أخر الاخبار

رواية ندوب الهوى الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين والثالث والعشرون والرابع والعشرون والخامس والعشرون بقلم ندا حسن

رواية ندوب الهوى الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين والثالث والعشرون والرابع والعشرون والخامس والعشرون بقلم ندا حسن 

رواية ندوب الهوى الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين والثالث والعشرون والرابع والعشرون والخامس والعشرون بقلم ندا حسن 


الفصل الحادي والعشرين


              "أين طريق الحزن؟ السعادة لا تليق بنا"


استمع "سمير" إلى هذا الصوت الذي اخترق جدران المنزل ليصل إلى غرفة نومهم ومن بعدها إلى داخل أذنيهم ليجعلهم يستيقظوا من نومهم بهلع ولهفة خائفة مما قد يحدث..


جلس على الفراش وهو يمسح على وجهه بيده الاثنين يحاول أن يستوعب أن هناك صوت صراخ قوي وإن ميزة سيعرف لمن!.. وجواره "مريم" التي جلست هي الأخرى بعد أن استمعت إلى هذه الأصوات الآتية من الخارج..


وقف "سمير" على قدميه سريعًا يتقدم إلى الخارج ليذهب إلى صالة المنزل ويرى ما الذي يحدث في الصباح الباكر وكلما أقترب تبين له الصوت أكثر وأكثر، عندما فتح الشرفة ورأى بعض الأشخاص في الشارع وجاد يركض دالفًا إلى منزلهم!.. وهذا صوت زوجة عمه!.. إنها هي!..


أغلق الباب مرة أخرى سريعًا دون التفكير وهو يعود إلى زوجته قائلًا بنبرة متوترة خائفة: 


-أنا نازل يا مريم أشوف في ايه 


اعتدلت في جلستها وتسائلت بجدية ولم يأتي بخلدها أن يكون شيء يخصهم: 


-الصوت ده منين


أجابها وهو يخرج من الغرفة تاركها مذهولة بعد إجابته:


-دا صوت مرات عمي


خرج بعد هذه الكلمات البسيطة وتركها تنظر في أثره بقوة وعينيها مفتوحتان بذهول تام، لما قد يأتي هذا الصوت من عندهم الآن ولما تصرخ هكذا!..


وقفت سريعًا هي الأخرى لترتدي ملابسها وتهبط إليهم..


بينما في ذلك الوقت كان قد وصل "جاد" إليهم بعد أن ركض على جمر مشتعل ليصله إلى منزل والده وليرى ما الذي يحدث معهم، أفكار هائلة في تلك اللحظات التي هبط فيها من هذا المنزل إلى الآخر قد حضرت بعقله وجعلته يتخيل أبشع الأشياء التي قد تحدث لهم..


دلف "جاد" الشقة والذي كان بابها مفتوح ليرى عمه "عطوة" بالداخل وزوجته ومعهم والدته التي صمتت عن الصراخ يلتفون حول والده النائم على أرضية الصالة لا يحرم ساكنًا!..


وقع قلبه بين قدميه وتوقف في مكانه وهو ينظر إلى هذا المظهر البشع، الذي تخيله في هذه المسافة القصيرة وكان الأبشع على الإطلاق!.. ما به!.. ماذا حدث! لما تصرخ والدته، ولما عمه ينظر إليه هكذا، أدمعت عينيه في هذه اللحظات البسيطة وحقًا شلت حركته ولم يستطيع أن يحرك أي عضو به بعد هذا المظهر وكأنه خدر تمامًا..


يحتاج لمن يخرجه منه، وها قد حضر أخيه والمنقذ الوحيد له "سمير"، نظر هو الآخر إلى ما يحدث بعد أن دلف ودلفت من خلفه والدة "هدير" و "مريم"، نظر بعينين خائفة وروح مقهورة وكل هذا في لحظات تمر عليهم جميعًا، استدار بعينه إلى "جاد" وشعر أنه في صدمة فحركة بيده اليسرى وهو يدفعه للداخل قائلًا بنبرة رجولية خشنة:


-جاد فوق..


نظر إليه "جاد" بعد هذه الدفعة منه باتمان وكأنه يشكره وتقدم إلى الداخل سريعًا جسى على قدميه جوارهم وتسائلًا بقوة محاولًا التحلي بها: 


-ايه اللي حصل؟


أجابته والدته وهي تتمسك بيد والده والبكاء كالشلال على وجنتيها والحزن ارتسم على ملامحها وروحها: 


-وقع مرة واحدة يا جاد.. الحق أبوك يا جاد 


وضع يده أمام أنفه ثم على العرق النابض بيده ليرى أنه مازال على قيد الحياة ويتنفس، أقترب منه "سمير" يهتف بصوتٍ عالٍ بجدية: 


-هكلم الإسعاف


رد "جاد" بقوة وهو ينظر إليه قائلًا بأمل يحيىٰ داخله: 


-لسه هستنا الإسعاف؟.. هوديه أقرب مستشفى بالعربية 


وقف على قدميه معتدلًا يميل ناحيته بعد أن أبعد الجميع ومعه ابن عمه ليحاول أن يحمله ويهبط به إلى الأسفل بمعاونته، وجد زوجته تدلف من باب الشقة وخلفها شقيقتها، نظر إليها ليجدها تضع يدها على فمها من هول الصدمة والمظهر الذي رأته عليه تشهق بقوة وصوتٍ عالٍ، وقع قلبها بين قدميها وشعرت بالخوف الشديد يجتاح كيانها لرؤية والده هكذا..


ناداها بقوة قائلًا: 


-مفاتيحي من الشقة بسرعة يا هدير 


رآها كما هي لم تتحرك وكأنها صدمت مثله بالفعل وعقلها لا يستوعب ما الذي يحدث فصرخ عاليًا بها وهو على أخر نقطة بالسطر وبعدها سيقع:


-المفاتيح من الشقة يا هدير


أومأت برأسها عدة مرات متتالية وذهبت ركضًا إلى الخارج لتفعل ما قاله، أقتربت "مريم" من والدة "جاد" تحتضنها بقوة حتى تهدأ وكأن الأخرى كانت تريد هذا لتأتي بالمزيد من البكاء..


رفيق العمر والروح يكاد يفارق قبلها!.. لأ لن تسمح له بهذا، قبل أن يزف الخبر إليها ستكون سبقته إلى هناك لتكون في انتظاره واستقباله فلا يجوز أن تمضي البقية من عمرها دون رفيق دربها...


بعد هذه اللحظات كان "جاد" أخذه في السيارة ومعه "سمير" وعمه ووالدته متوجهًا سريعًا إلى أقرب مشفى منه ليسعفه، ولم يأخذ كثير من الوقت بل أقل من القليل ومع هذا قلبه كان يحترق وروحه تكاد تتركه وتفكيره شل!.. أصعب شعور مر عليه بحياته؟..


هذا والده، سنده، ظهره في الدنيا وحمايته ومهما كبر وكان رجل فهو لا يكون شيء سوى بوالده ووالدته، لا يكون شيء من غيرهما..


خرج الطبيب المعالج لوالده من غرفة الطوارئ ليقف أمامهم متحدثًا بنبرة عملية مطمئنة: 


-متخافوش يا جماعة.. الحج بس ملغبط في الأدوية بس الحمدلله هو بخير متقلقوش 


أقترب منه "جاد" تحت أنظار الجميع وتسائل بلهفة تتحدث على ملامحه: 


-يعني هو كويس؟.. مفيش حاجه 


أومأ إليه الطبيب بابتسامة ليجعله يطمئن ونظر إليه بعمق قائلًا بتساؤل وقد شعر أن هذا الرجل أقرب من القرب إليه:


-أنتَ ابنه؟.


أومأ إليه "جاد" ومازالت اللهفة ترتسم على ملامح وجهه والخوف يتصبب منه أمام الجميع في محاولة منه أن يخفي كل هذا ويجعلهم ينظرون إلى القوة فقط، المصطنعة!:


-متقلقش الوالد حصله إغماء بسبب ارتفاع ضغط الدم


تسائل "جاد" باستغراب وجدية قائلًا:


-مرة واحدة كده 


أشار له الطبيب بيده وهو يهتف مُكملًا بعملية شديدة: 


-لأ هو عنده السكر والضغط وملغبط في الأدوية فحصله إغماء.. متقلقوش دي حاجه بسيطة وهيخرج بالليل إن شاء الله


أومأ إليه "جاد" بعد أن زفر بقوة وهو يشكره:


-شكرًا يا دكتور 


تقدمت والدته منهم بعد أن مسحت بيدها دموعها وأقتربت من الطبيب تقول بلهفة: 


-ينفع أشوفه يا دكتور 


ابتسم إليها الطبيب قائلًا: 


-معلش يا حجه مش هينفع دلوقتي لكن معانا اليوم بطوله تقدري تقعدي معاه 


شعر أنها انزعجت وبشدة أيضًا وظهر عليها الإحباط الشديد فابتسم وكأنها والدته وقال بمزاح ليخفف عنها: 


-متقلقيش هدخلك عنده لوحدك وهمنع الزيارة 


ابتسمت بوجهه شاكرة إياه بجدية فرحل الطبيب بعد أن تمنى الشفاء العاجل له، نظر "جاد" إلى والدته وتذكر الصراخ الذي استمعه منها، لقد خافت بشدة عليه!. هل شعرت أنه يفارق الحياة لذا صرخت بكل قوة؟.. لقد كانت تموت من البكاء وهو صب كل تركيزه على والده ولكنه مع ذلك لم يغفل عنها..


ماذا يريد بعد كل هذه السنوات معًا، في السراء والضراء معًا، منذ الشباب إلى الشيخوخة معًا، ماذا ينتظر منها أن تفعل!.. إنها تحب والده وتحترمه وتقدر كل ما يفعله، تحبه إلى درجة تمنت الموت قبله حتى لا تبقى ليوم واحد بدونه.. 


وهو تمنى المثل حتى لا يبقى ليوم واحد بدونها، ما هذا الحب!.. كل هذا من العشرة الجميلة والأصل الطيب، والده ووالدته من أصل طيب خلوق يظهر في كل وقت وحين وفي كل ضعف وقوة..


تمنى لو يكون هكذا هو و "هدير" يكون مثل الحصن المنيع لها وتكون مثل حضن الأم له، يكون السند والقوة وقت الضعف وتكون هي الحب والوجود في كل وقت وحين!.. سيكون لها كل شيء تريده ويعلم أنها تريده...


أقترب من والدته التي جلست على أقرب مقعد، جلس جوارها وعلى الناحية الأخرى عمه وابن عمه، أقترب منها محتضن إياها بحنان وهدوء رأى أنها هي من تحتاج إليه في هذه اللحظات الصعبة..


وقالبته والدته بالقوة دون البكاء لأنها تشعر بضعفه وقلة حيلته في ذلك الوقت، رأت الخوف والهلع بعينه، رأت الضعف والألم بوقفته المنكسرة، ألا تكون له القوة الآن!.. سيتبادلون القوة المزيفة إلى أن تصبح حقيقة..


                                   ❈-❈-❈


"الساعة الثالثة عصرًا"


إلى الآن عقلها لا يريد إلا سواه، أتدرون كيف!.. عندما يرى السلطان إمرأة ويشتهي وجودها بحياته ومهما كلفه الأمر يفعل ذلك!.. أنها هي، تشتهي وجوده، تريد الإقتراب أكثر، تريده هو، لا تدري إن كان هذا حقًا مرض أم شيء آخر ولكن هي تريده، تريد أن يكون أقرب من القرب نفسه إليها..


بعد أن تضع خطة محكمة وتجعل زوجها يقوم بتنفيذ أمر الطلاق وتكون من بعدها حرة وتستطيع أن تتزوج من "جاد"..


التفكير في الأمر يجعلها في قمة السعادة، أن يكون ملكها، زوجها، يتواجد معها في كل مكان ويراه الكثير ويعلم أن ذلك الرجل القوي الوسيم زوجها!.. يا لها من سعادة مطلقة ستأتي في ذلك الوقت فقط..


هبطت من السيارة أمام الورشة، وزعت نظرها على من في الداخل فلم ترى أحد والباب مفتوح، تقدمت بخطوات بسيطة وهي تنظر حولها بدقة وتدعو أن تبصره ولكن أبصرت غيره:


-نعم؟.


نظرت إلى "عبده" الذي ظهر من الداخل على حين غرة وتحدث بطريقة فظة معها ونظراته فظة أكثر منه، أجابته بتعالي ونظرة مستحقرة:


-فين جاد؟..


نظر إليها باستغراب شديد بسبب هذه الثقة التي تتحدث بها وهي تتسائل عنه حتى دون ألقاب، نظر إليها من الأعلى إلى الأسفل بطريقة استحقرتها أكثر وهي بهذه الملابس الضيقة الكاشفة عن جسدها: 


-الاسطى جاد مش هنا 


وضعت يدها أمام صدرها وتسائلت بجدية شديدة وهي تقترب منه:


-أيوه فين يعني.. عندي معاد معاه 


عندما قالت هكذا ظن أن هناك ميعاد بينهم حقًا فقال بجدية وهو يبتعد للداخل حتى ترحل هي وتتركه:


-الاسطى جاد في المستشفى


وكأنها صدمت بسيارة تأتي على أكبر سرعة لديها بعد أن استمعت هذه الكلمات، صاحت بقوة وصوت عالي يشوبه القلق:


-ماله، حصله ايه 


نظر إليها باستغراب أكثر ولكنه لم يعيرها أدنى اهتمام وقال بجدية مرة أخرى: 


-مش هو ده الحاج رشوان أبوه


تنفست الصعداء وهي تستمع إلى أن الضرر بوالده وليس به، لو كان "جاد" بيده القرار لتمنى أن يكون به هو.. بعد ذلك تسائلت عن اسم المشفى وقررت الذهاب إليه أمام الجميع لتثبت حضورها وليعرفها الجميع ويعرف أنها من المقربين بـ "جاد" وهذا ما نسبته إليه ولم يفعله أبدًا..


وكأن تفكيرها معاق أو به شيء مختل! وكأن نظرتها سارقة إن وقعت على شيء ملك غيرها أرادت أن يكون لها..


ستذهب لتفعل ما يجب عليها فعله، ولتكن أول من وقف بجواره حتى لا ينسى هذا إلى الأبد..


                                ❈-❈-❈


ذهبت "هدير" مع والدة "سمير" إلى المشفى المتواجد بها والد "جاد" ليطمئن قلبها عليه، حاولت أن تتحدث مع "جاد" ولكنه في الأساس ترك هاتفه في المنزل عندما هبط على عجلة من أمره ولم يأخذ أي شيء معه، حتى الأموال لم يأخذها بل "سمير" هو من ذهب ليأتي بالمال ليكون معهم إذا أرادوا أي شيء، لقد حدثت "مريم" زوجها عندما علمت شقيقتها أن "جاد" ترك الهاتف، اطمئنوا عليه ثم ذهبت "هدير" مع زوجة عمه ليكونوا بالقرب منهم في هذا الوقت..


وقد كانت هي تود الإقتراب منه إلى أن تكون داخله لتخفف عنه ما عناه اليوم، فقد كان الهلع يكاد يوقف قلبه عن العمل وروحه تزهق مع والده عندما وقع نظره عليه في هذه الحالة..


اشفقت عليه كثيرًا وشعرت أن عليها التقرب منه الآن متناسين أي شيء بينهم، عليها أن تكون الزوجة الصالحة وتقف جواره في مثل هذا الموقف وتبعد كل حزن عنه وتترك ما يحدث بينهم خلف ظهرها وكأنه لم يحدث من الأساس.. 


والدته تحتاج لمن يدعمها وسيكون هو هذا الداعم وهو في الخفى يريد داعمه وستكون هي كذلك..


الجميع يجلس في المرر مقاعد متجاورة ومقابلة لبعضها، جلست والدته وجوارها والدة "سمير" تمدها بالدعم والحديث اللين عن كونه سيكون بخير وهي جوارهم وفي الناحية الأخرى يجلس عمه وابنه..


رفعت نظرة عينيها إليه لتراه يقف على قدميه جوار باب غرفة والده مستندًا بظهره إلى الحائط رافعًا قدمه اليسرى إلى الحائط أيضًا ويضع يديه الاثنين خلفه..


وقفت بهدوء وتقدمت تسير بثبات ناحيته وعينيها تتعمق بعينيه الرمادية الحزينة المناجية إياها، لقد استشعرت احتياجه لها فقط من نظرة عينيه المنكسرة الدامعة، وقفت أمامه مباشرةً وابتسمت بوجهه برقتها المعهودة سابقًا قبل كل ما يحدث بينهم وقدمت يدها إلى وجنته تتحدث بلين وحنان:


-هيبقى كويس، متقلقش يا جاد 


وضع قدمه اليسرى جوار اليمنى يقف معتدلًا أمامها على الأرضية، ابتسم بوجهها بـ إرهاق شديد يظهر بوضوح وحمل لها داخل قلبه ما تحاول فعله معه متناسية كل ما يفعله هو هذه الفترة، وضع يده فوق يدها الموضوعة على وجنته وجذبها إلى فمه يقبلها بحنان وشغف مُتمتمًا بيقين:


-إن شاء الله


اشتد بيده على يدها بقوة ممسكًا بها مطالبًا بالشعور أكثر أنها جواره ومعه وله مهما حدث بينهم، وتناسى كل شيء وبقيت هي أمامه تنظر إلى عينيه الرمادية المطالبة بالمزيد..


-جاد!.. باباك عامل ايه دلوقتي؟.. أنا اتخضيت لما عرفت، هو كويس مش كده؟.. 


ظهور هذا الصوت مرة واحدة تحت مسامع الجميع خلال صمت تام جعل الجميع ينظر ويتساءل!.. 


استمعت "هدير" إلى هذا الصوت الذي تعرفه جيدًا يأتي من خلفها بلهفة كبيرة ظهرت بنبرتها والشوق يتخللها بوضوح، غير نطقها لاسمه دون ألقاب بينهم وهي التي لم تستطيع فعلها إلا عندما أصبحت زوجته!..


نظر إلى الصوت الذي أتى من خلف زوجته، حقًا لقد كان سارح بها وبرقتها وجمالها، وداخله يفكر باشياء كثيرة ولم يرى هذه التي تتحدث الآن متى أتت إلى هنا وكيف علمت ومِن مَن!..


نظرت هي إليه وإلى زوجته التي استدارت تنظر إليها بجدية تامة وربما حدة مفرطة أو أكثر أيضًا، الجميع مستغرب وجودها هنا ومن أين تعرف "جاد" ابنهم البسيط!..


تقدمت أكثر إليهم ونظرت إلى "جاد" بلين ورقة ورسمت ملامح الخوف واللهفة جيدًا عليها لتقول:


-جاد!.. باباك كويس 


سحبت "هدير" يدها بهدوء وهي تعطي له مساحة للرد ولكن في حضورها بينهم، نظر إلى يدها التي تأخذها منه بهذا البرود وعلى وجهها هذه النظرة!. 


استدار لينظر إلى "كاميليا" وحقًا هنا ازداد قلقه أكثر بعدما اطمئن على والده، هتف بجدية:


-الحمد لله كويس.. تعبتي نفسك ليه كده 


ابتسمت بنعومة ونظرت إلى عينيه الرمادية قائلة بدلال واضح وبين يدها ورود أتت بها إليه:


-هو فيه حد أغلى منك اتعبله بردو يا جاد 


الجميع على ملامحه ترتسم الدهشة والصدمة والاستغراب الشديد، نظر إليها "سمير" بقوة وهو يعلم من هي وقد رآها تقف سابقًا معه ولكن لم يكن يعلم أن العلاقة بينهم تصل إلى هذه الدرجة..


أن تناديه بإسمه هكذا أمام الجميع وبهذا الدلال!.. أن تتغزل به هكذا أمام زوجته وعائلته!.. لم يكن يتوقع أن هناك من يستطيع أن يفعل هذا وبالأخص لو كانت مرأة، فـ "جاد" يعشق زوجته مؤكد لا يريد أن تهتف بهذا الحديث أمامها.. 


بينما والدته شعرت بالضيق الشديد يجتاح كيانها لرؤية هذه المرأة تتحدث بهذه الطريقة أمام زوجته!.. وهذا ولدها لا يفكر بزوجته وإحساسها كيف سيكون بعد هذا الحديث الغريب عليهم كعائلة وعاداتهم وأخلاقهم لا تسمح بمثل هذا الحديث ولا هذه النظرات الوقحة..


نظرت إلى "هدير" بشفقة التي وجدتها تنظر إلى "جاد" منتظرة منه الرد عليها والذي طال كثيرًا وكأنه يستوعب ما الذي تفوهت به..


ابتسم بتصنع كان في هذه اللحظة بالتحديد يظهر بوضوح لأن الكلمات لجمت لسانه وجعلته للحظات لا يستطيع الرد:


-متشكر


-أنا كنت رايحة الورشة علشان أشوفك عرفت من الولد اللي شغال هناك بصراحة مقدرتش مجيش اطمن على والدك وعليك 


في تلك اللحظات لم يستطع أن يُجيب عليها حيث أن زوجته نظرت إليه بجدية تامة أمام جميع الأعين الناظرة إليهم وهتفت بقوة: 


-جاد!.. عايزاك لحظة 


كانت هذه اللحظة المنتظرة بالنسبة إليه، علم منذ رؤية "كاميليا" أنها ستنفجر في أي لحظة وسيكون هذا الانفجار في وجهه وستتناسي كل شيء قد حدث من لحظات قليلة..


أومأ إليها برأسه فسارت مبتعدة عن الجميع إلى آخر الممر وهو خلفها يفكر في ذلك المأزق الذي وضعته به هذه المرأة الغريبة..


وقفت بعيدًا ووقف أمامها، رفعت يدها أمام صدرها وتسائلت بجدية وملامحها كأنها تنتظر معركة معه:


-جاد!. الست دي عايزة ايه 


زفر بضيق وقوة أمامها وهو يشيح بوجهه ثم عاد ينظر إليها قائلًا:


-تاني؟.. نفس الكلام تاني 


أشارت بيدها دليل على التكرار بحدة وهمجية وكأنها تدافع عن حق في أرض كبيرة لا مثيل لها تتعرض للسرقة:


-تاني وتالت ورابع وعاشر يا جاد لحد ما أفهم ايه اللي بيحصل من ورايا 


تشنجت ملامحه وبرزت عروقه بقوة وهو يستمع إلى حديثها السخيف الذي يفسر بأنه يفعل شيء من وراءها:


-يعني ايه اللي بيحصل من وراكي أنتِ اتجننتي 


أومأت برأسها عدة مرات متتالية بهستيرية وهي تضرب بقدمها في الأرض أمامه مُجيبة بعصبية وانزعاج يكاد يخنقها:


-آه اتجننت.. اتجننت فعلًا لما سكت ومعرفتش هو ايه اللي بيحصل والست دي عايزة ايه بالظبط.. أنتَ عارف أنها لا شبهنا ولا من توبنا يا جاد يبقى عايزة ايه 


حاول امتصاص غضبها الذي يقدره ولن يستطيع أن يعاتبها عليه لأنها محقة، زوجته وتغير عليه وتشعر بتغيرات من حولها.. محقة:


-قولتلك مش عايزة .. كانت رايحة الورشة في شغل ولما عرفت زي أي حد عارف الأصول جت تشوف أبويا


قضبت جبينها باستغراب ودهشة بسبب حديثه الذي لا يُصدق وكونه يتساهل معها هكذا إذًا هناك ما يخفيه!:


-أنتَ بتكلم عَيله يعني ولا ايه؟.. لو هفترض أن كلامك صح ايه حكاية جاد اللي بتقولها على الفاضية والمليانه من غير أي لقب كده ده طبيعي يعني


اغمض عينيه بقوة يتمتم بالاستغفار بصوتٍ عالٍ ثم أجابها بحديث غير مقنع: 


-هو أنا هتشرط عليها تكلمني إزاي 


نظرت إليه وهي لا تصدق أي شيء مما يقوله وتود لو صرخت به أمام الجميع وجعلته يعترف بالذي يحدث، نظرت إليه بسخرية وأردفت مقلدة إياها بنفس نبرتها:


-وبالنسبة لـ هو في حد أغلى منك اتعبله بردو يا جاد


شعر هذه المرة بالانزعاج الشديد الذي يضيق صدره عليه وهي تضيق كل الطرق في الإجابات المقنعة لتأخذ ما تريد وحقًا هو مُرهق إلى أبعد حد ولا يعلم ماذا يفعل وماذا يقول:


-هدير أنا فيا اللي مكفيني العملية مش ناقصة 


نظرت إلى عينه بقوة واسترجعت كل ما مضى بينهم في الفترة الأخيرة بداية بما فعله "مسعد" بصورها إلى الآن، وأرادت أن تجعله يتفهم نظرتها الحزينة التي القتها عليه أثناء حديثها: 


-وأنا كمان يا جاد فيا اللي مكفيني وأكتر منك ومحتاجة تفسير للي بيحصل ده 


-عايزاني أقول ايه طيب غير اللي قولته


أخذت نفس عميق وهي تنظر إليه عندما وجدته حقًا مرهق إلى درجة أنه يستند على الحائط بيده وهو يتحدث معها، لقد خفق قلبها لأجله وحزن لأجل ما يحدث بينهم: 


-تقولي أنتَ بعيد عني ليه؟.. وبلاش حجه الصور علشان بقت قديمة بجد وبايخه وتقولي قريب منها ليه يا جاد؟..


أبتعد "جاد" عن الحائط ناظرًا إليها وعينيه متسعة بقوة شديدة مدهوشًا من حديثها الأبلة، كيف له أن يقترب من أخرى غيرها!.. صاح بحدة وهو يقترب منها:


-أنتِ اتجننتي!.. قريب من مين يا مجنونة أنتِ.. قريب من مين؟


بحدة شديدة أجابت عليه:


-منها.. كلامي كدب؟..


دعى بالصبر داخله وهو ينظر في اتجاههم ليرى والدته تحذرة بعينيها وكأنها تتحدث معه عن خطاءه أمام الجميع في حق زوجته، هل خطأ إلى هذه الدرجة!.. عاد للخلف وهو ينهي الحديث قائلًا وهو يهرب إلى البعيد:


-أنا دماغي فيها مليون حاجه ومش ناقص كلامك ده ولو أنتِ واحدة بتفهم تعرفي أن ده لا وقته ولا مكانه


نظرت إليه وهو يبتعد عنها عائدًا إلى مكانه ووقفت هي مكانها لم تتحرك، وجدت الخبيثة الغبية تقترب منه وتعطي إليه الورود متحدثة بشيء لم تسمعه ثم رحلت!.. رحلت والإبتسامة تشق طريقها على وجهها بقوة ظاهرة للجميع وكأنها تنال شيء ليس موجود مع أحد غيرها!..


دهشة الجميع كانت ظاهرة أمام "هدير" و "جاد" وكانوا محقين في ذلك.. هذه المرأة الغريبة دلفت هكذا مرة واحدة بينهم وتتحدث بكل أريحية مع "جاد" أمامهم وتتناسى أمر وجود زوجته معه!.. أنها تناست كل شيء من الأساس واستباحت لنفسها ما هو حرام لتجعله حلال في لحظات تعد على اليد..


وقف "جاد" بعيد عنها عائدًا إلى غرفة والده ليقف كما كان ينظر إليها حيث أنها بقيت مكانها ولم تعد معه، عينيه حزينة للغاية ولا يدري ما الذي تريده منه حقًا ولما اقترابها منه هكذا، ربما تود أن تكون صديقته أو هي امرأة من أصل طيب وترد له المعروف الذي فعله معها!..


أم هي غريبة الأطوار ولا يفهم ما الذي تريده!.. أو هناك شيء تخفيه عنه إلى الآن لا يعرفه ولا يفهمه!..


نظر إليها بعمق وكأنه يعتذر عما يبدر منه، وفي نفس الوقت ينتظر اقترابها مرة أخرى، لا يتحمل أن تتركه وحده هكذا يقف بين الجميع عارٍ دونها..


إنها بالنسبة إليه والدته وشقيقته وزوجته، حبيبته وكل شيء له يحدث ما يحدث ولكن في النهاية هي كل هؤلاء، وللحقيقة لا يستطيع أن يحدد موقفه يبقى كما هو أم يتخلى عن ذلك البرود ويعود كما في السابق فقد نالت عقابها وبادرت بالوقوف جواره في وقته الصعب مع والده..


بادلته النظرات من بعيد بحزن طاغي ارتسم على ملامحها وروحها تتحمل ندوب هائلة لا يتحملها أحد، تشعر داخلها أن هناك شيء مخفي عنها...


تحلف أنها تثق به ثقة عمياء، تثق به أكثر من نفسها ولكن لا تثق بأحد غيرة، تخون الجميع وأولهم هذه "كاميليا" التي لم ترتاح لها منذ أول مرة رأتها بها!..


تريد أن تفهم لما تتحدث معه هكذا بأريحية، لم تأتي إليه، لم تهاتفه وكأنه أحد أقاربها أو أصدقائها المقربين مع أن زوجها لا يصادق نساء بل لديه الكثير من الرجال بعدد خصلات رأسه..


إنه كتاب مفتوح أمامها منذ أن تزوجته وقد غُلق منذ فعلة "مسعد" الحقيرة.. مُعذب الفؤاد يا "جاد الله"، إنك مُعذب الفؤاد تاركًا خلف عذابك ندوب أثر الجروح تحرق الروح وتأثر عليها بالخوف والرهبة، تاركًا ألم ومرار وكأنها تتذوق طعم العلقم بجوفها تحاول تمريره لا يمر لحدة وكثرة مرارته.. متى يا مُعذب الفؤاد تكن الحياة كما لو كانت ورود بيضاء لا يشوبها شيء!..


                              ❈-❈-❈


"في المساء"


كما قال الطبيب لهم في الصباح أن والده سيخرج مساء اليوم، لم تكن حالته خطرة فقط كان يحتاج العناية هناك بالمشفى حتى يستطيع أن يقف على قدميه مرة أخرى ويشعر بالتحسن، اطمئن الجميع عليه وتقدم الأقارب والأصدقاء ليطمئنوا عليه عندما علموا بخروجه والكثير حاول أن يهاتف "جاد" أثناء تواجدهم في المشفى ولكن لم يستطيعوا الوصول إليه..


كان الجميع في شقة والده بعد أن أصبح بخير ويجلس معهم براحة في صالة الشقة، فقط يوصل بيده محلول طبي قد كتبه الطبيب في ادويته..


يجلس "عطوة" وزوجته ومعهم ابنهم "سمير" وزوجته "مريم"، وصعدت والدة "هدير" هي الأخرى لتطمئن عليه وتتقدم بالسؤال عنه، وجلست "هدير" جواره بعد أن طلب منها فعل ذلك بود وهدوء وداخله يدعوه للإعتذار منها على ما بدر منه سابقًا أثناء رفضه لها، هي لا تعلم بهذا الشيء ولكن كلما رأى طيبة قلبها وأصلها الطيب شعر بالخجل الشديد من نفسه..


نظر "جاد" إليها بهدوء ونظر إلى والدة الذي يجلس جوارها وقد حمد الله في هذا اليوم كثيرًا بعد أن اطمئن على والده الذي عاد إلى المنزل معافى وحقًا يشعر بالتقصير في علاقته مع ربه هذه الفترة، عليه أن يعود كما السابق فهو لم يعتاد على هذا الشيء..


تحدثت والدة "هدير" بابتسامة بسيطة وهي تجلس على المقعد أمامهم بجدية:


-حمدالله على سلامتك يا حج 


أجابها بهدوء ونبرة خافتة مُرهقة يبتسم:


-الله يسلمك يا أم جمال 


ابتسمت "فهيمة" والدته بود وحب وقد عادت ملامح وجهها البشوشة الطيبة بعد خروج زوجها من المشفى، نظرت إلى الأكياس التي دلفت بها وقالت بود مُكملة بعتاب:


-الله يسلمك يا حبيبتي.. مكنش له لزوم تعبك ده والله يا أم جمال 


وضعت الأخرى يدها الاثنين فوق بعضهم البعض وقالت بهدوء:


-تعب ايه بس يا أم جاد ده من فضلة خيركم 


-أصيلة يا حبيبتي ربنا يخليكي


نظرت إلى "هدير" الجالسة جوار "رشوان" قائلة لها بجدية:


-قومي يا هدير اعمليلنا حاجه نشربها يا حبيبتي


-حاضر يا ماما فهيمة 


وقفت على قدميها وابتعدت تمر من أمامه وهو جالس على الأريكة جوار ابن عمه تخرج من الغرفة لتتوجه إلى المطبخ لفعل ما قالته والدة زوجها ولكن الصدمة الكبرى التي قابلتها عند مرورها على باب الشقة الذي كان مفتوحًا تطل منه "كاميليا"!..


نظرت إليها بدهشة وذهول ألم تكون في المشفى اليوم!.. ماذا تفعل هنا في منزلهم!.. ماذا تريد!.. لم تكتفي بعد! لقد رأته واطمئنت عليه ما الذي تريده بعد ذلك، ستُجن منها حقًا.. يكاد عقلها ينفجر من التفكير وكثرة الأفكار السيئة التي تتواجد داخله عن تقربها من "جاد"..


وقفت أمامها جماد لا يحرك ساكنًا تنظر إليها وإلى هذها الغرور الذي يظهر عليها، تنظر إلى وقفتها التي تظهرها بعنجهية وكأن المنزل لها..


أقتربت "مريم" منها والتي أتت لتساعدها في المطبخ ولكن تراها تقف هكذا دون حديث وأمامها امرأة تقف على أعتاب الباب، صاحت قائلة بجدية وابتسامة وهي تقترب منها:


-اتفضلي عايزة مين؟..


ابتسمت إليها الأخرى متغاضية عن وجود زوجته أمامها وهتفت:


-الاسطى جاد


أومأت إليها "مريم" وفهمت أنها هنا لرؤية والده ربما يعرفها أشارت لها بيدها إلى الدلوف داخلًا في الغرفة، سارت خلف "مريم" وبقيت "هدير" في مكانها لا تحرك ساكنًا، تنظر في أثرها بذهول تام..


دلفت على الجميع في الداخل ومن رآها صباحًا ورأى ما فعلته وقع عليه دلو من الماء البارد لحضورها مرة أخرى وهنا في منزلهم!.. لا أحد يستطيع السؤال عنها الآن ولكن الجميع في نفس الوقت يريد تفسير واضح من "جاد"، الذي وقف على قدميه بدهشة عندما وجدها هنا مرة أخرى..


لم يستطع أن يفعل أي شيء سوى أن يرحب بها كأي ضيف يأتي إلى بيته، حاول قدر الإمكان أن يكون طبيعيًا ولكن منعته زوجته من فعل ذلك بدخولها الهمجي على الجميع وأولهم "كاميليا"، وقفت أمامها ونظرت إليها بقوة داخل عينيها قائلة بحدة:


-أنتِ ايه اللي جابك هنا وعايزة ايه بالظبط مننا 


ذُهل "جاد" من دخولها المفاجئ الحاد وكلماتها الغاضبة أمام الجميع، لم يكن يتوقع أنها من الممكن أن تفعل هذا: 


-هدير!.. أنتِ اتجننتي


أبعدت نظرها عن "كاميليا" ونظرت إلى "جاد" بحدة أكبر وعصبية لأول مرة بحياتها معه تفعلها وأمام الجميع: 


-كنت مجنونة وفوقت وحالًا هعرف الست دي عايزة ايه منك 


ابتسمت "كاميليا" بتصنع وهي تبادلها النظرات الهادئة على عكس الأخرى غاضبة وداخلها دلو من الماء البارد يجلس على قلبها وفرحتها لا توصف لأن زوجته فهمت الذي يحدث وهذا كان أول مسمار يدق في خراب بيتهم:


-هكون عايزة ايه يعني.. أنا جاية اطمن على باباه، جاد عمل معايا معروف وأنا بحاول ارده بأي طريقة مع إني مش هعرف مهما عملت


وضعت يدها الاثنين أمام صدرها بقوة تقف غير معتدلة وصاحت بقوة وثبات تضغط على حروفها بشراسة وهي تتحدث: 


-أولًا اسمه الاسطى جاد، ثانيًا إحنا متنازلين عن المعروف ده ومش عايزينك ترديه 


لأول مرة تتحدث هكذا في وجوده أمام الجميع وهو لا يتحمل ما تفعله، غير أنها تُهين ضيفه في بيته، أقترب بخطوة واحدة منها ليقف جوارها جاذبًا ذراعها بحدة يهتف بصوتٍ عالٍ:


-هدير كفاية لحد هنا وبطلي الجنان ده


جذبت يدها بحدة وعصبية شديدة ونظرت إليه دون خوف ودون احترام له ترفع صوتها عليه أمام الجميع من أهلها وأهله:


-سيب أيدي كده، أنا مش هبطل جنان والست دي لو شوفتها مرة تانية بجد هوريك الجنان اللي على حق


استدارت تنظر إليها بشراسة وتهديد: 


-سمعاني؟..


نظرت إليها ببرود وكأنها ليست هنا من الأساس ولم تنظر إلى أي شخص من هؤلاء الجالسين بل نظرت إليه قائلة بهدوء وتصنعت الحزن فقط عندما نظرت إليه:


-أنا آسفة يا جاد شكلي عملتلك مشاكل.. همشي وهبقى أكلمك 


اقتربت منها "هدير" على حين غرة بقوة وعنفوان والغيرة داخلها تنهش قلبها:


-يا بجاحتك يا شيخه تكلميه بتاع ايه إن شاء الله.. هاا


نظرت الأخرى إليه وبادلها هو نظرة معتذرة ثم ذهبت إلى الخارج دون التفوه بحرف واحد ولكن لنقول أنها حصلت على ما أرادت والآن بدأت اللعبة الرابحة لها عن حق..


أقترب منها زوجها بعينين مشتعلة بالغضب لأجل ما فعلته مع "كاميليا" أمامه وأمام والده والجميع وجعلته يقف وكأنه ليس هنا:


-ايه اللي عملتيه ده 


أبصرت عينيه بقوة رغم الضعف الذي تشعر به داخلها بسببه ولكن هذه المرة لن تصمت لقد تمادى كثيرًا معها وهي لن تصمت، أجابته بقوة وجدية شديدة وصوت عالي نسبيًا:


-أنا لسه معملتش حاجه يا اسطى جاد ومحتاجة تفسير دلوقتي على اللي بيحصل ومتفكرش أنك تاكل بعقلي حلاوة ولا تهرب مني 


أقترب منها أكثر إلى أن وقف أمامها مباشرةً والجميع يجلس يستمع إلى ما يحدث وينظرون إليهم ولا أحد يفهم لما كل هذا!، صدح صوته الرجولي الخشن وهو يعنفها قائلًا:


-وطي صوتك واحترمي نفسك يا هدير، أنا قولتلك قبل كده بينا شغل 


تجرأت وبصوتٍ عالٍ أمامهم أظهرته، غير صادق، مراوغ يفعل شيء مُحرم من وراءها:


-كداب يا جاد.. كداب وستين كداب لأن عبده قال إن ملهاش شغل عندك 


جن جنونه عن حق عندما استمع إلى هذه الكلمات الأخيرة، واشتعل صدره بالنيران أكثر من السابق، متى رأت "عبده" ولما تحدثت معه وكيف!، نظر إليها بعينين اختفى بريقهم تمامًا متسائلًا بعنف:


-وأنتِ شوفتي عبده فين وبتكلميه ليه أصلًا


وضعت يدها أمام صدرها مرة أخرى وحركت قدمها اليمنى باستفزاز أمامه قائلة بسخرية:


-سيب الموضوع بقى وامسكلي بتكلمي عبده ليه 


جذب يدها من أمام صدره بكفه العريض جاعلها تقف معتدلة ضاغطًا بيده بقوة عليها وهو يصرخ بها:


-ايوه بتكلميه ليه، ها 


بكامل القوة التي تعرفها وبشراسة "هدير" المعهودة للغريب حضرت عليه لتجادله في وجهه وبكامل العناد المعروف قالت:


-علشان أعرف كدبك يا جاد 


نفض يدها من بين يده بحدة وقوة لتترنح للخلف وهو يصرخ بها غير قادر على فعل شيء آخر وهي لا تصمت وإن استمرت على هذا لن تمر الليلة مرور الكرام:


-قولت احترمي نفسك بقى 


استدعى الأمر أن يقف "سمير" على قدميه أمام الجميع بعد أن توتر الجو أكثر من اللازم ولا أحد يعلم كيف سيتدخل بينهم وليس هناك فرصة من الأساس، هتف بجدية:


-صلوا على النبي يا جماعة مش كده 


ابتلعت والدته ما وقف بحلقها وتخاف حقًا من توتر هذه الليلة بينهم أكثر من ذلك، فهي تعلم أن "هدير" لا تقف قبالته هكذا بل هي مطيعة ولا ترفع صوتها عليه، ولكن يبدو أنها ضغطت على نفسها أكثر من اللازم:


-والله دا شيطان ودخل بينكم يا حبايبي.. اهدا يا جاد مش كده يا حبيبي 


نظر إلى والدته بعينين تشتعل غضبًا، لما تقول له هو أن يهدأ فهو لم يفعل شيء من الأساس، هي التي تقف أمامه بكامل قوتها وترفع صوتها عليه:


-هو ايه ده اللي اهدا انتوا مش شايفين الهانم بتتكلم إزاي 


نظرت "مريم" إلى والدتها بقلق وهم الاثنين من الأساس لم يفهموا شيء ومن هذه المرأة كمثل والده بالضبط من رآها فقط هو عمه وزوجته ووالدته التي استمعت إلى حديثها الغريب له في المشفى مع "سمير"..


هتفت والدتها بهدوء ولين وهي تشير إليها بعينيها:


-مش كده يا هدير.. الكلام مش كده 


أخذ "جاد" نفسًا عميقًا وزفره بقوة والضيق يكاد يخنقه، رفع نظره إليها وجدها تنظر إليه كما لو كانت رأته بين أحضان أخرى غيرها وبعينيها نظرة عتاب غريبة لم يفهمها:


-يلا.. يلا انزلي معايا روحي 


عاندت معه أكثر من السابق وهي تتحدث بثبات مُصرة على موقفها معه ولن تكررها إلا عندما تفهم ما الذي يحدث من خلف ظهرها:


-مش مروحة معاك يا جاد غير لما أفهم ايه اللي بيحصل من ورايا 


جعلته يغضب أكثر من اللازم وهو يقترب منها غير متوقع أنها سترفض الذهاب معه إلى بيتها:


-مش مروحة معايا إزاي يعني هو بمزاجك 


بكامل القوة الهشة التي تحتمي بها من منقذها وسندها الوحيد أجابت:


-آه بمزاجي 


تسائل بسخرية وتهكم واضح أمامهم وهو ينظر إلى عسلية عينيها الحزينة المعاتبة:


-وهتروحي فين إن شاء الله؟. هتنزلي تقعدي عند أمك وتبقي كده الست الغضبانه 


هذه المرة من وقفت هي والدتها، التي خافت بشدة من عناد ابنتها صلبة الرأس والتي تعرفها جيدًا، ماذا سيحدث أن تركت بيتها وأتت لتجلس معها، ما الذي سيقوله الناس!.. أسرعت تقول بقوة:


-لأ لأ يا جاد يا بني معنديش بنات تغضب هتروح معاك بس انتوا استهدوا بالله 


نظرت إلى والدتها تنفي حديثها ثم مرة أخرى إليه تنفي حديثه بجدية وثبات:


-لأ مش هروح معاه ومش هنزل عند أمي يا جاد هقعد هنا مع أمك وأبوك أنتَ 


أقترب منها "جاد" ضاربًا بحديثها عرض الحائط أمسك بيدها يحثها على الذهاب وهو يهتف بجدية ووجه جامد دون تعابير:


-طب يلا بلاش جنان انزلي معايا 


جذبت يدها منه بحدة وعصبية تبتعد عنه وصرخت به بقوة لتجعله يغضب إلى أن يصل إلى ذروة غضبه:


-قولتلك مش نازلة معاك 


وقفت والدته سريعًا وهي ترى "جاد" يحاول جاهدًا في السيطرة على نفسه وألا يتهور ويفعل أشياء يندم عليها، أقتربت منها ووضعت يدها على كتفها قائلة بحنان ربما تمتص غضب الموقف:


-معلش يا هدير يا حبيبتي روحي معاه واتفاهموا بالراحة 


أقتربت والدتها هي الأخرى مُكملة:


-انزلي يا بت مع جوزك بلاش فضايح 


أبصرتها بقوة وعينيها مُتسعة بذهول وابتعدت عنهم هم الاثنين بهمجية تقف أمامهم في ركن بعيد قائلة بعناد: 


-فضايح؟.. فضايح ايه أكتر من اللي هو عملها.. طب.. طب اسألوه أنا عامله كده ليه.. اسالوه هتجنن من ايه


إلى الآن والده يستمع وينظر كما أخيه وزوجته ومن الأساس لم يفضل أن يكون هذا العرض أمام الجميع بهذه الطريقة، لا يعرف ما الذي حدث ولا يريد التدخل من الأساس ولكن ثبات زوجة ابنه على موقفها يدل على فعله لشيء حقًا: 


-عملت ايه في مراتك يا جاد 


رفع عينيه عليه مُجيبًا إياه بهدوء قائلًا ما يستطيع التصريح به فقط لأنه لا يعلم ما الذي تريده منه "كاميليا" وإن تحدث بهذا من هنا إلى العام القادم زوجته لن تصدق:


-هكون عملت ايه يا حج، الهوليله دي كلها علشان غيرانه من واحدة زبونه عندي 


جن جنونها وصرخت به بهستيرية غير جاعلة والده يأخذ فرصة الرد بل أقتربت منه بسرعة كبيرة تقف أمامه تنظر إلى عينيه وبصوتها العالي قالت:


-اهو بتكدب يا جاد.. أول مرة دخلت بيها وأنت شايلها على إيدك وقولتلي أنك ساعدتها وجبتها عندي وأنا معترضتش بالعكس شيلتها على دماغي والله أعلم ايه اللي حصل أصلًا.. ومن بعدها وهي إتصالات في نص الليل وفي كل وقت وكام مرة تيجي الورشة بدون داعي وعبده قالي إنها مالهاش شغل عندك يبقى ايه 


صرخ هو الآخر بقوة وقد ضغط على صبره كثيرًا وإلى هنا وقد أرسل له رسالة بأنه حقًا نفذ منه ولن يستطع الصمود أمامها أكثر من ذلك:


-يبقى تخرسي


لم تكتفي من حديثها السابق بل أرادت أن تجعله يأتي بأخره وهي تعانده بقوة أمام الجميع وهذا احرقه بشدة مُكملة كما كانت:


-لأ مش هخرس.... مش هخرس غير لما أفهم درجة القرب بينكم ايه يخليها تقولك جاد من غير أي احترام.. درجة القرب ايه اللي تخليها تيجي قدام الكل في المستشفى وتقولك معنديش أغلى منك اتعب علشانه هاا


افترب منها وهو يضغط على قبضة يده وعلى حين غرة رفعها في الهواء يهوي بها بكامل قوته ناحيتها وهو يهتف بصوتٍ عالٍ جهوري أفزع الجميع:


-بقولك اخرسي بقى


ضغط على صبره أكثر من اللازم أمامهم وهي على موقفها لا تريد أن تحيد عنه، ماذا يفعل؟. ماذا يفعل وهو نفسه لا يعلم ما الذي يحدث!.. هي من جنت على نفسها بفعلتها هذه أمام الجميع، بوقفتها أمامه تصرخ به وتقلل منه أمام عائلته وعائلتها، هي من تخلت عن الأخلاق ورفعت صوتها عليه وأظهرت كثير من صفاتها أمام ابن عمه.. إذًا لتتحمل..


#ندوب_الهوى

#الفصل_الثاني_والعشرون

#ندا_حسن


صدمت بشدة وارتسم الذهول على ملامحها وهي تراه يتقدم ناحيتها قابضًا على يده بقوة وكأنه سيضرب كيس ملاكمه، ارتعد جسدها من اقترابه أكثر وأكثر والجميع ينظر إليه بذهول ولم يتحرك أحد، ابتلعت مرارة العلقم الذي وقف بجوفها خوفًا من تهوره عليها.. لن يفعلها مؤكد لن يتهور عليها هذا ليس من صفاته مهما حدث... ارتعشت شفتيها من صوته العالي الذي أتى مرة واحدة وعلى حين غرة منه وكأنه ألقى كل صبره عرض الحائط..


انتفض جسدها وهي تراه يقف أمامها وليس هناك شيء يفصل بينهم يرفع قبضة يديه ليضرب بها الحائط جوار رأسها تمامًا..


أغمضت عينيها بقوة والخوف يحتل كيانها من تهوره أمام الجميع هنا، وقف ينظر إليها بقوة وهي مغمضة العينين يلهث بعنف وقد نفذ صبره وتحمله وأتى بآخر ما عنده وليحدث ما يحدث.. يكفي هذا الضغط عليه فهو لا يتحمل أكثر من ذلك ويرى نفسه يسير في زفاف ولا يدري هو لمن!.. 


استنشقت أنفاسه العنيفة وهو يلهث أمامها بعنف ووقفت هي بضعف تفتح عينيها بهدوء وقلة حيلة بعد أن جعلته يفقد صوابه، الآن ستعود تلك البريئة لتتلاشى هذا الغضب، نظر إلى داخل عينيها بعمق يرمي بسهام العتاب عليها، مُختق مما فعلته أمام عائلاتهم، ما يحرقه أكثر شيء هو وقوفها أمام وجهه في حضور الجميع!..


عاد للخلف خطوة ثم بكامل قوته قبض على يدها لتنظر إلى يده الممسكة بها بألم ثم عادت إلى نظرته مرة أخرى لتراه يهتف بجمود ونظرة حادة:


-يلا


أمام الجميع وفي صمت تام جذبها معه إلى باب الشقة ليرحل من هنا، وضع كف يده الأخرى خلف ظهرها يدفعها معه للأمام وهي لم تقابله بالاعتراض، بل كان الصمت والذهول حليفها تاركة قوتها وعنفوانها لمرة أخرى.. ففي هذه الحالة التي وصل إليها لا تعلم ما النتيجة التي ستحصل عليها..


نظرت العائلة جميعها إلى بعضهم البعض بذهول تام لما حدث أمامهم بين ابنهم الحكيم وزوجته المعروفة بأخلاقها.. اقتربت والدته تجلس جوار والده وداخلها أفكار عديدة وعدة لا تعرف ما السبيل للتخلص منها، فهي ترى أن زوجة ابنها محقة في سؤالها ولم تخطئ، خطأها الوحيد هو الوقوف أمامه بهذه الطريقة أمامهم..


ذهبت "مريم" وعلى وجهها آثار الحزن لما حدث لشقيقتها وما قد يحدث بينها وبين زوجها وهم مغلق عليهم في بيت واحد، جلست جوار زوجها ووضعت يدها على يده تتمسك بها بقوة والتأثر واضح عليها بقوة، نظر إليها هو الأخرى وابتسم إليها بتصنع يمدها بالدعم والراحة وهو يضغط على يدها بكفه الآخر اعتقادًا أنها هكذا ستهدأ..


الجميع كان في حالة صدمة تامة وأكثرهم والده الذي غضب لما فعله ابنه، لم يكن يتوجب عليه فعل كل ذلك، ولم يكن يتوجب عليه رفع صوته عليها هكذا أمام الجميع، كان من المفترض أن يمتص غضبها ثم في منزلهم ييتحدث معها بهدوء وراحة..


فتح باب شقته بمفتاحه الذي معه ثم دفعها للداخل بقوة وولج من خلفها يغلق الباب بعنف وقوة اهتز لها الباب بعد غلقه وجعلتها تستدير تنظر إليه برهبة وخوف حقيقي هذه المرة!.. هل كانت تحتمي بعائلته هناك لذا فعلت ما تريد وباعت خوفها في وجودهم!..


عادت للخلف خطوة وهو يتقدم إلى الداخل، تنظر إلى وجهه الذي تغيرت ملامحه وأصبحت شرسة عنيفة وكأنه تناسى كل شيء ما عدا فعلتها، عينيه تنظر إليها بثبات عميق وقوة حقيقة يدقق ما تفعله..


ألقى المفاتيح ونظره مُعلق عليها وهي تبعده بخطوات، جسدها تقريبًا بدأ يرتعش والخوف يظهر عليها وسكوتها أظهر ضعفها أكثر، تفهم الآن أنها ستصمت بسبب ما فعلته وجعلته يتوصل إليه..


وجدته يتقدم منها بجسده العريض الذي نظرت إليه الآن بقوة ونظرته الشرسة ناحيتها، وقفت بثبات تحاول التحلي به أمامه وهو خائر وهش للغاية، سألها باستنكار وغضب عارم:


-من امتى وأنتِ بتكلمي رجالة غريبة


ابتلعت ما وقف بجوفها مرة أخرى والرهبة تظهر عليها بوضوح ناظرة إلى عينيه بعمق وأجابته بتردد وكذب:


-أنا مكلمتش حد 


ضيق عينيه عليها ودقق النظر بها وبجميع أعضائها التي تظهر أمامه، يرى خوفها حقيقي ولكن سيضغط عليه أكثر لتتعلم كيفية التصرف بعد ذلك:


-وعبده؟..


اردفت قائلة بثبات مزيف يهتز أمامه وهي تبرر له ولنفسها قبله ذلك الخطأ الذي فعلته عندما توجهت إلى"عبده":


-دا صاحبك يعني مش غريب 


أقترب منها على حين غرة جاذبها إليه من معصم يدها ليجعلها تكون في مواجهته مباشرةً، صاح بحدة وعنف ونظراته تظهر عنفوانه:


-لأ غريب.. غريب وستين غريب، بتكلميه ليه وتديله فرصة يقف معاكي ويبصلك 


حاولت جذب يدها بهدوء وهي تكرمش ملامح وجهها ألمًا مُجيبة إياه بضجر:


-مبصليش يا جاد هي كلمة ورد غطاها 


نظر إليها هذه المرة بدهشة وذهول فهي تبرر كذب فقط ليصمت أو يتركها.. فقط لتمر الليلة بهذا الحديث الذي يستنكره إلى أبعد حد!:


-أنتِ بتستهبلي عليا!.. غلطاتك كترت ومحتاجة حد يفوقك من اللي أنتِ فيه


هنا عادت شراستها مرة أخرى وتناست خوفها منه وعليه وأردفت بقوة حقيقية ثابتة واثقة وهي تنظر بعمق داخل تلك الرماديتين:


-أنا مغلطش، أنا كنت بسأل على المدام اللي أنتَ مش عايز تقولي عايزة منك ايه ولما سألت طلع كلامك كدب ومالهاش شغل عندك 


صدح صوته يصرخ بوجهها وهو يضغط على يدها جاذبها ناحيته أكثر لتكن أمام وجهه الغاضب بعنف: 


-وبتسألي ليه.. مش من حقك تدخلي في شؤوني وأنا لما ابقى عايز أعرفك حاجه مش هستنى 


قضبت جبينها باستغراب وتسرب إليها الضعف بعد استماع حديثه الذي يثبت أنه يخفي عنها شيء يخصه مع "كاميليا"!:


-يعني أنتَ مخبي عني أهو يا جاد ومش عايز تقولي 


لقد أخطأ في حديثه وأثبت إدانته أمامها وتحت مسامعها وناظريها، يا له من غبي يستحق العقاب، تغاضى عما فعله وعن سؤالها أيضًا يهتف بصوتٍ جاد:


-ده شيء مايخصكيش 


حضر غضبها بقوة وشراسة لأنه يسلب حقها به بكامل الغرور والعنجهية وكأنها ليست إمرأة تحمل اسمه وتكن له النصف الآخر بحياته ورفيقة دربه إلى الممات!.. صاحت بعنف وغضب وهي تجذب يدها بعنف أكثر قوة منه وتضربه على صدره باليد الأخرى بهمجية شديدة:


-لأ يا جاد يخصني أكتر منك.. أنتَ جوزي ومهما حصل هتفضل كده ومن حقي أنا بس.. والست دي والله لو شوفتها معاك تاني مش هيحصل طيب


أكملت بغضب أكبر من السابق وهي تستمر في ضربه بيدها الحرة:


-إلا بقى لو كنت أنتَ اللي عايز كده 


استغربت صمته ونظرته الثابتة عليها!.. لماذا لم يُجيب؟. أهو يريد ذلك حقًا؟ بقبضة يدها قامت بضربة بقوة جعلته يتألم بسبب وجود دبلتها في إصبعها وهي من قامت بتعظيم الضربه على صدره:


-مبتردش ليه!.. أنتَ عايز كده بجد؟..


تأوه أمامها بقوة بعد أن شعر بألم الضربه على صدره، أمسك يدها الأخرى ليقيد حركتها صارخًا بوجهها بعنف وقوة:


-أنتِ اتهبلتي!.. رسمتي قصة وسيناريو في دماغك وخلاص بقى كده.. بقيت مع واحدة تانية!..


صرخت أمامه بهمجية شديدة تريه إنه هو من فعل كل ذلك وهو من وصل بهم إلى هذه النقطة المغلقة:


-كلامك وطريقتك بتقول كده 


نفض يدها الاثنين من يده وعاد للخلف خطوة مُبتعدًا عنها وهو ينظر إليها بعتاب خالص، نظرته أصبحت الآن حزينة مُرهقة، يشعر بالخذلان بسبب تفكيرها به بهذه الطريقة الغبية وعدم ترك فرصة له ليتفهم ما الذي يحدث:


-لا كلامي ولا طريقتي ولا أفعالي قالت حاجه.. أنتِ اللي قولتي ولو كنتي مراتي بجد كنتي عرفتي أنا بعمل ايه وهعمل ايه.. كنتي عرفتي إني مستحيل ابص لوحدة غير مراتي مش علشانك لأ ولا علشان بحبك، علشان خايف من ربنا.. علشان بخاف على أهل بيتي لكن أنتِ غيرتك وعبطك اللي ممشيكي 


هل هو على حق!.. يبدو كذلك فهو لا ينظر إلى أخرى غيرها، وليست هذه من صفاته إنه يعرف الله جيدًا ويحب طريق الخير لا غير ذلك!.. تفكيرها به كان خاطئ حقًا ولكن ماذا عنها!.. إنها تريد شيء منه، هي واثقة من ذلك تشعر بما تريده ولن يكون هذا الشعور خطأ، اقتربت منه هذه الخطوة الذي أبتعد بها وقالت بهدوء تمتص حزنه منها:


-طيب أنا غلطانه في حقك وأنتَ معملتش حاجه، هي بقى؟.. هي عايزة منك ايه وليه بتتكلم معاك كده.. يا جاد علشان خاطري قدر اللي أنا فيه حط نفسك مكاني!..


زفر بضيق وانزعاج شديد وهو يستدير بوجهه للناحية الأخرى ثم عاد إليها بنظرة قائلًا بنبرة هادئة مُرهقة:


-أنا معرفش هي عايزة ايه وفي الآخر هتلاقيها مش عايزة حاجه.. أنتِ قولتي قبل كده لا هي مننا ولا من توبنا، ده غير أنها ست متجوزة واللي إحنا بنعمله ده غلط إحنا بنخوض في عرض الناس.. ومتنسيش بقى أن كلامهم ده طبيعي عندهم مش بيحافظوا عليه لكن إحنا غير 


عاندت حديثه وهي تُجيب بقوة وتشير إلى موضع قلبها الذي تشعر من خلاله بشيء ما قادم منها سيغير حياتهم:


-لأ.. لأ أنا حاسه أنها عايزة منك حاجه وحاجه غلط كمان أنا من أول يوم وأنا مش مرتاحة ليها 


سخر منها وهو يضع يده الاثنين أمام صدره العريض رافعًا أحد حاجبيه بضجر:


-المفروص إني أمشي ورا إحساسك وأروح أقولها أنتِ عايزة مني ايه؟.. ده لو شوفتها تاني بعد اللي عملتيه 


صدح صوتها بقوة أمامه وهي تشير بيدها بهمجية:


-وأنتَ عايز تشوفها ليه إن شاء الله


أخفض يده عن صدره وأردف بعنف وضيق شديد وهو يضغط على شفتيه السفلى بأسنانه:


-اللهم طولك يا روح.. بأمانة أنتِ أغبى واحدة شوفتها في حياتي 


دافعت عن تفكيرها الذي يتحدث عنه موضحة له موقفها ونظرتها للأمور:


-أنا مش غبية أنا فاهمه كل حاجه وأنتَ اللي بتستهبل عليا... ولا حاسس بيا أصلًا


تسائل بجدية وهدوء في ذات الوقت وهو ينظر إليها محاولًا السيطرة على نفسه فقد ارهقته وهي أيضًا يبدو عليها الإرهاق الشديد من هذا النقاش الحاد:


-مش حاسس بيكي ليه؟.. قوليلي ما أنا واقف أهو بحاول اتفاهم معاكي وأعرفك أن مفيش حاجه


بجدية شديدة اقتربت منه أكثر وأردفت بقوة مطالبة بشيء ما يجعلها تصدق حديثه وهي تذكرة بما حدث بينهم منذ فترة:


-اثبتلي يا جاد؟.. متزعلش مني أنتَ مش فاكر عملت ايه معايا على حوار الصور اللي أنا مكنش ليا دخل فيها أصلًا؟. أنتَ يعتبر لسه مكلمني يا جاد.. كنت مقاطعني علشان...


قاطعها قبل أن تكمل حديثها المسموم الذي تزعجه به وتذكره بما حدث بينهم بعد أن حاول أن يتناسى في هذه الأيام الأخيرة:


-المفروص كنت أعمل ايه يعني وأنا شايف صورك متوزعه على الكل رجالة وستات بيملوا عينيهم منك وكل ده بسبب غبائك 


اردفت قائلة بضيق وانزعاج:


-بردو هتقولي غبية 


أومأ إليها بقوة مؤكدًا حديثه بثبات وجدية وهو يتجه ناحية باب الشقة:


-آه غبية وستين غبية وأنا غلطان أنا بتكلم معاكي أصلًا


تسائلت باستغراب وهي تراه يتجه إلى باب الشقة وكأنه ينوي الرحيل:


-رايح فين 


أجابها ببرود مُستفز قائلًا:


-هبات عند أمي


تفاجات من رده الغريب وتسائلت باستنكار:


-نعم؟..


زفر بهدوء وهو يتمسك بالباب بعد أن فتحه ناظرًا إليها بعمق داخل عسلية عينيها التي تسحره:


-مش علشان حاجه يا هدير.. أبويا تعبان والمفروض أكون معاهم وهسيبك لوحدك يمكن تفكري كويس وتعقلي بقى..


خرج من الشقة وأغلق الباب خلفه بهدوء تاركًا خلفه قلبًا ينذف ألمًا لما واجهه على يده، أنها تشعر بالغيرة الشديدة التي تنهش قلبها من الداخل وتجعله يتلوى على نيران مسكوب عليها بنزين بشراهة ليحترق في لحظة خاطفة..


رأته وهو يحاول أن يجعلها تصمت ثم حاول أن يتحدث معها باللين وهي من أوصلته إلى حالة الغضب هذه والآن عاد مرة أخرى يحاول معها باللين ليتخلص من ذلك العبء وذلك الحائل الذي يقف بينهم..


تنهدت بعمق وهي تخلع حجاب رأسها عنها ثم توجهت إلى الصالة في الداخل وألقت بنفسها على الركنية تنام على ظهرها تنظر إلى سقف الصالة بضياع وعقلها لا يستوعب التفكير أكثر من ذلك..


فقط تود لو كل شيء يمضي وتعود حياتهما كما كانت في السابق، لا تفعل أي شيء سوى أنها تتدلل عليه ولا يفعل أي شيء سوى أنه ينعم بكامل الحب معها!..


إلى الآن لم يكن يمرر أمر الصور تعرف أنه يزيد الحمل في هذا الأمر عليها ولكن مع ذلك وجدت داخله أنه كاد يمضيه!.. ليأتي أمر هذه المرأة الغريبة عنهم إلى أبعد حد وتتدخل بينهم وتفسد جمعهم..


من أمر الصور إلى هذه!.. يا الله كم أن الزواج مُرهق مع هذا "جاد الله"!..


                                  ❈-❈-❈


بعد أن عاد "جاد" إلى والده مرة أخرى ورسم على وجهه ملامح الهدوء والراحة حتى يفهم أن الخلاف الذي حدث بينه وبين زوجته قد مر وتناسى ما حدث به الأساس..


ورأى الجميع ذلك وهناك الكثير منهم لم يدلف الأمر عليه بهذه السهولة، ذهب كل منهم إلى بيته وبقيٰ هو فقط هناك، طلب منه والده العودة إلى زوجته رفض رفضًا قاطعًا فطلبت والدته أن يأتي بها إلى هنا رفض أيضًا معللًا بأن هذه أفضل لهم هذه الليلة..


هبط "سمير" على درج المنزل ليذهب إلى شقته ومعه زوجته "مريم" التي هتفت وهي تدافع عن شقيقتها بعدما قص عليها ما حدث في المشفى:


-طب ما هدير كده مش غلطانه.. أي واحدة مكانها هتعمل كده وأكتر 


رفع حاجبه وهو يستدير ينظر إليها قائلًا:


-يعني أنتِ لو مكانها هتعملي كده؟


تحولت نظرتها عندما وضعها في مثل ذلك الموقف وهتفت بقوة وهي تنظر داخل عينيه:


-وأكتر من كده كمان.. أفهم عايزة ايه وإزاي تتكلم بالطريقة دي أنتَ نفسك بتقول استغربت وبقيت مش فاهم هي إزاي تتكلم كده ولا كأنه من بقيت أهلها


عاد مرة أخرى يتفق معاها وهو يكمل سيره إلى الأسفل على الدرج قائلًا بجدية مُستنكر وقفتهم أمام الجميع:


-مقولتش حاجه بس المفروض مكنش يكون قدامنا كل اللي حصل ده 


وضعت يدها على ظهره وهي تهبط بهدوء وراحة بعد أن شعرت بتوعك معدتها، أجابته بصوتٍ خافت:


-أكيد في حاجه إحنا منعرفهاش وإلا مكنتش عملت كده 


هتف بجدية شديدة مدافعًا عن ابن عمه وشقيقه وهو يخرج من باب المنزل إلى الشارع يعبر معها الناحية الأخرى لمنزلهم:


-أيوه بس جاد مابيعملش حاجه غلط.. هو أكيد فاهم هو بيعمل ايه 


نظرت إليه في سيرها بقوة مستغربه من موقف هذا مع ابن عمه حتى ولو كان في الخطأ!..:


-بلاش تدافع عنه.. يعني يسمحلها تطاول معاه بالشكل ده قدام مراته وتستفزها قدامنا إحنا كمان وتقولي مش بيعمل غلط 


برم شفتيه للأمام قليلًا وهتف وهو يخمن داخل عقله:


-قصدي إن فيه سبب


دلفوا إلى منزلهم وببطء تصعد الدرج خلفه قائلة بجدية مثله مستمرة في الدفاع عن شقيقتها:


-وليه يخبي السبب ده عنها ويزعلها بالشكل ده ويحرجها قدامنا 


تضايق منها ومن حديثها فهتف بعناد يظهر أنها كانت من الممكن أن تصمت لحين وصولها منزلهم:


-أختك هي اللي اتكلمت قدامنا وهو حاول يسكتها.. كان ممكن تستنى لما تروح بيتها معاه


أجابته هي الأخرى بضيق وانزعاج تكمل حديثه الفظ:


-أهو مشي معاها ورجع تاني ايه اللي حصل يعني


زفر بضيق وانزعاج وهو يرى على بعد مسافة عراك وشيك بينهم فـ أنهى الحوار ببساطة: 


-بقولك ايه بلاش وجع دماغ الموضوع مايخصناش مش هنتخانق عليه 


نظرت إليه بسخرية وودت الضحك وهي تهتف:


-مكنتش هتخانق أصلًا أنتَ اللي......


بترت حديثها وهي تشعر بتوعك معدتها أكثر وتشعر بأنها تود التقيؤ، كرمشت ملامحها وهي تزفر بعنف، نظر إليها وتسائل بقلق ولهفة ظاهرة على ملامحه:


-مالك؟


أشارت إلى باب الشقة وتحدثت بصعوبة وهي تضع يدها على فمها:


-أفتح الباب


وضع المفتاح بالمزلاج سريعًا وهو يراها تضع يدها بقوة على فمها، فُتح الباب فدلفت تركض إلى المرحاض بسرعة كبيرة، ذهبت من خلفه في لمح البصر فشعر بالقلق الشديد وهو يغلق الباب بعد أن أخذ منه المفتاح ودلف خلفها بسرعة يهتف بلهفة:


-مريم.. مالك 


دلفت إلى المرحاض والباب مفتوح وأخذت تتقيء بقوة وعنف فدلف خلفها ليقف جوارها، فتحت صنبور المياة لتغسل وجهها بالمياة الباردة وهي تهتف بقلة حيلة:


-مش عارفه 


أردف بعد أن لاحظ أن هذه ليست المرة الأولى في هذه الفترة القصيرة:


-دي مش أول مرة تحصل أنتِ محتاجه تروحي لدكتورة تشوف مالك


شعرت هي أيضًا بوجود خطب ما ربما ستحبه كثيرًا وتشعر به حقًا!.. أومأت إليه مؤكده:


-أيوه... أيوه هروح 


أمسك بيدها يحثها على السير إلى الخارج وهو معها بهدوء وراحة:


-طيب تعالي.. تعالي ارتاحي شوية 


اردفت وهي تسير جواره بعد أن فكرت فيما تريده الآن بالتحديد، نظرت إلى جانب وجهه وقالت بهدوء:


-أنا عايزة حاجه حادقة


ابتسم بهدوء وتحدث بجدية ونبرة رجولية هادئة:


-اجبلك ايه طيب 


-عايزة مانجا 


استنكر طلبها ونظر إليها باستغراب وأردف مُجيبًا إياها:


-وهي المانجا حادقة، مش المفروض الحادق ده جبنه قديمة مثلًا


جلست على الأريكة وأردفت بقوة:


-أنا عايزة مانجا وخلاص الله 


ابتسم بهدوء ومال على رأسها يقبلة بحنان وهدوء وقال ناظرًا إليها بحب:


-حاضر.. هنزل اجيب مانجا، حاجه تاني؟


ابتسمت إليه هي الأخرى شاعرة بكم كبير من الحب الذي يلقيه عليها دون مقابل منها:


-لأ.. 


تحرك ذاهبًا ناحية باب الشقة ليهبط مرة أخرى يأتي بما طلبته ولكنها استوقفته قائلة:


-آه استنى


أجاب بهدوء وهو يستدير إليها وكل ما تفعله مُحبب إليه:


-نعم يا حبيبتي


ابتسمت بخجل وهي تخفي عينيها بوضوح وقالت بصوتٍ خافت:


-عايزة تين مع المانجا 


وكأنها تطالب بالحب منه وهذا ما يريده ليس إلا:


-حاضر.. غيره!


-لأ كفاية كده 


ذهب إلى باب الشقة وخرج منه بهدوء ذاهبًا يلبي طلبها ويأتي بما تريد، ونظرت هي في أثره تبتسم بسعادة على كم الحب هذا، والحنان الذي يلقيه عليها من كل جانب دون انتظار منها أي شيء يقابله..


الله يغدق عليها بنعم كثيرة تعوضها عما واجهته من قبل، والآن المكافأة الكبرى ستكون طفل داخل أحشائها!. أنها تشعر به..


                                  ❈-❈-❈


"صباح اليوم التالي"


استيقظ "جاد" في الصباح وجد أن والده ووالدته يجلسون في شرفة المنزل ليستمتع والده ببعض الهواء المنعش، دلف إلى المرحاض وخرج إلى شرفة المنزل ليطمئن على والده ثم من بعدها هبط ليذهب إلى زوجته ليفعل ما تحدث به بالأمس مع والده..


حيث أن بعد رحيل الجميع بقى هو ووالديه فقط في الشقة فبدأ والده بالأسئلة التي هبطت عليه على حين غرة منه وهو يحاول أن يفهم ما الذي فعله بزوجته لتكن بتلك الحالة الثائرة أمام الجميع وهي التي تتمتع بأخلاق حميدة ولا ترفع صوتها أمام أحد..


مؤكد أنه قادها للجنون بفعله خاطئة فحدث ما حدث، ولكن رد "جاد" بقيٰ كما هو أنها تشعر بالغيرة فقط من إمرأة ليست تليق به بجميع الحالات، فقط كان لديها عمل معه وفي مرةٍ قام بمساعدتها لذلك مثل أي شخص طبيعي قامت بتلبية نداء الواجب أمامه على الأقل..


وادعى أن ما فعلته زوجته هو الذي كان خاطئ لأنها جعلته يبدو كدمية هي من تحركه ولم يكن له دور في أي شيء وبالخصوص أمام تلك السيدة التي اهانتها في بيته..


جعله والده يصمت بعد قول كل ذلك ولم يعطي إليه الفرصة ليكمل بل قال هو أن هذا البيت ملك لزوجته قبل منه، والبيت الآخر ملك لها هي وشقيقتها قبله هو وابن عمه، جعله يشعر بالندم لما فعله وهو يوبخه بسبب صراخه عليها أمام الجميع وتهوره الذي جعله يرفع يده في لمح البصر ليهوى بها على الحائط وكأنه سيضربها.. 


كان من الممكن أن تمتد يده إليها، لقد جعله يشعر بالخجل من نفسه لأنه فعل كل هذا وفي حضورهم اعتقادًا أن ليس هناك أحد يقف قبالته ويأخذ حقها منه ولكن والده ما زال حي يرزق ولن يرضى بأن يفعل أي من هذا بها لأنه منذ أن تزوج منها وهو يستمع عنها كل طيب يجعله يرفرف لأنها كانت من نصيب ابنه..


أكمل توبيخه جاعله يشعر بالخذلان من نفسه لأنه لم يعطيها حق الغيرة والخوف عليه بل سلبه منها وكأنها امرأة غريبة عنه لا يحق لها الحديث ولا التدخل في شؤونه، لا يحق لها أن تشعر بالغيرة وقلبها يحترق لأجل نظرة واحدة منه لغيرها أو العكس!.


وما جعله يحزن بشدة عندما تحدث عن أمر الصور التي كانت في الحارة، قال بأنها لم يكن لها يد بما حدث بل كانت ضحية مثله تمامًا وكان من المفترض أن يكون هو الاحتواء والأمان لها في مثل هذا الموقف، وحقيقة لم يكن يتوقع منه تركها بل ومعاقبتها، لقد تفاجأ من حديث والدته عن ما فعله معها!..


خجل "جاد" بشدة من نفسه وهو يقلب حديث والده داخل رأسه، إنها حقًا لها كامل الحق في شعورها بالغيرة عليه مثلما يفعل هو تمامًا، لما قد يسلب منها هذا الحق؟.. لما؟.. 


هو فقط ما ضايقه وقفتها أمام الجميع وصراخها عليه، ارتفاع صوتها وحركاتها الهوجاء الذي أظهرت كثير عنها أمام ابن عمه وهذا لا يجوز، حديثها مع "عبده" دون خجل أو خوف منه..


إذا بحث عن أسباب تضايقه أكثر سيجد ولكن أيضًا مهما حدث هي إمرأة وأنثى رقيقة ناعمة مهما أظهرت أنها شرسة وعنيفة فهي ليست كذلك معه، عليه أن يقوم باحتوائها والاعتذار منها عما بدر منه وأهم من كل هذا أن يجعلها تطمئن من "كاميليا" ويبعد ذلك التفكير السيء عن رأسها..


فتح باب الشقة بمفاتحه ثم دلف إلى الداخل وأغلقه خلفه، رفع نظرة إلى الصالة بعد أن خلع حذائه ليجدها تنام في الصالة!.. تنام في الصالة بملابسها منذ أمس حتى أنها لم تبدلها لأخرى بيتيه فقط قامت بخلع الحجاب عن رأسها!..


تقدم إلى الداخل بهدوء وهو ينظر إلى الساعة التي أصبحت الحادية عشر صباحًا، ذهب بهدوء شديد حتى لا يزعجها ويتأمل مظهر طفلة صغيرة نائمة في بيته قليلًا..


اتكأ على يده ثم جلس على الأرضية أمامها، أمام وجهها مباشرةً ينظر إليها بعمق وقد أنتج ذلك حزن كبير في قلبه بسببه هو فقط!..


نظر إلى وجهها بدقة ليرى عينيها منتفخة بقوة جعلته يلاحظها من نظرة واحدة، ووجهها على غير العادة يبدو مُرهق إلى حد كبير لم تصل إليه معه من قبل، ربما كانت تبكي هنا منذ أن تركها ورحل!..


هو لم يقصد أن يفعل أي شيء يجعلها حزينة بل قام في الأمس بمحاولة الحديث معها ورحل دون صراخ أو أي شيء وشعر أن أمر مصالحتها سيكون سهل!..


يتأملها ولا يدري ما الذي حدث بينهم! لقد كانوا من أسعد البشر، زوجين ولا أروع منهم، تعطيه ما يريد ويبادلها بذلك، حتى إنه من قبل الإعتراف بالحب لبعضهم كانوا أفضل من هذه المرحلة بكثير، كيف وصل معها إلى هذا الطريق المغلق الذي علقوا به، كيف يخرج منه من الأساس بعلاقة سليمة ليس بها ندوب تقهر!..


تنهد بعمق نافضًا كل ذلك عن رأسه، وضع كف يده على وجنتها بحنان يمرره عليها بلطف وهدوء، ثم بهدوء ورفق حاول أن يجعلها تستفيق عندما هتف باسمها بشغف وحب..


فتحت عينيها العسلية بهدوء ووجدت نهر من اللون الرمادي المختلط مع درجاته ينظر إليها بحنان وضعف يتخلله الشغف الكبير:


-صباح الخير.. كل ده نوم؟..


أبصرته بقوة وهي تفتح عينيها أكثر عليه ثم استوعبت أنه هنا يتحدث معها بأريحية!.. اعتدلت في جلستها وهي تمسح على وجهها بكف يدها ثم نظرت إليه مرة أخرى بهدوء دون حديث..


ابتسم بوجهها بحبٍ خالص وكأنه يقول لها مهما حدث بينا هنا الحب قابع داخل قلوبنا ومهما مر عليه لن يزداد شيئًا إلا حبًا، اعتدل في جلسته على الأرضية ورفع جسده ليجلس جوارها على الأريكة ثم تقدم ممسكًا بكف يدها الأيمن يرفعه إلى فمه بحنان وود:


-أنا آسف.. أنا مكنش قصدي إن يحصل أي حاجه من اللي حصلت دي 


وجدها تنظر إليه نظرة لم يفهم ماهيتها ولكنها تفهمها جيدًا، وضع يده خلف رأسها يجذبها إليه ليقوم بتقبيل أعلى جبينها أيضًا:


-أنا آسف على كل حاجه عملتها وزعلتك.. حتى موضوع الصور أنتِ مالكيش ذنب فيه وأنا اخدتك أول المذنبين أنا آسف


مد يده إلى كفها الأيسر وجذبه ناحيته ثم قبل إصبعها الحامل لدبلة زواجهم وهتف بنبرة رجولية هادئة رخيمة:


-مهما حصل أنا عمري ما ابص لواحدة تانية غيرك وعمري ما انسى اللي بينا.. وحتى لو مليون واحدة وقفوا قدامي علشان أشوف حد فيهم مش هشوف غير مراتي حبيبتي وأم ولادي إن شاء الله


ابتسمت بهدوء وعذوبة وطار قلبها يرفرف من السعادة المفرطة التي ألقاها عليه في لمح البصر وعلى حين غرة، في الحقيقة لم تكن تتوقع منه أن يفعل ذلك بل توقعت أن يستمر فيما يفعل ويكمل الجفا بينهم إلى أن ينتهي..


وهي أيضًا أن تجعل الأمر يأخذ أكبر من حجمه بينهم فيكفي ما حدث إلى الآن، ستحاول باللين أن تفعل كل ما تريد بعيدًا عن الشجار والبعد، فبعده أكثر ألمًا من جرح عميق يحتاج عملية جراحية..


أقتربت منه تضع يدها حول خصره ومالت برأسها على صدره تحتضنه بشدة وهي تتناسى كل ما مضى وتقوم بحذفه الآن من عقلها حتى تنعم بما أرادت مرة أخرى وهو عيش حياة طبيعية كما السابق مع زوجها ولكن!... لن تتخطى وجود "كاميليا" بهذه السهولة ولن تصمت إلا عندما تعرف ماذا تريد..


قابلها "جاد" بعناق كبير وكأنه يريد أن يبتلعها داخله ليشعر بتواجدها المستمر جواره، وكم كانت هذه سعادة مطلقة عندما قام باحتضانها بعد طول غياب، لم يكن يفعلها إلا وهو نائم ليلبي نداء جسده بقربها منه..


ابتعدت مُبتسمة بلين ورقة فتحدث وهو ينظر إليها بعمق ومرح:


-مش هنفطريني ولا ايه أنا مردتش أفطر معاهم واسيبك لوحدك يا وحش  


أسرعت تقف على قدميها مُبتعدة من جواره وهي تهتف بسعادة كبيرة تلبي ما يريده:


-هغير هدومي في ثواني وأحضرلك أحلى فطار 


وقف هو الآخر وقال بجدية:


-أنا كمان هاخد دش على ما تخلصي 


أومأت إليه بسعادة وتوجهت إلى الداخل وقلبها يرفرف فرحًا وسعادة ومع ذلك فهناك من يجلس داخل عقلها لم تتناسى أمره ولن تتناسى مهما حدث..


                                 ❈-❈-❈


تناول طعام الإفطار معها ثم هبط إلى عمله في الورشة ولكن قبل دخوله إليها إتجه إلى ركن بعيد قليلًا عنها وأخرج هاتفه ثم فتحه وعبث به قليلًا ومن بعدها وضعه على أذنه ينتظر الرد الذي أتى في لحظات لا تُعد..


تحدث قائلًا بجدية شديدة ونبرة رجولية خشنة لا ترى منها غير ذلك:


-ازيك يا مدام كاميليا 


أتاه الرد من الناحية الأخرى بلهفة تظهر في صوتها الذي استغربه للغاية تقول:


-الحمدلله بخير يا جاد.. أنتَ عامل ايه 


تجاهل سؤالها عنه ومنع استغرابه ثم أكمل حديثه بنفس النبرة والجدية:


-أنا بكلمك علشان اعتذرلك عن اللي عملته مراتي امبارح.. أنا بجد آسف بس هي بغير زيادة عن اللزوم 


لم يكن هذا السبب الأساسي لهذه المكالمة، نعم وجد أن عليه الاعتذار منها لما فعلته زوجته معها في منزله ولكن السبب الأكثر أهمية من هذا هو أنه يريد مقابلتها ليفهم ما الذي تريده منه ولن يستطيع أن يفهم إلا عندما يقوم هو بهذا ويطالب بكامل شجاعته..


-بصراحة أنا عايزة اقابلك.. 


استمع إليها تهتف بدلال وصوت لم يرتاح إليه ولم يكن يريد سماعه:


-طبعًا أنا تحت أمرك في أي وقت، بس هو فيه حاجه 


بمنتهى الجدية أردف وهو يحك مقدمة أنفه بإصبعه وقد شعر بالملل فقط من سماع صوتها، هل زوجته محقة؟ لما تتدلل هكذا؟: 


-آه محتاج أتكلم معاكي في موضوع 


تسعد؟ أم تنتظر لترى ما الذي يريده؟ مهما يكن في النهاية ستفعل ما تريد:


-طب تمام أوي بالليل هبعتلك عنوان نتقابل فيه 


وافقت في لحظات فقط، هذا سيوفر عليه كثيرًا:


-تمام إن شاء الله.. مع السلامة 


أغلق الهاتف ووضعه في جيبه ثم عاد مرة أخرى إلى الورشة ليرى عمله وليكمله مع العاملين لديه وهو يشعر أنه أنجز بعض المهام والأفضل بينهم أنه فض النزاع مع زوجته..


                               ❈-❈-❈


ذهبت إلى منزلهم لتطمئن على والده وترى إن كانت والدته تريد شيء تفعله لها وتبقى هي جوار زوجها..


لكنها تركته ينام في فراشه وذهبت لتجلس مع هدير في صالة المنزل وهي تتحدث معها بعمق تعطي لها بعض النصائح حتى لا تهتاج مع ولدها مرة أخرى:


-هو قالنا إن مفيش حاجه يا حبيبتي والله 


أبصرت عيني والدته بعمق بعد أن قضبت جبينها قائلة بجدية ويقين:


-يا ماما فهيمة أنا عارفة إن مفيش حاجه من ناحية جاد لكن هي أنا مش واثقة فيها وبصراحة قلقانه منها


ابتسمت إليها ابتسامة هادئة لتُكمل حديثها بيقين هي الأخرى وثقة تامة في ولدها:


-ولو بردو جاد عمره ما يعمل حاجه غلط ولا يمكن يبص لواحده غيرك يا عبيطة.. جاد ابني وأنا عرفاه


أكملت بعتاب لين وهي تبصرها بعينيها معتدلة في جلستها أمامها:


-كل اللي زعله هو وقفتك قصاده قدام الكل وكمان رفعتي صوتك عليه وصغرتيه قدامنا 


نظرت "هدير" إلى الأرضية بخجل وهي تعلم أن ما فعلته كان خاطئ للغاية وأكبر شيء اغضبه واستفزه هو فعلتها هذه، رفعت وجهها إليها قائلة بجدية معترفة بالخطأ الذي فعلته كرد فعل:


-أنا عارفه إن اللي عملته غلط بس ده كان بسببه، هو اللي اضطرني لكده 


وقفت والدته على قدميها واتجهت بهدوء لتجلس جوارها على الأريكة، وضعت كف يدها على فخذها بحنان قائلة:


-أنتِ بس لو تهدي يا حبيبتي وبلاش تتعصبي على الفاضية والمليانه


اعتدلت مستديرة لتقابلها بوجهها قائلة بجدية ولوعة الغيرة داخل قلبها تنهش به:


-والله هادية يا ماما فهيمة بس أنا بردو زعلانه وقلبي قايدة فيه النار بسبب الست دي.. عايزاه يبعد عنها بأي طريقة 


ربتت على فخذها مكملة بثقة كبيرة:


-هيبعد يا حبيبتي مستحيل يشوف زعلك ده كله ويفضل على تواصل معاها حتى لو كان شغل 


عاندت "هدير" هذه المرة أيضًا عندما ذكرتها بكذبه عليها فهو لم يكن يعمل معها ولم يكن هناك أي صلة عمل بينهم:


-كان بيكدب بردو في حتة الشغل دي.. عبده قالي أنها مالهاش شغل عندهم 


ابتسمت الأخرى بلين وود وهي تحثها على غلق هذه الصفحة التعيسة من حياتهم وأن تتناسى ما فعله وتبدأ معه من جديد بحب وثقة:


-بقولك ايه انسي بقى وافتحي صفحة جديدة وبالراحة يا حبيبتي بالراحة.. جاد طيب وغلبان وبيجي بالراحة مش بالزعيق 


أومأت إليها برأسها عدة مرات متتالية وهي تتفهم كل ما تحدثت به معها وتقدر ذلك بشدة لأنه يأتي من والدته:


-حاضر يا ماما فهيمة.. حاضر 


-يحضرلك الخير يا حبيبتي


أبعدت وجهها للناحية الأخرى ثم مرة أخرى نظرت إليها بخجل وهي على وشك أن تتسائل في شيء تعتبره خاص قليلًا ولكن لا تستطيع أن تصمت أكثر من هذا:


-إلا قوليلي بقى يعني مفيش حاجه كده ولا كده


نظرت إليها "هدير" بعمق وكأنها تعيد سؤالها مرة أخرى داخل عقلها.. أخرى وأخرى وكأنها تذكرت شيء ما أتى على خلدها بحديث والدته، أجابته بابتسامة ضاحكة: 


-يعني وهو لو فيه هخبي عليكي يا ماما فهيمة


أسرعت الأخرى تهتف بقوة ومعها اقتراح تود أن يقوموا بفعله:


-مش قصدي يا حبيبتي بس يعني مش نشوف دكتور بقى 


ابتسمت إليها الأخرى وأومأت برأسها مؤكدة حديثها:


-شوية كده إن شاء الله ونشوف 


-إن شاء الله يا حبيبتي


                                  ❈-❈-❈


"في المساء"


عادت "هدير" إلى شقتها بعد صلاة العشاء من منزل والده، حيث أنهم قاموا بتناول العشاء معهم في جو هادئ بعد أن أظهر "جاد" لهم أنه قام بمصالحة زوجته واعتذر عما بدر منه، وأظهرت زوجته أيضًا أن الأمر قد مضى وكأنه لم يحدث من الأساس..


هبط هو إلى الورشة مرة أخرى وتركها في منزل والده ثم بعده قد رحلت لتذهب إلى بيتها، نظرت على الورشة لتراه إن كان بها ولكنه لم يكن متواجد فـ استغلت الفرصة وتوجهت إلى الصيدلية المتواجدة معهم في نفس الشارع والقريبة أيضًا من بيتهم، أحضرت ما ودت إحضاره منها ثم ذهبت سريعًا إلى شقتها..


بعد أن دلفت شقتها توجهت لتبدل ملابسها إلى ملابس بيتيه مريحة عبارة عن بنطال بيتي من القطن لونه رصاصي يعلوه قميص أبيض قطني مثل البنطال بنصف كم..


مشطت خصلاتها أمام المرآة ثم عقصتهم للأعلى بلفه دائرية متحرر منها بعض الخصلات المتواجدة على جانبي وجهها..


توجهت إلى المرحاض وقد وُلد داخلها تفكير لا تدري كيف الآن فقط ظهر؟.. كان من المفترض أن تُعطي الأمر أهمية أكثر من ذلك فلو لم تتحدث مع والدة جاد اليوم لم تكن ستعطي للأمر أهمية من الأساس وستستمر إلى اليوم وغد وبعد غد على هذه الحالة..


ستقطع الشك باليقين الآن وتفهم ما الذي تمر به هذا..


وقفت أمام مرآة المرحاض تنظر إلى وجهها بصدمة كبيرة وقعت على عاتقها وبقوة اجفلت عنها، كيف حدث هذا ومتى؟. كيف لها أن تتناسى أمر عادتها بهذه السهولة..


دق قلبها بعنف وقوة شديدة جعلته يقترب من التوقف، ارتعشت يداها بقوة ظاهرة وثبتت عينيها على وجهها في المرآة وحقًا شعور غريب لا تفهم ما هو.. وكثير من الأمور الغير مفهومة تلاحقها..


أخفضت نظرات عينيها على ذلك الشريط الأبيض الذي بين يدها يحتوي داخله على شرطتين لونهما أحمر وما كان ذلك غير اختبار حمل!.. يحمل علامات إيجابية تدل على حملها!..


#ندوب_الهوى

#الفصل_الثالث_والعشرون

#ندا_حسن


                   أتدري أن بعد الصبر جبر!

                      وبعد الشدة رخاء!

                 هل انتهت الشدة إلى هنا؟!..


دققت النظر به، عينيها متسعة بقوة وملامحها تحمل صدمة تامة تظهر وكأنها صدمت بموت أحدهم، لقد تغيبت عنها عادتها مرتين ولم تعطي للأمر أهمية بل لم تفكر من الأساس ما هذا!.. وبحديث والدته اليوم جعلتها تتذكر هذا؟!.. يا لها من مهملة غبية..


عادت ببصرها إلى المرآة تبصر وجهها ثم دون مقدمات ابتسمت لنفسها بسعادة غامرة وفرحة كبيرة احتلت قلبها الذي يدق عنفًا من الصدمة، تخطى الصدمة الآن وأصبح عنفه فرحًا وسعادة!.


يا الله ما هذه السعادة.. ما هذا الكرم واللطف الكبير الذي يلقىٰ عليها من كل جانب، ما هذه النعم التي لا تعد المتواجدة بحياتها.. ابتسمت بسعادة كبيرة وهي تضع يدها الأخرى على بطنها تتحس ما دخلها وعينيها تُدمع بحنان وشغف..


استندت بيها المُمسكة الشريط على حوض المياة والآخرى على بطنها وتضحك بسعادة كبيرة غامرة تأخذها الآن لأماكن ليست لها وجود هنا بيننا..


لقد كان هذا حلم بعيد المنال بالنسبة إليها بعد تأخره، نعم لم يتأخر كثيرًا ولكن تسرعهم جعله متأخرًا، شعور غريب لا يوصف، فرحة امومه تكبر بداخلها، يظهر حنانها من الآن وفطرة الأم ظهرت على ملامحها اللينة الرقيقة..


"جاد"!.. أتى على خلدها في لحظة خاطفة ثم بين نفسها تمتمت بتساؤل غريب عنها وعن تفكيرها، هل عليها أن تُخبره!؟..


زوجها وحبيب عمرها، والد الطفل الموجود داخلها كيف لها ألا تخبره، من أين أتت بذلك الحق كي تمنعه عن هذه الفرحة.. كيف لها أن تتمسك بسعادة أبدية له وتخفيها عنه... فقط لأجل ما حدث بينهم؟.. إنه انتهى الآن وأصبح كل شي على ما يرام، إعتذر منها وقدم كامل الحب لها مع الاحترام المتواجد منه دائمًا ولكن!..


ولكن مازالت "كاميليا" متواجدة، مازالت لا تعلم ما الذي يحدث بينهم أو حتى ما الذي تريده للاقتراب كل هذا!.. هل ستخونه وتخفي الأمر عنه وتبعده عن حلمه فقط لأجل خوفها من إمرأة هو لن ينظر إليها أبدًا؟..


إنه يريد طفل منها أكثر من أي شيء آخر وصرح بهذا عدة مرات وكم كان يظهر عليه التمني والرجاء كي يتحقق ما يريد..


لأ لن تفعل ذلك مؤكد فهو حبيب قلبها، نعم مُعذب فؤادها ولكن رؤية الفرحة والابتسامة على وجهه بمثل هذا الخبر يمكنها أن تعيش عليها إلى المنتهى..


فرحته بخبر كهذا ونظرة دامعة منه يمكنها أن تُشفي جميع جروحها وتنسيها كل ما مضى إلى اليوم، إنه كما السحر بالضبط!.. أي حركة أو فعل صادر منه يُنسيها العالم بما فيه ويجعلها تتأمل ما به هو فقط..


رفعت الإختبار أمام وجهها ثم بتفكير عقلاني قررت ألا تخبره بأي شيء الآن إلى أن تذهب إلى طبيبة تأكد لها إن كان حمل حقيقي أم لأ فأحيانا يخفق هذا الجهاز أيضًا وهي لن تخاطر بفرحته وسعادة قلبه بل ستأتي إليه بخبر مؤكد يجعل قلبه يتوقف بسبب روعة الخبر التي ستزفه إليه.. بل هذا سيكون تحقيق حلم له..


استمعت إلى صوت باب الشقة يغلق بعنف أصدر صوت حاد استمعت له، وقع الإختبار من بين يدها على أرضية المرحاض، سريعًا انخفضت تأخذة ثم تقدمت إلى سلة المهملات في المرحاض والقته بها كي لا يراه "جاد"


توجهت إلى حوض الغسيل مرة أخرى، فتحت صنبور المياة وقامت بغسل يدها الإثنين ثم أغلقته وفتحت باب المرحاض متقدمة إلى الخارج ومازال قلبها يدق بعنف..


رأته يدلف إلى الرواق ليذهب إلى غرفة النوم، قابلته وهو يتقدم فوقف أمامها يبتسم فقالت:


-حمدالله على السلامة 


-الله يسلمك يا حبيبتي


دقق النظر بها وقد شعر بأن هناك خطب ما، وجهها شاحب بشدة ويظهر ذلك بوضوح وكأنها تعاني من نقص ما في جسدها، تسائل بلهفة وهو يقترب منها:


-مال وشك أصفر كده؟..


وقع قلبها بين قدميها خوفًا من أن يلاحظ شيء فحاولت قدر الإمكان أن تكون طبيعية حتى لا يشك بها، وضعت يدها الاثنين على وجهها وهتفت باستغراب:


-وشي أصفر؟. من ايه ده 


أردف بجدية ناظرًا إليها بعمق:


-أنا اللي بسألك، شكلك كده متوترة أو بتفكري في حاجه أو مش واكلة 


ابتسمت بهدوء لتجعله يطمئن وهي تشير بيدها نافية وتقول: 


-لأ أبدًا يا جاد عادي مفيش حاجه 


حرك رأسه بخفه وعينيه مثبتة عليها:


-يمكن!..


تسائلت وهي تبصر حركات وجهه وتحاول تخمين ما يفكر به:


-أحضرلك عشا؟


خرجت ضحكاته بخفة قائلًا باستنكار وهو يتذكر أنه قد تناول العشاء معها في منزل والده:


-هو أنا مش متعيشي معاكي ولا ايه 


أقتربت منه بهدوء ورقة تتحلى بها محاولة أن تلهي عقلها عن توترها وفرحة قلبها العنيفة:


-أيوه يا حبيبي بس أنتَ شغال طول الوقت يعني بتعمل مجهود طبيعي تكون جوعت


عندما وجدها أقتربت منه وتتحدث بكل هذه الرقة والدلال يظهر عليها أقترب هو أكثر قائلًا بعبث وخبث: 


-هو أنا بصراحة جعان.. بس حاجه تانية 


وضع يده الاثنين خلف ظهرها على خصرها يقربها منه أكثر ثم مال عليها بجسده العريض مقتربًا بوجهه منها يضع شفتيه على خاصتها برقة بالغة كعادته معها يقبلها بحنان وهدوء، شعر ببرودها معه وعدم اقترابها منه، بل هي بقيت على وضعها يدها بجانبها ولم تبادله تلك القبلة الشغوفة التي تنازل عنها أكثر الوقت..


عاد مرة أخرى إلى الخلف وتركها ينظر إليها للحظة بصمت تام ثم أردف متسائلًا بوجهًا خالي من أي تعابير:


-سكتي يعني؟..


أبصرت نظرته لها وشعرت بأنه تفهم ما فعلته خطأ ولكن أن حدث بينهم شيء حقًا هذا سيكون الخطأ الأكبر، ربما كانت تحمل طفل داخل أحشائها؟.. هذا لا يجوز إنها تعلم بعض الأشياء كهذه:


-لأ بسمعك يا جاد 


لاحظ أنها ليست على عادتها، بل شاردة قلقة ومتوترة وهناك ما تخفيه ربما، أكمل بعدها بثبات وهو يعود للخلف خطوة:


-منا خلصت كلامي يا هدير 


تفهمت أنه يريدها، نظرت إليه بخجل وعينيها تنظر إليه مرة والأخرى تكون على الأرضية وودت لو فعلت ما يريد ولكنها تخاف أن يكون داخلها طفل يتضرر:


-طيب معلش اديني وقت 


أعتقد "جاد" أنها مازالت منزعجة منه ولا تريد الإقتراب لهذا السبب، ربما مازلت تشعر أنه يكذب عليها!..، أقترب منها مرة أخرى يمحي الخطوة الذي أبتعدها ثم أمسك بيدها بقوة قائلًا بصدق وجدية:


-أنتِ لسه زعلانه مني ولا ايه؟. هدير كفاية لحد هنا بقى أنا بحبك والله العظيم واعتذرت وبعتذر تاني أهو


رفع يدها إلى فمه يقبلها كما يفعل وهو يعتذر مرة أخرى لكي تلين معه:


-أنا آسف يا حبيبتي بس كفاية بقى 


تعمقت بالنظر بعينيه الرمادية وبخجل أكبر قد احتل تفكيرها بعد رؤيته يريد القرب منها هتفت بخفوت:


-جاد أنا خلاص عديت اللي حصل بس فعلًا يعني محتاجه وقت.. معلش استحملني شوية 


ترك يدها ونظر إليها بعمق يحاول أن يتفهم ما الذي تريد أن تصل إليه، أو حتى ما الذي تمر به ليجعلها تبتعد عنه رافضه قربه! ولكن بكامل الحب أجابها وهو يحترم رغبتها تاركًا كل ما أراد التفكير به:


-حاضر.. اللي أنتِ عايزاه يا هدير هعمله علشان خاطرك


ابتسمت بوجهه شاكرة إياه بحبٍ خالص وهي تبادلة نظرات الغرام:


-ربنا يخليك ليا يا حبيبي 


                                ❈-❈-❈


"اليوم التالي"


في منتصف النهار هبطت "مريم" إلى شقة "هدير" بعد تفكيرها الجاد في ذهابها إلى الطبيبة الآن، لقد كانت مقررة الذهاب مع زوجها لتطمئن وتفهم ما الذي يحدث معها وهي داخلها تفكر به من الأساس ولكن سافر زوجها مع والده وقد حضرت برأسها أن تذهب اليوم بل الآن..


لأ تطيق الإنتظار أكثر من هذا وهي بالأصل مريضة للغاية ودائمًا تشعر بأنه تود بالتقيؤ!.. غير حالة إغماء النفس الشديدة التي لا تتركها وقد تطور الأمر أكثر فلا داعي للانتظار، ستأخذ شقيقتها معها وتذهب..


دقت "مريم" على باب الشقة بثبات، لحظات وفتحت لها شقيقتها تدعوها بالدخول، دلفت "هدير" سريعًا مرة أخرى متجهة إلى المطبخ وتركت "مريم" عند باب الشقة في الداخل..


نظرت في أثرها باستغراب، ربما تطهو شيئًا على الموقد، أغلقت الباب بهدوء ثم دلفت خلفها إلى الداخل، وهي تدلف استشنقت رائحة البصل وها قد رأته وهي تقف أمام الموقد تقلب البصل بسرعة كي لا يحترق..


تحدثت "هدير" بعتاب وهي تعطيها ظهرها ساخرة:


-سمير مش موجود طول الوقت خايفه تنزلي تقعدي معايا 


أجابتها بجدية وهي تدلف إلى الداخل تفتح الثلاجة لتأخذ منها بعض المياة الباردة:


-أنتِ عارفه اللي فيها يا هدير شوية بطبخ شوية هو يجي شوية أروح عند أهله


وقفت الأخرى تقلب بالملعقة ذلك الطعام الموضوع أمامها وأردفت بسخرية:


-قولتيلي


تركت "مريم" الكوب من يدها وقالت بحدة خفيفة وهي ترى تهكم شقيقتها عليها:


-أنتِ أصلًا بتتكلمي كأني مش بجيلك خالص


سخرت منها مرة أخرى وهي تُجيب:


-آه كل فين وفين 


استنكرت "مريم" حديثها واتسعت عينيها لأنها تقريبًا كل يومين تكن جالسة هنا معها وهي لم تصعد إليها ولو مرة واحدة حتى:


-يا شيخه؟.. 


لم تُجيبها "هدير" لأنها تعلم أن معها حق فقط تعاكس حديثها قليلًا، ابتسمت وهي تستمع إلى سؤالها بعد أن استنشقت الروائح الشهية:


-بتطبخي ايه 


اجابتها ومازالت تقف كما هي تقابلها بظهرها تعمل على الموقد:


-كشري مصري.. جاد نفسه فيه 


ابتسمت "مريم" باتساع وهي تقترب لتذهب مرة أخرى إلى الثلاجة تأتي بأي شيء منها تأكلة وقالت بوقاحة:


-ابقي سيبيلي طبق بقى علشان أنا كمان نفسي فيه


-حاضر 


أخذت ثمرة تفاح من الثلاجة وأكلت منها قطعة وتسائلت بعد أن ابتلعت:


-طب أنتِ خلصتي ولا لسه قدامك كتير 


قالت بهدوء وهي تمسح على وجهها بسبب الجو الحار:


-لأ أنا هخلص البصل بس


أردفت "مريم" حديثها مرة واحدة بقوة وثبات وكأن الأخرى تعلم لما تريد الذهاب إليها على العكس تمامًا:


-أنا عايزاكي تيجي معايا لدكتورة رشا


تركت "هدير" ما بيدها واستدارت تنظر إليها باستغراب لما تود الذهاب إلى هذه الطبيبة! تسائلت وهي تبصرها جيدًا:


-رشا؟.. نسا وتوليد؟ مالك 


مطت شفتيها للأمام وقالت ما يحدث معها في الفترة الأخيرة بتبرم واضح:


-بقالي فترة مش تمام، ترجيع ونفسي بتبقى غامه عليا كتير وبحس بارهاق وكمان معادها عدا فبقول إنه ممكن يكون حمل أو حاجه


تسائلت مرة أخرى مضيفة ما بين حاجبيها:


-طب ماعملتيش إختبار ليه


أجابتها "مريم" بلا مبالاة وهي تشير بيدها دليل على أنه لن يكون نافع دون طبيبة:


-هحتاج كده كده أكشف بردو فـ مرة واحدة وخلاص.. ها هتيجي معايا 


أومأت إليها بتأكيد وهي تُجيبها متجهة إلى الموقد لتغلق النيران وقد أتى إليها هذا المشوار على طبق من ذهب وليس فضة لكي تتأكد هي الأخرى مما تريد:


-آه طبعًا روحي اجهزي على ما اجهز أنا كمان وأكلم جاد أقوله


توجهت "مريم" لتذهب إلى الخارج تفعل كما قالت "هدير" كي يستعدوا للذهاب إلى تلك الطبيبة ولكنها قالت بطريقة فظة:


-ماشي.. متنسيش طبق الكشري 


نظرت إليها هدير وهي ترحل بمزاح قائلة بسخرية:


-همك على بطنك يا معفنه أمشي


ابتسمت "مريم" باتساع تُجيب بلا مبالاة وهي تلوح بيدها:


-متشكرة يا مدام أبو الدهب 


بطريقة فظة أجابت شقيقتها هي الأخرى مضيفة اسم والد زوجها للحوار وكأنه سيكون اسم ولدها:


-شكر على واجب يا أم عطوة 


استدارت "مريم" تنظر إليها بحدة وغضب حقيقي بعد الاستماع إلى هذا الاسم الذي نسبته لطفلها:


-عطوة!.. لأ مستحيل.. اسمي ابني عطوة لأ طبعًا


وجدت شقيقتها تضحك بقوة على تحولها المفاجئ من مجرد ذكر اسم والد زوجها الذي ازعجها لأنه قديم وربما كبير قليلًا، تسائلت بحدة واستنكار وهي تنظر إليها:


-بتضحكي على ايه يعني أنتِ لو جبتي ولد ممكن تسمية رشوان؟.. ولو بنت حتى تبقى فهيمة؟..


للحظة صمتت "هدير" ولكنها بعد ذلك حركت رأسها وأجابت بصدق خالص وحب في حديثها يظهر:


-بصراحة مش عارفة هي آه أسماء قديمة بس لو جاد عايز كده معنديش مشكلة 


اتسعت عيني "مريم" بسبب حديثها الأحمق هذا!.. واستغربت موافقتها السريعة دون تفكير، الأمر لا يحتاج تفكير من الأساس:


-لاه دا أنتِ مخك ضرب، تعقدي ولادك علشان جاد عايز كده 


أردفت تبرر حديثها وموافقتها قائلة وهي تقترب منها بخطوات جدية:


-مش قصدي.. يعني ماهو إحنا ممكن نسميهم اللي عايزنه ونادي عليهم بالاسماء دي 


أبصرتها "مريم" بقوة وعينيها متسعة بذهول على تفكيرها الأحمق الغبي، تأتي بعقد لأطفالها بسبب هذه الأسماء القديمة لأجل زوجها أو غيره!.. هذا بسبب عدم وجود أسماء تليق بهم أم ماذا!.. هتفت بقوة وهي ترحل حتى لا تقف تتناقش معها:


-هدير أنا رايحه البس 


بعد أن رحلت "مريم" لتذهب إلى الأعلى تتجهز لكي يذهبوا إلى الطبيبة، ذهبت "هدير" تنهي تحضير طعامها حتى إذا تأخرت يجد زوجها ما يأكله، ثم بعد ذلك ذهبت تأخذ هاتفها وقامت بالحديث معه والاستاذان بالذهاب مع شقيقتها إلى الطبيبة وقد سمح لها بفعل هذا.. وللحق هي فرحت كثيرًا لوجود حجة ما تخرج بها من المنزل بدون جاد وأيضًا ذاهبة لطبيبة!.. إن الله يحبها كثيرًا ويسبب لها كثير من الأسباب التي تساعدها..


بذهابها مع مريم قد حلت مشكلتها وستكتشف إن كانت حامل أم لأ وإن كان كذلك ستقول لزوجها وتجعله يرفرف من الفرحة التي ستطل عليه بسببها وبخبر صغير مقامة كبير منها..


وإن كانت شقيقتها "حامل" مثلها يالا فرحة الجميع بهذه الأخبار الرائعة، ستحل فرحة كبيرة على العائلة بأكملها لن يخرجون منها إلا عندما تولد كل منهن ليدخلون في حالة فرحة وسعادة أكبر منها بحلول مولود جديد معهم.. بل اثنين!..


                                 ❈-❈-❈


ذهبت "هدير" ومعها "مريم" إلى الطبيبة النسائية التي تحدثت عنها، الاثنين يجلسون في انتظار دورهم في الولوج إلى الطبيبة وكل منهم في رأسها أشياء عدة تموت فرحًا لو تحققت..


ستكون هذه السعادة الكبرى لـ "مريم" عندما تتأكد أن داخلها طفل تحمله من "سمير"!.. زوجها وحبيب السنوات الماضية والحاضرة.. أروع زوج على الإطلاق وأفضل شقيق وصديق وكل شيء تريده يقدمه إليها دون مجهود يذكر منها..


وكأنه وجد في هذه الحياة ليكون المارد المحقق لأحلامها، إن اكتشفت أنها تحمل طفل منها ومنه داخلها ستكون السعادة الأكبر له، ستأتي إليه بشيء يريده ويهواه.. الجميع يريده ويهواه ولكن معه مختلف للغاية.. سترد له شيء جميل مما يفعله لها


ابتسمت وهي تفكر كيف سيكون رد فعله عندما تخبره بأنها حامل وداخلها أفضل شيء بينهم شهور قليلة ويأتي ليظهر للنور ويكون سبب آخر يجمع حبهم ويعظمة أكثر، لقد فكرت في كثير من الأشياء اعتقادا أنها حامل وقد وقع الأمر.. 


حتى أنها قررت تأجيل هذه السنة الدراسية لتكون متفرغة أكثر لهم، حتى لا تهمله وتهمل زوجها! ولأنها لن تستطيع أن توفق في عملين معًا كيف إن كانوا أكثر.. كل هذه قرارات بُنيت على أساس أن الحمل موجود وكأنها تأكدت منه!..


بينما شقيقتها الكبرى كانت تفكر في غير ذلك تمامًا، لا اهتمامات ولا مسؤوليات، كانت تفكر في زوجها الحبيب، معذب فؤادها، هذا اللقب الأقرب إليها منه حقًا، تتوق لرؤيته عندما يعرف بحملها لطفله، تتوق لسماع صوته ورؤية وجهه وهو يتلقى الخبر، تحقيق حلم مثل هذا له يعتبر أكبر شيء ممكن أن تحققه..


حبها له غريب ومريب بنفس الوقت، هي شخصية عنيدة وتريد تفسير لكل شيء ولكن لأجل أن تكون سعيدة معه تحاول محو كل ما يأتي بخلدها لينعم بالراحة والهدوء ولتقترب منه أكثر وتبعد كل صعب من أمامهم..


ترى حبه لها، بل عشق وغرام أبدي، هوى وما بعد الهوى ولكن يصعب الأمور عليها.. يجعلها مُشتتة طوال الوقت غير قادرة على التحديد كيف يكون هو وكيف تكون حياتهم.. حتى أنه أحيانًا يصعب الأمر عليها بمعرفة نفسها!.. 


ليس هناك مثل "جاد أبو الدهب" شجاع، شهم، صالح، رجل وما يعرف برجل يوصف به، حنون وما به من حنان يغدقها به يفيض للعالم أجمع ومع كل ذلك تخاف من بعده أو سرقته، على يقين بحبه وإيمانه ولكن تخاف من غيره يأخذه لطريق آخر لا تكون هي من أساسه..


ستحاول جاهدة أن تمحي كل هذا من رأسها وتنعم بالراحة والسعادة معه ومن المؤكد أنه لن يجعلها تشعر بكل هذه الرهبة والخوف لأجل إمرأة لا تخصه!.. 


نعم هذا هو زوجها "جاد" تعلم أنه مهما حدث بينهم فلن يهون عليه حزن قلبها وتشتت عقلها المستمر، هي على يقين أنه سيجعل كل شيء على ما يرام وبالأخص عندما يعلم أن هناك من سيأتي لهم ويكمل عائلتهم الجميلة!..


وقفت "هدير" على قدميها وتقدمت إلى الفتاة الجالسة تعمل سكرتارية لدي الطبيبة، قامت بدفع مقابلة لها هي الأخرى معها لتدلف مع شقيقتها في نفس الوقت وعادت مرة أخرى تحت أنظار "مريم" المستغربه ما فعلته الآن


جلست مرة أخرى جوارها وهذه المرة أبصرتها لأنها تعلم ما الذي ستتحدث به وتسائلت بالفعل قائلة:


-إحنا مش دفعنا يا بنتي بتدفعي تاني ليه


ابتسمت "هدير" بعمق وأجابت قائلة بجدية وثبات وكأنها تتحدث مع أحد يعلم القصة منذ بدايتها:


-لأ دا كشف ليا.. أنا كمان هكشف معاكي 


استنكرت "مريم" فعلتها وحديثها فهي لم تتحدث من الأساس ولم تقول إنها تريد ذلك، هكذا فجاءة!':


-فجأة كده!..


استدارت لتنظر إليها وتكن في مواجهتها لتتحدث بأريحية وتروي لها ما حدث ولكن قبل ذلك عليها أن تتأكد أنها لن تخبر أحد:


-لأ هو بصراحة مش فجأة ولا حاجه.. قبل ما أقولك احلفيلي إنك مش هتجيبي سيرة لحد ولا حتى سمير لازم أول حد يعرف يبقى جاد 


شعرت "مريم" بالضيق وكأن هناك سر خطير يجب ألا يعرفه أحد لذلك لم تتحدث إلا الآن:


-ياستي ماشي مش هقول لحد والله، الله


عادت "هدير" برأسها للخلف وهي تستند إلى ظهر المقعد ثم هتفت بنبرة خافتة مُبتسمة:


-أنا جبت امبارح اختبار حمل وطلع إيجابي


دُهشت "مريم" وفتحت عينيها على وسعيهما، لم تكن تتوقع أن ذلك قد يكون حدث بالأخص أن شقيقتها لم تتحدث وهم بالمنزل بل لم يظهر عليها أي شيء، أبصرتها "مريم" طويلًا ثم خرجت من هذه الصدمة مُبتسمة ببلاهة ظاهرة:


-بتهزري؟.. لأ بجد، ايه ده ألف مبروك يا دودو.. يا قلبي ايه ده بجد مبروك أنا فرحانه أوي معقول إحنا الاتنين فجأة كده 


توقفت عن حماسها الذي خرج دفعة واحدة على حين غرة وقالت متسائلة بعتاب رافعة أحد حاجبيها باستغراب:


-وبعدين استني أنتِ ليه مقولتليش 


أجابتها ببساطة وهدوء وملامح وجهها ساكنة وكأن هذا الذي كان في خلدها بالفعل:


-علشان ببساطة كنت مستنية إني أقول لجاد الأول وهو يجي معايا ونتأكد بس بما إني هنا خلاص بالمرة بقى 


وضعت "مريم" يدها فوق يدي شقيقتها والحماس يظهر عليها ووجهها بالكامل يبتسم بجميع ملامحه لتصيح قائلة:


-أنا مبسوطة أوي بجد يا هدير معقولة نطلع إحنا الاتنين حوامل؟..


ابتسمت "هدير" مبادلة إياها وهي تهتف بسخرية مضحكة لأجل خبر مثل هذا لهم هم الاثنين في آن واحد:


-يارب بجد دا هيبقى خبر الموسم 


صمتت "مريم" للحظات وعقلها يشغله شيء ثم تحدثت عن "جاد" وهي تتذكر كيف كان يتحدث عن وجود الأطفال وكيف كان يتمنى طفل له:


-متخيلة فرحة جاد أكتر واحد!.. دا هيموت على طفل يا هدير.. فاكرة آخر مرة لما اتكلمنا على الولاد كان عامل إزاي 


اتسعت ابتسامة زوجته بطريقة غير عادية وهي تفكر به وبما سيحدث عندما يعلم، وكيف ستسير الأمور معه بعد خبر كهذا:


-جاد!.. أنا مش عايزة حد يعرف غيرة أصلًا علشان أشوف رد فعله 


نظرت "مريم" أمامها وهي تعتدل على المقعد وحماسها يأخذها بالكامل لذلك الأمر والفرحة سيطرت عليها أكثر بعد أن استمعت لشقيقتها:


-لأ أنا خلاص بنيت أحلامي إننا حوامل.. تخيلي كده جبنا ولاد عم وخالة؟.. 


ضحكت الأخرى بخفوت وهي تتذكر أنها متزوجة قبل "مريم" بأشهر من الأساس:


-الموضوع مضحك أصلًا.. أنا متجوزة قبلك يا مريم تحصل مع بعض!..


نظرت إليها "مريم" وكأنها الآن بالتحديد وجهت عقلها على هذه النقطة فقد كانت متناسية إياها تمامًا ولكن مع ذلك كل شيء بيدي الله:


-تصدقي! بس هو كل شيء بأوان


أومأت "هدير" برأسها وابتسمت بسعادة فهي محقة هناك من تزوج منذ أعوام وإلى الآن لم يرزق بهذا الرزق الكبير من الله وهناك من تزوج منذ شهر واحد فقط والآن يبتسم فرحًا وسعادة لأجل معرفة بخبر حمل زوجته.. هناك هذا وذاك والله يعطي من يشاء:


-أكيد ما شيء بأوان 


                               ❈-❈-❈


فرحة عارمة! قلوب تطير بين السحاب لكثرة هبوط السعادة عليها فقررت الإنحراف قليلًا باتجاه السماء لتنعم بالسعادة الأكثر مما حصلت عليه..


عيون تدمع لأجل ما استشعرته من فرحة كبيرة تنتظرها في الأيام القادمة، الشفاه ترتجف من كثرة الابتسامات التي توزعها على الجميع بسبب وبدون سبب، ما هذا!.. ما هذا الشعور الفظيع الذي يكاد يوقف قلوبهم القابعة في السماء الآن..


أتدري أن هذه الفرحة الأكبر في حياتهم!.. أتدري أن عوض الله بعد صبر جبر!.. تحملت كل منهن لحظات سيئة بدأت منذ أن توفى والدهم إلى أن تزوجوا من أولاد عائلة "أبو الدهب".. كم أن تدبير الله رائع واختياره لا يوجد أفضل منه..


أسباب وراء أسباب كادت أن تجعلهم يموتون حزنًا ثم في لحظة خاطفة يأتي القرار الذي يعترف للجميع أن السبب هذا ما كان إلا من حوادث القدر وتدبير الله ليكون هو الخلاص لما يريدون..


ما فعله "مسعد" مع "هدير" إلى اليوم كان له حد وإن لم يكن حدث ذلك لما كان والد جاد قد لان ناحيته ليدافع عن شرف فتاة أصبحت في مقام ابنته وهو أمام الجميع الوصي عليها من بعد والدها بالأخص أنها هي من كانت الوصي على شقيقها الأكبر..


و "مريم" ألم تكن تحب ابن عائلة "أبو الدهب"؟.. ما جعل ابن هذه العائلة يتحرك هو ظهور ذلك المجرم الطامع في جمالها ورقتها، وما دفعه ناحيتها هو شعوره بضياعها من بين يديه ورؤية كم هي صعبة المنال..


ألم تكن كل هذه أسباب تعيسة تحزن الجميع في وجودها!.. ولكن الآن كم هي أسباب جابرة، رائعة مقدمة من الله عز وجل لأجل اخلاصهم وصبرهم وقلوبهم النقية الطاهرة ليست هي وشقيقتها فقط بل و "جاد" ومعه ابن عمه وشقيقه "سمير"..


أتدري أن بعد الصبر جبر! وبعد الشدة رخاء! هل انتهت الشدة إلى هنا؟!..


تأكدت كل منهن أنها تحمل داخل أحشائها طفل صغير مشترك بينها وبين زوجها الحبيب، تأكدت كل منهن أنهن داخلهن نتيجة حب طاهر نقي اجتمعوا به في حلال الله ورضاه عليهم..


كم هي فرحة كبيرة ورائعة، كم هو إحساس لا مثيل له وشعور لا يوصف لا استطيع ببضع كلمات أعبر عنه..


خرجت كل منهن وداخلها كلمات وأفكار ولحظات تود أن تتعايش بها مع النصف الآخر بعد خبر كهذا وفرحة كهذه والقلب لا يهوى سوى قليل من الكلام المعسول وأفعال مرضية تقول أن ليس هناك غير الحبيبة الأولى والزوجة الأخيرة وما بين هذه وتلك أنتِ فقط حبيبتي الموجودة على حبال أفكاري وشرايين قلبي..


وعدت "مريم" "هدير" أنها لن تقول لأي شخص ما الذي حدث معها ولن تتحدث لأي شخص وتبوح بحملها إلا عندما يعلم زوجها "جاد" أولًا وتبادلت الوعد معها أنها لن تخبر أي أحد إلا عندما "سمير" يعود من سفره ويعلم ولكن ستخبر "جاد" من المؤكد لتجعل فرحته أكثر وأكثر ولترى السعادة بعينيه وكامل جسده بسببها وبسبب نطق هذه الكلمات من فمها وبين شفتيها..


                                  ❈-❈-❈


"في المساء"


تناست كل شيء تعيس وحزين مرت به معه وإن أتت لتتحدث عن الحب فالحزن معه كان قليل، تذكرت الفرح والسعادة، تذكرت كل لحظة رضا وحنان أتت منه وتركت كل ما مضى والآن هي تبدأ بداية جديدة لهم هم الاثنين وثالثهم..


ارتدت قميص وردي من القطن يصل إلى بعد ركبتيها بقليل، يلتصق على جسدها وعليه رسمة كرتونية شهيرة، فتحة صدره دائرية متسعة وحمالاته عريضة للغاية تغطي أكتافها..


فعلت ذلك وحضرت نفسها لتكون في مقابلته بأفضل ما عندها ولتجعله يفعل ما يريد بعد أن امتنعت عنه أمس فهي الآن قد اطمئنت من الطبيبة على وضع الطفل داخلها والذي بعمر الشهرين وقد بدأ في الشهر الثالث هذا الأسبوع..


حضرت طعام العشاء الذي كانت أنهت تحضيره قبل رحيلها إلى الخارج مع شقيقتها ووضعت كل شيء على السفرة في غرفة الطعام وكان "جاد" يقوم بغسل يديه بعد أن استقبلته بأروع ابتسامة لديها والحماس داخلها وكأنه بركان يثور أمامه..


جلست على السفرة متنظرة أن يأتي والابتسامة مازالت مستمرة في الظهور على شفتيها وقلبها يرفرف من الفرحة والتوتر أيضًا، أعادت خصلاتها المتطايرة إلى الخلف لتستقر خلف ظهرها في لحظة دلوفه إلى الغرفة مُبتسمًا وهو يراها قد تحولت مئة وثمانون درجة بل وقبلته قبلة مطولة على شفتيه عندما أتى وكأنها تمحي ما فعلته أمس والآن تقول أنها لن تمانع اقترابه!..


جلس "جاد" في مكانه على سفرة الطعام ونظر إلى الطعام الذي أعدته أمامه فتحدث قائلًا وهو يجذب شوكة:


-الكشري ده شكله يفتح النفس يا وَحش


ابتسمت وهي تقدم الطبق إليه ليأكل كما يحب وترفرف داخلها لأجل عودة لقب الوَحش الذي أطلقه عليها قائلة برقة وحنان:


-بالهنا والشفا يا حبيب الوَحش


نظر إليها بعمق وداخله يدعو الله ألا يحدث بينهم مشاكل بعد الآن فهي أطيب قلب قد رآه وبعد كل ما حدث سامحته وتؤدي واجبها أمامه بكل حب:


-ايه الرضا ده كله يا ست هدير.. هتعود على كده 


رفعت عينيها عليه ومحت ابتسامتها ثم قالت بجدية وعمق صادق داخلها:


-من امتى وأنا مش معوداك على كده يا جاد!، إلا لما تكون أنتَ اللي مش عايز وواخد جنب لوحدك 


ترك الشوكة من يده وأقترب بوجهه منها يحاول محو هذه اللحظة الجدية التي وضعتها بينهم لتتذكر اشياء يعملون على محوها وقال بوضوح ومرح:


-طب تعرفي بأمانة أنا مش بفهم.. آه والله بأمانة مهو اللي ياخد جنب بعيد عن القمر ده يبقى مش بيفهم 


ابتسمت وهي تعاود وضع الشوكة بيده ليأكل وقالت بتهكم ليفهم حديثها جديًا وقد أوصلت له ما تريد بالفعل:


-طب يا سيدي أفهم من يوم ورايح بقى 


-حاضر يا وَحش


أكل طبقه بالكامل بشراهة وظهر جوعه أثناء تناوله الطعام لأنه لم يصعد لتناول الغداء بل من الصباح إلى الآن لم يأكل شيء سوى وجبة الإفطار، وضعت له "هدير" مزيد من أصناف المعكرونة في طبقة وأضافت له كثير من الأشياء ليبدأ يتناول مرة أخرى فهتف هو قائلًا:


-لأ بجد الكشري ده مفيش منه.. شكلي طول عمري باكل اونطه 


ضربته في يده بخفة قائلة بحدة:


-متقولش كده على أكل ماما فهيمة أحسن والله أقولها


لمعت عينيه الرمادية بطريقة درامية للغاية وهو يبتلع ما بحلقه قائلًا بعتاب زائف:


-تبيعي جوزك لحماتك!.. أهون عليكي 


تعلم أنه يمزح ليس إلا ولكن نظرته وعتابه لها بهذه الطريقة جعلها كـ الأم عندما يعاتبها طفلها بطريقة لطيفة لتركها له، كرمشت ملامحها بلطف وقالت بنبرة خافتة:


-لأ طبعًا متهونش 


ابتسم باتساع وهو ينظر إليها بحبٍ خالص وبادلته الابتسامة والحب كمثل وداخلها تتوق لتجعله يعلم أن هناك زائر يود أن يأتي ليكون معهم إلى الأبد.. فقط ينتهي من طعامه ثم ستخبره كل شيء..


أخرج "جاد" هاتفه أثناء تناول طعامه ووضعه أمامه على السفرة جوارها لأنه ضايقه في جلسته وجعلها غير مريحة.. أكمل طعامه بهدوء معها بين مرح وضحك وسعادة كبيرة احتلت الجلسة مرة واحدة وقد راقه هذا وبشدة..


دق جرس الباب فجأة فنظرت إليه تتسائل بعينيها من قد يأتي إليهم الآن، وقف على قدميه وقال بجدية:


-خليكي هنا وأنا هشوف مين


أبتعد عن مقعدة واتجه ليفتح باب الشقة ولكنه استدار عندما وقف على أعتاب باب الغرفة قائلًا مرة أخرى بنبرة رجولية جادة:


-متطلعيش برا الاوضه علشان لو حد جاي من الجماعة 


أومأت إليه برأسها مؤكدة أنها ستفعل هكذا وخرج هو ليرى من الطارق، أكملت تناول طعامها بهدوء وداخل رأسها أمور كثيرة وعدة تحاول أن تبعدها عنها سواء كانت سعيدة أو حزينة فهي فقط تود أن تعيش هذه اللحظة وتخبره أنه سيكون والد عن قريب..


رنة بسيطة وإضاءة خافتة يخرجون من هاتف "جاد" امامها، لم تكن تريد أن تعرف ما هذا ولكن عينيها هي من وقعت على الشاشة عندما أضاءت ليس أكثر من هذا فظهرت أمامها رسالة عبر الواتساب تأتي باسم "كاميليا"!!؟..


مرة أخرى "كاميليا" بحياتهم!. هل مازالت كما هي؟ هل هو يتحدث معها بعد كل هذا؟ هل هي أهم من زوجته وعائلته ليبقى على تواصل معها؟!..


نظرت إلى الهاتف بعمق وحزن شديد احتل مجلسها وكيانها بالكامل!.. تركت الشوكة من يدها وعادت بظهرها إلى الخلف وملامحها قد تحولت إلى شخص آخر من الأساس، انطفئ واسودت شاشته وبقى على وضعه ولكنها لن تكون كذلك بالمرة..


امتدت يدها إلى الهاتف وأخذته بين يديها لتفتحه بسهولة حيث أنه لا يضع له كلمة مرور مما أدى إلى ظهور اسم "كاميليا" على الشاشة..


فتحت الواتساب الخاص به لترى أخر رسالة أتت له من تلك المراة، نظرت إلى الرسالة بدقة من الخارج ولم تفتحها حتى لا يظهر له أن هناك من رآها قبله وستكون هي من المؤكد..


"ده اللوكيشن يا جاد"


هذه كانت رسالتها له أو هذا ما ظهر منها، ترى ما الذي يوجد خلف هذه الرسالة وهذه المحادثة ما بها من الداخل!.. لم يأتي بخلدها بيوم من الأيام أن تبحث خلفه أو تشكك به، لم تفكر بأنه قد يفعل هذا بها وقالت أنه رجل صالح آمين لا يفعل بها هذا ويغضب الله عليه!.


رسالة أخرى قد بعثت والهاتف بيدها تهتف باسمه وبجانبه علامة استفهام تدل على أنها تريده أن يُجيب عليها؟. أو لما لا يُجيب عليها!..


خرجت من هذا التطبيق ثم ذهبت إلى سجل المكالمات لتراه متحدث معها بالأمس!.. بعدما هبط من عندها من هنا!.. بعدما قام بمصالحتها والحديث معها بكامل اللين ووعدها أنه لن يزعجها بهذه المرأة وسيضع لها حد لأن علاقتهم ووجودها معه أهم شيء.. 


خرجت من كل هذا ثم محت آثار دلوفها إليهم وتركت الهاتف كما هو في مكانه وداخلها دوامة تكاد تبتلعها والأفكار تداهمها بشراسة وعقلها لا يرحمها وحزن قلبها ازداد أضعاف أي موقف حزن قد عليهم فهو يخفي عنها شيء كبير، يفضل عنها إمرأة أخرى، يكذب عليها ويتحدث معها، يخونها؟!...


خرجت دمعة من عينيها في لحظة وهي غير منتبه لتفكيرها ودموعها الذي خرجت خلف واحدة فقط وأعلنت الحداد على كل شيء، مسحت دمعاتها سريعًا لأنه سيدلف في أي لحظة، لن تبكي.. مستحيل أن تبكي ولن تعطيه فرصة في فعل ذلك فيكفي بكاء بسببه إلى الآن فهي ستتبع مبدأ البادي اظلم يا "جاد الله" 


عاد "جاد" مرة أخرى وجلس على السفرة بهدوء كما كان وأبعد طبق الطعام من أمامه لأنه بالفعل قد امتلأت معدته بالطعام، أبصرها بهدوء وقال دون أن تسأله:


-دي أمي بعتالنا فاكهة مع الواد ياسر ابن عبد الله دخلتهم المطبخ 


لم يستمع منها ردًا بل بقيت تنظر إليه نظرة غريبة لم يفهمها وكانت أقرب للحزن لو فسرها جيدًا، ابتسم بغرابة وهو يقول:


-مالك؟


أجابته بصوتٍ خافت ساخر بذات الوقت، ساخر من نفسها وذلك الموقف الذي وضعت به معه:


-ماليش 


شعر أن هناك خطب ما بالأخص بعد إجابتها بتلك النبرة وهذه النظرة، ما الذي حدث في لحظات ليجعلها هكذا، استمع إلى سؤالها الواضح تقول:


-هي الست اللي اسمها كاميليا لسه على تواصل معاك ولا بعدت 


لا يدري ما الذي جعل هذا الأمر يعود على خلدها من جديد، لقد كانت لحظات سعيدة الآن يا زوجتي الحبيبة لما تودين ضياعها!. ابتسم بسخرية كاذبة يود أن يوضحها لها ولكن ليته لم يفعل:


-تواصل!.. بعد اللي عملتيه ماظنش 


ابتسمت هي الأخرى تبادلة بنفس السخرية وودت وبشدة لو تبكي الآن وتفرغ عينيها من الدموع الذي داخلها بالكامل ولكن لن تفعل يا "جاد":


-أحسن بردو


عاد جاد بظهره إلى ظهر المقعد وأردف بعد أن تذكر بجدية يتسائل عن حال شقيقتها:


-صحيح مريم طلع مالها 


-حامل 


دون سابق إنذار ودون أي مقدمات ودون رسم أي تعابير على وجهها ألقت هذه الكلمة البسيطة المكونة من أربع أحرف أمام وجهه وعلى مسامعه بقوة ووضوح تام والحدة ظاهرة في نبرتها ولكنه تغاضى عنها..


تغاضى عنها عندما استغرب إجابتها السريعة ولكن سريعًا هو الآخر فهم ما الذي القته عليه فتقدم إلى الأمام مرة أخرى بلهفة وحماس كبير ظهر على عينيه الرمادية الذي ظهر بريقها:


-بتتكلمي جد!.. مريم حامل!


أومأت إليه بقوة وهي تنظر إلى فرحته وحماسه الظاهر لأجل ابن عمه من المؤكد، أبصرت جسده بالكامل وهو يتحرك بعنف غير متزن من فرط السعادة التي وقعت عليه، ماذا كان سيفعل لو علم أنها هي الأخرى تحمل طفل داخلها!.. هو من بدأ، هو من منع هذه النعمة عنه بكذبه وخداعه لها..


-الواد سمير هيبقى أب.. عقبالي 


نظر إليها بعمق وشغف خالص والحماس تأكله فرحةٍ لابن عمه وله لأن هذا الطفل سيكون ابنه هو الآخر، نظر إلى عينيها الجامدة متغاضيًا عن ذلك والحب داخله يتضاخم مع صدره وهو يقترب منها ليمسك يدها قائلًا بشغف وعينيه تلمع بغرابة:


-عقبالنا يا هدير.. عقبالنا يا وَحش


ابتسمت بجفاء ونظرتها إليه ليست كما السابق وهو لاحظ هذا أكثر من مرة ولكنه يقول داخله أنه يفهم نظراتها وحديثها خطأ لأنها من قابلته بكل ما هو رائع، أجابته بجدية مُميتة:


-إن شاء الله 


تذكرت ذلك اليوم الذي أعترف لها به عن ما الذي يريده وكأنه حلم وهي من ستحققه، تذكرت نبرة صوته ولهفته وتمنيه لما قاله، تذكرت الكلمات بالحرف الواحد تلو الواحد الآخر وترددت داخل أذنيها وهي تنظر إليه الآن..


"-نفسي في ولد.. ولد حته مننا إحنا الاتنين، أنا عارف إن لسه بدري وعارف إن لو ده حصل هيبقى كتير عليكي وأنتِ لسه مخلصتيش كلية بس مع ذلك كل يوم بتمنى من ربنا إن ده يحصل.. أناني أنا مش كده"


ترتكب جريمة الآن وهي تحرمه من أسعد لحظة بحياته ولكنه من بدأ في ذلك وهو من اضطرها لفعل ذلك وهي بحسن نية تناست ما مضى ووثقت به وقالت أنه لن يجعلها تحزن لأجل إمرأة لا تخصه ولا تكن له أي شيء..


ولكن اتضح لها أن "جاد الله" يكذب ويخفي وينكر وكثير من الأشياء فعلها في الفترة الماضية تدل على أنه لم يعد ذلك الشخص الخائف من الله البار بها وبأهله، لم يعد ذلك الحنون الذي يخاف عليها من الهواء المار جوارها، أصبح الآن يحزنها وهو يعلم أنه يحزنها ولكن يتغاضى عن علمه أو يتغاضى عن حزنها لا تدري أي جانب يمحيه من ذاكرته..


ولكن الذي تعرفه الآن أنه لم يعد جاد زوجها، ولن يعود إلا عندما يعترف بكل شيء يحدث معه وبينه وبين تلك المرأة، لم يعد به أي شيء تعرفه سوى أنه مازال معذب فؤادها..


#ندوب_الهوى

#الفصل_الرابع_والعشرون

#ندا_حسن 


              "لا أريد الفراق ولا أريد الإبتعاد عنك،

              أنتَ معذب الفؤاد ولكن لا استطيع

                         التكملة من دونك" 


"اليوم التالي"


بقيت "مريم" طوال ليلة أمس تتلهف لعودة زوجها من سفرة والفرحة تدق بابها من كل الاتجاهات، منذ أن تأكدت من حملها وهي مثل شقيقتها تطير فرحةً وسعادة لأجل ذلك الخبر، لم يكن على البال ولم تتأخر بالانجاب بل هي منذ أشهر تزوجت ولكن هذه فرحة كبيرة شديدة دقت قلبها وشعور مختلف لأول مرة تشعر به جعلها غير متزنة نهائيًا وكل ما تفكر به هو طفلها الذي بالداخل..


ولم يبخل عليها "سمير" ويجعلها تنتظر أكثر حيث أنه أكد عليها أنه سيعود اليوم من سفرة ويبقى معاها كالعادة ولكنها حقًا لا تستطيع الإنتظار..


قامت بفعل كل شيء جميل لتقوم باستقباله على أكمل وجه ولتكن هذه المناسبة غير أي شيء قد مر عليهما معًا، حضرت أصناف كثيرة لطعام الغداء يحبها زوجها، قامت بتنظيف الشقة لتعود عليها بالشعور بالهدوء والراحة ولتستقبله بها وهي نظيفة..


ثم ومن بعد أن انتهت قامت بالاستحمام والتعطر وارتداء ملابسها المكونة من بيجامة بيتية لونها رمادي جميل أظهر جمالها أكثر ورقتها الطبيعية وبياض بشرتها..


لتظهر ذلك الملاك البريء الذي يحبه زوجها ويهواه إلى أبعد حد بذلك الجمال الطبيعي الذي يسلبه لبه ويجعله في حيرة شديدة من أمره، كيف هي كذلك؟..


دقائق أخرى وهي في الإنتظار جالسة على الأريكة أمام شاشة التلفاز تستمع لأحد الأفلام العربية القديمة ولكن خلدها معه هو فقط ومع لحظة معرفته بحملها..


ثم دق الباب على حين غرة فانتفضت بفزع لأنها كانت شاردة تفكر في ردة فعله عندما يعلم بذلك الخبر الرائع، تركت التلفاز سريعًا وذهبت لتنظر من خلف الباب إن كان هو أم لأ..


فتحت الباب بهدوء وابتسامة على وجهها رائعة تستقبله بها وبترحاب شديد ظهر من خلال ملامحها قبل شفتيها التي تحدثت بحب:


-حمدالله على السلامة يا سمير 


أبصر هيئتها بحب واشتياق مع أنه أبتعد عنها لساعات قليلة ولكن يكفي أنه نام بعيد عن أحضانها، تقدم إلى الداخل وبيده أكياس بلاستيكية: 


-الله يسلمك يا مريومة 


نظرت إلى الأكياس بيده ثم أردفت سائلة مُبتسمة: 


-ايه كل ده 


تقدم ليدلف إلى المطبخ وهي خلفه يهتف بجدية وهو يضع الأكياس على رخامة المطبخ وتبقى واحد في يده:


-ده الغدا وشوية طلبات للبيت.. الحج كان بيجيب فجبت معاه 


تقدمت وفتحت بعض من الأكياس لتخرج إليها رائحة الطعام الشهي التي استنشقتها بشراهة ثم عادت للخلف قائلة بحيرة: 


-بس أنا طبخت 


خرج من المطبخ إلى الخارج وأردف مُجيبًا إياها بهدوء: 


-أنا قولتلك متعمليش أكل يا مريم 


ضغطت على شفتيها بأسنانها بحدة وهي تتذكر أنه قال لها لا تطهي أي طعام حقًا: 


-نسيت 


جلس على الأريكة في الصالة ومازال بيده واحدٍ من الأكياس الذي دلف بها وقال بجدية:


-خلاص يتحط في التلاجة 


ابتسمت إليه وأقتربت منه سائلة إياه وهي تضيق عينيها على الكيس الذي بيده قائلة باهتمام وفضول:


-ايه الكيس ده 


أخفض بصره إلى الكيس بيده ثم رفعه إليها وهي تقف قبالته، ابتسمت شفتيه تلقائيًا ووقف ليبقى أمامها مقابلًا لها وتحدث بحب وحنان:


-ده بقى علشانك.. فستان مشوفتش حد فيه غيرك 


تابع نظراتها المندهشة وعينيها اللامعة وهو يخرجه من الكيس رافعًا إياه أمام وجهها وقد كان رائع للغاية يدل على أن من اختاره صاحب ذوق رفيع للغاية، لونه بني غامق به نقاط من اللون الأبيض المائل للون بشرتها وكأنه كان يعاكس بشرتها وجمال عينيها..


محتشم ككل ملابسها، يظهر بشكل رائع بذلك الحزام الذي يتوسط خصره وتلك القماشه المعاكسة على صدره، رفعت نظرها عليه وابتسمت بحب شديد تغدقه به ويبادلها إياه..


أقتربت منه معانقة إياه بقوة وهي تشكره بسعادة على هذه الهدية الرائعة ومهما كانت فيكفي أنه في منتصف مشاغله تذكرها وأتت على خلده: 


-يا حبيبي تسلملي وتعيش وتجيب يارب 


بادلها ذلك العناق الذي يبعده عن العالم أجمع ويتركه في وجودها وحدها دون مجهود تفعله:


-ربنا يخليكي ليا يا مريومة 


ابتسمت باتساع وهي تعود للخلف مقررة الإفصاح الآن عما داخلها وفي هذه اللحظة بالتحديد، نظرت إليه بعمق وحركت شفتيها للتحدث ثم عادت تصمت فنظر إليها يدقق بها هو الآخر إلى أن قالت بسعادة: 


-ويخليك لينا 


لم يعلق على الأمر فيبدو أنه عفوي وتتحدت عن العائلة جميعها، فلم يعطيها إلا ابتسامة، انتظرت ليتحدث فلم يفعل وهي تبادلة النظرات إلى أن استغرب منها حقًا فقالت مرة أخرى تضغط على حروف كلماتها:


-ويخليك لينا يا سمير... لينا 


لم يقول له أحد من قبل أنه غبي هذا مؤكد، نظر إليها مرة أخرى بجدية يتعمق بالنظر إليها ويظهر مدى عدم فهمه لحديثها وهو يقول: 


-لينا؟.. لينا مين 


ضحكت بصوتٍ منخفض وهي تشعر بمدى الصعوبة لتجعله يفهم من دون الحديث ليكون هناك جو حماسي بينهم ولكنه غبي ويبدو عليه ذلك، تقدمت منه أكثر وأخذت منه ذلك الفستان وتركته خلفه على الأريكة ثم هتفت بنبرة خافتة مُبتسمة بسعادة:


-أنا... أنا روحت لدكتورة امبارح مع هدير أكشف علشان اللي كان بيحصل الفترة الأخيرة


انتظر لتكمل فلم تكمل فقال هو مُتسائلًا بقلق ولهفة ناظرًا داخل عينيها بترقب:


-وبعدين 


ألقت هذه الكلمات الصغيرة عليه بسرعة وهي تنظر إليه داخل عينيه بعمق شديد تنتظر رد فعله:


-طلعت حامل


نظر إليها يحدق بعينيها بقوة بعد أن اتسعت عينيه وهو يعيد كلماتها داخل عقله أكثر من مرة ليستوعب أنه صحيح واستمع إليه جيدًا، أبعد وجهه للناحية الأخرى ثم نظر إليها من جديد يتسائل بذهول: 


-حامل؟. أنتِ حامل.. حامل حامل بجد يعني ولا ايه 


خرجت ضحكاتها بصوتٍ عالي وهي تنظر إليه وتستمع إلى حديثه الذي يكرره بذهول وقد كانت متوقعة أن يحدث ذلك بالفعل: 


-اومال حامل لعبة... والله حامل 


قدمت يدها وأمسكت يده اليمنى ثم وضعت كفه على بطنها قائلة بابتسامة جميلة وعينيها تلمع بالدموع أو هذا بريق السعادة: 


-في هنا نونو... ابنك أو بنتك أيهما أقرب بقى 


حرك كف يده على بطنها بهدوء وتروي وعينيه هو الآخر تلمع بسعادة غامرة ولهفة غير متوقعة ظهرت على ملامحه ووجهه بالكامل وقد كان هذا خبر مفاجئ للغاية بالنسبة إليه: 


-ده بجد؟. اوعي تكوني بتهزري 


اتسعت ابتسامتها أكثر وأكثر وأسنانها البيضاء تظهر بوضوح وهي تُجيب عليه بمرح: 


-أنا راضية ذمتك.. ده موضوع حد يهزر فيه؟


أقترب منها إلى أن جعل المسافة تتقلص بينهم ومازالت يده كما هي وابتسم بغرابة قائلًا:


-بصراحة لأ


نظر إليها بعمق ومازال لا يدري ما هي حقيقة مشاعره! لأول مرة يقع عليه هذا الشعور الغريب، سعادة غريبة وحنان يقع عليه من جانب وهناك لهفة لم يتذوقها من قبل اختلطت مع كل هذه المشاعر وهناك أكثر لا يفهم ماهيته..


ابتسمت عينيه قبل شفتيه وشعرت برجفة يده عليها وكأنه لا يستطيع تحديد ما الذي عليه أن يقوله أو يفعله فصاحت هي بصوت عالي نسبيًا: 


-سمير!.. أنتَ تُهوت 


أجابها بعمق وهو يقترب منها ليأخذها في عناق آخر غير الأول يحمل مشاعر أخرى غير الأولى ولأول مرة يشعران بها معًا: 


-أنا فعلًا تُوهت.. تُوهت فيكي، ألف مبروك يا مريم 


شددت على احتضانه بيدها وعينيها تلمع بسعادة مُجيبة إياه بلين ونبرة خافتة حنونة: 


-مبروك علينا يا سمير 


حقًا إنه لم يكن يفكر في هذا الأمر كثيرًا، لما سيفكر من الأساس وهو متزوج منذ أشهر قليلة، لم يجعل عقله ينشغل بهذه الأمور أبدًا وتركها هكذا تسير بمشيئة الرحمن ولكنه تفاجئ حقًا، وقد كانت هذه أفضل مفاجأة على الإطلاق وأروع من كونه تزوج "مريم"..


لم يكن يتوقع أنه سيفرح ويشعر بالسعادة أكثر من سعادته بزواجه منها ولكنه الآن يشعر بسعادة مضاعفة لحصوله على طفل منها.. يا له من قدر وتخطيط إلهي لا ندري ما الذي به هكذا يفاجأنا فقط، أنتَ وما كُتب لك من نصيب إما أن يكون جزء من السعادة أو الكثير من الحزن.. 


ابتعدت عنه قائلة بود ولين وهي تنظر إليه بجدية ومازالت الملامح تُبشر بالروائع: 


-هحضر الغدا بسرعة.. أنتَ أكيد جعان 


أومأ إليها بهدوء فذهبت من أمامه ثم عادت مرة أخرى تقول بجدية بعدما تذكرت: 


-صحيح العشاء النهاردة عندكم.. كلنا هنتعشا هناك 


سألها مضيقًا ما بين حاجبيه باستفهام: 


-كلنا مين؟


استرسلت في الحديث وهي تذكر أسماء عائلته بالكامل:


-الحج رشوان وأم جاد وجاد وهدير وأنا وأنتَ.. كلنا يعني هنتعشا عندكم 


أومأ إليها برأسه مرة أخرى وهو يسير إلى الداخل بينما هي ستذهب إلى المطبخ لتحضر الطعام: 


-أنا هروح أغير واخد دش على ما تخلصي 


-ماشي 


ذهبت إلى المطبخ وذهب هو الآخر إلى غرفة النوم وكل منهم داخله سعادة لا نهائية وهناك حديث آخر لم ينتهي بعد عن نفس سبب السعادة ولكن صبرًا فليس كل شيء متاح في ساعته.. 


                              ❈-❈-❈


بعد تفكير طويل في أمر "كاميليا" وجد أن زوجته معها كامل الحق، لقد ظهرت مرة واحدة في حياته من بعد أن ساعدها وأخذها إلى منزله..


لم يكن يريد مقابلتها من الأساس ولم يكن يريد رؤيتها مرة أخرى ولكن هي فعلت أشياء أظهرت وجودها في حياتهم إلى زوجته وفعلت أشياء غريبة وقالت حديث لا يُقال لرجل متزوج وهي امرأة متزوجة..


من الممكن أن يكون هذا أمر طبيعي في البيئة الخاصة بها ولكنه ليس عنده، هو يمانع هذه الطريقة وبشدة ويمانع تواجدها من الأساس في حياته فلا يود أن يأتي بتخريبها لأجل إمرأة لا يعرفها بل أشفق عليها..


كان من المفترض لو ما فعلته طبيعي أن تأتي إلى والده تزوره وترد له المعروف إن أرادت فقط لكن ليس بكثرة الزيارات والحديث الغريب والنظرات الأغرب والأكثر من هذا كله مكالمات الهاتف الذي لا يوجد لها أي داعي من الأساس تتحدث بأي شيء وكل شيء وهو يُجيبها مرة من كل عشرة حتى لا يقلل من ذوقه معها ويجعلها تشعر بالحرج ثم يتهرب منها ويغلق الخط..


هذا كثير للغاية ويثير حنقه ويشعره بالضجر الشديد لذا كان عليه أن ينهي الأمر ويواجهها بما تخفيه، سيسألها بوضوح وجدية شديدة ما الذي تريده وإن كانت تريد شيء يستطيع أن يفعله سيفعله وإن كانت لا تريد من الأساس فسيطلب منها بهدوء الرحيل من حياته حتى لا تقوم بتخريبها عليه وعلى زوجته وحبيبته الغالية التي تغيرت مئة وثمانون درجة منذ لحظات الأمس إلى اليوم ولا يدري ما الذي حدث لها بمجرد تركه السفرة والذهاب ليفتح الباب!.. على أي حال فقط ينتهي من أمر "كاميليا" ثم يعود لزوجته وحياته الطبيعية معها ينعم بوجودها كما السابق ويأخذ قدر كافي من الشعور بالراحة والحب..


لحظات مرت عليه في هذا المكان العام وهو ينتظر حضورها إليه ليضع النقاط فوق الحروف ناهيًا كل شيء لم يبدأ بعد لتكون حياته بأمان..


دلفت إلى المكان تسير في الممر بجسدها الممشوق والذي كان يبرزه فستانها الأبيض الذي يلتصق عليها، كان الفستان بفتحة صدر على شكل حرف سبعة كبيرة للغاية ضيقة تبرز مفاتنها، يصل طوله إلى ركبتيها بالتحديد وأقل من هذا ربما وهناك حزام ذهبي اللون يتوسط خصرها مع حقيبة ذهبية اللون صغيرة تحملها على يدها وهي تسير إليه بعنجهية واضحة وغرور لا يصف رافعة رأسها للأعلى وعينيها كذلك وهي تسير...


دلفت إليه مُبتسمة بعد أن أبصرته من بعيد وجلست أمامه بعد أن سلمت عليه بترحاب شديد وعصافير عقلها يغردون بسعادة لا نهائية متوقعة عكس ما أتى إليه "جاد"، نظر إليها بجدية شديدة مقررًا التصرف بشدة اليوم حتى يجعلها تبتعد دون حرج منه:


-تشربي ايه؟


ابتسمت برقة وهي تضع حقيبتها جوارها ورفعت نظرها إليه تهتف بنفس الابتسامة الكريهة: 


-قهوة مظبوط 


صاح "جاد" للنادل الذي كان من الأصل يقترب منهم فأشار عليها قائلًا بجدية وهو يتحدث إليه:


-واحد قهوة مظبوط للمدام وواحد شاي


أومأ إليه النادل متمتمًا بابتسامة بشوشة هو الآخر بالتأكيد ثم رحل عنهم فأعاد "جاد" نظره إليها ليجدها تنظر إليه وعينيها مثبتة على عينيه الرمادية بعمق، استغرب "جاد" منها كثيرًا ثم حمحم بخشونة وهو يضع يده أعلى الطاولة قائلًا: 


-أكيد مستغربة أنا طلبت أقابلك ليه


وضعت هي الأخرى يدها على الطاولة مقابلة له وهي تقترب إلى الأمام مُبتسمة بطريقة جعلته يود الرحيل الآن بسببها وبسبب هذه الذنوب المحاطة به، أردفت برقة ودلال:


-تؤ مش مستغربة 


رفع "جاد" حاجبه الأيمن مستغربًا شاعرًا بالاستنكار الكلي منها، سألها قائلًا بنبرة رجولية خشنة:


-ومش مستغربة ليه 


عادت إلى الخلف تستند إلى ظهر المقعد قائلة بهيام ونظرة نعسة غريبة:


-في حاجه في دماغي كده متوقعه إنك تتكلم فيها 


قضب جبينه أكثر وهو يدقق النظر بها هذه المرة فحديثها كله يجعله مدهوش أو يريد الاستفهام أكثر لأنها تتحدث بثقة:


-ايه الحاجة دي


لوت شفتيها ضاحكة وهي ترمش بعينيها بغرور قائلة: 


-لاه قول أنتَ عايز ايه مش جايز اللي في دماغي يطلع غلط 


كاد أن يتحدث ولكن أتى النادل يقف في المنتصف بينهم يضع فنجان القهوة أمامها وكوب الشاي أمامه ثم رحل بعد أن تركهم، تابع النادل وهو يضعهم ويرحل ثم عاد بنظره قائلًا بجدية شديدة ونبرة خشنة واضحة: 


-أنتِ عايزة ايه؟


ضيقت حاجبيها مُقتربة للأمام وهي تمط شفتيها للأمام قائلة بحيرة: 


-عايزة ايه إزاي يعني


أقترب إلى الأمام مُقربًا يديه من بعضها على الطاولة بطريقة تظهره قويًا جادًا إلى أبعد حد:


-يعني عايزة ايه يا مدام كاميليا، كون إن أنا اسعادك بطريقة إنسانية مايدكيش الحق تدخلي في حياتي مرة واحدة بالطريقة دي


رفعت فنجان القهوة إلى شفتيها ببرود تام وهي تستمع إلى حديثه الواضح والصريح للغاية والذي استرسل مُكملًا: 


-أنا عارف الطريقة اللي صفوة المجتمع زيك كده ماشين بيها يمكن تكوني أحسن منهم مش هشكك لأني معرفكيش لكن مرة واحدة تكلميني كتير وتيجي الورشة أكتر بحجج فارغة وتيجي لأبويا المستشفى والبيت.. بأمانة كتير دا طبعًا غير كلامك اللي قولتيه قدام مراتي 


-بتحبها؟..


خرج السؤال منها بطريقة سريعة فور انتهائه من حديث، لم يكن انتهى من الأساس بل كان سيكمل ولكنها عندما أتى على ذكر زوجته لم ترى نفسها إلا وهي تتسائل بهذه الطريقة الذي يظهر بها الحقد والغل..


بطريقة رائعة غير ملامح وجهه بعد أن وصل إليه شيء غريب يخاف أن يكون حقيقة، حول ملامحه لأخرى فرحة سعيدة بشوشة ونبرة صوته اختلفت لتكون حنونه مُحبه: 


-أكيد بحبها.. إلا بحبها دي مراتي وأم ولادي في المستقبل ومن غير أي حاجه تبقى بنتي وأول حب في حياتي ويهمني راحتها وزعلها وبكلامك خليتيها تغير وتزعل وأنا مش هسمح بكده 


هل شعرت بالغيرة والحقد؟.. هل شعرت بالنيران داخلها تنهش بصدرها لأجل استماع أذنيها هذا الحديث الحنون عن زوجته!.. لما لم يفعل معها "عادل" هكذا!.. لقد فعل ولكنها من تخلت، أحضرت قناع بارد وارتدته على وجهها ثم بكل تبجح وغرور قالت:


-بما إنك سألتني عايزة ايه أنا هقولك بس ياريت تكون حد متحضر ومتقوليش أهلي ومراتي والكلام الفارغ ده.. لأن أنا فعلًا عايزة حاجه وأنتَ إحساسك صح 


مقدمة غريبة عن الأهل وزوجته ربما يخلفها أشياء لن تعجبه، نظر إليها منتظر منها أن تكمل الذي بدأته وتقول ما الذي تريد، رفعت الفنجان ترتشف منه القهوة ببرود وهي مصممة على أن تقول ما في داخلها دون خجل أو خوف: 


-بصراحة كده أنتَ داخل مزاجي، عاجبني يعني.. وشايفاك لايق عليا أكتر من مراتك بكتير أوي 


اتسعت عينيه الرمادية وهو ينظر إلى تبجحها وعدم خوفها أو خجلها من كونها تنطق بكلمات كهذه لرجل غريب عنها، اعتدل في جلسته قائلًا بذهول:


-أنتِ مجنونة؟.


بكامل البرود وعدم الخجل، بكامل البشاعة التي على وجه الأرض تحدثت قائلة بعدم اكتراث لتفكيره:


-تؤ مش مجنونة ولا حاجه.. ايه يعني لما واحدة تطلب من واحد يتجوزها مفيش فرق بين الراجل والست وأنا بطلب منك تتجوزني ولو على مراتك ياسيدي مدام أنتَ عايزاها خليها على ذمتك ومتقلقش مش هكلفك حاجه أنا عندي بيتي


سيطر الذهول على ملامح "جاد" وكامل استغرابه قد مُحيا وأتى محله ذهول ودهشة.. استنكار ورفض تام لما تقوله شاعرًا بغرابة شديدة كيف لها أن تقول ذلك وهو رجل متزوج وقد اعترف بعشق زوجته منذ دقائق، كيف تقول هذا وهي إمرأة من المفترض أن يكون لديها حياء وخجل..


لحظةٍ واحدة!.. أليست متزوجة؟. نعم إنها متزوجة من رجل اسمه "عادل" يعرفه، هذه الأخبار لا تخفى على أحد، ربما هذه المرأة تعاني من شيء في عقلها وتريد العلاج، يالا السخرية لو علمت زوجته فقد حذرته وقالت أنها تشعر بشيء خاطئ وهو من استخف بها..


استمع إلى صوتها الذي مازال يخرج بدلال قائلة: 


-سكت ليه؟. بتفكر في العرض 


سألها دون مقدمات بقوة: 


-مش أنتِ متجوزة؟..


ابتسمت ببرود وكأنها متأكدة من أن زوجها سيطلقها ولا تعلم ما الذي يدبره لها لكي تقع في فخه وصاحت تهتف:


-حاليًا آه لكن متقلقش إحنا متفقين على الطلاق.. ولو عايز أطلق النهاردة يبقى حالًا 


كم أنها وقحة!. يا له من مغفل زوجها هذا!. كيف يتركها هكذا أهي لهذه الدرجة تظهر أمامه ملاك بريء لكي يعطيها كامل الثقة بهذه الطريقة ويتركها تخرب في حياة البشر..


أبعد "جاد" كوب الشاي من أمامه لكي يتحدث براحة أكثر ويجعلها ترى ملامحه وكل تعابير وجهه مع جسده فهذه لا يجوز معها إلا الحدة، أردف بصوته الحاد وعينيه جادة للغاية تنظر إليها:


-أنتِ قولتي اللي عندك فاضل أنا أقول اللي عندي، أنا مش عايز أشوف وشك تاني ليه لأن أنا تقريبًا عندي حياء أكتر منك آه والله بأمانة.. وبخاف ربنا ولما هاجي أخون مراتي مش هبص لواحدة متجوزه وده مش هيحصل أبدًا.. أنا متجوز وبحب مراتي أكتر من نفسي وحطي تحت بحبها مليون خط ومش مستعد أخسرها علشان خاطر واحدة زيك 


توحشت نظرتها ناحيته بعد هذا الحديث المُهين لها، وكأنها لم تُهين نفسها منذ دقائق بسبب حديثها الذي اردفته دون خجل، أبصرته بطريقة حادة متوحشة بعد أن هانها بشدة وصاحت بصوتٍ عالٍ نسبيًا: 


-أنتَ إزاي تتجرأ وتتكلم معايا بالأسلوب ده 


ابتسم بسخرية وتهكم رافعًا حاجبيه بقوة يهتف باستفزاز: 


-زي ما أنتِ اتجراتي واتكلمتي معايا بالأسلوب الرخيص ده 


وضعت يدها تضرب على الطاولة بقوة حتى أن ما عليها قد اهتز معها وصاحت بغضب وغل ظهر داخلها بعد اعترافه بأنه لن يترك زوجته لأجلها:


-أنا أتكلم زي ما أنا عايزة.. أنا كاميليا عبد السلام أعمل منك.....


كانت ستكمل الإهانة له وتسبه كما فهم ولكنه قاطعها بقوة وحدة افزعتها وجعلتها تبتلع باقي حديثها داخل جوفها ليتحدث هو وهو يقف على قدميه أمامها قائلًا بغضب وحدة شديدة: 


-جاد الله أبو الدهب مافيش زيه ولا هيتعمل زيه.. ابلعي ريقك وشوفي أنتِ بتقولي ايه الأول علشان متحطيش نفسك في الغلط.. الرجالة مش بتتعمل على ايد واحدة زيك.. واحدة شمال ولامؤاخذه


أكمل ببرود وهو يبصرها بطريقة فظة وكأنه يتقزز منها:


-أظن كلامي وصل.. مش عايز أشوف وشك تاني 


أخرج من جيب بنطاله عملة ورقية ثم ألقاها على الطاولة تحت نظراتها الغاضبة ورحل من أمامها بعد أن ألقى هو عليها نظرة ساخرة غاضبة بعد أن أخرج "جاد" العنيف الذي بداخله عليها وهي كانت أول واحدة يتحدث معها بهذه الطريقة المُهينة الغريبة عليه.. لم يتعود لسانه ولا نظراته وحركات جسده على هذا لأنه لم يقابل مرأة بهذا التبجح والغرور لذا كان عليه حقًا أن يخرج هذه الشخصية العنيفة القابعة بداخله عليها لتقف عند حدها مُبتعدة عنه فهي كانت على وشك تخريب حياته لولا أنه حاول أن يبقى الأمر جيدًا بينه وبين زوجته إلى حين..


لقد كانت "هدير" على حق وكان شعورها بمحله في هذه المرأة، قالت أنها لن تأتي عليهم بالخير وقد حدث وقالت أنها تريد منه هو بالتحديد شيء وسيكون خاطئ وقد كان، كل ما قالته كان صحيح وخوفها كان له داعي وشعورها بالغيرة كانت محقة به لأنها رأته بيعينها وشعرت، هل كانت خائفة من أن يقع بفخها ويتركها؟.. أنها غبية من المؤكد هو لن يفعل ذلك ولو كان السيف على رقبه وهذا ما يُنجيه فهي الأولى والأخيرة وكل شيء بحياته لن يتخلي عنها مهما حدث، لو علمت ما الذي حدث من "كاميليا" لن يمر الأمر بسلام حقًا وستكون الجاني والمجني عليه وسيقع على رؤوسهم متاعب لا يريدها بل هو عليه أن يصلح... لذا لن يقول أي شيء.. 


أبصرته بنظرات غاضبة تشتعل نيران وحقد غير عادي بالمرة وهي تراه يرحل بعد أن وقع عليها كل هذه الإهانة برفضه لها والحديث عنها بهذه الطريقة وتفضيل زوجته عليها.. أهانها بطريقة بشعة لن تتحملها وستردها إليه بفعل وليس قول واحد تلو الأخر لتجعله يعلم من هي "كاميليا عبد السلام" وما الذي تستطيع فعله به وكيف ستخلق رجال منه وأفضل بكثير وكيف هو سيعود راكعًا لتسامحه مطالبًا التوقف عما تفعله به وبحياته الجميلة هذه الذي يتباهى بها ويرى أنها الأفضل من كونه معها.. عليه أن يرى من هي عن حق وستمحي ذلك الوجه الذي رآه من قبل ليكون التغير قابل للتفاوض..


                           ❈-❈-❈


"في المساء"


بعدما حدث بين "جاد" وزوجته أمام الجميع وفي حضور مرض والده، شعروا بالحزن الشديد جميعهم دون استثناء، لأن "جاد" ابنهم من أهم صفاته غير كل ما عرف به أنه حكيم عادل وهادئ لم يعتقدوا أنه سيعالج أي أمر بينه وبين زوجته بهذه الطريقة وقد شعروا بالغرابة أيضًا من موقف زوجته أمامهم، ربما تكن معها حق أو كامل الحق لشكها مما حدث فهم نفسهم قد شعروا بالذهول من هذه المرأة وحديثها مع "جاد" ولكن لم يتوقعوا أن تقف قبالته هكذا ترد عليه الحرف بالحرف والكلمة بالكلمة وربما أكثر قليلًا..


بعد أن تحسن "رشوان" وقد حدث هذا في يوم وليلة لأنه لم يكن مريض بشيء خطير فكر شقيقه "عطوة" وزوجته "سعيدة" باستدعاء العائلة بأكملها في منزلهم لتناول العشاء والجلوس في جو أسري هادئ قليلًا ليحسنوا من مزاج الجميع المتوتر..


صعدت إلى الأعلى والدة "جاد" وزوجها منذ وقت طويل لتساعد والدة "سمير" في تحضير العشاء وقد جلس زوجها مع شقيقه في شرفة الشقة يتمتعون ببعض نسائم الهواء لحظة غروب الشمس..


ومنذ وقت قليل أتى "سمير" ومعه زوجته والسعادة تنبعث من النظر في وجوههم، لحظات من بعدهم وصعدت "هدير" وحدها دون "جاد" الذي قال لها سيأتي خلفها لأنه بيده عمل سيأخذ دقائق قليلة..


دلف "رشوان" و "عطوة" للجلوس مع سمير في صالة المنزل يتحدثون بأمور عدة بينما النساء ذهبت إلى المطبخ وإلى غرفة السفرة الصغيرة لتحضيرها ووضع الطعام عليها..


وقفت "هدير" جوار والدة زوجها في المطبخ تضع الأطباق على الرخامة بهدوء وهي تنظر أمامها دون حديث على غير العادة وقد شعرت بها منذ أن أتت أنها ليست على طبيعتها، نظرت إليها ثم أردفت بخفوت وهي تدقق بها:


-مالك يا هدير


رفعت الأخرى رأسها عن الأطباق ونظرت إلى والدة زوجها تستدير إليها بوجهها، ابتسمت عنوة عنها بتصنع مُجيبة إياها قائلة:


-ماليش يا ماما فهيمة


تركت "فهيمة" صينية البطاطس التي كانت تأخذ منها لتضع في الأطباق واستدارت بجسدها تقابلها تنظر إليها بجدية تامة:


-مالكيش إزاي يابت أنتِ مش شايفة نفسك، الواد جاد زعلك تاني 


ابتسمت بمرارة وشفتيها ترتعش أثناء تأديها هذا العمل الصعب والاستمرار في التمثيل، وفقط عندما ذكرت اسمه تذكرت ما يفعله من ورائها:


-لأ يا ماما فهيمة إحنا كويسين.. أنا بس حاسه النهاردة كده إني مرهقة ومش نايمة كويس 


لم تشعر بصدقها في الحديث ولم ترى أي شيء في تعابيرها يدل على الخير بل هي تخفي شيء ومن المؤكد أنه بينها وبين ابنها "جاد":


-خدي بالك من نفسك يا حبيبتي ومن صحتك 


أومأت إليها برأسها وابتسمت هذه المرة عن حق وهي تتأمل هذه المرأة الرائعة، منذ أن تزوجت ابنها ولم تكن يوم حماة لها بل كانت بمثابة أم ثانية..


عادت كل منهما تفعل ما كان بيدها استمعوا إلى جرس الباب علمت فورًا أنه زوجها واستمعت إلى صوت "سمير" وهو يشاكسه بمرح كعادته، دلف إلى المرحاض لكي يغتسل ويعود ليجلس معهم، تحدثت والدته قائلة بهدوء:


-روحي أنتِ يا هدير شوفي جاد لو محتاج حاجه 


قالت دون أن ترفع رأسها بجدية شديدة:


-هيحتاج ايه ده بيغسل أيده 


استمعت إليها "سعيدة" والدة "سمير" فقالت بجدية وهي تقترب منها تاركة تلك الأكواب من يدها:


-مهما كان بيعمل يا حبيبتي، روحي شوفيه لو محتاج حاجه ولا كده 


تركت ما بيدها على الرخامة ونظرت عليهم بجدية بعد أن أومأت برأسها عدة مرات وهي تذهب إليه لتراه إن كان يريد شيء كما قالوا، ذهبت وهي في طريقها إلى المرحاض وجدته يفتح الباب ويخرج منه ينظر حوله وكأنه يبحث عن شيء..


أقتربت لتقف أمامه فقال دون النظر إليها:


-هو مافيش فوطة ولا ايه 


ابتعدت إلى أحد الجوانب تأتي بالمنشفة المعلقة على الحائط وعادت إليه مرة أخرى تمد يدها بها فنظر إليها بابتسامة هادئة وهو يدقق النظر بها بينما يأخذ المنشفة من يدها يجفف بها يده..


هتف بصوتٍ رخيم وهو يبتعد معها إلى أحد الجوانب البعيدة عن حركات العائلة:


-مالك؟ حاسس إنك زعلانة مني مع إنك امبارح كنتي كويسه واتغيرتي فجأة


نظرت إلى عينيه الرمادية التي تتحرك وتنظر إلى وجهها، أبصرت شفتيه وهي تتحرك لتخرج الحديث من بينهما ولم تشعر بأي اهتمام به، أجابت وهي تجذب ذراعها من يده قائلة بابتسامة مصطنعة:


-مافيش حاجه بالعكس أنا زي ما أنا أهو


أكملت تتسائل وهي تبصره بدقة واهتمام كبير لترى ردوده المباشرة من حركاته ماذا ستقول:


-أنتَ كنت فين النهاردة 


وضع المنشفة مكانها خلف ظهرها وهو يستمع إلى سؤالها وأجاب عليها بمراوغة ظهرت لها لأنها تعلم أين كان:


-هكون فين يعني في الورشة 


تعلم أنه ليس صادق بل يراوغ ويكذب ولا تدري إلى متى سيظل هذا الوضع وإلى متى هي ستصمت عما رأته وعما تعلمه وإلى متى ستخفي أمر حملها منه، كل هذا يجعلها تموت ألف مرة ولا تستطيع الحديث وكأنها خرساء عن ما تريد، مرة أخرى هتفت تضيق عليه طريق الهرب بالإجابة:


-وقت الغدا يا جاد مكنتش تحت وكلمتك كتير مردتش عليا 


-آه صح أنا كنت في شغل بره الورشة 


نظرت إليه وهو يهتف بهذه الكلمات بطريقة مفاجأة وكأنه كان متناسيًا وتذكر الآن، يا له من ماكر، ابتسم لها وهو يبتعد عندما وجد "سمير" ينادي عليه وتركها تقف هنا تفكر في طريقته وحديثه، نظرته وظهور اهتمامه بها وبتغيرها المفاجئ اعتقادًا أنها ستسرد له ما بها..


حركت رأسها يمين ويسار وكأنها تنفض الأفكار عن عقلها وذهبت لتكمل في مساعدة الباقين لوضع العشاء..


وقد كان، وضعوا العشاء على السفرة بأشكال وأنواع كثيرة تليق باستدعاء العائلة بالكامل وكل فرد منهم له طبق خاص يحبه كـ "جاد" مثلًا الذي حضرت له زوجة عمه الحمام المحشي، جلس الجميع على الطاولة وبدأوا في تناول الطعام وتذوقه بعد الاستنشاق إلى هذه الروائح الشهية التي جلبتهم من الصالة قبل أن يتم وضع الطعام بالكامل..


أردفت والدة "جاد" بحماس وابتسامة عريضة بعدما ابتلعت الطعام من فمها:


-العزومة الجاية هتبقى تحت عندنا بقى.. ولون دي كانت المفروض تبدأ من عندنا بس الحج عطوة والحجة سعيدة فكروا قبلنا 


هتفت والدة "سمير" بجدية وهي تشير إليها بيدها تسرد ما حدث بينها وبين زوجها من حديث:


-والله يا أم جاد الفكرة فكرة الحج عطوة.. لقيته بيقولي كده ما تيجي يا أم سمير نعزم العيال وأخويا الحج ونقعد مع بعض شوية.. وأنا الصراحة ماصدقت قولت يلا 


أكملت "فهيمة" من خلفها باهتمام وجدية وهي تضع بعض الأرز في طبق زوجها:


-يجعله دايمًا عامر يارب والعزومه الجاية بقى عندنا تحت.. بس تجولي من الصبح آه أنا مش جدعه علشان اطبخ لوحدي زيك 


ابتلع "سمير" الطعام من فمه وأردف مُجيبًا على والدة عمه قائلًا وهو يبتسم:


-والمرة اللي بعديها عندي بقى يا مرات عمي 


كادت أن تُجيب ولكن والدته أسرعت تهتف قائلة:


-لأ المرة دي بدأت من عند الصغير بعد عمك رشوان بقى يبقى جاد هو الكبير 


كل هذا تحت أنظار "جاد" وزوجته يأكلون بصمت تام ويستمعون إلى الحديث الدائر بابتسامة دون تدخل وقد كان "جاد" في هذه اللحظات يتذكر حديث "كاميليا" وتبجحها به ومعه والأمر لا يبعد عن تفكيره ولو لحظة واحدة وكثير من الأفكار تلعب برأسه بطريقة بشعة وكأنها انتقلت من زوجته إليه..


ترك "سمير" الملعقة من يده وأخذ واحد من أصابع ورق العنب الشهية الذي يفضله عن أي طعام وقال وهو يقف على قدميه بسعادة وبنفس الوقت هناك غرور مصطنع:


-طب أنا بقى عندي خبر يخليكم تتعزموا عندي قبل عمي رشوان ذات نفسه 


ابتسم عمه وهنا استدعى انتباه "جاد" ونظر إليه بسعادة وقد علم أنه سيقول لهم بحمل زوجته وانتظارهم لمولود جديد، رفعت "هدير" وجهها عن الطبق ونظرت إلى زوجها الذي وجدته مهتم بالأمر وينظر إليه وعينيه بها لمعة سعادة تزينها بحب..


سأله والده بفضول وهو ويضحك لأنه يعلم ابنه جيدًا يبع الحديث بالمال:


-وايه هو الخبر ده بقى 


أبتعد عن المقعد وذهب يخرج من الغرفة بعد أن تناول طعامه قائلًا:


-خليه لما تخلصوا أكل علشان تحضنوا فيا كويس 


خرج من الغرفة ذاهبًا إلى المرحاض وتركهم في حيرة فنظروا إلى "مريم" بتسأل داخل عينيهم ولكنها أخفضت عينيها إلى طبق طعامها حتى لا يخجلها أحد منهم بسؤاله وتضطر أن تُجيب عليه قبل زوجها..


أبصر "جاد" زوجته وجدها لا تأكل جيدًا منذ أن جلسوا على السفرة، أخذ طبق من أمامهم به محاشي مختلفة الأنواع ووضعه أمامها قائلًا بصوتٍ حاني خافت:


-مبتاكليش ليه 


تركت الملعقة من يدها هي الأخرى ووقفت على  قدميها قائلة بجدية:


-شبعت الحمدلله


استرسلت بصوتٍ عالٍ نسبيًا ليستمع إليه عم زوجها قائلة بابتسامة عذبة رائعة:


-سفرة دايمة يا عمي 


أجابها بوجه بشوش وهو يبتسم إليها:


-يدوم عزك يا بنتي 


جلسوا جميعهم في صالة المنزل مع بعضهم البعض بين شاي مرة وأخرى عصير وفاكهة تدلف وتخرج والجو ملئ بالحماس والدفء الأسري رغم أن هناك من يشعر بالحزن الشديد يقطع خلاياه..


تسائلت "سعيدة" بفضول شديد ناظرة إلى ابنها وهي تجلس مقابلة له:


-ها يا سمير ايه الخبر اللي هتقوله 


وزع "سمير" نظره عليهم جميعًا وانتهى بزوجته "مريم" ثم هتف بسعادة وحماس كبير ظهر عليه ولمعة عينيه بحب خالص ونظرة غريبة:


-فيه ضيف جاي علينا كمان تمن شهور كده 


نظرت والدته إلى "فهيمة" للحظة لتستوعب ما الذي هتف به، هل هو حقيقي حقًا، حقيقي بهذه السرعة!.. ظلت هي هكذا ولكن سرعان ما وقفت زوجة عمه على قدميها تتقدم منه ومن زوجته تهتف بالمباركة وهي تعانقه بسعادة غامرة وكأنه "جاد":


-يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك... دا ايه الخبر ده يا سمير ألف مبروك يا حبيبي 


تركته وتقدمت من "مريم" التي وقفت على قدميها لتعانقها هي الأخرى مباركة لها تحت أنظار الجميع وقد أقترب "سمير" من والده يقبل يده وأعلى رأسه والآخر عانقه يتمتم له بسعادة كبيرة وفرحة قد ألقاها شخص ما على بيتهم ورحل..


ترك والده وأقترب من عمه يقبل يده وأعلى رأسه كما فعل مع والده بسعادة وحب واحترام قبل أي شيء واستمع إلى المباركة من زوجة ابن عمه أيضًا بابتسامة هادئة وحب ظاهر على ملامحها..


أقترب من والدته التي مازالت تجلس كما هي وتنظر إلى الجميع الذي يبارك له ولزوجته، وقف أمامها يهتف ضاحكًا: 


-أنتِ جاتلك صدمة زيي لما عرفت ولا ايه.. لا أصحي مش كده 


ابتسمت والدته وادمعت عينيها بحنان فاقترب منها يقبلها ويحتضنها وبادلته بكامل الحنان الموجود داخلها وهي تهنئة، نظر إلى زوجته لتقوم بالتقدم منه وقد فعلت معها المثل تعانقها، دعت لهم كثيرًا هي ووالدة "جاد" التي تمنت لحظة كهذه خاصة بابنها، لحظة أن تعلم يحمل زوجته ووجود نسل له يأتي وينير العالم بوجوده.. هذا آخر حلم بحياتها، أن يُنجب "جاد"..


أقترب "سمير" وابن عمه من بعضهم وقام باحتضانه ومعانقته بشدة وهو يراه يبتسم إليه بسعادة ليهتف "جاد" قائلًا:


-ألف مبروك يا ابن أبو الدهب 


أبتعد عنه إلى الخلف فقال "سمير" ببشاشة وود:


-عقبالك إن شاء الله يا كبير 


ابتسم "جاد" أكثر وهو يتمنى هذا من كل قلبه، لا يدري كيف هو هكذا ولكن من كل قلبه يريد طفل منها ومنذ زمن وهذه الفكرة مسيطرة عليه بالكامل..


أبصرها ليجدها هي الأخرى تنظر إليه بطريقة غريبة وعينيها بها لمعة غريبة كـ لمعة البكاء!.. تعاتبه!.. هذه النظرة نظرة عتاب كلي يعرفها جيدًا وحزن مخفي داخلها لسبب لا يعلمه ولا تريده أن يعلمه..


أخفضت بصرها إلى الهاتف ونظرت إلى الساعة لتجدها الحادية عشر مساء فوقفت على قدميها قائلة إليه وهو يقف جوارها:


-أنا هنزل قبل ما نروح أشوف ماما وجمال 


أومأ إليها بهدوء قائلًا:


-شوية وهنزل اعدي عليكي نمشي


نظرت إلى عمه وزوجته بابتسامة واهتمام يظهر لهم وهي تعبر عن فرحتها بهذه الجمعة التي لم تكن جزء منها:


-ربنا يجعله دايمًا عامر يا عمي 


ابتسم إليها وأجابت زوجته سريعًا قبل منه قائلة:


-تسلمي وتعيشي يا حبيبتي


-عن اذنكم هنزل أشوف ماما شوية 


أومأت إليها برأسها وانشغل "سمير" مع والده وعمه فقالت "فهيمة":


-سلميلنا على أم جمال يا هدير 


تحركت إلى الخارج لتهبط إلى الأسفل فاستدارت بجدية:


-يوصل بإذن الله 


ثم رحلت إلى الخارج لتهبط إلى والدتها وشقيقها قليلًا تنظر على أحوالهم وترى شقيقها الذي انشغلت عنه بحياتها مع "جاد" التعيسة، المدمرة للأعصاب، الحارقة للقلوب، حياتها مع معذب الفؤاد..


                          ❈-❈-❈


بعد الذي فعله "جاد" مع "كاميليا" شعرت بالإهانة المُرة، ولكنها ليست تلك المرأة التي تصمت عما حدث وتعترف بخطأها بل ستكابر وتعانده أكثر وأكثر وستفعل كما قالت له وفي نظرها سيأتي إليها "جاد" راكعًا على قدميه لتسامحه عما بدر منه، ستجعله يدرس كم كان هو المخطئ وهي التي تحدثت عن الصحيح والذي من المفترض أن يحدث.. 


هي ليست تلك السهلة التي تفوت له مثل هذا الموقف وتتركه ينعم بعدما جرح كبريائها، لن تتركه وهذا قد حدث عندما بحثت خلفه وخلف كل من يخصه في ساعات.. 


بمصادرها الخاصة والتي تمتاز بها في مهنتها من الأساس كـ مذيعة شهيرة، علمت كل ما حدث في الحارة منذ أول يوم وقف به "مسعد" أمام الجميع يواجه "جاد" وعلمت السبب الرئيسي في ذلك وهو زوجته!..


يريدها ذلك الذي اسمه "مسعد" ولا يريد غيرها، فعل الكثير لأجل ذلك ولكن لم يحالفه الحظ ووقف قبالته "جاد" بكامل قوته، كان غبي لم يستطع كيف يحدد نقطة الضعف لدى فريسته، حاول الإعتداء عليها ومن أنقذها هو زوجها أيضًا وكل ما حدث بينهم في الحارة من خلافات إلى اليوم بسبب زوجته الجميلة  الرائعة التي لا يرى مثلها.. حتى أنه فضلها عليها ذلك الأبلة المعتوه..


والآن الوحيد الذي تستطيع أن تستخدمه لصالحها في العد التنازلي هو "مسعد" وهي واثقة ثقة عمياء أنه سيفعل ذلك ويقف معاها أمام "جاد" وبمساعدته هو وحده تستطيع أن تأتي به إلى الأرضية وتضع رأسه تحت قدمها عندما تفعل ما وقع برأسها فور رحيله..


لن ينجوا من تخطيطها، لن ينجوا منها إلى الأبد وستكون الغصة العالقة بحلقه هو وزوجته إلى الأبد وبجوارها "مسعد" ينتقم لأجل سرقة إمرأة أرادها من قبله..


                                ❈-❈-❈


هبطت إلى الأسفل لتسلم على والدتها وشقيقها، ولتجلس معه قليلًا وقد كانت مقررة الحديث معه عن حياته وما يفعله بنفسه من أشياء تدمر وتسلبه دون دراية إلى التهلكة ولكن منذ فترة قصيرة علمت من والدتها أنه أصبح شخص يعتمد عليه، وابتعد عن النوم خارج المنزل والسهر إلى صباح اليوم التالي وظهر عليه كثير من التغيرات الصالحة..


-عامل ايه يا جمال 


كانت جالسة جواره على الفراش في غرفته تنظر إليه وهي تراه قد فقد القليل من وزنه عما كان في السابق ولحيته كبيرة على غير العادة وحالته لا تسرها


أجابها وعينيه بالأرضية لم يستطع أن يرفعها بها بعدما فعل آخر شيء معها دون أن تعلم:


-الحمد لله كويس 


ابتسمت إليه بهدوء بعدما عملت من والدتها تغيره المفاجئ، وقالت بفرحة:


-أمي بتقول إنك سبت الشغل مع مسعد وبتشتغل في مطعم ألف مبروك 


لم يرفع عينيه وبقيٰ كما هو ثم أجاب قائلًا بخجل:


-الله يبارك فيكي


أقتربت منه أكثر ووضعت يدها على ركبته قائلة باهتمام شديد تنصحه بالابتعاد عن ذلك الشيطان الموجود بينهم على الأرض:


-خليك كده على طول يا جمال واوعى ترجع لمسعد تاني ده كل شغله حرام في حرام وربنا عمره ما هيكرمك طول ما أنتَ معاه 


أومأ برأسه وهو يجعلها تطمئن بحديثه الفاتر:


-متقلقيش أنا بعدت عنه نهائي 


ظهرت أسنانها البيضاء بسبب ابتسامتها الواسعة والتي خرجت لشقيقها حقيقية هذه المرة وقالت بمرح لتجعله يخرج من ذلك الهدوء الكئيب:


-أيوه كده أشتغل وخلينا ندورلك على عروسة بقلب جامد 


تهكم وهو يلوي شفتيه بسخرية قائلًا بنبرة حادة:


-ودي مين اللي هتوافق بيا من الحارة.. دول عارفين اللي بيحصل هنا بالحرف 


ربتت على ركبته بكف يدها وهي تُجيبه بالنفي لتجعله يتقبل نفسه ويعرف أنه إذا أراد التغير حقًا سيكون من أفضل البشر:


-لأ يا جمال مش عارفين.. محدش يعرف حاجه ولو يعرفوا، أنتَ أي بنت تتمناك بعد التغير اللي هتبقى فيه 


غير الحوار كليًا وهو يتسائل عن صديقتها التي كان يكن إليها الإعجاب وكان يشعر أنها تبادله لولا أنه لم يفهم ذلك إلا متأخرًا:


-رحمة ازيها.. بتكلميها؟.


نظرت إليه بجدية وأرادت أن تجعله يبتعد بتفكيره عنها نهائيًا فهي الآن مخطوبة وستتزوج من صديق زوجها:


-أيوه بكلمها وهي كويسه ومرتاحه مع عبده أوي وفرحهم السنة الجاية


بنبرة حزينة خاسرة معركة صغيرة كان يستطيع الفوز بها فقط لو أبصر جيدًا:


-ربنا يسعدها 


ابتسمت إليه قائلة وهي تنظر إليه:


-ويسعدك أنتَ كمان 


اعتدل في جلسته ورفع عينيه إليها على حين غرة ونظرته ثابته عليها وملامحه تحمل الندم الخالص الذي جعله منكسره وهتف:


-هدير أنا عايز أقولك على حاجه 


قضبت جبينها بحيرة وهي تراه يود الإعتراف لها بأمر ما:


-حاجة ايه 


كاد أن يتحدث ويهتف بكل ما فعله ولكن بعد نظرتها له تراجع بقلق وخوف غير قادر على التكملة:


-أنا... خلاص مش مهم 


-لأ قول 


أبعد نظرة عنها إلى الناحية الأخرى وداخل عقله صوتين الأول يقول له أن يبدأ الحياة الجديدة بكل صراحة وحب واحترام لكل من في حياته، والصوت الآخر يقول له قد سترك الله فلا تفضح نفسك ولكن سريعًا ومرة واحدة:


-أنا اللي سرقت دهبك


ضيقت ما بين حاجبيها بدهشة واستغراب شديد وشعرت بالضجر لوهلة وهي تسائلة بريبة أن يكون قد فعلها حقًا:


-دهبي؟.. دهب ايه!. الغوشتين؟.. 


ظهر الضعف على ملامحه وعينيه حزينه للغاية وملامحه أصبحت باهته وهو يقول:


-أيوه أنا اللي اخدتهم.. لكن هرجعهم والله هرجعهم متقلقيش 


أكمل بحزن أكبر وهو يبصر عينيها بخوف طفل أخذ من أحد زملائه قلمه عنوة وقد كانت الأم الأضعف وهي تنظر إليه:


-أنا بس اخدتهم علشان كان عليا فلوس لمسعد وكان بيهددني كان لازم يرجعوا ومكنش عندي طريقة غير دي 


نظرته وحديثه جعلوها ضعيفة للغاية وداخلها غضب مكبوت تجاة "مسعد" الذي لم يترك داخل شقيقها شيء جيد:


-لو طلبت مني كنت هديلك.. مش من جاد أنا معايا فلوس بتاعتي!.


ظهر لؤلؤ في عينيه العسلية وكأنه سيبكي:


-أنا آسف إني عملت كده قدام جوزك وصغرتك وفضحتك 


ظهر بعينيها هي الأخرى لؤلؤ أكثر منه وخرجت الدموع وهي تتحدث بضعف وقلة حيلة قائلة:


-جاد مهموش الغوشتين ومسألش عليهم ومش هيعرف حاجه ولا أنتَ هترجعهم وأنا مسمحاك بس بس بشرط أنك تتغير بجد 


هتف بصدق رأته به بقوة وجدية وشعرت بتغييره منذ هذه اللحظة:


-هتغير.. والله هتغير  


أقترب منها وفعلت المثل ليأخذها داخل أحضانه لأول مرة منذ وفاة والدهم، لأول مرة يأخذها شقيقها داخل أحضانه ويشعرها بتواجده، لطالما كانت الابنه الوسطى لوالدها ولكنها أخذت دور الأكبر إلى اليوم هذا.. إلى اليوم وهي الابنة الكبرى لدى هذا البيت والمسؤولة عن كل صغير وكبير به.. وقد كان هذا من أكبر أحلامها أن ترى شقيقها التالف يتغير ويعيش حياة طبيعية مثل البشر.. وما أفسده "جاد" داخلها أصلحه "جمال" بجلسة صغيرة وكلمتين خرجوا منه بصدق..


                          ❈-❈-❈


"بعد أسبوع"


في وسط النهار وبعد أحداث كثيرة بينها وبين أثاث الشقة جلست على الأريكة بعد أن خلعت عباءتها البيتية لتسريح قليلًا وكذلك خلعت عنها حجابها لأنها كانت تقوم بوضع الملابس التي قامت بغسلها في شرفة الشقة لكي تقوم بتجفيفها..


جلست بملابسها التي كانت عبارة عن بنطال قصير يصل إلى ركبتيها وقميص بنصف كم يعلوه، لحظات لما تستطع أن تأخذ بها أنفاسها واستمعت إلى صوت عربات الشرطة التي تصدر ازعاج كبير والتي تؤكد وجود الشرطة في المكان..


دق قلبها بعنف ولهفة لا تدري لما ولكن هذا الصوت وحده يوتر الشخص ويجعله خائف إلى أبعد حد، صمتت الأصوات ولكن ظهر من خلفها حالة من الهرج والمرج في الحارة وهي تستمع إليهم من هنا!..


وقفت على قدميها بقلق بالغ وأخذت عباءتها مرة أخرى ترتديها لتنظر من الشرفة وترى ما الذي يحدث ولمن تأتي هذه الشرطة، سارت في الصالة إلى الشرفة وهي تضع حجابها على رأسها بطريقة عشوائية ثم فتحت الباب ونظرت إلى الأسفل لترى عربة الشرطة تقف أمام منزلهم!.. وبالتحديد أمام ورشة "جاد" والأخرى ذو الصندوق الكبير الذي يكن بها المتهمين في الخلف قليلًا..


ما الذي يحدث لما هما هنا!.. لما يقفون هنا!.. وأين "جاد"..


حقًا لم يستطيع عقلها إتمام تفكيره عندما رأتهم يمسكون بزوجها يخرجونه من الورشة وهو مسالم للأمر يخرج معهم بهدوء و "عبده" يصيح ومن خلفه "طارق" و "حمادة" وهذه والدته تخرج من منزلها تصيح بصوتٍ عالي وخوف..


كل هذا رأته عينيها في لحظة واحدة ولم تستوعب إلا وهي تصيح بإسمه بكامل قوتها من الأعلى وتنظر عليه بخوف وريبة احتلت قلبها:


-جــاد


ثم لم ترى نفسها إلا وهي تركض بعباءتها البيتية والحجاب عليها ليس مهندم بل موضوع بطريقة غير صحيحة بالمرة لتخرج من الشقة وقلبها يدق عنفًا وخوفًا على معذب فؤادها الذي تناست كل ما فعله بها ومعها والآن فقط تذكرت أنه زوجها وحبيها ورفيق دربها الذي لن تتركه أبدًا..


#ندوب_الهوى

#الفصل_الخامس_والعشرون

#ندا_حسن


     سُلب منها مُعذب الفؤاد، الآن يُسلبوا منها شرفة!!


لحظات مرت عليها كـ الدهر وهي تركض على درج المنزل لتهبط إليه بأقصى سرعة وتراه أمام عينيها، لم تفكر في أنها حامل في الشهور الأولى وعليها التروي أكثر من هذا ولم تبطء لكونها تعثرت أكثر من مرة في عباءتها وكادت أن تقع على وجهها، قلبها يدق بعنف ولهفة قلقة خائفة على مُعذب فؤادها، ألم تكن منفصلة عنه وقلبها يؤلمها لما فعله ويفعله!؟.. ألم تكن كارهه كذبه وحديثه!؟.. الآن لا يوجد شيء كهذا فقط يوجد "جاد" زوجها وحبيبها والجالس داخل قلبها ويأخذ أكبر مساحة به، تناست كل شيء وتذكرت كونه الحنون والرجل الوحيد بحياتها يحبها ويهواها ويهوى راحتها على راحته، في لمح البصر خرجت ترى ما الذي يحدث ولما تأخذه الشرطة!.. لما تبعده عنها بهذه الطريقة أمام الجميع في لحظات!..


خرجت من باب المنزل إلى الشارع أمام الورشة والجميع مُتجمهر ليشاهد ما يحدث، نظرت إليهم بقلق ولهفة وهي تتقدم منه بخوف ثم صاحت تناديه بارتعاش وهي تقف خلفه: 


-جاد!


كان يعطي لها ظهره يقف مع والدته التي بدأت في البكاء عندما علمت لما يأخذونه واستأذن من الضابط فقط لحظات ليجعلها تهدأ ولم يكن سيجعله يفعل هذا إلا لأنه يعرفه ويعرف ابن عمه بالأكثر، استدار لينظر إليها وقلبه عذبه بعد الاستماع لصوتها الذي يرتعش، لم يتوقع ظهورها أمامه بهذه الملابس البيتية وهذا الحجاب الذي يخرج نصف خصلاتها إلى الخارج:


-اطلعي يا هدير 


أقتربت منه أكثر ولم تستمع إلى حديثه من الأساس قائلة بقلق ونظرة عينيها مثبتة على عينيه بعمق:


-رايح معاهم ليه؟.. عايزينك ليه يا جاد!..


ضغط على شفتيه ولم يكن يريد الصياح عليها في مثل هذا الوقت فقدم يده اليمنى إلى حجابها جاذبة على خصلاتها للأمام قائلًا بحدة مخفية:


-مافيش حاجه يا هدير اطلعي 


حركت عينيها عليه تحاول أن تستفهم ما الذي يحدث وخلفه والدته تبكي بقوة وهو كان يذهب معهم رأته ورأت " عبده" يصيح خلفه: 


-مافيش إزاي؟.. اومال رايح معاهم ليه 


وجدت "سمير" يقتحم الحديث وهو يدلف بينهم بلهفة وقلق ويبدو عليه أثر النعاس وملابسه مكونه من بنطال قصير إلى الركبة وقميص داخلي، عادت للخلف خطوة وعينيها مثبتة عليه واستمعت إلى "سمير" يهتف بقلق:


-في ايه يا جاد.. واخدينك ليه


أمام كل من يقف من الحارة في شارعهم أجاب عليه بقوة وهو ينظر إليه ولم يتغاضى عنها وعن وقفتها هنا:


-حد مبلغ عني إني بتاجر في البود'رة 


حلت الدهشة على كل من استمعت أذنه إلى هذا الحديث، "جاد"! لم يجدوا إلا هو؟ فهو معروف بأخلاقه واحترامه وتربيته الحميدة، كيف له أن يفعل شيء كهذا، لقد تركوا من يفعل هذه الأشياء أمام الجميع وذهبوا إلى شخص بريء ومعروف بكونه شاب صالح من شباب الحارة القليلون!.. 


نظر "سمير" إلى الضابط الذي كان على معرفة به لم يعطي سلامات ولا أي شيء فقط بدأ حديثه بسؤال وبه اللهفة واضحة: 


-فتشتوا يا صلاح باشا؟


أومأ إليه برأسه إلى الأسفل دليل على  فعل ذلك حقًا ولأن "سمير" واثق في ابن عمه للغاية هتف بجدية وهو يشير بيده: 


-طب مادام فتشتوا وملقتوش حاجه واخدينه ليه 


أجابه الضابط بعملية بحتة وهو يقول مقتربًا منه مستعدًا للرحيل: 


-للأسف يا سمير لقينا وعلشان كده جاد هيجي معانا 


شهقت بعنف وقوة واحتلت الدهشة كيانها وهي تضع يدها الاثنين على فمها بعدما علمت أنهم وجدوا شيء من هذا السم داخل الورشة!.. خرجت دموع عينيها وهي تعلم أن هذا الأمر سيطول كثيرًا مادام تم الإمساك به داخل ورشته، هو لا يفعل شيء كهذا مستحيل وهذه البود'رة الموجودة ليست له مؤكد هناك من وضعها قصدًا للإمساك به وهو من قام بالتبليغ عنه ولن يفعل هذا إلا شخص واحد الجميع يعرفه..


نظر إليها بضيق وهو يقف شامخ وكأن شيء لم يحدث من الأساس على الأقل أمامها وأمام والدته التي مازالت تبكي وتضع يدها على كتفه تتمسك به، أشار لها بعينيه الرمادية أكثر من مرة أن تصعد إلى الأعلى وهي تنظر إليه فقط!.. إلى داخل عينيه وقلبها مشتعل وجسدها يرتجف بعنف وقوة ظاهرة بوضوح قد رآها وهو على بعد..


صاح الضابط موجهًا حديثه إلى "سمير" قبل أن يرحل مع "جاد" ورجال الشرطة:


-الموضوع محتاج محامي شاطر يا سمير وبسرعة 


أومأ إليه عدة مرات برأسه وهو ينظر إليه بحزن وقلق فكونه قد تم القبض عليه هنا وبداخل ورشته الخاصة هذه الممنوعات سيكون الأمر صعب قليلًا إلا أن وجدوا دليل قاطع على أنها ليست له..


سار الضابط مع رجالة ومعهم "جاد" الذي مازالت عينيه عليها ولم تبتعد حتى مع ابتعاد سيره وإشارته لها أكثر من مرة على أن تذهب وهي لا تفعل هذا، فقط تنظر إليه وعينيها تذرف الدموع دون توقف


صاح "سمير" وهو يذهب خلفه إلى أن صعد عربة الشرطة: 


-متقلقش يا جاد هجيب المحامي وأجي وراك 


جلس جاد داخل العربة المفتوحة وأومأ إليه بجدية تامة ثم أبعد عينيه من عليه وذهب بها إليها، يرى ملامحها التي بُهتت في لحظات أكثر من السابق ودقق في وجهها الشاحب الخائف، إنها كانت بعيدة عنه في الأيام السابقة، لم يفهم ما الذي بها وحاول الحديث معها أكثر من مرة ولكنها أدعت الإرهاق المستمر وأشياء ليست لها علاقة ببعضها البعض، لم تدلف عقله ولكن كان واضح كوضوح الشمس انفصالها الثابت عنه ونظراتها المعاتبة إياه، وأيضًا نظراتها الحزينة وأحيانًا كان ينظر إليها بالصدفة يراها تدقق النظر به وكأنها تتحدث مع داخلها عنه وتدقق بملامحه وما يحدث..


شعر أنه فعل شيء خاطئ كبير بعد ما تم الصلح بينهم وعادوا إلى الوضع الطبيعي ولم يدري ما هو لأنه عن حق لم يفعل شيء، بل أنهى ما كان يزعجها طيلة الوقت، تركها على راحتها عندما لم يستطع فهم ما الذي يحدث ولكن الآن تظهر عكس كل ما حدث واللهفة والقلق على ملامحها أول تعبير ظهر يعبر عنها..


الشحوب وكأنه هناك أحد قد توفى تحبه، قلبها من الأساس يتحدث معه الآن يناجيه بلهفة وقلق عليه..


زوجته بها شيء يحبه إلى أبعد حد، كونها تنسى كل شيء بينهم في وقت الشدة وتقف جواره، تترك كل ما فعله وفعلته وكل ما يحدث من أشياء بشعة تدور داخل الموقف وتتمسك به في وقت ضعفه واحتياجه لها، ميزة لن يجدها بأي إمرأة أخرى سوى زوجته حبيبته، روحه الضائعة بخروجه من هنا في هذه العربة..


تحركت سيارة الشرطة وبدأت في الإبتعاد وهو مازال ينظر إليها وعقله يعمل مئة في المئة ويفكر بها وحدها، يبتعد ويبتعد ولا يدري متى العودة وقلبه يهوى عناق دافئ منها ثم يذهب..


عينيها لم تترك طيفه، رأيته وهو يخرج من الحارة بهذه الطريقة تجعل قلبها يؤلمها بطريقة لا توصف وجسدها يرتجف بعنف وهناك شعور غريب يراودها وكأن هناك من يأخذ من لحم جسدها بسكين حاد والدماء تسيل منها بغزارة..


عينيها لم تجف دموعها متعلقة به وبنظرة عينيه إليها، ابتعدت السيارة واختفت عن نظرها لم تشبع عينيها منه ولم تتحدث إليه من الأساس، ذهب ولم تفعل ما تريد معه إلى الآن..


ذهب "سمير" من أمامهم إلى المنزل ليذهب إلى شقته يأخذ ملابسه ويذهب إلى "جاد" بعد أخذ محامي معه..


أسرعت والدته عي الأخرى في الصعود لمنزلها لتحدث والده وتخبره بما حدث حتى يذهب سريعًا إلى ابنه..


ذهبت "هدير" خلف "سمير" سريعًا تركض وهي تمسح وجهها بكف يدها ودلفت خلفه إلى المنزل وكان يصعد على الدرج بسرعة فركضت هي الأخرى واستوقفته قائلة بلهفة وصوت عالي:


-سمير!.. خدني معاك 


وقف أمام باب شقتها واستدار لها يهتف بجدية وملامح وجهه منكمشه حائرة:


-لأ مش هينفع 


وضعت يدها على صدرها لتجعله يلين ويأخذها وصاحت بصوتٍ خافت حزين وهي تأثر عليه ببكاء عينيها:


-علشان خاطري يا سمير خدني معاك 


قرب حاجبيه من بعضهم يشير بيده محاولًا إقناعها أنه لا يجوز فعل ذلك في ذلك الوقت بالتحديد:


-والله ما هينفع 


ظهرت اللهفة أكثر من السابق وتجمعت الدموع بعينيها أكثر متذكرة لحظة خروجه من منزلها صباحًا دون أن يفطر أو يتحدث معها لأنها بقيت نائمة ولم تراه:


-بالله عليك، علشان خاطري عايزة اطمن عليه 


أبتعد "سمير" خطوة للخلف حتى يرحل لأنها تستعطفه بطريقة بشعة لا يريد أن يلين لها:


-أنا هطمنك عليه والله بس مش هينفع 


أقتربت هي هذه الخطوة مرة أخرى لتقف قبالته أمام باب شقتها هي و "جاد" قائلة بعناد أكثر محاولة إقناعه هو بجديثها وذهابها معه:


-على ما أنتَ تلبس وتنزل هكون لبست وخلصت قبلك والله... علشان خاطري!


هبطت شقيقتها لتقف على درج السلم عاليًا وهي تستمع إلى حديثها ونظراتها إلى التي يخرج منها الألم واللهفة على زوجها فصاحت قائلة بقوة وحزن:  


-خدها يا سمير معاك عايزة تطمن على جوزها 


رفع نظرة إليها بعد أن زفر بعمق وحدة وتحدث بقوة بعد أن عاد بنظرة إلى زوجة شقيقه:


-مش هينفع والله أنا هكلم المحامي يروح هناك وأنا هحصله وهطمنك لكن ماينفعش تدخلي القسم ومش هعرف أهتم بيكي هتلخميني 


خرجت الدموع من عينيها وهي ترى إصراره على عدم ذهابها معه، رفعت حجابها إلى الأمام وتحدثت بضعف وقلة حيلة:


-مش هعمل حاجه والله أشوفه بس واطمن عليه أنا ملحقتش أكلمه 


تحدث هذه المرة بلين وود وهو يراها ويرى عينيها تذرف الدموع بلا توقف وكأنها تقول له أنتَ المتسبب فقال محاولًا معها على طريقة زوجها:


-جاد لو شافك هناك أصلًا هيطربق الدنيا على دماغي، اسمعي بس كلامي وأنا هكلمك من هناك ده لو جاد مرجعش معايا 


يكذب مثل ابن عمه ليجعلها تصمت ولا تذهب معه، إنه لن يأتي اليوم إلا إن حدثت معجزة وخرج معهم أو رأى المحامي ثغرة ما يستطيع إخراجه منها، صاحت بتهكم وقوة:


-أنتَ بتضحك عليا ولا على نفسك، دا واخدينه بالبود'رة من ورشته 


أخذ نفس عميق ناظرًا إليها، إنها معها حق، بل إنه كامل الحق كيف سيخرج وهو بهذه الحالة بل وهناك من يحبه إلى هذه الدرجة وقام بالتبليغ عنه وسريعًا أتت الشرطة!..:


-إن شاء الله خير.. خير، أنا هطلع علشان متأخرش عليه 


ذهب من أمامها مرورًا بزوجته التي هبطت الدرجات المتبقية لتقف جوار شقيقتها التي صاحت ببكاء وخوف: 


-جاد مش هيخرج يا مريم 


نظرت إليها بشفقة وضعف انتقل إليها عبرها، أقتربت منها وعانقتها بقوة محاولة جعلها تهدأ عن ذلك البكاء والخوف والرهبة الضارة كثيرًا عليها وقالت بحنان مربتة على ظهرها:


-متخافيش يا هدير هيخرج بإذن الله.. جاد بريء 


اشتد البكاء عليها أكثر ولم يكن هذا السبب الوحيد له، أنها تخرج كل مكنونات قلبها السابقة والمتحامله أكثر من اللازم الآن، لتخرسه بعد هذه اللحظات وتتحلى بالقوة أمام الجميع وأمامه هو بالأخص، لتقف حواره تسانده وتجعله يشعر بالأمان والأمل في كل لحظة تمر عليه.. إلى متى ستكون مُعذب الفؤاد؟..


                                 ❈-❈-❈


ظهر "عادل" مع زوجته "شهيرة" على طاولة الطعام وهو يتحدث معها عن زوجته الأولى والغريبة "كاميليا"، في الفترة الأخيرة ابتعدت كامل البعد عنه ولم تعد تتحدث معه عن الطلاق بعدما كان هذا هو الحديث الأول والأخير بينهم وعن أنها تريد الإبتعاد عنه إلى الأبد والعودة إلى الحرية مرة أخرى تاركه إياه وحده وتأخذ منه القناة التلفزيونية التي عمل عليها ليجعلها بهذا الإسم وهذه الشهرة.. 


بل وأيضًا كانت تراه ولا تنظر إليه من الأساس، تبتعد بوجهها عنه أو تظل ناظرة إليه وعقلها مشغول بشيء آخر، عينيها مثبتة عليه مُبتسمة بهيام وكأنها تحلم بشيء ما وملامحها تبدو حقيقية..


لم ينزعج من هذا بل أسعده الإبتعاد عنها ليتفرغ إلى حياته العملية وحياته مع زوجته "شهيرة" ويرتب إلى ما يريده بذهن صافي وعقل ناضج لا يوقعه في فخه الذي ينصبه إليها..


أقتربت نهايتها معه إلى حدها الأخير وهي من طلبت ذلك بكل أفعالها وحديثها وتلك النظرات الكريهة التي كانت تلقيها عليه مع بعض السموم عن كونه ليس له أي قيمة وليس شخص يستحق وجودها معه من الأساس بعد أن استمتعت بوقتها معه وأخذت ما تريد واشبعت الغريزة المرضية بداخلها، إن لم تذهب لكي تتعالج سـ يسوء الأمر أكثر..


أردفت زوجته وهي تقف أمام المقعد المقابل له وتضع له الطعام أمامه بملامح منكمشه خائفة:


-سوكتها مخوفني أوي يا عادل


استهزأ بحديثها ورفع نظرة إليها من على الطعام قائلًا ببرود يلوي شفتيه:


-ليه يعني 


ردت معقبة وهي تجلس على المقعد مقابلة له قائلة بتوجس ورهبة مستغربة هدوءه:


-خايفة تكون بتدبرلك حاجه.. دي مش ساهلة


ابتسم بسخرية مُميتة وهو يضع حبة من الزيتون في فمه مُجيبًا إياها بتهكم واضح:


-دي أغبى واحدة ممكن تقابليها في حياتك وميتعملهاش حساب من أصله 


انكمشت ملامح وجهها رهبة أكثر من السابق وهي تراه يستهزئ بها وبما تستطيع فعله مُردفة برأي آخر عكس رأيه:


-لأ يتعملها ولو هي غبية فعلًا كانت فضلت تكلمني زي الأول لكن دي قطعت مرة واحدة تبقى عرفت حاجه أكيد 


هز رأسه ويده معًا واللامبالاة تسيطر على كامل ملامحه وحواسه وكان داخله شيء ما قد خطط له بالفعل يجعله لا يهابها إلى هذا الحد: 


-ما تعرف وايه المشكلة


قضبت جبينها بخوف أكثر وأكثر وهو مسالم تمامًا وجعلها بحديثه وردوده تستغربه أكثر، تحدثت واضعة يدها على بطنها في نهاية الحديث:


-ايه المشكلة؟ عادل أنا خايفة عليك، خايفة تعمل حاجه تبوظ حياتنا.. أنتَ ناسي إن فيه طفل جاي في السكة 


تقدم إلى الأمام واضعًا يده الاثنين على الطاولة قائلًا بثقة وحنان ناظرًا في عينيها بحب يرى مدى الاختلاف بينهما:


-هيجي بالسلامة والدنيا هتبقى ميت فل وعشرة.. متشيليش هم 


حركت رأسها يمينًا ويسارًا بعد أن شكت به وشعرت أن هناك شيء سيفعله إن لم يكن فعله حقًا:


-أنا مش مرتحالك يا عادل أنتَ ناوي على ايه 


ابتسامة عريضة ظهرت على شفتيه بكامل الشغف لفعل ما أراده منذ زمن:


-على كل خير 


تساءلت مرة أخرى وعينيها تطالعه بغرابة:


-أيوه اللي هو ايه؟


وقف على على قدميه وتقدم منها وهي مازالت جالسة وهتف قائلًا بجدية والصدق لا يعرف للسانه طريق:


-اللي هو كل واحد ياخد جزاته.. مش كنتي عايزاني أنفذ طلبها واطلقها؟ هطلقها أهو 


وقفت هي الأخرى بعد أن استمعت إليه بلهفة وفرحت كثيرًا لأنه توصل إلى هذا الحل الذي كانت تريده زوجته الأولى منذ البداية: 


-بجد؟. طب الحمدلله خليها تحل عننا بقى 


أقترب منها مقبلًا أعلى رأسها وعينيه مثبتة على الفراغ أمامه وعقله داخله افكار وحديث وكثير من الأشياء الذي يتخيلها تحدث ولكنه هتف بهدوء:


-هتحل.. وللأبد 


                                  ❈-❈-❈


بعد إتمام مخطط كامل من عقل اثنين من أكبر مدبرين الأذى للغير جلسوا سويًا للاحتفال والاستمتاع بإتمام ما أرادوا في خلال أيام معدودة..


كانت هذه "كاميليا" التي شعرت بالإهانة والحرقة الكبيرة التي قبعت داخلها بسبب ما فعله "جاد" معها، توعدت له برد ما فعله وبـ أسوأ الطرق ولكنه لم يعطي للأمر أهمية كبيرة واستخف بها كثيرًا 


قوتها وحدها لم تكن شيء، بل قوتها بعد التعرف على "مسعد" أصبحت شيء كبير وكبير للغاية أيضًا.. 


جلسة خالية من كل شيء سوى الكراهية والغل بينهم هم الاثنين يتبادلون فيها الأحاديث المؤذية لـ "جاد" وزوجته والآن هذه الجلسة للاستمتاع بالفرحة والنصر..


أظهرت الفرحة التي كانت داخلها ووجها يتحدث عن تلك الشماتة التي تشعر بها تجاه "جاد" وبطريقة غريبة تلمع عينيها لما فعلته به:


-كان فاكر أنه جامد وإني مقدرش عليه.. أهو دلوقتي زمانه مذلول في السجن


مع من تتحدث! العدو الأكبر لـ "جاد الله" فكيف سيكون الحديث عنه غير بالسوء والكراهية المميتة، حرك رأسه بضيق ثم فرحة مُردفًا:


-ياه يا مدام كاميليا مش هتصدقيني لو قولتلك أنا فرحان قد ايه.. جاد أخد مني الوحيدة اللي حبيتها وكتير حاولت أقدر عليه لكن كانت ضربته بموته 


مالت برأسها للناحية اليمنى وهي تشير إليه بيدها تريه أن الآن كل شيء أصبح تحت تصرفه وملك له بعد ذلك الإتحاد:


-اديك خلصت منه أهو والساحة بقت ليك والحارة كلها كمان 


لمعت عينيه بنظرة خبيثة شيطانية مُحبة إلى شيء مقزز يريده منها وحدها يتمنى لو توافق على حدوثه ويكن لها كل شيء:


-ياريت بس المطلوب هي.. هي ترضا عني بعد ما هو كرهها فيا وخلاها تفتكرني كداب وبتاع مزاج


عقبت بلا مبالاة ونفي معه معتقدة أن "هدير" بنفسها ستشعر بالملل إن غاب عنها حبيب روحها: 


-لأ متقلقش مهو لو أخد حكم مظبوط وده هيحصل هتمل وتسيبه


بطريقة فظة يتحدث وتظهر أسنانه الصفراء مع لمعة عينيه الخضراء بشدة مخيفة ليظهر بشع وهو يروي بحرقة ما استلقاه من "جاد": 


-عليا الطلاق أنا ما كنت مصدق نفسي لما كلمتيني، قولت معقول الواد ده معلم على كتير كده مطلعتش لوحدي


رفعت أحد حاجبيها معترضة على ما قال فهي إلى الآن فقط تأخذ حقها منه ولن تظهر في طريقه مرة أخرى، إنه غير مناسب لها بعدما فعله:


-لأ لوحدك يا مسعد أنا بس بردله غلطة عملها كانت كبيرة شوية 


استهزأ بها داخله لأنه يتفهم كم هي تشعر بالحرقة والإهانة بسببه ولكنها تحاول أن تخفي ذلك عنه بسبب مكانتها الرفيعة التي تراها أعلى بكثير منهم:


-آه مهو واضح يا مدام 


تقدمت للأمام بجسدها على الطاولة، نفس الطاولة التي جلست عليها مع "جاد" أحبت أن يكون هذا المكان شاهد على كل شيء منذ البداية، غمزت له بعينيها الوقحة قائلة:


-ورينا همتك بقى في الباقي يا مسعد 


بكامل الغرور أقترب هو الآخر مثلها يعقب على حديثها بفرحة ظاهرة على وجهه:


-النهاردة مش بكرة يا مدام متقلقيش 


ابتسمت بسخرية وفرحة مغمورة داخلها وهي تتخيل ما الذي يحدث اليوم لـ "جاد" ولحياته بالكامل الذي فضلها عنها:


-أيوه كده خليك حماسي 


كمثلها فعل هو الآخر وهو يتخيل نفسه ينجز أكبر مهمة بحياته وأفضل شيء على الإطلاق أراده منذ البداية منها وقد سلبه هو الأول منه وأباحه لنفسه، الآن سيسترد كل شيء: 


-من الناحية دي اطمني وحطي في بطنك بطيخة صيفي دا أنا صبرت كتير 


وكأنها معتوهة أو تمر بشيء ما كهذا لتتحدث عن الله وحبه لـ "مسعد" الذي لا يفعل شيء سوى الحرام والمحظور:


-طلع ربنا بيحبك وبعتني ليك أهو علشان تاخد حقك اللي جاد سرقه منك 


ضغط بأسنانه الصفراء على شفتيه بقوة وهو يتخيل تمنيه لـ "جاد" قد حدث:


-بيحبني بس!.. ياه لو ينطس حكم عشر سنين ولا خمستاسر ومشوفش وش أمه تاني 


عادت للخلف بجسدها تستند إلى ظهر المقعد تضحك بصخب لرؤيته هكذا:


-بتحبه أوي أنتَ يا مسعد 


علق على حديثها مؤكدًا إياه بقوة ساخرة:


-أوي أوي، فاكرة لما قابلتك أول مرة قولتلك ايه هموت من كتر حبه اللي في قلبي 


"عادت معه بالذاكرة للخلف تتذكر أول مرة قابلته بها ليتم الإتفاق معه على كل شيء أرادوا فعله مع "جاد" لكي ينالوا منه وكل منهم يأخذ حقه الكاذب المعتبرهُ حق بالفعل لديهم فقط لأنه دافع عن شرف فتاة وعرضها أمام "مسعد" وتزوجها ليكن زوجها الصالح وتكن خير من الله له في الدنيا، لأنه دافع عن عرضه وشرفه بها أمامه وجعله عبره لمن يعتبر حتى يلملم ما تبقى من كرامته إن وجد من الأساس ويبتعد عنهم ولكنه كما يقولون كذب الكذبة وقام هو بتصديقها ليجعل من نفسه أمامها الضحية الكبرى والذي سُلب منه عنوة فتاة أحبها ووافقت عليه..


والأخرى تراه حقها لأنه تعمد الإهانة لها وسبب لها حرقة كبيرة جلست داخل قلبها بعد حديثه عنها ورفضه لها لأجل أخرى وتناست أنه رد فعل طبيعي من رجل صالح يعرف دينه لفعلها الأول، ضايقها تمسكه بزوجته وكأنها هي من أخذته منها وتناست أن هذا هو الفعل الصحيح الذي يصدر من أي رجل محب لزوجته لا يريد أن يدمرها ويدمر بيته لأجل إمرأة غبية جاهلة بالدين والأخلاق والحياء عندها لم يمر عليها من الأساس..


-الواد ده ولو طولت أموته هعملها، دا سرق البت اللي كنت هتجوزها في غمضة عين


استغربت حديثه الذي خرج منه بحرقه وهو ينظر إلى البعيد متذكر أخذ "جاد" لـ "هدير" في لحظات دون مجهود منه كما فعل هو:


-إزاي


نظر إليها بعينين كاذبة تؤلف قصص فقط ليظهر ملاك لا مثيل له أمام "جاد" الكاذب المخادع الذي سرق حبيبته:


-طلبتها من أخوها وأخوها وافق وهي وافقت وكنت خلاص رايح بعلبة الجاتوه.. ملي دماغها من ناحيتي وقالها إني بتاع مزاج وهبهدلها مع نسواني


تسائلت مضيقة ما بين حاجبيها تود معرفة المزيد عما حدث بينهم ولكن مع ذلك تعابير وجهه وحديثه لا يدلف عقلها من الأساس:


-وبعدين؟


لوى شفتيه للأمام دليل على عدم حدوث أمر هام قد يغير ما حدث وأجاب قائلًا بجدية:


-ولا قبلين روحت لأبوه طلع متفق معاه وعملنا عركتين قدام الحارة كلها وفي الآخر خطفها مني في لحظة واتجوزها ابن *****


تصنعت الحزن وهي تمط شفتيها بشفقة كاذبة مُردقة بلين:


-مسكين أوي يا مسعد 


صاح هو بقوة وهو يراها تستهزئ به من خلال ملامحها وحديثها:


-لأ بس أنا مسكتش، أنا عملت معاه الناهية كام مرة كانت بتجيب أجله حيلة أمه 


ابتسمت بسخرية وتهكم قائلة: 


-بس كنت بتنضرب بعدها 


ظهر الضيق على ملامحه وهو يتذكر ما الذي كان يفعله به "جاد" في كل مرة ثم شعر بالفرح وهو يتخيل أنه في الأيام القادمة لن يكون له وجود من الأساس:


-مش مهم المهم اشفي غليلي منه وأهي جت الفرصة لحد عندي وهنفذ في خلال أيام ويبقى يوريني هيعمل ايه.. 


ابتسمت مرة أخرى شاعرة أنه هو من يستطيع مساعدتها حقًا فيما تريد وسيكون بسرعة كبيرة لأنه من داخل الحارة وله ألف طريقة وطريقة ليقوم بعمل شيء كهذا:


-تعجبني يا مسعد بجد"


أردفت ناظرة إليه بقوة بعد أن استعادت ذكريات حديثها معه هنا أيضًا وفي نفس هذا المكان وعلى هذه الطاولة التي شهدت كل شيء منذ أول مرة ألقت بـ "جاد" إلى اليوم:


-فاكرة فاكرة


                                 ❈-❈-❈


ذهب "سمير" سريعًا خلف "جاد" وقابله المحامي، لم يكن الأمر سهل أو مُبشر حتى إليهم فما حدث كان فوق المتوقع بكثير، وإتهام مثل هذا بالدليل الواضح يكن قاطع لكل شيء إلا إذا كان هناك من يعترف أن هذه الأشياء تخصه هو وليست ملك لـ "جاد" أو أن يثبت المحامي أن هذه الأشياء لا تخصه ودلفت إلى ورشته بطريقة غير سليمة وعليه أن يكون معه الدليل لفعل ذلك..


وفي هذه الأثناء كان جاد في الداخل يأخذ أقواله على المحضر الذي تم فتحه ضده، جلس على المقعد أمام الضابط بعد أن سمح له بفعل ذلك، كان "جاد" يمثل القدرة على التحمل والسيطرة على الموقف الذي هو به ولكنه من الداخل يود أن ينفجر بسبب التشتت والحيرة الذي تعبث معه دون هوادة..


أسئلة عديدة يعلم أنها ستطرح عليه هو نفسه يريد الإجابة عنها بوضوح تام لأنه كمثل الجميع لا يفهم ما الذي يحدث وكيف وُجدت هذه البو'درة داخل ورشته؟!..


يا الله عقله سينفجر من كثرة التفكير، لا يستطيع التحمل وهو بهذه الحالة، وكلما حاول الإبتعاد عن هذا الأمر وبقيٰ مع واقعه للحظات أتت صورتها أمام عينيه ووجهها الحزين الشاحب يطارده..


غير عينيها الباكية ولمعتها الحزينة داخل الأعماق، يا لها من أيام صعبة تمر عليه مرة تلو الأخرى حتى من دون إنذار.. تمتم داخله بهدوء وهو يزفر:


-اللهم لا اعتراض


صدح صوت الضابط وهو يسأله بجدية شديدة وعملية تحلى بها وهو ينظر إليه بقوة: 


-قولي يا جاد البو'درة اللي كانت في الورشة دي بتاعتك؟.


الضابط نفسه بعلم أن جاد لا يفعلها فهو على معرفة مسبقة بابن عمه أكثر منه ولكنه يعلم من يكونوا وكيف هي تربيتهم فلا يصدق ذلك من الأساس وأنه عمله ويقوم به مع مراعاة المعرفة بينهم:


أجابه "جاد" وهو ينظر إليه باحترام قائلًا بتأكيد:


-لأ طبعًا مش بتاعتي 


وضع الضابط يده الاثنين على المكتب مقترب إلى الأمام وهو يقول:


-بس دي كانت عندك في الورشة يا جاد وأنتَ عارف ده معناه ايه 


أومأ برأسه دليل على تفهمه لما يقوله وأكمل هو بتوضيح:


-عارف بس الورشة بيدخلها ناس أشكال وألوان والبو'درة مكنتش مثلًا في مكتبي ولا عربيتي دي كانت في الأرض عند الخردة وأكيد لو بتاعتي مش هرميها كده 


أومأ الضابط له بتفهم قائلًا بجدية:


-طب أنتَ مابتشكش في حد من اللي شغالين معاك، يمكن شاب طايش منهم 


أسرع يُجيبه بلهفة نافيًا حديثه عن من يعملون معه، فهم على خلق عالية ويعرفهم منذ سنوات ليس الآن ليلقي عليهم شيئًا كهذا:


-لأ لأ مستحيل يكون حد منهم، دول شباب مش بتاعت كده أبدًا دول على الدوغري 


نظر إليه الضابط بآسف وهو يقول بجدية وخجل:


-للأسف هتتحبس أربع أيام على ذمة التحقيق، أنتَ متبلغ عنك وللأسف بردو لقينا البو'درة عندك 


تسائل "جاد" مضيقًا ما بين عاجبيه ومثبتًا عينيه الرمادية على الآخر: 


-هو مين اللي بلغ عني


-كاميليا عبد السلام


ها هو الآن قد فهم ما الذي يحدث، إذًا هي من فعل ذلك؟ هي من قامت بالتبليغ عنه ومن قبلها مؤكد كانت أنهت خطتها لتكون على أكمل وجه..


يا لها من إمرأة خبيثة شيطانية، الغل ينهش داخلها والحقد سبيلها الوحيد للعيش ولكن يقسم بربه العظيم إن بقيٰ بعمره يوم واحد لن يتركها إلا عندما يأخذ حقه منها..


بعد قليل من الوقت خرج المحامي الذي كان قد دلف إليهم ومعه "جاد" الموضوع بيده الاثنين قيود حديدية تعيق حركة يديه حتى لا يتمكن من الهرب، هل يفعلها؟.. 


لم يكن الأمر مُبشر أبدًا عندما نظر المحامي إلى والده وابن عمه الذي تسائل بلهفة وقلق عندما وجدهم يخرجون: 


-عملتوا ايه يا متر 


أجابه الآخر بعملية شديدة ووجهه عليه علامات الانزعاج مثلهم تمامًا:


-جاد متبلغ عنه إنه بيتاجر في البو'درة وللأسف اتمسكت عنده في الورشة ومش كمية صغيرة يعني تعاطي ولا حاجه  


رفع والده عينيه على ابنه الذي يقف مهمومًا يستمع إلى هذا الحديث الذي أصبح مؤكد، عاد بعينه إلى المحامي قائلًا بنبرة متلهفة قلقة:


-طب وبعدين يا متر 


-جاد هيفضل هنا على ذمة التحقيقات، هيستدعوا اللي شغالين معاه في الورشة وهنشوف الكاميرا اللي موجودة على باب الورشة بره يمكن نقدر نلاقي أي حاجه تحسن موقفه 


تسائل مُكملًا حديثه:


-اللي شغالين معاه دول ايه نظامهم! سلوكهم ايه يعني 


هتف "جاد" مُجيبًا إياه بنبرة رجولية خشنة وهو يرفع عينيه عليه قائلًا: 


-مش هما لأ يا متر دول زي أخواتي وأكتر، الحركة دي معملولة بفعل فاعل 


وضع "سمير" يده على ذراعه يربت عليه بقوة وحنان مخفي بينهم يمده بالدعم والطمأنينة:


-متقلقش يا جاد إن شاء الله خير 


ابتسم له عنوة عنه معقبًا على حديثه بلين ونبرة خافتة:


-بإذن الله 


نظر إلى والده الذي رأى الضعف حليفه والحزن يسيطر عليه فقال بمرح وخفه كعادته، الطبع غلاب كما قيل حقًا:


-مالك يا أبو جاد من أولها كده؟.. دا لسه التقيل ورا يا حج 


نظر إليه بضعف حقيقي وهو يرى ابنه يسلب منه وهو الآخر مسلوب الإرادة لا يستطيع فعل أي شيء ولا يعلم من الذي قد يكون يكرهه إلى هذه الدرجة ليقوم بفعل ذلك به، أكمل "جاد" قائلًا بنبرة رجولية خائفة حنونة على من يحب: 


-خد بالك من أمي وهدير يا حج 


أبعد نظره إلى "سمير" قائلًا وملامح وجهه مكرمشه بحزن: 


-خد بالك منهم يا سمير


ضغط "سمير" على شفتيه وعينيه تود أن تدمع وتبكي وتفعل أكثر من ذلك في هذا الموقف الصعب عليه، دائمًا كان "جاد" أخيه الأكبر ويد العون له كيف الآن يأخذ مكانه:


-أنتَ بتقول ايه يا جدع بكرة هتطلع وهتاخد بالك منهم واديني قولت بكرة خليك فاكر 


ابتسم "جاد" بهدوء فتحدث العسكري الذي كان يقف معه بتأفف وضيق لأنه وقف كثيرًا يكفي هكذا فقد حلل المال الذي أخذه من "سمير" ليستطيعوا الحديث معه..


                                ❈-❈-❈


حل المساء عليهم في المنزل وإلى الآن لم يخبرهم أحد بأي شيء، حاولت "مريم" الإتصال بزوجها كثيرًا من المرات ولكنه لا يُجيب عليها أبدًا هو في هذه الأثناء كان عند المحامي ومعه كلا من "عبده" و "طارق" و "حمادة" وعمه أيضًا، ازداد القلق في قلوب الجميع وحاولت "هدير" أكثر من مرة هي ووالدته أن يذهبوا إلى قسم الشرطة وحدهم ولكن منعهم الجميع من فعل ذلك..


القلق نهش قلوبهم جميعًا والخوف قبع داخلهم كمثل الغراء عندما يلصق بشيء يصر على عدم الخروج منه، قلبها يؤلمها بطريقة غبية ولأول مرة تشعر بهذا الشعور البشع، الخوف وعدم الأمان، كان بالنسبة إليها الأمان والمأمن، السكن والسكينة، كل شيء كان لها يجسد في زوجها، الطمأنينة والراحة كانت به هو فقط مهما كان يحدث بينهم من جدال وبعاد عن بعضهم إلا أنه يظل هكذا إلى المنتهى..


أشار إليها عقلها أن "مسعد" من فعل ذلك به لأنه الوحيد القادر على جلب كمية كبيرة كهذه من البو'درة وهو الوحيد الذي يكره "جاد" من بين الجميع في الحارة ولا يوجد غيره يبغضه..


كم أنه رجل حقير لا يعرف للرحمة طريق، خبيث ووقح لا يحترم سنه وزوجاته ولا حتى أولاده، يفعل الحرام أمام الجميع دون خجل لا منهم ولا من الله ويفعل الممنوع أيضًا كالحرام ويقع بها "جاد"!. ما هذا الافتراء!..


جلست على سجادة الصلاة كثيرًا من المرات في يومها تبكي وهي تدعي إلى الله كثيرًا أن يعطي  لروحهم السلام وإن يطمئن قلبها ويرد لها زوجها سليم معافى من محنته هذه وستترك كل شيء خلف ظهرها وتكن الأمان والحب والراحة فقط له ولن تكعر صفو حياتهم مرة أخرى مهما حدث..


وبسبب حملها الذي قد نسيته توعكت معدتها وقامت بالتقيؤ أمام الجميع والذين اشفقوا عليها كثيرًا وهم يرون خوفها وقلقها، لهفتها وحبها لزوجها..


رحلت والدته التي لم تجف دموعها أبدًا جوار زوجته وقد كان قلبها يحترق من الداخل خوفًا ورهبة على ابن قلبها ووحيد عمرها، حبيبها الصالح وولدها البكري الذي لا يوجد غيره، كأنه سُلب منها إلى أحد الأماكن التي لا يوجد بها شراب ولا طعام ولا حتى هواء يتنفسه، قلب الأم داخلها مفتور حزنًا على ابنها..


رحلت معها والدة "سمير" التي قررت عدم تركها إلى حين يعود والد "جاد" وذهبت معهم أيضًا والدة "هدير" إلى منزلها بعد أن تأخر الوقت..


بقيت "مريم" مع شقيقتها دقائق بعدهم تحاول أن تكون جوارها تواسيها في محنتها وتحنن قلبها المحروق على زوجها، ولكن "هدير" طلبت منها الصعود إلى شقتها وتتركها وحدها طالبة منها عندما يعود "سمير" تخبرها فورًا..


جلست في غرفة النوم على الفراش في مكان نومه وعينيها تذرف الدموع بقوة دون توقف، تتسابق في الخروج على وجنتيها الوردية من شدة البكاء وأنفها الذي ازداد احمرار لما يحدث معها..


وجهها شاحب كشحوب الأموات، عينيها يخرج منها الحزن مع الدموع بعد أن انطفئ بريقها اللامع كبريق عينيه الرمادية الساحرة..


أمسكت الهاتف بيدها واليد الأخرى تتحسس بأصابعها صورته الرائعة وهو على دراجته النارية يبتسم باتساع وعينيه تلمع بحب وشغف وسعادة هائلة، شفتيه ترتسم بدقة وحرافية رائعة وكل ما به رائع محبب إلى قلبها..


إنه "جاد الله" مُعذب الفؤاد إلى الممات، أول مرة تشعر بابتعاده أنها ضائعة، طفلة ضلت الطريق وليس هناك سبيل للعودة أو التقدم خطوة دون أمانها وسندها، روحها وكل ما تملك، إلى هذه الدرجة تحبه!.. بل وصلت إلى أسمى درجات الحب تخطت العشق والغرام مرت بالشغف والهوى والآن لا تدري إلى أي درجة توصلت..


دق الباب على حين غرة انتفضت من مكانها سريعًا خرجت من الصالة تأخذ حجابها معتقدة أنه "جاد" زوجها والآن فهمت لما تأخروا كل هذا! لكي يأتي معهم، وضعت الحجاب على رأسها تلفه بعشوائية ربما يكن "سمير" معه في الخارج.. 


سارت بسرعة وخطوات واسعة لتفتح له باب الشقة وازداد توعك معدتها من الفرحة التي أتت بعد حزن هائل لتتجسد صورة الحزن والرهبة الحقيقية أمامها بعد أن فتحت باب الشقة!..


وقف "مسعد" بابتسامة عريضة كريهة تبغضها وتبغض رؤيته وكل ما به، أغلقت الباب إلى آخره تمسكه بيدها ولم يبقى شيء ظاهر سوى هي أمامه تقول بقوة وغضب: 


-أنتَ عايز ايه غور من هنا 


كادت أن تغلق الباب ولكنه أعاق ذلك بكف يده العريض ضاغطًا على الباب ليبقى كما هو مُجيبًا إياها باستفزاز وسخرية:


-بالراحة مش كده يا برنسس أنا جاي أطمن على الاسطى جاد.. شدة وتزول 


اتسعت عينيها بشراسة وقوة وكرمشت ملامح وجهها بغضب حقيقي وهي تصيح بوجهه: 


-أمشي من هنا يا كلب.. صحيح يقتل القتيل ويمشي في جنازته 


مرة أخرى يدفع الباب وهي تغلقه رفعت نظرها عليه برهبة واستغراب كلي لما يفعله وهو عينيه أتت بها من الأسفل إلى الأعلى والعكس تستقر في نهاية المطاف على وجهها الحزين الباهت ولكن ذلك لن يمنعه عما يريد، فهي تثير جنونه وكل ما به، بتلك البشرة الرائعة المطبوع عليها نقوش فريدة من نوعها، عينيها وجمالها، شفتيها وما بها من أشياء يشتاق إليها منذ زمن..


دفع الباب مرة واحدة بقوة وهي تنظر إليه باستغراب ولم تعتقد أنه ربما يفعل ذلك لتعود بجسدها للخلف عنوة عنها بقوة كبيرة مذهوله مما بحدث، وسريعًا دلف هو إلى الداخل مغلقًا الباب خلفه ناظرًا إليها نظرة شيطانية خبيثة تصر على تحقيق ما يريد حتى لو كان الأمر سينتهي بموته..


صرخت بقوة وهي تعود للوراء وعينيها متسعة بخوف ورهبة حقيقية ونفس المشهد يعاد عليها من جديد: 


-أنتَ بتعمل ايه يا زبالة أطلع بره.. امشي يا حيوان 


ابتسم ببرود تام معبرًا عن الذي بداخله وهو ينظر إليها معقبًا على حديثها: 


-مش كل مرة يا برنسس.. مش كل مرة تسلم الجرة  


نظرته! عينيه المخيفة! أسنانه الصفراء! وجسده ووقفته وكل شيء به يثير خوفها، رهبتها! كل شيء يثير ضعفها وقلة حيلتها والآن بالتحديد!..


استدارت تركض إلى الخلف معتقدة أنها تستطيع فتح باب الشرفة قبل الوصول إليها ولكنها من الأساس لم تستطع الإبتعاد خطوتين متتاليتين، فقد أمسك بها من الخلف رافعًا جسدها عن الأرضية بيده الموضوعة على خصرها والأخرى على فمها تكتم صوتها الذي كان يريد الخروج لتتعبير عن ألمه وما يمر به..


دموع عينيها مرة أخرى تتوالى في الخروج بغزارة محاولة تحريك نفسها لتبتعد عنه وهي تضربه بيدها الاثنين ولكنه صلب، جبل صلب صمم على ما يريده متحاملًا على نفسه إلى النهاية..


في المرة الأولى من أنقذها "جاد" حبيب روحها، الآن أمانها ليس هنا، روحها سُلبت منها عند خروجه من الحارة، الطمأنينة ركضت بعيد عنها في هذه اللحظات العصيبة التي تتكرر مرة أخرى ولكن دون وجود المنقذ الوحيد الذي يستطيع التصدي لذلك الذئب البشري، روحها تزهق إلى السماء وقلبها يدق بعنف وقوة وكأنه على وشك الوقوف عن العمل لتلقى حتفها..


  تكملة الرواية إلي الآخر من هنا                          


                             





تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close