رواية ندوب الهوى الفصل السادس عشر و السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرون بقلم ندا حسن
![]() |
الفصل_السادس_عشر
"وما به القلب سوى الهوى، الهوى للمُحبين القادرين
على التخطي وما به سوى العذاب الممزوج بالهوى
للمُحبين الراغبين الندوب بعد الجروب"
ضغطت على الكتب التي بيدها بقوة شديدة وهي تتابع تقدمه منها والذي أوحى إليها باشياء عدة وهو بهذه الحالة الغريبة عليه وعليها..
استشعرت أن هناك خطب ما ومؤكد الآن أنها هي من فعلته فلو كان أحد آخر لما كان يأتي إليها هكذا وملامحه لا تبشر بالخير أبدًا بل كل شيء به لا يبشر بالخير..
أسرعت تخفض بصرها عنه وبدلته إلى صديقتها وأردفت بتوتر وقلق وهي تبتعد عنها هي وشقيقها متقدمة منه:
-طب عن اذنكم أنا لازم أمشي جوزي جه
لم تعطي إليهم الفرصة للرد عليها بل ذهبت إليه تتقدم منه لتقطع طريقه إليهم حتى لا يتحدث أمامهم بشيء، لا تدري ما الذي ممكن أن يفعله هي فقط تستنتج من ملامحه التي لا تبشر بالخير..
وقفت أمامه بعد أن قطعت المسافة بينهم وثبتت أقدامه بالأرضية بمجرد وقوفها معه، حركت عينيها عليه بقلق وجدية شديدة وربما هناك رهبة بنسبة واحد بالمئة من مظهره هذا..
أردفت بتردد وهي تضع يدها اليمنى على ذراعه بتلقائية تتسائل عما به:
-مالك؟. شكلك متعصب أوي كده ليه
رفع نظرة إلى خلفها بعد هذا السؤال ورأى زميلتها وشقيقها قد صعدوا إلى سيارتهم وبدأت بالتحرك مغادرين المكان، ضغط بقوة على كف يده أخذًا نفسًا عميقًا أمامها جعل صدره الضخم يرتفع وينخفض بقوة...
نفض ذراعه من يدها وبدل الأدوار تحت نظراتها المتعجبة لما يحدث ثم جذبها من يدها إلى إتجاه السيارة وهي تجاريه في السير وعقلها منشغل بما يفعله وما حدث له..
فتح لها باب السيارة وجعلها تجلس في مقعدها بعد أن أشار لها ثم أغلق الباب بقوة جعلتها تنتفض بتلقائية لفعلته المباغتة، استدار حول السيارة تحت أنظارها المتعجبة، صعد إلى مقعد السائق وتولى القيادة عائدًا إلى الحارة كما أتى إلى هنا مع حدوث تغير كبير ومؤثر واضح كثيرًا عليه وهو شعوره بالغضب والعصبية التي احتلت أوردته وتود الانفجار الآن بوجه أي شخص كان..
أمسكت بحقيبتها الصغيرة وتلك الكتب التي كانت تحملها على يدها واستدارت بجسدها تُميل إلى ناحيته وهو يقود السيارة وألقتهم بالمقعد الخلفي، أعتدلت مرة أخرى في جلستها نظرت أمامها بتوتر كبير وهي تراه عاقد حاجبيه بقوة ووجه يحمل انزعاج لم تراه بحياتها منه بهذا الشكل لأنه من الأساس ليس من هؤلاء سريعين الغضب..
حركت رأسها إليه مستديرة لتنظر إلى وجهه وقد جذبتها يده الذي تضغط على المقود بقوة جعلت عروقه بارزة بشكل غبي!..
أغمضت عينيها العسلية تضغط عليهما بقوة محاولة أن تتشجع وتقترب منه لتعلم ما الأمر ولكن للحق!.. كان مظهره مخيف للغاية!..
فتحت عينيها بهدوء ووضعت يدها اليسرى على ذراعه الموضوع على المقود بحدة وهتفت بلين مع ابتسامة هادئة وهي تتسائل عما يحدث معه:
-مالك يا جاد؟.. في حاجه مضيقاك؟..
نظر إلى يدها الموضوعة على ذراعه ثم إلى وجهها بنظرة خاطفة وأعاد بصره إلى الطريق يعطيه تركيزه الواهي أمامها، ألا تدري حقًا ما الذي فعلته؟ ألا تدري أنه منزعج منها بشدة؟.. لما تقف مع ذلك الشاب مرة أخرى؟. ألم ترى غيرته عليها منذ أول يوم رآها معه؟.. الآن هي زوجته ما الذي تنتظره منه؟.
أبعدت يدها عنه ونظرت أمامها مرة أخرى تبتلع غصة حادة تشكلت في حلقها، ضغطت على يدها كما المعتاد في تلك الحالات المتوترة ومن ثم مرة أخرى عادت تتسائل باهتمام وهي تنظر إليه بتمعن:
-جاد أنا بكلمك!. مالك؟ فيك ايه
تحدث من بين أسنانه بحدة حاول أن يخفيها ولكنه لم يستطيع، لم يكن ذلك الرجل المتشكل يومًا بل كان واضحًا كوضوح الشمس:
-رنيت عليكي مردتيش مع إنك مكنتيش مشغولة بالعكس كنتي واقفة مع زميلتك
استدار ونظر إليها بجدية ثم أبعد بصره عنها مُكملًا بغيظ وضيق:
-وأخوها.. مش أخوها بردو؟.
أبعدت وجهها إلى الناحية الأخرى تنظر من النافذة وودت لو تبتسم أو تضحك بقوة! هل كل ذلك لأجل وقفتها مع زميلتها وشقيقها؟.. الآن فهمت حقًا لما يأتي هكذا ومظهره يدعوه لقتل أحدهم.. لم يكن هكذا في الصباح لذا كان عليها الاستغراب عندما أبصرته يتقدم منها...
استمعت إلى سؤاله الذي أتى بصوت خشن قوي منه يليه هذا التهكم الواضح:
-ما تردي عليا ولا مسمعتيش
هتفت مُجيبة إياه بجدية وبساطة وكأنها لم تستشعر تلك السخرية في حديثه:
-لأ سمعت.. الموبايل بتاعي كنت عملاه صامت علشان المحاضرة
أكملت وهي تستدير إلى الخلف:
-أنتَ أصلًا فكرتني أنا كنت ناسيه خالص
مدت يدها إلى المقعد الخلفي وجذبت حقيبتها من عليه ثم استدارت مرة أخرى تجلس معتدلة براحة وهي تخرج الهاتف من الحقيبة، عبثت به قليلًا ثم وضعته مرة أخرى في الحقيبة وأعادتها في الخلف كما كانت..
نظرت إليه باستغراب اصطنعته بإتقان وهي تسأله مضيقة ما بين حاجبيها:
-هو أنتَ مضايق علشان مردتش عليك؟..
لم يُجيبها بل بقيٰ كما هو يقود السيارة وجسده مشدود حتى أنه لا يستطيع الجلوس براحه مثلها!.. نظر إلى عينيها العسلية نظرة خاطفة عندما رآها تنظر إليه مطولًا تنتظر منه إجابة..
وضعت يدها مرة أخرى على ذراعه وهتفت برقة ولين وهي تعتدل لتقابله في جلستها:
-أنا بجد مكنش قصدي والله بس الموبايل كان صامت.. مش مستاهلة كل ده يا جاد
لم تتلقى منه ردًا مرة أخرى، هو لا يستطيع الحديث معها الآن بشكل طبيعي، لا يستطيع حقًا ولا يود أن يغضب فيتهور في حديثه أو أفعاله يعلم أنه لا يفعلها ولكن هذا وارد!.. وأيضًا لا يريد النظر إلى هاتين العينين العسليتين، كم أنها صافية! يمكنك أن تبحر داخلها أو تستقر دون خروج.. بل كلما نظرت إليها أردت الهروب من الواقع وتكن حبيس هذه النظرات الساحرة..
بقيٰ على وضعه ينظر إليها من الحين إلى الآخر نظرات مسروقة دون أن تشعر وداخله يود أن تفهم وحدها دون شرح منه لما هو على هذه الحالة.. أهي غبية أم تتفهم ما يحدث جيدًا وتتصنع الغباء؟.. ربما تكن تفعل هذا لن يستبعد أبدًا فهو يعرف زوجته جيدًا ويعرف تصرفاتها الغريبة هذه.. على الرغم من أن زواجهم لم يمر عليه كثير ولكنه يعرف كل تفاصيلها منذ أول وهلة شعر بها أنه يحبها.. إذًا بالضبط منذ أكثر من أربع أعوام.. منذ أربع أعوام وهو غارق بحب هذه الصبية الجميلة التي تحمل نقوش بنية هادئة على وجهها تجعله يتوه في صنعها..
هي الأخرى أبعدت نظرها عنه إلى الناحية الأخرى وتركته وحده بهذه الانفعالات الظاهرة عليه وداخلها تود أن ترقص من هنا إلى المساء، إنه يشعر بالغيرة وهذا ليس أول موقف تقع به معه وترى كم يغير عليها ولكن في كل مرة تشعر أنها الأولى وتشعر أيضًا بلذة غريبة تجتاح جسدها وتشعرها بكم يريدها له وحده!.. لا يريد لأحد غيره أن يراها أو يتحدث معها أو يستمع إليها!.
يشعرها هذا دائمًا بالانتشاء والسعادة تجاهه وتترك كل ما يأتي منه خلف ظهرها ناظرة فقط إلى كل ما هو إيجابي رائع به لتحافظ عليه وتحفظه جيدًا وقد كان هذا صعب للغاية.. لأن كل ما به جيد بل ممتاز ورائع..
❈-❈-❈
دلفت إلى داخل شقتها بعدما تركت حذائها بمكانه، تقدمت إلى الصالة وتركت حقيبتها وكُتبها على الأريكة بهدوء، استدارت تنظر خلفها إليه وكادت أن تتحدث ولكنها وجدت الصالة فارغة!..
نظرت إلى جانبيها ولم تراه، تسائلت داخلها أين ذهب في هذه اللحظات؟.. تقدمت تسير بثبات متجهة إلى غرفة النوم التي استشعرت وجوده بها وقد كان حقًا..
رأته يبدل ملابسه بسرعة، يبعد القميص عنه بهمجية ويرتدي آخر لونه أسود قطن بيتي بنصف كم يلائم هذا الجو الحار، ثم فك زر البنطال الجينز أمامها بعد أن نظر إليها بقوة وحدة وعينيه ترسل إليها شرر يود أن تراه جيدًا، أزاله عنه وهو يبعد نظرة عنها إلى البنطال البيتي الآخر ذو اللون الأسود كما القميص..
اشاحت وجهها عنه وهي تشعر بالاستغراب حقًا هذه المرة ليس تصنعًا، وقفت أمام المرآة وهي تزيل الحجاب عن وجهها ثم حررت خصلاتها بضيق وانزعاج وهي تشعر بسخونه تحتاجها..
عادت للوراء مستديرة تتقدم إلى الخزانة وهي تسير من خلفه ببطء حيث أنه كان يقف أمام الفراش في منتصف الغرفة بين الحائط والفراش..
شعر بها وهي تمر من خلفه فابتعد إلى الجهه الأخرى وهو يمسك بالبنطال الذي خلعه عنه ويأخذ منه النقود الموجودة به وما يلزمه ويضعه في البنطال الذي ارتداه..
رأته يخرج من الغرفة إلى المرحاض وهي تسير خلفه بخفه وتروي لترى إلى أين يذهب، حركت رأسها يمينًا ويسارًا والابتسامة تغزو وجهها شاعرة بالراحة تحتاجها وهي تراه بهذه الحالة.. أخذت قميص مريح بنصف كم وصدره يشكل رقم سبعة ويصل طوله إلى بعد ركبتيها بقليل..
جمعت خصلاتها وربطتها أعلى رأسها تاركة خصلتين على جانبي وجهها، خرجت من الغرفة تتقدم إلى المطبخ فقابلها وهو يخرج من المرحاض يجفف يده بمنشفة صغيرة..
-عشر دقايق والغدا يكون جاهز
أجابها بجدية واقتضاب وهو ينظر إليها بعد أن وقف أمامها:
-مش واكل.. أنا نازل
سألته باستفهام وهي تُبصر ملامحه وتعابيره بدقة وتمعن شديد:
-مش هتاكل ليه؟. هو أنتَ كلت عند ماما فهيمة
أجابها مرة أخرى وهو يضع المنشفة الصغيرة على أحد كتفيها بلا مبالاة متوجهًا للخارج:
-مكالتش بس مش جعان... ماليش نفس
أمسكت بالمنشفة بيدها وسارت خلفه إلى الخارج ووقفت في الصالة تنظر إليه يرتدي حذاء رجالي مفتوح من الأمام والخلف:
-إزاي بقى ما إحنا بناكل كل يوم في نفس المعاد الله
أبصرها بجدية وتحدث بحزم وهو يأخذ مفاتيحه:
-مش جعان قولت
أخبرته بعناد وهي تأكد أنه يريد أن يأكل حتى يرضخ لها ويبقى ليتناول الطعام كي لا تشعر بالذنب لأنها من ازعجته وجعلته يذهب:
-إزاي مش جعان إحنا فاطرين الصبح الساعة سبعة مع بعض وإحنا دلوقتي الساعة أربعه معقول مش جعان
بجدية شديدة تحدث وهو يومأ برأسه:
-آه
أكمل حديثه وهو ينظر إليها بعينيه الرمادية بتركيز ونبرته تحمل حنان ورجولة لا تصف حتى وهو غاصب منها:
-أنا نازل الورشة عايزة حاجه من تحت وأنا راجع
استدارت لتذهب مرة أخرى إلى داخل المطبخ وأجابته بجدية وبساطة وهي تبتعد لأنه ازعجها هو الآخر:
-لأ شكرًا هبقى أنزل مع ماما فهيمة
وقف مكانه ينظر إليها وهي تستدير وتتحدث بهذه الثقة الكبيرة عن نزولها مع والدته!، أردف متسائلًا باستنكار:
-مين اللي قال كده؟
أدارت جسدها مرة أخرى بعد أن استشعرت في نبرته الاستنكار أو الرفض ربما، وتحدثت بهدوء ولين:
-عادي أنا وهي اتفقنا ننزل سوا نجيب شوية طلبات
أردف بجدية لا تحتمل النقاش وهو يتقدم منها خطوة واحدة يستند بيده على ذلك الكومود الكبير عند الباب:
-مفيش نزول ابقي اكتبي اللي أنتِ عايزاه في ورقة وأنا هجيبه
حركت عينيها بضيق على المكان من حولها ومن ثم أعادت نظرها إليه قائلة بضيق وهي تضع يدها أمام صدرها بقوة:
-أنا عايزة أنزل يا جاد فيها ايه دي كمان
ابتسم بسخرية أمام وجهها ثم لاحت الجدية مرة أخرى عليه وأردف مُجيبًا إياها بحب ومعه نبرة رجولية خشنة:
-فيها أنك تطلبي وأنا أنفذ ولما معملش كده أبقي انزلي براحتك لكن طول ما أنا موجود متنزليش تشتري حاجه كله هيجيلك لحد عندك
تذمرت وهي تضرب الأرض بقدمها ثم هتفت بصوتٍ حاد قليلًا يوضح مدى انزعاجها منه:
-على فكرة وأنا في بيتنا كنت أنا اللي بقضي طلبات البيت وأنتَ عارف كده
تهكم عليها ثانيةً وهو ينظر إليها من الأعلى إلى الأسفل بوضوح مردفًا بقوة وجراءة:
-والله لو كان ليا حكم عليكي كنت حبستك في البيت أصلًا.. فكرك يعني مش عارف وساخة نص البياعين ولا بصاتهم للستات
أخذت نفس عميق وزفرته تحت نظراته ثم لانت نبرتها متناسية حديثهم الغبي هذا وأردفت بلين ورقة تُجيدها جيدًا وتكن الأولى بها دون منازع:
-جاد!..
-نعم
ابتسمت وهي تطلب منه بدلال:
-أقعد اتغدا معايا
نظر إليها بجدية ومن هنا ومن هذه النظرة التي ترتسم على وجهها وتغيرها للحديث علم أنها تتفهم جيدًا لما هو مزاجه معكر هكذا!.. تتلاعب به ربما أو هو مخطئ.. ليس مخطئ!.
أردف بقوة قائلًا بعد أن فتح باب الشقة:
-بالهنا والشفا يا هدير قولتلك مش جعان ده غير أن عندي شغل في الورشة ولازم أنزل علشان عبده وحمادة مش تحت.. سلام
خرج من الباب ثم أغلقه خلفه بهدوء وهو يفكر في نظرتها البريئة المماثلة لنظرة الأطفال عندما تريد منك شيء لا تريد تنفيذه.. حقًا من لا يعرفها يعطيها شهادة الأولى في الرقة والهدوء ومن يعرفها يعرف كيف تحمل داخلها شراسة لا نهاية لها وكأنها وَحش كما لقبها، حقًا هي كذلك مُتشكلة، تستطيع أن تفعل ما تريد أن كان يأتي باللين أو الجدية، بالضعف أو القوة..
تستطيع أن تتشكل في الثانية الواحدة خمسون مرة وفي كل مرة تحمل اختلاف لا يوصف يجعلك تنبهر بها.. هو منذ قليل كان غاصب بشدة لما شاهدها به ومازال إلى الآن غاصب ولكن هذا ليس من طباعه ولا بحبه أبدًا يريد الهدوء ويحبه ويفكر كثيرًا في كل شيء يريد أن يفعله، كان يود أن يعاتبها على فعلتها ولكنها لم تبدي أي ردة فعل تشعره بأنها مخطئة بل تظهر وكأن لم يحدث شيء ولم يراها تقف مع رجل غريب عنها..
على الرغم من أنها لا تفعل هذا أبدًا وهو يعلم ذلك جيدًا ولكن الأمر ازعجه وجعله يشعر بأنه لا فرق لديها من الأساس فاختار أن يصمت إلى أن يرى متى ستشعر بأنه منزعج منها هي ومن خطأها الذي لا تراه من الأساس.. أو تراه وتتغاضى عنه أو حتى تعانده به..
نظرت في أثره بذهول وهي تحاول استيعاب ما الذي حدث!..
لقد رحل!.. تعتقد أنه حقًا منزعج منها بشدة، لما لم تغير له الأمر هذه الغبية! لما تركته يذهب دون طعام ودون أن تطيب خاطرة وتجعله يتفهم موقفها! لما جادلت وأكملت هذه اللعبة السخيفة منها!.. ما الذي كانت تظن أنه سوف يفعله؟ يثور عليها؟. يتسائل بحدة وعصبية ليظهر غيرته عليها أنها حقًا غبية لقد انتظر منها تفسير لما حدث ورأته بعينيه وهو يطالب به ولكنها تجاهلت ذلك وأكملت بسخافة لتزعجه وتجعله يشعر بالغيرة أكثر...
غبية!... ازعجته وهو لا يستحق منها هذا..
❈-❈-❈
في مكانها المعهود خطت خطوتها الأولى لتتقدم إلى الداخل في الفراغ الواسع، والهواء الطلق المباشر من السماء، الذي عبث مع حجابها المُلتف بأحكام على رأسها ويتدلى طرفه أمام جانب صدرها، دلفت "مريم" إلى السطح وبيدها الهاتف تضعه على أذنها تتحدث مع "سمير" بابتسامة عريضة مُرتسمة على شفتيها وهي تستمع إلى صوت حبيبها الذي تعاهدت معه على التكملة إلى الأبد وليكن لها الداعم الأول والأكبر والسند والزوج والحبيب..
-أنا أصلًا واقفه على السطح.. النهاردة الهوا حلو أوي
قضبت جبينها بعد أن استمعت إليه يقول لها أنه سيصعد فصاحت سريعًا:
-لأ لأ سمير أنا هنزل
تقريبًا لم يستمع ما قالته فهي استمعت إلى صوت صافرة إنهاء المكالمة الهاتفية، أبعدت الهاتف عن أذنها ونظرت إليه لتراه أغلق بوجهها ثم لحظات وكان خلفها يتحدث بعبث ومرح:
-الجميل بتاعنا بيعمل ايه هنا لوحده
استدارت تنظر إليه بسماجة قائلة وهي تضيق عينيها عليه بتهكم:
-بيلعب.. تلعب معاه
نظر إلى وجهها بالكامل مُمررًا عينيه على كل أنش دون خجل ثم هتف بقوة معهودة منه ونظرة خبيثة:
-ياه والله ياما نفسي اديني فرصتي بس
نظرته إليها ونبرة صوته لم تجعلها تفهم إلى أي حديث يشير هو، لقد كانت تمزح وهو كذلك ما الذي يقصده الآن بهذه الملامح والحركات:
-اديك فرصتك في ايه
رفع أحد حاجبيه باستنكار معقبًا:
-في اللعب.. الله
رفعت أحد حاجبيها هي الأخرى متوقعة شيء داخله لم يكن ما هتف به وقالت:
-حاسه إن نيتك مش سالكة
تقدم خطوة ثم أخرى وعينيه تخترقها قائلًا دون خجل وداخله يود لو كان يقبلها أو يحتضنها الآن:
-طول ما أنا بفكر فيكي بتبقى سواد والله يا مريم
اتسعت عينيها العسلية وهي تبتعد عنه إلى الخلف قائلة بقوة مشيرة إلى نفسها بإصبعها السبابة مستنكرة حديثه أمامها:
-وبتقولها في وشي!
غير ملامح وجهه وهو يتهكم بوضوح قائلًا يلوي شفتيه:
-أكدب عليكي؟
ضغطت على شفتيها السفلية بأسنانها بقوة كبيرة وهي تنظر إليه بغيط لأنها أصبحت تعلم أنه منحرف متسرع في الحديث تفكيره معروف إلى أي إتجاه يذهب ولكن يحبها:
-لأ إزاي خليك صريح
وضع يده الاثنين بجيبه وهو يرفع وجهه ورأسه بشموخ أمامها معقبًا على مظهرها غامزًا بعينيه:
-بس ايه الحلاوة دي، بدر منور في عز النهار
تقدمت هذه المرة ناظرة إليه بحدة واردفت بنبرة جادة لكي لا يتغزل بها بهذه الطريقة ويلزم حده وحديثه معها، فمازال لا يجوز لها أي شيء معه:
-سمير!.. لسانك
تغيرت ملامح وجهه بطريقة مضحكة:
-ماله لساني قال حاجه غلط
بنفس النبرة الجادة قالت وهي تسير إلى باب السطح:
-احكمه.. يلا سلام أنا نازلة
استدار معها بلهفة ينظر إليها وهي تبتعد فقال بنبرة راجية:
-استني شوية طيب
أكملت سيرها وذهبت إلى الباب وأصبحت تهبط على الدرج وقالت بدلال مصطنع وهي تبتعد:
-لأ مش هينفع عايز تشوفني تعالى عندنا
صاح عاليًا وهو يبتسم بسعادة لدعوتها له ونظرتها وحديثها وكل ما بها:
-طب استنيني بالليل بقى
وما به القلب سوى الهوى، الهوى للمحبين القادرين على التخطي وما به سوى العذاب الممزوج بالهوى للمحبين الراغبين الندوب بعد الجروح
❈-❈-❈
"في المساء"
دلف "جاد" الشقة بعد أن مر على والده ووالدته في البيت الثاني، علق المفاتيح جوار الباب في تلك العلاقة التي يضع بها مفاتيحه وهي أيضًا، دلف إلى الداخل متوجهًا إلى غرفة النوم مباشرةً.. فتح بابها ودلف إلى الداخل وأغلق الباب إلى المنتصف، أزال قميصه القطني عنه ووضعه على المقعد ليبقى بالقميص الداخلي ثم تقدم وصعد على الفراش متمددًا عليه..
كانت هي في غرفة الصالون، استمعت إلى صوت الباب وهو يُفتح ويغلق وانتظرت إلى أن يأتي إليها فقد كان صوت التلفاز بها عاليًا ولكنه لم يأتي، دقائق ووقفت بخوف ورأسها داخله أفكار خبيثة تجعلها تشعر بالهلع ليس الخوف فقط، تقدمت من باب غرفة الصالون ببطء وهدوء ثم نظرت إلى باب الشقة رأته مغلق ومن ثم أبصرت علاقة المفاتيح ورأت مفاتيحه بها.. إذًا هو من أتى، هنا بالداخل!..
ذهبت إلى الناحية الأخرى ربما يكون بالمرحاض ولكنه ليس فيه هو الآخر، تقدمت إلى غرفة النوم ودلفت إليها وجدته ممدد على الفراش في مكان نومه يوليها ظهره..
ابتلعت ما وقف بحلقها وتقدمت إلى الداخل تلتف حول الفراش ثم صعدت عليه تجلس جواره بهدوء وأردفت قائلة باستفهام:
-جاد!. مالك أنتَ تعبان
هتف بجدية يُجيبها وهو مغمض العينين وقارب على طردها من الغرفة:
-لأ أنا عايز أنام.. ولو مش هتنامي اطلعي برا
نظرت إليه بدهشة وتعجب، ضربته بقبضة يدها في ذراعه الذي يضعه أمام وجهه وقالت بحدة:
-ايه قلة الذوق دي.. أنا عايزة أتكلم معاك
استدار للناحية الأخرى بجسده ليبتعد عنها مردفًا بارهاق وصوتٍ خافت:
-وأنا عايز أنام يا هدير
أخذت الوسادة من أسفل يدها وضربت ظهره بها عدة مرات وهي تردف بعناد ضاحكة كي تجعله يستجيب لها:
-لأ مش هتنام يا روح هدير
وجدته لا يتأثر بهذه الأفعال فتركت الوسادة مكانها مرة أخرى وزفرت بضيق وانزعاج وهي تسترسل بالحديث اللين الهادئ:
-هو أنتَ زعلان مني؟. على فكرة أنا مابحبش أشوفك زعلان خصوصًا لو مني... أنا مكنتش أقصد على فكرة
استدار بجسده مرة أخرى ينظر إليها وهو ينام على ظهره متسائلًا بجدية حتى يعلم ما الذي تقصده بحديثها الآن وهي تفهم ما الذي ازعجه:
-مكنتيش تقصدي ايه؟
رفعت حاجبها الأيمن ولوت شفتيها بحركة شعبية وهتفت قائلة بمرح وكأنه سيمزح معها:
-أنتَ عارف بلاش بقى نلف وندور على بعض
اعتدل في تلك النومه وارتفع على الفراش يجلس نصف جلسه ليقابلها بوجهه متسائلًا بجدية وصوت رجولي خشن لم يهتز:
-لأ مش عارف يا هدير عرفيني
وضعت يدها على ذراعه مرة أخرى تمررها بهدوء وحنان وهي تردف بجدية ومعها هدوء حذر بينما تنظر إليه:
-أنتَ زعلان علشان شوفتني واقفة مع أحمد أخو نورا زميلتي مش كده؟
تهكم بوضوح وهو يبعد وجهه عنها هازئا وقد علم أنها تفهمت هذا منذ الصباح ولم تتحدث كما توقع:
-ما شاء الله عليكي طلعتي بتفهي أهو
تركت تهكمه الصريح جانبًا وأكملت حديثها بصدق ونبرة حادة:
-أنا مكنتش واقفة معاهم أصلًا
نظر إليها رافعًا أحد حاجبيه متحدثًا بسخرية مرة أخرى وهو يسألها:
-لا يا شيخه
أردفت بصدق ونبرة جادة وهي تقترب منه تنظر إليه منتظرة منه أن يصدق حديثها ويهتف بذلك:
-آه والله أنا كنت خارجه علشان استناك في طريقي للبوابة قابلتهم فخرجت معاهم مش أكتر
قابلها بسؤال آخر يحمل حدة حاول أن يخفيها لكنه لم يستطع:
-وكنتي بتقهقهي ليه إن شاء الله
ضحكت بوجهه وهي تتذكر زميلتها السخيفة وقالت مُبتسمة:
-لأ دي نورا قالت نكته بايخه فضحكت
أبصرها بعتاب ونظرته ناحيتها مرهقة قائلًا بتهكم:
-النكته البايخه بقت بتضحك اليومين دول
أقتربت منه أكثر إلى أن قطعت المسافة بينهم، وضعت كف يدها على وجنته اليسرى تمررها بحنان ورقة وهي تهتف قائلة بجدية:
-خلاص بقى بجد مكنتش أقصد.. أنتَ عارف إني مش بكلم حد غريب عني خصوصًا لو راجل وعارف كمان إني بحترمك أوي في حضورك وغيابك ودي مش أول مرة أخرج وأروح الكلية الله
لم يُجيبها بل كانت ملامح وجهه عابثة وداخله يثور لأجل وقوفها معه وضحكاتها التي رآها هو الآخر بوضوح، نظر إليها بجدية ولم يردف بأي شيء فأكملت هي بعتاب ولين:
-علشان خاطري أنا مش حابه أشوفك زعلان مني.. يعني يرضيك بعد كل اللي بتعمله علشاني ارضهولك بالزعل؟..
مطت شفتيها للإمام في حركة عابثة، وعينيها تتحرك على ملامح وجهه وتتثبت على عينيه من الحين إلى الآخر وهتفت قائلة بدلال واضح:
-طب يرضيك أنام والملايكة مش راضيه عني علشان أنا مزعلاك؟..
نظر إليها متعمقًا أكثر ولكن لم يُجيب على حديثها وتركها تأتي بكل ما لديها فأكملت بمرح وداخلها تعتقد أنها هكذا ستنهي المسألة:
-على فكرة أنا فاهمة من الصبح إنك مضايق علشان كده بس كنت عايزاك تتكا على الصبر شوية وأشوف اخرك فين
أمسك بيدها الموضوعه على وجنته وأبعدها عنه بحدة وقوة لتستقر على الفراش جوارها وقد ظهر أنه الآن غضب حقًا وهو يعتدل في جلسته أمامها ليجلس مقابلًا لها مستقيم:
-أخري مايتشفش في حاجه زي دي.. أنا مش راجل عصبي ولا متهور بس لما بتعصب بتجيب دورفها معايا واظنك عارفة كده كويس وشوفتي ده كام مرة
تحدثت بضجر عندما وجدته يريد أن يطيل الأمر أكثر من هذا وتظهر عليه بوادر العصبية ثانيةً:
-ما خلاص بقى يا جاد مش حوار هو أصلًا
أشار إليها بإصبعه السبابة بقوة وحدة وهو يتحدث بنبرة رجولية جادة خشنة واضحة للغاية ليس بها أي شيء من اللين:
-لأ حوار.. دخول اسم أي جنس راجل في حاجه تخصك يبقى ستين حوار ولو مش علشاني ياستي اعتبريه علشان ربنا
نظرت إليه باستغراب وشعرت بالانزعاج منه فتحدثت بجدية قائلة وهي تبصره بقوة:
-فيه ايه يا جاد متكبرش الموضوع
لف وجهه للناحية الأخرى ضاغطًا على نفسه مُتصنع الهدوء وقال بقوة:
-تمام.. انتهى الموضوع تصبحي على خير
علمت أنه يقول هذا فقط لينهي الجدال بينهم، ورآته يتمدد مرة أخرى لينام فأخذت نفسٍ عميق ثم قالت بحنان وهي تضع يدها على ذراعه العاري:
-مش هتاكل.... أنتَ مكالتش من الصبح
أجاب باقتضاب وحدة:
-مش جعان
أبتعدت عن الفراش وهي تتحدث ببساطة وتود أن تراه يأكل، قلبها ناحيته كقلب الأم التي تدور حول طفلها ليأكل:
-طب ومال الأكل بالموضوع بس... أنا عامله صينية مكرونه بالبشاميل تحفه هتاكل صوابعك وراها... هقوم اجبلك
مرة أخرى بضيق وجدية ليس مراعي ما تفعله لأجله:
-هدير.. مش عايز
صاحت بانفعال وقوة وهي تشيح بيدها أمام وجهه وتبتعد عن الفراش واقفة على قدميها:
-يووه... أنتَ غريب جدًا هو كان ايه حصل لكل ده
ضايقته بشدة هذه الحركة الغبية منها، جلس ثانيةً ناظرًا إليها بقوة وصاح بعصبية وهو يجذب يدها لتجلس مقابلة لها على الفراش مرة أخرى:
-متعليش صوتك والزمي حدك.. إياكي تعلي صوتك ده قدامي تاني
صاحت بقوة أكبر وهي تحاول جذب يدها منه لتذهب بعيد عنه لأنه من الواضح يريد الإنفعال والعصبية:
-أنا معلتش صوتي يا جاد بس الموضوع مش مستاهل... كل ده علشان ايه يعني
ضغط على شفتيه بأسنانه أمام وجهها وأردف بحدة مُتسائلًا:
-عايزة تعرفي علشان ايه؟..
جذب يدها بقسوة فاقتربت من وجهه أكثر وأصبحت المسافة منعدمة فصاح بقوة وحدة افزعتها قبل أن يكمل حديثه ونبرته تحمل لوعة قاتلة ربما قتلته بسببها لسنوات:
-علشان بحبك.. بحبك ومش عايز أي بني آدم مكتوب في بطاقته دكر يلمح طيفك حتى
لجمت الكلمات لسانها، شعرت بأنها شلت وهي ترى صدره يعلو ويهبط أمامها من شدة الإنفعال، لقد صرح بحبها، يحبها!.. صاح مُكملًا:
-مستكتره عليا إني أغير عليكي؟.. غيران، غيران على حبيبتي.. غيران على مراتي
تسائل مرة أخرى بتهكم وهو يضغط على يدها بقوة شديدة ناظرًا داخل عينيها بتركيز وتمعن:
-ايه مش من حقي ده كمان؟
تاهت في حديثه، وتلبكت من هذه النظرات، ضاعت وهي لا تدري كيف يكون طريق العودة، يحبها!.. لقد استمعت صحيح أليس كذلك؟. تسائلت بلهفة وتوتر وعينيها مثبتة عليه تنتظر إجابته التي ستأكد أنها لا تحتاج لطبيب أذن:
-أنتَ... أنتَ قولت ايه؟..
وبدوره هو لم يبخل عليها بهذا التأكيد بل أعطاها أكثر مما تريد وهو يضع كف يدها الممسك به بين كفيه ينظر إليها متحدثًا بشوق للاعتراف بهذا وحنين يغلبه في كل مرة:
-قولت إني بحبك.. بحبك يا هدير وعمر عيني ما شافت غيرك وعمر قلبي ما حب غيرك وعمر عقلي ما فكر في غيرك حتى لساني عمره ما نطق اسم واحدة ست غيرك في صلاتي
جذبت يدها من بين كفيه وهي تنظر إليه باستغراب، غرابة كبيرة حلت عليه أم عليها هي؟!.. هذا الإعتراف الذي انتظرته منذ زمن، نعم هذا هو، منذ الكثير وهي بانتظار هذا الإعتراف من "جاد الله رشوان أبو الدهب"، أدمعت عينيها العسلية وهي تطالعه بقوة وتسائلت بضعف وتردد:
-دي أنا؟... أنا يا جاد بتحبني أنا بجد؟.. يعني، يعني أنتَ عايزاني بجد
أبصر تلك الدموع الحبيسة داخل عينيها وابتسم بسخرية قائلًا:
-معقول لسه بتسألي؟.. بتسألي واحد الهوى جاب أخره معاه وقتله وهو بيحب في بنت الجيران
في لحظة خاطفة خرجت تلك الدموع الحبيسة داخل عينيها غير مصدقة ما الذي تستمع إليه منه وفي نفس اللحظة وبينما هي تخرج تقدمت منه بسرعة تقبل شفتيه بقوة وهي تلف ذراعيها الصغيرة حوله تحتضنه..
لقد كان هذا ما ينقصهما حقًا، هذه الكلمات البسيطة فقط والآن هو الآخر تأكد بعد فعلتها وحديثها أنها تحبه.. تحبه ولا تريد سواه..
استقبل عاصفتها بسعادة وصدر رحب، وضع يده الاثنين خلف ظهرها يحتضنها بقوة مبادلًا إياها تلك القبلة التي قطعت أنفاسه بعد أن قادها عنها بشراسة معبرًا عن كم الحب والرغبة القابعة داخله..
وإلى هنا وقد بدأ رحلة جديدة معها إلى عالم جديد أخذها إليه من قبل ولكن هذه المرة ستكون الأجمل على الإطلاق وستحمل كافة الاختلافات بينهم بعد هذه الإعترافات المخفية خلف الأبواب..
ألا تدري أن القدر يقول لك أفعل ما تريد وأنا سافعل ما أريد، قدرهم قد كُتب وظهر هذا بوضوح وذلك الذي قال سأنتظر قليلًا واعترف تحدث في لحظات خاطفة بينهم وهي التي قالت ساتحلى بالصبر الآن ننظر إليها.. أنها ليست هنا من الأساس..
ربما يكن "جاد" زوجها وهي زوجته وقد حصل عليها منذ الكثير ولكن اليوم هو اليوم الأول حقًا الذي يشعر فيه أنها ملك له قلبًا وقالبًا، حبيبته وزوجته وعالمه الخاص به، اليوم فقط ظهر شعور المتعة الحقيقية بينهم، وبدأ الشعور بالسعادة والانتصار يحالفهم..
❈-❈-❈
خرج "جمال" من أحد محلات بيع الذهب والمصوغات وبيده ظرف أبيض متوسط الحجم، وضع عينيه على الظرف الذي بين يديه مدققًا النظر به، وداخله يشعر بالندم والسعادة في ذات الوقت، ندمه لأنه فعل شيء كهذا وأخذ ما لا يحق له من شقيقته بل ويكون ملك لزوجها هو الآخر وإن سأل عنهما لن تستطيع الجواب..
وسعادته لأنه سيعطي "مسعد" ماله ويجعله يذهب بعيد عنه هذه المرة، لا يهدده بأي شيء بعد الآن..
دلف إلى محل "مسعد" يسير بثبات متجه إليه، وقف أمامه ووهو يراه يجلس على مقعد مكتبه في الداخل..
ألقى "جمال" بظرف المال على الطاولة بقوة لتستقر أمامه ثم صاح بحدة:
-فلوسك عندك أهي كده خالصين
عاد "مسعد" بظهره إلى ظهر المقعد وهو ينظر إلى المال الملقى أمامه مُبتسمًا بسخرية وتهكم واضح وهو يصيح بنبرة حماسية فظة ناحيته:
-يا جمال الجمال يا جمال... سرقت مين المرة دي
فعل "جمال" مثله تمامًا وأجابه بطريقة وقحة وفظة كثيرًا:
-مايخصكش اللي يخصك أن فلوسك جاتلك على الجزمة
تقدم ناحية المكتب ثم أمسك بالمال بيده وهو ينظر إليه بدقة ووضعه مرة أخرى على الطاولة متحدثًا بسخرية شديدة:
-تكونش سرقت أبو نسب!
تقدم "جمال" إلى الداخل قليلًا ثم مال بجذعه العلوي للأمام ناظرًا إليه بقوة وتحدث بجدية ونبرة خبيثة:
-أبو نسب يا جدع يعني واخد أختي... لو طلبت عينه مش هيتأخر
أبصره بقوة وهو يشير بيده إلى جانب رأسه مُكملًا الحديث بشفقة وكأنه يقول لقد فعلها وأنتَ لا:
-فكر يا جدع واصحى للكلام.... سلام يا... يا رجولة
استدار وذهب من أمامه إلى الخارج وتركه وحده والنيران تأكل ما بداخله وتنهشه عن حق، ولكن ألم يقولون الصبر جميل؟..
ابتسم بهدوء مستفز وهو يعود للخلف بالمقعد وما برأسه مؤكدًا لن يأتي على خلد أحد..
إنه من يتحدث ويفكر أكثر مما يفعل، يهدد ويكثر الحديث أمام الآخرين عن قدرته الكبيرة في أذية الغير ولا يفعل ولكن عندما يقرر عن حق تأتي لدغته كلدغة أفعى عملاقة محترفة في ذلك وتنثر سمها في الجسد في لحظات تعد أو لا تعد، فمن من الممكن أن يعد لحظات تمر!.. الأهم من كل ذلك أن لدغته القادمة ستكون مُرة ومُرهقة على الجميع..
#ندوب_الهوى
#الفصل_السابع_عشر
#ندا_حسن
"سعادة، سعادة مفرطة قادمة مع الرياح تزيح
الستار من على الأبواب، عود ثقب مشتعل
أسفل الستار يتزحزح ليحرق الأجواء"
بدلت ثيابها التي كانت عبارة عن رائحة طهي طعام قوية، وأكثر ما يفوح منها البصل والثوم، أنهت طعام الغداء ثم سريعًا قبل أن يعود من صلاة الجمعة دلفت إلى المرحاض لتستحم وتبدل ملابسها إلى أخرى مدللة نظيفة كي تروقه قبل أي شيء، وقد فعلت، بدلت ملابسها إلى قميص طويل كالذين ترتديهم في الشقة في هذا الجو الحار وكان عبارة عن قطعة قماشية تغطي جسدها بالكامل ولكن تلتصق عليها بقوة بارزة مفاتنها بشكل مغري وغير تلك الفتحة التي تزين منتصفه من الأمام ومقدمة صدره المفتوحة قليلًا بسبب حملاته الرفيعة..
جلست في صالة الشقة في انتظاره وهناك ابتسامة عريضة مُشعة ترتسم على شفتيها بشكل رائع مُغري، تتذكر كل ما حدث بالأمس معه، لقد كان وجود "أحمد" شقيق زميلتها هو النقطة الفاصلة في حياتهم، لو كانت تعلم أنه عندما يراه سيعترف بحبها لفعلتها منذ وقت مبكر..
ابتسمت مرة أخرى باتساع أكبر من السابق ووجهها يتلون بالحمرة وداخل عقلها تسترجع جميع الذكريات التي مضت عليهم أمس وكيف كان يعترف بذلك الحب في أحضانها..
الآن لن تجعل ذلك العبث الذي يأتي إليها ليجلس داخل عقلها يؤثر بها، الآن هي تأكدت من حبه لها، طريقة اعترافه ونظراته وانفعالاته لن تجعلها تعكر صفو حياتهم مرة أخرى، ولن تتحدث عني أي شيء آخر سوى أنها تبادلة ذلك الحب القابع بقلبه، سنكون منصفين ونعترف أنها كانت تعلم ولكن الاستماع إلى ذلك شعور آخر لا تستطيع وصفه ومحو جميع الشكوك التي كانت في رأسها شيء لا تصدقه من الأساس ومع ذلك يشعرها بالسعادة المفرطة...
"جاد" يحبها وهي تحبه ولن تتخلى عن هذا الحب أبدًا مهما حدث ومهما يكون، لن تترك من تألمت لأجل حبه ليالي طويلة وشفاها الله بزواجها منه، شكر الله في هذه الحالة وبعد هذه السعادة التي حلت عليها لن يكن كافي أبدًا..
نظرت إلى باب الشقة بعد أن استمعت إلى صوته يُفتح، وجدته يطل عليها من خلف الباب بتلك العباءة البيضاء الخاصة به، كم يبدو وسيمًا رائعًا عندما يرتديها!.. مصفف خصلاته السوداء المخالطة للبنية والتي تكتسب طولًا يومًا بعد يوم ووجه وسيم نقي تزينه لحيته وشاربه..
خلع حذائه وترك المفاتيح وتقدم إلى الداخل وهو ينظر إليها، وقفت على قدميها فنظر إلى خصلاتها الطويلة بشدة والتي تغطي كامل ظهرها، وجهها المستدير الذي يحبه إلى الممات وعينيها العسلية الصافية التي تزينها بالكحل لتجعله ينجذب إليها أكثر من ذلك ولكن إلى أين!.. وتلك الشفاه الرقيقة التي تضع عليها الآن ملمع وردي يظهرها رائعة وكم كان مظهرها بالكامل وهي بهذه الفتنة رائعة..
أقترب منها إلى أن وقف أمامها مباشرةً لا يفصل بينهم شيء، وضع يده الاثنين حول خصرها يقربها منه وهو يستنشق تلك الرائحة العطرية الجميلة منها، تحدث بصوتٍ خافت وهو يقترب على أذنها:
-وحشتني يا وَحش
ابتسمت بخجل طفيف وهي تشعر به يضغط على خصرها فقالت وهي ترفع يدها نحوه تضعها خلف عنقه بشغف وحب يلمع بعينيها:
-أنتَ كمان وحشتني يا ابن أبو الدهب
احتضنها وهو لا يصدق أن كل شيء انتهى وتلك الشكوك برأسه ورأسها رحلت وذهبت إلى أبعد مكان عنهم والآن ينعمون بالسعادة بداخل أحضان بعضهم بعد ذلك الإعتراف المجنون الجامح في وقت كان بالنسبة إليه حياة أخرى..
أبتعدت عنه بهدوء لتقف قبالته قائلة بجدية وهي تبصره بهدوء وابتسامة:
-على ما تغير هدومك هكون غرفت الأكل علشان جوعت
قرص وجنتها اليسرى بيده بقوة خفيفه وهو يقول ساخرًا:
-طب سيبي الجوع ده لحد تاني
أبعدت يده عنها وهي تتألم ألم بسيط محبب إلى قلبها بسبب يده التي تركت أثرها على وجنتها، أردفت بقوة وجدية متهكمة عليه:
-محدش قالك تعمل شجيع السيما وتمنع الأكل... أنا اتحايلت عليك كتير أنتَ أدرى بنفسك بقى
ابتسم بغيظ وهو يستمع إليها فقد حاولت معه كثير حقًا أن يأكل وهو من رفض ذلك، نظر داخل عينيها قائلًا بخبث ومكر:
-لأ ما أنا كلت.. كلت كل اللي كان نفسي فيه من زمان
ابتسمت وهي تبعد وجهها بعيد عنه ثم استدارت وذهبت إلى المطبخ لكي تحضر الطعام لهم ومعها السعادة والفرحة تدفعها لفعل ذلك وتركته ينظر في أثرها الذي اختفى بعد أن فهمت ما الذي ألقاه عليها بهذه الكلمات، ابتسم بسعادة غامرة وتقدم هو الآخر ليذهب إلى غرفة النوم حتى يبدل ملابسه إلى أخرى بيتية مريحة...
بمهارة عالية أخذ جسدها يتحرك في المطبخ بسهولة ونعومة وهي تحضر أطباق الطعام الذي فعلته بيدها، وضعت بعض الأطباق على الصينية واخذتها وخرجت من المطبخ متجهة إلى غرفة السفرة التي يتناولون بها الطعام، ثم ذهبت إلى المطبخ وأعادت الأمر مرة أخرى، وقفت بهدوء جوار الطاولة تضع الأطباق عليها بينما دلف هو إلى داخل الغرفة وهو ينظر إليها وإلى هذا الطعام الذي أعدته مستشقًا رائحة شهية للغاية..
ابتسم باستغراب وهو يدلف ثم جلس على مقعدة وأشار إلى الطعام قائلًا:
-ايه كل الأكل ده... جبتيه منين الحمام ده أصلًا
جلست هي الأخرى على مقعدها بجواره ثم أجابته ببساطة وابتسامة واضحة:
-من ماما فهيمة، لما كنت عندها ادتني جوز الحمام ده وشوية ملوخية وكمان فرخة بلدي
استرسلت حديثها والإبتسامة تتسع على محياها وهي تذكر ما قالته لها عنه:
-بتقول إنك بتحب الحمام
نظر إلى مظهر الطعام على الطاولة وكم بدا له شهيًا ولذيذ وهو منذ الأمس لم يأكل شيء، عاد ببصره إليها قائلًا بمرح:
-هو أنا فعلًا بحبه وبصراحة شكله مغري أوي
ابتسمت له بحنان وهدوء عفوي وهي تقول:
-بالهنا والشفا
مد يده وبدأ في الطعام بهدوء وهو يتحدث معها باهتمام قائلًا:
-مكنتش أعرف إنك بتعرفي تطبخي حلو كده.. كنت مفكرك مش بتدخلي المطبخ أصلًا
ضيقت ما بين حاجبيها بعفوية وأردفت تلقائيًا وهي تمزح ضاحكة:
-ليه يعني على أيدي نقش الحنه، أنا ماما معلماني كل حاجه
نظر إليها بقوة وهو يبعد الطعام عن فمه قائلًا بانبهار وجدية شديدة:
-طعمه يهبل... قربي طبق الملوخية ده كده
بعد أن تذوقها همهم بتلذذ عاليًا تحت نظراتها الفرحة وكأنه لأول مرة يتذوق طعامها، ولكن حقًا هذا مختلف، كل شيء منذ اعتراف أمس سيكون مختلف، غمز إليها بعينيه الرمادية التي تلمع مع دخول أشعة الشمس عليها وهتف بنبرة ماكرة:
-مكدبتش لما قولت عليكي وَحش.. طلعتي وَحش في كل حاجه
رفعت حاجبها وتساءلت باستنكار لا يخلو من المرح وهي تعلم من الأصل في حديثه:
-لا يا شيخ
أومأ إليها وهو يضع الطعام في فمه:
-آه والله بأمانة
أكملت الطعام في هدوء وابتسامتها لم تختفي بعد ولكن أبعدت نظرها عنه، استمعت إلى هاتفه يصدر صوت وصول مكالمة هاتفية في الخارج فأردفت وهي تقف:
-موبايلك بيرن
أمسك بيدها ليجذبها جاعلها تجلس مرة أخرى وقال دون اهتمام:
-كملي أكل وسيبك منه ده أكيد الواد سمير
أشارت بيدها إلى الخارج وما تقصده هو الهاتف وقالت هي باهتمام معاكس له:
-طب ما تشوف ماله يمكن في حاجه يا جاد
نفى حديثها وهو يأكل في هدوء دون الاكتراث لأمر هاتفه وابن عمه من الأساس:
-لأ مفيش حاجه بيأكد عليا أننا ننزل الچيم بالليل
زفرت بهدوء وأبعدت نظرها عنه وهي تكمل طعامها فتحدث بنبرة رجولية جادة يقترح عليها:
-أنا هنزل معاه بالليل لو حبيتي تروحي عند أمك روحي
أجابته بصوتٍ جاد قائلة:
-لأ هذاكر شويه بدل ما أضيع وقت على الفاضي
أومأ إليها بهدوء وقد أيد فكرتها أكثر، دقائق أخرى يأكلون بها ثم أنهى طعامه ووقف من على المقعد تاركًا الطاولة ليغسل يده وتوجه لصنع الشاي لهما وهو في المطبخ..
صاح من المطبخ بصوتٍ عالٍ قائلّا:
-هعمل شاي
صاحت هي الأخرى مقابلة له بصوتها العالي ليستمع إليها قائلة:
-مش عايزة
ثم وقفت على قدميها وجمعت كل ما على الطاولة من أطباق ووضعتها على تلك الصينية ونظفت المكان بمهارة في دقائق، أخذت الصينية إلى المطبخ لتنظيف ما عليها من أطباق فخرج هو وبيده كوب من الشاي قائلًا بجدية وهو يتوجه إلى الخارج:
-هشرب الشاي في البلكونة
أومأت إليه برأسها فخرج وبقيت هي في المطبخ تنظف الأطباق الذي كانوا يأكلون بها وتعيد ترتيب المطبخ مرة أخرى..
بقيت به ما يقارب الربع ساعة ثم ذهبت إلى الخارج لتمر على الصالة وجدته يجلس على الأريكة مستقيم في جلسته وبيده كتاب القرآن الكريم ينظر به بعينيه ويتمتم بشفتيه ما يقرأه ووجه خاشع ثابت بوضوح، ابتسمت وهي تتقدم منه ثم جلست بجواره ومالت برأسها عليه لتنظر إلى ما يقرأ وجدتها سورة الكهف، أعتدلت في جلستها وبقيت تنظر إليه بحبٍ وراحة كبيرة اجتاحت جسدها وخلدها وهي تراه على هذه الوضعية وداخلها تقول أن الحمد لا يكفي على هذه النعمة الكبيرة من الله، لقد وهبها شخص لن تجد مثله ولن يكون هناك مثله من الأساس ومهما حدث ومهما فعل يبقى "جاد الله" الذي حقًا يخاف الله وقبل فعل أي شيء يفكر به وبعواقبه ونتيجته..
دائمًا يبتغي رضاء الله عليه وعلى حياته، ويرضي والديه ليرضا الله عليه، يتقرب منه ويريدها أن تتقرب منه أكثر لتكن الدنيا بالنسبة إليهم جنة الأرض ومن بعدها يخلدون في جنة السماء..
ترك كتاب الله على الطاولة أمامه بعد أن تصدق واستدار برأسه ينظر إليها فابتسمت بحبٍ وشغف كبير قابلته به قبل أي شيء وهي تعترف قائلة:
-أنا بحبك أوي يا جاد... مستحيل تتخيل أنا بحبك قد ايه ومن امتى
أقترب منها وهو يأخذ يدها ورفعها إلى فمه يقبلها بحنان معقبًا:
-وأنا بحبك أكتر يا روح جاد... وبردو مستحيل تتخيلي من امتى
استغربته ونظرت إليه باستفهام متسائلة بوضوح وكلماتها ليست الوحيدة التي تتسائل:
-إزاي مش فاهمه!.. أنتَ بتحبني من زمان؟..
أغمض عينه اليسرى ومط شفتيه قائلًا بمرح:
-أنتِ الأول يلا قولي بتحبيني من امتى بقى يا شقية
أخفضت وجهها إلى الأسفل وهي تبتسم وتتذكر هذه الذكرى البعيدة منذ عامين تقريبًا، رفعت رأسها إلى الأعلى ونظرت إلى داخل عينيه بعمق وهي تقول:
-من يوم ما رجعتلي شنطتي اللي اتسرقت
ضيق ما بين حاجبيه وهتف سريعًا باستنكار متذكرًا ذلك اليوم جيدًا الذي كان منذ عامان؟..:
-من سنتين؟.
أومأت إليه برأسها والابتسامة لا تفارق ثغرها الوردي مُكملة بحبٍ وعشق اخترق قلبها:
-آه من سنتين شوفت جاد أبو الدهب اللي حسيته فتى أحلامي، يمكن كنت قدامي طول الوقت بس عمري ما فكرت فيك أو حتى في غيرك بس فجأة ومرة واحدة حسيت إني بحب جاد.. خطفني وخطف قلبي، مرة واحدة لقيتك الراجل اللي بتمناه شهم وجدع، حنين وراجل ملو هدومك، حبيت تفاصيلك وكل حاجه فيك بقيت كل يوم بحبك زيادة عن اليوم اللي قبله..
حرك "جاد" عينيه الرمادية عليها وهي تتحدث بكل هذا الشغف والحنين إلى ما مضى، وتلك اللمعة الغريبة والواضحة بعينيها كلما تحدثت:
-بس في نفس الوقت كنت بحاول إني أبعد وأحافظ على نفسي.. بخاف ربنا أوي يا جاد وكل ما كنت أفكر فيك ابقى كأني عملت ذنب كبير وبخاف أكتر لو مكنتش من نصيبك يبقى ذنب أكبر
ابتسمت بسخرية وتجعد جوار عينيها وهي تسترسل حديثها:
-كنت في كل صلاة ادعي تكون من نصيبي وأكون من نصيبك وأحيانًا كنت بدعي إني أبطل أحبك..
قاطعها وهو يتسائل باستغراب لما قالته للتو:
-ليه؟.
ابتلعت ما بجوفها مُتحدثة بصدق وجدية وهي تنظر إلى عينيه التي يحق لها النظر وقتما شاءت:
-يعني... زي مرة من المرات لما عرفت أنك هتخطب ولما كنت بحس أنك مش ليا كنت بدعي إن ربنا ينزع حبك من قلبي.. بس سبحان الله كان دايمًا بيزيد وكل يوم أحبك أكتر.. عارف؟. كل الفترة اللي فاتت دي كان نفسي بس تأكدلي إنك بتحبني بكلمة واحدة، كنت خايفة تكون مجبور على الجواز مني وشوية أفرح وانسى وشوية مقدرش انسى
ابتسمت بسعادة غامرة وأصبح هناك غمامة دموع خلف جفنيها وهي تقول مُكملة:
-لحد امبارح بس.. الكلمتين اللي قولتهم طلعوني السما، أنا بحبك أوي يا جاد بحبك ومقدرش استغنى عنك أبدًا.. مقدرش استغنى عن حنيتك وخوفك عليا وغيرتك كمان
ابتسم باتساع عندما وجدها تقول آخر كلماتها بضجر واضح، يا له من قدر مكتوب حقًا، منذ عامين وهي تفكر به وتحبه أيضًا والإنسان يكتم ما يشعر به داخله ليظل الآخر يتعذب ويتعذب معه، هو يقول إن هناك غيره وهي كذلك، هو يقول أنها لا تريده وهي كذلك، وشكوك داخل الرأس تولد وفي النهاية لا يريد غيرها وهي لا تريد غيره.. السبب الوحيد في ذلك هو الصمت والكتمان، لو كان تحدث منذ البداية لكان عاش أسعد اللحظات معها ويستكملها الآن لا يبدأ..
سألته وهي تعتدل لتقابله بجدية وتريد أن تستمع إلى قصته معها هو الآخر:
-وأنتَ بقى؟..
ابتسم مبادلًا إياها وأكثر ابتسامته كانت سخرية لأنها مهما حدث أحبها أولًا، ظل ممسكًا بيدها بين كفه وتحدث بنبرة رجولية رخيمة تحبها كثيرًا:
-قولتلك مستحيل تتخيلي من امتى
استغربت وداخلها تفكر أكان يحبها قبل أكثر من عامان؟.. لقد كانت صغيرة في هذا الوقت، استكمل هو بوضوح:
-حبيت بنت الجيران من زمان أوي، من لما كانت بتمشي والشنطة متعلقة على ضهرها متخيلة؟.. من لما كان صوتك طول النهار في الشارع، عرفتي امتى؟
حركت رأسها يمينًا ويسارًا بخفة وهي حقًا لا تدري على أي مرحلة يتحدث ومتى كان ذلك فابتسم أكثر وضغط على يدها بقوة واسترسل مُكملًا:
-أربع سنين.. وأنتِ لسه مدخلتيش أولى جامعة، خطفتي قلبي وعقلي وروحي وكل حاجه كانت حية فيا، جمالك ورقتك والأدب اللي كنت بشوفه منك خلاني مش شايف غيرك، مش عارف حتى أحاول أشوف غيرك.. دخلتي قلبي وقفلتي وراكي بالمفتاح ولحد النهاردة مطلعتيش ومش هتطلعي
-أربع سنين يا جاد؟..
صوته الأجش أجابها بجدية وصدق:
-أربع سنين يا هدير، أربع سنين وأنا بحِبك وبتعذب بحُبك وأنا بسمع كل يوم إن فيه عريس متقدملك وبحط ايدي على قلبي لتوافقي، أربع سنين وأنا قلبي فيه نار لما مبقاش عارف أنتِ فين ولا مع مين، أربع سنين بحاول أقرب منك وأرجع تاني استغفر ربنا وأقول إن ده حرام ولو حصل ربنا مش هيكرمني بيكي
حركت عينيها عليه ورأت الصدق بملامحه واستمعت إليه بحديثه ولكن السؤال في عقلها ارهقها أثناء ذلك الحديث، فقالت بجدية وتسائل والاستغراب أكثرهم داخلها:
-طب ليه محاولتش تتقدملي، ولا مرة يا جاد ولا مرة!..
هذه المرة سيكذب، أن يقول أن والده منعه عنها عندما أراد التحدث والبوح، علاقتها بوالده جيدة للغاية وهو أيضًا فهم أن تفكره كان خاطئ وتراجع عنه، لذا لن يقول ما قاله ولن يقول أن الاعتراض من عنده من الأساس، أردف بجدية يُجيب على سؤالها:
-كنت لسه بردو يتعبر ببدأ حياتي كنت حابب أكون حد مناسب لما أجيلك بفلوسي مش فلوس الحج رشوان وسنة ورا سنة وأنا بعمل كده كنت بحاول أشوف أي مشاعر من ناحيتك ليا وعدوا أربع سنين وكل يوم بشوف حجه لنفسي علشان خايف تكوني بتحبي حد تاني..
ابتسم بسخرية وهو يعلم أنه يكذب ولكن لتكن الكذبة مقنعة أكثر:
-لدرجة إني كنت مستني لما تخلصي الكلية وتبقي البشمهندسة هدير بس الحج رشوان انقذني من الغرق ونجاني
هل يكذب؟.. لقد قال سابقًا أنه كان سيخطبها وتحدث مع والده عن ذلك، وما حدث من "مسعد" هو الذي جعل الأمر يأتي بهذه الطريقة، تسائلت بخفوت:
-بس أنتَ قولت أنك كنت هتخطبني فعلًا بس الموضوع اللي حصل خلاها تيجي بالطريقة دي
هز رأسه بتأكيد وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة ليُكمل حديثه بها:
-آه ده حقيقي، يعني لما الحج قال إنه عايز يجوزني وكمان نقالي العروسة عرفته نيتي ناحيتك بس هو قال إن ليه نستنى طلما أنا موجود وأنتِ موجودة
ابتسمت له بسعادة وما يجول بخاطرها هو شيء واحد! كم هي محظوظة به وبوجوده جوارها ومعها، محظوظة بحبه وعشقه لها منذ ذلك الوقت الذي لم تكن تعرف عنه أي شيء سوى في الفترة الأخيرة، أهي إلى تلك الدرجة نقية وتستحق ذلك؟..
وضع "جاد" كف يده على وجنتها يحرك إبهامه عليها ببطء وحنان ويده الأخرى تمسك بكفها وأردف قائلًا بنبرة رجولية خشنة:
-تعرفي نفسي في ايه
تسائلت بلهفة وكأنه يود شيء تستطيع فعله له ولتجعله يسعد أكثر وتغمره الفرحة، ولكنه تحدث قائلًا بحنين وتمني:
-نفسي في ولد.. ولد حته مننا إحنا الاتنين، أنا عارف إن لسه بدري وعارف إن لو ده حصل هيبقى كتير عليكي وأنتِ لسه مخلصتيش كلية بس مع ذلك كل يوم بتمنى من ربنا إن ده يحصل.. أناني أنا مش كده؟
وضعت يدها فوق كفه الذي يضعه على وجنتها وابتسمت بوجهه وهي تتعمق بالنظر إلى عينيه قائلة باستنكار أولًا ثم أكملت بلهفة وصدق:
-أناني؟.. طب يحصل بس ومالكش دعوة أنتَ.. الكلية كلها كام شهر وهتخلص وحتى لو مخلصتش طول ما أنتَ معايا أنا مش هشيل هم حاجه.. بس يحصل
وضع يده خلف عنقها وجذبها ناحيته ليستقر بجبينه على جبينها وأخذ يستنشق تلك الأنفاس المنبعثة منها، أغمض عينيه وتمنى داخله أن يمن الله عليه بأخر طلباته:
-بأذن ربنا هيحصل.. كل شيء بأوان يا هدير
تركت ما يفعله وجذبت يدها منه لتضع يدها الاثنين حول عنقه ثم اقتربت منه وغمرته بشدة وقد كانت بحاجه إلى هذا العناق الذي يشعرها أن كل ما يحدث حقيقه وهي بين يدي زوجها الحبيب الأول والأخير لها ومن تمناه قلبها، وبادلها ذلك العناق مرحب به كثيرًا وهو يضغط بيده حول خصرها يقربها منه أكثر ليشعر بتواجدها معه بعد معاناة الحب الخفي والاشتياق الذي كان يقتل روحه بالبطيء..
❈-❈-❈
لم نقول أن لحظة الإعتراف بالمكنون داخل القلوب كانت أول درجة من درجات سلم السعادة، كانت لحظة بمثابة دواء أشفى جميع الجروح غائرة وسطحية واختفت جميع الندوب الذي لا تختفي..
مرت "ثلاثة أشهر" وكانت بها السعادة أبسط مثال على ما يعيشون به، الفرحة كلمة قليلة التعبير، والراحة توضيح فاشل لن يعود بالنفع، أما الهدوء فلم يتواجد بينهم فكان هناك صخب وجموح لم يعهدوه سابقًا..
كل شيء كان مختلف، اختلاف محبب إلى جميع القلوب يجعلهم يشعرون بنعيم الحياة والبساطة بها، الأمان والراحة الحب والهدوء..
هي لم تقابل رجل مثله ولن تقابل بكامل حياتها، لن تتحدث عن كم الحنان الذي يتمتع به ويفرط منه نحوها حتى وإن كان يمانع ما يريده، لن تقول كيف تكون رجولته أمام الجميع وأمامها أولًا، ولن توضح كيف يشعر بالغيرة المميتة تجاه أي رجل آخر يمر جانبها، وما يتمتع به بكثرة هو الكتمان، يشاركها ما يخصه فقط وإن كان حديث أحد غيره لا وجود له من الأساس..
ينزعج أحيانًا ولا يوضح ذلك، بل يلتزم الصمت وتجنبها ربما هذه الصفة الوحيدة الكريهة به، تود لو كان يتحدث ويسرد ما يزعجه لا ينتظر أن تشعر هي..
ولكن على أي حال هو لا يُعيبه شيء بنظرها، لا ترى أن هناك أفضل منه بل هو الأفضل وبجدارة، كان في الفترة الأخيرة يساعدها كثيرًا وكثيرًا والوصف قليل أثناء فترة امتحاناتها، كان يد العون بالنسبة إليها والنظرة في عينيه الرمادية تعد دعم خالص وراحة هائلة، لن تنسى ما فعله لأجلها أبدًا، لن تنسى أنه لم يجعلها تشعر بالضغط بل كان في تلك الفترة يصعد إلى الشقة قبل معاده ليكون بالقرب منها ويساعدها فيما تريد ويجعلها تشعر بالطمأنينة والراحة..
ولن تنسى أنه دائمًا يعطي إليها الأموال لتعطيها إلى شقيقتها، لن تنسى أنه تحدث معها بحزم حينما رفضت ذلك وتعهد بإعطاء المال لها كل شهر لأن شقيقتها أصبحت مسؤولة منه وهذا كان من وجهة نظره.. "جاد الله رشوان أبو الدهب" فريد من نوعه ولا يوجد مثله ولن يوجد ولو بعد حين، رمز للرجولة والشهامة، الأخلاق الحميدة والتربية الصالة، رجل يملك المال ولا يهمه غير أن يكون ذلك الصالح التابع لربه ويحاول جاهدًا لفعل ذلك..
وهو أخذ ما يريد، حصل على ما تمنى لمدة أربع سنوات، دعاءه ليلًا نهارًا قد زرع وها هو الآن يحصد الزرع وما به من طيبات راقته، سعادته بوجودها جواره، نومها بأحضانه وشعوره بأنها ملك له وحده زوجته وحبيته سعادة لا تقدر بثمن، لا يستطيع وصفها لو بقيٰ العمر بأكمله يصف كيف تكون..
ابتسامته عندما يراها أمامه من أجمل الابتسامات التي حصل عليها، رؤية وجهها الأبيض المحبب إلى قلبه وعينيها العسلية الصافية، ولن ينسى النمش الخفيف الذي يجعلها من أجمل جميلات العالم، رؤية كل ذلك يجعله مثل طائر كان خلف القضبان وحصل على الحرية ويرفرف في السماء عاليًا..
عندما تضع الطعام أمامه وتصر عليه أن يأكل لأنه يتعب في عمله، عندما تحضر له ملابسه حتى لا يرهق نفسه في الورشة ومعها أيضًا، خوفها عليه ولهفتها عند وصوله إلى المنزل، حنانها الذي تغدقه به وكأنها والدته، كل هذه الأشياء لن يجدها إلا في زوجة صالحة كتبها الله له بعد عناء كبير ومجاهده حادة داخله على أن يقترب أكثر من الحلال مبتعدًا عن الحرام..
كانت بالأمس ليلة زفاف "سمير" و "مريم"، ولم تكن ليلة أقل حماس من ليلة "جاد" و "هدير" بل كانت أكثر حماس والفرحة على وجوه الجميع ترتسم بدقة والسعادة تتراقص بين الرجال على أنغام الموسيقى..
كانت الليلة الأسعد والأفضل بالنسبة لهم بعد اعتراف كل منهم إلى الآخر بالحب القابع داخل قلبه وقد حدث ذلك قبل العرس بشهر كامل، فأصبحت العلاقة بينهم أكثر أريحية وصفاء ولم يكن هناك شيء يعيق فرحتهم ببعضهم البعض، بل كانوا يسبحون في مياة نقية وإحساس روعة المياة يدغدغهم..
فلم يكن "سمير" ذلك الشاب الكتوم الذي يبحث عن الفرص المناسبة بل كان دائمًا مندفع بالخير يتحدث ثم يبحث عن النتائج، يفعل ثم ينظر إلى ما فعله وقد أفاده هذا بشدة في علاقته مع زوجته "مريم" أول من دق قلبه لها بعنف ولهفة هائلة ليس طبيعية..
وساعدته "مريم" على ذلك معترفة بكل شيء منذ البداية، منذ أن رأت "سمير أبو الدهب" زوج لها وتمنته من الله ليكن كذلك خير زوج، الأمور على صراحتها تكون أفضل بكثير وتوفر أفكار ومتاعب كثيرة نأتي بها لأنفسنا وكأننا لا نريد الراحة..
ولم يكن هناك غير الفرح والسعادة من جميع الحاضرين والأكثر بينهم "هدير" ووالدتها ولم يكونوا يعلموا أن "جمال" هو الآخر يشعر بالسعادة لأن شقيقتيه قد ذهبوا من بين يده لمن يستطيع الحفاظ عليهم والاعتناء بهم، دون أن يكونوا تحت ضغط أو حزن بحياتهم فيكفي ما مر عليهم وهما معه..
ومن كان يصدق أن فتيات "الهابط" سيكونون زوجات لأبناء عائلة "أبو الدهب" من أغنى وأقدم العائلات في الحارة..
ولكن النصيب قد كتب منذ لحظة الوضع وما يحدث ما هو إلا تنفيذ له مهما حاولت التغير لن تستطيع ومهما حاولت الهرب لن تفلح، وما تستطيع فعله حقًا هو الجهاد، أن تجاهد نفسك الامارة بالسوء وتتقرب من الله وتنال رضاه ثم تنعم بالجنة..
وكان هناك أحد آخر بدأ حياته من النقطة الأصلية والتي كانت عند وجود الشريك المناسب وبشدة، لقد كانت عيني "عبده" تقع دائمًا على "رحمة" صديقة "هدير" والتي إلى الآن تتحدث معها وتسير على درب الصلاح جوارها، منذ الكثير وعينيه تقع عليها بين الحين والآخر ولن يقول إنه أحبها فهذا إلى الآن لم يحدث ولكنه للغاية معجب بها، بذلك الأدب الذي تتحلى به وجمالها الطبيعي الهادئ وكل ما بها، أي رجل يتمنى مثله في شريكة حياته لذا كان عليه أن يأخذ خطوة هو الآخر بعد أن شعر أنه يستطيع فتح بيت زوجية..
وقد كان عندما تقدم إليها مع والده ووالدته ولكن كان في وقت خاطئ يذهبون فيه إلى منشأ والدتها فكان الإتفاق على أن يتم الرد عندما يعودون..
وفي هذا الموقف ظهر تشتت رحمة التي كانت تنظر إلى شقيق صديقتها "جمال" والذي لا يرى أي شيء بحياته سوى نفسه وما ينفعه، حتى أنه لا يراها ولا يشعر بها، لم تصل إلى مرحلة الحب الذي وصلت إليها صديقتها ولكنها على الأقل تستطيع أن تقول إنها معجبة به وتريده، ولكن بعد تقدم "عبده" إليها تعتقد أنها سيكون لديها خيار آخر أفضل منه بكثير..
❈-❈-❈
-أنا عمري ما فرحت في حياتي كده
ألقت هذه الكلمات وجميع ملامح وجهها تبتسم ليست شفتيها فقط، وألقت بجسدها هو الآخر خلف كلماتها على الأريكة في صالة الشقة ناظرة إليه وهو يرتوي من زجاجة المياة بشراهة..
أخفض الزجاجة عن فمه ونظر إليها وهو يغلقها قائلًا بسعادة وراحة لأنه يجعلها تشعر بالفرحة:
-وطول ما أنا عايش مش هتحسي غير بالفرحة
ابتسمت باتساع أكثر وهي تنظر إليه، لقد أخذها في جولة ولا أروع منها احتفالًا بتخرجها وبكونها أصبحت المهندسة "هدير الهابط"، وقفت على قدميها وتقدمت لتقف أمامه واضعه يدها الاثنين خلف ظهره متحدثة بحبٍ وشغف:
-يا حبيبي ربنا يخليك ليا
قبل وجنتها قبلة سريعة بريئة وهو يبتسم قائلًا بمرح ومزاح:
-ويخليكي ليا طول العمر لحد ما اكركب كده ووشي يكرمش
ضحكت بسعادة مُردفة:
-سوا بقى متنسانيش
مرر إبهامه على وجهها ويده الأخرى خلف خصرها قائلًا بنبرة خافتة شغوفة بها:
-بقى وش القمر ده يكرمش؟.. لأ معتقدش
رفعت حاجبها الأيمن ولوت شفتيها مازحة معه قائلة باستنكار وتعجب:
-ياشيخ
أكد حديثه وهو ينظر إلى داخل تلك العسيلة الرائعة ببلاهة تستطيع أن تجعله يشعر بها دون مجهود:
-آه والله بأمانة
ترك خصرها وأبتعد قليلًا وهو يتوجه إلى غرفة النوم قائلًا بجدية:
-هجيب حاجه وجاي لحظة
وقفت تنظر إليه باستغراب وهو يبتعد تنتظره عندما يأتي وترى ما الذي سيأتي به، وفي تلك اللحظات ابتسمت عنوة وهي تتذكر ركوبها خلفه على الدراجة النارية، لقد طلب منها أن يذهب معها بالسيارة ولكنها أصرت على ركوب الدراجة لأول مرة، والذي كان صعب للغاية بالنسبة إليها وهي تجلس في ناحية واحدة بقدميها الاثنين بسبب فستانها الواسع الذي حصرته بين قدميها وتمسكت به من الإمام بقوة لدرجة أنه كاد في مرة أن يفقد توازنه عليها بسبب شعوره بتوترها وتشبثها به بطريقة غريبة..
وجدته يخرج أمامها وبيده علبة قماشها ناعم بشدة لونها أبيض وتعلم أنها علبة من علب الحلى والذهب، نظرت إليها بتدقيق متسائلة:
-ايه ده؟
فتحها بهدوء موجهًا فتحتها إليها وتسائل بابتسامة رائعة ارتسمت على شفتيه:
-ايه رأيك؟
ظهر إليها داخل العلبة سلسال ذهبي اللون رائع وقد خطف عينيها ولن تستطيع وصفه من شدة جماله واعجابها به، لقد كان عبارة عن سلسال في منتصفه فراشة كبيرة الحجم على وضعها وكأنها طائرة يتدلى منها سلاسل صغيرة حاملة فراشات أصغر بكثير بينهم اسمها الذي ظهر بشكل رائع يخطف الأنفاس..
-لأ بجد كده كتير والله أوي
دمعت عينيها بكثرة وهي ترفع نظرها إليه ثم سريعًا تقدمت منه ملقية نفسها عليه تقوم بغمره بقوة لتشعر بذلك الحب والحنان وما خلفهم من مشاعر هائلة:
حاوطها بيد والأخرى تحمل تلك العلبة يهتف بصوتٍ حاني في أذنها وهو يشعر وكأنه الآن فعل إليها الكثير وما هو إلا القليل:
-والله ما كتير عليكي، أنتِ تستاهلي أكتر من كده بكتير.. تستاهلي تعيشي في مكان أحسن من ده مليون مرة..
عادت للخلف برأسها تنظر إليه نظرة رضا وحب لا مثيل له قائلة بشغف وعشق له وحده:
-أنا مش عايزة أي حاجه غيرك ولو هقعد في متر في متر بردو مش عايزة غيرك
نظر إليها عن قرب ووجه مقارب إليها بشدة تحتضنه وهو يحاوطها بيد واحدة وقلبه يخفق بعنف لتلك الكلمات وهذه النظرة وهذا الحب الذي ينعم به معها..
أبتعدت وهي تضربه في كتفه بخفه قائلة بمرح:
-ايه تنحت ليه يلا لبسني
ابتسم إليها وهي تستدير لتقابلة بظهرها حتى يستطيع أن يضع لها السلسال، أخذه من العلبة وألقاها على الأريكة ثم وضعه على صدرها من الأمام مُمسكًا به بيد والأخرى تبعد حجابها قليلًا ليستطيع وضعه.. استمع إليها تهتف بحزن ونبرة خافتة:
-تصدق إني مالقتش الغوشتين.. أنا مش عارفه راحوا فين قلبت عليهم الشقة والله وبردو مش لقياهم
أغلق السلسال على عنقها وهتف بأريحية وهدوء:
-أكيد شيلتيهم في مكان وناسيه هيظهروا، متزعليش نفسك فداكي
استدارت تنظر إليه فنظر إلى السلسال عليها وقد كان رائع حقًا فعله لها خصيصًا وكان كذلك، ولكنه في هذه اللحظة تذكر ما حدث بالأمس فقال بحزم وجدية:
-وآه على فكرة أنتِ مصلتيش الفجر امبارح أنا سبتك بس علشان حسيت إنك تعبانة بجد لكن ده مش هيحصل تاني
أردفت مُجيبة إياه بجدية وضيق في نفس الوقت من نفسها لأنها لم تستطع أن تنهض وتؤدي فرضها معه لأول مرة:
-جاد أنتَ عارف إني مش بفوته معاك كل يوم بس بجد كنت تعبانه أوي طول الليل صاحين مقدرتش أقوم.. حتى إني قمت النهاردة جسمي مكسر
شعر أنه هو من ضغط عليها فبعد ليلة أمس الطويلة قامت بواجبها نحوه كزوجة ولم يفكر في الإرهاق أو التعب الذي يراودها في هذه الفترة بسبب وجودها مع شقيقتها منذ أيام تساعدها في ترتيبات الزواج:
-ومقولتيش ليه لما رجعنا من الفرح كنت سيبتك تنامي
ابتسمت ببساطة قائلة وهي تنهي الموضوع:
-حبيبي أنا محبتش افصلك وبعدين خلاص عدت وإن شاء الله مش هتتكرر تاني
❈-❈-❈
"بعد أسبوعين"
سار "جاد" في شارعهم ومعه ابن عمه "سمير" عائدون من صلاة العشاء في المسجد، ولكن كلما مروا على أحد نظر إليهم نظرة لم يفهم أحد منهم معناها وكانت هذه النظرات تستهدف "جاد" بالأكثر ربما البعض نظرته إليه شفقة، والآخر غضب، وربما هناك من نظر بضيق إليه، وغيره بحزن، وربما اختلطت كل هذه النظرات مع بعضهم في نظرة واحدة لم يفهم ما هي..
إلى درجة أنه تبادل النظرات مع "سمير" بحيرة وكلا منهم يريد معرفة ما الذي يحدث، هل أول مرة يروهم أم ماذا!..
تسائل "سمير" باستغراب وحيرة وهو ينظر إلى "جاد":
-هو في ايه! الناس مالها
لوى شفتيه دليل على عدم معرفته وأردف مُجيبًا إياه هو الآخر بحيرة:
-مش عارف
ثم أكمل بمرح ومزاح وهو يرفع يده ليضعها على كتفه بعنف وقوة يقصدها كالمعتاد:
-ولا يمكن علشان العريس ظهر بيشوفوا الجواز عمل فيك ايه
-زفر "سمير" بضيق وانزعاج وهو يزيح يده عنه قائلًا بضجر:
-ياعم ياريت دول بيبصوا عليك أنتَ.. واظنك عديت مرحلة عريس دي
معه كامل الحق إنهم ينظرون إليه هو، شعر "جاد" بالحيرة حقًا وهو يراهم يتبادلون النظرات وهناك أيضًا همسات لا يستمع إليها وكأنه فعل شيء مشين الجميع يتحدث عنه في الخفاء..
سار إلى أن وصل إلى الورشة فدلف ومعه "سمير" الذي تسائل بجدية واستفهام وهو يتوجه لأقرب مقعد:
-هو فيه ايه بره يا شباب.. الحارة كلها بتبص علينا كده زي ما يكون عاملين حاجه
ألتزم الجميع الصمت بعد أن نظروا إلى "جاد" نظرة خاطفة خجلة للغاية واستداروا إلى عملهم مرة أخرى ولم ينطق منهم أحد وأيضًا هم يظهر على وجههم الحزن والذي استغربه "سمير" قبل "جاد"
مرة أخرى تساءل "سمير" وهو يقف على قدميه بعد أن شعر بأن هناك شيء قد حدث حقًا والجميع لا يستطيع التحدث به ومن الواضح أنه حدث كبير مهم:
-في ايه يا طارق! انتوا ساكتين ليه كده
رفع "طارق" عينيه عليه بخجل وأبعد وجهه مرة أخرى عنه فصاح "جاد" بخشونة وقوة هذه المرة فقد تلفت أعصابه من هذه النظرات التي بينهم بينما يقف هو وابن عمه مثل المعتوه:
-ما ترد عليه.. فيه ايه يا عبده مكتومين ليه
ترك "عبده" ما كان بيده وتقدم إليهم ثم وقف أمامهم ووجه بالأرض يختلس النظر إلى "جاد" ثم يعود إلى الأرضية، وهتف بخفوت وحرج:
-حصل حاجه تخصك يسطا جاد
صمت بعد هذه الجملة فصرخ "جاد" وهو يقترب منه بعصبية وغضب لأنه يلعب على أوتار أعصابه بهذه الطريقة البشعة وتلك النظرات الحارقة:
-ما تنطق أنتَ بتتكلم بالقطارة ولا بتلعب باعصابي فيه ايه
أخرج "عبده" هاتفه من جيبه ثم فتحه وعبث به للحظات ومن ثم قدمه لـ "جاد" الذي أخذه بين يديه يرى ما به.. وفي نفس اللحظة الذي نظر بها "سمير" إلى الهاتف أخفض بصره سريعًا وأبتعد عن "جاد" حتى لا تخونه عينيه بالنظر مرة أخرى وقد فهم الآن ما الذي حدث بالفعل..
-الصور دي نزلت في جروب على الفيس فيه العيال الصايعة بتاعت الحارة واللي نزلها صفحة لسه جديدة مفيهاش أي حاجه
هذا ما تحدث به "عبده" بخجل شديد ووجهه بالأرضية بينما "جاد" كان في وضع لا يُحسد عليه وهو ينظر إلى هذه اللقطات خلال شاشة هاتف ليس له، بل أنها الآن ملك للجميع..
أحمرت عينيه الرمادية بشدة وظهر الغضب داخلها وتوحشت نظرته بينما تشنجت عضلات جسده بالكامل وهو ينظر إلى كل هذه الصور التي أمامه..
لقد كانت لقطات لزوجته!.. وله هو الآخر معها!.. صورة وهي وحدها وخصلاتها ظاهرة بوضوح مع زينة وجهها وعنقها، وغيرها وهو من كان يلتقط ويجلس جوارها على الأريكة بتلك الابتسامة البلهاء، وغيرها وهو عاري الصدر بجانبها على الفراش تقبله من وجنته وخصلاتها معقودة في الخلف ليظهر عنقها ومقدمة صدرها المغرية التي ظهرت بسبب هذا القميص التي ترتديه.. وغيرها من الصور لكليهما..
هو لا يهم ولكن هي!.. لا يظهر منها أي شيء سوى خصلاتها وعنقها وفي هذه الصورة الوحيدة مقدمة صدرها!.. لقد كانوا عبارة عن أكثر من عشر لقطات أخذ بعضًا منهم معها في هاتفها..
رفع "جاد" نظرة عن الهاتف ولم يرى أحد أمامه، فقد كانت الدماء داخل عروقه موضوعه على موقد يشتعل على أعلى درجة..
ضغط على الهاتف بين يده بقوة كادت أن تهشمه وذهب إلى الخارج وهو يعرف وجهته إلى أين تقوده!.. لا يوجد سواها من يملك القدرة على تبرير ما حدث وإن لم تفعل فلا تلوم سوى نفسها.. توحشت نظرته وهو يتخيل كم من رجل غيره رأى مظهرها بهذا الشكل وأخذ ما لا يحلل له وحمل ذنب وجعلها تحمله معه..
ما ذلك الغضب الذي حل عليه، إنه يود أن يلكم أحدهم الآن ويظل يفعل ذلك إلى الصباح وغالبًا ستكون هي.. هي من أظهرت ما يحل لها وله هو وحده، هي من جعلت الجميع ينظر إلى جسدها وخصلاتها وزينتها التي لا تخرج إلا لزوجها.. هل يتمنى ألا يؤذيها بغضبه المفرط وعصبيته التي ستبتلع كل شيء أم يتركها تقع فيما فعلت وتتحمل صعوبة التفاهم معه في هذه الأوقات!..
لن تمر هذه الليلة مرور الكرام على الجميع وأول المتضررين هي! لأول مرة معه ومنذ زواجهم سيترك الغضب المكبوت داخله يخرج وستتحمله مهما كلفها الأمر..
#ندوب_الهوى
#الفصل_الثامن_عشر
#ندا_حسن
"دعنا نخرج من ساعدتنا المملة لنتجه إلى
الحزن الصاخب"
أخيرًا انتهت من تحضر الطعام، اليوم لم يأتي "جاد" على الغداء مثل كل يوم بل قال إن هناك أعمال مهمة خارج الورشة عليه أن يقوم بها ولن يستطيع أن يعود على الغداء بل سيأكل مع العاملين معه، وقد ذهبت هي إلى منزل والدته ساعدتها في طهي الطعام وتناولت الغداء معها هي ووالده وأكملت الجلسة إلى صلاة المغرب ثم بعدها عادت إلى شقتها لتحضر طعام للعشاء.. رأته وهي تعود وعلمت أنه قد عاد فأخذت في الإسراع وانهت كل شيء في الوقت المناسب ثم دلفت إلى المرحاض لتستحم وتبدل ملابسها قبل صعوده إليها..
خرجت من المرحاض مرتديه رداء أبيض طويل يصل إلى قبل قدميها بقليل وتحكم إغلاقه عليها بالرباط الخاص به على خصرها، وجهها أبيض نقي للغاية مرسوم به نقوش بنية خفيفة رائعة تظهرها بشكل أروع وجمال أكثر، بينما خصلاتها انسدلت خلف ظهرها وهي مبتلة وظهرت أطول مما هي عليه وتعدت نهاية خصرها بكثير..
تمتمت بينها وبين نفسها وهي تغلق باب المرحاض:
-هلبس بسرعة وأصلي العشاء وشوية ويكون جاد طلع
كادت أن تذهب وتتقدم إلى غرفة النوم لترتدي ملابسها ولكن استمعت إلى صوت باب الشقة يُغلق بقوة وعنف مصدرًا صوتًا عاليًا، ابتعدت عن الممر وحاجبيها معقودان مستغربة عودته الآن قبل ميعاده وإغلاقه للباب بهذه الطريقة، خرجت إلى الصالة لتراه يتقدم إلى الداخل وعندما أبصرها توقف في مكانه ينظر إليها بجدية شديدة أو ربما شراسة، ملامحه عابثة ثابتة هل هو غاضب؟.
ابتسمت ببلاهة محاولة أن تخرج هذا الهراء من عقلها وهتفت قائلة بهدوء وهي تقف أمامه:
-رجعت بدري عن معادك... هلبس بسرعة واحضرلك الأكل
استدارت لتذهب إلى الداخل وفي لحظة خاطفة وجدت من يقبض على يدها بقوة ألمتها كثيرًا واستدارت إليه بعنف دون دراية منها ما الذي يحدث ولكن وقعت عينيها على عينيه الرمادية بعمق واستغراب شديد وكان هو في المقابل يحترق وبقيٰ لحظات ليحضر وعليه أن يفهم ما الذي يحدث..
تساءلت باستغراب هادئ وجهها أصبح شاحب الآن وتلك "الهدير" الشرسة التي تظهر في العلن لا تستطيع الظهور أمامه في تلك اللحظات:
-في ايه يا جاد
وقف أمامها مباشرةً دون التفوه بحرف ونظر إليها بعمق وأشبع عيناه من وجهها بالكامل ومع ذلك لم يستطع أن ينال مراده، لم يستطع أن يهدأ، كانت هي بمثابة المحطة التي يتلقى بها الراحة والهدوء والآن حاول أن يستغل هذه المحطة ولكنها لا تعمل معه ولن تعمل في مثل هذه المواقف..
رفع يده بالهاتف الخاص بـ "عبده" لينظر إليه ثم فتحه لتظهر الصور مرة أخرى أمامه فاغمض عينيه بقوة وصدره يعلو ويهبط من شدة الغضب واليد الأخرى يقبض عليها بقوة محاولًا أن يكبت غضبه..
تسائلت باستغراب وهي تنظر إلى الهاتف الذي بيده:
-بتاع مين ده
أدار الهاتف إليها ورفعه أمام عينيها العسلية الصافية والتي كانت تتسائل عن أشياء عدة لا تفهم ما هي، علامات الاستفهام داخلها كثيرة لتصرفاته هذه، وضعت عينيها على الهاتف الذي تعلم أنه ليس لزوجها وياليتها لم تفعل، اتسعت عينيها بقوة وهي ترى هذه الصورة الخاصة بها..
هذا ليس هاتفه وهذه الصورة عليه إذًا فهمت لما يتصرف هكذا، ولكن من أين! من أين أتت هذه وكيف؟. أنها في هاتفها فقط حتى أنها لا تضع صور لها بخصلات شعرها الظاهرة هذه على هاتفه لأنها تعلم أنه يعمل عليه وأي شخص يستطيع أن يراهم إن أخذ الهاتف ولكن هي لا أحد يأخذ هاتفها!..
اتسعت عينيها بقوة أكثر وهي تراه يمرر الصور وراء بعضها بإصبعه وتظهر أكثر في بعض منهم بعنقها ومقدمة صدرها.. من أين وكيف!
رفعت نظرها إليه بعيد عن الهاتف وعينيها تتسائل بقوة ظاهرة ربما للأعمى وما كادت أن تتحدث إلا أنه قطع حديثها وأردف بقوة وخشونة والغضب داخله ينتظر الدق عليه:
-صورك دي مش كده؟..
تعمقت أكثر بعينيه التي ذهب بريقها اللامع ورأت هذه الجدية والخشونة الصادرة منه، أخذت كالعادة تضغط على يدها الاثنين بقوة وهي تجيب بضعف وذهول معه:
-أيوه.. أيوه صوري بس جم على الموبايل ده إزاي واصلًا بتاع مين ده
وضع الهاتف بجيبه بعد أن استمع لهذه الإجابة المتوقعة وعاد بنظره إليها يهتف بجمود احرقه:
-ده تلفون عبده والصور دي على تلفونات الحارة كلها
صُدمت بشدة من حديثه الذي خرج بسهولة وكأنها ترتدي ملابس الحج، صرخت بعنف وهي تضرب صدرها ووجنتها بقوة:
-يالهوي.. يالهوي، ينهار أسود أنتَ بتقول ايه.. إزاي
قبض على معصم بيدها بعنف ينظر إليها بحدة وغضب يكاد يحرق الاخضر واليابس، تحدث من بين أسنانه وعروقه بارزة بقوة أمام عينيها الخائفة:
-أنا اللي أسألك إزاي مش أنتِ اللي تسأليني.. أنا اللي عايز أفهم الصور دي نزلت إزاي
تكونت الدموع خلف جفنيها بكثرة وهي تشعر بالألم بسبب قبضته على يدها بهذه الطريقة القوية، غير نظرته التي تتهمها باشياء لم تفعلها:
-معرفش... معرفش الصور دي معايا أنا وأنا محدش بياخد موبايلي
تساءل مرة أخرى وهو يضغط على يدها بقوة أكثر وينظر إلى داخل عينيها بعمق:
-الصور دي نزلت إزاي يا هدير؟... بعتيها لمين؟
خرجت دموع عينيها العسلية بغزارة وهي تشعر بالقهر لما حدث معها دون وجه حق، أجابته بصدق ثم أخذت تحدث نفسها بقوة أمامه وهي تبكي:
-واللهِ ما بعتها لحد.. يا فضحتي نزلوا إزاي أكيد الحارة كلها شافتهم
أخذ نفسًا عميقًا وهو يحاول أن يهدأ نفسه أمامها فرؤيتها بهذا المظهر لا تروقه أبدًا، مرة أخرى يسألها بجدية وجفاء ومازال مُمسكًا بيدها:
-طيب.. طيب حد خد تلفونك؟
توقفت عن البكاء بعد الإستماع إلى هذا السؤال منه! نظرت إليه بدقة وعينيها حمراء بقوة ووجهها كذلك ثم أجابته بتررد وخوف:
-لأ.. بس
ضيق ما بين حاجبيه وجذب يدها إليه أكثر لتقترب منه يترقب أجابتها:
-بس ايه؟
ستكون العواقب وخيمة إن تحدثت وقالت ما أتى بخلدها الآن، ستكون أول من أخطأ وأول من يندم لذا عليها أن تلتزم الصمت، أردفت بصوت متقطع خائف:
-مفيش.. مفيش حاجه
شعر أن هناك شيء تخفيه عنه ولا تريده أن يعلمه، طريقتها الآن تقول إنها تكذب وتعلم كيف تم ذلك وهو لن يجعل الأمر يمر مرور الكرام وإن كان سيتعاطف معها الآن لن يتعاطف، هدر بقوة وعنف وهو يضغط بيده عليها أكثر:
-وقسمًا بالله العلي العظيم إن ما اتكلمتي لتكوني شايفة مني وش عمرك ما شوفتيه... انطقي
تألمت بقوة أمامه بعد ضغط يده عليها ثم سحبت يدها بقوة وعنف وهي تبتعد عنه محاولة أن تتجه إلى ممر آخر في الحديث:
-مفيش بقولك... جاد الكل أكيد شافني بشعري، يارب بقى يارب
جلست على أقرب مقعد قابلها وهي تبكي بقهر على هذه الحالة التي وُضعت بها، مؤكد رآها الجميع رجال ونساء ستُحاسب على تعرية نفسها بهذا الشكل أمام من لا يحلوا لها ولكنها ليس لها يد في ذلك، ولم تستطيع القول من فعل ذلك إلا عندما تتأكد أنه هو وسيكون هو ليس هناك أحد غيره..
نظر إليها وربما هناك شعلة صغيرة تدعوه ليطيب خاطرها ويقف جوارها يشعرها بالأمان قليلًا قائلًا أن هذا سيمر ولكنه لا يستطيع حقًا فالأمر أحرق قلبه ومذقه إلى أشلاء وإلى هذه اللحظة يريد تفسير لما حدث وكيف حدث وإلا النتيجة ستكون غير مُرضية لأنها بالفعل تعلم كيف حدث ذلك ويظهر عليها بوضوح أنها تكذب، يعلم متى تكذب ومتى تكون صادقة..
دق باب الشقة بقوة فرفعت نظرها إلى الباب والدموع تغرق وجنتيها الاثنين والهلع داخلها يزداد من نظرة "جاد" الشرسة تجاهها وتهديده الصريح لها..
تقدم من الباب سائلًا مَن الطارق قبل أن يفتح وهي مازلت في مكانها، أجابته "مريم" من الخارج أنها هي، فتح الباب ووجهه لا يبشر بالخير أبدًا..
نظرت إليه بلهفة وتساءلت عن شقيقتها بعد أن قص عليها زوجها ما حدث وعلمت من الفاعل:
-فين هدير؟
أشار إلى الداخل فتقدمت خطوة وأغلق هو الباب من خلفها، سارت سريعًا إلى شقيقتها التي كانت تجلس وتنتحب بقوة بعد أن رأتها، أقتربت منها وجلست جوارها تحتضن إياها بحنان وكأنها هي الأكبر سنًا والذي يجب عليها احتواء الموقف..
صاحت بحنان قائلة:
-متعمليش في نفسك كده أنتِ مالكيش ذنب في حاجه وربنا عارف إنك مظلومة
ربتت على ظهرها بحنان وود وهي تحاول أن تجعلها تهدأ قليلًا وتتوقف عن البكاء ولكن ليس هناك أي نتيجة إيجابية فـ الموضوع مؤثر عليها بشكل كبير، الجميع رآها من دون حجاب بل رأوا عنقها ومقدمة صدرها، رأوا وهي في أحضان زوجها وهذا ذنب عظيم لن تستطيع أن تتجاهله... هذه المصيبة الأكبر بحياتها..
صدح صوت "مريم" بقوة وشراسة والذي استدعى انتباه "جاد" أكثر:
-واللهِ لاولع فيه الكلب الخسيس ده؟. بقى دي عمله يعملها بس أنا اللي غلطانه قولت أن مش هو اللي بيشتغل و....
تأكدت هي الأخرى من شكها في هذه اللحظات وصاحت بقوة وهي تبتعد عنها بحدة لتجعلها تصمت حتى لا يعلم هو:
-مريم
نظرت "مريم" إلى زوج شقيقتها الذي أقترب منهم في لحظة وعينيه تحمل غضب لا نهائي وحركاته هوجاء بطريقة واضحة:
-هو مين ده؟..
أغمضت "هدير" عينيها بقوة تعتصرهما وهي تود لو تبتلعها الأرض الآن في هذه اللحظة، تمتمت "مريم" بتردد وقد فهمت أنها لا تريده أن يعلم مَن الفاعل:
-أنا... أنا قصدي اللي عمل كده يعني.. لما، لما نعرفه
تكذب، يظهر ذلك عليها بوضوح أنها تكذب مثل شقيقتها، ولكنه يعلم من أين سيأتي بالحقيقة والآن!، نظر إلى زوجته التي كانت منحنية على نفسها وهتف بطريقة فظة وقحة لأول مرة:
-سيبينا لوحدنا يا مريم
-حاضر... حاضر
وقفت على قدميها وهي تنظر إلى شقيقتها بأسف وخجل شديد فهي من فعلت كل ذلك بسبب حركة غبية منها كان عليها التفكير بها أولًا، توجهت إلى باب الشقة فتحته ثم خرجت منه بهدوء وأغلقت الباب خلفها..
في تلك اللحظة التي طلب بها من "مريم" الخروج علمت ما الذي يفكر به وما الذي سيفعله، لن يجعل الأمر يمر هكذا مستحيل
جذبها من يدها بعنف يجبرها على الوقوف أمامه بقوة وصدح صوته الحاد في أذنها:
-في صور تانية على التلفون جسمك باين فيها غير دول
لم يكن يفصل بينهم شيء بسبب جذبه إليها بهذه الطريقة ولكنها لم تستطيع أن ترفع عينيها وتنظر إليه فهي تعلم ما الشعور الذي يحالفه الآن.. أجابت بخفوت:
-لأ... لأ مفيش
وضع يده أسفل ذقنها ورفع رأسها إليه بطريقة فظة حادة لم تعتاد عليها منه وقد كان يريد ذلك حتى يرى عينيها الباكية ويعلم إن كانت تتحدث بالصدق أم لا:
-التلفون ده كان مع مين؟
أبصرته بعينيها الباكية بحزن وخوف كبير اجتاحها بسبب طريقته وتعامله الحاد معها لأول مرة وازداد خوفها من أن يعلم ما الذي حدث:
-مكنش مع حد
أخفضت وجهها مرة أخرى وعينيها تخرج الدموع دون توقف وقلبها يقرع كالطبول خوفًا وهلعًا ثم حزنًا وندمًا، أمسك كتفها الأيمن بيد والأخرى رفع بها وجهها مرة أخرى صارخًا بعنف:
-اقفي كده وكلميني عدل.. كان مع مين يا هدير لآخر مرة هسألك وبعد كده تصرفي مش هيعجبك
لم يأخذ منها ردًا بل ازداد بكائها مصاحب لنحيب ازعجه ورأه تصرف طفولي منها لابد من رده فصرخ مرة أخرى بعنف أكبر:
-انطقي بقولك
-كان.... كان عند مسعد
لم يستوعب أن الاسم الذي نطقت به صحيح وأنه من كان لديه هاتفها!.. ولما كان لدى "مسعد" هاتفها؟.. ومتى وأين وكيف؟.. لابد أنها قابلته حتى أخذه منها ولكن متى؟ تضاخم صدره أكثر وازداد غضبه منها وعليها وفي لمح البصر بعد أن رأى عينيها مازالت تبكي رفع يده في الهواء ليهبط بها على وجنتها..
رأته في حالة شديدة الخطورة عليها وعليه، علمت لما هو لا يغضب سريعًا وهذا لأنه عندما يفعلها فغضبه يحرق كل شيء أمامه.. رأته يرفع يده بقوة وعنف وكاد أن يهبط بها على وجنتها فاغمضت عينيها الاثنين تعتصرهما بقوة منتظرة صفعته إليها وقلبها يدق هلعًا ورهبةً..
قبض "جاد" على يده بقوة حتى ابيضت مفاصله وهي في منتصف الطريق إلى صفعها، نظر إليها عندما أغلقت عينيها منتظرة أن يقوم بمد يده عليها وكم احرقه هذا الشعور أكثر من شعوره بالغضب، احرقه شعور أنه كاد أن يستعمل رجولته ويظهر القوى الخاصة به عليها.. هذه ليست أخلاقه، ليس ما تربى عليه وعلمه وفهمه من دينه وقرآنه.. هذا ليس "جاد"..
أغمض عينيه الرمادية بقوة مثلها تمامًا ضاغطًا على أسنانه بعنف وحدة شديدة، وضع يده جوار جسده وفتح عينيه ينظر إليها..
انتظرت مطولًا أن يقوم بصفعها ولم يفعل!.. فتحت عينيها ببطء وخوف لأول مرة تشعر به معه، حتى عندما كانت تتعرض للضرب من شقيقها لم تكن تشعر بالخوف منه أبدًا، هل شعورها تجاه زوجها الآن سيء؟.. إنه كان الأمان كيف أصبح خوفها يأتي منه؟..
كاد أن يصفعها ويفعل ما كان يفعله شقيقها!.. كاد أن يفعل ذلك:
-أنتَ، أنتَ...
قاطعها وهي التي بدأت بالحديث سائلًا إياها بجدية وصوته أصبح منخفض:
-كان عند مسعد بيعمل ايه؟..
لم يأخذ منها ردًا مرة أخرى، زفر بعنف وهو يحاول التراجع عن كل ما يلقيه عليه شيطان عقله ولكن يبدو أنها تريد أن ترى أسوأ ما به، مسح على وجهه بكف يده بقوة وعنف وسألها ثانيةً:
-انطقي يا هدير كان بيعمل ايه عنده
جذبت الرداء على جسدها بيدها الاثنين واحتضنت نفسها وهي تنظر إلى الأرضية مُجيبة إياه بضعف وكسرة قد حلت عليها منذ دلوفه إليها بذلك الخبر:
-وقع مني ومرضيش يفتح اديته لمريم... وهي ودته لمحل من بتوع مسعد من غير ما تاخد بالها ولا تفكر وبعدين جابته.. محصلش غير كده والله
-وأنا روحت فين؟.. مُت!
خرج صوت بكائها بعد الاستماع إلى جملته التي قتلتها وقتلت قلبها الذي كان وكاد أن يشعر بالسعادة ونعيمها، انتحبت وهي تنظر إلى الأرضية والرؤية مشوشة من الأساس بسبب هذه الدموع الغبية الذي أخفت عينيها..
نظر إلى وجهها وهي ينحني برقبته لينظر إليها وهي منخفضة هكذا وصاح بعتاب ظاهر في صوته بقوة بين هذا الصوت الرجولي الجاد:
-ردي عليا يمكن أنا مُت.. كان فيه صور تانية ليكي بلبس البيت؟
أردفت بصدق ونبرة مُرهقة ضعيفة:
-أيوه.. بس كلها كده مفيش حاجه ظاهرة أكتر من وشي والله
توعد "جاد" إليه بقهر وحقد قد أصاب قلبه لأول مرة تجاه أحد، وقد كان يعلم ما الذي يقوله حقًا وسيفعل به:
-المرة دي بقى هو اللي جنى على نفسه
رفعت نظرها إليه بقوة وتوقفت عن النحيب رافعة يدها الاثنين تتمسك بذراعيه قائلة بهلع وخوف عليه من بطش "مسعد":
-لأ... لأ يا جاد علشان خاطري أنا اللي غلطانه
حرك عينيه الجادة على وجهها وقد كان يود أن يحتضنها ويطمئن قلبها ولكن فعلتها جعلته باغض النظر إليها ويود الإبتعاد عنها، توعد بقسوة قائلًا:
-لسه دورك مجاش بس هو لو طلع المرة دي من تحت ايدي عايش يبقى ربنا بيحبه
رفعت يدها بجرأة إلى وجنته وكأنه سيتأثر بها، أردفت بخفوت وهي تبكي:
-علشان خاطري بلاش... بالله عليك لأ يا جاد
أبعد "جاد" يدها عنه ولم يكن يود النظر إليها حتى بعد ما حدث بسبب تصرفها الغبي:
-ابعدي
تحرك ليذهب إلى باب الشقة متجهًا إلى "مسعد" أمسكته من قميصه من الخلف تجذب إياه بقوة وهي تنتحب لأجل ما يريد فعله ولا تعلم ما النتيجة بعده:
-جاد.. علشان خاطري
وقف على حين غرة واستدار ينظر إليها بقوة وعينيه تشير إلى شيء ما فوجدته يقول بجدية:
-تعالي هاتي القميص الأسود اللي كنتي لبساه في الصورة
هذا القميص الذي أظهر عنقها ومقدمة صدرها، لقد كان مفتوح أكثر من ذلك بكامل هيئته ولكن الصورة أظهرت هذا فقط، نظرت إليه باستغراب وخوف مما يخطط له سائلة بجدية:
-أنتَ هتعمل ايه
استمع إلى هذا السؤال منها وهو يجذبها من يدها بقوة وعنف خلفه متوجهًا بها إلى غرفة النوم لتحضر القميص له كما طلب، أوقفها أمام الخزانة في الغرفة وأردف مُجيبًا إياها بقوة:
-مايخصكش اللي هعمله.. هاتي القميص
فتحت الخزانة أمامه ويدها ترتعش بقوة ظاهرة أمام ناظريه، جذبت القميص من بين ملابسها بيدها المرتعشة فجذبه منها بقوة ونظر إليها بعمق داخل عينيها متوعدًا إياها بقسوة:
-وأنتِ لسه دورك مجاش بس متستعجليش عليه
ذهب إلى الخارج وتركها تنظر في أثره، استمعت إلى صوت الباب يغلق بقوة جعلته يصدر صوتًا عاليًا، جلست على الأرضية بضعف وقلة حيلة وازداد بكائها وهي لا تدري ما الذي سيفعله، تفكيرها الوحيد به هو، خائفة عليه والهلع سيطر على قلبها الضعيف..
ألا يجوز أن تفرح قليلًا!.. هل ستموت البشرية إن حدث ذلك!.. وضعت يدها على وجهها وهي تبكي بصوت عالٍ وقهر حالفها حتى الآن، ولأول مرة تُضع في معصية كبيرة كهذه أمام الله ولكنه يعلم أنها ليست بيدها... لن تفعلها مرة أخرى.. لن تأخذ أي لقطات لها مرة أخرى يكفي هذه..
مسحت على وجهها بقوة محاولة تخطي حالة الضعف هذه لتنقذ الموقف، وقفت تأخذ ملابس مناسبة من الخزانة حتى تصعد إلى "سمير" ابن عمه كي يذهب خلفه إلى "مسعد" ويوقفه عما يريد فعله والذي من الأساس هي لا تعرفه، تمتمت بخوف ولهفة قائلة:
-يارب سلم.. يارب سلم
❈-❈-❈
سار في الشارع الخاص به ورأسه مرفوع عاليًا، جسده متشنج للغاية وعروقه ظاهرة بوضوح، كان سيره بهذه الطريقة يشير إلى أنه رجل مصارعه، فكانت نظرته حادة ومشيته ثابتة واثقة وما جعله يظهر هكذا هو جسده الرياضي الذي برزت عروقه بقوة، وبيده القميص الذي أخذه منها يقبض عليه بقوة، ينظر بعيني أي شخص يراه ويمر من أمامه، لن يخجل ولن يخفض عينيه للأرض بل هناك من سيترك له هذه المهمة..
كان منزل "مسعد" في الشارع الخلفي قريب منهم للغاية وأسفله أقرب محل له والمتواجد به دائمًا..
دلف "جاد" المحل بكل قوة ومظهره لا يوحي بالخير أبدًا، رأى "مسعد" جالس على مكتبه في مقابلته تمامًا فنظر إليه مُبتسمًا بتشفي من قبل أن يبدأ ما سيفعله ومع ذلك لن يتراجع أن نيران قلبه توهجت اشتعالًا عندما أبصره أمامه..
نظر إليه "مسعد" وكم كان يود أن يضحك بشماته لما فعله به وبزوجته ولكن نظرة "جاد" لم تجعله يغتنم هذه الفرصة بل ارتاب من تقدمه البطيء ونظرته الشرسة هذه ويالا حسن حظه فلا يوجد غيره هنا!..
ترك "جاد" القميص على المكتب بعد أن أقترب منه إلى الغاية ثم مال عليه بجذعه ونظر إليه ببرود شديد لا يدري من أين أتى به:
-أنت عارف دية اللي أنتَ عملته ايه؟.. أنا هقولك
لم يترك له الفرصة للرد عليه بل جذبه من مقدمة عنقه وأبتعد به عن المكتب ثم لكمه بكل قوته ويالا قوة "جاد" الجسمانية..
لن يصدق أحد لو قولت أن "مسعد" كاد أن يفعلها داخل سرواله!..
لم يتركه "جاد" بل تمسك به بقوة وباليد الأخرى سدد له ما يقارب العشر لكمات بجانب شفتيه، أسفل عينيه، وأنفه الذي ربما يكون قد كُسر.. لم يرحمه "جاد" يرى تلك الصور أمام عيناه ويتذكر نظرة الناس له في الحارة ويتذكر أن الجميع رأى زوجته بدون حجاب وزينتها ظاهرة للجميع فيزداد أكثر فيما يفعل..
وقع "مسعد" على الأرضية ووجهه سارت به الدماء بكثرة، رفعه "جاد" مرة أخرى ثم أعطاه لكمة قوية بقبضة يده في منتصف صدره جعلته يصرخ من الألم واقعًا على الأرضية بكل قوته واصطدمت رأسه بالأرضية بعنف وإلى هنا هل يكتفي؟..
لم يعد "مسعد" قادرًا على الوقوف ولا حتى النظر إليه، يشعر أن وجهه محطم وهناك أسنان وقعت من فمه، غير صدره الذي ألمه وكأنه أخذ به طلق ناري..
قوة "جاد" لا تعادل "مسعد" بالمرة فهو من الأساس لم يستطع التصدي له أو النظر إليه، بقيٰ مُلقى على الأرضية غير قادر على فعل أي شيء فضربه "جاد" بقدمه بكل غل وقسوة في جانبه الأيمن ثم جسى فوقه يسدد له لكمات أخرى وأخرى وهو يلهث بعنف وخصلات شعره الطويلة مالت على جبينه ملتصقة به بسبب العرق الذي ظهر لمجهوده في ضرب "مسعد"..
دلف "سمير" بسرعة كبيرة إلى المحل وهو يركض حتى يقوم بردع "جاد" عما يريد فعله بعد أن علم من زوجته..
وقف خلفه وانحنى بجذعه محيطًا إياه من الخلف يحاول جذبه من فوق "مسعد" الذي ربما يكون قد مات حقًا، ولكنه مُصمم على قتله هذه المرة حتى يبتعد عنه وعن حياته بشره وحقده على الجميع..
صرخ "سمير" به عدة مرات حتى يبتعد عنه وفي نفس الوقت يحاول جذبه ولكنه لا يستمع إليه من الأساس، صرخ به عاليًا هذه المرة وهو يدفعه من الأمام بكل قوته ليبتعد عنه:
-كفايه يا حمار هيموت في إيدك
وقع "جاد" على الأرضية جالسًا بسبب دفعة ابن عمه له فنظر إليه بقوة وحدة وعينيه يملؤها الشر:
-هو ده المطلوب
وقف "سمير" أمامه بعصبية وهو خائف من تهوره، قد يموت ويزج ذلك الأبلة بالسجن، وصرخ به قائلًا:
-خد حقك منه بس مش بالموت، أنتَ اتجننت ولا ايه هو يموت وأنتَ تترمي في السجن
نظر إليه "جاد" وجده يحاول التحرك ولكن لا يستطيع فقد أصبح جسده ثقيل عليه أكثر من اللازم فوقف هو على قدميه وهو يلهث بعنف وقوة ازعجته، أرجع خصلاته إلى الخلف بكف يده ثم أمسك بالقميص من على المكتب واضعًا إياه في يد "سمير" وقال بكل جدية:
-أمسك ده
نظر "سمير" باستغراب إلى القميص النسائي الذي بيده، قميص أسود قصير للغاية مفتوح من كل جاب!.. ما الذي سيفعله به؟
وجده يرفع "مسعد" عن الأرضية واسنده عليه ثم سار به إلى الخارج، لا يدري ما الذي يريد فعله به في منتصف الحارة وترى الناس جميعها أن هو من فعل به ذلك.. يا له من أحمق..
خرج خلفه ليجده وقف به في منتصف الشارع أمام محله بالضبط أي أمام منزله المكون من أربع طوابق وكل طابق به شقة يوجد بها زوجة من زوجاته الثلاثة مع أطفالها..
جذب "جاد" مقعد معه من جوار المحل ثم أجلسه عليه في المنتصف وقد بدأ المارة بالوقوف ليروا ما الذي يحدث هنا، هتف بنبرة رجولية عالية للغاية لكي يستمع إليها الجميع وبالأخص أهل منزله:
-الصور اللي نزلت ليا ولمراتي وكل أهل الحارة شافوها اللي نزلها هو مسعد الشباط... الو**
-تلفون مراتي عطل منها وأنا جتله بيه بنفسي وهو بدل ما يصلحه ويرجعه، صلحه وأخد اللي عليه ونزله لكل الحارة واللي يعمل عمله نجسه زي دي يبقى لازم يتربى ويتعلم الأدب من أول وجديد علشان ميعملهاش تاني مع أي واحدة في الحارة
نظر إليه الجميع وقد تفهموا حديثه جيدًا ونظر إليه شخصًا ما بكل جدية وتحدث بقوة أمام الجميع:
-مسعد معروف بعمايله الوسخه دي وإحنا لما شوفنا الصور يسطا جاد عرفنا أنها متطلعش منكم.. كل بيت ليه خصوصياته وهو سرق الخصوصية دي يبقى لازم يتربى والحارة تنضف من أشكاله..
استمع إليه "جاد" ولم يتحدث ليجد امرأة تدخلت في الحوار متحدثة بتشفي وكأنها لها عداوة معه:
-يستاهل البعيد... دي مش أول مرة يعملها وياريت الحارة فيها رجالة زيك يسطا جاد يعرفوا ياخدوا حقهم مش يكشوا ويخافوا
نظر "جاد" إلى الأعلى ليجد زوجاته الثلاثة يقفن وكل واحدة منهن تطلع إلى ما يحدث له في الأسفل ولم يجد أي نظرة حزن على وجه أي واحدة منهن، عاد بنظرة إلى المرآة ثانيةً وقال بتشفي وقسوة ظاهرة للجميع:
-لأ أنا لسه هاخد حقي دلوقتي قدام الكل وأولهم أهل بيته..
تقدم من "سمير" الذي كان يقف على أعتاب المحل مذهولًا مما يفعله، أخذ من يده القميص بحدة وقوة واستدار ليذهب إلى "مسعد" مرة أخرى فاستمع إلى صوت ابن عمه:
-اللي هتعمله ده غلط
لم يعيره اهتمام بل أكمل فيما يريد فعله، وقف أمام مسعد الذي كان لا يدري ما الذي يحدث من حوله فقط يستمع إلى سباب موجه إليه..
نظر الجميع إلى جاد بقوة وقد فهموا ما الذي يريد فعله فانتظروا ليشاهدوا هذا العرض الذي يحدث من الحين إلى الآخر بين "جاد" و "مسعد" لأجل فتاة في عمر أولاده ربما..
جذب القميص الذي يرتديه بكل قوته من عند عنقه بيده الاثنين لينشق نصفين، ازاحه عنه وظهر له صدره العاري فأمسك قميص زوجته بيده وقام بتلبيسه إياه..
وضع الجميع أيديهم على فمهم ذهولًا من فعلة "جاد" الذي لا يتجرأ عليها أحد، هناك من يتشفى بمسعد وهناك من يرى أن الأمر فظيع منسوبًا إلى سمعته السيئة أيضًا وكثير من الأشياء هاجمت الجميع وهم يرونه..
لم يقدر على أن يجعله يلبسه بالكامل فقد كان صغير، فوضعه في عنقه وذراعه الأيمن ومال عليه قائلًا بنبرة حادة مهددة إياه بغل:
-وقسمًا برب العباد الصور لو ماتمسحت لكون عامل فيك اللي يخليك زي الستات بجد... والبادي أظلم
وقف شامخًا ونظر إلى الجميع بارتياح بعد أن أخذ نصف حقه منه قائلًا بجدية وصوتٍ عالٍ:
-اللي عايز ياخدله لقطتين ياخد مش خسارة فيه بردو
وجد شباب الحارة يخرجون هواتفهم ليأخذوا له اللقطات وهو بهذه الهيئة والإبتسامة على وجوههم غير الشماتة التي حلت على الجميع وهم ينظرون إليه.. السيرة الطيبة والسمعة الجيدة وأفعالنا الكريمة هي ما يتبقى لنا في الدنيا وما نعيش به.. غير ذلك فلا تنتظر من أحد أن يكن لك الاحترام قبل أن تكنه إلى ذاتك..
❈-❈-❈
أخذ "جاد" دراجته النارية بعد كل ما حدث في الحارة وسار ذاهبًا إلى البعيد ليكون وحده بعيد عن الجميع وأولهم هي، ولينعم ببعض الهواء المنعش الذي ربما يشفي جروحه الكثيرة والغائرة..
سار كثيرًا وكثيرًا حتى أبتعد عن الحارة مسافة تقارب الساعة حتى لا يعود إليها مرة سريعًا، الجميع بها لا يريد رؤيتهم فقط يريد أن ينسى ما حدث وما فعلته زوجته به..
وقف هاتفها عن العمل ألم يكن من المفترض أن يأخذه هو ليقوم بتصليحه أم تعطيه لشقيقتها الغبية الذي أخذته وأعطته بيدها إلى ذلك الحقير، بائع السم والموت في أكياس...
وتقول لا أدري كيف حدث وهي تعلم كل شيء، تكذب عليه وتريده أن يكون ذلك الرجل المضلل الذي لا يعرف كيف أن يأتي بحق زوجته..
ألن تكف عن أفعالها هذه؟. لقد جرحته كثيرًا واحزنته بما يكفي أعوام ألن تكتفي بعد؟!..
نُهش قلبه من الداخل وحللت شرايينه بعد أن تخيل نظرة الرجال للصور، زوجته ومن حقه هو وحده وهناك من رآها غيره وهنا كانت المشكلة الكبرى داخله، غضبه مما حدث وانزعاجه منها وحزنه عليها..
لا يستطيع أن يحدد موقفه تجاهها أيضًا نعم منزعج بشدة ويود أن يلقنها درسًا لا تنساه ومع ذلك لا يهون عليه حزن قلبها الضعيف، لا يتحمل نظرة الألم بعينيها فهو أمانها وسندها، هو والدها وشقيقها ولكن لقد جُرح!..
رفع نظرة إلى السماء وهو جالس على الدراجة النارية ثم أغمض عينيه بضعف كبير في محاولة منه أن يهدأ نفسه ويبعد ذلك الغضب عنه حتى يستطيع العودة إلى المنزل..
استمع إلى صوت سيدة تصرخ على الجانب الآخر من الطريق والذي كان مقطوعًا بعد أن تخطت الساعة الثانية صباحًا، وقف على قدميه وسار يتقدم إلى هناك ليرى إن كانت تحتاج مساعدة فاستمع إلى صوتها تهتف بقوة وصوت حاد صارخ:
-سيبني يا حيوان وأبعد عني.. أنا هوديك في ستين داهية يا زبالة
سار مقتربًا أكثر ليرى رجل ومعه امرأة يبدوا عليها الثراء غير محجبة بل ملابسها مكشوفة، يحاول أن يأخذها بالقوة معه في سيارته فصرخت به أكثر فابتعد عنها وهو يقول بقسوة:
-اللي بتعمليه ده هيوديكي أنتِ في داهية
صرخت أكثر وهي تتلوى بين يده بهستيرية وخوف قائلة:
-أبعد عني.. أبعد
كاد أن يتقدم منهم "جاد" ليساعدها ولكنه وجده يصعد في سيارته ثم انطلق بها وتركها وحدها بجوار سيارتها...
ما كاد إلا أن يستدير ويذهب ولكن شعر أنها تترنح وليست على ما يرام، تقدم منها سريعًا لينظر إليها بقوة قائلًا:
-أنتِ كويسه؟
نظرت إليه باستغراب لا تدري من أين خرج هذا الوسيم ذو الهيئة الجميلة والتي خطفت نظرها إليه، أغمضت عينيها بضعف لم تستطيع مقاومته وترنحت للأمام فقدم ذراعيه إليها قبل أن تقع على الأرضية..
زفر بضيق وانزعاج شديد وهو يرى إن كانت تتنفس أم لا وهتف قائلًا:
-هو يوم باين من أوله
نظر "جاد" إلى سيارتها بجدية، رفعها بين يديها ثم اتجه بها ناحية السيارة فتح بابها ووضعها في المقعد الخلفي ثم ذهب إلى الطرف الآخر ليضع الدراجة النارية الخاصة به في مكان آمن حتى يعود ويجدها، ثم مرة أخرى توجه إلى الطرف الآخر عائدًا إليها وصعد إلى السيارة في مقعد السائق ثم انطلق بها..
❈-❈-❈
وقفت في شرفة شقتها، تنظر عليه وتود أن يطمئن الله قلبها بنظرة منه، منذ أن قام بضرب "مسعد" وهو مختفي، ولقد قاربنا على اليوم التالي..
لقد قال لها "سمير" كل ما حدث وكل ما فعله "جاد" وشعرت بالحرقة لأجله.. تعلم ما الذي يشعر به حقًا ولكن لم يكن بيدها شيء لتفعله..
لم تكن هي الجاني الذي فعل هذا بل كانت الضحية وأكثر من تعرض للحزن بسبب فعلة "مسعد" القذرة
شعورها لا يوصف ناحيته، تارة تشفق عليه وتارة أخرى تشعر بالقهر منه، لقد قابلها بقسوة كبيرة لم تعتادها منه يومًا حتى أنه قارب على ضربها!..
لقد جرحها بشدة عندما رفع يده وكاد أن يصفعها، لم يفعلها نعم وعاد عما نوى عليه وشعر بأن ذلك ليس أسلوبه وهي لا تستحقه أيضا ولكن الفعلة نفسها تحرق قلبها وتجعلها تشعر بالعجز..
إلى أين ستذهب إن حدث بينهم سوء مثل هذا فهو لها الأب والشقيق ثم الحبيب وآخرهم الزوج!..
دلفت إلى الداخل وأخذت الهاتف من على الطاولة تحاول أن تهاتفه مرة أخرى ولكن كما كل المرات هاتفه مغلق..
زفرت بضيق وقررت داخلها أنه بعد مرور نصف ساعة أخرى إن لم يأتي فستصعد إلى "سمير" مؤكد يعلم أين هو...
الأمر لا يستدعي أن يذهب ويفعل هكذا، نعم حزين ويشعر بالخذلان منها وهي أيضًا مشاعرها تجاهه مُشتتة والموقف الذي وقعت به ليس سهلًا كان لابد من المواجهة ليس الهروب..
دقائق أخرى مرت وهي تفكر به وبما حدث ثم استمعت إلى صوت دق غريب على الباب، ابتلعت العلقم الذي وقف بحلقها ليشعرها بمرارة ما حدث وتقدمت من باب الشقة بخوف وهي تنظر إليه بقوة
ومرة أخرى نفس الدق على الباب فصاحت بصوتٍ خافت يرتجف خوفا لأن جاد معه مفتاحه الخاص ويدلف في أي وقت:
-مين؟..
أتاها صوته الخشن الرجولي من خلف الباب:
-أنا جاد افتحي
فتحت الباب سريعًا بلهفة وقد اطمئن قلبها حقًا بعد أن علمت أنه بخير ويقف هنا داخل منزله، فور أن فتحت الباب وجدته يقف أمامها بشموخ ينظر إليها بحدة ويحمل على يده امرأة يبدو أنها فاقدة للوعي!
نظر إليها بقوة وجدية شديدة ولم يتحدث بل أراد أن تفسح له الطريق بينما هي قابلته بسؤالها الذي خرج من بين شفتيها باستنكار وذهول:
-مين دي يا جاد؟..
#ندوب_الهوى
#الفصل_التاسع_عشر
#ندا_حسن
"مازال يريد الفراق
وقلبي لا يتحمل"
وضعها "جاد" على الفراش الصغير في غرفة نوم الأطفال بشقته، وقفت "هدير" جواره تنظر إلى ما يفعله بصمت منتظرة أن ينتهي ويُجيب على سؤالها المعلق في الهواء إلى الآن دون إجابة واضحة منه؟..
مَن تلك التي أتى بها إلى منزلها في مثل هذا الوقت غائبة عن الوعي ولا تدري ما الذي يحدث حولها، ربما تدري من قبل اغمائها!، غير محجبة ولا يبدوا عليها الاحتشام من الأساس بهذه الملابس التي تفصل جسدها بشدة..
نظرت إلى وجهها عن قرب عندما خرج من الغرفة وتركها، دققت النظر بها تتأكد إن كانت هي حقًا التي أتت على خلدها!، إنها "كامليا عبد السلام" المذيعة الشهيرة!.. ما الذي تفعله في بيتها! ستُجن!
رأته يدلف إلى الغرفة مرة أخرى وبيده زجاجة عطر تخصها أتى بها من غرفة نومهم، أقترب من تلك النائمة على الفراش ثم قام برش قليلًا في الغطاء مقربة من أنفها ليجعلها تستفيق، محاولة ثم أخرى وأخرى حركت رأسها بضيق وأغمضت عينيها أكثر فاطمئن قلبه وتركها كما هي تنام في هدوء..
خرج من الغرفة وهي خلفه أنتظر أمامه لكي تخرج فأغلق الباب وتقدم إلى غرفة النوم الخاصة بهم دون التفوه بحرف ولم ينظر لها أيضًا، لم يعيرها أدنى انتباه، شاعرًا أن عليه أخذ موقف حاسم معها لتتعلم من ذلك الخطأ الذي قامت به بحقه وبحق نفسها، دلفت خلفه وسألته مرة أخرى وهي تغلق الباب بجدية وخفوت:
-بقولك مين دي يا جاد
تقدم من خزانة الملابس ووقف أمامها بعد أن فتحها وأخرج ملابس بيتية له منها دون أن ينتظر منها فعل ذلك، استدار ووضعهم على الفراش وأجابها دون النظر إليها بجفاء:
-كانت على الطريق بتتخانق مع حد وبعدين واغمى عليها اضطريت اجبها هنا
رأته يزيل قميصه عنه ووقف أمامها عاري الصدر بعد أن زال قميصه الداخلي أيضًا وبدأ في ارتداء الملابس الأخرى، فقالت وهي تقترب منه بهدوء:
-طب ومكلمتش حد من أهلها ليه
انتهى من ارتداء الملابس فأخذ ما ازالهم عنه وألقاهم على المقعد، ثم تقدم للخروج من الغرفة قائلًا بنبرة خشنة باردة:
-مجاش في بالي..
يتحدث بخشونة وبطء وكأنه رغم عنه! لما كأنه فهو حقًا هكذا، نظرت إليه بحزن طاغي على جميع خلاياها فكل ما حدث لم تكن تريده أن يحدث مثله تمامًا وأكثر ولم يكن لها يد به، كم مرة ستقول هذا الحديث حتى يفهم؟..
كل شيء حدث عن طريق الخطأ، ومع ذلك لقد أخطأت وهي معترفة بذلك ولكنه لا يعطي إليها فرصة لتصليح ذلك الخطأ أو حتى الاستماع إليها والتقرب منها وفوق كل هذا رفع يده عليها وقارب على ضربها من المفترض أن تكون هي المنزعجة!..
لن تبالغ هو من ينزعج لأنها من أخطأت ولو هناك أحد غيره وُضع في مكانه لفعل أكثر من ذلك ولكنها تطمع في المغفرة منه وإن يعود كما كان..
خرجت خلفه ووجدته يتقدم من المرحاض، فقالت بحنان أم تنازعت هي وولدها ولكن لا يهون عليها:
-هحضرلك تاكل.. هعملك حاجه خفيفة أنتَ أكيد جعان
بخشونة وجفاء أجابها وهو يغلق الباب بوجهها غير مبالي بأي شيء:
-مش عايز
أغمضت عينيها بقوة تعتصرهما بضعف شديد وهي لا تستطيع تحديد موقفها، هل تبتعد عنه وتتركه حتى يعلم أنه من أخطأ في حقها عندما تطاول عليها بصوته العالي ويده وتعامل معها بخشونة لم تعتادها من حبيب قلبها وسندها في الدنيا، أم تعترف أنها من أخطأ أولًا وبعد ذلك ترتب كل ما فعله لأنه كان رد فعل لفعلها القبيح!..
ذهبت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب خلفها ثم تقدمت من الخزانة وأخرجت منها قميص يصل طوله إلى قبل ركبتيها بقليل، حمالاته رفيعة للغاية وبه فتحت صدر واسعة..
وضعته على الفراش ثم أزالت عنها إسدال الصلاة التي كانت تقف به في الشرفة، وبدأت في تعديل ملابسها وارتداء ذلك القميص، ثم ذهبت لتمشيط خصلاتها أمام المرآة..
لم تفعل هذا لاغراءه وجعله يتناسى ما حدث فهي من الأساس لم تنساه ولم تتخطاه ولن يحدث هذا بسهولة مهما فعلت ولكن كل شيء داخلها تخفيه لكي تتمكن من التعايش معه وإخراجه سريعًا من هذا الحزن والفراق الذي من مظهره قد فهمت أنه عزم نيته عليه، والأهم من كل هذا أنها في صلاة قيام الليل شعرت بالراحة الكبيرة.. أكبر راحة قد تشعر بها في حياتها وفي يوم ملئ بالمصائب كهذا اليوم..
دائمًا هي هكذا تحل عليها المصيبة فتتوجه إلى سجادة الصلاة وتقضي عليها بعض الوقت بخشوع وتُحدث الله وكأنه معها وأمامها، تقرأ بعض الآيات التي تطمئن قلبها فترتاح وتنسى كل ما حدث وكأنه لم يحدث..
رؤية الجميع لها هكذا بشعة للغاية، أنها لم تكن بملابس فاضحة أو أي شيء آخر ولا يظهر منها سوى خصلاتها ولكنها لأنها محجبة وتخاف الله أكثر من أي شيء بحياتها وتود أن تكون مؤمنة بحق ليست كلمات فقط، انزعجت كثيرًا وانتابها الحزن الطاغي ولكن يداوي الله كل هذه الجروح برحمة ومغفرة منه..
والآن هي تود أن تظهر زوجته التي يعرفها لكي تجعله يلين أكثر وفي محاولة بائسة بأن يفعل كما فعلت ويحاول أن يتخطى ذلك معها، لن تتركه هكذا.. لن تتركه يقدم لها كل الدعم والحب، المودة والحنان والعطف وفي النهاية تفعل أخطاء غبية مثلها وتتركه حزين هكذا بسببها..
وأيضًا مهما حدث هي لا تستطيع البعد عنه، حتى عندما كانت في فترة ما مُشتتة لم تبتعد عنه، ولكنه الآن تقريبًا مقرر ما الذي سيفعله معها وهذا واضح بشدة..
دلف إلى الغرفة ونظر إليها وهي تقف أمام المرآة، بدلت ذلك الإسدال وارتدت قميص مغري بالنسبة إليه، يظهر مفاتنها المحلله له، لحظة!.. لقد ظهر منهم في الصور أيضًا..
أغمض عينيه بقوة محاولًا أن ينسى ما حدث، توجه إلى الفراش صعد عليه ثم تمدد نائمًا على ظهره ينظر إلى السقف ويديه أسفل رأسه، فاقتربت منه في لحظتها وصعدت تجلس جواره بهدوء وخجل شديد..
تحدثت بصوتٍ خافت هادئ والخجل جعل وجهها أحمر مثل حبة الطماطم وهي تقول له:
-أنا آسفة
لم يُجيبها ولم ينظر إليها من الأساس بل تركها تفعل ما يحلو لها، غير قادر على الحديث معها أو النظر بوجهها لما حدث بسببها، لقد احرقته النيران وكأنها كلما تخمد ألقى عليها البنزين لتشتغل أكثر..
وضعت يدها على صدره وهي تقول بصدق ونبرة صوتها حزينة للغاية:
-والله العظيم والله العظيم لو كنت أعرف أنها هتوديه عنده ما كنت اديتهولها
مرة أخرى لم ينظر إليها ولا يُجيب على حديثها وداخله يعلم ما الذي سيفعله وهذا ما تستحقه حتى تحافظ بعد ذلك على كل شيء يخصها وتضعه داخل عينيها لتخفيه عن الجميع حتى هو:
-والله يا جاد هو لما وقف مريم كانت نازله فقولتلها تاخده معاها مش أكتر من كده وكان في بالي أنتَ تروح تجيبه كمان
استدار ينام على جانبه يعطي إليها ظهره العريض الصلب، علمت أن المهمة ستكون صعبة للغاية معه، وضعت يدها على ظهره بدلال وأقتربت منه تميل عليه قائلة بخفوت ونبرة تعلم أثرها عليه:
-جاد!.. علشان خاطري بلاش كده
تنفست بعمق ومرة أخرى تحاول معه، طبعت قبلة سريعة على وجنته التي تميل عليها وقالت بدلال وكأنه سيفعل ما تريد الآن:
-أهون عليك طيب!... أنا عارفه إني غلطانة بس والله مكنش قصدي وأنا أهو معترفة بغلطي
عادت إلى الخلف في جلستها عندما وجدته لا يُجيب ولا يشعرها بأنه يستمع إلى حديثها من الأساس، زفرت بضيق وهي تقول بدهشة لأنه لا يشعر بوجودها جواره:
-طيب رد عليا حتى!
شعرت بالغيظ عندما وجدته لم يحرك ساكنًا، جذبته من ذراعه إليها بقوة لينام مرة أخرى على ظهره وأمسكت فكه بيدها قائلة باستنكار وحزن:
-للدرجة دي مش طايقني.. مش قادر تبص في وشي!..
بكل برود وجمود عنده أخرج كلماته من فمه وهو ينظر إلى تلك العسلية التي تسحره قائلًا بجفاء رافعًا يده ليبعد يدها عنه:
-اطفي النور إحنا بقينا الصبح وأنا عايز ارتاح شوية
نطقت اسمه بضعف وقلة حيلة وكأنها الآن تُكسر من بعده عنها وارادت التحدث:
-جاد....
لم يجعلها تكمل بتلك الطريقة التي لو كانت استمرت أكثر لترك حزنه وغضبه وكل شيء على جانب وحده ثم أخذها هي بين أحضانه الدافئة يشعرها بكم الحب الذي يكنه إليها.. نظر إليها بجمود أكثر هاتفًا بحدة:
-لو تحبي أنام بره مفيش مشكلة
أبتعدت للخلف وتركته يعود كما كان ينام على جانبه ورأسه به صداع يكاد أن يجعله يأتي نصفين من كثرة التفكير، أغمض عينيه وهو لا يود أن يفكر بأي شيء آخر اليوم، سيترك كل شيء لغدًا ومن عند الله تأتي الحلول..
أغلقت نور الغرفة وتوجهت مرة أخرى لتنام على الفراش في مكانها ولكن ليس في أحضانه كالعادة!، بل في فراغ لم تشعر به سابقًا كما الآن، تعترف أن الأخطاء الكبيرة تضيع كل شيء وهي خطأها كان كبير ولكن ليس عن عمد...
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
استفاق قبلها في الصباح، نظر إليها مطولًا يشاهد براءتها وجمالها الرقيق الذي يسلب عقله منه كما الأمس هكذا، ولكنه ضغط على نفسه وأبعد شيطان عقله عنه فلم يكن يريد التقرب منها أبدًا ومع ذلك لا تهون عليه نظرة عينيها الحزينة وضعفها أمامه..
لن تدوم ولكن على الأقل الآن، بدل ملابسه عندما استيقظ في ميعاده مثلما كل يوم وهبط إلى الأسفل ليرى عمله، كانت تستيقظ معه ولكنهم خلدوا للنوم في الصباح وليس الأمس ليلًا، وذلك جعلها تستغرق في النوم..
عندما استيقظت لم تجده جوارها ووجدت أن الساعة تخطت العاشرة صباحًا، فعلمت أنه الآن في الورشة، استفاقت وبدلت ملابسها لأخرى مريحة بيتية وأيضًا لأن هناك من معها في المنزل..
بعد أن دلفت المرحاض وبدلت ملابسها، ذهبت إلى غرفة نوم الأطفال الصغيرة لترى تلك السيدة التي أتى بها ليلة الأمس، وجدتها كما تركوها فاقتربت إلى الداخل لترى أن كانت نائمة أم حدث لها شيء..
أقتربت منها فوجدتها نائمة وصوت أنفاسها مسموع، تنهدت براحة ثم خرجت من الغرفة..
دلفت إلى المطبخ لتحضر طعام الإفطار لها عندما تستيقظ وكأنها على علم أنها ستستيقظ الآن..
كانت هي في الداخل نائمة على ظهرها بعد أن تقلبت في الفراش بانزعاج، فتحت عينيها ببطء شديد شاعرة أنها في مكان غير مألوف لها، نظرت إلى سقف الغرفة وقد كان حقًا مكان لا تعرفه..
جلست على الفراش بفزع وهي توزع نظرها بغرفة الأطفال الصغيرة للغاية بالنسبة إليها، ثم تدريجيًا بدأت تتذكر ما حدث في الأمس مع زوجها الحقير الذي تريد الطلاق منه..
وتذكرت أيضًا ذلك الشاب الرائع، صاحب العينين الرمادية، والجسد القوي، خصلاته المتخالطة ونظرته الرائعة..
لم تأخذ منه الكثير ولكنها تتذكر ملامحه الذي فتنتها!.. تنهدت وهي تتذكر كم كان وسيم يناسبها..
وقفت على قدميها ثم ذهبت للخارج بهدوء وهي تفكر هل هذا منزله وهو من أحضرها إلى هنا؟..
كانت "هدير" عند باب الشقة تجمع الغبار الذي نظفته من الشقة، بعد أن انتهت استدارت واقفة على قدميها لتذهب إلى الداخل ولكنها صرخت بفزع وخوف عندما رأتها تقف أمامها هكذا..
نظرت إليها بقوة ثم تداركت الأمر وتقدمت منها قائلة بابتسامة وجدية:
-معلش اتخضيت أصلي متعودة إني لوحدي على طول
ابتسمت الأخرى بوجهها بهدوء، فاستمعت إليها تكمل بود وهدوء:
-حمدالله على سلامتك... أنا هدير
تقدمت الأخرى منها أكثر وهي تقول بجدية ثم متسائلة باستغراب وهو توزع بصرها في المكان:
-الله يسلمك بس هو مين جابني هنا
-جاد اللي جابك.. قال إنك تقريبًا كنتي بتتخانقي مع حد وبعدين اغمى عليكي فجابك هنا
تسائلت مرة أخرى باستغراب:
-وعربيتي فين؟
أجابتها "هدير" قائلة:
-تحت متخافيش
نظرت إلى جانبها فوجدت على الحائط صورة له! إنه نفس الشخص الذي أغلقت عينيها عليه وعلى جماله الأخاذ ورجولته الظاهرة، أشارت إلى الصورة قائلة باستفهام وتساؤل:
-ده؟
أومات إليها "هدير" مع ابتسامة هادئة وهي تتقدم من المطبخ قائلة:
-أنا محضرة الفطار هوديه اوضه السفرة على ما تغسلي وشك
لم تلقي بالًا على ما تقول بل سألتها بجدية شديدة في الحديث وشعرت "هدير" بشيء ما غريب بعد هذه النظرة:
-يبقى أخوكي؟..
وقفت "هدير" في منتصف الصالة ثم استدارت لها قائلة بتهكم ثم جدية واضحة بعد ريبتها من سؤال هذه المرأة:
-أخويا!.. جاد يبقى جوزي
ذهبت الابتسامة التي ودت تصنعها وبقيت الجدية المطلقة على ملامحها واستشعرت "هدير" انزعاجها بعد الاستماع إلى حقيقة العلاقة بينهم..
حمحمت بجدية بعد أن رأت نظرات زوجته إليها بريبة هكذا وشك ظاهر عليها فقالت وهي تتهرب منها:
-أنا مش هينفع أفطر معلش.. جوزي زمانه قلقان عليا لازم أمشي بس محتاجه أدخل الحمام وأعرف جوزك فين علشان أشكره وكمان أخد عربيتي
أشارت لها "هدير" بيدها على طريق الحمام وقالت بجمود:
-الحمام من هنا... جاد تحت في الورشة اللي تحت البيت والعربية تحت بردو
أومات إليها الأخرى ثم تقدمت من المرحاض وهي تنظر إلى الأرضية بعد شعورها بأن الأخرى فهمت أنها تتساءل عن زوجها مرة واثنان، وكأنها شعرت أن هذه المرأة ليست صافية وتريد فعل شيء من الآن..
قلبها شعر بهذا ولم ترتاح إليها بالمرة، بل بغضتها وحمدت الله أنها ستذهب..
❈-❈-❈
انتهت "كامليا" وهبطت إلى الأسفل تخرج من المنزل لرؤية الوسيم الذي خطف عينيها وأخذها من مكانها سوى برؤيته هو أو رؤية صورة الجميلة..
سارت بنفور أمام الجميع وهي تنظر إلى الحارة الشعبية التي يسكن بها، وزعت نظرها على كل ركن بها، حوائط وأرضية، ومنازل..
متحدثة داخلها بأنه كيف يعيش هنا!.. أنه بجسده ومظهره الرياضي الوسيم يستطيع أن يكون مالك من ملوك السينما، لو أراد تفعل له وتجعله من أفضل الرجال بها..
كرمشت وجهها بنفور واضح وهي تسير بخطوات غير ثابتة بسبب كعب حذائها العالي على الأرضية الغير مستوية، نظرت إلى البعيد قليلًا لتجد سيارتها مصفوفة أمام منزل آخر في مكان أوسع من هنا..
وقفت أمام الورشة تنظر إلى الداخل وهي تميل بجسدها منتظرة أن تقع عينيها عليه، ولكنه تقريبًا ليس هنا، تقدمت إلى الداخل أكثر فتقدم منها "طارق" قائلًا بجدية وهو ينظر إلى هيئتها الغريبة عن الحارة:
-نعم حضرتك عايزة مين
أردفت مُجيبة إياه بجدية وهي تنظر إليه بتقزز بسبب ملابسه المتسخه من العمل في الزيوت وقطع غيار السيارات وغيرها:
-عايزة جاد
نظر إليها باستغراب وأردف بسخرية يلوي شفتيه:
-جاد مرة واحدة!.. مفيش الاسطى حتى
أحتدت نظرتها عليه وهي تراه يسخر من كلمتها ثم وجدته يردف بجدية:
-الاسطى جاد راح مشوار وجاي مسافة السكة لو محتاجه ضروري تقدري تستنيه
نظرت إلى الورشة وما بها، لقد كان بها سيارة يعمل عليها "شاب" آخر وبكل ركن شيء لا تعرف ما هو وقطع حديد كثيرة ولكنها مع ذلك تبدو نظيفة:
-استناه فين؟.
أشار إلى الخارج بيده وهو يتقدم منها قائلًا:
-اتفضلي على الكرسي هنا زمانه جاي
خرجت خلفه ثم جلست على المقعد أمام الورشة، نظرت على جانبيها وكم كان المكان بالنسبة إليها رديء للغاية، أصوات عالية من الجميع، غير هذا الذي يهتف ببيع الطماطم والبذنجان، وهناك آخر يسير بعربية آيس كريم والأطفال تركض خلفه، وعلى الطرف الآخر مقهى شعبي ولكنه لا يُسر العين أبدًا.. غير هذا المنزل المقابل لهم يا له من قديم ورديء..
كيف يعيشون هنا ويتحملون كل هذه الضجة، من الأساس كيف يتحمل هو!.. وهذه زوجته من أين وجدها!.. أنه أفضل منها بكثير بمظهره الحسن ورؤيته البهية..
لن تنكر أنها أيضًا تتمتع بقدر من الجمال، عينيها لونها جميل مع أنه لا يظهر، ووجهها به نمش خفيف لا تحبه ولكنه يليق بها، حتى أنفها وفمها صغيران للغاية ووجهها أبيض مستدير وملامحه هادئة غير خصلاتها السوداء هذه، تبدو طويلة من عكصتها، ولكن مؤكد هي أفضل منها بكثير!.. وأيضًا لو وقفت جواره تليق به أكثر منها.. حتى أن اسمها ليس جميل أبدًا بل قديم وبشع، وهو اسمه رائع مثلها تمامًا.. "جاد وكاميليا"، يا الله تليق عليه كثيرًا..
استمعت إلى صوت نسائي كبير يأتي من الأعلى بمرح ومزاح:
-ايه يابت الحلاوة دي.. بقى مخبية كل الجمال ده علينا ولما يطلع يطلع للحارة كلها
استمعت إلى صوت هذه المرة يأتي من فوقها وكانت هذه البغيضة زوجته صاحبة الاسم البشع الذي لا يليق به:
-والله يا ماما فهمية ما كنت أعرف إن كل ده هيحصل.. أنا مكسوفة أوي من الناس اللي في الحارة
تغيرت ملامح والدة "جاد" وانتقلت إلى الجدية التامة وهي تنظر إليها بقوة قائلة:
-مكسوفة من ايه اللي حصل أنتِ مالكيش فيه يا حبيبتي دا الكلب اللي ما يتسمى ده هو اللي يتجازى بس أقولك أهو جاد يبقى ابني وأخاف عليه بس المرة دي مسعد بقى كان عايز اللي يقتله ويخلصنا منه
أجابتها "هدير" بلهفة وخوف وصوتها قلق للغاية من حديثها الذي تفوهت به:
-لأ والنبي يا ماما فهمية اوعي تقولي كده قدام جاد دا سمير لحقه على آخر لحظة كان زمانه دلوقتي في القسم
اتكأت "فهيمة" بيدها على سور شرفة الشقة الخاصة بها والتي تقابل شقة "جاد" وهتفت بجدية قائلة محاولة أن تجعلها تطمئن:
-متخافيش.. بعد اللي عمله جاد فيه مش هيستجرأ يبصلك تاني
أبصرتها بجدية وهي تتمنى داخلها أن يكن كذلك حقًا:
-يارب يا ماما فهيمة
مرة أخرى أردفت والدته بحماس كبير وابتسامة على وجهها:
-بقولك ايه ما تجبيه وتيجوا تتعشوا عندنا النهاردة
تنهدت بقوة وأخرجت نفس عميق أمامها وهي تخفض وجهها إلى الأسفل بخجل ثم رفعته مرة أخرى وقالت بخفوت:
-خليها مرة تانية
تفهمت والدته سبب رفضها ونظرتها الحزينة هذه فابتسمت بحبٍ إليها وقالت بحنان صادق:
-إن شاء الله كله هيبقى كويس يا حبيبتي ولو الواد ده زعلك قوليلي بس وأنا هتصرف معاه
ابتسمت "هدير" بسعادة غامرة وهي تنظر إليها قائلة بحب وود:
-ربنا يخليكي لينا يارب
كل هذا وأكثر تحت مسامع "كامليا" التي كانت تجلس أمام باب الورشة، أبصرت والدة "جاد" والمنزل مرة أخرى، أهذا منزله؟.. وهذا أيضًا والورشة؟. لو كذلك فهو يملك بعض الأشياء ليس كزوجها الحقير الذي كان لا يملك جنيهًا واحدًا، ولكن مهلًا ما الذي كانوا يتحدثون عنه وشاهدوه أهل الحارة بأكملها ومن هذا الذي كاد "جاد" أن يقتله..
ما فهته من الحديث أن هناك شيء رآه الجميع يخصها ومن فعلها شخص ربما يحبها أو يطاردها لا تدري!..
نظرت بطرف عينيها إلى نهاية الشارع وهي تفكر ولكن وقف التفكير ووقف العقل والقلب وكل خلية وعضو ينبض بداخلها..
إنه يأتي من نهاية الشارع على دراجة نارية، خصلاته للخلف تتطاير، عينيه الرمادية حادة وجادة ثابتة على الطريق، وجهه مثير لعينيها بسبب وسامته التي تراها لا يوجد مثلها..
يجلس بجسده الرياضي على الدراجة كأنه يجلس على أريكة بكل أريحية وبرود، يرتدي قميص أبيض اللون قطني بنصف كم يظهر عضلات يده وعروقه الظاهرة بها دائمًا..
أغمضت عينيها بقوة وقررت ما الذي ستفعله بعد الآن وبعد رؤيته هذه، لن تصمد أكثر من ذلك أمامه، وقف أمامها بالدراجة ثم هبط من عليها وثبتها جواره ووقف هو أمامها بعد أن تركت المقعد ووقفت هي الأخرى قبالته..
ابتسم "جاد" بهدوء وهو ينظر إليها قائلًا بود وهدوء لين:
-حمدالله على سلامتك
ابتسمت بوجهه ببلاهة وهي تراه يبتسم متحدثًا إليها، قالت بخفوت وصوت ناعم لين:
-الله يسلمك... بجد شكرًا على اللي عملته معايا
وضع يده الاثنين جواره وأردف بجدية:
-لأ شكر على ايه لو حد تاني مكاني كان عمل كده وأكتر.. بس أنتِ خلي بالك من نفسك
ابتسمت بخفة وقالت:
-لأ لو حد تاني مكنش عمل كده خلينا متفقين.. بجد شكرًا
-العفو
حمحمت بخفوت ناظرة إلى الأرضية بخجل ربما تصنعطه، نظرت إليه مرة أخرى قائلة:
-اللي كان معايا ده يبقى جوزي مش حد تاني
استغرب بشدة الذي تفوهت به، كيف زوجها وتركها وحدها هكذا في مكان بعيد طريقة مقطوع عن البشر، تسائل باستنكار:
-جوزك؟.. جوزك إزاي وسابك كده
اصطنعت الحزن وعبثت ملامح وجهها وهي تقول مُكملة بخجل:
-لأ دي حكاية طويلة.. تحتاج قعدة
بينما في الأعلى كانت زوجته مازالت واقفة كما هي، ولم تكن ترى "كاميليا" بالأسفل أثناء حديثها مع والدته بل اعتقدت أنها ذهبت منذ أن هبطت للأسفل ولكن من الواضح أنها لم تذهب بل انتظرت عودته وهو الآن يقف معها ويتحدث بكل راحة...
أطالت النظر إليهم وهو أطال الحديث معها وإلى الآن لم ترحل أكل هذا تشكره!.. قلبها لا يكن الراحة إليها أبدًا ولا تدري حتى لماذا!. لماذا تشعر بأن هذه المرأة سيئة للغاية هكذا؟.
❈-❈-❈
الساعة تخطت الحادية عشر مساءً وهو لم يصعد، بل أغلق الورشة من بعد صلاة العشاء بوقت قصير كالعادة، لم يفطر معها بل خرج دون رؤيتها في الصباح، ولم يصعد لتناول الغداء والآن الورشة مغلقة وهو لم يأتي، أهو يسعد عندما تشعر بالقلق عليه أم ماذا؟..
حاولت أن تحادثه ولكنه لا يُجيب عليها، هل سيظل هكذا طوال الوقت أم ماذا..
هي لقد تخطت الأمر في وقت قصير للغاية، نعم لن تكذب لم تتخطاه كليًا بعد بل وتشعر بالخجل الشديد من أهل الحارة ولكن تصبر نفسها بأن المجرم الحقيقي عرفه الجميع وأظهر لهم "جاد" أنها ليس لها يد فيما حدث..
ماذا عنه أيضًا، لا تفهم كيف يستطيع أن يكون شخصيته بهذه الطريقة، هادئ طوال الوقت ولكن عندما يغضب وكأن الأسد ملك الغابة حل عليهم بغضبه، وعندما ينزعج منها يأخذ جانب له وحده بعيد عنها ويتركها تتأكل بما داخلها وخارجها..
ماذا تفعل لقد كان خطأ واعترفت به، ستحاول مادام هي المخطئ هنا ولكن عليه أن يكون لين أكثر من هكذا..
زفرت بضيق وهي تقلب بين القنوات على الشاشة وعقلها من الأساس ليس على ما تبصره، بل كان مع ذلك الغبي الذي ارهقها معه..
تذكرت حديثه مع هذه المرأة الغريبة عنهم، لم تكن تعرفها إلا سوى بالتلفاز وحتى أنها لا تشاهدها ولكن على الأقل تعرفت عليها عندما رأتها.. لم تفهم لماذا وقفت تتحدث معه كل هذا الوقت، لقد بقيت معه أكثر من نصف ساعة وفي النهاية أوصلها إلى السيارة ثم أخذتها ورحلت..
مرة أخرى تنهدت بقوة في نفس عميق تخرجه من داخلها وهي تنظر إلى الباب وكأنه يفتحه الآن.. وقد كان حقّا!..
فُتح الباب وظهر من خلفه وهو يدلف إلى الداخل واستدار ليغلقه بهدوء، وقفت على قدميها سريعًا تعدل ملابسها المكونة من بنطال بيتي أبيض اللون يعلوه قميص قطني لونه أسود..
تقدمت منه بهدوء وهي تعود بخصلات شعرها للخلف سائلة إياه بجدية ولين في نفس الوقت عندما وقفت خلفه:
-اتاخرت كده ليه يا جاد؟..
استدار ينظر إليها لتجد هناك كدمة أسفل عينه اليمنى، شهقت بفزع وهي تنظر إليه بقوة وأبصرت عينيها ملابسه وقميصه الأبيض الذي اختفى لونه بفعل الأتربة المتواجدة عليه وكأنه كان يصارع على أرضية رملية..
وضعت يدها على وجنته اليمنى تمرر إصبعها أسفل عينه بلين وحنان وهي تقول بلهفة وقلق:
-ايه اللي حصل؟.. مين عمل فيك كده
نظر إلى لهفتها وخوفها الظاهر عليه، عينيها التي تتسائل قبل شفتيها، ولكن كل ذلك لا يرده الآن عما يريد، ترك المفاتيح ثم أبعد يدها عنه عندما وضع يده فوق كفها وتقدم إلى الداخل ذاهبًا إلى غرفة النوم وتركها وحدها دون إجابة منه..
نظرت إلى ظهره المتسخ وبقعة دماء كبيرة على جانبه من الخلف، لم تراها إلا الآن، وقع قلبها بين قدميها وفتحت عينيها بقوة وهي تنظر إليه وهو ذاهب من أمامها، دلفت خلفه سريعًا إلى الغرفة فوجدته يتجه إلى الخزانة..
تقدمت ووقفت جواره تجذبه إليها من جانبه بقوة وهي تسأله بإصرار مرة أخرى:
-ايه اللي حصل يا جاد بقولك
وضعت يدها على جانبه من الخلف وهي تقترب منه لتفعل ذلك وقالت بخوف ولهفة أحرقت قلبها مع صمته:
-وايه الدم ده؟..
كرمشت ملامح وجهه وضغط على أسنانه عندما وضعت يدها على جرحه وشعر بالألم ولكنه لم يصدر صوتًا ولم يشعرها بذلك، لقد كان مجروح هنا بالضبط بفعل مدية، ولكن جرح سطحي بسيط، جذبت يدها بفزع عندما شعرت بالدماء والقميص مشقوق كأنه وضعت يدها على جسده مباشرة وكان مجروح؟..
نظرت إلى يدها الملطخة بالدماء ثم إليه وصرخت به بقوة وخوف:
-جاد.. أنت بتنزف
بكل برود تحدث وهو يستدير مرة أخرى يأخذ ملابسه من الخزانة:
-ده جرح بسيط متقلقيش
-مين عمل فيك كده
أمسك الملابس بيده واستدار ينظر إليها بقوة وصاح قائلًا بصوتٍ عالٍ قليلًا:
-هيكون مين يعني؟.. بلطجية كانوا عايزين يقلبوني
سار مبتعدًا عنها مرة أخرى وقبل أن يذهب إلى الخارج أخرج محفظته وهاتفه وألقاهم على الفراش بإهمال وذهب إلى المرحاض فخرجت خلفه سريعًا تهتف:
-طب أنتَ كويس؟.. الجرح ده محتاج خياطه
سار مكملًا طريقة إلى المرحاض وهتف بنبرة رجولية جادة خشنة:
-قولتلك متقلقيش وبعدين ده جرح سطحي محتاج تعقيم بس
دلف إلى المرحاض وأغلق الباب خلفه وتركها في الخارج تنظر على الباب المغلق هذا بذهول، أسفل عينه كدمة كبيرة، ملابسه بالكامل وهيئته تدل على أنه كان يصارع أحدهم، وهناك جرح أيضًا في جسده بفعل سكين أو مدية، تُرى ما الذي حدث معه ولا يود أن يقوله إليها؟..
مؤكد حدث شيء آخر غير الذي يهتف به هو، ربما يكون "مسعد" من فعل به هكذا! ولكن "مسعد" لا يستطيع أن يقف أمام "جاد" وبالأخص بعدما ابرحه ضربًا بالأمس وجعله لا يستطيع أن يقف على قدميه..
استمعت إلى صوت هاتفه في الداخل فنظرت إلى الباب المغلق ثم استدارت وتركته ذاهبة لترى من الذي يهاتفه الآن، ولجت إلى الغرفة ووقفت أمام الفراش ثم أخذت الهاتف بيدها تنظر إلى المتصل والذي صدمها وبشدة!..
"كاميليا عبد السلام" سريعًا هكذا تبادلا أرقام الهواتف؟.. وكيف لها أن تهاتفه الآن في منتصف الليل!.. ما الذي يحدث من خلف ظهرها هذه المرة، وما الذي تريده منه هذه المرأة في مثل هذا الوقت؟.. ألم يكفيها نصف ساعة في وسط النهار تقف معه أمام الجميع بحجة شكره على ما فعله لأجلها!.. ستُجن، تُكاد أن تفقد عقلها هذه المرة حقًا!.
بينما هو وقف في الداخل بعد أن خلع ملابسه أسفل صنبور المياة الباردة، خرجت المياة من الصنبور على رأسه وخصلاته مرورًا بعنقه وصدره العاري، وقف مغمضًا عينيه بقوة حابسًا أنفاسه وهو يتذكر ما حدث معه..
كانوا اثنين فقط ولم يتبعوا أحد غيره ويعلم أنهم من أتوا بأمر منه هو الوحيد الذي يفعلها، لم يستطيع أن يجعلهم يعترفوا بإسمه ولكن جعلهم يبللون أنفسهم وهو يقوم بالدفاع عن نفسه مبرحًا كل منهم بالضرب الموجع المكسر للعظام..
لن يُجيب الآن على هذه الضربة التي لم تناله من الأساس ولكن لن ينساها، ستكون ذكرى معه إلى حين أن يقرر ردها إليه..
وضع يده على جانبه في الخلف ليرى إن كان هناك دماء مازالت تخرج أو لأ وكانت قد توقفت عن الخروج لأنه جرح سطحي لم يستطع ذلك الغبي النيل منه أو حتى الإقتراب له.. بعث له باغبياء يخافون من الهواء الذاهب خلفهم..
مسح على وجهه وأرجع خصلات شعره للخلف بيده بقوة لتتساقط منها المياة بغزارة، فتح عينيه وهو يفكر بزوجته، الرقيقة حسنة الوجه والصوت وكل ما بها، واللهِ بعده عنها يقتله ولكنه أيضًا لا يستطيع الإقتراب فما حدث جرح قلبه ورجولته بقوة وشدة غريبة وكأنه يود اقتلاع عين كل من رأتها وإلى الآن هي المتسبب الوحيد في ذلك..
#ندوب_الهوى
#الفصل_العشرون
#ندا_حسن
"يشعر القلب بالهلع والفزع، الخوف والرهبة،
منتظرًا الكارثة القادمة"
أسبوعين، واحد تلو الآخر وهو على ما هو عليه، لم يتغير في المعاملة معها بل وكأنها شفافه بالنسبة له، وكأنه لا يعرفها من الأساس، امرأة جديدة بحياته يحتاج للوقت لمعرفتها والخروج من حالته المزاجية، لا فلا تكن مبالغة إلى هذه الدرجة، يتحدث معها ولكن القليل من الأقل المتواجد بينهم، ينظر إليها ولكن ليست هذه النظرات المعتادة عليها بل نظرات عتاب صريحة وحزن بالغ وألم لم تكن تقصد فعله، ينام جوارها في الفراش ولكن الروح بعيدة ليست كما السابق أبدًا، يأكل معها ولكن ليس بنفس الطريقة القديمة المتعطشة لأي شيء يأتي منها..
يعتبر أن ما حدث هي السبب الأساسي به، لن تنكر أنها كانت السبب ولكن لم تكن تعرف حقًا! ما ذنبها في أن شقيقتها هي من أخذت له الهاتف، ما ذنبها في ذلك!..
الصدمة الكبرى كانت من نصيبها والخجل من عيون الناس والخوف من الله عما شاهدوا بها، كل هذا لا يكفيه ليضغط هو عليها أكثر؟..
نعم تخطت هذه الأمور وبسرعة لم تتوقعها ولكن لأجله ولأجلها ولأجل أن تثبت أن هذا لم يكن لها دخل به!.. هو حتى منذ ذلك اليوم لا يصلي معها صلاة الفجر كالمعتاد بينهم!، يخرج للصلاة في المسجد ثم يعود مرة أخرى ويتركها تستفيق وحدها وتقوم بالصلاة وحدها!..
عقابه كبير للغاية فلو كانت فعلت ذلك عن قصد لم تكن تتحدث من الأساس وكانت ستصمت لأنها المخطئ ولكنها لم تفعل.. لم تفعل ذلك، عليه أن يكون أكثر لين وود من هذا..
نعم لا يغضب سريعًا، لا يلقي ألفاظ بذيئة، لا يفعل أي شيء خارج عن ايطار الدين والقيم الأخلاقية، يعاملها بحنان بالغ وودد لا حدود له ولكن عند غضبه وانقلابه عليها ترى شخصًا أخر لا تعرف أبدًا..
وكأنها تتعامل مع شخصيتها الغريبة، البريئة للغاية والشرسة حد اللعنة..
وما يقلقها أكثر شيء هو هذه السيدة المسماة بـ "بكاميليا" إلى اليوم ومنذ ذهابها من هنا وقد رأت على هاتفه عشر أو ثلاثة عشر مهاتفه منها!.. وفي أوقات غريبة للغاية، عندما يكون متجه للنوم تجد هاتفه يصدر صوت المكالمة وعندما تتطلع عليه تراها هي!.. عندما يكون في وقت الغداء معها!.. وكثير من المرات وقولًا للحق هو في كثير من الأحيان لا يُجيب عليها..
ولكن السؤال هنا هي ماذا تريد منه؟ وهو لما إلى الآن يستمر في الإجابة عليها ومماطلة الحديث معها!.. منذ أن رأتها ولم ترتاح أو يميل قلبها إليها ومحبة القلوب من عند الله ليس من عندها هي، وإلى الآن تخاف منها وتشعر بشيء غريب سيأتي من ناحيتها ولأول مرة يراودها هذا الشعور الغريب، في مثل هذه الأيام التي تمر عليهم ببطء غريب وبرود شديد ازعجهم بشدة وأشعرهم بالغربة في وجود بعضهم البعض..
بينما هو تفكيره لم يكن مثلها أبدًا، تفكيره في البداية كان يدعوه لعقاب أشد قسوة من هجرة لها في وجوده ولكن لم يحتمل أن يجعلها تحزن أكثر من هذا، فأخذ معها مساره الذي يرتاح فيه أكثر وهو البعد دون العتاب!.. ألا يدري أن هذا أشد قسوة من أي عقاب أخر!.. أن تنظر إلى من تحب في لحظة قاسية بينكم دون أن تعاتبه وتعود به إلى المودة والرحمة، أهذا ليس عقاب قاسٍ؟!..
ما حدث أمام الجميع، نظرة الناس إليها وإلى خصلاتها ولحظة عريها لم يكن يحتمل آلام قلبه الذي كانت تشتد عليه في كل لحظة والأخرى خلفها تأتي بسرعة، غيرته العمياء عليها جعلت قلبه يتألم ويحزن ويشعر بالخذلان في آن واحد ولكن من سيعاقب؟ الناس الذي رأت فنظرت دون أي مجهود منهم؟.. أم يعاقب السبب الرئيسي في حدوث هذا الأمر ومن فعل!..
حزنه منها عندما لجئت لشقيقتها بدلًا عنه يجعل روحه تنقبض بداخله، يعلم أنها لم تكن بالقصد ولكن لما قد تفعل حركة غبية كهذه؟.. ها هو موجود معها!..
تعامله الآن بكامل الحب، وتود لو تحمله فوق رأسها لتجعله يلين معها ويعود كما كان في السابق، ليعود لذلك الحب القابع داخله، ويخرج الحنان والمودة التي كانت بينهم، ليبتسم ويلين معها في بيتهم، ليصلي بها في الليل، لتجعله يقوم بمساعدتها بحب مرة أخرى في المنزل، ليعود شغفه في التقرب إليها كما كل مرة كان يراها متزينة بها لأجله، ليعود زوجها "جاد الله أبو الدهب" الذي اعتادت عليه أمام الجميع!.. أين ذهب، أكل هذا لأجل هذه الغلطة!..
ولكنه لن يفعل بسهولة، عليها أن تفهم أنه هنا رجل المنزل، الزوج، وما تريده هو من يفعله، القرار له بعد نقاش بينهم، الفعل له بعد رؤية بينهم، عليها أن تفهم أن هنا "جاد" هو الرجل ليس كما كانت في منزل والدها هي العمود به وتقوم بالتصرف على هذا الأساس..
لن يقسو أكثر من هذا هو كل مرة تحدث بها معها، ويعتقد أنها لم تفهم لأنها لم تفعل كما قال الآن أفعاله هي من تتحدث معها، عليها أن تتفهم أن هنا ليس كما هناك، وعليها أن تعتاد على هذا الأمر حتى لا تفشل في المرات القادمة..
يرى أنها منذ يومين تعود إلى الخلف ليست كما كانت وربما إصرارها على مصالحته قل عندما وجدته جبل صلب لا يلين بكلماتها ولا أفعالها، عليها أن تجتهد أكثر وأكثر حتى يلين إليها مرة أخرى قبل أن يقرر هو ذلك، ليتأكد من أنها لها سلطان على قلبه مازال يعمل..
لن يكذب فهو مازال يعمل وبقوة، فـ عندما يدلف إلى الشقة ويرى هيئتها المقدمة إليه بحلال الله على طبق من ذهب يصعب السيطرة على ما داخله من أشواق إليها ويذهب سريعًا من أمامها ليبتعد عن هذه الفتنة الكبيرة بها، وكثير من الأحيان يذهب إلى آخر الفراش مُبتعدًا عنها حتى لا يستنشق عبير خصلاتها وتضعفه نظرة عينيها المطالبة إياه بالعودة إليها..
❈-❈-❈
ألا يجوز لها أن تعشق رجل متزوج هذه المرة!.. يجوز ويجوز له هو الآخر أن يتزوج منها، متناسية أنها من الأساس متزوجة، "كاميليا" امرأة انعدمت منها الأخلاق والمبادئ، الدين والإيمان، ترى أن كل شيء مباح مادام معها المال الكافي لتفعل ذلك، مادامت تريد أن تفعل ستفعل، أهو حرام! حلال! لا يهم المهم أنها تفعل ما تريد..
في البداية تزوجت أول مرة لها "عادل" الذي كان فقير، لا يملك قرش واحد ينفقه على نفسه، لا يملك أي شيء في الحياة سوى نفسه وتفكيره، سوى عمله وجهده وطموحه، وهذا لا يجدي نفعًا، كان على أخلاق وله مبدأ يسير عليه ولكنها لم تكن ترى أن كل هذا له قيمة من الأساس بل يبتاع مثله في أي وقت فقط لو كان معه المال..
والآن هما على نزاع، تريد الطلاق بعد أن استمتعت بما يكفي معه، تريد أن تكون حره منه لتفعل ما يحلو لها وما يطيب على خاطرها، تريد الإنطلاق دون قيود يسببها لها..
مازالت في عصمة رجل ولكنها نظرت إلى غيره، لقد اوقعها في فخ أكبر من حجمها بكثير!.. عينيه الرمادية الخلابة بنظرته الساحرة وجديته القاتمة..
شفتيه الحادة وأنفه البارز بوجهه ونظرة اللين التي يتميز بها مع تلك النظرة الجادة الغاضبة، مزيج يذيب عقلها ويجعله يختفي وكأنه بعض حبيبات السكر عندما تختفي في المياة..
خصلاته التي تزداد طولًا ملحوظًا في صوره كامله ولونها الرائع الذي جذبها إليه كما لو كان عصا سحرية تجذبها إليه بمنتهى السهولة..
لم تتحدث عن جسده؟. طوله الفارع وعرض جسده الرائع، عضلات صدره وبطنه البارزة بقوة، وعروقة الظاهرة في يده، تفاحة آدم الذي تتمتع بسحر خاص في عنقه..
ما كل هذا!. أهي عشقته أم عشقت هذه الوسامة التي لم ترى مثلها من قبل؟.. هل هي تحتاج إلى علاج؟. هل هناك مرض ما يجذبها إلى الرجال شديدي الوسامة هكذا!..
ولكن هناك مشكلة غير إقامته في هذه المنطقة الرديئة، وغير عمله كـ ميكانيكي مع أنه مهندس، نعم لديه المال الكافي، وعلمت بأن لهم عمارة سكنية ملك لهم يقيم بها ساكنون، والده لديه محلات كبيرة من الذهب وعائلته معروفة ولها وضعها لن تكذب ولكن هذا كله لا يأتي شيء بجانبها، وهناك مشكلة كبيرة وهو احترامه لنفسه وللشخص الذي أمامه وتعامله المحدود معها وحديثه المنمق بعناية وغير هذا كله احترامه لزوجته تلك!..
يبدو أنه يحبها!. لما لأ فهي أيضًا جميلة بنسبة معقولة ليست مثلها في الجمال مؤكد ولن تكون متعملة مثلها ولن تكن ابنة عائلة أيضًا مثلها ولكن هي تبدو من الفتيات النظيفات، جميلة أيضًا ليس عليها أن تنكر ذلك..
أخرجت الهاتف من جيب بجامتها البيتية وهي تسير في حديقة منزلها، أمسكت به بين يدها وفتحته على أحد صوره الرائعة للغاية، ابتسمت بتلقائية وهي تنظر إلى هذه الصورة، يقف في مكان كـ صالة رياضية، ستعتبرها هكذا لأنها بالفعل رديئة ليست كما أي واحدة تدلف إليها، يرتدي قميص داخلي أبيض يبرز عضلات جسده بالكامل وبنطال قصير يصل إلى ما قبل ركبتيه، يحمل الأوزان الثقيلة على يده ويبدو على ملامح وجهه السعادة وهو يبتسم باتساع هكذا..
يا له من وسيم حد الفتنة!..
مر من أمامها زوجها "عادل" وهو يدلف من الباب الرئيسي إلى الداخل نظرت إليه بجدية والابتسامة مازالت على ثغرها على غير العادة، استغرب نظرتها هذه واستغرب أكثر عدم ركضها خلفه إلى الداخل والصراخ عليه بأن يقوم بتطليقها والتنازل عن القناة إليها..
حقًا استغرابه فاق كل شيء وهو يراها هكذا مسالمة إلى رؤيته ولم تفعل كل ما كانت تفعله عندما تراه، لم تسبه بهذه الشتائم الرديئة التي كانت تقولها إليه وعن كونه كان فقير وهي من منت عليه!، على كل حال هذا أفضل بكثير سيخرج من هنا دون أن يأتيه صداع نصفي من كثرة صراخها، فقط سيأخذ ما أتى من أجله ويرحل فورًا قبل أن تعود إلى حالتها الطبيعية..
دلف إلى الداخل وهي مازالت هنا في مكانها ونظرتها عادت إلى "جاد" مرة أخرى وتحاول أن تجعل عقلها يفكر كيف ستفعل ما تريده معه وهو يملك كل شيء يريده المرء!.. كيف ستفعلها هذه المرة؟..
❈-❈-❈
في اليوم التالي عصرًا ذهبت "كاميليا" متجهة إلى مكان تواجد "جاد" وهو الورشة بعد أن فكرت كثيرًا في كيف تقابله مرة أخرى لرؤيته والاستمتاع بالنظر إليه فهو لا يعطيها فرصة عبر الهاتف وهي تتحدث معه، وتظهر بصورة غير لائقة لأنها لا تتحدث في شيء مفيد وقد أتضح لها أنه محافظ من الأساس ولا يتعامل مع النساء بانفتاح بل إنه لا ينظر إليهن وهو يتحدث إلا قليل إن حدث..
وهي لا تحب هذه الأمور المعقدة الغريبة بل تريده أن ينظر إليها ويتمتع بالنظر حتى يرى أنها جميلة وتسر أعين الناظرين!..
أخذت سيارتها والتي ستكون هي رابطة اللقاء بينهم وذهبت منذ وقت لتتوجه إليه وهي في قمة السعادة..
لا أدري حقًا كيف يوجد مثل هذه المرأة إن كانت حقيقية؟. كيف هناك امرأة تنجذب للرجل من مظهره فقط!.. كيف لها أن تريده أن يكون وسيمًا حتى تستمتع بوسامته وتجعل الجميع من أقربائها وأصدقائها ينظرون إليه ويهتفون كم هو جميل ولا يوجد مثله والأهم بعد هذه الصفات أنه زوجها؟..
كيف لا تنظر إلى دينه؟. أخلاقه؟. كيف لا تبحث عن عاقل رزين مُحب؟ كيف لا تريد رجل يعرف الله حتى يعاملها بالمودة والرحمة الذي تحدث عنها؟.. أهي مُختلة أم تعاني من مرض نفسي؟.
هناك امرأة بها هذه الصفات الرديئة، أن تكون كل شيء أمام الجميع، أخلاقها تسمح لها بالركض وراء رجل متزوج؟. دينها يسمح لها بخيانة زوجها بهذه الطريقة المُهينة؟..
بالفعل بعد كل هذه الأخطاء لن تكن نهايتها مُرضية بالمرة بل إن لم تعود عما تفعله سيحاسبها الله على كل شيء..
وصلت إلى الحارة وسارت بها بالسيارة إلى أن وقفت أمام الورشة في الشارع، كان جاد يقف في الداخل يعمل على إحدى السيارات يعطي لباب الورشة ظهره والعرق يتصبب منه بسبب انقطاع الكهرباء، مُرتدي قميص داخلي لونه رمادي بعد أن أزال عنه قميصه الآخر بسبب شدة الحر الذي يشوب الجو تظهر عضلات جسده بشدة وذراعيه متضخمة بفعل حمله الأوزان والعمل الجاد في الورشة..
منحني بجذعه للأمام قليلًا ولا يوجد معه في الورشة سوى "طارق" بعد أن ذهب "عبده" "وحمادة" لعمل في الخارج..
بقيت داخل السيارة وهي تقف بها أمامه تمامًا تنظر إلى ظهره العريض وجسده المنحوت بغرابة تظهر من عينيها الوقحة..
نظر إليها "طارق" من الداخل بعد أن لاحظ أنها صفت السيارة أمامهم، دقق النظر بها فعلم من تكون لأنه قد رآها قبل سابق هنا مع الاسطى "جاد" وقد وقفت معه بعض الوقت..
صدح صوته وهو يقول بجدية موجهًا حديثه إلى "جاد":
-اسطى جاد.. الست اللي كانت هنا واقفة بره
رفع "جاد" رأسه للأعلى واعتدل بجذعه واستدار بوجهه ناظرًا إليه باستغراب مُتسائلًا:
-ست!.. ست مين
أشار له "طارق" برأسه إلى باب الورشة فاستدار ينظر بقوة ليراها أمامه! تقف جوار السيارة بعد أن خرجت منها وتنظر إليه بقوة هي الأخرى وكأنها تنتظر نظرته إليها..
أخفض عينيه وترك ما بيده أخذًا قطعة قماش من جواره على طاولة صغيرة يمسح بها يده بقوة بسبب ما بها بفعل أدوات السيارة..
تقدم إليها بهدوء وثبات في سيره كالمعتاد يقف أمامها بشموخ كالجبل قائلًا بجدية ونبرة رجولية خشنة:
-أهلًا وسهلًا اتفضلي
ابتسمت بنعومة إليه وهي تنظر داخل عينيه بعمق متحدثة:
-ازيك
أجابها بفتور وجدية:
-الحمدلله في نعمة
أنتظر أن تتحدث وتقول ما الذي أتى بها إلى هنا، هل ملت من عدم رده على مكالماتها فأتت إلى هنا!.. نظرت إليه بتردد وهتفت بكذب قائلة وهي تنظر إليه:
-أنا جيالك في شغل.. أصل عربيتي من امبارح بتقف لوحدها
نظر إلى السيارة خلفها ذات الماركة العالية والفخمة مُستغرب من حديثها لأن السيارة تبدو جديدة في الأصل، عاد بنظره إليها وهتف سائلًا إياها:
-بتقف إزاي يعني
وضعت يدها عليها بتلقائية وأردفت قائلة:
-بتعطل.. امبارح جيت ادورها لقيتها مش بتدور شوية واشتغلت وحتى النهاردة وأنا جاية عطلت مني في السكة واخرتني نص ساعة على ما اشتغلت
أومأ إليها برأسه بجدية تامة واستدار يشير إلى طارق الذي كان يقف خلفه من الأساس يعمل جواره واستمع إلى الحوار الذي دار بينهم:
-شوفها كده يا طارق
ذهب طارق إلى الخارج في الشارع ليتفقد السيارة فتقدمت هي إلى باب الورشة لتقف جواره وتنظر إليه على راحتها وكما تحب، ابتسمت إليه بهدوء ورقة تجيدها جيدًا ثم تصنعت الخجل قائلة:
-في سؤال كده بصراحة بيجي في دماغي على طول ونفسي اسألك عنه بس متفهمتيش غلط
ضيق ما بين حاجبيه بعد حديثها وتسائل داخله قبل أن يسائلها عن مضمون السؤال التي تخجل منه:
-ايه هو
نظرت إلى عينيه الرمادية بدقة وتعمقت داخلها وهي تسائله هذا السؤال لترى كيف سيُجيب عليها وما الذي سيظهر على ملامحه:
-أنتَ ليه مش مخلف؟.
حقًا لم يتوقع هذا السؤال أبدًا، يشعر بغرابة شديدة تجاهها، نظراتها غريبة! مواضيعها غريبة! حديثها معه وعنه غريب للغاية ولم يعد يرتاح إليها كما السابق، ويستغرب كثيرًا لما هي هنا بهذه السيارة! أنها من طبقة غير طبقته ولن تموت دونه مؤكد لما أتت إليه هو، أجابها بهدوء وعقلانية وهو يبعد عينيه عنها:
-دي حاجه مش بأيدي.. كل شيء بأوانه
تعمقدت أكثر في الحديث بعد أجابته لتستطيع أن تبني معه حوار لا ينتهي حتى تستكمله فيما بعد، ودون خجل هذه المرة تحدثت:
-وأنتَ مدورتش على الموضوع؟. قصدي متابعتوش مع دكتور يعني
نظر إلى البعيد يتابع "طارق" الذي ذهب بالسيارة من أمامهم بعد أن ألقى نظرة عليها يحاول أن يجد أي خلل بها، أجابها بجدية فقط كي لا يخجلها:
-لأ.. أعتقد أن لسه بدري على أننا نتابع
سؤال خلف الآخرين وهي تستمر في أمور لا تعنيها من الأساس:
-ليه هو انتوا متجوزين من امتى
رفع نظرة إلى الأعلى بعد أن تقدم للأمام قليلًا بعد شعوره بأنها تقف في الشرفة وأجاب بصوتٍ منخفض:
-يعتبر ست شهور أهو
ابتسمت بغيظ اخفته داخلها لأنه يعتبر لم يأخذ القدر الكافي من زوجته الذي يجعله يستغنى عنها عندما تريد، استمرت في الحديث الهادئ الذي تظهره وكأنه تلقائي وأخرجت حديثها هذه المرة بمرح ومزاح:
-دا أنتَ عريس جديد بقى
ابتسم بتصنع وهو يعطيها ظهره بعد أن أخفض وجهه مرة أخرى وقد رآها بالفعل في الشرفة:
-لأ جديد ايه خلاص بقى
تقدمت إلى الأمام قليلًا مثله لتقف جواره وأكملت بضجر وانزعاج داخلها:
-أنا بردو لما شوفت مراتك والبيت حسيت إنه لسه جديد وهي بردو لسه صغيرة
لماذا تتدخل فيما لا يُعنيها بهذه الطريقة؟. لما تتسائل عن الحمل والأولاد؟. أهي مجنونة، أليس هذا شيء خاص به هو وزوجته وإن اتسع أكثر سيكون للعائلة ما دخلها هي، وأيضًا نظراتها لا تعجبه أبدًا، أردف بفتور قائلًا:
-آه فعلًا
وفي أثناء أنها كانت ستتحدث مرة أخرى وقف "طارق" بالسيارة أمامهم وخرج منها قائلًا بجدية إلى "جاد" وهو يشير إلى السيارة:
-العربية تمام يسطا جاد مفيهاش حاجه
ابتسمت بتصنع له وادعت الفرحة ثم الاستغراب بعدها وهي تتسائل:
-بجد طب كويس.. بس ليه كانت بتعطل؟.
أجابها "طارق" بعملية وهو يدلف إلى الورشة:
-مفيهاش حاجه.. سليمة
دلف إلى الداخل وتركهم فاستدارت بجسدها تقف أمام "جاد" وهتفت بابتسامة عريضة:
-متشكرة جدًا يا جاد.. حسابك كام
"جاد"!.. هكذا "جاد" من دون ألقاب؟. من أين هي تعرفه؟.. أنهى عقله عن التفكير الآن ونظر إليها مُبتسمًا بجدية:
-حساب ايه هو معملش فيها حاجه أصلًا
-بس عطلته عن شغله يبقى في حساب
ضغط على يده الذي وضعها في جيب بنطاله وكأنه يود لو تنشق الأرض وتبتلعه لينهي الحديث معها، قال بود وهدوء:
-لو فيه حساب يبقى خليها علينا المرة دي
ابتسمت إليه برقة وخجل ثم ألقت عليه التحية ودلفت إلى سيارتها ورحلت من أمامه، طبول الفرحة داخل قلبها تدق بأكثر قوة تمتلكها لأجل النظر إليه وإلى تعابيره الرجولية الرائعة ولأجل الحديث معه..
بينما هو مل كثيرًا بسببها واستغرب حديثها ونظراتها الغريبة إليه وأحيانًا إلى جسده وكأنها تسرق النظر إليه ولكنه رآها وهذا يجعله مندهش ليس فقط مستغرب أهي مجنونة؟.. يتمنى بالفعل ألا يراها مرة أخرى ولا يستمع إلى صوتها.. هناك شعور غريب داخله يجعله يقلق من رؤيتها..
وفي الأعلى كانت تقف في الشرفة ورأته وهو يقف جوارها! ويتهامس معها؟. ويبتسم إليها؟. ما كل هذا الكرم!.. لقد حُرمت هي من كل هذا وسلب منها أقل حقوقها لأجل غلطة لا يجوز أن تُنسب إليها من الأساس ويغدق هذه المرأة غريبة الأطوار به؟..
ما الذي يحدث من حولها يا وهي لا تدري به؟. هذه المرأة شخصية معروفة وليس لديهم صلة بها بل هي من مكان يبعد كامل البعد عن حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلى حين غرة ظهرت هكذا بينهم وتأخذ أكثر الوقت إليها وإن لم يكن بمقابلته هنا يكن بالهاتف!..
صحيح أغلب الأوقات لا يُجيب ويكون تحت ناظريها ولكن هي تخاف وبشدة وقلبها قلق للغاية، ربما هذه ليست المرة الثانية التي تقابله بها، ربما يقابلها بعيد عن هنا بما أن هناك مكالمات بينهم، ولن تعتبرها صديقته لأن "جاد" لا يصادق نساء ولن تقول أن بينهم عمل لأنها لن تترك الجميع لديها في حياتها المرموقة وتأتي إلى هنا!..
هناك شيء ولكن لا تعلم ما هو!.. وهي حقًا لا تشك بـ "جاد" بل هي تثق به ثقة عمياء وتعلم أنه بار بها ويعاملها كما يحب الله أن تكون مكرمة في منزله ولكن أيضًا هي خائفة، تشك بها هي، تشك بأفعالها وكلماتها ونظراتها أيضًا..
يا الله مرة أخرى عدنا للتشتُت والنزاع!..
❈-❈-❈
بعد نصف ساعة من ذهاب "كاميليا" صعد إلى شقته في الأعلى ليتناول الطعام فمنذ أن هبط في الصباح وهو لم يأكل شيء سوى أنه طوال اليوم يرتشف أكواب الشاي، دلف إلى الشقة وأغلق الباب خلفه متقدمًا من الداخل بعد أن ترك حذائه قبل الدلوف، سار إلى المطبخ فوجدها في الداخل تعطيه ظهرها ويبدو أنها تضع الطعام في الأطباق لأنها رأته وهو يصعد..
دلف إلى المرحاض وتعمد أن يفتعل صوت وهو يغلق الباب حتى تنتبه إلى وجوده معها، دلف ليغتسل سريعًا وهو كما هو عنوانه التجاهل الرسمي إليها والابتعاد الدائم عنها..
علمت أنه قد حضر واستعمل حيلته اليومية بأن يفتعل أي حركة تصدر صوتًا لتعلم بوجوده، وضعت الأطباق على صينية كبيرة وأخذتهم جميعًا مرةٍ واحدة..
خرج من المرحاض وهو يجفف وجهه ويده بمنشفة صغيرة، وضعها على الأريكة وهو يتقدم إلى غرفة السفرة، دلف إليها وجدها تجلس في مكانها تنتظر حضوره حتى تبدأ في تناول الطعام..
لم يكن هنا صوت سوى أصوات الملاعق في الأطباق الذي يأكلون منها، "هدير" كان داخلها أمر عليها أن تتحدث به معه وستفعل ذلك ولكن بعد دقيقتين فقط حتى إذا احتد النقاش بينهم يكن أكل ولم يبقى جائعًا.. تعلم أن النقاش سيحتد كما في الفترة الأخيرة!..
رفعت وجهها ونظرت إليه وهو يأكل، أخذت نفسًا عميقًا وتحدثت بجدية:
-جاد.. عايزة أسألك عن حاجه
رفع نظرة إليها وأبعد عينيه عن الطعام، يدعو أن لا يكون هناك معركة جديدة حتى لا يسوء الوضع أكثر من ذلك، أجابها ببرود:
-ايه؟..
ابتلعت غصة حادة كانت بحلقها وتركت الملعقة من يدها، أبصرت عينيه الرمادية بقوة وهي تقول مُكملة بجدية شديدة:
-الست اللي اسمها كاميليا دي عايزة ايه
عاد بنظره إلى طبقه مرة أخرى وأخذ منه ملعقة إلى فمه يمضغها ببطء، كيف سيُجيبها وهو من الأساس لا يدري ما الذي تريده!.. ابتلع ما بفمه وقال:
-عايزة ايه إزاي يعني مش فاهم
تعلم أنه يراوغ بسؤالها أو لا يريد الإجابة من الأساس، تعمقت بالنظر أكثر مثبتة عينيها عليه وهتفت بنبرة جادة وملامحها لا تشعره بالخير أو اللين:
-يعني عايزة ايه يا جاد؟.. بتكلمك في الموبايل ليه على طول وفي وقت مش مناسب؟ بتجيلك هنا ليه؟..
مرة أخرى عاد يأخذ ملعقة وهو يبعد نظرة عنها مُجيبًا إياها بجدية:
-محددتش حاجه معينة... الأمور طبيعية
نظرت إليه باستغراب وهي تراه يتهرب من النظر إليها يخفي ملامح وجهه عنها الكاشفة لما بداخله وتساءلت بجدية وقوة؛
-يغني ايه الأمور طبيعية أنتَ عمرك ما كلمت واحده ست بالطريقة دي
لم تعجبه طريقة حديثها بالمرة وهو يراها تشير إلى شيء غير مقبول أبدًا، هذه المرة ترك الملعقة من يده وأردف متسائلًا:
-الطريقة دي؟ تقصدي ايه
تضايقت ملامح وجهها بهذا الضعف المميت الذي يشعرها بالغيرة عليه من قرب هذه المرأة، فقالت وهي تقترب منه بهدوء:
-مقصدش حاجه بس عايزة أعرف هي بتكلمك ليه وكانت هنا النهاردة ليه يا جاد
رأى الغيرة بعينيها وطريقتها، وهي كزوجته لها الحق في أن تغار عليه، ولكن أيضًا للحقيقة الأخرى لم يصدر منها فعل تُحاسب عليه وهو لا يستطيع أن يجيب لأنه من الأساس لا يدري ما الذي تريده فأمر السيارة هذا لم يصدقه:
-عربيتها كانت عطلانه
رفعت حاجبيها بسخرية مُميتة إليه وتحدثت بتهكم صريح وهي تضع يدها على وجنتها كحركة ساخرة منه:
-والله!.. عيله صغيرة أنا علشان تضحك عليا.. وهي قبل كده كانت بتعمل ايه من غير الاسطى جاد اللي هيصلح العربية
لم يتقبل حديثها وطريقتها مرة أخرى، يعلم أن هذا حديث لا يدلف العقول ولكن هذا ما حدث عن حق!. أردف بحدة وهو ينظر إليها بقوة:
-هدير!.. اعدلي كلامك
وقفت على قدميها دافعة المقعد من خلفها بعنف وقوة وكأنها قد أتت بأخرها معه هذه المرة فما يفعله لا يرضي أحد أبدًا:
-إزاي.. اعدل كلامي إزاي.. أنتَ مش شايف نفسك بتعمل ايه.. زعلان تتقمص وتبعد عني من غير حتى عتاب.. أسألك عن حاجه تهرب من السؤال حتى لو أجابته عندك وهتريحني
وقف هو الآخر قبالتها ونظر إليها بعمق منتظرًا أن تنتهي من حديثها الذي تفوهت به بحدة وقوة لأول مرة وكأنها تتمرد عليه:
-أنا لسه هنا مبعدتش.. حاولي أنتِ بقى مبعدش بجد
أمر غريب قد تحدث به وهي لم تفهمه! ضيقت ما بين حاجبيها وتسائلت بجدية واستغراب:
-تقصد ايه؟..
أجابها وهو يبتعد:
-مقصدش حاجه
نظرت إليه وجدته يذهب إلى الخارج ثم إلى خارج الشقة كاملة بعد أن استمعت إلى صوت الباب يغلق!..
جلست مرة أخرى مكانها وقد انتابها الضعف الشديد لما يفعله بها!.. لقد مضى الأمر وتناست الناس ما حدث حتى هي تناست ما حدث لما هو الوحيد المُتذكر مع أنه أخذ حقه من مسعد مرتين ليس واحدة فقط إلى أن أصبح لا يُجيد السير في الحارة رافع الرأس!.. ما الذي يريده أكثر من هذا!. النيل منها هي!.. أن يجعلها تشعر بالخطأ الذي فعلته! لقد شعرت وفهمت وعلمت وانتهى الأمر ما به بعد ذلك؟..
غير أن وجود هذه المرأة التي ظهرت من العدم يعكر صفوها ويجعلها تود أن تغلق عليه الأبواب إلى أن يعترف ما الذي تريده منه!.. فمؤكد هناك شيء وإن لم يعود عما في رأسه ستُخلق المشاكل يوميًا بينهم وتنتهي تلك الحياة الوردية التي لم تستطيع أن تنتهي منها بل هي التي نفذت وقدمت محلها حياة تتشح بالسواد..
❈-❈-❈
"في المساء"
وقف "عبده" مقابلًا لـ "جاد" في الورشة وهو يتحدث معه في أمور عدة ثم مرة واحدة هتف قائلًا وكأنه تذكر:
-نسيت أقولك يا كبير.. الفرج حضر
تغيرت ملامح "جاد" شاعرًا بالاستغراب وعدم الفهم فسأله وهو يعتدل في وقفته جوار باب الورشة:
-فرج!.. فرج ايه
ابتسم الآخر ابتسامة عريضة أظهرت أسنانه وضيقيت عينيه السوداء:
-الرد وصل من عند أهل العروسة.. رحمة
ابتسم "جاد" هو الآخر بشدة بعد أن فهم ما الذي يتحدث عنه، لقد قالت له "هدير" أن "عبده" تقدم إلى صديقتها "رحمة" ثم في اليوم التالي قد تحدث هو معه وقال له ما الذي يريد فعله..
ظهرت الفرحة على وجه "جاد" وأقتربت منه يحتضنه بعد هذه الابتسامة التي أظهرها على وجه ولا تدل إلا على القبول:
-ألف مبروك يا عُبد.. ألف مبروك ياض
بادلة "عبده" العناق بقوة والفرحة تهتز داخل قلبه محركه إياه بقوة:
-الله يبارك فيك يا كبير.. عقبال ما نشيل ولادك يارب
مازال يعانقه، وقد هزت قلبه هذه الكلمات البسيطة، يا الله كم يتمنى أن يحدث هذا، هذا أكبر حلم بحياته ولو كان صغير ولكنه حقًا يريده بكل جواره! طفل! طفل فقط منه ومنها لا غير ذلك..
لما الجميع يذكره اليوم بهذا الأمر؟. ابتسم أكثر مسيطرًا على مشاعره وعاد للخلف وهو يقول بهدوء:
-عرفت إزاي بقى
-والله زي ما أنتَ عارف هما من وقت ما اتقدمت وسافروا.. أبوها كلمني امبارح وقال إنهم رجعوا وأننا نشرف في أي وقت
ربت "جاد" على ذراعه وقال بابتسامة بسيطة وحب ظهر على ملامح وجهه:
-ألف مبروك
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
في الساعة السابعة صباحًا كان "جاد" ينام على فراشه في غرفة نومه، جواره زوجته التي كانت تحتضن إياه بقوة تضع يدها اليمنى على صدره والأخرى جوارها، قدمها اليمنى فوق قدميه الاثنين والأخرى على الفراش، مقتربة منه إلى حد كبير وهو ينام على ظهره ولم يكن يشعر بهذه السلاسل التي تحيط به، بل كان ينام على ظهره واضعًا يده اليسرى فوق ذراعها يحتضن إياها هو الآخر..
لا يدري أنه يفعل هذا وهي لا تدري أنها مقتربة منه إلى هذا الحد فكل واحد منهم يوميًا ينام بعيد عن الآخر ولا تدري ما الذي يحدث أثناء نومهم يجعلهم يقتربون إلى هذا الحد!..
وكأن هذه الراحة لا تأتي إلا في القرب، لا يرتاح في نومه إلا وهي داخل أحضانه يشعر بتواجدها ويستنشق عبير خصلاتها وجسدها.. ولا تشعر هي بالأمان والسكينة إلا عندما تشعر بوجوده معها إن كان في نومها أو يومها!.
قلبين يحرقهم البعد والفراق ويشتعلوا على النيران والجمر معهم، والأرواح تتلاقى في غفوة النوم لقسوة الجسد عليها، ثم يستفيق كل منهم ويعود الوضع إلى ما هو عليه..
دون سابق إنذار والاثنين ينعمون بأفضل أوقات نومهم جوار بعضهم اخترق صوت صراخ عالي أذنيهم بقوة عنيفة جعلتهم ينتفضون من على الفراش مرة واحدة معًا بفزع..
تمسكت "هدير" بذراع "جاد" وهي تنظر إليه بعد أن جلست بهلع والنعاس يؤثر عليها قائلة بخوف:
-في ايه يا جاد
حاولت فتح عينيها بقوة لتنظر إليه فوجدته هو الآخر ينظر إليها باستغراب ومازال كأنه يحلم ولكن الصوت مستمر بعنف وقوة جعلته يهلع لما قد يكون يحدث:
-مش عارف
وقف سريعًا من على الفراش مبتعدًا عنها بعد أن هتف هذه الكلمات بقلة حيلة، تقدم من مقعد المرأة وهو يضغط على عينيه بقوة، أخذًا بنطاله البيتي وقميصه بهرجله ليرتديهم حيث أنه كان ينام بملابسه الداخلية..
سريعًا وبهرجله ارتدى ملابسه وخرج إلى الشرفة ليرى ما الذي يحدث في الخارج وكلما أقترب تبين إليه الصوت!.. فتح الشرفة سريعًا ونظر إلى الخارج ليرى البعض اجتمع أسفل منزلهم والصوت يأتي منه بقوة وعنف اهتزت له الجدران..
عاد إلى الداخل يركض بهلع وخوف حقيقي لما جال بخاطره عما قد يحدث في المنزل في مثل هذا الوقت وأصبح قلبه يدق بعنف وقوة، قابلته وهو يركض إلى باب الشقة بعد أن ارتدت روب سريعًا على ملابسها والصوت يكاد يخرج من الأذن الأخرى..
سألته بقلق ولهفة ظاهرة عليها والخوف يدق قلبها بعنف ولم تعد تستطيع أن تقف على قدميها:
-في ايه يا جاد
أجابها بقوة وهو يخرج من الباب قائلًا بنبرة رجولية خائفة ضائعة:
-دا صوت أمي.. الصوت من عندنا
ثم خرج من الباب وتركها تقف تنظر في أثره تحاول أن تبتلع الصدمة أو تفهم ما الذي يحدث لكي تستطيع أن تتحرك