم تستطع الصمود أمامه لترفع راية الاستسلام, بينما يرحل معها الى بحر عاتي الأمواج فتغرق معه في أعماقه لتكتشف سلسبيل أخرى لا تعرفها, سلسبيل كلما غاص معها الى عمق منه أرادت الغوص معه الى عمق أبعد.. سلسبيل وُلدت على يديه هو... لتصبح سلسبيل خاصة بـ ليث فقط!!
عادت من ذكرياتها وهى تمسح دموعها الصامتة, نظرت الى نفسها في المرآة وهي تقول بينما وجهها يحمل تعبير حزن خالص:
- بتعيطي ليه دلوك؟, مش ده اللي كنت عاوزاه؟, كنتي عاوزاه يبعد عنيكي ويهملك؟, نسيتي اللي اعملتيه؟, م انتي اللي صرخت في وشه تاني يوم انك كارهاه لانه جبرك عليه؟, لو انت صادجة كنت اعترفت انه اللي حوصل بيناتكم كان لانك رايداه كيف ما كان رايدك تومام, لكن انتى جبانة.. جبانة...
قفزت واقفة وصاحت بصوت عال:
- لاه.. أنى مش جبانة.. هو السبب.. انى ما كونتش عاوزة إكده.. راضي لساته جوايا حتى لو مش بجدر أنطج باسمه بيني وبين نفسي.. ازاي أجدر أنساه بسهولة إكده؟, انا ضعفت.. كانت لحظة ضعف وراحت إلحالها, وجدرت أخليه يبعد عني..
صدح صوت بداخلها يسألها بسخرية:
- وراضية ببعاده عنيكي إكده؟, انتي بتضحكي على نفسيكي يا سلسبيل, فوجي يا سلسبيل جبل فوات الأوان, راضي زوجك مات وانت دلوك زوجة ليث.. ليث الخولي يا سلسبيل.. عارفة يعني إيه ليث الخولي.. يعني من أصغر بت لأكبر بت في كفر الخولي يتمنوا التراب اللي بيمشي عليه...
غطت آذانها براحتيها وهي تهمس بتعب:
- بس.. كفاية.. خلاص ما جادرش..
ليقاطع حديثها مع نفسها صوت طرقات عالية, فأسرعت بمسح دموعها وأمرت الطارق بالدخول, كانت وردة الخادمة دخلت وهي تبتسم بارتباك, نظرت اليها سلسبيل وقد عادت للجلوس ثانية وقالت بتعب:
- فيه حاجة يا وردة؟.
تلعثمت وردة وتأتأت كثيرا فهبت سلسبيل واقفة وهي تنهرها:
- ما تنطجي يا بت فيكي إيه, أني معنديش روح ليكي!
قالت وردة وهي تكاد تبكي:
- هجولك يا أم عدنان بس سايجة عليكي النبي ما تجوليشي لليث بيه انه أني اللي جولتلك..
زفرت سلسبيل بضيق وهتفت:
- اللهم طولك يا روح.. انطجي يا بت..
أجابت وردة بخوف:
- شوفي يا أم عدنان أني لومن لحم كتافي أني وأمي من خيركم ما كونتش حكيت لك حاجة.. بس يعلم ربنا اني بحبك وبعزك كيف.
قطبت سلسبيل وزجرتها:
- ما تجولي على طول فيه ايه من غير رغي كَتير؟
مالت وردة باتجاهها هامسة وهي تتلفت حولها وكأن هناك من سيسمعها:
- انتي خابرة ان شافعي اخو صابر الغفير جايل عليا, ومن يامين جالي انه بيسهر مع سي ليث في...
وسكتت قاضمة شفتهيا فتأفأفت سلسبيل وهتفت:
- ما تنطوجي يا بت فين؟
فنطقت وردة وكأنها تلقي بحمل ثقيل من على أكتفاها:
- في جهوة وداد الغازية!
وكأن أفعى قد لدغتها ما إن سمعت باسم المكان الذي يسهر فيه زوجها وهتفت بحدة بالغة وبغير تصديق:
- انت عم بتخرفي بتجولي ايه؟!, خافت وردة وهتفت:
- والله العظيم اني ما كدبت في ولا حرف جولتهولك..
أشاحت لها سلسبيل بيدها تأمرها بالانصراف وهي تقول:
- طب روحي دلوك, واوعاك تجولي لحد اني عرفت حاجة والا هحول لليث بيه ان شافعي هو اللي فتن عليه.. وشوفي انتي ليث بيه بجه هيعمل فيه ايه؟, بتهيالي انت خابرة زعله شين كيف؟!.
أومأت وردة بلهفة وقالت:
- لاه مش هتحدت في الحديت ديه واصل, وفرّت من أمامها تاركة سلسبيل وهي تتوعد ليث في سرها...
وهناك في مكان تصاعد فيه دخان النرجيلة والضحكات العالية, دلفت تتهادى في مشيتها, ترتدي ثوبا يلتصق بثناياها ليبرز منحنياتها الأنثوية المثيرة, بينما تشق طريقها وسط الرجال الجالسين يريد كل منهم أن تمن عليه ولو بنظرة من عينيها الناعستين المكحلتين بالكحل العربي أو أن تبتسم له بتلك الشفاه الأنثوية المثيرة المصطبغة باللون الأحمر القان.. ولكنها لم تكن تهتم سوى بواحد فقط.. تسير باتجاهها واضعة إياه نصب عينيها, رجل واحد من استطاع سلب اهتمامها بعدم اهتمامه بها, خطف قلبها ببرودة قلبه الواضحة, أصبح حلمها الذي أقسمت على تحقيقه, انه هو ... ليثها... ليث الخولي!, من لم تنل منه سوى نظرة باردة وهو يراقب تقدمها ناحيته بينما الآخرين يكاد الجنون يصيبهم لهفة لخطب ودها... لتستحق وعن جدارة اسمها لتكون... وداد... وداد الغازية!!.
الحلقة العشرون
كبير العيلة (منى لطفي)
دخل ليث الى غرفتهما ليبدل ثيابه, أغلق الباب خلفه وتوجه الى الأريكة المقابلة للفراش حيث ينام منذ أن استيقظ صباح تلك الليلة البعيدة ليرى عينيها تلمعان ببريق حقد أسود مكيلة له الاتهامات من أنه قد أجبرها على ما لا تريده, لتحتل البرودة والصقيع سائر أطرافه ولم يجابه انفجارها الصارخ الا بكل برودة ثلجية مخبرا إياها أن تنعم بفراشها وحدها فهو لن يكرر خطأ الليلة السابقة!, مر على تلك الليلة أكثر من اسبوعين يهلك نفسه في العمل نهارا وما أن يأتي المساء حتى يذهب للسهر خارجا في ذلك المقهى الذي تديره تلك السيدة المتصابية " هانم" وابنتها الغازية... وداد!!..
جلس فيوق الأريكة خالعا نعليه ثم أسند ظهره الى الخلف مغمضا عينيه لترتسم ابتسامة ساخرة على فمه الشهواني, فهو يعلم أنه لا يزال أمامه ليلا طويلا مؤرقا الى أن تشرق الشمس, ولولا احترامه لوالده ولا يريد إثارة الأقاويل عن علاقته بسلسبيل لم يكن ليرجع الى هذا المكان العابق بأنفاسها والذي يحرمه لذة الراحة!....
تنفس عميقا وهو يهمس باسمها بينه وبين نفسه:آآآآه يا سلسبيل, لقد سرقت القلب والعقل معا!, لا يعلم كيف تغلغلت أسفل جلده وداخل مسامه ليستنشق حبها الذي أصبح هوائه بتلك الطريقة, قبل زواجه بها كان قادرا على الصمود أمامها واخفاء ما يعتمل من عشق مجنون مُحال بالنسبة له, ولكن ما إن ذاق حلاوة قربها واختلطت أنفاسه بأنفاسها حتى أصبح البعد عنها أشبه بالموت حيًّا!, لقد تضاءلت أمامها سائر النساء الأخريات, لم تعد تثيره أية قامة نسائية مهما كانت صاحبتها هيفاء بل تملك كل مقاومات الجمال, واليوم أقرب مثال على هذا!, هو يعلم بإعجاب وداد الغازية به, هو ليس بأعمى.. هو يعلم جيدا كيف تنظر اليه بشهوة حارقة وعلى يقين أنه ما إن يشير إليها بإصبعه الصغير حتى تأتي مهرولة إليه لتلقي بنفسها أسفل قدميه وعن طيب خاطر منها, ولكنه لا يريد سوى واحدة فقط.. أنثى بكل ما في الكلمة من معنى.. واحدة عرف معها معنى أن يكون حيًّا.. وليس مجرد أن يحيا!, أنثى رفعته في ليلة واحدة وحيدة الى أعلى السماء ولكن.. لتتركه يهبط وبسرعة الصاروخ في الصباح الى أسفل الأرض وبقوة مدوية كادت تكسره!, ولكنه لم يكن ليُكسر حتى لو كانت روحه معلقة بروحها!, فهو الليث... ليث الخولي, وسيكون ملعونا لو ترك أيّما إمرأة تسيطر عليه.. ولكن المضحك المبكي انها ليست أية إمرأة انها.. سلسبيل.. سلسبيله هو.. نبعه الراقي العذب الصافي.. تلك التي انتظرها سنوات عمره كله, التي خطفت قلبه منذ أن فتحت عينيها وكانت لا تزال رضيعه وهو يراها محمولة على يدي جدته تقربها منه باسمة وهي تقول انظر اليها ليث.. انظر الى عروس عائلة الخولي... ليعلن بداخله بسنوات عمره العشر أنها ليست بعروس عائلة الخولي.. بل عروسه هو!!..
كانت تكبر أمامه يوما بعد يوم ليكبر حبها في قلبه, وما ظنه أضغاث طفولة أصبحت الحقيقة الوحيدة الواضحة في حياته!, كان يعد الأيام حتى يستطيع تكليل حبه لها بالزواج, ليصبح من حقه التعبير لها بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة عما يكنه لها في قلبه من عشق سرمدي مجنون!, يريد إخبارها أنه أبدا ليس بقاس عليها ولكنه يعتمد هذه القسوة في التعامل معها لأن البديل أن يأخذها بين أحضانه فلا يفلتها أبدا, كان يتحكم بصعوبة شديدة في وحش حبه لها والذي كان يهدد بالإفلات من سيطرته عليه, فكان يضغط وبقسوة على نفسه ما إن يرى عينيها البندقيتين تطالعانه بذلك القلق والريبة ولكن هناك في أعماق عينيها رآها.. رآى تلك النظرة المتسائلة المستفسرة, نعم هي كانت تشعر أن هناك شيء بينهما, لم تكن تخافه بالمعنى المفهوم, فمن يهاب إنسانا يبتعد عنه تماما, ولكنها لم تكن تبتعد إلا لتعود ثانية.. تماما كما الفراشة تخاف من الضوء ولكنها تحوم حوله, وقارب صبره على النفاذ ولكنه كان يمني نفسه بقرب اللقاء.. فهاهي عروس أحلامه قد شارفت على السادسة عشر, فلينتظر قليلا.. قليلا بعد.. قبل أن يصرح لوالده بخطبتها له.. وعلى النقيض منه كان راضي.. كان شقيقه الذي يصغره بخمسة أعوام من يتعجل الزواج, كان كثيرا ما يلح على والدته أن تخطب له فهو يرغب بالزواج.. ولكنها كانت ترفض وبشدة فكيف للصغير أن يتزوج قبل شقيقه الأكبر؟!, وهو كان يشك بأن أخيه الأصغر يريد واحدة بعينها ولهذا كان قلة صبره, وهو خير من يعلم ما الذي يفعله الشوق بالوجدان, فأشفق على شقيقه بأن يعاني مما يكابده هو, ليكون هو من يقنع أمه أن تلبي رغبته وهو من تكلم مع والده والذي وافق بشرط واحد.. أنه لن تتم خطوبة راضي رسميا الا بعد أن يخطب هو..
كان وقتها على وشك السفر لمتابعة بعض الأعمال العالقة في القاهرة, فوافق على شرط والده, فهو الآخر قد استبد به الشوق ولم يعد يطيق صبرا على بعاد حبيبته عنه, وسافر دون أن يدري من التي سلبت قلب شقيقه فعندما سأله لم يرد أخباره وقال له أنه لا يريد ذكر اسمها قبل ان تعلن موافقتها عليه فقد يكون حبه لها من طرف واحد وقتها هو لا يريده أن ينظر اليها بأي منظار قد يسيء إليها.. فعلم ليث أنها لا بد من العائلة وهذا أمر ليس بغريب فمن المعروف أن بنات عائلة الخولي لا يتزوجون إلا من أبناء العائلة, وسافر وغاب أكثر من شهر علم خلالها أن أخاه قد خطب ولكن ليس بصورة رسميه فقد اكتفى والده ووالد العروس بقراءة الفاتحة لحين عودته هو وتنفيذ نصيبه من الاتفاق مع والده... الزواج!, ومن الغرابة أنه لم يهتم بالسؤال عن العروس!, فقد كان شاردا بفرح وتِيه في قرب حصوله هو على حلم حياته, وعاد ليث.. ليفاجأ براضي يستقبله بالأحضان, وبعد مباركته لأخيه سأله بابتسامة عمن تكون العروس تلك التي سلبت قلبه وعقله ليخبره والفرحة تتراقص بين مقليته أنها... سلسبيل!!, وقتها قطب وكأنه لم يسمع وتحولت الابتسامة الى ابتسامة مرتابة وهو يسأل: من سلسبيل؟, ليجيبه راضي بضحكة عالية... ابنة عمنا عثمان!, وقتها شعر أن الهواء قد توقف ولم يعد يعبث بأوراق الأشجار حوله, بل شعر بالاختناق التام.. ليشحب وجهه شحوبا يحاكي شحوب الموتى, ولكن كل ذلك لم ينتبه له أخيه العاشق الذي هتف له بحبه لها.. قائلا أنه لم يصدق عندما أعلن عمه موافقته على طلبه.. وأنه لن يستطيع الصبر لاتمام زواجه بها.. ولم يكتف بغرز السكين وبعمق داخل قلبه بل أنه قد حركه ليلويه أكثر وهو يسأله بالحاح أن يخطب سريعا ليستطيع هو الحصول على سلسبيله!..
سلسبيل منْ؟, أيعقل أن تنتمي سلسبيل لغيره؟, لو لم يكن أخيه شقيقه إبن أمه وأبيه الذي يجري في عروقه ذات الدم أقسم لكان قد دفنه في مكانه حيًّا, ولكنه.. إبنه وليس شقيقه فقط!, كان دائما ما يشعر نحوه بغريزة الحماية... ولأنه الأكبر.. الأقوى...والأقدر.. كان لا بد له من الابتعاد بل وأن يجتث قلبه من صدره ويدفنه.. فهي قد أصبحت محرمة عليه.. وترك لأمه مهمة اختيار عروسه... فلم يعد يفرق معه شيئا, كلما عرضت عليه واحدة من فتيات العائلة كان يقابلها مهمهما بأنه يرضى باختيارها, ليتزوجا هو وأخيه في ليلة واحدة.. لمح فيها حلمه المستحيل يزف لغيره ليصبح لأخيه هو.. ويومها أعلن وفاة قلبه!
وغلف نفسه بقشرة فولاذية صلبة, أصبح انسان باردا خال من أي نوع من أنواع المشاعر الإنسانية, فإن كان قبلا باردا غُلفت برودته تلك الآن بالصقيع, وإن كان سابقا جامدا أصبح الآن جلمودا كالصخر!, وتتكرر زيجاته ثلاث مرات... وكل مرة يمنى بالفشل, ليس عن عيب بهن فهو يعلم تماما أين يكمن الخطأ.. إنه هو.. هو من كان يبحث عن ينبوعه الصافي بين من اقترن بهن... وبعد فشله الثالث أعلنها بكل وضوح.. هو لن يتزوج ثانية.. ويكفي ابناء راضي يحملون إسم العائلة... لن ينسى أبدا لحظة حمل شبل بين يديه وراضي يخبره أنه سيسميه شبل كما اقترح عليه!, كان عدنان الابن الأكبر ولكنه لم يحمل الاسم الذي كان يريد لابنه هو منها.. أن يسميه به!..
ومرت الأيام وكان يراها أمامه ويرى ذعرها وريبتها في عينيها, كان يتألم من داخله, ألا تعلم أنه في سبيلها على أتم الإستعداد لأن يفني روحه في سبيل ابتسامة تتألق في الشوكولاتة الذائبة لعينيها؟!, وأتى خبر مقتل شقيقه الأصغر بل ووحيده ليشعر بإحساس اليُتم الأخوي!, وليشفي غليله بقتل من تسبب في حرمانه وعائلته من شقيقه الوحيد وما إن بدأت ثورة غضبه تهدأ لأخذه بثأر أخيه حتى تتزلزل أركان حياته جميعها بأمر والده له بـ.. الزواج من سلسبيل!, لينكأ جراحه التي حسبها قد جفت ليكتشف أنها أنما قد غلفت بقشرة ظاهرية فقط.. وأنها لا تزال تنزف داخله, رفض.. وكيف لا يرفض وقد كانت لأخيه قبله, لم يكن هو أول من علمها أبجديات العشق, لم يكن هو أول رجل تنظر إليه بعينيها الناعستين, لم يكن أول من تلفظ اسمه صباحا بصوتها ذو البحّة المثيرة, لم يكن أول من تتغنج عليه وتتعلم على يديه فنون غنج الأنثى لزوجها العاشق!, ولكن لم يرحمه أبوه ليهدده بين أن يتزوجها هو أو... غيره!, ليشعر وقتها بنيران تشب في صدره تهدد بحرق الأخضر واليابس, بل بحرق كل من تسول له نفسه بالتفكير مجرد التفكير فيها كزوجة متاحة!, ويقبل.. يوافق على تنفيذ ما أمره به أبوه, يتنازعه في ذلك إحساسان.. أحدهما عدم التصديق أنه سيملك حلمه أخيرا والآخر.. الخوف مما هو آت!, يكاد يقهقه ساخرا.. هو ليث الخولي من تهتز له الشوارب وترجف له أبدان أعتى الرجال.. يخاف من أنثى صغيرة رقيقة.. ولكنها ليست أية أنثى إنها.... سلسبيل!.
وكان يوم الزفاف.. والذي فاجأته عروسه فيه بارتدائها الأسود معلنة أن زواجهما باطلا وأنها لن تكون سوى امرأة اخيه حتى وإن مات!, لقد استلت الخنجر من جرحه وأعادت غمده به عدة مرات بعباراتها التي قذفته بها كطلقات الرصاص المسمومة تلك, وابتعد.. ولكن لم يستطع.. ليعذب نفسه بقربها عندما ذاق رحيق شفتيها لأول مرة.. وقرر أن يجعلها تعتاد قربه منها.. فكان قراره الصارم أن تشاركه الفراش وأن كان كل منهما ينام موليا ظهره للآخر ولكن يكفيه أنه ينام في غرفة عبقة برائحة أنفاسها, ليحدث بعدئذ ذلك الإعصار الذي قلب كيانه كله رأسا على عقب.. ليمتلك حلمه بالفعل بين يديه شبه متوسلا إليها أن تخبره بأنه هو.... زوجها!, لم يستطع إمتلاكها قبل أن تقولها, شعر أنه كما لو كان سيغتصب حقا ليس له إن لم تكن تلفظت بها, ولكنها قالتها.. ليمتلكها!....
حرك رأسها يمينا ويسارا عدة مرات محاولا نفض هذه الذكريات الأليمة التي أبت إلّا أن تهاجمه الليلة, همس بينه وبين نفسه بألم وتوق شديد وهو يتطلع الى تلك الراقدة فوق الفراش غير واعية لمن يتلظى في سبيل نظرة واحده من بندقيتي عينيها, همس بكل حبه وشوقه وألمه.. إلى متى سلسبيل إلى متى؟, أما لهذا العذاب من آخر؟!, لم يستطع فرض نفسه عليها بعد هذا الانهيار الذي قابلته به صبيحة ليلتهما سوية, فوجئ بما كالته له من اتهامات وعبارات مسمومة كان كمن أُلقي فوقه حجرا ضخما.. كان يظن أنها ستتأكد بعد هذه الليلة بمدى حبه لها, هو لم يخبرها بالقول ولكن ارتجافة جسده بين ذراعيها, عيناه المستجديتان, شفتاه التائقتان, لمسات يديه المشتاقة المجنونة, جسده كله بسائر أطرافه وشت به وبعشقه اللا متناهي لها, دقات قلبه الذي أوشك على التوقف من شدة الدماء التي اندفعت تُضخ في عروقه عندما شعر باستجابتها له وللمساته الحميمية, استسلامها بعد مقاومتها الشرسة, هدوئها بعد أن همس لها بكلمات رقيقة لتبعد الذعر عنها, لكنها.. لم تشعر!, لم تدع لنفسها الفرصة لتعلم وتستشعر بالفعل مدى حبه وتوقه لها, تبًّا!!.. كاد يصرخ بها وهو يزيح عمامته من فوق رأسه لتظهر خصلات شعره القصيرة السوداء كجناح غراب, ليمرر فيها أصابعه بيأس وهو يحاول باستماتة أن يبعد عيناه الخائنتين اللتان ترجوانه افلاتهما لتتلصص على سارقة النوم من بين أجفانهما, شتم في سره هذه الغانية .. وداد!, انها هي بكلماتها وحركاتها التي أفصحت بها عن رغبتها به وكيف أنها تموت لتكون له فقط.. مصرحة بذلك في كلمات مغناجة بصوت أبح مثير وهي تميل عليه بينما تنفث أنفاسه دخان النرجيلة عاليا غير عابيء بها أو بكلماتها, لتغرق عينيها في عينيه وهي تقول له أنها تريد أن ترقص له وحده!, وأنه لو أراد فستخلي المقهى من الجميع في التو واللحظة.. فلا يهمها سواه هو!, ولكن.ز كانت وكأنها تكلم حجرا أصم.. لم يطرف له جفن, وبدلا من ذلك تبدلت صورتها ليرى عينان بندقيتان تطالعه بخوف, ورجفة شفاه تسلب لبه, ليشيح بعينيه بعيدا عن تلك الـ.. وداد زافرا لهواء النرجيلة الى البعيد لتمسك بمبسم النرجيلة وبكل ثقة وغنج تجذبه تجاهها وهى تهمس له بأن يدع هواءه يخرج في وجهها فلا أحب إليها من أن تتنفس أنفاسه حتى وان كانت.. دخان نرجيلة!, لا ينكر أنه قد استغرب كلماتها الجريئة حد الوقاحة وتحدق فيها عيناه بدهشة لأقل من ثوان لتسود نظرة غامضة سوداء مقلتي عيناه بعد ذلك بينما تكمل هي إغوائها له بأن تستنشق نفسا من مبسم نرجيلته بدون أن تمسح موضع شفتاه ثم تمدها اليه ثانية وهي تقول بصوت غاوي مثير أنها لم يسبق لها وأن تذوقت نرجيلة في مثل حلاوة طعم هذه !!, أي رجل مكانه كان ليقبل بما هو معروض عليه, ولكن ليس هو .. ليس ليث الخولي, ليس ومن تثيره لم تكن سوى إمرأة واحدة.. تنام أمامه قريرة العين في فراشها غافلة عمن يكتوى بنار الشوق كل ليلة لاعنا نفسه أنه نالها ذات ليلة!, فهو لم يكن قد ذاق حلاوة قربها قبلا.. ولكن الآن وقد عرف الجنة بين ذراعيها فهو يشعر بالخواء التام بل والعذاب الحارق في بعادها, ولكنها دائما هكذا سلسبيل.. كانت أبدا كالشمس الدافئة في يوم شتوي قارص البرودة.. تشع بحرارتها وما إن تبدأ بنشر دفئها حتى تغيب تاركة ليلا أشد برودة وقسوة, هي كنسمة صيف طرية في نهار مشمس حار ولكنها ما ان تعبر لتلطف الجو حتى سرعان ما تختفي تاركة قيظ من نار وراءها, دائما كان يشعر بهذا.. ولم يختلف شيء الآن.. سوى أنه بعد أن ذاق حلاوتها ونعومتها لا يعلم كيف له أن يتابع حياته محروما من ذلك النعيم المحلل له... المحرم عليه!!..
وقف ليخلع ثوبه وصديريته القماشية قبل أن يتوجه الى الحمام ليضع نفسه تحت الدش لينهمر الماء البارد فوقه لعله يطفأ قليلا من نيران شوقه المستعرة, ولم يعلم.. لم يعلم أن فاتنته لم تنم.. بل كانت تخطط للنيل منه.. لتعاقبه على تلك الوداد.. لم تهتم بسؤال نفسها لما ذلك الحريق الذي اشتعل في جوفها والذي سلبتها الراحة طوال السويعات السابقة ما ان أخبرتها وردة بذهابه الى مقهى تلك الساقطة, لم ترد مواجهة نفسها والاعتراف بما هو واضح لكل من يملك عينين, ما يهمها هو أن ليث قد اقترن بها بإرادته ولم يرفض.. إذن فكما أنها قد حُكم عليها أن تتابع حياتها معه هو أيضا من غير المسموح له بالتفكير في غير تلك الحياة.. فحياته معها هي وحدها!!..
خرج من الحمام كان جذعه العلوي عار لا يرتدي سوى سروالا قطنيا وكان يلف منشفة صغيرة حول عنقه يجفف شعره بها عندما سمع أنينا صغيرا, ليرفع رأسه سريعا فتقع عيناه على مشهد سلب أنفاسه وجعل حلقه جافا, كانت سلسبيله ترقد في وسط الفراش تتلوى وقد انحسر ثوب نومها عن ساقيها الى أعلى فخذيها, اقترب بضعة خطوات مترددة من الفراش, لتباغته للمرة الثانية هذه الليلة بجلوسها فوق الفراش فينحسر الغطاء عن أعلى ثوبها لتظهر كتفين كالمرمر ببشرة ذهبية وفي نعومة الحرير, بينما شعرها الذي يتحرق شوقا لدفن وجهه فيه يتطاير لينسدل مفترشا السرير حولها, رفعت يدا صغيرة تقول بينما تتابع اقترابه المتعثر منها من بين أهدابها الشبه مسدلة:
- ليث.. الحجني يا ولد عمي..
ليقفز قلبه هلعا عليها ويتقدم منها في خطوات ملهوفة ويميل عليها هاتفا بقلق واضح:
- مالك يا سلسبيل؟, فيه حاجة بتوجعك؟!..
أطلقت تأوها ضعيفا كان كفيلا بزعزعة البقية الباقية من تماسك ليث, ونظرت اليه بعينيها الناعستين اللتين يتوق للغرق في بحورهما هامسة بصوت يستجلب الشفقة فما بالك بقلب عاشق يثخنه الحب:
- راسي يا ولد عمي.. راسي هتنفجر, صداع جامد جوي, ماعرافشي أعمله إييه؟..
لينسى أي مشاعر خاصة به ويهتف وهو يتجه الى الحمام حيث الصيدلية المنزلية الذي يحتفظ فيها بأدوية للطواريء كما الآن:
- حالا هجيبلك جرصين مسكن..
لم يغب الا لحظات عاد بعدها حاملا قرصين من مسكن لالم الرأس وسكب كوبا من الماء من الدورق المجاور للسرير, مد يده ليناولها الدواء عندما تناولته بيد صغيرة ترتعش فلم ينتظر وأسندها من كتفيها قابضا عليهما بذراع قوية ولكن برفق ليساعدها بتناول الدواء, أبعدت الكوب عن ثغرها الوردي وهمست بابتسامة شكر:
- تسلم يا ولد عمي..
كانت هناك قطرة ماء على شفتها السفلى, لتنحدر نزولا على طول عنقها حتى مقدمة صدرها الظاهر من فتحة عنق الثوب الواسعة لتختفي بعد ذلك بين حنايا صدرها وهو يراقب مسارها حيث اختفت ليزدرد ريقه بصعوبة ويجيبها بصوت أجش:
- ولا يهمك يا بت عمي, تلاجيكي عاوزة تنامي ولا حاجة... اني متأكد لمن تنعسي وتجومي الصبح هتوبجي زينة..
لتفاجئه للمرة الثالثة وهي تمسك راحته الضخمة بين يديها الناعمتين لتجبره على الاعتدال في جلسته بجوارها وتقول بينما تعود بظهرها لتستند على الوسائد خلفها فيما تغمض عينيها وهي ترفع يده لتضعها فوق موضع الألم برأسها:
- اهنه يا ولد عمي, الألم اهنه.. واعر جوي يا ليث.. مجدراشي أستحمله!..
وتلقائيا يمسد ليث موضع الألم بينما لسان حاله يهتف بداخله:
- حبك اللي واعر جوي يا بت عمي, وبعادك اللي مجدرش أستحمله..
انتبه لسكونها بين يديه, فحاول سحب يده, لتصعقه هذه المرة بجذبها لراحته لتضعها فوق الوسادة أسفل خدها و... تنام!!
حاول جذب يده ولكنه أشفق عليها, فهي تبدو كالطفل النائم المرتاح, ليبدل من وضعيته فوق الفراش, فيرقد بجانبها مزيحا راحته وقد تأوهت باعتراض واضعا ذراعه أسفل وجنتها لتعود وتبتسم براحة!!..
قرّب جسدها الغض اللين منه وهمس بينه وبين نفسه بينما ينظر الى وجهها المبتسم النائم كالملاك:
- نامي يا جلب ليث.. أي نعم أني مش هيجيني نوم لكن ولا يهمك.. المهم راحتك إنت.. أني عارف انه لمن ياجي الصبح هترجعي سلسبيل الجديمة.. ولو فيَّا حتة عجل اصغير كنت افوتك دلوك لوحديكي.. لكن مين اللي جال اني عاجل في أي حاجة تخصّك؟, هما مش بيجولوا ان العشج جنون؟, وعشجك انتي يا سلسبيل أجن من الجنون!!..
ليسند ذقنه فوق رأسها متنسما رائحة شعرها العنبرية, ويغمض عيناه, وللمفاجأة يغرق هو الآخر في سبات عميق مماثل لما سبقته اليه سلسبيل والتي لم يكن ببالها أبدا أنها ما ان تشعر براحته أسفل وجنتها فإنها ستغوص بالفعل في نوم عميق كما فعلت.. فما بدأته كعقاب صغير له لذهابه لتلك الوداد انتهى بشعورها هي بالراحة التي غمرتها ما ان شعرت بقربه منها لتنام ولأول مرة منذ اسبوعين براحة عميقة واحساس غريب بالأمان يلفها!!..
فتح ليث عيناه ليستغرب باديء الأمر المكان الذي ينام فيه, ثم ينظر بجواره ليطالعه وجهها النائم, كانت لا تزال ترقد فوق ذراعه التي شعر بخدرها, حاول سحبها من أسفل رأسها, لتتمطى كالهرة بجانبه وتدفن رأسها أكثر بين ضلوعه, مد يدا مترددة ليحاول ايقاظها فهو يعلم تماما أنها ما أن تصحو حتى تتهمه بانتهازه فرصة مرضها, وما ان لمست يده كتفها حتى شعر بلسعة شديدة الحرارة تسري في سائر جسده, ناداها بخفوت عدة مرات قبل أن تفتح جفنيها لترمش عدة مرات قبل أن تجيبه بصوت قد خدره النعاس:
- همممم...
مال فوقها وهي لا تزال نائمة على ذراعه لم تستفق كلية بعد ليقول بابتسامة صغيرة:
- صباح الخير, كيفك دلوك؟, اكويّسة؟!..
قطبت في تساؤل فلم تكن بعد قد استيقظت جيدا بعد ليضرب ذاكرتها ألم رأسها المفتعل ليلة أمس.. وكيف اعتنى بألمها ذاك, لتعي أنها الآن تعتبر فعليا راقدة بين ذراعيه وبكل أريحية!..
احمرت وجنتيها خجلا ووضعت راحتيها على صدره العار فهو قد غفا ليلة أمس بدون أن يرتدي ثيابه كاملة بعد أن فاجأته بتعبها, وما أن لمست كفّيها عضلات صدره القوية حتى انتفضت لتسحبهما سريعا وكأنها لمست سلكا كهربائيا عار, فقد انتشرت الحرارة في سائر جسدها لحظة لمسته يداها, ولكنه أبى أن تبتعد ليسرع بالقبض على يديها لتظلا ملامستين لصدره مسببة تقافز سريع لضربات قلبه, مال عليها هامسا:
- مش الاول أطمن عليكي؟!..
أفلت يد من يديها ليرفع راحته ويضعها فوق رأسها موضع الألم السابق وهو يسألها بصوت أجش بينما عيناه تغازلانها بدون هوادة:
- الوجع كان إهنه, حاسة بحاجة دلوك؟.
ابتعلت ريقها ورطبت بطرف لسانها الوردي شفتيها فقد شعرت بجفاف في حلقها وأسدلت عينيها فلم ترى لمعة عيناه المراقبتان لذلك الفم ذو الشفاه الأرجوانية اللتين تثيرانه بشكل غير مسبوق بالنسبة له وهو الذي تزوج ثلاث مرات سابقا ولكن لم يحدث أن أثارته أيا من زوجاته السابقات, أجابت بخفوت:
- الحمد لله, تسلملي يا ولد عمي تعبتك امعايْ..
ليث بصوت مبحوح وهو يقترب أكثر حتى لغى السنتيمترات القليلة التي تبعد بينهما حتى أنه اضطرها لتميل هي الى الخلف تراقبه بنظرات قلقة مترقبة محاولة دفعه الى البعيد ولكن وكأنها تحاول زحزحة جبل شامخ من مكانه:
- تعبك راحة يا بت عمي..
همست بخفوت ولكنها لم تستطع منع أنفاسها أن تضرب وجهه ليتيه في عينيها تماما كما كان يحلم, أن تكون عيناها أول ما يستيقظ عليه كل صباح:
- هجوم أحضر لك الفطور على ما تتسبّح..
همس بأنفاس ساخنة وقد ترك يديها ليحيط خصرها بذراعيه ضاغطا جسدها اللين الطري الى جسده العضلي الذي ما ان لامسته حتى وكأنها قد أشعلت فيه النار, قال بصوت مثخن بمشاعر الشوق القاتل:
- ريحي روحك, أني لمن أنزل هاخد جرجوشتين ع الماشي, المهم انتي تكوني مرتاحة..
لترفع عينيها إليه وهي تطالعه بحيرة, لقد لمست خوفه وقلقه عليها ليلة أمس, بل أنها ولأول مرة منذ وقت طويل تنام ملء جفنيها وقد شعرت بالأمان التام, وكأن مكانها الطبيعي هنا بين ذراعيه, بعدما حدث بينهما المرة السابقة كان شعور بالخجل مختلط بشعور بالذنب لا تدري لما.. هما من دفعاها لتكيل له الاتهامات الباطلة من أنه هو من أجبرها على الاستسلام مخرسة وبقوة هتاف قلبها أنها هي من استسلم وعن طواعية منها, لكن الآن وهي تنظر الى ذلك الفحم المشتعل في عينيه وهي ترى انعكاس صورتها بين مقلتيه ترى أيضا حنانا وحماية وقلقا, تاهت في عيناه بينما في المقابل رآها ليث.. رآى تلك النظرة المتسائلة الحائرة تقبع ي زاوية صغيرة بين بندقيتي عينيها..كانت وكأنها تريد أن تستشف صدق مشاعره, وعقد العزم على أن يثبت لها أنه الآن... ليثها هي!, فيكفيه تلك النظرة الحائرة ليزعزع الباقي منها ولن يتوقف قبل أن تستسلم كاملا له وكليّة, وسيبدأ منذ اللحظة!..
همت بالكلام عندما مال عليها بغتة ليسكتها ملتهما كلماتها بين شفتيه, أخذتها المفاجأة ولم تقاوم في البداية ولكن بعد أن شعرت بيديه وهما تجوسان بين حنايا جسدها حتى حاولت الافلات وان كانت مقاومة ضعيفة قضى عليها ليث في وقتها لتستسلم رافعة ذراعيها بتردد محيطة بعنقه القوي, فيميل بها كلية فوق الفراش لتنبطح على ظهرها بينما يعلوها هو ولا يزال مبحرا بها في لجة عناق قوي يغوص معها في بحر عميق شاطئه ذراعيه.. واحة أمانها..
صوت طرقات على الباب قاطعت تلك اللحظات بينهما, ظنتها سلسبيل في البدء من مخيلتها ولكنها أنصتت قليلا لتعلم أنها دقات فعلية, حاولت التملص من قبضته وهي تزيح شفتيها جانبا هاتفة:
- ليث.. ليث الباب يا ليث..
ليث بشرود وهو تائه فيها بينما تنتقل شفتاه على عنقها مرورا بحلقها لتصل الى عظمة الترقوة بقبلات ملتهبة صغيرة:
- اممممم.. مالَه الباب؟..
حاولت سلسبيل الابتعاد عن مرمى شفتيه وهي تقول برجاء بينما الطرقات مستمرة:
- يا ليث الباب بيطُوجْ!..
ليتوقف عن تقبيلها وهو يطالعها بنظرات زائغة مشتتة ثم تشير له بعينيها تجاه الباب ليسمع الدقات العالية فتكرر كلماتها:
- الباب عيطُوج!..
ثم بدفعة صغيرة أزاحته من فوقها وهرعت الى المرآة لترتب ثيابها وهي تسأل بصوت عال عمن يكون الطارق ليجيبها صوت صغير أنه أنا... شبل وعدنان!, لملمت شعرها الثائر بربطة محكمة , وطالعت نفسها في المرآة لترى شفتيها المنتفختين اللتات تحملان أثر هجوم ليث عليهما, لتتجه الى الباب فتفتحه غافلة عن ذلك القابع فوق الفراش وقد ضرب برأسه في الحائط أعلى السرير وهو يردد بصوت خافت ويأس:
- وانتي الصادجة.. أني اللي هطوج مش الباب!..
وما أن فتحت الباب حتى اندفع الصغير شبل وفي أعقابه عدنان شقيقه مهللين ويتجهان الى ليث الراقد فوق الفراش والذي ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه ما أن وقع ناظريه عليهما, ليقفزا بجواره فوق الفراش بينما يقول شبل بلوم:
- انت وعدتنا هتلعب امعانا, انت نسيت يا بويْ؟!
ليتسمر ليث وسلسبيل مكانهما يتبادلان النظرات هو في مكانه فوق الفراش يتوسط الصغيرين وهي واقفة أمامه, ثم التفت ليث الى شبل ليحتضنه بقوة قائلا وهو يتشمم رائحته الطفولية الذكية:
- لاه.. أني أجدر أنسى وعد وعدته لـ... ولدي!!..
لتترقرق الدموع في عيني سلسبيل, ليست دموع حزن ولكنها وللمفاجأة دموع فرح!, فقد عوض الله صغارها عن أبيهما الراحل بعمهما.. ذلك الأب الحنون والذي شعرا بأبوته, فلم يكن صغيرها ليهتف به مناديا اياه بأبي ان لم يستشعرها حقيقة, فالأطفال يتعاملون بالفطرة فقط, لا يعلمون ما المجاملة ولا يتعاطونها!.., وألقت الى ليث بنظرة فهمها الأخير... فهي تشكره على رعايته لولديها... نظرة امتزجت بها أخرى تدل على إعجاب صرف.. ليعلم ليث أنه قد بدأ باختراق حصون قلبها.. ولن يتوقف قبل أن يدق أسوارها كلية لتعلن الاستسلام التاااااام لقلبه العاشق!!..
***************
سافر غيث وسلافة الى القاهرة يرافقهما كلا من شهاب وسلمى بعد إصرار شديد من سلمى لمرافقة أختها ومن شهاب أن يصاحب توأمه, وقال رؤوف وهو يودعهم:
- أنا واثق فيكم برقبتي, وعارف انكم هتحافظوا عليهم..
كانوا قد تعللوا لجدهم وعثمان برغبة سلمى وسلافة بالذهاب الى القاهرة لأنجاز بعض الأمور العالقة الخاصة بعمل كل منهما, وكانا من المفترض أن يعودوا في نفس اليوم إلا أن اقتضت الظروف فسيبيتون في منزل رؤوف هناك...
كانت سلافة قد واعدت المحامي فاتجهوا رأسا الى مكتبه, وبعد أن دخلوا وقامت سلافة بعملية التعارف بينه وبين الباقيين, جلسوا يتشاورون في الخطوة اللازم اتخاذها, قالت سلافة:
- أنا عاوزة حضرتك تطعن في الحكم انه القضية قيدت ضد مجهول...
المحامي بتعبير أسف:
- للأسف يا آنسة سلافة..في القضايا اللي زي دي لازم يكون فيه أدلة قوية عشان الطعن يتقبل..
سلافة بجدية:
- طيب لو الأدلة اللي اتحرقت دي كانت موجودة ممكن وقتها الطعن يتقبل؟.
المحامي بهزة بسيطة من كتفيه:
- للأسف يا آنسة ممكن يبقى دليل ضعيف والمحكمة ما تاخدش بيه, لأن الدليل دا بيدين المستشفى إياها لكن مالهاش دعوة بقضية قتل واغتصاب المرحومة مريم..
دمعت عينا سلمى وسلافة ما إن سمعا كلمة المرحومة تسبق اسم صديقتهما, دفعت سلمى بدموعها بعيدا وتحدثت بهدوء قائلة:
- بس مريم تبقى خطيبة سامح اللي اتلفقت له قضية من الناس دول؟!..
المحامي:
- لكن عشان قضية زي دي تتفتح تاني لازم يكون فيه دليل عن مجرم موجود فعلا.. يعني مثلا شاهد للجريمة.. كدا يعني, لكن....
وسكت قليلا وقد غامت عيناه بتفكير عميق فهتفت سلافة:
- لكن ايه يا متر؟.
غيث بتؤدة:
- حضرتك عندك حاجة ممكن تفيدنا في فتح الجضية من جديد؟.
المحامي بتفكير عميق:
- الادلة دي ممكن تساعدنا في الطعن في قضية الدكتور سامح, لو الطعن اتقبل وقتها ممكن يكون فيه فرصة لفتح قضية المرحومة مريم من تاني, بس المشكلة دلوقتي انه الادلة دي اتحرقت.. هنجيب منين أدلة إدانة تاني قوية زي دي؟!..
لتبرق عينا سلافة بعزم وهي تجيب:
- بس الأدلة موجودة يا متر...
لينظر اليها المحامي بدهشة بينما تبادل غيث وشهاب وسلمى نظرات التساؤل, لتجيب على أسئلتهم الصامتة بقولها:
- ثواني حضرتك..
لتبتعد سلافة حاملة هاتفها المحمول لإجراء مكالمة هاتفية وما هي إلا أقل من خمسة عشر دقيقة حتى تعالت طرقات على باب المكتب ليسمح المحامي للطارق بالدخول والذي كان وكيل مكتبه يخبره بقدوم أحدهم من طرف الآنسة سلافة, فنظر المحامي بدهشة اليها ثم أمره بإدخاله على وجه السرعة فيدخل ذلك القادم الغريب لتشهق سلمى متفاجئة بينما يتبادل غيث وشهاب نظرات التساؤل فيما يحدج غيث سلافة بريبة وغيظ, وتنهض سلافة متجهة الى الوافد الجديد وهي تقوم بعملية التعارف بينه وبين المحامي قائلة بجدية:
- الدكتور كريم... أهم طرف معانا في القضية..
وقبل أن يتساءل أي من الموجودين يفتح كريم حقيبة صغيرة كانت بحوزته ليخرج ظرفا ورقيا كبيرا فتناولته سلمى منه واتجهت الى المحامي لتقوم بفض الظرف مسقطة محتوياته فوق سطح المكتب ليطالع المحامي ما يراه أمامه بدهشة وينظر الى سلافة الواقفة أمامه بابتسامة صغيرة لتقول مجيبة على سؤاله الصامت:
- التكنولوجيا يا متر لازم نستفيد بيها كويس اوي, وان ما كانتش تخدمنا في حاجة زي دي.. يبقى لازمتها ايه؟, دي نسخة من ال سي دي والفلاشة اللي اتحرقوا, اتفضل حضرتك قدم الطعن في قضية الدكتور سامح!!..
في وقت لاحق وبعد انصرافهم من مكتب المحامي وقد اعتذر كريم على مرافقتهم ولكنه انفرد بسلافة متمتما لها بأنه سيكون موجودا في أي وقت, وكان قد بارك لشهاب وغيث على عقد القرآن فهو لم يحضر نظرا لظروف الحزن التي تمر بعائلتهم بسبب وفاة راضي, فتداركت سلمى قائلة بابتسامة:
- لكن أكيد هنعمل فرح وهتكون انت وطنط وفاء وعمو نبيل أول الموجودين, وسهى طبعا...
انصرف كريم ملوحا بيده لهم ومشيرا لسلافة بيده علامة انتظاره لإتصال منها لموافاته بما يطرأ من أحداث..
دلفت سلمى الى المنزل مفسحة المجال لسلافة وغيث وشهاب باللحاق بها, أغلقت الباب وقالت وهي تمسك بأكياس الطعام من شهاب مشيرة لسلافة:
- انا عارفة انتم اكيد واقعين من الجوع, ياللا يا سلافة نحضر الغدا على ما يغسلوا ايديهم ووشهم..
تناول الجميع الغذاء وسط النقاش الدائر عما سيحدث, وكانوا قد قرروا المبيت الى الصباح حيث سيتقدم المحامي بالطعن للمحكمة..
بعد انتهائهم من تناول الطعام, اتجهت سلمى لتجهيز غرفة نوم والديها لشهاب وغيث بينما قامت سلافة بعمل الشاي..
همهم غيث ببضع كلمات لشهاب الجالس في غرفة الجلوس قبل أن يلحق بسلافة التي كانت تقف بالمطبخ تقوم بصنع الشاي لهم جميعا, تحدث غيث بهدوء يخالف ما يجيش داخله من تساؤلات تكاد تقتله لمعرفة الجواب عليها:
- انما انتي جاتك فكرة النسخ ديه كيف؟.
استدارت سلافة له وابتسمت ابتسامة صغيرة وأجابت وهي ترص أقداح الشاي فوق الصينية:
- أبدا.. كل الحكاية اني حسبتها في دماغي, الموضوع مش سهل, وأنا ما بحبش أسيب نفسي للظروف, بحب أحط كل الاحتمالات في دماغي, يوم ما أخدت السيديهات والفلاشة من مريم عملت لها كوبي وادتها لكريم في وقتها, بصراحة كريم ما سألنيش , أنا كل اللي قولتهوله عاوزاك تشيل الأمانة دي عندك لغاية ما أطلبها, وطلع فعلا أد الأمانة..
حاول غيث اخفاء غيظه من عباراتها التي تشي بإعجابها بكريم وقال وهو يقترب منها بنبرة صوت لم يستطع اخفاء حدتها المكبوتة:
- غريبة.. وايش معنى كريم يعني؟.
رفعت سلافة عينيها اليه وقطبت بابتسامة حائرة وهي تجيب:
- ماجاش في دماغي الا هو ساعتها, بصراحة هو اللي انا فكرت فيه وقتها, لأنه الوحيد اللي ممكن آآمن له في موضوع زي دا!!..
الى هنا وكفى.. سيكون ملعونا إن سمح لها بالاسترسال في اقصائه أكثر من هذا, ما معنى كلامها بأن هذا الـ كريم هو الوحيد الذي طرأ ببالها بل أنه هو الوحيد الذي تثق به؟, وما هو بالنسبة لها؟, هواء!, لقد كانا وقتها في حكم المخطوبيْن ولم تكلف خاطرها بإخباره بما حدث لولا أنه قد ضغط على والدها ليعلم ما بها وذلك بعد أن صرّح له جده بشكوكه حولها وحول عمه!..
مال عليها لتلفحها أنفاسا ساخنة تخرج من أنفه وفمه على حد سواء فكأنه التنين ينفث نارا من فمه, لتنظر اليه بريبة وهي تضع سخان الماء الكهربائي جانبا بعد أن صبت الماء فوق ورق الشاي في الأقداح, سألته وهي تعتدل واقفة أمامه:
- مالك يا غيث.. فيه حاجة؟, شكلك متنرفز!.
ليفاجئها بقبضة قوية على مرفقها جعلتها تشهق وتتسع عيناها ذهولا وحيرة فيما يتحدث هو من بين أسنانه المطبقة بغضب ناري لم يسبق له اختباره سوى منذ ان عرفها هي فقط:
- بجه كريم هو أجرب واحد منيكي وهو الوحيد اللي مأمناله؟, وأني أبجى أيه ان شاء الله؟, مش راجلك ومالي عينك ولا إيه؟..
تفاجئت سلافة من هجومه القوي ومن تفسيره لما أخبرته به بحسن نية وهتفت وهي تحاول التملص من قبضته دون جدوى:
- لا طبعا الموضوع مش كدا..
غيث بسخرية وهو يضغط على مرفقها ليقربها اليه:
- طب فهميني انتي يا زينة العرايس.. واحدة مخطوبة وتآمن لراجل تاني غير زوجها في حكاية واعرة إكده.. يبجى ديه اسمه ايه؟..
سلافة بحنق:
- اولا انت يومها ما كونتش معايا, تاني حاجة بقه لو حصل وكانوا مراقبين مريم هيعرفوا انها صاحبتي وعلى طول أي حد من عيلتي هيكون مشكوك فيه بالنسبة لهم لكن كريم بعيد خالص, محدش يعرف علاقتنا بيه غير ناس معدودين بس, عرفت بقه أنا ليه فكرت فيه هو؟, مش قلة ثقة فيك لكن لأن ما فيش غيره أقدر أثق فيه وفي نفس الوقت يكون بعيد عن الخطر!.
تهاونت قبضة غيث لتسحب سلافة ذراعها بقوة وكشرت وهي تفرك موضع قبضته, قال غيث مقطبا جبينه:
- يعني جصدك انك ما كونتيش عاوزة حد منينا يِعرف بالحكاية ديْ خوف منِّيكي علينا؟.
حدجته سلافة بنظرة غاضبة وقالت:
- انا ماحاكتش لحد يا ابن عمي الا لبابا بس, سلمى وماما معرفوش غير لما أغمى عليا من يومين, يعني لا قلة ثقة فيكي ولا فهيم, خوف وحرص مني مش أكتر, لكن للأسف اللي لاقيته منك شك وظنون ماكونتش أتوقع انك تفكر مجرد تفكير فيها..
استدارت تهم بالانصراف عندما سارع بوضع يده على كتفها لأيقافها وناداها بلهفة:
- استني يا سلافة..
وقفت معطية له ظهرها فاستدار حولها ليقف أمامها ليقبض على مرفقيها برفق ويميل عليها ناظرا في عينيها بعمق وهو يردف بابتسامة أسف صغيرة:
- ما.. ما تزعليشي مني, أني مش ممكن أشك فيكي واصل, ديه ما اسموشي شك..
ابتسمت سلافة نصف ابتسامة ساخرة وسألته هازئة:
- مش شك؟, اومال دا يبقى ايه ان شاء الله؟.
ليميل عليها مقربا وجهه منها حتى اشتم رائحتها العبقة وهو يجيب بصوت خافت أجش:
- إسمها.. غييييرة, ايه.. حرام إني أغير على مَرَتي؟, حبيبتي؟!, واللي في المستجبل ان شاء الله هتبجى أم اعيالي؟..
كان في كل كلمة من كلماته يميل أكثر باتجاهها حتى إذا أنهى قوله وهمت بالحديث خطف شفتيها في قبلة رقيقة كرفرفة جناح فراشة لم مكث إلا ثوان ولكنها قلبت حالها, ليعتدل بعدها ناظرا في عينيها وهو يردف بحرارة بينما تطالعه عيناها بنظرة عتاب رقيقة:
- ما تز
ليميل عليها مقربا وجهه منها حتى اشتم رائحتها العبقة وهو يجيب بصوت خافت أجش:
- إسمها.. غييييرة, ايه.. حرام إني أغير على مَرَتي؟, حبيبتي؟!, واللي في المستجبل ان شاء الله هتبجى أم اعيالي؟..
كان في كل كلمة من كلماته يميل أكثر باتجاهها حتى إذا أنهى قوله وهمت بالحديث خطف شفتيها في قبلة رقيقة كرفرفة جناح فراشة لم مكث إلا ثوان ولكنها قلبت حالها, ليعتدل بعدها ناظرا في عينيها وهو يردف بحرارة بينما تطالعه عيناها بنظرة عتاب رقيقة:
- ما تزعليشي مني يا بت عمي, صدجيني من وجت ما شوفته حدا المحامي وأني برج من عجلي طار, لازمن تفهمي إني بحبك جوي وإني بغير عليكي جوي جوي, كنت هنجن عشان أسألك وأعرِف منّيكي, فهمتيني يا بت عمي؟, هزت برأسها ايجابا في صمت فتابع بلهفة متسائلة:
- ما انتيش حمجانه؟.
لم تستطع سلافة الاستمرار في غضبها منه أكثر من ذلك وهو يقف أمامها كالطفل الذي يستجدي من والدته ألا تغضب عليه, لتبتسم ابتسامة صغيرة مجيبة وهي تلكم صدره بقبضتها الصغيرة لكمة خفيفة تأوه لها تأوها مصطنعا:
- لاه.. مش حمجانه!!..
ثم تابعت محاولة تلطيف الجو بالمزاح:
- انما صحيح أنا أول مرة أشوفك لابس جينز وتي شيرت, انت في البلد على طول بالجلابية أو لبس الخيل, ايش معنى يعني انهرده..عشان نازل مصر؟.
ابتسم غيث وقال وهو يحيط خصرها بذراعيه مشبكا أصابعه خلف ظهرها فيما تميل هي ناظرة الى عينيه بابتسامة ناعمة على ثغرها الوردي:
- أبدا, لكن أنا في نزولاتي مصر بلبس إكده, مع إني برتاح في التوب أكتر, لكن لمن باجي بيه مصر بحس كاني العمدة الكل بيعمل لي ألف حساب من غير ما يعرفوا أني مين؟
أجابت سلافة وهي تتطلع اليه بحب لمع دون أن تدري في عينيها لينير ليلهما السرمدي:
- انت يا حبيبي ليك هيبة.. أي مكان تروحه لازم يعملوا لك ألف حساب ولو كنت بالبيجامة حتى.. مش توب ولا قميص وبنطلون!
ليفغر غيث فاه ويتساءل بغير تصديق وذهول وهو يضغط عليها ليقربها منه:
- انتي جولتي إيه؟.
قطبت سلافة وأجابت بابتسامة حائرة:
- قلت ان شخصيتك جامدة ولك هيبة و...
قاطعها وهو يهز رأسه عدة مرات يمينا ويسارا:
- لاه لاه مش ديْ, جبلها.. جبل الجملة دي جولتي ايه؟.
لتبتسم سلافة وترد بمشاغبة:
- آه.. يعني عاوزني أعيد الشريط من الأول؟!..
ليجيب غيث بنفاذ صبر ورجاء:
- ايوة يا سلافة.. هاتيه من أوله.. من آخره.. م إمهم.. المْهِمْ تجوليها تاني!.
تصنعت عدم الفهم وقالت:
- بردو مش فاهمه..
ليتركها بحنق طفولي وهو يهتف:
- انتي بتجلعي عارفك أني زين, جال ماعرفاشي جال!, طب عيني في عينك إكده؟..
لتبتسم بخبث فما كان منه الّا أن نفخ بضيق واستدار ليهمّ بالانصراف عندما اقتربت منه كالنسمة الطرية وهمست بخفوت بجانب أذنه:
- حبيبي..
ليتسمر في مكانه بينما خرجت راكضة وهي تهتف ضاحكة:
- اعمل انت شاي تاني بقه دا أكيد بِرِدْ!!..
------------------------------------------------
في الصباح اتصلوا بالمحامي الذي أخبرهم بأنه قد تقدم بطلب للطعن في الحكم بقضية سامح وأنه سيوافيهم بالمستجدات أولا بأول, فقرروا الذهاب لتناول الغذاء قبل رجوعهم الى البلدة..
كانوا يتبادلون أطراف الحديث عندما جاءت سلافة مكالمة هاتفية من المحامي يخبرها بخبر زلزلها.. فقد وُجد سامح مقتولا في زنزانته!!..
ارتمت سلافة على المقعد خلفها وهي تنهار في بكاء حار حيث هرعوا ما ان سمعوا بالخبر الى المحامي لمعرفة التفاصيل, قال المحامي بأسف:
- للأسف واحد من المحكوم عليهم بالاعدام اتخانق معاه وراح ضربه بسكينة كان سرقها من مطبخ السجن!..
سلمى بانهيار:
- ازاي؟, ازاي يحصل حاجة زي كدا؟, احنا فين احنا هنا؟, معقول احنا في مصر؟, أنا حاسة اننا في شيكاغو, وان العصابة دي مافيا من اللي بنسمع عنهم في الافلام!..
المحامي بضيق بينما وقف شهاب بجوارها مربتا على كتفها وحذا حذوه غيث لسلافة:
- للأسف هما فعلا مافيا, لكن الخوف دلوقتي بقه عليكي انتي يا آنسة سلافة!..
طالعه الجميع بقلق وريبة ليتابع بأسف:
- واضح كدا انهم عرفوا كل حاجة عنك وقتلهم لسامح دليل انهم سابقينا بخطوة واحده, وبردو انهم عارفين ان الدليل معاكي انتي, فيا ريت تخلي بالك من نفسك..
ليهتف غيث بينما تلمع عيناه بشراسة:
- طب يبجى حد يفكر بس مجدر تفكير انه يجرب منيها وجتها يجول على نفسه يا رحمن يا رحيم..
اتجه شهاب الى أخيه وربت على كتفه قائلا بصرامة:
- مش لوحدك يا أخويا, انا كمان معاك...
المحامي بلهجة محذرة:
- ويا ريت تخلو بالكم.. واضح كدا انه فيه حد مراقبكم ومش بس كدا لا.. وعارف كمان انتو بتفكروا في ايه!, محدش كان يعرف بموضوع الطعن دا غيرنا هنا, انتو اتكلمتوا في الموضوع دا بعد ما خرجتوا من عندي مع أي حد؟.
ليتبادل الجميع نظرات التساؤل والريبة ويهتفوا بالنفي في صوت واحد:
- لا ما حصلش..
يهز المحامي رأسه ويقول:
- عموما خلوا بالكم..
-------------------------------------------------------
فتحت سلافة باب المنزل لتفاجأ به مقلوبا رأسا على عقب,فمنعها غيث هي وسلمى من الدخول ليدلف هو وشهاب ليتفقدوا المنزل وما أن تأكدوا من خلوه من أي شخص حتى سمحوا لهما بالدخول, تفاجئوا بالمشهد أمامهم, فمن الواضح أنه قد تم تفتيش المنزل تفتيشا تاما فكل شيء في غير مكانه, فالتلفاز مقلوب فوق الأرض وقد تكسرت شاشته البلازما, والمقاعد والكراسي حتى المطبخ لم ينجو من أيديهم, ووسط كل هذه الفوضى خرق الصمت السائد بينهم صوت استقبال رسالة على هاتف سلافة المحمول, لتقطب وتفتح الرسائل مستطلعة المرسل, لتفاجأ برقم غريب, ففتحت الرسالة لتقرأها لتفتح عينيها على وسعهما في ذهول لما تقرأه, انتبه غيث لحالتها فسحب الهاتف من يدها ليقرأ بصوت مرتفع:
- المرة دي إنذار بسيط.. ابعدي خالص عن القضية وانسي أنك كنتي تعرفي واحدة اسمها مريم, ولو زعلانة عليها أوي كدا.. احنا ممكن نعمل معاكي واجب ونخليكي تحصليها... وزي ما حصلها بالظبط, بس مش هتكوني لوحدك.. هيكون معاكي اللي يونسك.. أختك... الدكتورة سلمى!!..
لتشهق سلمى برعب وتحتضن سلافة بينما يتبادل غيث وشهاب النظرات التي تشي بغضبهم الوحشي ليخرق غيث الصمت قائلا بوعيد:
- وجسما بالله واللي عمري ما حلفت بيه باطل لأخليهم عبرة لمن لا يعتبر, وتار مريم وخطيبها وكل اللي ماتوا في رجبتي, ومش غيث الخولي اللي يفوت تاره واصل!..
ليعاجله شهاب وشرارات الغضب تطاير من بين دخاني عينيه:
- مش لوحدك يا غيث, ويمين بالله ما يتم فرحنا إلا لمن ناخد بتارنا يا ابن أمي وأبوي, عيلة الخولي عمرها ما تفرط في تارها مهما حصل!!..
لترفع سلافة وسلمى أعينهما إليهما بينما يشد غيث وشهاب على أيدي بعضهما, فالطريق للأخذ بالثأر قد بدأ ومنذ اللحظة, وسيأخذان بثأرهما كاااااااااااااملا !!...
🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹
ادخلوا بسرعه حملوه وخلوه علي موبيلاتكم من هنا 👇👇👇
وكمان اروع الروايات هنا 👇
انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺
تعليقات
إرسال تعليق