أخر الاخبار

رواية ندوب الهوي الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ندا حسن

رواية ندوب الهوي الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ندا حسن 


رواية ندوب الهوي الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ندا حسن 


الفصل السادس 


       "وفي لحظة قاسية ظن أن الحياة قد انتهت

        هنا، انتهت عندما وقعت عينيه على ضعفها

           أمام ذئب بشري أراد انتهاك حقه بها"


لقد مر بألم شديد في قلبه كثيرًا من المرات بسببها، كلماتها وأفعالها وكأنها تتعمد فعل ذلك، ولكن الآن فقط يعترف أنه يتألم عن حق، قلبه يتلوى على جمر الخوف والرهبة عليها، يحترق في قلب النيران والقلق ينهشه ضاغطًا عليه أكثر وكأنه يريد الإنفجار..


عقله أيضًا لم يُشفق عليه بل ازداد مساعدًا قلبه مصورًا له كثير من السيناريوهات البشعة الخاصة بها والتي ستجعلها شخص آخر غير الذي يعرفه..


بينما لسانه الوحيد الذي وقف معه وبجواره وهو يتمتم بالدعاء لها أن يحفظها الله من كل سوء إلى أن يصل إليها أينما كانت..


لسانه الوحيد الذي بقيٰ بجواره يحاول أن يساعده ويطمئن قلبه المشتعل بالنيران عليها، حزنًا وخوفًا وقهرًا!..


ماذا لو كانت هربت من المنزل بعد ما فعله شقيقها بها؟!، نعم تفعلها فهي كانت رافضة الزواج من "مسعد" رفض تام وحتى آخر لحظة دلف بها منزلهم وشاهدها بين يدي شقيقها، ولكن إلى أين ستذهب!.. لا يوجد أحد تعرفه سوى صديقتها "رحمة"..


ربما ساعدتها "رحمة" وذهبت إلى صديقتها الأخرى التي تحدثت عنها معه من قبل!.. ولكن إن كانت فعلتها فلن يمررها لها بهذه السهولة حتى ولو كان ليس له دخل بما يعنيها فيكفي وجودها مع ذلك الشاب البارد شقيق صديقتها.. 


أسرع في خطاه وكل هذا وعقله لا يرحمه متخيلًا أكثر من ذلك بكثير بينما قلبه يخفق بعنف وقوة شديدة خائفًا من فقدانها!..


أقسم داخله أنه بعد أن يجدها لن يجعلها تكون لغيره ولو مهما كلفه الأمر، أقسم ثلاث مرات متتالية أنه سيفعل المستحيل لتكن من نصيبه هو وإذا استصعب الأمر أكثر من ذلك سيعلم أن الله ليس مقدرها له، فيرضا بما كتبه الله له ويشكره على نعمته.. 


تخطى "جاد" "الخرابة" وسار راكضًا ليطمئن عليها ومازالت شفتيه تتمتم بالدعاء..


ولكن في وسط سكون الليل وعدم تواجد أحد في الشوارع والهدوء يطغي على المكان استمع إلى صرخة مدوية انشقت لها الأرض وصعدت إلى السماء مُزيلة سكونها.. 


صرخة كانت تُعبر عن خروج الروح من الجسد بطريقة بشعة وتركت خلفها جروح غائرة ستدوم إلى الأبد بالندوب الموجعة، ندوب لا تُمحى، ندوب بين الهوى والروح..


وقف "جاد" مكانه ولم يتحرك خطوة ولم يدري بعد من أين أتت هذه الصرخة الأنثوية، استدار ببطء وعينيه لا تريد منه أن ينظر إلى أي شيء قد يشير إليها ولكنه مع ذلك تحمل على نفسه ونظر إلى البيوت على جانبيه ثم وقعت عينيه على "الخرابة" وبابها الكبير المغلق..


صور له عقله مشهد سريع بشع للغاية كانت طرف منه فاغمض عينيه بقوة يعتصرهما حتى يُمحى من رأسه وتراجع سريعًا مرة أخرى راكضًا إلى "الخرابة" ليستمع إلى صوت بكاء حاد كلما أقترب منها، ولم يكن إلا صوتها!.. استمع إلى صوتها مطالبة بالنجدة بصوتٍ خافت يكاد أن يختفي!.. لم يفكر كثيرًا وقف دافعًا الباب عدة مرات بكل قوته إلى أن فُتح على مصراعيه..


دلف راكضًا ثم وقعت عينيه عليها وهي تصارع حيوان لا يقوده إليها إلى غرائزه الحيوانية، انقض عليه ساحبًا إياه من فوقها بحدة شديدة من قميصه وعنقه، جعله يقابله بوجهه ثم لكمة بكل ما أوتي من قوة أسفل عينيه وقهرة قلبه لا توصف ولا تُحكى على ما شاهدة..


هذا أبشع مظهر قد يراه في حياته، هناك من انتزع قلبه بكل قسوة من داخل قفصه الصدري، هناك من ضربه بنصل حاد ولكنه لم يقتله، تركه يتألم وحده..


لو كانت تزوجت غيره لم يكن سيحزن كما الآن، الآن فقط تمنى لو كانت تزوجت غيره ولا يحدث لها مثل هذه الحادثة البشعة..


ترنح الآخر إلى الخلف واصطدم بالحائط خلفه، فتقدم منه "جاد" مرة أخرى قابضًا على عنقه بيد والأخرى قام بضربه ببطنه بكل قوته عدة مرات متتالية إلى أن قذف الدماء من فمه..


انخفض "مسعد" على الأرضية ولم يستطيع الدفاع عن نفسه أمام "جاد" حيث أنه لم يكن بوعيه وكان يترنح وحده من الأساس..


جذبه "جاد" مرة أخرى وهو يلهث بسبب عنف ضرباته له وقام بضربه عدة لكمات في وجهه الذي أُغرق بالدماء ولم يعد يرى ملامحه ثم أحكم قبضته على رأسه ودفعه عدة مرات في الحائط إلى أن فُتحت رأسه وانسالت الدماء منها بغزارة ليقع على الأرضية فاقدًا للوعي..


جلس فوقه "جاد" واضعًا يده الاثنين حول عنقه مقررًا أن ينقذ البشرية جميعها من شره وأخذت يده تشتد عليه بقوة شديدة


صرخت "هدير" بإسمه لأول مرة دون ألقاب ووقفت سريعًا من ذلك الجانب الذي كانت تجلس به بعيد عنهم تبكي بهلع وخوف، توجهت إليه سريعًا تجذب يده من حول عنقه خائفه أن يموت حقًا ويكُن هو القاتل!:


-سيبه أبوس ايدك سيبيه هيموت 


انتحبت كثيرًا وهي لا تستطيع جذب يده من عليه فقد كان وكأنه لا يرى أمامه ولا يستمع صوتها من الأساس، صرخت به بحدة وخوف شديد تدفع يده بقوتها الهشة ولكن لا جدوى لما تفعل!.. 


ألقت نفسها عليه تحتضن عنقه بيدها المرتعشة والبكاء مزق احبالها الصوتية:


-كفاية علشان خاطري متضيعش نفسك علشانه، بالله عليك كفاية يا جاد 


فك يده من حول عنقه ووضع إصبعه أمام أنفه ليتأكد إن كان على قيد الحياة ووجده مازال حيًا، وقف على قدميه واوقفها معه وقلبه يقرع كالطبول وصوت بكائها يمزقه إلى أشلاء..


نظر إليها وجد حجابها ليس أعلى رأسها بل خصلاتها مندسلة على ظهرها بالكامل وهيئته غير مهندمه، عباءتها أزرارها ليست مغلقه وملابسها البيتية تظهر خلفها بوضوح، رفع عينيه سريعًا عنها ونظر إلى داخل عينيها متحدثًا بنبرة خافتة وهو يلهث بعنف:


-أنتِ كويسة؟ 


أومأت إليه برأسها عدة مرات متتالية ثم غيرت اتجاهها مشيرة إلى أنها ليست بخير بالمرة وازاد بكائها وتصاعد صوت نحيبها ليجدها ترمي بنفسها في أحضانه دون سابق إنذار..


لم يكن في حالة تجعله يفكر بأبعادها عنه بل لف يده حول خصرها محتضن إياها بشدة مبادلًا إياه العناق عندما شعر برجفة جسدها الغير طبيعية محاولًا بث الأمان بها، ولم يفكر بأي شيء آخر مثل أنه لا يجوز احتضانها هو فقط يريد أن يجعلها تشعر أن الأمور جميعها بخير وليس هناك شيء يستدعي خوفها ورجفتها بهذه الطريقة..


توعد إلى "مسعد" بالكثير داخله عازمًا أمره على أن يجعله يندم لأنه فكر بها فقط، هي التي انقذته من بين يديه، نظر إلى مكانه بغل متوقعًا أن يكون ملقى على الأرضية ولكنه فتح عينيه عندما انشغل "جاد" بـ "هدير" وذهب زاحفًا إلى الخارج لينفد بحياته..


أبتعد عنها وهو لا يستطيع أن يفعل لها أكثر من ذلك وقد ود الفعل داخله حقًا ولكنه لا يستطيع، تحدث بصوتٍ مُنهك ونبرة متوترة:


-اقفلي عبايتك 


استدار ليبحث عن حجابها وقد وجده ثم جذبه إليها ووضعه أعلى رأسها بهدوء وحنان ربما يخفي بعض من خصلاتها.. وقع نظرة على يدها وهي تغلق عباءتها، كانت ترتجف بشدة ولا تستطيع أن تغلق الزر مرة واحدة بسبب ما يحدث معها من ارتجاف في كامل جسدها..


قبض "جاد" على يده بقوة وعنف شديد وداخله يشتعل لرؤيتها هكذا وازداد توعده إلى ذلك الشيطان "مسعد"..


دلف "سمير" إليهم سريعًا بعد أن قابل "مسعد" يركض بالخارج وهو لا يرى أمامه حتى.. وعلم أنهم هنا متوقعًا ذلك من مظهره أكمل عليه بعد ضربات "جاد"، ولم يسمح له بالذهاب إلى عندما دفعه وركض..


نظر "سمير" إلى "جاد" بعد أن دلف مشيرًا إليه بعينيه باستغراب، فاستدارت سريعًا تنظر خلفها عندما شعرت أن هناك أحد غيره معها، رأته يقف خلفها فتوجهت سريعًا لتقف خلف "جاد" بحركة لا إرادية منها بعد ما مرت به هذه الليلة..


لم يتحدث "جاد" معها ولم ينظر إليها قد، فقط أشار لـ "سمير" بالذهاب قائلًا بجدية:


-امشي يا سمير طمن أم جمال وأنا جاي وراك معاها  


أومأ إليه ابن عمه دون التفوه بحرف ومن مظهر "هدير" فهم ما حدث فاخفض وجهه بالأرض وخرج ذاهبًا ليفعل مثلما قال له "جاد"..


استدار لها "جاد" أخذًا نفسٍ عميق وحاول أن يتحدث بهدوء ونبرته الرجولية سيطرت على حديثه:


-اهدي خلاص، اعتبري إن محصلش حاجه.. بطلي عياط علشان خاطري 


رفعت بحر العسل الصافي الخاص بها لتنظر إلى عينيه الرمادية والحزن يتربع على قلبها وكل خلية داخلها، عينيها تخرج منها الدموع بغزارة دون توقف، أخفضت عينيها مرة أخرى وهي شاعره أنها لا تستطيع أن تنظر إليه بعد ما حدث وبعد رؤيته لذلك الوضع الذي كانت به...


-طيب بلاش علشان خاطري، الست والدتك لو شافتك كده ممكن يحصلها حاجه وأختك الصغيرة تروح فيها... أرجوكي أهدي 


وضعت وجهها بين يدها الاثنين ثم أخذت تبكي بشدة منحنية على نفسها والألم ينهش قلبها مما حدث وما مرت به، عقلها يلقي عليها مشاهد بشعة كانت ستحدث لها لو لم يأتي إليها "جاد" في الوقت الذي كان ينفذ منها بسرعة كبيرة، انتحبت بشدة وصوت شهقاتها يعلو فتركها تفرغ ما داخلها لعلها تستريح فما حدث لها لم يكن هين بالمرة عليه هو فما شعورها هي!..


                                 ❈-❈-❈


كان قلب والدتها يحترق وهي لا تدري ما الذي حدث لابنتها وأين هي، عندما عادت للمنزل حاولت الإتصال بولدها "جمال" حتى يأتي ويبحث عن شقيقته ولكن هاتفه كان مغلق، وهو هكذا دائمًا لا تجده في مثل هذه المواقف، بينما حاولت "مريم" الإتصال بـ "رحمة" على أمل أن تكون فتحت هاتفها ولكن دون جدوى..


جلست هي وابنتها على جمر أسفلهم خائفين على "هدير" والقلق ينهش قلوبهم..


عاد "سمير" إليهم بعد وقت ليس طويل وأخبرهم أنها مع "جاد" في الطريق إلى هنا، اطمئنت والدتها وحمدت الله كثيرًا وجوارها ابنتها التي هدأت وأغمضت عينيها براحة لينظر إليها "سمير" بهدوء واستأذن منهم ليقف في الخارج لأنه لا يجوز بقائه معهم في المنزل في مثل هذا الوقت، وقف أمام الباب الخارجي ينتظر عودة "جاد"..


رآهم قادمون من أول الشارع يسير "جاد" و "هدير" بجواره منكمشه على نفسها وكلما أقتربت رأى الذعر والخوف يرتسم على ملامحها..


دلفت إلى داخل البيت معه وأتى ابن عمه خلفهم، فتحت لها الباب شقيقتها بعد أن دقه "جاد" وكانت والابتسامة على وجهها ولكن عندما رأت شقيقتها زالت الابتسامة وذُهلت وهي تنظر إليها قائلة اسمها بصدمة: 


-هدير!


وقفت والدتها سريعًا عندما استمعت إلى ابنتها "مريم" تهتف باسم شقيقتها وتقدمت من باب الشقة لتراها، فتحت الباب إلى آخره لتتفاجئ بهذه الهيئة أمامها!.. 


حجابها ليس كما خرجت بل مغطي رأسها عنوة عنه لأنه ممزق!، وجهها شاحب منتفخ وعينيها حمراء وانفها وتبكي!..


عباءتها عليها غبار كثيرًا ويبدو وكأنها نايمة على الأرضية ولكن بعنف شديد، نظرت إلى "جاد" و "سمير" خلفه وتحدثت متسائلة بخفوت وصدمة احتلت ملامحها:


-في ايه!. هدير حصلها ايه 


أجابها "جاد" بجدية وحزم وصوته جاد قائلًا وهو يشير إلى الداخل: 


-طيب ندخل وهقولك على كل حاجه 


أبتعدت عن الطريق ليحث "هدير" على الولوج إلى الداخل ففعلت وهو من خلفها وابن عمه أيضًا الذي أغلق الباب من خلفه..


جلسوا على الأريكة في صالة المنزل ناظرًا إلى "هدير" التي دلفت غرفتها وأغلقت الباب من خلفها، فنظر إلى "مريم" قائلًا بحزن عميق ظهر بعينيه:


-خليكي معاها يا آنسة مريم 


فعلت كما أخبرها وذهبت خلفها إلى الداخل فوجه نظره إلى والدتها التي تحدثت بحدة قائلة وهي تشير بيدها: 


-في ايه يسطا جاد بنتي حصلها ايه 


وضع وجهه بالأرضية لا يدري ما الذي عليه قوله لها في مثل هذا الموقف، ولكن يجب أن تدري بكل ما حدث، رفع وجهه إليها وتحدث بجدية ونبرة حادة قليلًا:


-الحمد لله يا أم جمال محصلش حاجه هو بس مسعد حاول يتعرضلها 


وقفت على قدميها تصرخ بهلع وحدة قائلة وهي تضرب يدها على صدرها:


-اتعرضلها إزاي يعني! عمل فيها ايه.. عمل فيها ايه قولي... عمل ايه في البت 


وقف "سمير" على قدميه أمامها وتحدث قائلًا بعقلانية حتى تهدأ: 


-يا خالتي أم جمال أهدي جاد قالك محصلش حاجه هو لحقها 


جلست أمامهم تندب حظ ابنتها العثر مع ذلك الدنيء "مسعد" وهي تضرب بيدها على فخذيها قائلة بحدة وغضب:


-هو الجواز بالعافية يا ناس، لا إحنا موافقين ولا هي موافقة يا عالم 


نظر إليها "جاد" باستغراب مستنكرًا حديثها فـ "هدير" وافقت اليوم أمام عينيه ما الذي تغير!.. ولما قد يفعل "مسعد" ذلك بعد موافقتها؟، تسائل قائلًا مضيقًا عينيه:


-بس هي وافقت 


أجابته بحزن وعينيها منكسرة بسبب ما يفعله ابنها بهم:


-موافقتش والنبي يا ابني، لامؤاخذة يعني قالت كده قدامك علشان محدش يدخل بينها هي وأخوها بس بعد ما مشيت أنتَ قالتله أنها مش موافقة ولو هتموت حتى تموت ولا أنها تتجوزه  


هل أرتاح قلبه أم ماذا حدث!.  يبدو أنه أرتاح حقًا لم توافق عليه ولن توافق أبدًا أنه كان يشعر بذلك ولكن حديثها هو من جعله يتوقع منها الموافقة والزواج، لقد نهشت قلبه الغيرة وحطمه الألم عندما أظهرت موافقتها يا لها من غبية!..


وجد والدتها تهتف بحرقة عاليًا أنها لن تتركه هذه المرة ودلفت سريعًا إلى المطبخ عائدة بسكين في يدها، صاح "سمير" عاليًا هو "جاد"  حتى لا تفعل ذلك.. وقف أمامها "جاد" وهو يراها تتقدم من باب الشقة وهتفت بغضب وهستيرية والسكين بيدها:


-هموته.. مش هسيبه لما يموت البت أنا اللي هعملها قبله واجيب حق بنتي 


أمسك "جاد" بيدها سريعًا أخذًا منها السكين وهو يهتف بحدة:


-حق بنتك هيجيلك لغاية عندك بس أنتِ أهدي يا أم جمال وهديها هي كمان.. هي محتاجاكي 


نظرت إلى "سمير" الذي أومأ إليها برأسه موافقًا على حديث ابن عمه فأكمل هو حديثه قائلًا:


-ادخلي اطمني عليها يا أم جمال وناديلي الآنسة مريم دقيقة 


ذهبت إلى غرفة ابنتها واختفت خلف الباب ليرى "مريم" تتقدم منه والحزن يرتسم على ملامحها فتحدث قائلًا بجدية بعد أن أخرج هاتفه من جيبه: 


-اديني رقمك يا آنسة مريم 


نظرت إليه باستغراب ولم تتحدث فابتسم بهدوء ابتسامة مصطنعة قائلًا:


-علشان لو حصل أي حاجه وجمال مش موجود تكلميني أنا بردو زي اخوكي 


اعطته الرقم فهاتفه لتستمع إلى رنة هاتفها، أغلق هو ثم قال بجدية:


-مش هوصيكي لو حصل حاجه أنا موجود، وخدي بالك من والدتك ياريت متخليهاش تعمل أي حاجه 


أومأت إليه برأسها ثم استأذن هو وذهب من الشقة هو وابن عمه بعد أن شكرتهم "مريم" لما فعلوه لأجلهم وصعد كل منهم إلى شقته..


لكن "جاد" بقي قلبه وعقله في الأسفل مع الغبية التي حرقت قلبه بحديثها وموافقتها أمامه، وما رآه اليوم لم يكن هينًا أبدًا فقد تمزق داخله وتلوى على جمر مشتعل وهو يتخيل لو كان تأخر قليلًا وهي لا حول لها ولا قوة لم تستطيع أن تجابه "مسعد" وتبعده عنها..


في هذه اللحظة كان سيموت قهرًا عليها وعلى ما حدث لهم هم الاثنين، يعود مرة أخرى ليحمي هذه التراهات من عقله وهو يحمد الله أن كل شيء على ما يرام وهي بخير ولم يمسها سوء ولكن حساب "مسعد" لم يصله بعد


تمدد على الفراش في غرفته بعد أن وجد الساعة تخطت الثانية صباحًا بكثير فانتظر ليصلي الفجر ويقوم بالدعاء ككل يوم ليتحقق ما يريد وهو يعلم أن الله سيحقق له كل ما في خاطرة ويسبب الأسباب لذلك..


                                 ❈-❈-❈         


"اليوم التالي"


في الصباح سارت "مريم" في الشارع وعلى يدها بعض الكُتب، كانت شاردة وهي تسير ولا تنظر إلى أحد، تفكر فيما حدث بالأمس لشقيقتها والحالة التي أصبحت عليها الآن، وحتى إن شقيقهم لم يعود منذ الأمس، هو دائمًا هكذا يسبب لهم الحزن جميعًا ويأتي عليهم وكأنهم أعداء له، تتمنى أن يتغير قبل أن يفقدهم من جواره..


منذ أن توفى والدهم وشقيقتها هي المسؤول الأول عن الجميع حتى "جمال" المعاش الذي يخص كل منهم لا يكفي أبدًا في ظروف الحياة الصعبة هذه وهي لا توافق أن يساعدهم أحد حتى والد "جاد" الذي يعتبرونه في مكان والدهم، يعطي والدتها ما يخرج من ضميره من خلفها..


تشعر بالحزن الشديد عليها وعلى ما مرت به، وتخاف أن يحدث لها شيء أو يتربص لها "مسعد" بعد ما فعله به "جاد"، لقد قالت لها شقيقتها أنه كسر عظامه..


-آنسة مريم... يا آنسة مريم 


انتبهت إلى الصوت الذي يناديها فاستدارت لتنظر خلفها ووجدت أنه "سمير" ابتلعت ما بحلقها ووقفت تنظر إليه بهدوء وهو يقترب منها إلى أن وقف أمامها وتحدث قائلًا بمرح:


-سرحانه في ايه كده بقالي ساعة بنادي


ابتسمت بهدوء وأجابته قائلة وهي تنظر الأرضية: 


-ولا حاجه بس مسمعتش 


ابتسم إليها متحدثًا بنبرة هادئة وهو يتسائل عن أحوال شقيقتها:


-البشمهندسة هدير عامله ايه دلوقتي


ظهر الحزن على وجهها وأجابته بهدوء هي الأخرى قائلة:


-الحمد لله بخير .. عن اذنك 


ثم أولته ظهرها وذهبت في طريقها مبتعدة عنه وهي تلهث بعنف ودقات قلبها تقرع كالطبول داخل قفصها الصدري، أنه "سمير أبو الدهب" العشق الأول والأخير والذي لا يشعر بوجودها من الأساس، هل هو جبل صلب يلا يراها؟.. 


بينما هو نظر إليها وهي تبتعد عنه ورأى حجابها يتطاير خلفها وقد أشعره ذلك براحة غريبة سارت داخله وازدادت عندما لاحظ ملابسها الواسعة الفضفاضة، لما ذلك الشعور بالراحة لرؤيتها من الأساس؟..


                                 ❈-❈-❈


دق باب الشقة، فتحت "نعمة" والدة "هدير" بعد لحظات، نظرت إلى الطارق وجدته "جاد" يقف أمامها بوجه هادئ فتحدثت قائلة وهي تفسح له المجال للدخول:


-اتفضل يا جاد يابني 


دلف معها إلى الداخل وجلس في صالة الشقة الصغيرة وجلست أمامه منتظرة منه أن يفسر لما أتى الآن..


حمحم جاد بخشونة وتحدث قائلًا بنبرة رجولية جادة:


-بعد اذنك يا أم جمال أنا كنت عايز أشوف الآنسة هدير خمس دقايق بس 


نظرت إليه ولم تجيبه تنتظر أن يكمل حديثه ويبرر لها لماذا يريد رؤيتها، فأكمل قائلًا:


-هتكلم معاها بخصوص اللي حصل امبارح 


وقفت على قدميها بعد أن أومأت إليه برأسها بهدوء وتقدمت إلى غرفة "هدير" التي غابت بها لحظات وخرجت متوجهة إلى المطبخ بعد أن قالت له أنها آتية إليه..


حاول أن ينهي عقله عن التفكير بأي شيء إلى أن يتحدث معها على الأقل، رأسه بدأ يؤلمه بسبب كثرة التفكير وهذه عادة سيئة للغاية.. 


خرجت من الغرفة تتقدم ناحيته مرتدية إسدال الصلاة وحجابها يصل إلى منتصف خصرها من الأمام والخلف، عينيها تنظر إلى الأرضية غير قادرة على النظر إليه..


جلست على الأريكة أمامه فنظر إليها بدقة يحاول أن يفهم ما الذي يعبر عنه وجهها ولكنها كانت تضعه بالأرضية لتصعب عليه كل شيء..


زفر "جاد" بهدوء ثم تحدث قائلًا بهدوء وهو يتساءل:


-عامله ايه دلوقتي؟


أجابته بصوتٍ خافت وهي تضغط على يدها الاثنين ومازالت تنظر إلى الأرضية:


-الحمد لله بخير 


أومأ برأسه ثم أردف بجدية وهدوء ونبرته الرجولية تعبر عنه:


-أنا جاي علشان أشوف أنتِ عايزة ايه يتعمل مع مسعد وهنفذه، عايزة تبلغي عنه؟.. 


رفعت رأسها بحركة مباغتة بعد الاستماع إلى ما قاله وتحدثت بجدية شديدة وارهبها هذا الحديث مما قد يفعله "مسعد":


-لأ مش عايزة أبلغ، أنا عايزاه يبعد عني بس.. يسيبني في حالي 


ضيق ما بين حاجبيه متحدثًا بنبرة حادة:


-بس أنتِ ليكي حق عنده وكده ولا كده أنا هجيبه بأيدي بس...


لم تجعله يكمل ما بدأ الحديث به حيث أنها تحدثت بحدة ولهفة بعد أن علمت ما ينوي فعله:


-جاد أنتَ مش زيه بلاش تعمله حاجه دا راجل سو ولبط.. بلاش تحطه في دماغك ممكن يرتبلك هو ورجالته ويعملوا فيك حاجه 


عينيها!. نظر إلى عينيها الساحرة وأبحر داخلها بعد الاستماع إلى اسمه للمرة الثانية منها مجرد من الألقاب، بادلته النظرة إلى رماديته الخلابة وداخلها يشتعل لكونه لا يدري ماذا تريد بعد..


أخفضت بصرها وفعل المثل مستعيذًا من فتنة الشيطان، أتت والدتها عليهم تحمل على يدها صينية صغيرة فوقها كوب من الشاي، قدمته إليه وذهبت مرة أخرى إلى الداخل. 


وضعت عينيها على الأرضية مرة أخرى وأخذت نفسٍ عميق متحدثة بما وجدته صحيح:


-أنا مش عايزة أبلغ عنه ومش عايزه أخلي حد يعرف عني حاجه، أنتَ عارف الناس هنا عامله إزاي وياريت تشيل ايدك من الموضوع ده أنا مش عايزاك تتأذى بسببي 


مال إلى الأمام قليلًا بجسده في جلسته الغير مريحة على هذه الأريكة، وأردف قائلًا بجدية مُجيبًا إياها بصوت رجولي خشن قاسي:


-هخليه لو شافك في شارع يمشي من شارع تاني، أنا مش عيل هتخافي عليه أنا راجل تخافي منه وكنت عايز اجبلك حقك بالقانون بس هحترم رغبتك وانفذ اللي أنتِ عايزاه 


إنه حقًا مجنون، أن يتصدى لـ "مسعد" فهذا جنون رسمي، تعلم أنه يستطيع أن يمحيه من هنا ولكن خوفها ليس إلا من مكر "مسعد" وخبثه..


أجابته بصوتٍ حازم وجدية شديدة تشوبه قائلة:


-لو سمحت أفهم مسعد مش زيك ده راجل زبالة وكل طرقه ازبل منه أنا واثقة فيك وعارفه أنك تقدر تعمل كتير بس مش واثقة فيه هو  


ابتسم وهو يعود بظهره إلى الخلف مرة أخرى وتفكيره يدعوه لتصديق ما أمامه، أما أنها تخاف عليه أو أنها تخاف عليه الاثنين إلى طريق واحد داخل عقله ونظرة الخوف واللهفة هذه تقوده إلى تصديق قلبه المشير إلى خوفها الصادق عليه..


بينما في الخارج اجتمع الجميع أمام ورشة "جاد" ومنزله القابعة به "هدير" وعائلتها، يستمعون إلى خبيث يروي حدث ألفه عقله بعد ما حدث منه ومعه بالأمس أسفل عيني "جاد" وابن عمه..


وقف "مسعد" في المنتصف يهتف بحدة وصوتٍ عالٍ ليستمع إليه الجميع وقد كان وجهه لا يظهر منه شيء بسبب العلامات التي تركها "جاد" عليه:


-جاد الله ابن المعلم رشوان هو اللي عمل فيا كده يا حارة اشهدو كلكم 


نظر إلى الوجوه الذي تجتمع أمامه بسبب صوته العالي وأكمل قائلًا:


-اشهدو يا حارة على اللي بيعمله الشاب الصالح اللي بتقولوا عليه مدورها مع البت وعلى عينيك يا تاجر 


خرج "عبده" ومن معه بالورشة بعد استماعه إلى ما يهتف به وأردف مُجيبًا إياه بحدة بعد أن وقف أمامه:


-هو أنتَ عايزه يعلم عليك بجد ما تحترم نفسك يا راجل أنتَ وتغور من هنا 


صرخ به "مسعد" بعصبية قائلًا:


-اخفى ياض من وشي السعادي 


استمع والده إلى ما هتف به "مسعد" بعد أن نظر من الشرفة ولم يرى "جاد" أو يستمع صوته فهبط من المنزل سريعًا ليرى ما الذي يريده هذه المرة..


بينما في الداخل في شقة "هدير" استمعوا إلى صوت "مسعد" العالي يصرخ ولكن لم يتبين ما الذي يهتف به، وقفت هدير بسرعة تدلف إلى الغرفة لترى ما الذي يحدث في الخارج وقلبها يدق بعنف شاعرة أن القادم أسوأ بكثير..


وقف من خلفها "جاد" ونظر إلى الخارج بعد أن فتحت النافذة ليرى جمع من الناس ومن بينهم والده الذي وقف أمام "مسعد" متسائلًا عما يريد من ابنه فأجابه قائلًا:


-عايز افضحه هو وبرنسس الحارة وأعلم عليه قدام أهل الحارة كلهم زي ما عمل معايا 


وجده ينظر إلى النافذة التي طل منها "جاد" و "هدير" وضحك بصوتٍ عالٍ أمام الجميع وهو يشير إليهم ليجعل الجميع يصدقون حديثه:


-أهو الباشا اللي مقضيها مع بت الهابط اللي عملت عليا شريفة وأنا اللي كنت رايد الحلال اتاريها من بتوع السكة شمال يابا 


نظر والده إليه ولم يستوعب ما الذي يفعله ابنه في منزلهم الآن وقد كان هذا سؤال الجميع بينما هو لم ينظر إلى أحد وكل ما أتى بخلده أن يجعل ذلك الحيوان يخرس عن التحدث عنها بهذه الطريقة..


استدار سريعًا ليذهب إلى الخارج وهو يلعن داخله ومتوعدًا له بما لا يروقه أبدًا، ذهبت خلفه "هدير" سريعًا محاولة أن تجعله يهدأ قبل أن يخرج له فهي تعلم ما الذي يفكر به الآن وما الذي ينوي فعله ولكنها لا تعلم النتيجة كيف ستكون..


خرج من باب الشقة ووجدها تركض خلفه فاستدار لها قائلًا بحدة وصرامة:


-اوعي تخرجي بره 


أكمل طريقة إلى "مسعد" وداخله يدعوه لقتله هذه المرة..

#ندوب_الهوى

#الفصل_السابع

#ندا_حسن


خرج "جاد" من المنزل وكأن الشياطين تلاحقه، عقله يدعوه لقتل "مسعد" بأي طريقة كانت، هناك داخله غضب يكفي أن يجعل الجميع يرتابون منه إلى أن يبللون أنفسهم..


تقدم منه بخطوات واسعة ثابتة وغضبه يعميه عن أي شيء أمامه سوى "مسعد"، قبض على مقدمة قميصه جاذبة منه بحدة شديدة وهو يتحدث بعصبية قائلًا:


-شكل علقة امبارح معملتش معاك الصح.. والمرة دي بقى هتعمله 


لكمة في وجهه على حين غرة أمام الجميع بحدة وعصبية شديدة إلى أن ترنح "مسعد" إلى الخلف ووقع على الأرضية جالسًا ينظر إليه بذهول، ألم يكتفي بعد!.. سيجعله يندم كثيرًا اليوم على كل ما فعله به ليشاهد فقط..


تقدم "عبده" من "جاد" جاذبًا إياه من الخلف حتى لا يجعله يتقدم من ذلك الأبلة وهو بهذه الحالة وتقدم كلًا من "طارق" و "حمادة" لمساعدته في إبعاده عنه..


صرخ بهم "جاد" بصوت عالي أن يتركوه ليخلص عليه حتى يشعر بالراحة بعد ذلك ولكنهم لم يفعلوا بل جذبوه بقوة أكبر ليبتعد عنه فصرخ به قائلًا أمام الجميع:


-جاد الله أبو الدهب هيعلم عليك يا مسعد وهيمحي النقص اللي عندك علشان تتعلم بعد كده تبص ناحية مين وتعرف تحدد كويس مين اللي من مقامك علشان شكلها كده هبت منك خالص 


وقف "مسعد" بعيد عنه نسبيًا ليحتمي من بطشه بينما كان "سمير" يأتي من بعيد بعد أن علم ما يحدث ليستمع إلى صوت "مسعد" يقول بحقد وكذب: 


-اللي كانت من مقامي بت الهابط وأنتَ خدتها مني للشمال ياض.. فوق لنفسك أنا أعمل منك أربعه يلا 


نظر ناحية النافذة وغمز بعينيه إليها عندما وجدها تنظر إليهم ويكاد الخوف يندلع من عينيها ليقع أمام الجميع متحدثًا عن مخاوفها، ضغط "جاد" على أسنانه بشدة محاولًا الفرار من هؤلاء الأغبيه ولكنه استمع إلى صوت "سمير" الصارخ يهتف وهو يشيح بيده بهمجية:


-شمال مين يا راجل يا قله أنتَ، أنتَ هتعمل علينا شريف ولا نسيت اللي عملته امبارح لما....


وضعت "هدير" يدها على فمها شاهقة بفزع خوفًا من أن يتحدث "سمير" وكاد قلبها أن يتوقف عن العمل ولكن أنقذه "جاد" عندما صرخ به هو الآخر:


-سمير أسكت خالص 


فهم "سمير" أنه لا يريد ذكر ما حدث بينما أغمضت والدة هدير عينيها براحة بعد أن جعله جاد يصمت فلو كان تحدث لفضحت ابنتها أمام الجميع، استندت على باب المنزل بقلة حيلة وهي ترى الجميع ينظر إليها وإلى ابنتها هكذا بهذه النظرة الرخيصة لأول مرة!..


-يسكت ليه ما تسيبه يتكلم 


كانت هذه كلمات "مسعد" الساخرة وهو يخرج هاتفه من جيبه ثم فتحه وضغط عليه عدة مرات متتالية وسار أمام جميع من يقف وهو يضع الهاتف أمام عينيهم ويتحدث بسخرية:


-أهو عشان محدش يكدبني.. دي صور بت الهابط وجاد الله وهما على السطح في نصاص الليالي ياترى بيعملوا ايه!. بيلعبوا استغمايه 


-سيبوني بقولكم.. موته على أيدي النهاردة 


صرخ بهم "جاد" وهو يحاول الوصول إليه ليفتك به وجسده متشنج بشدة بينما تقدم منه "سمير" ليجذبه هو الآخر إلى الخلف فلا أحد يستطيع السيطرة عليه وهو هكذا..


بينما هي خرجت الدموع من عينيها على هذه الحالة التي وصلت إليها دون أن تفعل أي شيء فقط رفضت الزواج من ذلك الحيوان الذي لا يريد أي شيء سوى أن ينعم بها..


صرخ "رشوان أبو الدهب" في ابنه بعد صمت دام طويلًا جاعلًا الجميع يبتعد عنه:


-سيبوه.. أقف مكانك يا جاد ومش عايز اسمع ولا كلمة منك 


وقف "جاد" دون أن يلمسه أحد احترامًا لحديث والده أمام الجميع ولكنه يحترق من داخله، يشعر بأنه إن لم يقتل "مسعد" سيموت هو، قبض عليه يده الاثنين بشدة حتى ابيضت مفاصله وبرزت عروق جسده..


تقدم والده من "مسعد" ووقف على بعد مسافة صغيرة منه، رفع عصاة مُشيرًا بها على صدر "مسعد" وتحدث أمام الجميع قائلًا بهدوء:


-زي ما الكل سمع كلامك لازم يسمعوا كلامي... قولي يا مسعد أنتَ عايز ايه!


ابتسم بسخرية وتهكم واضح أمام الجميع ونظر إليه بغل مُجيبًا إياه قائلًا:


-أنا جتلك لحد عندك أخطب البرنسس منك وأنتَ رفضت وطلع ابنك مدورها معاها يبقى لازم افضحهم قدام أهل الحارة كلهم علشان يبقوا عبرة وزي ما قال ابنك كل واحد يعرف مقامة ايه 


أومأ "رشوان" برأسه بهدوء ثم دفع بالعصا في صدره قائلًا بجدية شديدة ونظرة حادة:


-وهو مش عيب من راجل كبير زيك إنه يخوض في عرض بنت من بنات الحارة... وخصوصًا بقى لو كانت خطيبة ابني!..


استدار "جاد" بوجهه ناظرًا إلى والده بدهشة واستغراب شديد لم يستطيع أن يخفيه في اللحظات الأولى من استماع هذه الكلمة ولكن سريعًا تدارك نفسه وابتلع ما وقف بحلقه ناظرًا إلى "هدير" في النافذة ووجد صدمتها لم تقل عنه أبدًا، اتسعت عينيها بدهشة وهي تستمع إلى حديثه غير مصدقة ما الذي تفوه به..


تحدث مرة أخرى بجدية وثبات أمام الجميع: 


-موافقتش عليك تتجوزها يا مسعد علشان كان جاد اتقدملها ومستنين الرد وعيب أوي مننا نقول إنه خطيبها من غير ما يوافقوا.. علشان كده قولتلك لأ يا مسعد.... وبعدين قرينا الفاتحة والنهاردة كانت هتروح هي وأمها وأختها يختاروا الدهب مع جاد وسمير وكتب الكتاب لما أخويا ومراته يرجعوا، ولا ايه يا أم جمال 


نظرت إليه باستغراب لا تعلم ما الذي عليها أن تقوله، إنه ينقذ ابنتها من حديث الناس غير مُجبر على ذلك ولكنه فعلها، وهي لا تعلم ما الذي تتفوه به أمام الجميع هكذا وهم ينظرون إليها منتظرين حديثها المؤكد له:


-أيوه.. أيوه يا حج رشوان جاد خطب هدير 


تحدثت بهذه الكلمات بتوتر شديد والتردد بداخلها تخاف من أن يمحي كل ما قاله في لحظة كما وُجد في لحظة.. 


نظر "رشوان أبو الدهب" إلى "مسعد" والابتسامة على محياه تُبرز تجاعيد وجهه، أخفض العصا من على صدره ثم استدار للجميع قائلًا بجدية تامة:


-انتوا عارفين يا جماعة إني راجل كبير ومش بتاع مشاكل لا أنا ولا ابني، بس مسعد حاطط عينيه على واحده هتبقى مرات جاد الله رشوان أبو الدهب وهو اللي بياخدنا للمشاكل والمرة دي أنا مش هسكت لكن هسيبكم انتوا اللي تحكموا بعقابة... لما يرمي بنات الناس كل يوم والتاني بالطوب يبقى يتعاقب 


تحدث أحد الواقفين في الجمع قائلًا:


-هو إحنا يعني يا حج رشوان مش عارفين مسعد بتاع الحته بميه ولا عارفين تربية سامي الهابط الله يرحمه 


بينما آخر تحدث قائلًا بجدية هو الآخر:


-الأول ألف مبروك للاسطى جاد والتاني مسعد يقعد في قعدة ويتحكم عليه بفلوس مهي بنات الناس مش لعبة وبعدين عايز تتجوز واحده قد بناتك يا راجل اختشي على دمك 


تقدم "مسعد" من هذا الرجل وداخله يحثه على أن يبرحه ضربًا ولكن عصا "رشوان أبو الدهب" منعته عن ذلك قائلًا:


-الراجل مغلطش يا مسعد دا قال الحقيقة.. قدام الكل ولو غلطان يقولولي هنعتبر دي القاعدة وأهي تبقى في حضور الحارة كلها كبير وصغير.. ميه وخمسين ألف جنية الجمعة الجاية يكونوا عندي نجهز بيهم البنات اللي أهاليهم مش قادرين يجهزوهم ويبقى ثواب ليك عند ربنا 


تعالت أصوات الجميع منهم من يشكره، والآخر يقول إن هذا الحل المناسب بينما الباقون فرحون بما حل بـ "مسعد" لأنهم يعرفونه جيدًا 


بينما "مسعد" كان داخله يحترق والنيران تنهش قلبه، الغل يحرقه والحقد يطفو داخله إلى آخره، تفاجئ بما قاله ذلك العجوز عن هذه الخطبة الكاذبة لو لم يقل ذلك لكان فعل كل ما في رأسه في لحظة واحدة ولكن صبرًا، كل شيء بمعاده جيد..


ابتسم بخجل اصطنعه دون مجهود ليظهر الرجل الجيد وتحدث قائلًا:


-سامحني يا معلم رشوان مكنتش أعرف وحيات عيالي لو كنت أعرف مكنتش عملت كده، إن شاء الله قبل الجمعة تبقى الفلوس عندك وأنا راضي بحكمك


نظر إلى "جاد" قائلًا بجدية شديدة وعينيه مثبته عليه بغل واضح له هو فقط وقد تبادله معه:


-ألف مبروك عليك البرنسس يسطا جاد 


نظر إليها نظرة خاطفة ثم استدار وذهب من أمام الجميع يجر خيبته خلفه مقررًا أنه لن يصمت هنا بل سيفعل المزيد إلى أن يصل لما يريده..


صرخ "عبده" بالجميع بحدة شديدة:


-يلا كل حي يروح لحاله 


ذهب الجميع واحدًا تلو الآخر وأشار "رشوان" إلى "عبده" ومن معه بالدخول إلى الورشة ثم تقدم من والدة "هدير" وهتف بجدية قائلًا:


-بعد اذنك يا أم جمال هنيجي بالليل شوية أنا وجاد نحل الأمور 


أومأت إليه عدة مرات متتالية وداخلها يقول إنه سينهي ما قاله حقًا:


-تنور... تنور يا حج طبعًا 


أبتعد من أمامها بعد أن ابتسم لها بجدية وتقدم من "جاد" قائلًا له أن يذهب خلفه إلى المنزل سريعًا، وفعل "جاد" كما قال له بعد أن ألقى نظره عليها وهو يذهب جاذبًا "سمير" معه بحدة إلى الداخل..


-طب وأنا مالي يا عم سيبني 


نظر إليه "جاد" بحدة وأجابه بعصبية:


-أخرس خالص


سار معه على مضض وهو يراه ليس معه هنا من الأساس بل كان "جاد" في منطقة أخرى يفكر فيما فعله والده أمام الجميع وتحدث به وكأنه حدث بالفعل..


جذبت "هدير" أبواب النافذة للداخل لتغلقها وعقلها لم يستوعب بعد أن "رشوان أبو الدهب" أعلن خطبتها بابنه "جاد"! ربما لم تستمع جيدًا! كيف لم تستمع وهو تحدث بكل شيء حتى أنه ذكر عقد القرآن!..


                                  ❈-❈-❈


في مكان آخر تجلس به "كاميليا" مع إحدى صديقاتها والتي تدعى "شهيرة"، كانت تتحدث معها بضيق واضح وانزعاج تغلب عليها بسبب زوجها الحقير بنظرها..


-أنتِ دلوقتي هتعملي ايه 


نظرت إليها "كاميليا" بحيرة ولا تدري ما الذي ستفعله معه لتجعله يطلقها ويبتعد عنها، أخفضت السيجارة من على فمها وتحدثت قائلة بانزعاج:


-مش عارفه هعمل ايه.. الواطي بيعمل راجل عليا، مكنتش أعرف إنه هيعمل كده 


نفثت دخان سجارتها واكملت حديثها بغل وحرقة:


-مكنتش أعرف إنه هيقوى كده، بس بردو هيطلقني وهاخد منه القناة غصب عنه


مرة أخرى بغل واضح تحدثت وهي تسبه:


-الواطي 


تحدثت "شهيرة" بهدوء وهي تلوي شفتيها متذكرة كم من مرة حذرتها سابقًا:


-أنا قولتلك كتير إنه شكله مش سالك مسمعتيش الكلام كل اللي كان هامك شكله 


تقدمت الأخرى إلى الأمام قليلًا ثم أمسكت بخصلات شعرها قائلة بحدة:


-وحيات ده لازم يطلقني واتجوز سيد سيده وأخد منه القناة وهفضل بردو كاميليا عبد السلام اللي مفيش زيها 


رفعت "شهيرة" أحد حاجبيها باستغراب منتظرة أن تعلم ما الذي ستفعله:


-وده هتعمليه إزاي بقى؟..


-لحد دلوقتي مش عارفه بس هطلع عينيه لحد ما يطلقني 


قالت الأخرى بجدية محاولة أن تفهم كيف تفكر به الآن وما الذي يدور بخلدها:


-معتقدش أنه هيعملها بسهولة كده أنتِ بالنسبة ليه كنز


تشدقت "كامليا" قائلة بسخرية وتهكم لأنه الآن أصبح من الرجال أصحاب الأموال الكثيرة، لا ينتظر امرأة لتقوم بالانفاق عليه:


-لأ.. لا كنز ولا حاجه أصلًا مبقتش فرقاله هو بس بيعاند فيا 


-آه قولتيلي 


نظرت إليها "شهيرة" بابتسامة سخيفة وداخلها تحتقر هذه الغبية الذي ترى كل شيء مال ومظهر ووجود "كاميليا عبد السلام" ولا ترى زوجها الذي تتحدث عنه بالسوء وأنه كان لا شيء وبمالها ظهر وأصبح له عمله الخاص ونسيت أنه أصبح هنا بفضل جهوده وتركيزه على أن يكون شخص ذو أهمية وكانت هذه الغبية هي اليد التي تمده بالمال بفضل الله.. إنه سيطلقها وأيضًا سيعطيها مالها بالكامل ولكنه يريد أن يعذبها قليلًا حتى تعلم ما مقامها ومن هو، أنه لا يريدها من الأساس فـ وجود زوجته "شهيرة" أغناه عنها!... 


                                ❈-❈-❈


-هو ده كل اللي حصل يا حج 


هذه كانت كلمات "جاد" لوالده وآخرها بعد أن أخبره بكل شيء حدث بدايةً من تعرض "مسعد" إلى "هدير" وبالنهاية ما حدث في بيتهم، قص عليه كل شيء حتى مقابلته لها على السطح ليكون على دراية تامة وليقرر على أساس ما حدث لها وله وللجميع 


أومأ والده بهدوء وهو يمط شفتيه للأمام وآمال رأسه قليلًا ولم يتحدث، نظر "سمير" إلى "جاد" باستفهام فنظر الآخر إليه ولوى شفتيه كدليل على عدم معرفته بما يفكر..


رفع والده نظره إليهم وتحدث قائلًا بنبرة جادة وملامحه تُظهر الجدية التامة حقًا:


-هنروح النهاردة نخطبها ليك يا جاد 


ابتسم "سمير" بسعادة واضحة عليه لما تفوه به عمه الآن ونظر إلى ابن عمه ليجده لم يبتسم، لم يفرح ولم يظهر على وجهه أي شيء سوى تعابير الدهشة أو الاستغراب، استمع إلى سؤاله الجاد:


-علشان أنتَ قولت أنها خطيبتي قدام أهل الحارة ولا علشاني يا حج؟ 


ابتسم والده وحرك رأسه يمينًا ويسارًا بخفة، نظر إلى ولده وهتف بهدوء قائلًا:


-لما لقيتك عايزها بجد.. بحق وحقيقي يعني فكرت كده مع نفسي وقولت يا واد يا رشوان هي البت دي ناقصها ايه يعني مهي زي الفُل وتربيتي وأنا معتبرها هي وأختها زي عيالي تمام يبقى ليه أرفض


عاد بجسده إلى الخلف يستند بظهره إلى ظهر الأريكة وأكمل قائلًا بجدية وهو يبتسم بوجهه وظهر حديثه صادقًا للغاية لأنه كان هكذا حقًا:


-كنت ناوي أقولك النهاردة الكلام ده ونروح نتقدملها بس مسعد كان رايد إني أقول الكلام ده قدام الحارة كلها قبل ما أقول ليك 


ابتسم "سمير" باتساع مبادلًا عمه بينما الآخر بقى مثلما هو لم يظهر عليه أي شيء ربما يحاول الاستيعاب وأن يتفهم ما قاله والده الآن، إنه وافق دون شروط أي قبل كل ذلك!


خرج من شروده على صوت "سمير" وهو يتحدث قائلًا بمرح ومزاح إلى عمه:


-بقولك ايه يا عمي دا شكله رجع في كلامه، أنا هنا موجود في الخدمة 


نظر إليه "جاد" بحدة وغضب مُجيبًا إياه وهو يقترب منه بعصبية:


-أقسم بالله هعمل فيك زي اللي عملته في مسعد بالظبط 


وقف "سمير" سريعًا وتوجه يجلس جوار عمه يضحك عاليًا ويتبادل عمه معه الضحك بينما اعتدل "جاد" في جلسته وتحدث مرة أخرى بجدية إلى والده سائلًا إياه:


-يعني مقولتش كده علشان تحميها من كلام الناس!. وكنت مقرر من قبلها فعلًا 


نظر إليه والده بجدية بعد أن نظر إلى ابن أخيه وكأنه يقول له هل هذا الشاب أبله!:


-أيوه يا جاد وكان ممكن متكلمش قدام الناس واستنى لحد ما أقولك ونروحلهم بس زي ما قولتلك أنا اعتبرتها بنتي ومكنش ينفع اسيب حد يتكلم عليها... تحب احلفلك! 


-العفو يا حج مش قصدي أنا بس كنت عايز اطمن أنك راضي عن الجوازه 


-اطمن يا بشمهندس 


ابتسم "جاد" وقلبه يرفرف من الفرحة حامدًا الله داخله وشاكره على ما حدث وكأن ما حدث هو سبب من الأسباب ليجعلها من نصيبه حقًا، لقد كان واثقًا في قدرة الله رغم أن كل شيء لم يكن لصالحه ولكن ها هو الآن والده وافق والجميع يعلم أنها له.. له هو وحده بعد أن سبب الله الأسباب ليتم ذلك على أكمل وجه، ابتسم وشعر بالراحة بعد أن علم أن يقينه وإيمانه بقدرة الله في محلها ودائمًا ستكون في محلها..


أردف قائلًا بهدوء وسعادة:


-حيث كده بقى يبقى ألف مبروك ليا 


ابتسم الجميع بينما وجد والدته تدلف إليهم بعد أن استمعت إلى آخر كلماته تهتف بالزغاريد عاليًا، لقد كانت تستمع إلى حديثهم!


فرحة والدته لا توصف، عانقته وعينيها تدمع، لقد كانت تريد أن يتزوج بها منذ زمن هي الوحيدة التي اختارها قلبه، وهي الوحيدة التي تستطيع إسعاده من بين الجميع، كانت تريد له السعادة معها لأنها تعلم أن "هدير" فتاة على قدر من الجمال والأخلاق وستناسب ابنها كثيرًا..


تلقى المباركات واللقاء سيكون في المساء في شقة "الهابط"


                                 ❈-❈-❈


-هو إزاي يقول كده أكيد ابنه مش موافق ليه يعمل كده 


صرخت والدتها مُجيبة إياها بحدة بعد أن ملت من الحديث معها:


-علشان بيحاول يبعدك عن كلام الناس عمل كده الراجل مشكور وابنه لو مش موافق محدش هيجبره على حاجه 


أردفت رحمة بجدية وهدوء والتي أتت إليها بعد أن استمعت بما حدث:


-براحة يا هدير مش كده.. طنط معاها حق مفيش حد بينجبر على حاجه ولو خايفه أنه يكون مدبس خليكم شوية مخطوبين وفركشوا ياستي 


هتفت "مريم" بعقلانية متحدثة هي الأخرى بعدما عملت بما حدث منهم لأنها كانت في الخارج:


-وليه يفركشوا أنا معتقدش أن الاسطى جاد هينجبر على الجواز منها مهو أكيد مش هيضع حياته علشان حركة شهامة زي دي.. هو آه شهم وجدع بس مش لدرجة شريكة عمره يعني 


-بالظبط كده اهدي بقى يا هدير 


صاحت هي بحدة وعصبية من جديد وهي تسير ذهابًا وايابًا في الصالة:


-لأ أنا مستحيل أوافق على الجوازه دي... دي جوازه شفقة منهم ليا


فجأة استمع الجميع إلى صوت الزغاريد العالية، انتبهوا جميعًا إلى ذلك ووقفت "مريم" سريعًا وفتحت باب الشقة لتستمع إلى الصوت وترى من أين يأتي، وجدته يأتي من الأعلى شقة "جاد"، ابتسمت وأغلقت الباب لتنظر إلى شقيقتها بهدوء قائلة:


-مظنش أنها لو زي ما بتقولي هيعملوا كده


أتت لتتحدث مرة أخرى فقاطعتها "رحمة" قائلة بجدية شديدة وحزم:


-أكيد مش علشان الناس يعني يا هدير ده علشان جاد موافق أكيد.. وبعدين هو هيلاقي زيك فيك أصلًا 


جلست "هدير" على الأريكة بهدوء وعقلها لا يستوعب إلى الآن فكرة أنها ستتزوجه بهذه الطريقة الغريبة، لم يطلبها بل كان سيتزوج غيرها، لم يعترف بحبها بل لم يتحدث من الأساس وعلى حين غرة حدث هذا أمام الجميع شفقة ليس إلا..


نظرت إلى والدتها قائلة بجدية وحزن:


-ابنك فين؟.. هيجوا يكلموا مين؟..


-يكلموني أنا يا هدير.. أنا الكبيرة هنا مش هو وكلامه لا هيقدم ولا هيأخر


أومأت "مريم" رأسها مؤكدة حديث والدتها:


-ماما معاها حق، هو أصلًا على طول مش موجود لما نحتاجه


وقفت والدتها جوارها وتحدثت بحزم قائلة:


-متتعبيش نفسك في التفكير بالليل كله هيبان ولو مش موافق إحنا كمان مش هنوافق يا بنتي متقلقيش 


                                 ❈-❈-❈ 


-نورتوا البيت يا حج رشوان 


ابتسم "رشوان" وتحدث بهدوء مُجيبًا إياها:


-بنورك يا أم جمال 


حمحم بحدة ثم تحدث مرة أخرى بجدية وثبات قائلًا وهو يشير إلى "جاد":


-إحنا بإذن الله جاين علشان نخطب هدير لجاد ابني 


ابتسمت بحرج واخفضت وجهها بالأرضية لحظات ثم رفعته وتحدثت بجدية دون خجل لتحسم الأمر:


-أنا مقدرة المعروف اللي عملته أنتَ والاسطى جاد علشان خاطر بنتي وكلام الناس بس انتوا مش مُجبرين تعملوا كده ولا الاسطى جاد مُجبر أنه يتجوز بنتي ولو على الناس والكلام اللي قولته نقول إن الدنيا ماشيه وأسبوع ولا حاجه ونقول إن محصلش نصيب 


وضع والده يده الاثنين متكئًا بهم على العصا وهو ينظر إليها بهدوء بينما "جاد" دق قلبه داخل صدره خوفًا من رفضهم..


استمعت "هدير" إلى كلمات والدتها من خلف باب غرفتها وحمدت الله كثيرًا أنها فعلت هكذا لأنها لا تريد أن يشفق عليها بهذه الطريقة المُهينة..


تحدث والده مُتسائلًا:


-افهم من كده إنك رافضه جواز هدير من جاد يا أم جمال 


أجابته بصوتٍ حازم سريعًا لتنفي ما قاله وهي تنظر إليه بجدية:


-لأ طبعًا أنا بنتي تحت أمرك أنتَ وجاد ماهو أنتَ زي أبوها... بس أنا بعفيكم من الجوازه دي علشان جاد مش ذنبه يتجوزها وهو مش عايزها 


أردف "جاد" باستنكار قائلًا وهو يُشير إلى نفسه:


-ومين قال إني مش عايزها يا أم جمال!


استغربت حديثه ولم تستطيع الرد عليه، هل هو يريد ابنتها حقًا!


استمعت إلى والده مرة أخرى يردف:


-أنا معملتش كده علشان أداري على بنتك مثلًا يا أم جمال، ولا شهامة مننا لأ.. إحنا فعلًا كنا جاين نخطبها لجاد الله، جاد رايدها يا أم جمال مش مغصوب ولا بيشفق عليها 


دقات قلبها تتسارع خلف بعضها والفرحة ظهرت على وجهها بعد الاستماع إلى هذه الكلمات لتتحدث بلهفة متسائلة:


-والنبي صحيح!


أومأ إليها "جاد" وابتسم والده لها، فوقفت على قدميها وهي تهتف قائلة بفرحة:


-حيث كده بقى ناخد رأي العروسة 


انتهت من كلماتها لتجد باب الشقة يُفتح ويدلف منه ولدها "جمال" العاطل الذي لا تعلم عنه شيء سوى أن "مسعد" يقوم بإستغلاله في عمله الغير قانوني وهو كالأبلة يفعل ما يقول له ويدفعه لإجبار شقيقته على الزواج منه..


دلف إلى الداخل وهو ينظر إليهم ويعلم ماذا يفعلون هنا بعد أن قال له أحد أصدقائه ما حدث اليوم في الحارة أمام الجميع، سلم عليهم ثم جلس وقصت عليه والدته باختصار شديد أنهم هنا لخطبة "هدير" والتي كانت تستمع لكل شيء..


بعد أن تحدث معهم قليلًا وداخله كان يقوم بتقليب الأمور بهدوء حتى يعلم أيوافق أم لأ!.. ولما لأ فـ "جاد" لا يقل غناء عن "مسعد" بل يزيد عنه، وهذه الشقة ربما بمجهود شقيقته تكن لهم حقًا وملكهم، وغير ذلك كثير وكثير لن يستطيع أن يفكر به الآن..


عاد "جمال" بظهره إلى الخلف ناظرًا إلى "جاد" ووالده ثم تحدث بجدية والاثنين يعلمون ما يفكر به جيدًا:


-حيث كده بقى إحنا نتفق على كل حاجه من دلوقتي 


حمحم "جاد" وهتف بهدوء قائلًا:


-لأ يا جمال قبل ما نتفق نشوف رأي البشمهندسة الأول.. وافقت نتفق موافقتش يبقى على الله 


-هتوافق يسطا جاد متقلقش 


زفرت هدير بضيق من خلف الباب وهي تستمع إلى كلمات شقيقها والذي تفهمت نيته جيدًا بعد أن وافق بهذه السرعة، يا له من جشع!.


هتف "رشوان" مؤكدًا على حديث "جاد":


-معلش يا جمال لازم بردو نعرف رأيها.. اتفضلي يا أم جمال شوفيها 


أبتعدت "هدير" سريعًا عن الباب حتى لا يراها أحد ووالدتها تدلف إليها، دلفت والدتها وأغلقت الباب خلفها ثم نظرت إليها قائلة:


-أكيد سمعتي كل حاجه ها ايه رأيك بقى 


أجابتها "مريم" سريعًا بلهفة وفرحة وهي تتقدم منها:


-طبعًا موافقة هي دي فيها كلام 


-لأ.... أنا عايزة أتكلم مع البشمهندس جاد الأول 


زفرت والدتها بحنق ونظرت إليها بضيق بسبب أفعالها الغريبة، لقد قال في الخارج أنه كان يريد الزواج منها قبل كل ما حدث، ما المانع إذًا؟:


-ودي اعملهالك إزاي يا ست هدير اقولهم تكلم الاسطى جاد الأول وبعدين تقول رأيها


-أيوه يا ماما دي مش حاجه صعبة ومن حقي أكلمه الأول قبل ما أوافق 


نظرت والدتها إلى "مريم" وفعلت الأخرى المثل واومأت برأسها أن تفعل لها ما تريده حتى يمر الأمر على خير، زفرت والدتها ثم أشارت لـ "مريم" بالخروج معها ثم وجهت حديثها إلى "هدير" وهي تخرج:


-ألبسي حاجه عدله يلا 


خرجت ثم أغلقت الباب خلفها وتركتها بالداخل تبدل ثيابها لاستقبال مالك القلب وحارسه، توجهت والدتها إليهم وجلست قائلة بهدوء وخجل:


-هي محتاجة تتكلم مع الاسطى جاد في كام حاجه كده يعني الأول قبل ما تقول رأيها 


هتف والده بجدية وهو يتقدم للأمام:


-حقها 


وقفت مرة أخرى وذهبت إليها لتراها إذا كانت ارتدت شيء مناسب أم لأ وقد كانت بدلت ملابسها بالفعل فذهبت والدتها إلى "جاد" لتأخذه إلى الغرفة، وقف معها وتقدم إلى الداخل ليراها تقف في إنتظار قدومه إليها، ترتدي فستان أسود طويل يغطي أصابع قدميها، يتوسط خصره حزام أسود مثله تمامًا وأكمامه طويله أيضًا، وترتدي حجاب من اللونين الأبيض والأسود..


نظر إلى وجهها الأبيض المستدير، عينيها العسلية، وهذا النمش البسيط الذي يعطيها مظهر خلاب، تبسم بهدوء ثم تابع السير إلى الداخل وجلس على الأريكة بعد أن ألقى عليها السلام وذهبت والدتها تاركة الباب مفتوح إلى آخره..


نظر إليها بهدوء ثم تحدث قائلًا بجدية وهو يعتدل في جلسته:


-ايه الحاجات اللي عايزه تتكلمي معايا فيها 


جلست على الفراش أمامه وأدارت عينيها في جميع الاتجاهات للحظات تُعد، أخذت نفس عميق وزفرته محاولة أن تخرج الحديث من داخلها:


-أنتَ.. أنتَ عايز تتجوزني ليه!


ابتسم بسخرية ظهرت إليها جيدًا محركًا رأسه بخفه، نظر إليها متسائلًا هو الآخر:


-هو اللي بيتقدم لوحده بيتقدملها ليه!؟


احتدت نبرتها لسخريته من سؤالها وأجابته بجدية:


-مش لسبب واحد، ممكن عايز يتجوز وخلاص وممكن أنها تكون مناسبة ليه ولعيلته، ممكن أُعجب بشكلها 


صمتت لبرهة واستكملت على استحياء:


-وممكن يكون بيحبها 


نظر إليها للحظات ووجدها تهبط بنظرها إلى الأرضية، داخله يرفرف من الفرحة، يطير بين السحاب، يعلم أنها ستوافق حديثها يشير إلى هذا ونظراتها وجميع ما بها وهو لم يتحمل إلا الموافقة وربما من الفرحة يتوقف قلبه..


تقدم إلى الأمام بجسده مبتسمًا بسعادة يهتف كلماته الذي تحدث بها على السطح معها في السابق:


-طب لو اتقدملك واحد في سني، من الحارة مثلًا.. ومش متجوز، بيسمع من والدتك دايمًا أنه كويس، ممكن هو مش قريب من ربنا أوي بس على الأقل بيصلي وبيقرأ قرآن على طول يمكن كل يوم وبياكل بالحلال وعايز يتجوزك علشانك أنتِ مش علشان حاجه تانية.. هتوافقي؟. ولا لازم تكوني بتحبيه


صمت لبرهة وهو ينظر إليها بعد أن وجدها ترفع رأسها إليه بدهشة واستغراب شديد، يتذكر تلك الكلمات جميعها! يعلم أنها أثرت داخلها! كان يرتب إذًا من وقتها أم هي تبالغ؟


هتف "جاد" متسائلًا:


-فاكرة وقتها قولتيلي ايه!؟ 


ابتلعت ما وقف بحلقها، توترت كثيرًا وظهر على وجهها ويديها التي أخذت تضغط عليها بشدة، أبعدت نظرها عنه غير قادرة على النظر إليه هل هو يُشتتها لتوافق! هل كان سيتزوجها قبل كل ذلك أم يكذب! هل هو يراها نفس الفتاة حتى بعد ما حدث من قبل "مسعد" أمامه!؟


-تحبي افكرك قولتي ايه!


رفعت نظرها إليه بحدة وكأن التفكير يعمل على جعل كل وسواس داخلها يحضر:


-أنتَ فعلًا كنت هتطلبني للجواز قبل كل ده ما يحصل ولا والدك بيقول كده علشان مايبنش إنك مغصوب 


نظر إليها بحدة، لا يعلم ما الذي تريد قوله، أهو أمامها رجل لا يستطيع أخذ قرار من عقله ليُغصب عليها؟.. وقف على قدميه أمامها وتحدث بجدية قائلًا وهو ينظر إلى الأسفل ليقابل عينيها وهي تجلس:


-أنا لو مش موافق على الجوازة دي مكنتش جيت هنا وأنا مش بتغصب على حاجه يا بشمهندسة... كنت هتجوزك قبل ولا بعد ده شيء مايخصكيش المهم إني هنا دلوقتي، الظاهر كده أنك مش واثقة فينا 


نظر إليها نظرة أخيرة ثم خرج من الغرفة وتقدم منهم ورسم الهدوء والراحة على وجهه بمنتهى الإبداع لتدلف والدتها إليها سريعًا حتى تعلم ما الذي قررته بعد الجلوس معه كما أرادت:


-ها يا هدير؟.


رفعت نظرها إلى والدتها وكلماته تتكرر داخل أذنها خاصة "كنت هتجوزك قبل ولا بعد ده شيء مايخصكيش المهم إني هنا دلوقتي" إذًا هو حقًا لم يكن يريد الزواج منها وإلا كان سيقول لما سيخفي الأمر، كان سيقول ببساطة أنه أراد الزواج منها قبل أن يفعل "مسعد" كل هذا في منتصف الشارع بالحارة!..


أنه لا يريدها فقط يفعل هذا لأجل حديث والده.. ولكن كلمات السطح!..


-هدير


-موافقة 


بعد أن صاحت والدتها بإسمها لتخرجها من شرودها هتفت بهذه الكلمة بعفوية سريعة لتطلق والدتها العنان لنفسها وتطلق الزغاريد عاليًا لتعم أرجاء المكان..


#ندوب_الهوى

#الفصل_الثامن

#ندا_حسن


        "فرحة عارمة تحلق بين السحاب وحزن طاغي

          يظهر للعلن وكأن التضاد خُلق ليكون من

        نصيبهم في أول لقاء كُتب لهم أمام الجميع"


ملئت والدتها المكان بصوت الزغاريد واستمع الشارع بأكمله لصوتها وكان الجميع يعلم كما قال والده أمامهم أن اليوم سيأتي "جاد" بذهب "هدير" لذا بدا الأمر عاديًا بالنسبة لهم جميعًا..


ما هذا؟.. هي كيف وافقت؟.. كيف خرجت هذه الكلمة من بين شفتيها بكل هذه العفوية والسهولة، ألم تقرر أنها لن توافق!.. نعم قالت هذا داخل عقلها بأنها سترفض بكل قوتها لأنه لا يريدها!.. إذًا كيف وافقت؟.


هل أعطاها أحد شيء لتوافق! أم أن قلبها هو الذي هتف الآن بالموافقة على تكملة الدرب معه ولم يتحدث عقلها بإشارة منه أو خوفًا من خسارته؟..


يا الله ستُجن، إنه لا يريدها كيف ستكون معه، إنه لم يكلف نفسه بالحديث معها بجدية والإجابة عن سؤالها من دون مراوغة..


نظرت "هدير" إلى الدتها وهي تخرج من الغرفة ومازالت تطلق الزغاريد ثم استمعت إلى شخص أخر من الخارج يعاونها!.. من!..


دق الباب وفتحت والدتها الباب والإبتسامة تشق وجهها لتطل منه والدة "جاد" التي هبطت على صوت الزغاريد وقد كان معنى ذلك الموافقة، لذا هبطت لتكن معهم في وسط هذه الفرحة..


-بلي الشربات يا مريم 


استمعت إلى والدتها تهتف بهذه الكلمات إلى شقيقتها، مستغربة مما حدث بسرعة هكذا، أنها وافقت!.. كيف حدث ذلك أنه لا يريدها لو كان حقًا يريد ذلك لتحدث بهدوء وأعطاها فرصة لتقول ما أرادت.. لكان قال أنه يريد الزواج منها لا يراوغ في الحديث..


"جاد" لا يريدها بل غُصب عليها لأجل حديث والده أمام الجميع بالحارة، لا يريدها هذا ما رأته منه.. كانت تنتظر فقط كلمة واحدة منه وتتأكد من ذلك وتكن معه سعيدة لأجل إستجابة طلبها ولكن هكذا!..


سألته لماذا يريد الزواج بادر بسؤال مثلها، وعندما تحدث هتف بكلمات السطح التي ربط قلبها بها وحاول أن يقول أنها هي من تحبه!.. وفي النهاية يقول أنه بمنزلها ولا يخصها أكثر من ذلك!.. أي عقل يصدق هذا الحديث!..


هي لن تكون سعيدة وهو مُجبر عليها، مُجبر على تكملة حياته معها!.. إذًا كل ما كانت تراه من تلميحات كانت تخيلات منها وهو لم يراها قط..


دلفت والدته إليها وبيدها كوب به الشربات، وضعته على الكومود وتقدمت منها لتقف "هدير" على قدميها وتستقبلها ولكن بادلتها الأخرى بعناق شديد وهي تبتسم بفرحة عارمة بعد أن حصلت على ما تريد هي وابنها:


-ألف مليون مبروك يا حبيبة قلبي


ما هذه الفرحة التي تشع منها؟ لماذا لا تظهر عليه الفرحة مثل والدته؟:


-الله يبارك فيكي يا طنط  


أبتعدت إلى الخلف ونظرت إليها مُبتسمة بحبٍ وسعادة كبيرة ثم أردفت بجدية وحزم:


-لأ طنط مين أنا ماما فهيمة زي نعمة بالظبط 


ابتسمت "هدير" براحة لأجل راحة هذه المرأة وسعادتها، تعلم أنها طيبة القلب منذ زمن ولكن التعامل معها كان بحدود معروفة للجميع، ما عدا والدتها كانت تتحدث معها كثيرًا هي ووالدة "سمير" بحكم أنهم جيران:


-دا شرف ليا والله 


وضعت وجهها بين كفيها وتحدثت بحماس وعينيها تظهر بها دموع الفرحة لأجل تحقيق ما أراد ابنها ولأجل اختياره الممتاز:


-ياختي اسمله عليكي.. تصدقي بالله قبل جاد ما ينزل هنا قولتله هدير دي إيمان وجمال وأخلاق وعمرك ما تلاقي زيها أبدًا... دي عروسة لُقطه 


تأكدت من كل شيء الأن وذهبت الابتسامة الباهتة من على وجهها تدريجيًا لقد كانت والدته تُقنعه بها!.. تُقنعه أنها عروس لن يجد مثلها فعليه بالموافقة!..

هل من المفترض أن تسعد لأجل كلماتها المادحة بها أم تحزن لأجل فهمها لكل ما يحدث وما هو إلا رفض!.


بينما كان هو المسكين في الخارج يرى الطائرات في الجو ويشعر أنه جوارهم، لقد كان مع الطيور في السماء والسحاب يغطيه، يحلق بعيدًا وينظر إلى الأرض وهو يبتسم لأجل اغتنامه حلمه البعيد.. 


قلبه يدق بعنف من كثرة الفرحة وفرط الحب الذي تكون داخله الآن تجاهها أكثر وأكثر، قفصه الصدري لا يتحمل كل هذا الخفقان من قلبه، هل سينكسر أم ماذا؟..


وروحه ترفرف سعيدة بكونها ستصبح زوجته!..


حمد الله كثيرًا بعد موافقتها وفهم أنها علمت ما كان يريد قوله لها، داخله يعلم أنها تريده وأوصل لها أنه هو الآخر يريدها بكل جوارحه..


كان يريد البوح بكل شيء ولكن هي ترى أنه مُجبر عليها ويشفق أيضًا لذا قلل الحديث وألقى عليها كلمات بنظرة تثبت أنه يريدها من قبل كل شيء حدث!..


الجميع حوله سعيد وهذا المنزل الصغير قدم السعادة الأكبر بحياته له.. أنه يمتن إليه عن حق..


جلست والدته مع "هدير" و "مريم" بالداخل بينما هو ووالده ومعهم شقيقها ووالدتها بالخارج كما كانوا بعد أن طلب "جمال" أن يتم الاتفاق وقراءة الفاتحة..


أردف "رشوان" بجدية:


-إحنا مش عايزين أي حاجه.. شقة جاد موجودة ومش محتاجه غير العفش والفرش وده علينا إحنا هناخد هدير بشنطة هدومها 


أجابته والدتها بجدية وحزم وهي تعتدل في جلستها لتتحدث براحة:


-لأ يا حج رشوان جهاز هدير بنتي كله موجود من الإبره للصاروخ وكل واحد يجيب اللي عليه حسب الأصول ما بتقول 


ابتسم إليها بود وداخله ارتاح قليلًا لأنها لم تطمع بشيء ولم تستمع إلى حديثه الذي هتف به ولكنه كان يعلم أن شقيقها سيدلف عليه بالطمع قبل أي شيء:


-الدهب اللي انتوا عايزينه هنجيبه والنهاردة بإذن الله 


لم يعطي جمال الفرصة لوالدته أن تتحدث بل قال هو بسرعة وجدية وهو يثبت ما فهمه والد "جاد":


-الدهب يبقى بـ مية ألف جنية 


شهقت والدته بدهشة من طلبه الكبير، ليس كبير للغاية ولكن كبير بالنسبة إليها هي وابنتها، ربما لو خمسون ألف سيكون أفضل، هتفت قائلة بضيق:


-شوف يا حج رشوان هدير دي بنتك أنتَ ما أنتَ اللي مراعينا بعد المرحوم واللي أنتَ هتعمله إحنا راضين بيه 


إنها مثلما هي امرأة طيبة القلب، تعرف حدودها من طينة أصيلة ولا يعلم من أين أتت بهذا الولد الضال...


ابتسم إلى "جمال" قائلًا:


-وأنا مش هتني كلمة جمال الدهب بـ مية ألف جنية


نظر إليه "جمال" وداخله الفرحة ستجعله يغمى عليه، ليس بمبلغ كبير ولكن ربما يستفيد، نظر إليه بثبات قائلًا:


-معلش يا حج رشوان دا جواز وأنا عايز أحافظ على حق أختي 


هتف "جاد" بضيق وانزعاج قائلًا وهو يراه يتحدث بحق وما حق! أهو سيلقي بها في الشارع أم ماذا:


-أنتَ بتقول ايه هو أنا هتجوزها النهاردة وأطلقها بكرة... ما تحافظ على كلامك   


-معلش يسطا جاد مش بعرف ازوق الكلام زي الحجة 


أجابه مرة أخرى بحدة:


-بس الحجة مش بتزوق كلام هي بتقول الحقيقة 


نظر إليه والده حتى يصمت وأردف هو ناظرًا إلى والدتها:


-كتب الكتاب يبقى الخميس الجاي بعد ما أخويا ومراته يرجعوا والفرح آخر الشهر أنا مش عايز نقعد كتير ونماطل والكلام يكتر العروسة جاهزة وإحنا هنجهز الشقة ونقفلها وخير البر عاجله


-عين العقل والله يا حج رشوان


أردفت "نعمة" والدتها بهذه الكلمات وهي تبتسم بسعادة مثل "جاد" الذي فرح أكثر من السابق بحديث والده هذا ولكن "جمال" تحدث قائلًا بجدية شديدة:


-حيث كده بقى خليني أقولك أن القايمة هتتكتب بنص مليون جنية.. ومتزعلش مني بس أنا معرفش ايه اللي هيحصل بكره ويحل على أختي 


هذه المرة تحدث "جاد" بعد أن تقدم إلى الأمام ليقابل "جمال" وأردف بجدية شديدة:


-موافق يا جمال ولو عايز مليون كمان مش نص بس، موافق علشان عارف أنا عايز ايه كويس أوي... وأنا عايز أختك وهحافظ عليها ومش هفرط فيها أبدًا علشان كده مش خايف من النص مليون بتوعك اللي هتحطهم في القايمة 


بعد هذه الكلمات وجد والدتها تقف على قدميها تطلق الزغاريد مرة أخرى وأخرى وأخرى وفرحتها لم يكن يوجد مثلها بعد هذه الكلمات الجادة منه وفرحته التي ظهرت على وجهه..


-ألف مبروك يا جوز بنتي 


أردف والده قائلًا وهو يرفع يده أمام وجهه مبتسمًا بحب:


-نقرا الفاتحة 


ثم بدأو في قراءة الفاتحة جميعًا والسعادة تتحدث على وجوههم..


هتف والده قائلًا أمامهم بعد أن انتهوا:


-جاد هياخدك أنتِ وهدير ومريم علشان تختار الدهب اللي هي عايزاه 


نادت بإسم "مريم" لتخرج لها وجعلتها تستدعي شقيقتها فخرجت هي الأخرى ومعها "فهمية" والدة "جاد":


-هنروح مع جاد علشان تختاري الدهب 


نظرت إليه بهدوء ولم تتحدث بل ابتسمت ابتسامة صغيرة وتقدمت من والده لتسلم عليه وألقى عليها المباركة مُبتسمًا لها بود..


هتف مرة أخرى وهو ينظر إلى جاد بهدوء بعد أن وقف مُشيرًا إليهم:


-خدهم محل من المحلات القريبة من هنا يا جاد وخليها تختار اللي هي عايزاه وطلع فاتورة بـ المية ألف جنيه علشان جمال يشوفها


توسعت عينيها بدهشة وذهول عندما استمعت إلى الرقم الذي قاله، هل استمعت صحيح؟:


-بس مية ألف كتير أوي 


أجابها والده بهدوء وابتسامة رزينة:


-مفيش حاجه تغلى على عروسة الغالي 


ابتسمت بهدوء بعد كلماته الجميلة لتنظر إليه بطرف عينيها وجدته يقف ينظر إليها هو الآخر وعلى وجهه ابتسامة لا تدري أهي كاذبة أم لا ولكن يبدو سعيد للغاية وابتسامته تلك من الأذن إلى الأذن!..


-يلا يا أم جاد تعالي معانا 


تقدمت والدته من زوجها قائلة بخجل لتتركهم على راحتهم:


-لأ ياختي أنا هطلع مع أبو جاد وانتوا خدوا راحتكم يا حبيبتي 


-بالله لانتي جايه معانا الله.. ما تقولي كلمة يا هدير 


ابتسمت "هدير" إليها وأردفت بهدوء خجل وهي تتقدم منها قائلة بود:


-تعالي معانا يا ماما فهيمة علشان تختاري معايا أنتِ ذوقك حلو 


-خلاص طلما قولتي كده يبقى أجي بعد أذنك طبعًا يا حج 


أومأ إليها بهدوء للذهاب معهم وكل منهم داخله شيء يفكر به، من يزعجه تفكيره كـ "هدير" وما حل عليها من كلمات "جاد" وما حدث، ومن يجد الفرحة اليوم كثيرة عليه ولا يصدق وجودها مثله..


                                ❈-❈-❈ 


جلست على أريكة بُنية اللون وبجوارها شقيقتها ووالدته "فهيمة" في محل الذهب الخاص بوالده بينما والدتها جلست على المقعد المقابل للأريكة وفي المنتصف طاولة صغيرة كان يضع عليها العامل كل دقيقة تُمر تشكيلات متنوعة من التصميمات الفريدة والجميلة..


رفعت نظرها إليه وهو جالس على المقعد أمام مكتب والده ينظر إليهم وينتظر أن ينتهوا من الشراء، تقابلت أعينهم فابتسم بهدوء لها ولكنها لم تبادلة الابتسامة!. بل أخفضت وجهها مرة أخرى إلى الذهب الموضوع أمامها وأخذت إحدى الخواتم لتضعه في إصبعها!..


زفر بهدوء وداخله مُشتت لما يحدث معها، لقد أوضح لها أنه يريدها ويريد الزواج منها ما الأمر إذًا، لما تفعل ذلك؟ هل هي مُشتتة أيضًا أم لم تكن تريده من الأساس أم ماذا يحدث؟..


استمع إلى والدته تهتف بابتسامة عريضة وهي تقف من مكانها متجهة نحوه:


-بقول ايه ما تقوم كده يا جاد تنقي مع عروستك علشان محتارة تاخد ايه، تعالي يا مريم تعالي هنا معايا 


وقفت "مريم" أيضًا مُبتسمة وتوجهت إليها، بينما جذبته والدته من يده بخفه ليذهب إلى جوار هدير وجلست هي و "مريم" على المقاعد متقابلين أمام المكتب 


ذهب ليجلس جوارها على بعد مسافة مناسبة لتبتسم والدتها بسعادة غامرة ونظرت إلى والدته التي بادلتها نظرات الفرحة والسعادة لرؤيتهم مع بعضهم البعض..


مد يده إلى دبلة زواج رائعة وقعت عينيه عليها بعد أن مررها على التشكيلة التي أمامه، كانت عريضة قليلًا بها فصوص صغيرة على مسافة متساوية تشكل مظهرًا رائعًا..


وبالقرب منها خاتم به فص واحد كبير في المنتصف مظهره براق ولامع ويليق بها كثيرًا..


أخذ الدبلة وأعطاها إياها لترى إن كانت تناسبها أم لأ، نظرت إليها بيدها ووجدتها جميلة حقًا تليق بها وبيدها وتحتضن إصبعها بشكل رائع يجعلها لا تود أن تزيلها من يدها أبدًا..


رفعت حدقتيها إليه بنظرة هادئة مريحة وهناك ابتسامة صغيرة على محياها بعد أن فرحت بمظهرها وتحدثت قائلة بهدوء وخجل:


-جميلة أوي وعلى مقاسي 


ابتسم هو الآخر ولا يدري هل هي تعاني من خطب ما!.. هل لديها انفصام الشخصية أم ماذا! حرك رأسه بخفه ثم مد يده إلى الخاتم الآخر وأخذه مناولًا إياها لتراه..


لقد كان جميلًا أفضل بكثير من الدبلة، أنه مثل خواتم الألماس التي تُقدم في التلفاز عندما يخطب أحد الأثرياء من يحبها، كيف لم تراه وهي تجلس هنا منذ ربع ساعة تختار بينهم!.. أنه لديه ذوق رفيع للغاية..


ارتدته بعد أن خلعت الدبلة لتجربته وقد كان رائعًا عن حق ابتسمت بسعادة كبيرة أظهرت أسنانها البيضاء ورفعت يدها إليهم تُديرها إلى الجميع قائلة بسعادة:


-ده حلو أوي 


أجابتها والدته بفرحة وهي تنظر إليهم سويًا:


-مبروك عليكي يا عروسة... شوفتي يا أم جمال جاد أول ما قعد جابلها اللي على هواها 


ابتسمت "نعمة" بفرحة قائلة وهي تُجيبها بمرح:


-ياختي يارب يبقوا على هوا بعض على طول 


وقفت والدته بخفه وتحدثت قائلة بجدية وهي تبتسم لتعطي لهم فرصة في التقرب من بعضهم: 


-ما تيجي يا أم جمال نخرج نشرب عصير من المحل اللي بره ده على ما يخلصوا 


علمت والدتها ما الذي تريده من هذا الحديث، وهو أن تجعلهم يجلسون وحدهم لدقائق حتى ولو قليلة فسيفرق الأمر معهم، وقفت على قدميها مرحبة بالفكرة وهي تنادي "مريم" معهم بسعادة:


-آه وحياتك ريقي نشف.. تعالي يلا يا مريم 


وقف "جاد" على قدميه عندما وجدهم سريعًا وقفوا يريدون الذهاب، أردف بهدوء:


-خليكم وأنا هبعت حد يجيب


ثم هتف بصوتٍ عالي إلى صبي يعمل في المحل:


-يا ابراهيم 


أردفت والدته قائلة وهي تذهب معهم:


-لأ لأ إحنا عايزين نخرج.. يلا على ما تخلصوا 


نظرت إليهم "هدير" باستغراب ودهشة شديدة وبادلها "جاد" ذلك بالفعل، لقد ذهبوا سريعًا ولم يعطوه الفرصة للتحدث أو فعل شيء فقد ذهبوا في لحظات..


جلس مرة أخرى محافظًا على المسافة التي كانت بينهم وأردف عاليًا:


-خد يا أحمد الدبل دي وهات الحلقان والسلاسل لما نشوفها 


تقدم الشاب بعملية شديدة وهي يبتسم قائلًا:


-عيوني يسطا جاد 


وضعت نظرها على الخاتم والدبلة وتحدثت بخجل:


-مكنش المفروض تقولوا أنكم هتجيبوا دهب بـ مية ألف دول كتير أوي 


ابتسم داخله بسخرية شديدة، أنها لا تعلم أن شقيقها هو من طلب ذلك ليحافظ على حقها كما قال ولكنه يعلم نواياه جيدًا تجاهه وتجاه شقيقته أيضًا:


-مش كتير عليكي زي ما الحج قال 


تقابلت عينيها معه بعد كلماته الغبية، يتحدث على لسان والده!.. وأين هو! لماذا لا يقولها منه هو وليس من والده!.. لماذا يشعرها أنه أجبر على ذلك وبشدة أيضًا 


-وأنتَ رأيك ايه 


ضيق ما بين حاجبيه سائلًا إياها باستغراب وعقله لم يفهم صدقًا ماذا تقول:


-رأي في ايه 


-مش كتير عليا زي ما قال الحج ولا....


همهم بهدوء وهو ينظر إليها بين الحين والآخر وداخله أخبره أنها لا تريد الراحة:


-الدهب اللي في الدنيا كلها مش كتير عليكي 


أشاحت وجهها للناحية الأخرى سريعًا ولم تكن تتوقع أن يهتف بهذه الكلمات أبدًا، لقد تخبط عقلها وتشابكت أفكارها داخله الآن، هل مجنون؟ أما أبيض أما أسود!..


-وبعدين ياستي ما كله هيبقى ملك ليكي مش هتبقي مراتي آخر الأسبوع!


استدارت إليه بحدة وكأنه قال شيء مخل لا تريد سماعه، كيف ستكون زوجته في نهاية الأسبوع!. ألن يكون هناك فترة خطبة صغيرة على الأقل!..


هتفت بحدة متناسية المكان المتواجدة به:


-ايه!.. مين قال الكلام ده 


-اتفقنا إن كتب الكتاب يوم الخميس لما عمي يرجع والفرح بعد شهر أكون جهزت الشقة 


صرخت بوجهه وهي تقف على قدميها قائلة بعصبية بعد الاستماع إلى هذا الحديث الغير منطقي بالمرة:


-لأ طبعًا أنا مش موافقة على الكلام ده 


جذبها من يدها بحدة هو الآخر وهو جالس مكانه بعد أن رفعت صوتها عليه وجعلها تجلس مرة أخرى:


-وطي صوتك... وبعدين ايه اللي يخليكي مش موافقة مش عارفاني مثلًا!


لاحظت تهكمه عليها، جذبت يدها منه بحدة وأردفت:


-آه مش عرفاك يا بشمهندس ومحتاجة فترة كويسة أعرفك فيها علشان أقدر احدد إذا كنت هكمل معاك ولا لأ وبعدين أنا عندي كلية 


ضغط على أسنانه بشدة وهو ينظر إليها وأكمل حديثه معها بعقلانية ورزانه:


-اعتبارًا إنك متعرفنيش مع أن كل شيء واضح زي الشمس قدامك عندك شهر تعرفيني فيه ويكون براحتك بعد كتب الكتاب وإذا كان على الكلية فهي أصلًا فاضل كام شهر على الامتحانات وأنتِ مش أول واحدة تتجوز وهي في الكلية 


توترت كثيرًا وهي لا تدري لما الأمور تسير بسرعة هكذا، دارت عينيها في أرجاء المكان وعادت إليه مرة أخرى بحدة وعصبية قائلة:


-لأ بردو مش موافقة على الكلام ده دا جواز مش سلق بيض 


-أنتِ ليه بتحبي تتعبي نفسك وتصعبي الأمور 


-يمكن بدور على الحقيقة!


زفر بهدوء وأردف مُجيبًا إياها:


-الحقيقة قدامك وأنتِ اللي مش عايزه تشوفيها 


أطالت النظر داخل عينيه الرمادية الخلابة وداخلها كلمات وأفكار كثيرة تود أن تطرحها عليه وتأخذ منه إجابات عليها ولكن كيف ستفعلها!.. لا تستطيع، تشعر أن لسانها معقود عن الحديث معه في كامل الأمور الجدية..


زفرت بهدوء وأغمضت عينيها ضاغطة عليهم بشدة ثم نظرت إليه قائلة بجدية وداخلها يدعوا أن يُجيب دون مراوغة:


-أنتَ هتتجوزني علشان متصغرش أبوك قدام الناس ولا كنت عايزني بجد قبل ما يقول أنك خطبتني ولا لقتني حد مناسب وخلاص! 


وزع نظرة عليها وداخله يدعوه أن يأتي بمطرقة ويهشم رأسها بها إلى تقول لن أسأل هذه الأسئلة الغبية مرة أخرى، إلى الآن تتساءل وقد قال لها ما يجعلها تعلم كم يريدها؟.. لقد علم الآن من هن النساء..


كاد أن يتحدث ويُجيبها بهدوء ولكن دخول والدته ووالدتها أفسد الأمر وجعله يصمت..


هتفت والدته قائلة:


-ها خلصتوا 


ابتسم بسخرية ناظرًا إليها وأردف بكذب:


-لأ هدير قالت مش هتنقي غير لما ترجعوا 


-ادينا هنا أهو يلا يا ولاد خلصونا خلونا نفرح 


ابتسم إليها وعاد ينظر إلى الأشكال الذي أمامه بهدوء بينما هي نظرت إليه بضيق وانزعاج فقد كان على وشك التحدث ولكن دخولهم لم يجعله يكمل ما بدأه..


                                 ❈-❈-❈      


"اليوم التالي"


جلست "مريم" على المقعد فوق السطح وبيدها الهاتف في منتصف النهار، لقد كانت تمرر عينيها على صور وضعتها في الهاتف واخفتها داخله لحبيب قلبها ومالك ما به..


"سمير أبو الدهب" لقد عشقته ولم تدري كيف حدث ومتى ولما من الأساس ولكن ليس على قلبها سلطان، لقد أحبته دون مجهود يذكر، دون أن يفعل أي شيء وجدت نفسها وقعت بعشقه ولا ترى بحياتها أحد سواه هو..


لا ترى غيره ولا تنظر إلى غيره، أصبح حبه بقلبها كوجود الأمواج بالبحار، كوجود السحاب في السماء، حبه داخلها لا يتجزأ منها أبدًا، وكأن الله لم يخلق سواه


في صلاتها وقيامها تدعي بأن يكون من نصيبها الطيب المكتوب لها، تعلم أنه يكبرها بثمان سنوات وربما يذهب إلى التسع سنوات ولكن تحبه، وتريده هو دون غيره وإذا حدث ما يتمناه قلبها لن يكون هذا عائق بينهم من المؤكد..


ابتسمت براحة وهي تتذكره عندما أعطى درسًا مثاليًا لشباب ضالة كانت تثير حنقها في الذهاب والعودة عندما تستمع منهم إلى كلمات غير محببة إليها..


أغلقت الهاتف والابتسامة على وجهها تشرقه وتجعله منير، رفعت وجهها لتنظر إلى الأمام ووجدت أن من كانت تنظر إليه عبر الهاتف بصورة يقف أمامها الآن بالواقع!..


يقف وهو يرتدي قميص بنصف كم لونه أبيض وبنطال جينز لونه سماوي يصل إلى ركبته وبقدميه حذاء منزلي بلاستيك وبيده كوب الشاي والسيجارة في اليد الأخرى..


ابتسم وهو يتقدم منها قائلًا بعبث ومرح لأول مرة:


-دا الحمد لله إن الواحد شافك بتضحكي يا آنسة مريم 


وقفت على قدميها سريعًا والخجل جعل وجهها الأبيض يتحول إلى اللون الأحمر، لهذه الدرجة هي لا تبتسم!.. أهو لا يرى ابتسامتها المشرقة؟ 


تقدمت منه وعينيها مسلطة على باب السطح لتخرج منه فقد ارتبكت بشدة من وجوده وحديثه عن أنها لا تبتسم..


تحدث بضيق وانزعاج وهو يراها تذهب:


-هو إن حضرت الشياطين تذهب الملائكة ولا ايه 


توترت كثيرًا وأردفت بتخبط قائلة وهي تشير بيدها:


-لأ لأ شياطين ايه بس.. دا أنا لازم أنزل علشان قاعدة هنا بقالي كتير 


تقدم إلى سور السطح ووضع كوب الشاي عليه مردفًا بمزاح:


-لأ كده بقى أنا اللي غلطان علشان مطلعتش من بدري 


وزعت نظرها على الأسطح المجاورة لهم ولم تجعل عينيها تتقابل معه بسبب احمرار وجهها الذي لاحظه وتوترها دون داعي..


هذه الكلمات بالنسبة إليها ككلمات الغزل التي تتعرض إليها الفتيات ممن يحبون، ألا تعتبر هكذا؟..


أردف بجدية قائلًا وهو ينظر إلى وجهها الجميل المخفي عنه دائمًا ولذلك الحجاب أبيض الذي يخفي خصلاتها: 


-مش شايفك بتذاكري المرة دي يعني 


ابصرته بعينيها بعمق، أهو يراها وهي تدرس ليقول هذه المرة؟. يا الله ما هذا التخبط، ابتلعت ما وقف بجوفها وقالت برقة وصوت ناعم:


-لأ أنا يعني كنت بشم هوا ومريحة شوية 


ابتسم إليها ورفع كوب الشاي إلى فمه يرتشف منه بتلذذ وهدوء أخذت توزع نظرها على الأسطح مرة أخرى لتهرب من عينيه، رأته يضع السيجارة في فمه ويستنشقها بشراهة فقالت له بلهفة غريبة عليه:


-السجاير مُضره جدًا على فكرة وأثرها بيبان بعدين... عن اذنك 


لم تعطيه الفرصة للرد عليها ففي لحظات كانت قد اختفت من أمامه، لوى شفتيه ونظر إلى السيجارة بيده ثم ابتسم بغرابة وألقاها على الأرضية ودعسها بقدمة...


عاد نظره إلى مكان اختفائها ودقات قلبه تتسارع وعينيه تشتاق لرؤيتها ثانيةً!.. ما به؟..


                                 ❈-❈-❈


-ده كل اللي حصل مش عارفه بقى هما فعلًا عندهم حق ولا الجوازة بتم بسرعة ولا هو أصلًا مش موافق ولا فيه ايه 


جلست "رحمة" مع "هدير" على الأريكة أسفل النافذة بغرفتها وبعد أن أنهت حديثها أردفت هي بجدية:


-أنا اللي أعرفه إن مفيش راجل بيتجوز واحدة غصب عنه، دي اللي هيكمل معاها بقيت عمره.. إذا كان البنات محدش يعرف يغصب عليهم دلوقتي الراجل اللي هيتغصب عليه!.. 


رأت على وجهها علامات الحيرة والتخبط في الأمور فأكملت حديثها بجدية:


-أنتِ كنتي بتحاولي تعفي نفسك مع إنك بتحبيه ودعيتي ربنا كتير وربنا استجاب دعائك أهو يا هدير واللي حصل من مسعد ده كان سبب بس علشان الجوازة تتم.. ارتاحي يا حبيبتي وأفرحي 


نظرت إليه عبر النافذة ورأته وهو بالورشة يعمل مع الذين معه بالداخل، تذكرته بالأمس عندما اختار لها كل شيء بنفسه وذوقه الرفيع من تعامل مع الأمور وحقًا أعجبها اختياره بشدة ومن بعد أن أتى بالذهب أخذهم لأحد محلات الملابس الراقية بالنسبة للمكان المتواجدين به واختار لها أكثر من فستان كهدية منه وكانوا غاية في الروعة والجمال..


عادت نظرها إلى صديقتها وأردفت بهدوء:


-أنا صليت استخاره وحسيت فعلًا إني مرتاحة بس حاسه أن هو اللي مش مرتاح.. مش عايزني 


إنها حقًا تبحث عن التُشتت والتعب، هتفت مُجيبة إياها بجدية وحزم:


-لأ عايزك يا هدير بس أنتِ تفهمي ده كويس.. الراجل لحد دلوقتي مصدرش منه حاجه بتقول عكس كده 


أومأت إليها بهدوء وهي تنظر إليه مرة أخرى لتراه ينظر إليها وكأنه كان ينتظر نظرتها له، رفع يديه إلى جانب أذنه ليفعل حركة بيده تدل على أنه يريد مهاتفتها..


وقفت على قدميها وأتت بالهاتف من على الفراش لتراه أرسل إليها رسالة بالفعل قبل عشر دقائق عبر الواتساب كُتب بها..


"قعدتك دي متنفعش ادخلي من وش الصنايعيه واللي رايح وجاي في الشارع"


أردفت إلى "رحمة" بسخرية وتهكم مضحك:


-آه لبسني الدبلة وبدأنا بقى تحكمات 


ابتسمت "رحمة" متسائلة بهدوء عن ما الذي يريده لتُجيبها قائلة:


-قال القعدة دي ماتنفعش علشان الصنايعية واللي رايح واللي جاي 


وقفت "رحمة" واتكئت بقدمها اليمنى على الأريكة ثم جذبت النافذة وأغلقتها قائلة:


-طب ما الراجل عنده حق 


خلعت "هدير" الحجاب عن رأسها بعد أن أغلقت "رحمة" النافذة ثم جعلت خصلاتها الحريرية ذات اللون البني الداكن التي تنتهي بالبني الفاتح تنساب على ظهرها لتغطيه إلى آخره..


استمعت إلى سؤال "رحمة" الخجل:


-هو جمال فين!


نظرت إليها بشفقة وحزن كبير عليها وعلى حال شقيقها الذي سيؤدي بحياته إلى الجحيم، وهذه المسكينة لا تقول أنها تحبه ولكن على الأقل مُعجبة به:


-رحمة سيبك من جمال أخويا ومتبصيش ليه إلا لو اتعدل وبقى بني آدم بجد 


نظرت "رحمة" إلى الأرضية بهدوء بعد أن أومأت إليها بجدية وداخلها الحزن يشتد يومًا بعد يوم بسبب ما يفعله "جمال" الذي تنتظره منذ زمن وتعتقد أن الأوان قد فات عليه!..


                              ❈-❈-❈


"بعد مرور ثلاثة أيام"


كان يسير في الشارع ورأسه مرفوع وهو مقرر داخله أنه اليوم سيذهب بالمال المُطالب به إلى "رشوان أبو الدهب" ليجعل الجميع يصمت وسينتظر قليلًا حتى يدبر أمرًا بسيطًا في رأسه تعود به برنسس الحارة إليه لأنه الأولى بها ومن تحدث عنها من البداية بعيدًا عن الخرافات التي تحدث بها ذلك الرجل العجوز... 


استمع إلى صوت زغاريد عالية تعم أرجاء المكان وأطفال تسير وبيد كل منهم علبة من علب المشروبات الغازية فـ أمسك بطفل كان يسير متجه إليه وبيده واحدة فسأله قائلًا:


-ايه الزغاريد دي يلا ومين بيوزع كنز 


أجابه الطفل سريعًا ورحل:


-دي علشان كتب كتاب الاسطى جاد بتاع الورشة 


جز على أسنانه وكاد أن يهشمها بينما ضغط على يده إلى أن ابيضت مفاصلها وظهرت بوضوح، سار صدره يعلو وينخفض بسرعة من فرط الغضب الذي حل عليه الآن بعد أن استمع هذه الكلمات.. وظهرت عينيه الخضراء ببريق شيطاني مخيف أخفى جمالها ليحل محله نظرة مُجرمة..


كيف سيتزوجها سريعًا هكذا!.. كيف فعلها!. ماذا قدم لها لتوافق بهذه السرعة على الزواج!.. ما الشيء الذي فعله "جاد الله" ولم يستطيع هو فعله!..


نظر أمامه وأخذ نفسًا عميقًا ثم ابتسم بهدوء وقد علم ما الذي سيفعله اليوم قبل أن يتم عقد قرآنه عليها.. 


لقد كان تفكيره شيطاني للغاية ومدمر، يرى نفسه أنه الأحق بها منه لأنه من أحبها أولًا ومن تقدم إليها ولا يحق لها الرفض لأنه لا يوجد مثله أبدًا وقبل أن يتزوجها "جاد" سيفعل هو ما أتى بخلده وسيخبر الجميع أنه "مسعد الشباط" الذي لا يقدره أحد


#ندوب_الهوى

#الفصل_التاسع

#ندا_حسن


      "دقت الفرحة باب قلبه ففتح لها بابتسامة خلابة،

       وما كان منها إلا أن تستقبل السعادة بسعة صدر"


الفرحة كأنها زُرعت في المكان لا وُجدت، الجميع على وجوههم السعادة الخالصة والفرحة المفرطة التي تتحدث على ملامح وجوههم، الجميع ومن ضمنهم من كانت خائفة منه حتى..


لقد شكرت الله كثيرًا في صلاتها وقيامها ليلًا ونهارًا، حدثت نفسها بالكثير في جلسة صفاء بينها وبين نفسها، تقول أنه لا يريدها وربما فعل ذلك فقط لأجل والده ليس إلا ولكن كان هناك كثير من التلميحات منه ليعلمها باهتمامه بها!.. حتى ولو لم يتحدث بشيء صريح ولكنها تشعُر على الأقل ومن قبل ما حدث!.. وإن كانت هذه مجرد تخيُلات منها فإن الله لن يخذلها مهما حدث..


لقد دعت الله كثيرًا ليجعله لها وحدها وليجعلها من نصيبه هو، ودائمًا كان يقف على لسانها الدعاء ببقائه إن كان خير لها الدعاء برحيله عن قلبها إن كان شر لها..


كانت تدعي بنزعه من قلبها كما لو أنه لم يوجد من الأساس إن كان لا يريدها.. ولكن بعد كل هذا إنه هنا لخطبتها بل لعقد قرآنه عليها!..


إذًا إنه خير بل كل الخير من الله عز وجل، إنها متأكدة أن الله لا يقدم إلينا إلا الخير وتعيش بهذا اليقين داخلها، وقد دعته كثيرًا لتحقيق ما تريده وقد حدث بعد سنوات مسببًا أسباب كان لابد من وجودها لكي يتزوجها..


ابتسمت في النهاية وهي تقف على قدميها لتذهب للوضوء وصلاة المغرب وداخلها مقررة أن تفرح معه وتظهر السعادة عليها مثل الجميع ومثله هو أيضًا إلى أن تتأكد من أنه يريدها حقًا مثلما قال والده وستحاول بكل الطرق تبعد التشتُت عن طريقها..


بينما هو تفكيره لم يكن سوى بها.. لقد شعر أنها تعاني من انفصام ما أو خلل في شخصيتها، لقد حاول من وجهة نظره أن يقدم إليها اعتراف بحبه غير مباشر وداخله يعتقد أنها قد فهمت ولكن تريد المتاعب لنفسها وله قبلها..


مرةٍ تنظر إليه وتبتسم والأخرى لا تنظر من الأساس!.. مرةٍ تُجيب على الهاتف والأخرى لا تُجيب ودائمة السؤال عن ماذا يريد منها وأنه قد يراها فتاة مذنبة بسبب ما فعله "مسعد" معها..


لقد استشعر خجلها منه ومما حدث من "مسعد" أمامه ولكنه يعلم أنها لا ذنب لها في ذلك وأن "مسعد" هو المذنب الوحيد ومازال عليه أن يحاسبه لما فعله بها.. إنه يراها أنقى النساء وأجمل الفتيات، يراها كل شيء جميل وهادئ، يراها كل شيء زهي ومبدع ولكنها لا تدرك ذلك..


داخله قرر عدم تركها نهائيًا حتى لو أنها لم تقتنع بعد بفكرة الزواج القريبة هذه، لقد فهم أن حكمة الله في ما فعله "مسعد" معها هو الزواج منها.. لو لم يكن "مسعد" حاول الاعتداء عليها ثم تحدث في الحارة في اليوم الثاني لم يكن والده تحدث أمام الجميع بأنها خطيبته وجعل الأمور تسير بسرعة البرق..


حتى وإن كان والده مقررًا أنه سيزوجه منها لم يكن يسير الأمر بهذه السرعة بل كان من الممكن أن يأخذ سنة كاملة في الخطبة سيرًا على نهج العادات والتقاليد لديهم.. 


وقف على قدميه والفرحة تكاد تخرج من عينيه المبتسمة وحدها، ليفتح الخزانة حتى ينظر إلى البدلة التي سيرتديها غدًا في عقد القرآن وتلبيسها الذهب..


                                 ❈-❈-❈        


وقف "سمير" أمام سور السطح ينظر إلى الخارج وعينيه تدور على الأسطح المجاورة بهدوء وجواره "عبده" وبيد كل منهم كوب من الشاي التي صنعته إليهم "مريم"، تلك الجميلة الرائعة!..


ابتسم "عبده" وهو ينظر إلى السطح خلفه بعد أن قاموا بتزينه بطريقة هادئة وجميلة للغاية حيث قاموا بوضع المقاعد القليلة الذي أتوا بها بجانب بعضها البعض وقد كانوا قليلين للغاية يكفوا فقط للعائلتين وبعض الأشخاص المقربين للغاية منهم.. 


وتم وضع أمام هذه المقاعد سفرة كبيرة عليها مزهرية جميلة للغاية، ملتف حلو السفرة مقاعدها الكاملة ليجلس عليها العروسان ومعهم المأذون والوكيلان لهم...


وخلف هذه السفرة يوجد الحائط والذي وضع عليه البلالين مختلفة الألوان بطريقة جميلة تجذب العينين إليهم والأضواء البيضاء ومتعددة الألوان تنير السطح بقوة عن الأسطح الأخرى.. لقد قام بفعل كل هذا "سمير" و "عبده" بصفتهم أنهم الأقرب إلى "جاد" ومثل الإخوة ومنذ قليل فقط انتهوا من ذلك وصعدت إليهم "مريم" بالشاي قبل رحيلهم لتبديل ملابسهم حيث أن عقد القرآن والخطبة بعد صلاة العشاء..  


وضع "سمير" الكوب فارغ على حافة السور ناظرًا إلى "عبده" بجدية:


-هنزل أغير هدومي واطلع الصب وبعدين أنزل أشوف جاد


وضع "عبده" هو الآخر الكوب فارغ وتحدث مُجيبًا اياه:


-وأنا كمان الحق أغير هدومي واقابل طارق وحمادة 


قبل أن يُجيبه "سمير" وجدوا "جاد" يتقدم منهم مُبتسم بسعادة كبيرة ونظرة ائتمان ظهرت لهم بعد أن نظر إلى السطح ورأى ما فعلوه به..


تقدم منهم ووقف في المنتصف بينهم ليربت على ظهر كلًا منهم بقوة وبالأخص "سمير":


-الله ينور يا رجالة.. نردها في افراحكم إن شاء الله


تأفأف "سمير" وتحدث بضجر وهو يبعد يده عن ظهره بقوة وضيق:


-ياعم كده هتردها في المستشفى شيل ايدك دي 


ضيق "جاد" عينيه الرمادية الخلابة ناظرًا إليه بسخرية قائلًا وهو يشير إليه باستهزاء ليضحك "عبده":


-نايتي أوي يا ابن أبو الدهب 


أشار له الآخر بيده ساخرًا منه:


-ياخي اتنيل كده وخليك في خيبتك 


تقدم "جاد" ووقف في المنتصف بعد أن أسند ظهره إلى سور السطح وتحدث بابتسامة عريضة ونظرة فخر في عينيه:


-انهي خيبة دي دا أنا بتجوز يعني هاكل لحمة كل يوم 


استمع إلى ضحكات الاثنين التي انطلقت عاليًا بعد حديثه الذي فهموا ما المقصود منه ليهتف "عبده" بهدوء:


-الشعب المصري كله كان مفكر كده بردو يا كبير بس لقوا نفسهم فجأة بتوع كشري 


ابتسم "جاد" مردفًا وهو يعتدل في وقفته ويستند بمرفقيه خلفه على السور:


-أبلع ريقك يابا الشعب المصري غير جاد أبو الدهب 


تهكم "سمير" وهو ينظر إليه عابثًا معه بعد أن غمز إلى "عبده":


-بكرة نقعد جنب الحيطه ونسمع الزيطة 


ربت "جاد"على كتفه بعد أن وقف معتدلًا وهتف بسخرية وتهكم واضح وهو يلوي شفتيه:


-لأ دي كده بقت قعدة ولامؤاخذة... أنا نازل احضر نفسي 


ثم أبتعد عنهم يسير متوجهًا إلى الأسفل لكي يجهز نفسه لعقد القرآن وداخله سعادة لا توصف ولا تُحكى، بينما ذهب "عبده" خلفه هو الآخر وبقي "سمير" الذي أخذ الكوبين بيده دون صينية لأنه طلب منها أن تأخذها معها وذهب خلفهم هو الآخر...


                                 ❈-❈-❈     


بعد صلاة العشاء بقليل كان الجميع على السطح، جلست والدتها وشقيقها ومعهم أهل "جاد" والده ووالدته وعمه وزوجة عمه والدة "سمير" الذين أتوا أخيرًا، كان "سمير" يقف مع "عبده" يحاول تشغيل جهاز مكبر الصوت، وكان "طارق" و "حمادة" أيضًا هنا معهم وبعض الأشخاص القليلة للغاية من الأقارب والجيران لهم..


جلس والده في انتظار أن يذهب "سمير" لإحضار المأذون إلى هنا وهم على اتفاقهم، لقد فرح والده عندما رآه سعيد وأبعد عنه فكرته الغبية التي كانت تلازمة عنها..


حقًا إنه لم يكن يريد هذه الفتاة إلى الوحيد والغالي على قلبه أكثر من نفسه، كان يريد أخرى من اختياره بحسبها ونسبها تشرفة وتأتي بأولاد نسلهم يشرف ويرفع الرأس ولكن ابنه بار به كثيرًا ولا يكسر كلمة له بل يفعل ما يقوله ولو كان سيف على رقبته لذا فكر لماذا سيجعله تعيس طوال حياته!.


تنحى عن فكرته وقرر أنه سيزوجها له مادام هو لا يريد غيرها ولا يهوى غيرها، إن الهوى ليس له حكيم بل هو الحكيم الأول والأخير على نفسه..


بعد أن فعل ذلك أمام أهل الحارة جميعًا ورأى فرحة ابنه بما فعله شعر هو الآخر بالفرحة العارمة والسعادة الغير طبيعية..


هو لا يود إلا أن يراه سعيدًا وها هو قد حقق ما يريد بجعل ابنة الهابط زوجة له..


أما والدته فلم يكن لديها مشكلة معها نهائيًا بل كانت تتمناها له منذ زمن.. تريد "هدير" زوجة لـ "جاد" لتجعله يشعر بالفرحة والراحة الدائمة، لأنه يراها راحته ومملكته التي تمتلئ بالانتصارات وهي الانتصار الأخير الذي يخلفه السعادة الأبدية... 


ولم يكن حال عمه وزوجته غير ذلك، بل فرحوا كثيرًا له اعتبارًا أنه ابنهم الآخر مثل "سمير" بالضبط وتمنوا لو يفعل "سمير" مثله..


ذهب "سمير" ليقابل المأذون ويأتي به إلى هنا في حضور "جاد"..


وقف "جاد" أمام المرآة ينظر إلى نفسه بابتسامة رضا وثقة كبيرة، لقد كان يرتدي بنطال أسود اللون يعلوه قميص أسود مثله وجاكت البدله يماثلهم كما الحذاء بالضبط..


نظر إلى خصلات شعره السوداء المخالطة للبني وتأكد من أنه مصفف بعناية، عاد إلى الخلف خطوة وألقى على نفسه نظرة أخيرة وابتسم بهدوء ورزانه وقلبه يدق بعنف وقوة وهو يذهب إلى خارج غرفته ليذهب إليها..


بعد أن خرج من الغرفة ضرب مقدمة رأسه بقوة وهو يستغفر داخله بسخرية على نفسه، لقد جعلته يتناسى كل شيء سوى هي!.. عاد إلى الغرفة وأخذ من على الفراش باقة الورود الحمراء ذات الرائحة العطرية الجميلة التي ابتاعها لها لتكون أول هدية يأتي بها إليها، ورود حمراء بباقة بيضاء كما هي بالضبط تلك البيضاء الرائعة الجميلة بالوجنتين الحمراء بشدة..


لقد كان حقًا غاية في الوسامة والأناقة الشديدة، بلحيته النامية وعينيه الرمادية البراقة، وبروز تفاحة آدم بعنقه يجعله رجل وسيم لا يوجد مثله أبدًا..


هبط إلى الأسفل براحة شديدة وثبات خارجي ولكن داخله لا يعلم ما الذي يحدث من اضطرابات وعنف في دقات قلبه وفرحة مفرطة لا يعلم ما نهايتها...


وصل إلى باب شقتهم ليقف أمامه بثبات خارجي أخذًا نفسٍ عميق وزفره براحة وصوت عالي..


دق باب المنزل، لحظات ووجد الباب يُفتح وتظهر من خلفه شقيقتها الصغرى بمظهرها الطبيعي الخلاب كما حبيبته، ابتسمت بوجهه بسعادة وأشارت له بيدها ليدخل الشقة فدلف بهدوء إلى الصالة وتحدث قائلًا بنبرة رجولية متسائلًا:


-هي خلصت ولا لسه؟..


-خلصت ومستنياك بقالها عشر دقايق


أشارت له بالدخول إلى الغرفة وهي تتقدمه فـ تنحنح وهو على أعتاب الغرفة بصوتٍ خشن لتعلم بوجوده، ولج إلى الداخل ورأى صديقتها تقف جوارها أمام المرآة بعد أن استدارت له مُبتسمة بسعادة وود له ليرد لها الابتسامة بتحفظ ونظر من بعدها إلى مالكة قلبه التي توليه ظهرها وتجلس على المقعد أمام المرآة بزاوية تجعله لا يستطيع رؤية وجهها..


تقدم إلى الداخل إلى أن وصل إليها لتبتعد "رحمة" إلى أعتاب باب الغرفة من الخارج هي و "مريم" لترك مساحة بسيطة لهم، تقدم أكثر منها محاولًا أن ينظر إليها ثم هتف بسخرية مُبتسمًا باتساع:


-هنلعب استغمايه ولا ايه بالظبط


ابتسمت رغم عنها بعد أن استشعرت ابتسامته المُرتسمة على شفتيه واستدارت لتنظر إليه بخجل شديد ثم بعد أن نظرت إليه وقفت على قدميها أمامه لتراه ينظر إليها ببلاهة واضحة على ملامحه..


مُحق في نظرته لها، غاية في الجمال والرقة، لا يوجد لها مثيل ولن يوجد أبدًا، نظر إليها من الأسفل إلى الأعلى وعينيه لا تريد الابتعاد ولو ثانية واحدة، كانت ترتدي فستان أبيض بسيط للغاية تشغله بعض الورود البيضاء عند منطقة الصدر وأكمامه واسعة محكمة عند المعصم وهناك حزام على شكل ورود ملتصقة ببعضها البعض يتوسط خصرها..


يزين وجهها حجاب أحمر اللون وتظهر عينيها العسلية ببريق لامع خلاب سحره من نظرة واحدة، وهذا النمش البسيط الذي يجذبه إليها لا يدري كيف يُشفى منه، انخفض بصره على شفتيها وكاد أن يتخيل كثير من الأشياء ولكن سريعًا عاد إلى رشده متمتمًا بالاستغفار داخله بعد أن اعتصر عينيه وهو يغلقهم بقوة أمامها..


-بسم الله ما شاء الله، تبارك الخلاق


هذا ما ظهر من حركة شفتيه البطيئة، أخفضت نظرها سريعًا بعد أن وجدته أطال النظر عليها، وللحق قد استغلت هي الأخرى الفرصة ناظرة إلى كل انش به، ناظرة إلى جسده الرياضي الضخم بالنسبة إليها، وهذه الأناقة التي يرتسم داخلها، ووسامته القاتلة لها ولمشاعرها.. هل حقًا بعد قليل ستصبح زوجته!... إن الأمر أشبه بالخيال


قدم إليها الورود لتأخذها من يده على استحياء وكأنه كان يدري ما الذي سترتديه فـ آتي بهم، لا تدري أنه أتى بهم لأنهم يشبهونها هي وليست الملابس، نظر إلى الباب وأشار إليها ليتقدموا سويًا للصعود إلى الأعلى بعد أن استمعوا إلى صوت الأغاني الشعبية المزعجة التي قام بتشغيلها "سمير" من المؤكد 


سارت "مريم" ومعها "رحمة" أمامهم والتي كانت تطلق الزغاريد دون هوادة وهي تصعد معهم على درج البيت..


وقف الجميع لاستقبالهم عندما استمعوا إلى الزغاريد وتقدم "سمير" ووالدتها ووالدته إليهم والسعادة تنبثق منهن، وكل ما كان حاضر أخذ بالتصفيق الحار لاستقبال العروسين..


دلفوا معهم إلى الداخل بعد أن أخذوا جولة ليست صغيرة من السلامات والمباركات من العائلة والحاضرين جميعًا..


أغلق "سمير" الأغاني إلى أن ينتهوا من عقد القرآن..


جلس المأذون في منتصف الطاولة وعلى الناحيتين له والد "جاد" وشقيق "هدير" وجوار "جمال" جلس "سمير" وعبده" الشهود على العقد والناحية الأخرى جلس "جاد" وجواره "هدير"


بعد أن مر الوقت في كلمات المأذون وسؤاله للاثنين بالموافقة أو الرفض أعلن الانتهاء قائلًا:


-بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير 


من هنا انطلقت الزغاريد مرة أخرى من الجميع هذه المرة بعد أن آمنوا منه خلفه، والدته ووالدتها، زوجة عمه وصديقتها، كل من كان يحمل في قلبه الفرحة لهم وقف على قدميه يطلق الزغاريد ومن ثم وقف "سمير" ليشعل الجو بالأغاني مرة أخرى بعد أن رحل المأذون..


انحنى مائلًا عليها يهتف بنبرة رجولية والفرحة تتغلغل داخله:


-ألف مبروك، عقبال ما تنوري بيتك 


استدارت لتنظر إليه وكانت هذه أول مرة تنظر إليه عن قرب هكذا وترى عينيه الرمادية الخلابة والسعادة التي تتراقص بها، ابتسمت باستغراب شديد واضح عليها وعادت مرة أخرى تسأله دون النظر إلى الجو حولها:


-هو أنتَ بجد فرحان يا جاد؟..


لقد علم أنها فعلًا مُشتته، نظر إليها بشجن وحبٍ خالص قائلًا: 


-أنتِ لسه بتسألي!.. للدرجة دى مش باين عليا الفرحة يا هدير 


أغمضت عينيها بقوة تعتصرهما بسبب صوت الأغاني المزعجة التي يصفق معها الجميع حولها يظنون أنهم يتحدثون باشياء رومانسية، فتحت عينيها وقالت بصدق خالص ونظرة حنونة ضائعة:


-بالعكس باين عليك الفرحة كأنك مفرحتش قبل كده بس أنا...


ضيق عينيه الرمادية سائلًا باستفهام:


-أنتِ ايه؟


-أنا مش مصدقة 


ابتسم بهدوء وفهم ما الذي تمر به غير كل ما حدث سابقًا هو يتفهم ما يدور داخلها الآن:


-وايه اللي يثبتلك إني مبسوط وفرحان وإني عايزك أكتر من إني اتجوزك 


نظرت إلى الأرضية بخجل شديد، إنه محق ما الذي يمكن أن يثبت به صدقه وصدق حديثه أكثر من زواجه منها!..


تحدث وهو ينظر إلى الناس أمامه بابتسامة عريضة قائلًا بجدية:


-نفرح النهاردة طيب وبعدين نتكلم 


ابتسمت بهدوء ثم نظرت أمامها لتجد والدتها تتقدم منهم ومعها والدته التي كانت تحمل بيدها كيس ذهبي اللون وبه الذهب الخاص بها، وقفوا أمامهم الاثنين ثم قدمت والدته علبة الذهب الكبيرة إليه بعد أن اخرجتها له تطالبه بأن يلبسها إياه وكل هذا تحت عدسات هاتف "مريم" التي كانت تلتقط الصور منذ اللحظة الأولى..


فتح العلبة تحت أعين الجالسين وقام بأخذ الدبلة أول شيء وهو يبتسم إليها بود وهدوء تبادلة إياه مع ابتسامتها، أخذ كف يدها براحة أمام الجميع ليقوم بوضعها لها في إصبعها ولكن مع لمس أصابعه يدها شعر وكأنه لمس سلك عار أشعل جسده بالكامل، ابتلع ما وقف بحلقه بتوتر لتتحرك تفاحة آدم باغراء لها وكم كانت تحب رؤيتها به..


جعلها ترتدي الدبلة ثم خلفها ذلك الخاتم ذو الفص الواحد، ومن بعده ثلاث أساور ثقال في الميزان وانتقل إلى اليد الأخرى ليضع بها خاتم آخر ومعه اسوار واحد فقط يلتف على يدها يأخذ شكل وردة رائعة، وآخر شيء أخذه من العلبة كان السلسال..


طلب منها الإقتراب لتتيح له الفرصة بوضعه حول عنقها وقد تاهت في رائحة عطره الممزوج برجولته لدرجة أنها أغلقت عينيها وهي تستمتع باستنشاق رائحته لأول مرة..


أبتعد للخلف لتفعل المثل بعد أن فتحت عينيها وترك القرط في العلبة مشيرًا إلى والدتها أنه لن يستطيع وضع إياه أمام الحاضرين ورفع الحجاب عنها.. وأخذت العلبة وابتعدت هي ووالدته وظلت "مريم" تأخذ لهم الصور 


-الغوايش دي تقيلة أوي... ايدي وجعتني منها


خرجت منه ضحكة رجولية مباغتة بسبب حديثها، حقًا ألمتها يدها في هذه الدقائق!:


-معلش كلها ساعة وهننزل وتخلعيها


نظرت إليه بضيق وانزعاج بسبب ضحكته الغريبة على حديثها:


-على فكرة أنتَ بايخ وخنيق أوي 


رفع حاجبيه متحدثًا بنبرة خافتة حادة قليلًا وهو يتسائل:


-ايه ده ايه ده دا أنتِ طلعتي بتعرفي تتكلمي أهو.. طلعتي قطة بتخربش 


ابتسمت بسخرية واستحضرت شخصية لا تخرج إلا للضرورة وقالت بصوت جاف:


-لأ مهو هدير اللي أنتَ تعرفها محدش غيرك يعرفها.. بره أنا مش قطة بتخربش أنا راجل بيعض


اتسعت الابتسامة على وجهه ونظر إليها بحب وشجن قائلًا:


-وده المطلوب.. مع أي حد غيري تبقي راجل ومعايا تبقي هدير وبس 


أشاحت بوجهها بعيد عنه وهي تبتسم لترى "سمير" وأصدقاءه يقتربون منه يحاولون أخذه ليرقص معهم قليلًا ويفعلون جو حماسي يتذكرونه جيدًا..


وقف معهم على مضض ولم يكن يريد أن يرقص ولكن تحت ضغط "سمير" وقف معه وتقدم إلى الأمام في الفراغ ليرقص هو و "سمير" سويًا وأصدقاءه يلتفون حولهم يصفقون بحرارة جاعلين الجو يشتعل بالحماس والفرحة..


وقف والده وذهب إليه ليقف جواره ويجعله يشعر بأنه راضي عن هذه الزيجة وتوجه عمه خلفه هو الآخر ليقف الجميع معه وهو يرقص ويتمايل بخفه ورزانه بذات الوقت على الموسيقى الشعبية مع ابن عمه وأخيه..


نظر "جمال" على شقيقته التي كانت تجلس تنظر على زوجها بسعادة وفرحة وداخله كان سعيد لأجلها، لأجل تلك الابتسامة التي رُسمت على وجهها بعيد عن أي شيء آخر، إنه رغم كل ما يحدث يحبها! ويجب شقيقته الصغرى ويريد أن يرى الفرحة دائمًا على وجوههم ولكن في كل مرة يفعل العكس وتغلبه نفسه بفعل السوء والضغط عليهم والابتعاد عنهم ليأتي الغريب ويكون هو مكانه، وقف على قدميه وتقدم من باب السطح وهبط إلى الأسفل تاركًا الخطبة دون النظر خلفه حتى، وهذه مرة أخرى تغلبه نفسه ويبتعد دون مجهود منها..


ذهبت "رحمة" وتركت "مريم" الهاتف وتقدموا منها لياخذونها مثلما فعل "جاد" وذهبت معهم والدتها ووالدته ووالدة "رحمة"، وقفت على قدميها وتقدمت معهم إلى مكان فارغ أمام الحاضرين ولكنها امتنعت عن الرقص ووقفت تصفق بيدها لتجذبها والدتها من يدها الاثنين وتجعلها تتمايل معها بسعادة وهي تطلق الزغاريد عاليًا والابتسامة تشق وجهها حقًا..


نظر "جاد" إليها وهو يرقص مع أصدقاءه بطرف عينيه غير قاصد ليراها تقدمت مع النساء وتتمايل بخفه ونعومة أمام الجميع!..


ترك الجميع وابتعد بخفه من وسطهم وتركهم يتراقصون متقدمًا منها بنظرة جادة مُرتسمة على ملامحه، رأته "مريم" يتقدم منهم فابتعدت لتفسح له الطريق..


وجدته في لحظة خاطفة يقف أمامها يميل عليها بعد أن أبتعدت والدتها عنها يهتف بحدة ونظرة جادة:


-مترقصيش


ابتلعت ريقها وأردفت مُجيبة إياه بجدية تنظر داخل عينيه بعمق:


-مرقصتش 


ثبت نظرة على عينيها يحدق بها وبادلته هي الأخرى إلى أن توقف صوت الموسيقى فجأة واستمعوا إلى "سمير" يهتف بإسم "مسعد" باستنكار..


استدار "جاد" لينظر ويرى أين هو، وجده يقف جوار مكبرات الصوت ويبدو أنه من أوقف تشغيلها وبيده حقيبه سوداء..


تعمق "جاد" بالنظر إلى داخل عينيه ولكنه لم يكن ينظر إليه بل كان ينظر إلى زوجته التي عندما رأته وضعت يدها على ذراع زوجها تتشبث به تلقائيًا فجذب يدها من عليه وأمسك بكفها مخللًا أصابعه بين أصابعها ضاغطًا عليها بقوة محاولًا أن يجعلها تشعر بالأمان..


ولكنه شعر برجفتها الغريبة، ارتعاش يدها بين يده كما ذلك اليوم المشؤوم، استدار بوجهه ينظر إليها ليرى عينيها مثبته على "مسعد" وداخلها تترقرق الدموع الحبيسة!.. وهو معها!..


تقدم والده من "مسعد" وأردف قائلًا بجدية وهو يسأله بترقب: 


-خير إن شاء الله يا مسعد؟..


سار هو الآخر إليه ووقف أمامه ورفع إليه الحقيبة متحدثًا بخبث ونبرة لعوب:


-أنتَ نسيت ولا ايه يا حج!.. مش أنا قولتلك قبل الجمعة هتكون الفلوس عندك وبصراحة ملقتش فرصة أحسن من دي علشان اجي وابارك للاسطى جاد ونصفي اللي بينا 


قدم إليه الحقيبة فأخذها منه وقام بفتحها ليتأكد من وجود المال، داخله يعلم أنه لن يغشه وسيضع المال بها ولو طلب أكثر سيعطيه ولكنه أراد التأكد..


تقدم من "جاد" ببرود وعنجهيه وهو يسير إليه لتبتعد هدير إلى الخلف قليلًا ومازالت يدها بيد زوجها..


عانقه "مسعد" وربت على ظهره بخبث ومكر وداخله يخطط لكل شيء خبيث وحقير مثله:


-ألف مبروك يسطا جاد عقبال ليلة الدخلة


تحدث بهذه الكلمات بصوت عالي ليستمع إليها الجميع ثم انتقل إلى الناحية الأخرى وهو يكمل في عناقه الخبيث قائلًا بنبرة خافتة وهو يغمزها بعينيه دون أن يرى أحدًا:


-ولوني كان نفسي ابقى....... ولا بلاش يلا مبروك عليك برنسس الحارة


أبتعد عنه ورفع صوته وهو يعود للخلف:


-نجيلكم في الأفراح دايمًا 


غمزها مرة أخرى بعينيه الوقحة دون أن يرى "جاد" ذلك ثم استأذن من الجميع وذهب في لحظات وكأنه ركض!.. لو كان فعل أكثر من ذلك لكان خرج من هنا إلى المشفى فورًا ولم يذهب إلى الطوارئ بل سيدلف إلى العمليات ومن بعدها إلى السماء.. لقد كان يعلم ذلك فبتر حديثه الذي كان يريد قوله إليه، والذي كان خبيث ووقح للغاية.. 


ضغط "جاد" على يدها بقوة شديدة دون أن يدري وهو يفكر في حديثه الذي بتره دون أن يكمله وفهم ما الذي كان يريد قوله..


اعتصر يدها بين يديه بعصبية وانزعاج شديد، لقد أتى ذلك الحقير ليعكر صفو مزاحة ويرحل..


بينما هي تسارعت دقات قلبها خوفًا منه، لو لم يحاول الإعتداء عليها لكانت فعلت معه ككل مرة وأخرجت الرجل القابع داخلها ناحيته ولكنها الآن تخاف منه أضعاف مضاعفة لما حاول فعله معها لولا تدخل "جاد" في الوقت المناسب


تاوهت بخفه وهي تحاول جذب يدها منه الذي اعتصرها دون أن يدرك، نظر إليها بلهفة بعد أن استمع إلى تاوهها وترك يدها أمام الجميع والذين كانوا يلتزمون الصمت والصدمة تساعدهم بسبب فعلة "مسعد" الغير متوقعة..


أردفت بجدية وهي تنظر إليه والدموع حبيسة داخل عينيها:


-كفاية كده أنا عايزة أنزل 


أومأ إليها بهدوء دون أن يحاول معها لاستكمال الليلة فهو قد فهم سبب زيارته الأساسية ولن يستطيع أن يضغط عليها في أي شيء الأن وعليه أن يجلس معها جلسه طويلة لتفهم ما تجهل فهمه وتترجمة داخل عقلها كما يروق لها فقط..


                               ❈-❈-❈


جلستها على السطح هنا وبيدها الكتاب لا تعني أبدًا أنها تهتم لما داخله، بل أنها كانت شاردة وتذهب بعالم آخر مع تفكيرها وما يحدث معها..


وما يشغلها الآن أكثر شيء هو ما حدث بالأمس من "مسعد"!، هي بحياتها لم تكن هكذا مسالمة وخائفة بل كانت دائمًا تتصدى له وتجعله يندم أنه تحدث معها من الأساس، الآن اختلف الأمر كثيرًا بعد شعورها أنه يستطيع فعل أي شيء ومهما كلفه الأمر..


لم تكن تتوقع قديمًا أن يصل به الحال إلى محاولة الاعتداء عليها لذا كانت تستطيع أن توقفه عند حده في كل مرة بينما الآن أصبحت تخاف من رؤيته ونظرة عينيه الشيطانية الحقيرة، تخاف من نظرته إليها التي تشعرها بأنها مجردة من الملابس أمامه..


أصبحت رؤيته بالنسبة إليها ضيق النفس وسحب الأكسجين الموجود بالمكان، ارتعاش جسدها وتكون الدموع بمقلتيها.. تغير كل شيء بيوم وليلة..


رفعت نظرها إلى باب السطح لتجد "جاد" يقف على أعتابه مستندًا عليه بجانبه واضعًا يديه أمام صدره مرتديًا العباءة البيضاء الخاصة بصلاة الجمعة..


رسمت ابتسامة مصطنعة على شفتيها فوجدته يعتدل في وقفته ثم تقدم إلى الداخل ليقف أمامها ينحني بجذعه للأمام عليها مستندًا على الطاولة الصغيرة، مردفًا بعتاب:


-ينفع أفضل طول الليل صاحي بحاول أكلمك وأنتِ مش عايزة تردي!..


أغلقت الكتاب ووضعته أمامها على الطاولة، رفعت رأسها إليه لتهتف بهدوء:


-مكنتش قادرة أتكلم مع حد


استغرب حديثها قليلًا فهو كان يود أن يتحدث معها للتخفيف عنها والاطمئنان عليها، قال بجدية شديدة:


-بس أنا مش حد أنا جوزك... يعني اللي هتخبيه عن الناس مش هتخبيه عني 


صاحت بحدة لشعورها بأنه يفعل ذلك فقط لتلبيه لفكره وليس لقلبه:


-وأنا مش هتعود على الوضع ده بين يوم وليلة 


وقف مستقيمًا أمامها ونظر إليها بجدية ولا يدري ما الذي يحدث داخل عقلها متحدثًا بنبرة رجولية جادة:


-لأ يا هدير لو عايزة تتعودي عليه هتعمليها لو في ساعة حتى 


وقفت أمامه بحدة وصاحت بجدية مماثلة له وأشد أيضًا:


-أنتَ مالك في ايه طريقة كلامك عامله ليه كده معايا من امبارح 


توسعت عينيه بدهشة واستغراب شديد مما تقوله وتفعله ليتحدث باستغراب:


-نعم!.. هو أنا عملت حاجه أنا بحاول ارضيكي بكل الطرق أنتِ اللي مش راضيه 


-والله!.. يعني لما شخط فيا امبارح وقولتلي مترقصيش مع أني مكنتش برقص أصلًا ده اسمه ايه ولما كنت هتكسر ايدي قدام الناس


أبتعد عن الطاولة وتحرك ليتقدم منها ويقف أمامها مباشرةً ناظرًا إلى عينيها العسلية قائلًا بصدق وجدية:


-أولًا أنا مشخطش أنا قولت بيني وبينك لأنك كنتي بتتمايلي مع أمك وانتوا واقفين وأظن إنك شوفتي سمير وعبده وطارق وحمادة وغيرهم يعني مكنش ينفع تعملي كده ثانيًا أنا غصب عني ضغط على إيدك يعني بدون قصد 


نظرت إلى الأرضية بخجل ولا تدري ما الذي تتفوه به بعد الآن، هي حقًا لا تدري لما تفعل ذلك! لما لا تريد تصديق أنه يريدها، لما تريد أن تخرب حياتها بيدها وهي لم تبدأ بعد..


أردف هو من جديد بهدوء وهو يتعمق بالنظر داخل عينيها بعد أن رفع وجهها إليه بإصبعه السبابة:


-أنا ممكن أفهم أنتِ عايزه ايه بالظبط 


أجابته وهي تشيح وجهها بعيد عنه:


-مش عايزه حاجه 


زفر بضيق من تصرفاتها الطفولية وكونها لا تجعله يشعر بطعم الراحة أبدًا:


-لأ عايزه.. وإحنا مش هنرتاح غير لما نتكلم 


استدارت له فجأة وسألته بحدة وعينيها تطلق شرار يحذره بالكذب بسبب حرقة قلبها وشعورها بالغيرة المُميتة:


-أنتَ كنت بتخطب يا جاد بنت البرنس صح 


-تقريبًا 


استنكرت رده قائلة بسخط:


-نعم!


أجابها هذه المرة وهو يعتدل في وقفته أمامها:


-معرفش يا هدير كانت أمي بتدورلي على عروسة فعلًا وكنت هخطب 


-اومال إزاي بتقول أنك كنت عايزاني قبل ما مسعد يحاول أنه.....


بترت حديثها ونظرت إلى الأرضية، خجلًا مما مرت به أمامه على يد "مسعد" بينما هو لم يفكر بذلك من الأساس، كل ما أخذ تفكيره أنه لا يريد أن يفصح لها عن رفض والده لها وما السبب خلف ذلك، فإن فعل ستكره والده، على الأقل ستبغضه ولن تحترمه مثل السابق فصمت قليلًا ثم هتف بصوتٍ أجش كاذب:


-هو أنتِ عايزه ايه بالظبط بقى!.. مش المهم إني متنيل معاكي ومتجوزك 


نظرت إليه باستغراب متسائلة داخلها هل حقًا هذا تفكيره؟:


-لأ مش ده المهم.. المهم بالنسبة ليا إني أعرف إذا كنت بجد عايزاني ولا لأ 


صرخ بصوتٍ عالٍ بسبب كثرة الإجابة على هذا السؤال البغيض الذي يخرج منها كل دقيقة والأخرى:


-قولت بدل المرة عشرة عايزك 


نظرت إليه ولم تتحدث فاستدار بعصبية يرحل عن هذا المكان وهتف بحدة وهو يتجه للباب:


-أنا نازل الورشة أريح من الصداع ده  


هتفت سريعًا بلهفة وهي تذكره قائلة بصوت ناعم رقيق بعد أن شعرت بانزعاجه الجاد:


-بس النهاردة الجمعة 


وقف مكانه واستدار ينظر إليها وعقله لم يعد يعلم ما الذي تريده حقًا، أردف بجدية:


-عندي شوية شغل فيها 


نظرت إلى الأرضية بخجل ثم رفعت رأسها مرة أخرى بعد أن ابتلعت ريقها قائلة بتوتر:


-بالليل فرح واحدة معرفة في الحارة هبقى أروح شويه مع رحمة 


نظر إليها مُبتسما بود وهدوء لا يعلم من أين أتى الآن ولكن ربما بعد أن رأى توترها وهي تستأذن منه!.. أردف بخشونة قائلًا:


-متتأخريش وخدي بالك من نفسك.. لو اتأخرتي لبعد عشرة كلميني اجي أخدك 


ابتسمت إليه هي الأخرى باتساع بعد رؤية نظرته الحنونة التي حرمت منها منذ أن رحل والدها عنها، وكأنها تناست كل ما كانت تهتف وتفكر به منذ قليل لتتمتم داخلها بإسم حبيبي!..


أومأت إليه فابتعد وهبط الدرج ممسكًا بالعباءة رافعًا إياها عن الأرضية وهو يحاول أن يفكر في ما يحدث مع هذه البلهاء الصغيرة التي لا تفقه أي شيء وكل تصرفاتها تناقض بعضها معه..


                                ❈-❈-❈


أخذ "جاد" منه الفتاة الوحيدة التي كانت تتغلغل داخل أعماق قلبه وعقله، بل وكان كامل تفكيره بها، ليلًا ونهارًا، حتى وإن كان مع إحدى زوجاته كان تفكيره يظل مُعلق بمحيرة قلبه ولا يفكر بغيرها..


كان ينتظر اليوم الذي ستوافق فيه بزواجها منه أو لا توافق حتى فيكفي موافقة شقيقها ثم تأتي بعدها موافقتها بما كان سيفعله لأجلها فقط ولأجل عينيها العسلية التي تسكره من نظرة واحدة..


احترق قلبه بعد أن سرقها منه "جاد" وجعلها ملك له هو وحده، يأخذ منها ما يشاء في أي وقت يريد، لقد كانت "برنسس الحارة" كما أطلق عليها، إنها لا تتناسب مع ابن "أبو الدهب" بل كانت تتناسب معه هو، كان سيجعلها شيء آخر غير الذي عرفته عنها..


عاد إلى الخلف بظهر المقعد المتحرك وهو يطلق زفره طويلة تخرج من صدره بحرارة نارية داخله تُكاد أن تحرقه لكنه منعها عن فعل ذلك بتفكيره الشيطاني بها..


بتفكيره الذي دفعه لرسم خطة في رأسه ليجعل "جاد" يبتعد عنها إلى الأبد ولا ترى في طريقها أحد سواه ليكن معها ولن يفعل ذلك إلا برسم سُمعة سيئة للغاية لها أمام الجميع حتى تعود ذليلة إليه تترجاه وتنحني أمام قدميه ليتقبل وجودها في حياته 


نظر إلى مدخل محل الهواتف الخاص به وهو يجلس على مكتبه في الداخل ليرى شقيقها "جمال" يدلف إليه، ابتسم داخله بسخرية شديدة على ذلك الأبلة الذي يحركه مثل عروس المريونت بين يديه فقط لأنه يوفر له عمل مشبوه!..


يعلم أن "جمال" شاب كسول وطائش ويفعل أي شيء لأجل الحصول على المال حتى وإن كان يبيع شقيقته إليه دون رضاها ولكن يعلم أيضًا أنه له عودة سريعة وإن شعر أن عائلته تضربها الأمواج يلقي بنفسه ليكون فداء لهم..


جلس "جمال" براحة على المقعد أمام مكتب "مسعد" ليقابله الآخر واضعًا يده أسفل ذقنه وهتف بسخرية وتهكم:


-أهلًا بسي جلجل... اللي ضحك عليا وعملني قرطاس بعد ما خد فلوسي وجوز أخته للمكانيكي 


ألقى "جمال" نظرة ساخرة عليه وهو يحرك رأسه يسارًا ويمينًا مُتمتمًا بسخرية مثله:


-بلاش الشويتين دول يا عم مسعد أنا وأنتَ عارفين إن الفلوس اللي باخدها دي علشان الشغل يمكن زيادة حبتين بس بردو شغلي يابا.. وبالنسبة بقى لجوازة أختي فهي مش عايزاك، كرهاك، مش طايقة تبص في سحلتك أعملها ايه؟


تقدم إلى الأمام ضاربًا سطح المكتب بعصبية وهو يصيح به:


-تجبهالي لحد عندي غصب عنها وأنا اخليها تحبني.. اخليها تموت في تراب رجليا بعد العز والنغنغه اللي هوريهالها 


أشاح "جمال" وجهه للناحية الأخرى مشيرًا له بلا مبالاة بيده:


-لأ متقلقش مهي هتشوفه أكتر مع الاسطى جاد


وقف "مسعد" على قدميه بعصبية وانزعاج من حديث هذا الأبلة الصغير وأردف قائلًا:


-امشي ياض من هنا يلا... يلا ياض 


وقف "جمال" مُبتسمًا باستفزاز وسار للخارج فهتف "مسعد" بحرقة قائلًا:


-خليك عارف البرنسس مش هتشوف يوم حلو مع الميكانيكي الجربان ده وهنغص عليها عيشتها علشان مش مسعد الشباط اللي يتعمل معاه كده... وابقى اسألها أنا كنت هعمل ايه لولا الميكانيكي بتاعها لحقها 


لم يعطي "جمال" انتباهه له من الأساس، استمع إلى كامل حديثه ولكنه لم يعلقه داخل رأسه لأنه يعلم أن "مسعد" لا يستطيع التصدي لـ "جاد"..


بينما الآخر دفع بيده كل ما كان أمامه على المكتب في لحظة واحدة وهو يلهث بعنف وغضب عارم، وقف يتطلع إلى الخارج والحقد يغلي داخله مُتمتمًا بحرقة:


-عليا الحرام ما هسيبك يا بنت الـ***


                                ❈-❈-❈


"في المساء"


بعد أن قامت بصلاة العشاء وانتظرت ما يقارب النصف ساعة ارتدت "هدير" فستان يجمع بين اللونين الأبيض والأسود، كان يصل إلى قدميها كما كل الفساتين لديها فضفاض ولا يبرز أي شيء من مفاتنها، تصل أكمامه إلى معصم يدها ويزين وجهها حجاب لونه أبيض وقليل من كحل الأعين الأسود ليس إلا..


وفي هذه الطلة كانت غاية في الجمال والرقة، ملامحها هادئة وجميلة تدعوك للاسترخاء وأنت تنظر إليها..


أخذت حقيبتها السوداء الصغيرة ووضعت بها الهاتف ثم تقدمت من باب الشقة وصاحت قائلة لتستمع إليها شقيقتها بالداخل:


-مريم هاخد الهيلز الأسود بتاعك 


-ماشي


رأت والدتها تتقدم منها بجسدها المملوء قليلًا وهي تنظر إليها بحب قائلة بسعادة وفرحة أم ترى ابنتها الجميلة:


-بسم الله ما شاء الله هتتحسدي يا بت يا هدير 


ابتسمت الأخرى وهي ترتدي الحذاء مُجيبة إياها بسخرية:


-على ايه بس يا ماما 


لوت شفتيها بحركة شعبية وهتفت قائلة وهي ترفع حاجبها:


-على ايه؟.. على الجمال والحلاوة والله دا يا بختوا بيكي جاد 


ابتسمت إليها بود ثم وقفت باعتدال بعد أن انتهت وقالت بجدية وهي تضع الحقيبة على إحدى كتفيها:


-أنا ماشية يا ماما 


-ماشي يا حبيبتي مع السلامة.. متتأخريش علشان مقلقش عليكي 


أومأت إليها ثم خرجت من باب الشقة وأغلقته خلفها فتوجهت بجسدها لتستدير وتذهب إلى الخارج ولكنها تفاجأت به يدلف من باب المنزل هو وابن عمه وضحكاتهم تعلو أمامها..


رأته يرتدي بنطال بيتي أسود يعلوه قميص قطني أسود بنصف كم أيضًا ويرتدي "سمير" شورت جينز يعلوه قميص أسود مثل "جاد" والعرق يتصبب منهم هم الاثنين..


تقدموا إلى الداخل فترك "سمير" "جاد" وصعد إلى الأعلى مبتعدًا عنهم بعد أن ألقى عليها السلام مُبتسمًا بوجهها لتبادله الابتسامة والتحية..


وتذكرت هي أن اليوم الجمعة وكما المعتاد بعد صلاة العشاء في المسجد يذهب هو وابن عمه إلى الصالة الرياضية الموجودة بالحارة ليعتني بجسده قليلًا وليحافظ على وزنه ورشاقته...


ابتسم بوجهها وهو يقف أمامها مباشرةً ناظرًا إليها وإلى جمالها الذي سيؤدي بحياته، أردف سائلًا إياها والابتسامة على وجهه:


-رايحه الفرح؟


أومأت إليه برأسها بهدوء وهي تشبع نظرها منه ومن وسامته التي أصبحت ملك لها.


مرة أخرى يردف باستغراب وجدية:


-اومال فين رحمة 


-أنا لسه هعدي عليها ونروح من هناك.. الفرح قريب منها 


أبعد خصلات شعره للخلف بيده وهو يهتف بصوتٍ أجش قائلًا:


-طب ادخلي استنيني جوا هغير بسرعة واجي اوصلك 


امتنعت عن الفكرة وهي ترفع يدها تشير بها يمينًا ويسارًا مردفة:


-لأ لأ مالوش لازمة أنا هروح لوحدي 


أمسك بيدها يضغط عليها وهو يهتف بصوتٍ حازم ثم جعله يذهب للين معها:


-قولت هوصلك وكمان وأنتِ جاية كلميني اجي أخدك ما أنا قاعد فاضي مواريش غيرك 


جذبت يدها منه ووضعتها أمام صدرها بتحفظ وحدة وكأنها تود العراك الآن هاتفه بجدية شديدة وهي تتساءل: 


-وأنتَ عايز حد تاني ولا حاجه 


رفع إحدى حاجبيه بذهول لرؤية غيرتها وانطلقت ضحكته الرجولية التي كرمشت عينيه الرمادية لتتوه في وسامته الجذابة، ثم رأته يتحدث ومازالت آثار الضحكة على وجهه:


-لأ يا وَحش أنتَ كفاية 


ابتسمت بسبب ابتسامته الهادئة لها، ومناداته لها بـ الوَحش كدليل على قوتها بعد أن رأى ردها عليه حاد..


-هطلع أغير هدومي أحسن دي كلها عرق.. استنيني جوا خمسة وجاي 


أومأت إليه مرة أخرى بهدوء:


-ماشي متتأخرش عليا 


داخله أحيانًا يشعر بأنها مجنونة، لقد نشبت معه مشاجرة على السطح في الصباح والآن ودت ولو نشب بينهم عراك آخر ولكن في نفس الوقت تود أن تكون سعيدة وتبادلة الابتسامة، ربما هي فقط مُشتتة..


أردف متهكمًا بسخرية:


-واللهِ مجنونة... بس وَحش


ثم في لحظة خاطفة مال عليها ووضع قبلة سريعة على وجنتها اليمنى اشعرته بحمم بركانية داخل جسده الذي من الأساس يتصبب عرقًا.. سريعًا أبتعد عنها وهو يستغفر بصوتٍ عالٍ أمامها بطريقة مضحكة ثم صعد إلى الأعلى راكضًا..


كل هذا وهي تضع كف يدها على وجنتها تحاول استيعاب ماذا فعل!.. ثم تذكرت هي أنه زوجها!.. ربما نسيت أنه يحق له ذلك؟..


 #ندوب_الهوى

#الفصل_العاشر

#ندا_حسن


              "السعادة!.. دعونا لا نتحدث عن السعادة،

                  ما دام لم ننعم بأحضان من نحب" 


دق منبه الهاتف في الساعة الثانية والنصف صباحًا قبل صلاة الفجر، فتح "جاد" عينيه بصعوبة على صوته أخذًا نفسٍ عميق وزفره بضيق، مد يده إلى الكومود المجاور للفراش وأمسك بالهاتف ثم أغلق المنبه..


وضع كف يده على فمه وهو يتثاءب ثم فتح الهاتف أمام عينيه النصف مغلقة ومازال ممددًا على ظهره فوق الفراش..


وضع الهاتف على أذنه ليستمع إلى صوت الجرس الذي يدق في أذنه ثم إلى صوت "سمير" الناعس الذي أتى بضيق واضح:


-في ايه على الصبح يا جدع 


أردف "جاد" بهدوء شديد وهو يُجيبه:


-قوم ياض هنصلي الفجر 


فتح "سمير" عينيه على الطرف الآخر مندهشًا من رده البارد عليه ليقول بغيظ وحدة:


-أنتَ بتستهبل يا جاد!.. أنا من امتى وأنا بصلي معاك الفجر وبعدين حتى لو بصليه معاك لسه بدري ياعم عايز ايه 


جلس "جاد" على الفراش واعتدل في جلسته وتحدث قائلًا بنبرة رجولية جادة:


-هتصليه معايا من يوم ورايح يا روح جاد.. يلا قوم ياض


رفع حاجبيه بغيظ ثم صاح عبر الهاتف بصوتٍ عالٍ:


-بقى كده!.. طب مش قايم يا ابن أبو الدهب ويلا بالسلامة عايز اتخمد 


زفر بضيق وهو يهتف قائلًا:


-ما تقوم ياض وتخلي عندك دم 


تأفأف "سمير" وأجابه وهو يعتدل على جانبه الأيمن:


-ياعم أنا معنديش دم أنتَ مالك


ابتسم الآخر وتحدث بسخرية وتهكم واضح: 


-كنت عارف إنك عايش بمايه بس كنت بكدب نفسي 


صاح "سمير" بجدية ونفاذ صبر ليبتعد عنه ويتركه لينام قليلًا:


-طيب يا سيدي واديك اتأكدت سيبني في حالي بقى


-عايزاك ياض 


صرخ "سمير" مرة أخرى وهو يريد النوم حقًا ولو رأى "جاد" الآن لقتله بين يديه:


-وأنا مش عايزك بالسلامة بقى 


أبعد "جاد" الهاتف عن أذنه سريعًا بعد أن استمع إلى صوته العالي الذي ازعجه ثم وضعه مرة أخرى بعد أن وجده سيغلق الهاتف وترجاه قائلًا بنبرة حانية يعلم أنها ستأتي بنتيجة جيدة معه:


-متبقاش رزل بقى قوم عايزك في خدمة صغيرة وبعدين نصلي سوا 


سأله مستنكرًا الوقت الذي يريده فيه بعيدًا عن الصلاة بجدية عندما استمع إلى نبرة صوته:


-دلوقتي؟..


أومأ إليه مؤكدًا حديثه بجدية:


-آه.. يلا بسرعة هستناك تحت 


أغلق "سمير" في وجهه بعد أن تأفأف عدة مرات لاعنًا معرفته به ليبتسم "جاد" بسخرية عليه ثم وقف على قدميه ليخرج من الغرفة متوجهًا إلى المرحاض...


                                ❈-❈-❈


استيقظ الجميع في صباح اليوم التالي على خبر تحطيم أحد محلات الهواتف والالكترونيات الخاص بـ "مسعد الشباط" والذي كان في الحارة..


عندما ذهب العامل به في الصباح ليقوم بفتحه وجد الأطفال منهم من تشجع ودلف إليه ومنهم من وقف في الخارج ينظر إلى ما حدث داخله..


وكان هناك بعض النساء التي وقفت تتهامس في ركن بعيد نسبيًا عنه، تقدم سريعًا وهو لا يدري ما الذي حدث ليرى الصدمة أمامه والذي ألزمته الصمت..


زجاج المحل الأمامي مُحطم بالكامل مما سهل دخول هذه الأطفال إليه، الكاميرا الموضوعة أعلى الباب محطمة، والنظرة الشاملة له أنه ليس به ما بقي على وضعه..


تقدم إلى الداخل فذهبت الأطفال ركضًا إلى الخارج ومنهم من أخذ بيده علبة من الهواتف الذكية واثنين أيضًا..


وجد الكومبيوتر ملقى على الأرضية محطم وحاسوب "مسعد" الخاص مثله تمامًا، بينما الهواتف جميعها على الأرضية وربما القليل منها فقط هو الذي سيعمل فمؤكد أن ما حدث لها لن يجعلها تصلح مرة أخرى، وقطع غيار الهواتف جميعها حدث بها مثل الآخرين وأكثر، مكتب "مسعد" ليس عليه أي شيء ومقعده محطم والرفوف الخشبية الذي كانت مثبتة في الحائط على الأرضية مُهشمة؟..


تُرى ما الذي حدث؟ ما الذي حل عليهم ليحدث هكذا، بعد ما رآه لم يحرك أي شيء من مكانه وظل واقفًا ينظر فقط إلى أن أتى "مسعد" بعد أن أخبره بما حدث..


وزع "مسعد" نظرة على كل انش في المكان ورأى كل شيء محطم لا يصلح.. وهنا قليل من القلة فقط هم الذي ربما يستفيد منهم..


احمرت عينيه الخصراء بغضب حارق عندما شاهد ما حدث، صار صدره يعلو وينخفض بسرعة على أثر هذا المشهد الكريه ولكنه لن يجعله يمر مرور الكرام لأنه يعلم تمام العلم من الفاعل ولكن صبرًا، لن يردها الآن ولن يفعل أي شيء، الأيام قادمة والكثير منها ستكون حزن وتعاسة عليهم، فقط صبرًا..


أمام الجميع احتسبها سرقة وقال أن هناك أشياء مفقودة ومبلغ ليس صغير من المال وقدم بلاغ على أنه سرقة وأنه لا يعلم من الفاعل ثم بعد انتهاء الشرطة من التحقيق في المكان أخذ يحاول أن يعيده كما كان في السابق وداخله يتوعد للفاعل بحرقة قلبه وجعله يتمنى الموت ولا يناله..


ابتسمت "هدير" بتشفي وراحة غريبة سارت بجسدها بعد أن استمعت إلى الذي حدث لـ "مسعد":


-رغم اني مش بشمت في حد لكن شمتانه فيه وفرحانه قد الدنيا كلها 


أكدت والدتها حديثها وهي ترفع يدها أمام وجهها متمته بالدعاء عليه بحرقة:


-منه لله ربنا ينتقم منه قادر يا كريم 


أومأت إليها هي الأخرى لترفع يدها مثل والدتها بجدية هاتفه بقوة وحزم:


-يارب... واشوفه بيتسلخ قدام أهل الحارة كلهم


ابتسمت "مريم" بخفة ثم زالت ابتسامتها وهي تجلس جوار شقيقتها على الأريكة قائلة بهدوء: 


-على فكرة بقى مسعد ده ولا حاجه هو بس اللي فارد درعاته وعمل فيها بلطجي علشان لقي الناس بتسكتله 


تنهدت "هدير" بضيق وهي تتذكر شقيقها "جمال" وكيف يسير خلفه ويساعده ملقيًا بنفسه في التهلكة، أكملت حديث شقيقتها الصغرى:


-وعلشان لقي اللي يساعده كمان 


أردفت والدتهم بجدية وهي تلوي شفتيها بضجر:


-عمل نفسه محكمة في الأرض نسي إن محكمة ربنا أقوى من أي حاجه 


صاحت "هدير" بعد حديث والدتها بحرقة داخل قلبها لما كاد يفعله بها لولا تدخل "جاد" في آخر لحظة:


-دا ربنا يشويه في نار جهنم ويجازيه على عمايله الو***


ربتت "مريم" على فخذها بيدها وأردفت بهدوء لتجعل شقيقتها تهدأ قليلًا: 


-متقلقيش هيتشوي في الدنيا وفي الآخرة ربنا مش بينسى حد مش ده كلامك 


أومأت إليها بتأكيد على حديثها فالله لا يغفل عن أحد ويرد للمظلوم حقه ولو بعد حين وينال الظالم جزاءه في جميع الأحوال:


-أيوه ربنا مش بينسى أبدًا «وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّكِ ولو بعد حينٍ»


ثم أكملت مُبتسمة بسعادة واضحة:


-بس أنا بردو فرحانه أوي نفسي أشوف شكله عامل إزاي دلوقتي 


لوت "مريم" شفتيها بضجر وهي تتذكر مظهره عندما رأته يجلس أمام المحل ويضع قدم فوق الأخرى بعنجهية وغرور:


-ولا حاجه وعامل نفسه مش هامه... شوفته وأنا راجعه من الكلية 


ابتسمت "هدير" بتشفي واضح به وهي ترجع خصلات شعرها السوداء المائلة للبنيه إلى الخلف:


-لأ مهما بين أنه مش هامه بردو أكيد خسر كتير، دا أنا لو عرفت مين عمل كده والله هشكره وأقوله تسلم ايدك يا كبير 


-يستاهل والله الشماته دي 


وقفت "هدير" على قدميها متوجهة للمرحاض تهتف بجدية: 


-أنا هقوم أصلي العصر وادعي عليه كمان... ربنا ياخده بقى المرة دي 


انتقلت والدتها في مكانها لتتطلع على التلفاز وقالت ما قررت فعله لها لتجهز كل شيء في معاده:


-عايزين بكرة ولا بعده نروح البنك نجيب القرشين اللي فيه وننزل نجبلك شوية هدوم بيتي على خروج 


استنكرت حديثها وظنت أنه مبكر لفعل ذلك فكل شيء موجود في جهازها سوى الملابس ولن يأخذ الأمر كثيرًا من وجهة نظرها: 


-لسه بدري يا ماما


ابتسمت الأخرى بسعادة وهي تنظر إليها قائلة بجدية وحب ظاهر في حديثها البسيط عن زواجها: 


-بدري من عمرك يا حبيبتي الحج رشوان هيجي آخر الأسبوع ده يتفق على معاد الفرح ومعاد العزال يعني كلها تلت أسابيع والعزال يطلع مش عايزين نتأخر في حاجه وكله يبقى جاهز 


أومأت إليها بابتسامة رضا واسعة وهي تراها تهتم لأمرها أكثر من أي شخص آخر في المنزل، تعلم أنها تريد أن تراها أسعد شخص على وجه الأرض ولكن دائمًا ما باليد حيلة.. ذهبت متوجهة إلى المرحاض وهي تحمد الله على النعم الكثيرة الموجودة في حياتها.. 


                                  ❈-❈-❈


مر ذلك الشهر سريعًا دون أن يشعر به أحد، مع حدوث تغيرات كثيرة للجميع أكثرها تأخذهم لمقر الفرحة العارمة..


الأولى "هدير" مرت عليها هذه الفترة بين المذاكرة والكلية و "جاد" فقط الذي أتى لها باسم جديد غير اسمها لا يناديها إلا به "وَحش"!، تحدثت معه كثيرًا أو أكثر من الكثير أيضًا بعد أن كانت لا تريده بسبب ذلك التشتُت الغريب الذي حل عليها، رأت أنه لا يوجد بحياته غيرها!..


في هذه الفترة وجدته يهتم بها كثيرًا يحادثها في الصباح والمساء، يطمئن عليها بين الحين والآخر، يريد رؤيتها كل يوم ليكمل يومه وهو في سعادة وهدوء، وجدته فكاهي ومرح أيضًا معها، كثير الضحك وتوزيع الابتسامات تشعر أن كل ذلك فقط لأجلها، لا يريد إلا راحتها ويسعى لرؤية الابتسامة دائمًا على وجهها ليشعر هو بالراحة بعد ذلك..


يتصنع الانزعاج منها في بعض الأحيان ليستمع إلى حديثها اللين الذي تراضيه به، ويريد أن يشعر قلبها بالحب والسعادة..


لقد زال عنها التشتُت بعد أن أقتربت منه، هي التي كانت تقول داخلها أنه ربما تقدم لها لأجل والده أو أشفق عليها بسبب ما فعله "مسعد" أمام الجميع، ولكن مع مرور الوقت والتقرب منه وجدته ذلك الرجل الشهم والصالح البار بوالديه، وجدت به كثيرًا من الأشياء التي لم تكن تعرفها عنه وعلمت أنه "جاد الله" عن حق اسم على مسمى..


وجدت به كل ما كانت تتمنى أن تحصل عليه في رجل أحبته وتمنته من كل قلبها، بعد أن نالته وعلمت أنه لم يكن آتيا إليها بالقوة ظلت تحمد الله في صلاتها بدلًا من دعائها أن يكن من نصيبها.. 


لقد شكرت الله كثيرًا بعد أن وضحت لها الرؤية وشاهدت غيرته عليها، ورأت نظرة الحب في عينيه يكاد يراها الأعمى ولكن مع ذلك لم يتحدث بعد ولم يعترف بشيء إليها سوى بعض التلميحات السخيفة منه، مع كل هذا الحديث الرائع ولكن تتوق لسماع كلمة واحدة من بين شفتيه تجعلها تنسى على ما مضى ولا تتذكر سوى لحظة أن تحركت شفتيه بنطقها، ولكن متى يا مُعذب الفؤاد، متى!..


بينما هو!.. هل تحدث عن الفرحة من قبل؟. الآن فقط يشعر بالفرحة العارمة والسعادة المفرطة، من الأساس هو كل يوم معها يشعر بفرحة جديدة لم تمر عليه من قبل..


سعادته بوجودها معه أمام الجميع هكذا لا تقدر بثمن، فرحته بكونها زوجته لا يستطيع أن يوصف كيف هي..


وهذا الشهر الذي قربها منه كثيرًا وكثيرًا أصبح يدين له، بل صاحب فكرة عقد القرآن لأنه من جعلهم يتحدثون دون أن يضعوا حدود بينهم وكانت الأحاديث بينهم واسعة المدى..


يقتربون من بعضهم دون الشعور بذلك من الأساس، الآن أصبح يستطيع القول أنها زوجته حقًا.. بعد أن علم كل شيء عنها وتقرب إليها بالمعروف والود الجميل بينهم، بعد أن رأى حنانها وحبها الدائم الذي توزعه على الجميع دون استثناء، وتلك الرقة وذلك الدلال التي تتمتع بهم، رأى أيضًا شراستها المتخفية خلف عينين عسليتين يحملون البراءة المفرطة..


لا يدري كيف أحبها هكذا؟.. منذ أربع أعوام وهو واقع بعشقها ولا يستطيع الحديث، لم يكن يستطيع أن يتحدث بشيء كهذا إلا عندما يرتب أموره ويكن قادر على فتح بيت لها وله..


يحبها فوق الحب حبًا، قلبه يخفق بعنف عندما يراها، عينيه لا تستطيع النظر لشيء آخر غيرها، قبل ذلك كان كلما نظر إليها يظل يتمتم بالاستغفار لما فعلته عينيه..


يغار عليها بشدة، تكاد غيرته تحرق الأخضر واليابس ولكنه بطبعه هادئ ولا يحب العصبية المفرطة، شخصيته تحتم عليه الهدوء وعقله الرزين يدعوه لذلك..


لا يستطيع القول سوى أنه يشعر بالسعادة الخالصة لكونه حصل عليها برضا والده واستجابة الله له فقد أخذ كل صلاته دعاء بأن تكون زوجته الصالحة في الدنيا والآخرة..


                               ❈-❈-❈


جلست على الأريكة في غرفتها ووضعت الهاتف على أذنها بعد أن أجابت عليه:


-ألو.. أيوه يا جاد 


أردف على الناحية الأخرى بصوت مُشتاق يحمل إليها اشتياقه داخل بعض الكلمات المعاتبه الحنونة:


-أهلًا بالوَحش.. وحشتيني ينفع كده تلت أيام يعدوا مشوفش طيفك حتى 


وقفت على قدميها وذهبت إلى باب الغرفة أغلقته من الداخل ثم أجابته بجدية وهي عائدة تجلس على الفراش ولكن الابتسامة على شفتيها تتسع بعد استماع كلماته المغازلة:


-العادات يا بشمهندس جاد ولا نسيت


هذه العادات التي منعته عن رؤيتها ورؤية عينيها التي تسحره، أجابها بجدية وفرحة تختفي داخل كلماته: 


-لأ منستش خلاص هانت كلها النهاردة.. لأ النهاردة ايه كلها ساعات الليل وبكرة ليلة العمر وتفضل قصاد عيني يا وَحش


استشعرت فرحته التي ربما تكون أكثر منها بكثير فسألته وهي تستند بظهرها إلى ظهر الفراش:


-أنتَ فرحان يا جاد؟


ابتسم متمتمًا كلمتها بتعجب وتساءل مثلها ثم هتف بمكنون قلبه عن الفرحة التي وقعت عليه:


-فرحان!. دي كلمة قليلة أوي على اللي أنا حاسس بيه 


شعرت بما يقوله وشعرت بمدى فرحته أكثر من مرة ولكن ولا مرة منهم علمت ما السبب الحقيقي خلفها، سألته مرة أخرى باستغراب:


-للدرجة دي؟


ابتسم بسخرية وهو يهز رأسه بتهكم عليها فحديثها بالنسبة له يمثل عدم معرفتها بأي شيء حتى حبه لها:


-وأكتر كمان... أنتِ أصلك مش فاهمه حاجه 


أردفت باستغراب وتعجب شديد من حديثه الذي يعتبر يتجه إلى ناحية ألغاز سخيفة يفعلها دائمًا:


-الله!.. طب ما تفهمني


هتف بلا مبالاة وهو يشعر أن الآن ليس الوقت المناسب للاعتراف لها بكل ما كان يشعر به: 


-بعدين كل شيء بأوانه 


تنهدت بضيق وانزعاج منه لأنه دائمًا يخفي هذه النقطة بالتحديد عنها، لم يتحدث إلى الآن وكلما أقترب معها إلى هذا الطريق الذي يحتم عليه الاعتراف يغير مساره إلى طريق آخر أسهل في السير  الصامت، تمددت على الفراش ثم سألته على منزل الزوجية بعد أن تذكرت أنه تم فرشه بعد ذهاب أشياء العروس:


-صحيح الشقة حلوة والعفش باين فيها وحلو ولا لأ 


ابتسم بعد أن تذكر عش الزوجية الخاص بهم والذي سيجمعهم غدًا سويًا، أردف بحبٍ مادحًا اختياراتها:


-العفش شكله حلو واستايل هو أنتِ بتنقي حاجه وحشه بس لون اوضه الأطفال مكنتش عايزه أبيض قولتلك لون تاني بس أنتِ دماغك ناشفه 


صاحت بحدة فحديثه دائمًا عن أثاث المنزل يجعلها تود أن تخنق نفسها من اختياراته الغبية:


-لا يا شيخ يعني عفش الشقة كله لونه بني داخل غامق وعايز كمان اوضه الأطفال غامقة دا ايه الدماغ دي


هتف بسخرية وهو يضحك بسبب تحولها وهو الذي كان يود أن يضايقها لتقع بفخه سريعًا: 


-مكنتش غامقة كانت رصاصي 


فعلت مثله وأردفت بسخرية وضجر واضح:


-جاد ممكن تسكت دا على أساس يعني أن الرصاصي ايه 


أومأ برأسه وأخذ الهاتف إلى الناحية الأخرى ثم هتف بمرح وهو يعبث معها:


-ياستي ماشي.. بس ايه كل الحاجات الحلوة اللي في الدولاب دي مكنتش أعرف أن ذوقك جامد كده 


لم تفهم عن ماذا يتحدث فسألته عاقدة بين حاجبيها باستغراب:


-حاجات ايه؟


ضحك بشدة حتى أنها استغربت ضحكاته فأجابها بخبث وهو يغمز بعينيه وكأنها تراه:


-يا وَحش الحاجات الهشك بشك 


صاحت به مرة أخرى بانزعاج لرؤيته أشيائها ولأنه نقض الاتفاق الذي كان بينهم:


-آه يا قليل الأدب... أنتَ مين قالك تطلع الشقة وتشوف اللي فيها أصلًا مش اتفقنا نتفرج عليها ركن ركن سوا 


وقف على قدميه وابتسم بسعادة بعد أن استمع صوتها المنزعج ثم أخذ يسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يتحدث بجدية:


-بصراحة مقدرتش أقاوم وبعدين متستعجليش هخليكي تشوفي ركن ركن زي ما قولتي 


زفرت بهدوء وابتسمت مرة أخرى والسعادة ترفرف داخلها بكونها ستذهب لمنزله غدًا!.. أتصدق ذلك؟.. 


-النهاردة تعبت أوي في الحنه أنا ما صدقت أنها خلصت 


زفر وهو يتذكر الذي فعلوه هو وأصدقائه في الشارع لتوديع عذوبيته:


-ومين سمعك أنا اتهديت مش تعبت... الشارع كله كان مسدود من اللي فيه وصحابي مخلوش فيا نفس من كتر الرقص  


ضحكت عليه واستشعرت ضيقه من ذلك فهو لا يحب الرقص المفرط هذا على عكس ابن عمه:


-كنت سامعه كل حاجه.. كويس إني عملتها هنا على الضيق مش عارفه كنت هعمل أي بجد 


أردف مُبتسمًا باتساع:


-المهم أننا فرحنا واللي حوالينا فرحوا 


-عندك حق


قالت والابتسامة مازالت على وجهها وهي تتذكر وقفة "سمير" الجادة معه وكأنه زفافه هو:


-على فكرة سمير تعب معاك أوي.. ولا كأن هو اللي بيتجوز


سخر منها وكأنها لا تعلم أنهم أخوه وأكثر قائلًا بمزاح:


-لو متعبش ليا يعني هيتعب لمين الواد ده 


-يا ساتر عليك.. كلمة شكر للراجل حتى، تصدق لما أقابله هقوله 


للحظة شعر بالغيرة لكونه تخيل أنها تتحدث معه بأريحية رغم أنه يعلم أنها لا تفعلها ولكن شعور الغيرة منذ أن أصبحت زوجته يزداد داخله دون دراية منه:


-وهتقوليله ايه إن شاء الله 


رفعت إحدى حاجبيها وتحدث وهي تلوي شفتيها بسخرية:


-هقوله إني بشكر فيك وبقول قد ايه أنك تعبت علشانا وقد ايه أنتَ شخص كويس وفي المقابل الاسطى جاد مش عاجبه  


جلس على الفراش وأخذ الهاتف للناحية الأخرى من جديد وأردف بنبرة رجولية جادة ليس مثل السابق:


-هو أنتِ وقفتي مع سمير قبل كده؟


شعرت بتغير نبرته للجدية التامة فأجابته بجدية هي الأخرى وهي تعتدل في جلستها على الفراش:


-لأ أبدًا هو بس لما بيشوفني في الشارع أو حاجه بيسلم عليا وبيقولي لو محتاجه حاجه مش أكتر من كده... بصراحة شخص ذوق يعني 


-تمام 


استغربت تغيره المفاجئ دون داعي فقط من بضع كلمات عن ابن عمه ولا تعني أي شيء، أنه يغير عليها غيرة مفرطة ولكن ليس لهذه الدرجة:


-مالك في ايه 


نفى وجود شيء ما به ثم غير الحديث سريعًا إلى شيء آخر وهو يسألها بجدية:


-مفيش حاجه... أنتِ هتروحي الكوافير بكرة من امتى 


-الساعة اتنين 


وقف على قدميه ثم هتف بجدية:


-طيب يلا تصبحي على خير.. أنا تعبان ومحتاج ارتاح شويه 


نادته بلين ورقة عبر الهاتف:


-جاد


-نعم 


تحدثت بجدية تتغلغل بها مشاعرها المفرطة تجاهه وودت أن تقول هذه الكلمات حتى تبعد عنه انزعاجه الذي أخذه منها في لحظة خاطفة:


-على فكرة أنا مش شايفه حد غيرك!..


ابتسم بهدوء شاعرًا بحبها الشديد له، قابلها بنفس الكلمات اللينه والشوق يزداد داخله:


-وأنا مش شايف حد غيرك، تصبحي على خير


-وأنتَ من أهلي يا جاد


أغلق الهاتف واستدار ليجد صورته منعكسه بالمرآة، فنظر إليه بجدية، غدًا ستصبح زوجته، سينتقل معها إلى عش الزوجية ويقص عليها كل ما أخفاه عنها، ستكون حياتهم سويًا تُبنى على طاعة الله هذا ما قرره داخله..


يعلم أن أفكاره مشوشه ولا يستطيع التفكير في شيء واحد فقط بل ينزحم عقله ويدلف باشياء أخرى ولكن هناك شيء واحد الذي يهمه..


وهو التقليل من الغيرة الغبية التي تجعله ينزعج من أقل الأشياء حتى وإن كانت تافهة..


نظرت إلى سقف الغرفة بعد أن أغلقت الهاتف والأفكار تتزاحم داخل عقلها بكثرة عن كثير من المخاوف القادمة وبدايتها غدًا.. 


توتر تشعر به أي فتاة في مثل ذلك الموقف، رجل ستتحمل مسؤوليته وتكون هي عمود المنزل الجديد الذي ستذهب إليه وغير ذلك كثير داخلها كلما فكرت به شعرت بصداع شديد..


اليوم قررت التخلي عن هذا الصداع ووقفت على قدميها لتأخذ كتاب القرآن الكريم من على الكومود وجلست على الأريكة معتدلة لتقرأ به قليلًا وليكن خير فاتح لحياتها القادمة متناسية أي شيء وأي تفكير آخر..


                                 ❈-❈-❈ 


منذ صباح اليوم التالي والجميع يعمل على قدم وساق، فاليوم زفاف "جاد" و "هدير"..


هي ذهبت في الساعة الثانية ظهرًا مع شقيقتها وصديقتها إلى صالون التجميل لتخرج منه العروس التي رسمتها داخل مخيلتها كثيرًا..


بينما هو استيقظ الساعة الواحدة ظهرًا بعد أن هبط إليه "سمير" ليجهز أشيائه ويكون على أتم الاستعداد لهذا اليوم..


هبط والد "سمير" ووالدته إلى شقة "جاد" ليجلسون بها مع جميع الأقارب الذين انتوا إليهم ليكونوا من حاضرين الزفاف وصعد "جاد" إلى شقة عمه ليتجهز فيها ويذهب إلى عروسه..


ومثل العادات المعروفة في الأماكن الشعبية أتى إليه الحلاق بكامل أدوات الحلاقة وأدوات التجميل الرجالية والتي لم يكن يحتاج إليها "جاد" من الأساس فوسامته الطبيعية تكفي..


بدأ الحلاق بعمله حيث أنه بطلب من "جاد" خف خصلات شعره قليلًا للغاية وكأنه لم يفعل به شيء من الأساس فقط جعله يتساوى مع بعضه، ثم بدأ بحلاقة ذقنه ومثل ما فعله بخصلات شعره فعله بذقته فهو يحب مظهرها وهي نامية ليست ناعمة وليست تعج بالشعيرات الكثيفة التي تجعل مظهره بشع كما يرى..


ومازال وضع شاربه كما هو فلا يحب أن يأتي ناحيته بالنسبة إليه هذا أهم شيء بوجهه، شاربه الذي يميل لونه إلى البني.. 


أخذ كثير من الوقت وهو يفعل له كثير من الأشياء ليبدو مظهره في النهاية يسحر من يراه..


ذهب إلى المرحاض بعد ذلك ليستحم ويخرج ليستعد للذهاب إلى عروسه..


فعل ذلك حقًا، خرج من المرحاض وهو يرتدي ملابسه الداخلية ودلف إلى غرفة "سمير" وحده ليكمل ارتداء ملابسه، كانت البدلة عبارة عن بنطال أسود اللون يعلوه قميص أبيض بأزرار سوداء ارتداهم وأخذ بيده حزام البطال وجاكت البدلة ذو اللون الأسود وذهب إليهم مرة أخرى ليكمل آخر اللمسات ويذهب أخيرًا..


أنهى الحلاق تصفيف خصلات شعره ووضع الرائحة العطرية له ثم أكمل ارتداء ملابسه واضعًا الحزام في خصره على البنطال، وارتدى الجاكت الأسود لتكتمل الهيئة وتُضع آخر لمسات اللوحة الفنية..


لقد ظهر غاية في الوسامة والأناقة بطوله الفارع وجسده الرياضي الذي يظهره وكأنه من أحد ممثلي التلفاز، كان يظهر وكأنه الرجل الوحيد الذي يحمل كل هذه الوسامة بعينيه الرمادية ذات اللمعة الغريبة، ونظرته الساحرة، خصلاته السوداء التي تمتزج بالبنية، أنفه الحاد وشاربه الذي يخفي معظم شفتيه بلحيته النامية وتفاحة آدم البارزة بعنقه تجعله رجل لا يقاوم...


خرج جاد من المنزل بعد أن انتهى من السلامات الكثيرة والمباركات الأكثر من الأهل القابعين داخل شقتهم مع والدته وزوجة عمه، ثم أطلقوا عليه كم هائل من الزغاريد التي ازعجته وجعلته يكرمش ملامح وجهه بسبب هذا الصوت الرفيع الذي يهبط على أذنه بلا هوادة..


أخيرًا انتهى من أهل الشارع القابع به هو الآخر ثم صعد إلى السيارة صاحبة اللون الأبيض المزينة على أكمل وجه لتليق بعروس الليلة، جلس في المقعد الأمامي جوار "سمير" الذي تولى مهمة القيادة وانطلقوا بها إلى صالون التجميل المتواجدة به العروس وخلفهم سيارة سوداء يقودها "عبده" وأخرى خلفها يقودها "حمادة" وبعض الدراجات النارية التي أتوا بها أصدقاءه ليفعلوا جو حماسي وينشرون الفرحة في هذه الليلة..


وصل إلى الصالون بعد مدة، تقدم إلى الداخل وحده وهو يحمل على يده باقة من الورود لونها أبيض هادئ ومظهرها رائع، ابتسمت له إحدى العاملات وهي تفتح له الباب فتقدم إلى الداخل بينما في الخارج أخذ أصدقاءه يفعلون حركات دائرية بالدراجات النارية وصوت إنذارات السيارات والدراجات يرتفع وهم يصفقون بحرارة والابتسامة تكاد تخترق وجوههم..


تقدم إلى داخل الصالون ليقف في منتصف الصالة وخرجت إليه "مريم" مُبتسمة بسعادة وخلفها "رحمة" نظر إليهم والابتسامة على وجهه ولم يفكر في أي شيء غير أنه يريد رؤيتها!..


أشارت إليه العاملة بهدوء ليتقدم منها يسير بهدوء إلى أن وصل إلى الغرفة المتواجدة بها حبيبته، فتحت له الباب فدلف إليها والتوتر يحاول التغلب عليه ولكنه لن يتركه، وجدها تعطي ظهرها إليه وهناك من يقف أمامها يوثق اللحظة بتلك الصور الفوتوغرافية، لم يكن يظهر منها أي شيء سوى أنه يرى فستان الزفاف!.. 


تقدم مرة أخرى بقدمه ودقات قلبه تزداد عنفًا وقوة، بينما يده تقبض على الورود بشدة وعينيه مثبته على ظهرها هل الموقف صعب!. أو أنه لا يستطيع المواجهة؟ 


ابتسم وهو ينظر إليها كما طلب منه المصور ثم تقدم وتقدم وكان داخله يعد خطوات قدمه التي ستوصله إليها.. يا له من ساذج..


سار ليقف أمامها ولينظر إلى وجهها!.. وجهها الذي سلب منه عينيه، غاية في الجمال والرقة، وجهها وكأنه وجه طفلة صغيرة لا تعرف منحنيات الحياة، لم ترى خبث البشر وخداعهم، كل يوم يرى بها الجمال وكأنها أول من عرفه..


نظر إلى وجهها وعينيه تتوجه به دون كلل أو ملل، ينظر إلى عينيها العسلية التي لم تغير لونها في مثل هذه الليلة بل بقيت على وضعها الساحر يزينها كحل أسود جعلها بارزة برسمه رائعة، وذلك النمش الذي يظهر مثلما هو في وجهها يبدو أنها لم تغير أي شيء، أنه يزيدها جمالًا فوق جمالها برقته ولونه البني الهادئ.. 


والشيء الوحيد الذي تغير في وجهها هو لون شفتيها، لقد حملت اللون الكشميري الهادئ لتكن هذه زينتها في هذا اليوم وهذه الليلة التي لا تعوض وكانت غاية في الجمال والرقة دون أن تضع كثير من المستحضرات التجميلية التي ليس لها أي فائدة سوى أنها تعصي الله بها بحجة أن هذه ليلة العمر وعلينا أن نفرح بها قدر الإمكان..


أخفضت عينيها بخجل عنه بعدما رأت نظرة المصور لهما وهو مثلما هو لم يتحرك أو يبعد عينيه، ربما نسيٰ أين هم وأكمل النظر إليها وهو يرى حجابها الذي أظهر وجهها فقط وفستانها الرائع، فستان الزفاف، لقد كان كبير للغاية ويأخذ مكان كبير، بأكمام طويلة إلى المعصم، به كثير من اللؤلؤ اللامع من بداية صدره إلى نهاية قدميه، يهبط باتساع من الخصر يعطي مظهرًا رائع له حيث أنه من الخلف طويل..


رفعت وجهها إليه مرة أخرى وأشارت إليه بعينيها ليتحرك فكانت العاملة وقفت لتنظر إليه وهو يبحر في مظهرها بعيون براقة تظهر لها الحب وجلس المصور بعد أن أخذ الكثير من اللقطات وهو ينظر إليها منتظرًا أن ينتهي ويتحرك..


قدم إليها "جاد" باقة الورود بعد أن تنحنح بخشونة والابتسامة تغزو شفتيه بقوة وقلبه لا يستطيع التحكم بنفسه وبدقاته من كثرة الفرحة التي تجتاحه، أخذتها منه ونظرت إليهم بابتسامة هادئة ثم رفعت نظرها إليه ليميل عليها مقبلًا رأسها قبلة مطولة بحنان وحب بالغ طبعه في هذه القبلة مُتمتمًا بالمباركة بصوتٍ هادئ..


ثم وضع يدها بيده وتوجه بها إلى الخارج وأخذت "مريم" تطلق الزغاريد بصوتٍ بشع لأنها لا تدري كيف تفعلها من الأساس ولكن فعلتها لأجل شقيقتها فقط..


كان الزفاف في قاعة كبيرة وكل ما بها كان يليق بـ "جاد أبو الدهب" وعائلته، تواجد الأهل جميعًا والجيران والأصدقاء وكل من كان يعرف "جاد" و "هدير" ومن يخصهم، امتلئت القاعة بحضور كثير من الأشخاص لدرجة أنه لم يعد هناك مكان بها..


قام أصدقاءه بتقديم التهنئة له على طريقتهم الخاصة والتي كانت عبارة عن اهتزاز القاعة بمن فيها من كثرة الرقص والحركات الذي فعلوها معه..


جعلوه يرقص معهم والفرحة تتطاير من وجهه إلى وجوه الجميع وقلبه يرقص قبل منه على حلم قد تحقق غاب يحلم به لسنوات..


نظرت إليه من بعيد وهي جالسة في المكان المخصص للعروسين "الكوشة" ممتنعه عن الرقص أمام كل هؤلاء الناس كما فعلت في يوم الشبكة، أملت عينيها منه ومن وسامته التي لم تراها من قبل..


ظهر في هذه الحُلة أفضل بكثير من أي يوم آخر، لابد من هذا أليس يوم زفافه؟. وزعت نظرها على حركاته المضحكة هو وأصدقاءه وهي تبتسم، تنظر تارة إلى وجهه وعينيه الرمادية التي تمطر فرح وسعادة يظهران للأعمى، وتارة تنظر إلى جسده الرياضي الذي أحبته للغاية هو وعنفوانه المخفي..


لقد أصبح زوجها حقًا!.، إنها إلى الآن لا تصدق، لقد كان حلم بعيد يحلق في الأفق تحلم به كل يوم وتدعوا أن تتلاقى النجوم معه مقررة جمعهم سويًا ليحدث ذلك بعد عامين من الدعاء المتواصل وليكن لها نصيب به بقدرة من الله عز وجل..


                                 ❈-❈-❈


أغلق الباب خلف شقيقتها وآخر من خرج من عش الزوجية الخاص بهم بعد انتهاء ليلة العُرس الطويلة التي استمرت إلى الساعة الواحدة والنصف صباحًا ولو بقيت أكثر لكان الوضع استمر ولكن والده أنهى الليلة إلى هنا ليرتاح الجميع..


دلف إلى الداخل مرة أخرى بخطوات ثابتة واثقة، تقدم إلى داخل غرفة النوم ليراها تقف أمام المرآة بخجل شديد وربما جسدها يرتجف!.. ليس هناك داعي لكل ذلك، تنحنح بخشونة ودلف ليقف خلفها ناظرًا إليها عبر الماء ثم قال بأريحية ومرح ليبث الأمان والراحة بها:


-بصي بقى أنا واقع من الجوع، هتوكليني ولا أروح عند أمي 


ابتسمت عبر المرأة ووجهها لونه يميل للأحمر وهتفت قائلة بجدية وتحدي تحاول أن تخرج من قوقعة التوتر والخوف:


-روح وأنا هاكل لوحدي


رفع أحد حاجبيه وأغمض عين واحدة ينظر إليها بتساؤل وعبث:


-إحنا فينا من كده 


ضحكت بصوتٍ خافت وأردفت مُجببة إياه بجدية وحزم:


-وأبو كده 


هذه المرة هتف بجدية وهدوء بعد أن وضع يده الاثنين على كتفيها بحنان وداخله يدعوه للاقتراب أكثر:


-طب بصي يا وحَش إحنا أول حاجه نعملها نصلي ركعتين.. يعني نغير ونصلي وبعدين قدامنا الليل طويل ناكل براحتنا


ابتلعت ما بحلقها ونظرت إلى عينيه عبر المرأة ثم إلى يدها التي تضغط عليها كالعادة عندما تتوتر وحركت شفتيها بحرج قائلة:


-طيب أنا.. أنا مش هعرف افك الطرحة لوحدي 


تعمق في نظرته لها عندما رفعت عينيها وبكل الحب المكنون داخل قلبه لها أجاب:


-تسمحيلي انول الشرف واساعدك؟


أومأت برأسها بهدوء وخجل سيطر عليها وحاول التوتر أن يغلبها ولكنها تماسكت وابتسمت له بترحاب عندما رأته يفك طرحة فستانها ويزيل عنها الإبر المثبتة إياه، استغربت حيويته ومرحه معها وهدوءه رغم أنه تعب كثيرًا في الأيام الأخيرة بالتحضير للزفاف وانهاء كل ما لزم عش الزوجية وإلى اليوم لقد تعب كثيرًا عن حق..


أردفت وهي تساعده في فكها:


-مش هتفرجني على الشقة..


رفع عينيه الرمادية ليتقابل مع عسلية عينيها عبر المرأة وأردف مُجيبًا بحب وحنان بالغ:


-عيوني يا وَحش 


-يسلموا عيونك 


انتهى معها من فك الطرحة ليزيلها عنها ثم وضعها على المقعد المتواجد أمام المرآة وزال الربطة المتواجد بخصلات شعرها لينسدل على ظهرها فأمسكه بيده الاثنين وأخذ يفرده على ظهرها وعينيه لا تتحمل كل ما يراه بها من جمال وروعة..


فُتن بخصلات شعرها التي لأول مرة يراه، لقد كان طويل يصل إلى نهاية خصرها وما بعده بقليل، لونه أسود ينتهي ببني فاتح يجذب عينيه إليه ويسحرها به.


رفع نظره إليها مرة أخرى عبر المرآة بعد أن شعر برجفتها على إثر فتحه لسحاب فستانها، أطال النظر إلى داخل عينيها وداخله لا يستطيع المقاومة أكثر من ذلك.. لقد انتظر كثيرًا ولا يستطيع الانتظار لبضع دقائق أخرى حتى..


شعرت بما يدور داخله فاستدارت له سريعًا تقابله بوجهها وتحدثت بجدية بعد أن ابتلعت ما وقف بجوفها:


-طيب أطلع غير بره وأنا هغير هدومي وأخرج اتوضا 


تنحنح بخشونة ثانيةً وأغمض عينيه بقوة ثم فتحهما وهو يتحدث بينه وبين نفسه بالانتظار قليلًا بعد، أومأ إليها برأسه وتوجه لخزانة الملابس المتواجدة في غرفة النوم فتحها ثم أخرج منها ملابس له وخرج من الغرفة دون أن ينظر إليها.. 


أسرعت خلفه حاملة الفستان بيدها لتغلق الباب خلفه ثم وقفت وراءه، تضع يدها على  موضع قلبها وتستمع إلى دقاته والابتسامة على محياها تتسع أكثر وأكثر، لقد رأت لهفته في التقرب منها، رأت حبه لها في حديثه وأفعاله، صدقه في كل ما يفعله..


لو كان ما يحدث لها بين يوم وليلة حلم لن تحزن فقط لأنها عاشت معه ما تريده وتتمناه إلى الآن..


ابتعدت عن الباب وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا والابتسامة لا تعرف طريق غير وجهها، تقدمت لتخرج ملابس من الخزانة ثم تذهب للوضوء..


خرجت بعد قليل وهي ترتدي منامة حريرية لونها وردي بنطالها طويل، وبلوزتها بنصف كم، وعقصت خصلاتها للخلف، خرجت لتراه يجلس في الصالة منتظر انتهائها، وقف على قدميه بعد أن رآها وحاول أن يبدو طبيعيًا وتحدث قائلًا بنبرة رجولية هادئة:


-أنا اتوضيت ومستنيكي.. الحمام من هنا


أشار بيده على ناحية المرحاض لتذهب إليه دون خجل منه، حاولت جاهدة في فعل ذلك لتنجح في النهاية ولم تستخدم يدها في الضغط عليهما..


خرجت بعد دقائق وعادت إلى الغرفة معه وارتدت إسدال لونه أسود بحجابه للصلاة به، كان معه اثنين من سجادة الصلاة فرش الأرض بواحدة وهي تعدل من حجابها ثم وضع الأخرى خلفه في اتجاة القبلة وأشار إليها ليبدأ الصلاة بها..


صلى بها ركعتين لتكن الصلاة خير فاتح لهم معًا في حياتهم الزوجية، ولم ينسى الدعاء سرًا بينه وبين الله أن يتم عليه نعمة وجودها في حياته دون حزن وألم وكأنها هي الأخرى شعرت بما دعى لتفعل المثل..


استدار بجسده ملتفًا ناحيتها بعد الانتهاء ناظرًا إليها بحبٍ وشغف يظهر على وجهه وكل عضو به، وضع يده اليمنى بحنان فوق رأسها بعد أن أخذ نفسًا عميقًا ثم أخذ يردد بنبرة خافتة:


-اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما جبلتَها عليهِ وأعوذُ بِكَ من شرِّها ومن شرِّ ما جبلتَها عليهِ 


ابتسمت له بعد أن أبعد يده عنها وأطالت النظر داخل عينيه تبادلة نظرته العاشقة الصامتة، تبادله حبه دون الاعتراف المجرد من الأفعال الملموسة..


هتفت بصوتٍ خافت وهي تنظر إليه دون أن تحيد عينيها عنه مثل السابق وهي تغض بصرها عنه:


-جعان صح؟. اجبلك أكل


وزع عينيه على جميع ملامح وجهها ببطء شديد ليتوقف عند شفتيها للحظة واحدة ثم عاد بالنظر إلى عينيها يهتف بنبرة رجولية خالصة بحبٍ وشغف ولوعة الاشتياق داخله تقوم بدورها على أكمل وجه:


-أنا فعلًا جعان.. جعان أوي، يمكن من أربع سنين


نظرت إليه باستغراب، كيف هو جوعان منذ أربع سنوات!. لابد أنه يمزح ولكن ملامح وجهه تقول عكس ذلك، أبعدت تفكيرها عن عقلها الآن وهي تراه يميل عليها..


وضع يده اليمنى على وجنتها يحرك إصبعه الإبهام عليها بحنان وهدوء، ثم أبعدها عن وجنتها ليزيل عنها حجابها بيده ويسقطه خلف ظهرها متعلق بالاسدال، وزع نظرة مرة أخرى عليها ووجدها تنظر بعينيها في غير اتجاهه بخجل ووجهها يتحول للون الأحمر من شدة الخجل والحرج الذي هي به..


لم يدعها تدلف بتلك الدوامة وياخذها منه التوتر والخجل بل أقترب منها بوجهه ليطبع قبلة على شفتيها من خاصته بحب بالغ وحنان أعمى، قبلة جعلها طويلة قدر الإمكان يبدأ بها ليلة معها في سعادة وحب وقلبه مع جسده لا يستطيع الانتظار مطالبًا باكثر من هذا..


وضع يده الاثنين خلف رأسها وفي تلك اللحظات وجد عنوانها الاستسلام التام أمام مروره عليها بحبه وقبلته التي حرم نفسه منه ومن فعل أي شيء آخر حتى ولو كان حديث عابر ليناله برضا الله وحلاله، ليكن في النهاية حلال يتفاخر به وينعم به أكثر وأكثر وليشعر بالسعادة وهو يحصل عليه وبينهما مودة ورحمة مَن الله عليهم بها..


تكملة الرواية من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close