expr:class='data:blog.languageDirection' expr:data-id='data:blog.blogId'>

الطريق الي النور الحلقه الثانيه بقلم الكاتب/محمد مصطفي

 الطريق الي النور الحلقه الثانيه بقلم الكاتب/محمد مصطفي

الطريق الي النور الحلقه الثانيه بقلم الكاتب/محمد مصطفي


( الحلقة الثانية ) : الفتنة حول الكعبة !! 

من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي

وقفنا في الحلقة السابقة عند تفرق وتمزق كبرى قبائل اليمن التي تسمى "الأزد" وانتشارها ليس فقط في أنحاء الجزيرة العربية .. بل تخطى انتشارها حدود الجزيرة العربية إلي بقاع بعيدة طالت العراق القديم والشام .. ومن تمزقهم وتشتتهم والذي كان سببه الهروب من سيل العرم " الطوفان" الذي أغرق اليمن بعد انهيار سد مأرب .. من تمزقهم هذا وتشتتهم رأينا كيف كانت النواة الأولي لبداية نشأة قبائل عربية كبيرة، سيتردد ذكرها كثيرا في سردنا لأحداث السيرة ـ " الأوس والخزرج .. "خزاعة" .. "الغساسنة" .. "أزد عمان" .. وغيرهم .. ذلك أن الأزد كانت قبيلة كبيرة تحوي في داخلها قبائل وبطون عديدة .. وذكرنا كذلك أن في رحلة فرار الأزد تلك، خرج معهم قبيلتان من حلفاء الأزد .. قبيلة قطوراء وقبيلة جرهم .. هاتان القبيلتان تأخرتا عن ركب الفرار علي مسافة قريبة ليست ببعيدة عن مكة .. فلنبدأ معا السرد بعد هذا التوضيح .

الفتنة حول الكعبة :

بعد أن أخذت بطون قبيلة (الأزد) الفارة من سيل العرم وجهتها التى أشارت عليهم بها كاهنتهم (طريفة الخير) وقف (مضاض بن عمرو الجرهمى) سيد قبيلة جرهم محدثاً قومه : أما نحن فنعرف وجهتنا دون مُعين ، وجهتنا البيت الذى تعظمه بنو إسماعيل حيث ينزلون حوله . فلنا مع بنى إسماعيل صهر ونسب ، فإسماعيل النبى قد صاهر من جماعة (جرهم الأولى) التى حطت عند (بئر زمزم) فى زمن هاجر ، فنحن أخوال بنى إسماعيل ، وأحق بالنزول إلى جوارهم ، هيا يا قوم وجهتنا الكعبة .

وأخذت ـ قبيلة جرهم ـ طريقها نحو البيت ، تقطع عُباب الصحراء ، تسير نهارًا، وتُخيّمُ ليلاً ، ولحق بهم فى الطريق أبناء عمومة لهم ، تأخروا فى الفرار من السيل الهادر، قبيلة (قطوراء)، وحالهم فى البؤس والشقاء لا يقل عمن سبقوهم ، ورأى سيد قطوراء (السميدع بن عمليق) أن يرافق مضاض سيد جرهم فى رحلة البحث عن مكان يصلح للنزول فيه ، علهما يجدا مخرجاً من التيه في بيداء قاحلة، ذاك الذى عاقب الله به الجميع لمَّا تمزقت قبائل الأزد فى أنحاء الجزيرة وما حولها . رأى أن يرافقه ولم يكن يعلم أن (مضاض الجرهمى) قد استقر رأيه على النزول بجوار بيت الله الحرام .

وقبل أن يتحرك ركب الجراهمة من منزله الذى خيَّم فيه للراحة ، يأتيه صياح حراسه على أطراف الركب : يا سيد جرهم ، أبناء عمومتنا قطوراء تُرى راياتهم من بعيد .

وعلى فوره يأمر مضاض ركبه بالتوقف والانتظار كى لا يشق على أبناء عمومته قصد اللحاق به ، فقد أحس (مضاض) أن (السميدع) ، سيد قطوراء آثر مجاورته فبدا البش والترحاب على وجه مضاض ، فأحسن استقبال ركب السميدع ، وقَبِلْ صحبته إلى حيث الوجهة التى ارتضاها .

وما أن بدت مشارف مكة، وقفا الاثنان سيد جرهم مضاض بن عمرو ، وسيد قطوراء السميدع بن عمليق وتشاورا فى الأمر .

قال مضاض : دعنى يا سميدع أتفاوض مع أبناء إسماعيل، وأن أتحدث باسمى واسمك .

ويوافق السميدع ، ويعطيه تفويضا بذلك ، مادام الأمر فى النهاية يصب فى صالح القبيلتين .

وانطلق مضاض إلى بنى إسماعيل ، واستأذنهم فى النزول إلى جوارهم ، وسمح بنو إسماعيل بنزول القبيلتين ( جرهم ، وقطوراء ) إلى جوار البيت الحرام ، على أن ينال البيت جزءاً من أرباح الدخول التى ستفيض عليهما جراء مجاورتهما للبيت المبارك ، فأبناء إسماعيل هم حماة الكعبة، وهم القائمون على رعاية البيت والرفادة والسقاية، والإشراف التام على شئون الحج حين يأتى الموسم. ويعلمون تمام العلم أن من ينزل عند البيت، ويأخذ بأسباب التجارة، تفيض عليه السماء مداداً وافراً من سعةالرزق ، ففى موسم الحج يعج هذا المكان الطاهر بصنوف الناس وأشتاتها .

وينزل مضاض لشرط بنى إسماعيل ، ويعد بالتنفيذ حين تستقر أموره وأبناء عمومته من قطوراء .

انطلق مضاض بن عمرو الجرهمى فرحاً بما ناله من بنى إسماعيل، وأسرع يخبر السميدع بما توصل إليه .

فقال مضاض : يا سميدع إننا أبناء عم، وقد رضى أبناء إسماعيل بنزولنا فى أرضهم، وقبلوا أن يكون لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، فاختر يا ابن العم أى مكان تحبه لينزل به أهلك من قطوراء ؟

قال السميدع : إننا كما قلت أبناء عم فاختر أنت ما يحلو لك، فلا أحد ينسى أنك أشرت إلينا بالنزول فى هذا البلد الطيب .

واختار مضاض بن عمرو الجرهمى النزول بأعلى مكة بمنطقة ( قعقيعان ) وقَبِل عن رضا السميدع النزول بأسفل مكة بمنطقة ( أجياد ) وذهب مضاض ليطلع أبناء إسماعيل على ما تم بينهما، ولما عاد عاتبه السميدع فى الرجوع إلى بنى إسماعيل فيما يدور بينهما، وكأن السميدع خشى من تودد مضاض لأهل البيت، فرد عليه مضاض قائلا : إنهم أهل البيت، وهم سادة مكة، وأهل الحرم وزينة العرب ، وما أحب أن أدبر أمراً دون إطلاعهم عليه، كي لا أدع مجالاً للريب والشكوك فى أمرنا يا سميدع .

ولا يقنع السميدع بقول مضاض ، ذلك أن فى نفس مضاض أسباب يخفيها على السميدع وهى تقف وراء تودده لبنى إسماعيل .. وقد نما إلى علم السميدع أن جرهم تُحرض التجار على دخول مكة من ناحيتها كى تجمع نصيبها ونصيب قطوراء . فأراد السميدع أن يستوثق من صحة ذلك ، فتحدث بهذا إلى مضاض الذى رد عليه غاضباً : يأبى الله والشرف أن أفعل هذا !! ولكن يا سميدع لعل التجار يفضلون الدخول من ناحية جُرهم لحسن معاملتهم للغريب، وبُعدهم عن الإيذاء !!

قال السميدع قاطعاً عليه الطريق : فإذا صدقت فى قولك هذا فقاسمنى أموالك ، نحصى ما عندنا ويأخذ الواحد منا فضل ما عند الثانى .

ويغضب مضاض الذى لم يرق له سماع مثل هذا اللجاج ، فثار عليه قائلا: إن ما تطلبه يا سميدع لهو البغى ، تريد أن تحرمنى ما جمعته بجهدى وجهد رجالى ؟ هذه قسمة ظالمة !!

وبدأ الخلاف يشق طريقه نحوهما ، فقال السميدع : وحيك لِمَ تفتح بابا للخلاف، وهذه قسمة ليست بظالمة .

ووقف الاثنان على مفترق طرق، وأصر كل منهما على رأيه، واحتاج الأمر إلى تحكيم، يفصل ما بينهما من نزاع . 

قال مضاض : ليس أمامنا سوى عرض الأمر على أبناء إسماعيل فلينظروا لنا رأيا .

ولم يعجب السميدع ذلك ، فقال : وما لنا وأبناء إسماعيل ، كلنا سيد فى قومه بمكة، فما حاجتنا إلى الاحتكام لبنى إسماعيل، ما هم إلا سدنة للبيت ، ولم تعد لهم شوكة فى مكة، فهم قوم استكانوا إلى الهدوء، وابتعدوا عما ينشب بين القبائل من خلاف، وكرهوا القتال. فلا يعرفون كيف يرفعون السلاح فى وجه غاصب، ونحن نحميهم من القبائل التى تطمع فى أرضهم، فلا ترفع قدرهم فوق قدرنا بالرجوع إليهم فيما يقع بيننا .

ويغضب مضاض لكلام السميدع، ويحس فيه لغة غطرسة وغرور بالقوة، ويأبى الشريف أن يُذعن لها .

فقال : نحن أخوالهم وإذا كنت قد رأيتهم قد باعدوا مشاكلنا، فما ذلك إلا لإيثارهم السلام ، فهم يكرهون أن تسيل الدماء من غير طائل، وآثروا خدمة البيت والحجيج عن طلب متع الحياة ومباهجها، ولن أرضى بغير الاحتكام فيما دب بيننا من خلاف إلا لأبناء إسماعيل .

قال السميدع : إذن فأمهلنى حتى انظر ماذا يرى قومى ؟

وأجمعت قطوراء على أن يتم إحصاء أموالهم وأموال جرهم ، ثم يتم اقتسام فضول تلك الأموال كلها . أى أصرت قطوراء على رأيها الأول .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. 


تكملة للحلقة الثانية: الفتنة حول الكعبة !! 

من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي

وأبت جرهم أن تنزل حيثما تريد قطوراء، واشتد الخلاف، وتحدث بعضهم عن الحرب، واعتزل بنو إسماعيل الفتنة، فـ (جرهم وقطوراء) أخوالهم، وهم فى شغل عن هذا النزاع لاقتراب موسم الحج المقبل، يعدون له، ويستعدون لاستقبال العرب من كل حدب وصوب، فبنو إسماعيل هم سدنة الكعبة، وحجابها، والقائمون على أمرها بأمر أبيهم إسماعيل .

وفى ندوة من ندوات مكة يجلس ( نزار ) سيد بنى إسماعيل، يتشاور مع أشراف قومه فيما وقع بين الحيين ـ جرهم وقطوراء ـ ، فيقول أحدهم له : يا سيدنا لا أحد يحسم هذا النزاع سواك .. فيقول له نزار : لا والله لا أدخل فى هذا النزاع حتى يُحكمونا إذا شاءوا، وساعتها أنظر فى الأمر بالإنصاف، لا أظلم أحدًا من أخوالنا، فإنه ليسرنا ما يسرهم، ويؤذينا ما يؤذيهم .

وينفض موسم الحج، ويذهب مضاض بن عمرو الجرهمى إلى ( نزار ) طالباً التدخل، بل العون والنصرة حتى ينتهى إلى ما يريده مضاض، فهو يرى فى قسمة السميدع ظلم وعدوان .. ويرفض (نزار) التدخل حتى يطلب منه الطرف الآخر ذلك ، ويوصد نزار سيد بني إسماعيل باب العون والتأييد فى وجه مضاض، لما فى ذلك من محاباة طرف على حساب الثانى، فهو لم يسمع من خصم مضاض مثلما سمع منه ، ونسى مضاض فى حومة غضبه أنه إنما يتحدث مع حماة البيت وعُمَّاره، ومثل هؤلاء لا يرضون بالضيم والإجحاف، فقد أمنهم الناس على بيت الله الحرام .

ويحاول مضاض جاهداً إقناع نزار بنصرته على السميدع الذى أراد بقسمته الباغية إلحاق الأذى به، فهو يرى فى نصرة نزار له إحقاق الحق،. لكن نزار لا يقنع بهذا الكلام، فكلاهما سواء عنده، فحسم نزار رده قائلاً : أو لستما تظلمان هذا البيت يامضاض، وأنت والسميدع فى هذا سواء ؟ ، تعشران أسفل مكة ومن أعلاها دون أن ينال البيت شيئا مما تجمعان من أموال، وقد وعدتما أن ترفعا إلينا بعض هذه الأموال للإنفاق على عمارة بيت الله الحرام، وعلى ضيف بيت الله، وسقاية الحجيج ورفادتهم، مرَّ الوقت ولم ينل بيت الله من العشور شيئاً، بخلتما على البيت بالقليل، وكثرت أموالكما، وصارت لكما العبيد، والخيل، والإبل، والماشية ترعى بمكة وما حولها، من (وادى مرٍ إلى عرفة إلى طريق الطائف) ، وتجوب تجارتكما (الشام والعراق ومصر واليمن) ، ونسيتما بيت الله الذى يحتاج إلى عمارة، ورعاية، ونفقات للحجيج ؟

وبعد طول إنصات من مضاض لهذا الكلام اللاذع، أراد مضاض أن ينحى بالحوار إلى جهة كانت تدور برأسه أثناء سماعه ما سمع، أراد مضاض أن ينتهز الفرصة ويحولها لصفقة يبرمها مع نزار سيد بنى إسماعيل.

قال مضاض : خذ كل أموالى يا نزار إذا شئت، شريطة أن يكون لنا معشر بنى جرهم السقاية، والرفادة، والقيام على بيت الله .

وتتبدى سوء نوايا مضاض لنزار، ويرى فى الحديث انحداراً للخديعة والمناورة، ولم يحتمل سماع أكثر من ذلك فرد نزار فى غضب عليه : ماذا تقول يا خال؟ أنزل عما كان لجدنا إسماعيل ؟ لا ، لا ، لا يكون هذا أبدًا يا خال، والله ما تريد بهذا أن تخدم البيت !! ، إنما تريد أن يعضد ذلك من موقفك فى نزاعك مع السميدع، إنَّ هذا مكر لا يحبه الله، لا ، لا أنزل عند شرطك أبدًا . 

ويدخل النزاع بين جرهم وقطوراء مرحلة خطيرة، بعد أن أبى السميدع الاحتكام إلى بنى إسماعيل، وبعد أن جار مضاض بن عمرو على بنى إسماعيل، واستبد بالأمر عنوة وولى البيت من دون أصحابه ، وانزوى بنو إسماعيل فى بيوتهم قهرًا وكمدًا، وقويت شوكة مضاض حين تم له ذلك غصبًا فى حومة نزاعة مع السميدع . وتنشطر مكة لفرقتين، فرقة تؤيد الجراهمة، وأخرى تؤيد قطوراء ( العماليق ) .

وبدأ يدخل اللعب بالأنساب في الصراع، وراح كل فريق فى مد جذور نسبه إلى ما هو شريف، فيخرج من الجراهمة من يقول : إن مضاض سيد الناس، وإنه من جرهم، وجرهم بن قحطان ابن السيادة والشرف. ويخرج من الفريق نفسه من يقول : إن ملكنا مضاض ينتهى نسبه إلى نبي الله هود .. وفى الجانب الآخر من قطوراء ينبرى فيهم من يقول: إن نسب السميدع لهو أرفع الأنساب شرفاً، فهو من ولد عمليق بن لاوز . وقام من نفس الفريق من أفرط فى نسب سيده حتى أوصله إلى سام بن نوح عليهما السلام .

واستعرت حمى التنافس فى الأنساب والأحساب بينهما، وعظمت الفجوة واتسعت الشقة بينهما، ويصل هذا اللجاج واللغط الذى مس المقدسات إلى نزار شيخ بنى إسماعيل، ويخرج عن صمته ويأبى إلا الوقوف أمام هذه المهزلة بحزم وحسم ، فالأمر جد خطير، وليس فى مكة من يضع الأمور الدينية فى مكانها سواه، فهو أمين البيت الحرام، يخرج نزار على القوم وهم يتبارون فى الأنساب وتزوير الحقائق واللعب بالدين ، ويقول : يا معشر جرهم، يا معشر قطوراء، إنكما هذه المرة تخوضان فى حديث لا علم لكما به، ولولا أن الأمر هذا يخص الدين ما تدخلنا فى شأنكما.

ولا يُعجب هذا الكلام أحد السامعين من قطوراء، فيقول : فما علمك به يا شيخ نزار ؟

فرد عليه نزار: علمى به ما تعلمناه عن الآباء نقلاً عن جدنا إسماعيل، وليس فى أنساب الجراهمة ولا قطوراء هذا الزعم الكاذب، كفوا عن هذا الأمر الذى سيوردكم الهلكة.

ورغم هذا التحذير، لم تنته الحمى التى ضربت الحيين، جرهم وقطوراء، بل زادت وعلت وتيرتها، وبالغ كلاهما فى زعمه، وبدءا ينسجان من الأقاصيص الكاذبة ما يرفع أمر أحدهم على الآخر، حتى وصل بأحدهما القول: إن نسب جرهم ينتهى إلى الملائكة . وأصبح واضحاً أنه لن يحسم الخلاف المتكبر بين الطرفين سوى القتال ، فسار بعضهم إلى بعض .. فخرج مضاض بن عمرو الجرهمى ، وخلفه جرهم من ( قعقيعان ) فى كتيبة ، سائراً إلى السميدع بن عمليق وحمل عدته من الرماح ، والدرق ، والسيوف، والجعاب .

وخرج السميدع من ( أجياد ) ومعه الخيل والرجال، والتقى الفريقان بمنطقة ( فاضح ) ودارت رحى قتالٍ شديدٍ بينهما ، ساعات من نهار فيها تقاطر قتلى من الجانبين ، ولا ينتهى القتال حتى برز الرجلان بعضهما لبعض ، حقناً للدماء ، وحسماً للأمر، فانبرى مضاض سيد جرهم للسميدع سيد قطوراء ، وإن هى إلا جولة ينقص فيها مضاض على السميدع بضربة خاطفة ، يخر على أثرها السميدع صريعاً .

ويدب الفزع فى صفوف قطوراء، وما إن هموا بالفرار إلا وتنادوا للصلح، على أن يخضع المنهزم للمنتصر وصار الأمر كله لمضاض بن عمرو الجرهمى . 

ودانت قطوراء له صاغرة ، ليس أمامها سوى الإنصياع .. وينزوى بنو إسماعيل بين شعاب مكة وأوديتها ، وتخلو الساحة إلا من الجراهمة ، لا أحد يردعهم ، عثوا فى مكة فساداً ، فأدخلوا على دين إبراهيم الحنيف ما ليس فيه ، ألحدوا فى عقر دار التوحيد ، بغوا على العباد فظلموا من دخل مكة من غير أهلها ، وأكلوا مال الكعبة الذى يُهدى إليها ، واستحلوا خلالاً من الحرمات ، وظلت مكة بيت الله الحرام أسيرة هؤلاء البغاة من الجراهمة لسنوات طوال ، حتى كان عهد حفيد من أحفاد مضاض يُدعى ( عمرو بن الحارث بن مضاض ) فاقتص الله منهم جميعاً فى عهده ، حين هاجمتهم (خزاعة) أبناء عمومة لهم حطوا قرب مكة من خارجها أيام خروجهم فارين من (سيل العرم ) باغتت خزاعة جرهم فى مكمنها ، وكانت تعيش زمن غفلة وضياع، ولم تستعص على خزاعة التى انقضت عليهم ، وأعملت فيهم القتل والتشريد ، ولما رأى عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى نهاية جرهم تتبدى أمامه ، أكل الحقد قلبه ، فأخذ ( غزالتى الكعبة ) اللتان كانتا بداخلها ، وهما من الذهب الخالص المسبوك ، أخذهما وحمل معه (حجر الركن) ، وألقى الغزالتين وحجر الركن فى بئر زمزم ، وأمر رجاله أن يطمروا البئر ( بئر زمزم ) ويخفوا معالمه وأهالوا الردم على البئر وسوى بالأرض ، نكاية فى خزاعة التى أنزلتهم الهزيمة ، ليعطلوا الحياة عليها فتتكلف مشقة جلب الماء من خارج مكة .

وبعد أن فعل فعلته هو ورجاله، فر ومعه خاصته ، وتشتت أمر جرهم، واندثروا فى الفيافى والصحارى ، ومن بقى منهم فى مكة ، أخفى على الناس نسبه وأصله ، وعاشوا على هامش الحياة فى المجتمع المكى .

وتحول أمر البيت إلى خزاعة المنتصرة ، لكنها لم تكن أحسن حالاً من جرهم ، فعمدت هى الأخرى إلى الفساد والإفساد ، وأحيت سيرة الجراهمة البغاة ، ولم يراعوا حرمة البيت، فانحدروا نحو ما تبقى سليما من دين إبراهيم ، تارة بالتشويه وأخرى بالتدنيس ، حتى وصل بهم الأمر فى عهد أقبح زعمائهم على طول تاريخهم ( عمرو بن لُحىَّ الخزاعى ) أن قضى على البقية الباقية من دين إبراهيم ، فكان أول من أدخل عباة الأصنام حول البيت الحرام .. وصدق قول الرسول فيه حين قال عليه الصلاة والسلام بعد رحلته العظيمة ( الإسراء والمعراج ) « رأيت عمرو بن لُحى الخزاعى يجر قصبه – أى أمعائه - فى النار»

وبدَّل (عمرو بن لحى الخزاعى) دين العرب ، وسنَّ لهم سنة البحيرة والسائبة من الأغنام ، ووزع الأصنام التى جلبها من الشام على القبائل ، وفند لها الطقوس والمراسيم ، وأدخل على التلبية كلمات الشرك ، فحتى زمانه كانت تقول العرب فى التلبية [ لبيك اللهم لبيك – لبيك لا شريك لك لبيك . إن الحمد والنعمة لك والملك – لا شريك لك – فزاد عليها : إلا شريكاً هو لك تملكه وماملك ].

ومنذ أطلقها صارت تلبية الشرك هى تلبية العرب حول البيت ، وسرى الشرك فيهم ، وبلغ مبلغاً تاهت معه معالم الهداية فى هذه البقعة الطاهرة من أرض الله .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.



تعليقات



CLOSE ADS
CLOSE ADS
close