رواية ندوب الهوى الفصل السادس والعشرون والسابع والعشرون والثامن والعشرون والتاسع والعشرون والثلاثون والاخير
![]() |
الفصل السادس والعشرون
"الإقتراب من المجهول"
قبل شهور مضت تعرضت إلى محاولة انتهاك لروحها، وجسدها، قبل شهور تعرضت لمحاولة الذبح ببطء شديد وبرود رهيب من قبل الطرف الآخر..
كادت أن تموت الحياة بداخلها وتحيا النيران المشتعلة اعتراضًا على الأمر، تحيا الأحزان، يحيا الخذلان والقهر، كادت أن تقتل مرحها وشراستها، سعادتها وابتسامتها، فقط لأجل حدث تعرضت إليه وحمدًا لله قد مضى كل هذا بعد أن تقدمت هبة من الله والذي كان "جاد الله" اسمه على مسمى، تقدم بكامل العنف القابع داخله ليقوم بانقاذها وطمئن قلبها، قام بإرجاع الحياة لها ورسم الابتسامة على ثغرها مرة أخرى وكأن شيء لم يكن..
الآن بعد أن أصبحت زوجة له قد ذهب إلى البعيد وعاد مرة أخرى الذئب الذي يريد انتهاك حق ليس له بل مُحرم عليه ومع ذلك لا يريد التنازل عن فعله..
زوجها ليس معها، الأمن والأمان، الطمأنينة والراحة، ليس معها!.. هي وحدها بين أيدي من لا يرحم مهما قالت ومهما فعلت..
ألقى بها بكامل العنف على الأريكة بالصالة وكأنه ينتقم منها قبل أن يفعل أي شيء، رفضها له، تحديها له، وقوفها أمامه بتلك الشراسة التي تنبع من داخلها، تفضيلها لرجل آخر عليه مزقه إلى أشلاء، كل ذلك جعل منه رجل يريد أن يأخذ حقه منها إن كان بالرضا أو العنف التام..
مال عليها فحاولت دفعة بيدها الاثنين ومازالت عينيها تهطل بالدموع الغزيرة وكأنها أمطار في موسمها تهبط، أمسك بيدها الاثنين بيد واحدة والأخرى وضعها داخل جيبه يخرج منه شيء ما فصرخت بعنف وقوة هائلة لكي يخرج صوتها إلى الشارع أو يصعد إلى شقيقتها في الأعلى..
ولكنه لم يترك لها الفرصة لفعل ذلك وترك يدها الاثنين متبادلًا معها ووضع يده على فمها وفي تلك اللحظة أخرج قطعة قماش صغيرة من جيب بنطاله فحاولت دفعة بقوة وهي تبكي ويدها ترتعش بشدة..
لم ولن تكن بتلك القوة التي تدفعه عنها وهي بهذه الحالة، يدها ترتعش بقوة بل جسدها بالكامل الارتجاف يكسوه، عينيها مشوشة من كثرة البكاء ولا تستطع حتى الصراخ..
تركها تفعل ما يحلو لها بهذه الطريقة الهشة خائرة القوى، وقام هو بوضع قطعة القماش على فمها ليتأكد من عدم صراخها، حاول ربطها أكثر من مرة وهي تمانع حدوث ذلك بدفعة عنها وتحريك رأسها بقوة..
تحامل أكثر من اللازم لكي يفعل ذلك، ولن يذهب قبل أن يأخذ كل ما يريد، دفعته بقوة بيدها في صدره وهو مائل عليها فعاد للخلف لحظة وبها حاولت الجلوس لتبتعد عنه وصرخت مرة أخرى ولكنه منعها بطريقة بشعة وهو يدفعها في صدرها بقوة ثم هبط بكف يده العريض على وجنتها بكامل قوته لتصدر الصفعة صوتًا حادًا عاليًا ألمها مع أثرها بطريقة أبشع مما تتصور..
ازدادت في البكاء الحاد وصوتها يتصاعد إلى الأعلى ولا تستطيع إبعاده، وضع قطعة القماش على فمها مرة أخرى وهي مازالت تحاول المقاومة ولكنه هذه المرة فعلها..
عاد إلى الخلف ناظرًا إليها بشماته وهي أسفل يده يتمسك بيدها الاثنين جيدًا يهتف بصوتٍ شيطاني حقير:
-كده مش هتقدري تعملي حاجه
وقع الحجاب عنها يلتف حول عنقها وظهرت خصلاتها منذ لحظات، ارتفعت عباءتها عنها إلى منتصف قدميها وهي تحاول الإبتعاد بالقوة عنه، حرك عينيه عليها من الأسفل إلى الأعلى ولعابه يسيل لهذا المظهر الشهي المُحرم عليه:
-مش قولتلك هناكل الشهد سوا... كنتي تقدري تاكليه معايا بالرضا مش بالغصب
ابتسم بسخرية مُميتة وقهرته داخله لا يريد أن يظهرها لها:
-بس أنتِ اتنكتي عليا وروحتي لابن أبو الدهب.. ابقي خليه ينفعك بقى
وجهها بالكامل أحمر قاتم مختنق بعنف، البكاء جعلها تختنق أكثر وأكثر وقلبها يدق بعنف هائل خائف، مرتعبة مما يريد فعله وليس هناك من يمنعه بعد أن كمم فمها حتى لا يخرج صوتها.. قلبها يا الله، قلبها سيقف من شدة الرعب إن حدث هذا، "جاد" حبيب عمرها، كيف سيكون إن حدث هذا؟ وهي كيف ستتحمل؟.. أغمضت عينيها بقوة والدموع لا تريد التوقف وحركة جسدها المتشنج تساعدها في الخروج وما عليها غير الدعاء بمعجزة من معجزات الله التي حدثت معها ومع زوجها سابقًا تحدث الآن..
شعرت به يمسك يدها الاثنين بيد واحدة والأخرى تجذب حجابها من حول عنقها، فتحت عينيها سريعًا تنظر إلى ما يفعله، جذبه عنها بعنف ووضعه حول يدها الاثنين لتحاول جذبهم برهبةً ورعب يتخلل كل عضو بها..
قام بوضع حجابها حول يدها الاثنين تحت المقاومة الهشة الخائفة، يقيد حركتها بالقوة الكبيرة منه، عاد للخلف ينظر إلى قدميها البيضاء التي تظهر بسخاء ليراها تنظر إليه بقهر محاولة مد يدها إلى قدميها ترفع العباءة عليها ولكن لا تفلح في فعل ذلك..
جلس على الطاولة أمام الأريكة وابتسم بتشفي ناظرًا إلى قهرها ورعبها منه، السعادة داخله لا تقدر بثمن ولا يستطيع وصفها مهما قال، سعادة لا تضاهي أي شيء:
-فين بقى اوضة النوم؟..
تسائل وهو يوزع بصره في أنحاء الشقة أثناء ما هي تحاول فك الرباط على فمها بيدها المقيدة، يراها تفعل هذا ولكنه على يقين أنها لن تستطيع فوقف على قدميه يذهب إلى الغرف قائلًا بسخرية:
-هكتشف بنفسي يا برنسس
بكت بحرقة وقهر لا تستطيع وصفه، قلبها لا تفهم أهو سيقف أم لا؟. خوف ورهبة، حزن وأشياء أخرى لا تستطيع فهمها ألا وهي جميعها تتلخص في الموت، الموت البطيء يتقدم إليها عن طريق "مسعد" في كل مرة..
تحاول بكل الطرق الممكنة لها أن تبعد القماش عن فمها لتصرخ، لتبكي بصوت على الأقل!.. حاولت فك قيود يدها أو حتى تجلس!.. لا تستطيع الجلوس بسبب حمل بطنها الصغير وأيضًا تلك الرعشة والتوتر لا يجعلها تفعل أي شيء..
وجدته يتقدم منها بابتسامة عريضة مُرتسمة على وجهه الحقير وتظهر أسنانه الصفراء قائلًا بتشفي:
-لقيت الاوضه.. على فكرة بقى ذوقك مش حلو لا في الرجالة ولا الاوض
تقدم ليقف أمامها ثم مال عليها وهي تنظر إليه برعب وقد وضع يده الاثنين أسفلها على حين غرة يرفعها عن الأريكة مكملًا بنبرة يملؤها الحماس المُحرم والشهوة الكريهة:
-بس أنا النهاردة هخليكي تجربي حاجه تانية خالص
حركت نفسها بعنف على يده ولكنه لم يتأثر بالمرة، هي لا تأثر به يغلبها بكل سهولة ولكنه لو كان "جاد" لفعلها في بنطاله من نظرة واحدة تحمل الشراسة له..
دلف بها إلى الغرفة ثم ألقاها على الفراش الخاص بها هي وزوجها بنفس ذلك العنف في المرة الأولى، ناظرًا إليها بقوة والرغبة بها تكسو ملامحه الكريهة بعد أن رأي قدميها البيضاء التي ارتفعت عنهما العباءة أكثر من السابق..
تركها تحاول الإبتعاد إلى آخر الفراش بجسدها وتحاول فك ربطة فمها لتفعل أي شيء، هناك قلة حيلة رهيبة تشعر بها، العجز يسيطر عليها والحزن يقتلها لأنها لا تستطيع الحفاظ على نفسها في غياب زوجها.. وتلك الربطة تكاد تهشم فمها..
لقد رحل اليوم فقط لا تستطيع الحفاظ على نفسها لأجله ولأجلها؟. لا تستطيع المقاومة لتبقى زوجته هو وحده وحلاله هو وحده، لتبقى إمرأة نقية عفيفة، بضع ساعات ذهب بها لا تستطيع أن تكون تلك الزوجة الشرسة التي ظهرت إليه سابقًا، شعور بالندم والخذلان، القهر والذل، كثيرًا من المشاعر السيئة تطاردها وقلبها لا يتحمل أي شيء من هذا..
وبدأ هو في فك أزرار قميصه ببطء وبرود وكأنه يقتلها خاصة بتلك النظرة الواثقة بأنه سيفعل ما يريد، أبعد قميصه عنه ليبقى بالقميص الداخلي، أقترب منها وصعد على الفراش يجسو فوقها مبتسمًا بقوة ولعابه يسيل لهفتةً للنيل منها ومن زوجها السارق..
احتل الرعب المكانة الأكبر بها عندما وجدته يفعل ذلك، عقلها وقف عن العمل وقلبها ازدادت نبضاته أكثر وأكثر يقول أنه سيخرج من مكانه في الحال
في تلك اللحظات في الخارج كان "سمير" يصعد الدرج بعد أن عاد هو وعمه من عند المحامي الخاص بـ "جاد" وقف أمام شقة ابن عمه للحظات وهو يفكر هل يدخل إلى زوجته ليخبرها بما حدث؟. أم يصعد إلى شقته ويجعل "مريم" تهبط إليها أو تصعد هي لأن الوقت أصبح متأخر ولن يكون ذلك جيدًا إن دلف إليها..
سيصعد يخبر زوجته بما حدث بالكامل ثم يجعلها تخبر شقيقتها أو من الأفضل يحادثها هو في الهاتف ليجعلها تطمئن، صعد على الدرج بهدوء مُكملًا إلى الدور الثاني ذاهبًا إلى شقته، وتفكيره بالكامل منصب على شقيقه وابن عمه الذي ظهر موقفه ضعيف في هذه القضية التي حلت عليه من العدم..
لو كان "جاد" غير ذلك الرجل الذي هو عليه لم يكن سيحزن هكذا ولكن "جاد" من أتقى الرجال هنا، من أفضلهم، لا يحب الكذب ولا الخداع، يسير على طريق مستقيم به وحده الصواب يفعله وأن شكك أنه ليس صواب يبتعد عنه في الحال..
ولكنه على يقين أن هذا ابتلاء وسيمر، وقف "سمير" على أعتاب باب شقته، أخرج المفتاح من جيبه ثم فتح الباب وهم بالدخول..
قبل تلك اللحظة بثوانٍ معدودة جذبت "هدير" قدمها اليمنى إليها تقوم بثنيها وهو فوقها يبتعد بمسافة إصبع واحد ولكنها فعلتها!.. وعلى حين غرة ولم تحدد إلى أين توجه قدمها قامت بضربه بقوة خارقة لم تأتي إليها إلا عندما علمت أنها حتمًا النهاية..
النهاية المُرة إن لم تحاول إنقاذ شرفها وشرف زوجها، فعلتها ولحظه السيء أتت الضربه القوية هذه أسفل الحزام ليصرخ بعنف مبتعدًا للخلف بقوة جعلته يقع من فوق الفراش مصطدم بالأرضية بقوة على ظهره..
انتهزت الفرصة سريعًا وابتعدت بجسدها إلى مكان نوم زوجها ناحية الباب وهي تحاول أن تفك عنها ربطة فمها، حركت رأسها على الفراش بقوة عدة مرات ربما تستطيع فعلها بذلك ثم جذبتها مرةٍ واحدة بقوة رهيبة ألمتها كثيرًا، لتصرخ في نفس اللحظة التي أبعدت عنها قطعة القماش بقوة هائلة لدرجة أنها شعرت بتقطع أحبالها الصوتية، ضاربه تلك المزهرية المنيرة بيدها الاثنين من على الكومود لتقع متهشمة مصدرة صوتًا عاليًا مع صوتها الصارخ الحاد..
ما كاد "سمير" إلا أن يغلق الباب خلفه ولكنه أستمع إلى تلك الصرخة المنبعثة من الأسفل مع صوت تحطيم شيء، نظر خلفه باستغراب وهو يرى زوجته تتقدم منه بلهفة متسائلة عن هذا الصوت الذي استمعت إليه يأتي من ناحية باب الشقة ولكنه قابلها بالدهشة إلى حين استمع صوت زوجة شقيقه تهتف بصراخ وقوة مستغيثة:
-الحقوني.... يا ناس الحقوني
ترك باب الشقة الذي كان يمسكه بيده وفي لمح البصر خرج منها راكضًا على الدرج وزوجته خلفه تهبط بسرعة كبيرة شاعرة بالقلق والخوف على شقيقتها التي استمعت إلى صوتها الصارخ خارجة بملابسها البيتية وخصلات شعرها ظاهرة بالكامل..
وقف أمام باب الشقة يهتف بصوتٍ صارخ قوي:
-هـديـر... هـديـر
أجابته من الداخل ببكاء حاد وصوت عالي قوي لكي يستمع إليه في الخارج وهي تحمد الله داخلها بلهفة وفرح لا تستطيع الشعور به:
-الحقني يا سمير... بسرعة
حاول "سمير" كسر الباب بجسده ولكنه لا يستطيع، عاد إلى الخلف مرة بعد مرة في محاولة منه ليفعلها ولكن الباب متين للغاية، وقفت "مريم" على أول درجة جوار الباب واضعة يدها على فمها بخوف على شقيقتها وتتخيل بأبشع الطرق ما الذي من الممكن أن يكون يحدث معها في الداخل
بينما هو تألم بقوة وكثرة واضعًا يده أسفل الحزام ومازال ينام على الأرضية فكانت الضربة قوية للغاية عليه، لكنه استمع إلى صوت "سمير" في الخارج فوقف ببطء شديد والألم مرتسم على ملامح وجهه بالكامل متقدمًا منها بضعف..
جذبها إليه من خصلات شعرها بعنف وقوة لتجلس على الفراش ثم بيده الحرة صفعها مرة أخرى بقوة أكثر من السابق لتطلق صرخة مدوية يستمع إليها من بالخارج..
وقع قلب "مريم" و "سمير" بين قدميهم خائفين من الذي يحدث لها بالداخل ثم عاد إلى الخلف بقوة ليقوم بدفع الباب..
جذبها "مسعد" من خصلاتها بقسوة وهو يقوم بتبديل يده الأخرى ليستطيع صفعها جيدًا وقد فعلها حقًا ثم ألقاها على الفراش مصمم على التكملة وهو يعلم أن "سمير" بالخارج، ولكن كل هذا لن يذهب هدرًا..
أمسك بمقدمة عباءتها وبكامل قوته جذبها لتنشق نصفين محاولًا الإقتراب منها أكثر ولكنها تقاومه بكل قوتها صارخة في أذنه بحدة وقسوة:
-جاد هيميحك من على وش الدنيا يا زبالة يا حيوان
صرخ هو الآخر في وجهها صافعًا إياها أكثر من صفعة متتالية وهو يقول بحرقة:
-جاد هيتعفن في السجن
وما كاد ينهي جملته إلا واستمع إلى صوت تكسير الباب وهناك من يقف فوق رأسه.. نظر "سمير" بصدمة كبيرة إليها ولم يجعل عينيه تستمر بالنظر على زوجة شقيقه، تقدم بعنف وقوة يبعد الأفكار عن عقله الآن متقدمًا منه وجذبه من على الفراش لاكمًا إياه بعنف وقوة ثم جذبه للخارج لكي يستطيع فعل ما يريد بعيد عنها وعن هيئتها هذه..
وفي لحظتها كانت "مريم" تحاول فك قيد يدها والبكاء يغرق وجهها كما شقيقتها بالضبط..
خرج إلى الصالة ليحاول "مسعد" ضربه في وجهه ولكن "سمير" لم يجعله يفعل هذا وبدأ في ضربه بقسوة وقوة كشقيقه بالضبط عندما يحضر..
الدماء تغلى بعروقه على تلك الهيئة وهذا المظهر القذر الذي رآه.. أخذ يلكمه بقوة في كل مكان بجسده وهو يتذكر حديث ابن عمه، هل لأنه ذهب لساعات فقط لم يستطع هو الحفاظ على أهل بيته؟..
دفع "سمير" "مسعد" بكل قوته إلى الحائط لتصطدم رأسه به وتخرج الدماء منها في الحال، ارهقه كثيرًا ضربه له.. لقد أخرج كل الكبت الذي كان يشعر به تجاه كل شيء ولم يترك لـ "مسعد" الفرصة للدفاع عن نفسه..
وقع على الأرضية يفتح عينيه ويغلقها مرة بعد مرة فابتعد "سمير" سريعًا إلى باب الشقة يغلقه ثم صرخ بقوة على زوجته يُناديها:
-مـريـم.. مـريـم
خرجت إليه تبكي بقوة ونظرت إلى "مسعد" الملقى أرضًا لتضع يدها على فمها شاهقة بعنف وقلق:
-يالهوي ده مات
تحدث بحدة وقوة وهو ياخذ أنفاسه بصعوبة كبيرة:
-خلي أختك بسرعة تغير هدومها....
وجدها تقف ولم تتحرك تتسائل بعينيها عن السبب بغباء حقيقي ليصدح صوته يصرخ بغضب:
-بسرعـة بقولك.. وخليها تجيب دهابها كله يــلا
دلفت إلى شقيقتها لتفعل كما قال، لكن "هدير" كانت في وضع لا تحسد عليه أبدًا، لم يكن بها عقل لتفعل هذا ولم تكن تستطيع تحرك أي عضو بها فتولت "مريم" هذه المهمة وبدلت لها عباءتها وهي تحاول أن تخفف عنها بأي حديث تقوله.. والأخرى داخلها نيران لن يستطيع أحد إطفائها سوى "جاد"..
أخذتها وذهبت للخارج، نظر إليها "سمير" متقدمًا منها قائلًا بجدية وقوة محاولًا تقدير موقفها:
-علشان خاطري يا هدير اصحي معايا وكأن مسعد معملش معاكي أي حاجه..
عندما نظرت إليه لتحاول فهم ما الذي يريده قال بجدية:
-ادخلي هاتي كل دهبك، ولو في أي فلوس هاتيها..
وجد الاثنين ينظرون إليها بدهشة فعاد بنظرة إلى "مسعد" الذي بدأ يتحرك، ليقول بجدية لا تحتمل النقاش:
-يلا مفيش وقت
اومات إليه بهدوء ودلفت إلى الداخل مرة أخرى لتأتي بما طلب فصاح إلى زوجته:
-حطي طرحه على شعرك واطلعي البلكونه صوتي
قابلته بعدم فهم، ونظرة غريبة، منهدشة، تحاول الاستفسار بعينيها ولكنه لم يعطي لها الفرصة وقال بقوة:
-يلا يا مريم
ذهبت لتأتي بالحجاب وتقدمت منه "هدير" بصندوق الذهب وبعض النقود الخاصة بـ "جاد" فوضعه على الأرضية جوار "مسعد" بعد أن فتحه وجعله يقع مفتوحًا، وألقى بالنقود أيضًا جواره ثم أشار لزوجته بفعل ما قاله..
تقدمت "مريم" بفتح الشرفة ثم خرجت وأخذت في الصراخ عاليًا ليستمع إليها جميع من يمر من الشارع:
-الحقونا.. يالهوي
أخذت تصرخ بعنف وقوة حقيقة وكأنه ليس مزيفًا، خرجت أم "جاد" في الناحية الأخرى إليها في شقتها تقف في الشرفة تتسائل بلهفة وقلق وأتى على خلدها ابنها "جاد":
-ايه يا مريم.. جاد حصله حاجه؟ في ايه انطفي
لم تعطيها فرصة للرد وهي تسأل كثير من الأسئلة ورأت والدتها تخرج إلى الشارع هي الأخرى والكثير اجتمع في الشارع ومنهم من صعد إلى الأعلى عندهم ومنهم من بقى في شرفته لتقول بخوف:
-مسعد اتهجم علينا
نظرت والدة "جاد" بقوة واندهاش حقيقي بعد الاستماع إلى هذه الكلمات! كيف قام بالتهجم عليهم وهم وحدهم في المنزل؟. كيف يتجرأ ويدلف منزل "جاد أبو الدهب" في غيابه؟.. كيف يوسوس له عقله أن يتقدم بخطوة أو نصف إلى هذه الناحية!.. كثير من الحديث والأفكار داخل عقلها وعقل الجميع كوالدتها التي صعدت إليهم وكوالدة "سمير" التي هبطت من منزلها سريعًا بعد هذه الكلمات التي وقعت على مسامعها..
صعد من يهمه الأمر بالحارة ومن يود المساعدة ومسك بمسعد في الجرم المشهود، نائم على الأرضية بعد الكثير من ضربات "سمير" الظاهرة عليه بوضوح جلي، صندوق الذهب ملقى على الأرضية ومعه المال أيضًا، وبيده بعض منهم!.. يا له من تفكير..
هدير تجلس على الأريكة دون حديث.. دون نظرة.. دون حركة، دُمية تجلس على الأريكة وكأنها ليست موجودة بالمرة، تفكيرها لا يتركها تشعر بالراحة أبدًا، أليس من المفترض أن تسعد لكونها تخلصت منه!.. الآن هي تريد من الجميع أن يخرج من هنا لتقوم بالصراخ إلى الصباح بكل قوتها.. لتقوم بالبكاء الحاد..
تريد أن تبقى وحدها.. أن يبتعد الجميع ولا ينظر إليها أحد كما الآن، وكأنهم يشكون فيما حدث يوزعون نظراتهم عليها بغرابة ودقة..
وأمام الجميع وبصوت عالي تحدث "سمير" بأنه قد تهجم على البيت وكانت به فقط زوجة شقيقه التي لم تستطع التصدي له وحدها، وهو من تقدم في الوقت المناسب للإمساك به..
بعض من الناس لم يدلف عقلهم أن "مسعد" كان يسرق لا.. إنه كان هنا لغرض آخر وهو زوجة "جاد الله"، السبب الوحيد الذي يجعله يصعد إلى هنا بكامل قواه العقلية هو "هدير" ابنة "الهابط" غير ذلك فلا..
حاولت والدة "جاد" أن تطمئن على "هدير" بعدما علمته من "سمير" ولكنها لا تستجيب للحديث معها! ولا حتى مع غيرها.. لم تجيب والدتها ولا تعطي نظرة إلى شقيقتها.. ضيقت ما بين حاجبيها باستغراب وشك لما قد يكون حدث منه معها!.. هي ليست غبية!.. الفتاة تجلس كالصنم لا تتحرك لا تنظر لا ترمش بعينيها حتى، لا تفعل أي حركة أو رد فعل على حديثهم.. ما بها؟
قالت "مريم" لجميع من تقدم من جيران وأصدقاء يطمئنوا عليها بأنها تعرضت لصدمات كثيرة اليوم فلا تشعر بالراحة أبدًا بل كانت حالتها النفسية سيئة للغاية فلا تستطيع أن تُجيب على أحد..
والدة "هدير" شعرت هي الأخرى أن هناك شيء قد حدث مع ابنتها، فهي هكذا ليست على ما يرام أبدًا، لقد كانوا هنا قبل أن يحدث هذا، كانت حزينة على فراق زوجها لها ولكن لم يكن بهذا القدر.. مؤكد أنه أول أن يؤذيها بشيء ما من أفعاله القذرة..
كانت خطة سريعة ولا أروع من "سمير"، فكر مسرعًا بشيء ما يستطع أن يفعله بمسعد بعد ضربه إليه وليكن بالقانون هذه المرة بعيد عن زوجة شقيقه فلم يكن يريد أن يمسها حديث أو تلميح وقد كان حقًا..
قام "سمير" بالتبليغ سريعًا وأتت الشرطة في حضور الجميع وألقت القبض على مسعد بتهمة التعدي والسرقة وقد تحدث "سمير" مع "هدير" عن كل شيء من المفترض أنه حدث منذ دلوف "مسعد" إليها وأخذه الذهب الذي لم يحدث من الأساس إلى أن أتى "سمير" من الخارج واستمع إليهم..
ما طلبه من زوجته كان غاية في الذكاء ليصعد أفراد من الحارة وينظرون إلى المشهد أمامهم ثم يقوم بالتصديق أن "مسعد" سارق ووقع بالجرم فيقوم بالشهادة ضده إذا طُلب لأنه رآه وهو في منزل "جاد" معه الذهب والمال محطم الرأس والجسد بعد ضرب "سمير" له..
أمام الجميع "مسعد الشباط" سارق، لقد تم القبض عليه متلبس.. واقع في جريمة بشعة قذرة أكثر من جرائمه الذي من المفترض أن يحاسب عليها في مثل هذا الوقت.. ألا يمر عليه مثل من حفر حفرة لأخيه؟..
الجزاء من جنس العمل، وهذه البداية على كل ما فعله منذ أول يوم وقعت عينه على الحرام واستمر به وتكبر عن العودة إلى الله بل استمر في المكابرة إلى أن وقعت عينه على ما لا يحل له وعندما علم أنه لن يكون له مهما حدث كان بأكثر الأشياء بشاعة إلا وهي الفضيحة لاثنين لم يفعلوا شيء له سوى أنهم قابلوا عاصفته المحملة بكل ما هو حرام الله بالرفض التام.. ليقوم بكل ما يريد بعيدًا عن أمور دينه الصحيحة ولكن..
أقترب الميعاد للغاية والمحاكمة تنصب من الله في هذه اللحظات لكل من كابر وسار في طريق ليس طريقه، لكل من استلز من الحرام أكثر من الحلال..
العقاب أتى للجميع والجميع عليه أن يتحمل.. بينما من وقع في اختيار صعب عليه أن يصبر ويحكم قلبه وعقله وإيمانه ومعه يقينه بالله ليستطيع أن يجتاز ذلك الإختبار وبأعلى الدرجات التي تجعله يكمل الدرب بصدر رحب وسعادة لا نهائية تحقق كل ما يريد بثقة وعزيمة تأتي من الله عز وجل مكافأة لمن امتع عن الحرام وملزاته وأصر على تذوق الحلال الكثير..
❈-❈-❈
مر اليوم!.. لا لم يمر بعد ولن يمر أي يوم ولا ليلة واحدة في غيابه عنها.. وستكون هذه أطول الليالي وأكثرها حرقة وحزن..
رحل الجميع بعد انتهاء ما حدث، طلبت والدة "هدير" منها أن تأخذها معها إلى بيتهم ولكنها رفضت رفض قاطع غير قابل للنقاش أو الإعادة مرة أخرى، لن تترك بيتهم وعشهم، لن تترك مكان تواجد رائحته وروحه..
لن تبتعد عن مكان وجود حبيبها وحتى لو كانت بالذكرى، وإن حدث فتذهب إلى بيت والده لترى كل شيء به هناك قد تركته هنا..
جعل "سمير" الجميع يرحل وقال أنه سيترك معها زوجته حتى لا تكون بمفردها مرة أخرى.. الآن تجلس بينهم غائبة عن وعيها وهي مستيقظة.. تفكر فيما حدث بقهر وخذلان بشع.. تسترجع لحظة دخول "سمير" ورؤية لها.. تتذكر كل ما فعله "مسعد" بها..
جلست مريم على الأريكة مقابلة لها لا تستطيع أن تتحدث معها في أي شيء فهي لا تستجيب من الأساس، عقلها مشوش بطريقة مرهقة، تنظر إلى الأرضية بثبات وبعينيها كامل الحزن القابع بقلبها، حزنها مما حدث بينها وبين جاد في الفترة الأخيرة، حزنها على غيابه عنها ووقوعه في هذه المصيبة، حزنها على ما مرت به بين أيدي حقير بشع لا يعرف الله..
كل هذا وأكثر حزن ليكون الوحيد الذي يقف معها في وحدتها وشدتها مصاحب لاصدقائه معه حتى لا يكون وحده.. مصاحب للقهر والخذلان، الضعف والبكاء، الخوف والرهبة.. لم يترك أي شعور سيء إلا وأتى به معه ليكونوا معها في غياب مُعذب الفؤاد..
دلف "سمير" من الشرفة حيث أنه كان يقوم بإجراء مكالمة هاتفية، نظر إلى زوجة شقيقه ثم إلى زوجته بحزن يبادلها تلك النظرات المشفقة على شقيقتها متقدمًا ليجلس جوارها..
عندما شعرت بوجود "سمير" أخيرًا رفعت نظرها عليه بلهفة وقلق تترقب لاستماع اي معلومة عنه، تناست كل ما كانت تفكر به منذ لحظة وهتفت متسائلة والقلق ينهش قلبها:
-عملتوا ايه مع جاد يا سمير؟.. هيخرج امتى
ابتلع ما وقف بجوفه ثم شعر بمرارته البشعة، كبشاعته عندما يقول لها أن زوجها لن يأتي الآن بل ولا يعرف متى سيأتي!. حاول أن يكون هادئ قدر الإمكان ثابت في حديثه:
-التحقيقات شغالة وإن شاء الله خير
أقتربت بجسدها للأمام مضيقة ما بين حاجبيها باستغراب ودهشة لحديثه الذي يظهر وكأنه يطمئن شخص غريب عنه!. اردفت بقوة:
-يعني ايه الكلام ده؟ أنا عايزة افهم انتوا عملتوا ايه
تنهد بعمق وهو يُجيبها بهدوء متقدمًا للأمام محاولًا بث الاطمئنان بها:
-جاد اتحبس على ذمة التحقيق بس إن شاء الله هيخرج متقلقيش.. المحامي طمني
تسائلت مرة أخرى وعينيها تنظر إليه بثبات غير قادرة على تحريكها إلا عندما ترى تعابيره وتفهم منها إن كان يكذب أم لا:
-هيخرج امتى؟
بقلة حيلة أجابها وفي نفس الوقت لا يريد أن يتحدث معها ويتعمق في ذلك فتفهم أن موقفه صعب للغاية:
-مش عارف بس هيخرج.. مش هيتحاكم، جاد برئ وهيخرج منها
صاحت بقوة وحدة، شراسة قليلة ظهرت منها وكأنها لم تكن تصارع الموت منذ قليل، حياة أخرى انفجرت بداخلها عندما خص الأمر زوجها:
-يعني ايه الكلام ده أنا عايزة افهم اللي حصل.. المحامي قال ايه؟ هو قال ايه؟ الظابط قال ايه؟ أنا مش عايزاك تطمني قولي اللي حصل يا سمير
أجابها على حديثها بجدية متفهم حالتها بعد مرورها بيوم عصيب منذ بدايته إلى الآن:
-والله ده اللي حصل جاد اتحبس على ذمة التحقيق مفيش أكتر من كده وهنروح بكرة تاني
مررت حديثه عما حدث وعما قاله لأنه لا يعطيها الحقيقة الكاملة وأردفت بحزم وجدية شديدة مشيرة إليه بيدها:
-أنا عايزة أروح معاكم ومتقوليش لأ يا إما هروح لوحدي... أنا عايزة أشوفه
أومأ إليها بعدما رأى نظرتها وإصرارها على الذهاب، فلو رفض ستذهب وحدها حقًا فهي مجنونة وستكون في مأزق إن تركها وحدها:
-حاضر يا هدير... حاضر
وقف على قدميه بعد أن تنهد مرة أخرى والحمل وقع على عاتقه في لحظات معدودة، قال بجدية:
-أنا هطلع أنا خلي مريم معاكي الليلة دي
اردفت بجدبة هي الأخرى تبادلة قائلة:
-لأ أنا كويسه مش محتاجه حاجه
تحدثت "مريم" بعد أن تقدمت وهي تستمع إليهم، محاولة إقناعها بالجلوس معها حتى إلى الصباح فقط ثم بعد ذلك لن تبقى:
-خليني معاكي بس....
قاطعتها بحزم وجدية غير قابلة وجودها هنا، لتكون معه وحدها، لتعبر عما داخلها وحدها دون تطفل أحد عليها:
-لأ يا مريم اطلعي بيتك أنا كويسه وهقفل الباب كويسه متقلقوش
هتف "سمير" بهدوء:
-لو احتاجتي حاجه كلمينا يا هدير
أومأت إليه بهدوء يماثله وصمت تريد أن تنعم به فأكمل وهو يسير متجهًا إلى باب الشقة:
-تصبحي على خير
وقفت "مريم" خلف زوجها ثم تقدمت من شقيقتها قائلة بحنان وقلق عليها:
-متأكدة إنك كويسه؟.. أنا عايزة أقعد معاكي يا هدير هيكون أحسن
أجابتها بحزم وقوة:
-أنا كويسه يا مريم متقلقيش اطلعي
خرجت "مريم" خلف زوجها وتركتها وحدها، لم تكن تريد ذلك فهي تعلم أنها ليست على ما يرام، ليست بخير أبدًا، عينيها تتحدث نيابة عن شفتيها وكل ما بها ينطق بالألم والقهر الذي تعرضت له، تشعر بكم الحزن الذي يجتاحها، قلبها يشتعل لأجل شقيقتها وعينيها بُهتت بحزن طاغي لما تواجهه منذ وفاة والدهما، إلى اليوم لم تستطع أن تشعر بالراحة قليلًا حتى بعد زواجها من "جاد"..
أترى كم الحزن الذي تشعر به لأجلها! هناك منه أضعاف مضاعفة في قلب شقيقتها، هناك ما لم تعرفه هي يومًا، تشفق عليها وتود لو تحمل عنها القليل من الألم والضعف، تود لو تحمل عنها القليل مما تمر به ولكنها لا تسمح لها بذلك.. لا تسمح لها بالبقاء معها حتى..
كيف يمكنها أن تساعدها في مثل هذه المصيبة التي تمر بها.. ليست وحدها بل هذه مصيبة وقعت على العائلة بأكملها تهدد جمعهم، تهدد وجودهم مع بعضهم، تهدد كل جميل كان بينهم..
وقفت "هدير" من خلفهم وتقدمت بعد خروجهم تغلق الباب عليها بأحكام، أغلقته بالمفتاح عدة مرات وتركته في المزلاج، استدارت تستند على الباب تنظر إلى الشقة الفارغة عليها من كل إتجاه.. حان وقت الإنهيار لقد صمدت أمام الجميع كثيرًا..
دون صوت!. دون حركة واحدة تصدر منها خرجت الدموع بصمت تام من عينيها العسلية باكية على نفسها قبل "هدير" عينيها تبكي لأجل ما شاهدته ووقعت به، وقعت على الأرضية تجلس خلف الباب وشعور القهر يلازمها، الرهبة والضعف الشديد..
والخوف زحف إلى قلبها بمهارة عالية، إنها لم تشعر بالخوف يومًا، وجوده كان يغنيها عن كل شعور سيء، رغم كل ما مرت به معه إلا أنه كان كل شيء لها ومازال، لن تزعجه مرة أخرى عند عودته، ستكون هي مكان راحته وأمانه.. ستكون كل ما يحتاجه حتى وإن كان على حساب نفسها..
"جاد" رجل لا يقدر بثمن، ليس هناك مثله ولن يكون هناك، في جلستها وأثناء تفكيرها به عادت إلى رأسها صورة لها وذلك الحيوان يقوم بالتهجم عليها وهنا ازداد البكاء والقهر، كيف له أن يقوم بفعل شيء كهذا وهي إمرأة ضعيفة للغاية!.. تظهر شراستها في الحديث والصوت العالي غير ذلك فلا يوجد..
لو لم يأتي "سمير" لكانت الآن مع الموتى!.. لن تستطيع إبعاده ولن تستطيع فعل أي شيء معه، قوته تضاعفها أكثر من اللازم، كيف له أن يكون هكذا، رجل كبير ولديه زوجات وأطفال، كيف له أن يكون هكذا؟..
كيف له أن يستحل ما حرمه الله عليه ويسرق حلال رجل آخر؟ كيف له أن يهتك عرضها بهذه الطريقة البشعة الحقيرة، التي لو كانت حدثت كانت ماتت من بعدها..
حمدًا لله على نعمته، في كل آخر لحظة يرسل لها المنقذ ليغير حياتها ويسترد ما كان سيقع منها في وادي الذئاب..
وقفت على قدميها تمسح على وجهها بحدة بكفي يدها، تقدمت إلى الداخل تسير متجهة إلى غرفة النوم، دلفت إليها ووقفت أمام الفراش تنظر إليه بغل وكره بسبب ذلك البغيض الذي جلس عليه، تقدمت وبقوة جذبت الملاءة الموضوعة على الفراش وألقتها بعنف على الأرضية، ثم جذبت مفروشات الوسادة هي الأخرى وتركت الفراش هكذا..
استدارت وأخذت العباءة التي كانت ترتديها وقميصه القذر ثم وضعته معهم وأخذتهم إلى الخارج تضعهم في سلة القمامة!.. لا يجوز أن يبقى رائحة أو ملمس لرجل آخر في بيت "جاد الله"..
عادت تدلف إلى المرحاض ثم وقفت أسفل صنبور المياة بعد أن تخلصت من ملابسها، تتهاوى المياة عليها من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها، تود التخلص من أي لمسه قد تكون حدثت من قِبله، تود محو كل ما حدث لتستطيع مقابلة زوجها في الغد دون أن يكون هناك ذكرى تشوب عقلها أو جسدها..
أخذت تمسح بيدها بقوة على وجهها تمحي أثر صفعاته التي تركت علامات واضحة بقوة، تمحي كل جرح ترك ندب من خلفه..
انتهت من كل ذلك وخرجت ترتدي ملابسها وأخذت زجاجة العطر الخاصة به ونثرت منها في أنحاء الغرفة لتكون رائحته في كل مكان، مرة أخرى تتقدم إلى الخزانة تفتحها تأخذ منها قميص لزوجها الحبيب به رائحته الرجولية المعهودة منه، وتقدمت إلى الفراش تصعد عليه تأخذ قميصه في أحضانها تستنشق رائحته وكأنه ينام معها وجوارها.. لم يرحل لأي مكان
مازالت الدموع تخرج ولن تتوقف الليلة!..
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
ذهبت "هدير" مع "سمير" لزيارة "جاد"، هو يوم واحد فقط الذي غاب به عنها ولكنه بالنسبة إليها كعام مضى دون رؤيته والنظر إلى رمادية عينيه الساحرة، عام مضى لم تشعر بالراحة والسكينة جواره..
جلست مقابل "سمير" أمام مكتب الضابط الذي خرج من الغرفة وتركهم ينتظرون "جاد" لرؤيته والتحدث معه وإليه، والتشبع من نظراته وكلماته..
لحظات تمر كالأيام والاشتياق قاتل والإنتظار مرهق، تنظر على الباب المغلق منتظرة لحظة دخوله إليهم، عينيها تتخيل رؤيته يدلف الآن، لم يدلف! الآن سيكون هنا!.. لا، مازالت تتخيل محاولة قتل هذه الدقائق واللحظات الكريهة لتراه.. لتقع عينيها على مُعذب الفؤاد..
وفي تلك اللحظة بالضبط حضر على ذكر مُعذب الفؤاد وفُتح الباب ليطل منه بهيئته التي مازالت أجمل من الجمال نفسه مهما حدث به..
وقف "سمير" سريعًا يتقدم منه يحتضنه بقوة ليبادله الآخر العناق ناظرًا إلى زوجته التي مازالت تجلس باشتياق جلي غريب غرابة ما يحدث هذه الفترة..
-عامل ايه يا جاد
ابتسم "جاد" بهدوء وكأن ليس هناك شيء يزعجه ولم يشعر بالخوف أبدًا مُجيبًا إياه:
-الحمد لله بخير
عاد "سمير" للخلف قائلًا بجدية وأمل يود أن يبثه فيه هو الآخر:
-متقلقش خير إن شاء الله.. المحامي طمني يا جاد وبإذن الله هتطلع منها
أومأ إليه برأسه عدة مرات متتالية ونظراته تبتعد منه إلى حبيبته التي تريد أن تنال جزء منه هي الأخرى، هتف "سمير" مرة أخرى:
-مش محتاج أي حاجه يا جاد؟.. إحنا جبنا معانا حاجات بس أنتَ لو محتاج حاجه قول
عاد بنظره إليه بعد أن أبتعد عن زوجته قائلًا بجدية وضيق مضحك:
-ياض مش عايز حاجه أخفى من وشي بقى
أنهى حديثه بغمزة عين تحمل مراوغته الرائعة المفتقدين لها جميعًا، ابتسم "سمير" بتفهم ثم استأذن منهم ذاهبًا إلى الخارج..
وقفت على قدميها فور خروجه، تنظر إليه بعينين دامعة، حزينة، مرهقة لأبعد حد، أقترب منها بهدوء ناظرًا إليها باشتياق قاتل وحب كبير يتضاخم داخله، الابتسامة على وجهه لم تبتعد عنه، جسده كما هو وطوله كما هو لم يحدث له شيء هو على ما يرام وهيئته كما هي إذا لا يحدث ما تراه في التلفاز مؤكد.. أي غباء هذا الذي تفكر به!..
أقترب إلى أن وقف أمامها مباشرةً فلم تعطي إليه الفرصة لا بالحديث ولا أي شيء آخر، ألقت نفسها داخل أحضانه تنعم بها فقد حرمت منها وبالقوة، وجدها تدس نفسها داخله تتشبث به كطفلة خائفة من أحد يأخذها من والدها عنوة..
حاوطها بذراعيه الصلبة بقوة كبيرة يقربها إليه أكثر شاعرًا بالدفء والحنان ينبثق من ذلك العناق، ولم يكن يحتاج إلا لهذا..
تنهد بصوتًا مسموع وهو يشتد بيده عليها ليشعر بالحب أكثر والراحة تتضاعف معه، ليشعر بأنه في منزله مع زوجته في وسط أهله، وليكون كل ما يمر به كابوس شاهده عندما خرج من أحضانها..
شعر بها تبكي وترتعش على عضلة قلبه، ترتعش وشهقاتها تظهر مرة وتختفي الأخرى ومازالت تتشبث به بقوة غير تاركه له مجال ينظر إليها حتى..
أنزل يده من حولها وحاول أبعادها لينظر إلى ملامحها ويتحدث معها ولكنها متمسكه به بقوة شديدة ولا تريد الإبتعاد عن ذلك الأمان المنبعث منه..
أردف بصوتٍ رخيم وهو يحاول جذبها بعيدًا عنه ليرى وجهها:
-هدير!.. بُصيلي
حركت رأسها بالنفي على صدره فابتسم بهدوء قائلًا بمرح محاولًا إخراجها مما هي به:
-ياه للدرجة دي مش طايقة تبصي في وشي
عادت للخلف بهدوء ووجهها ينظر إلى الأرضية فرفعه بيده بحنان بالغ يرى تلك الوردة الحزينة الباهتة، التي بهتت أكثر عندما تركها وذهب، وضع إصبعه الإبهام على وجهها يمسح دمعاتها بحنان:
-بلاش عياط.. أنتِ شيفاني هنعدم يعني!
هتفت بسرعة وقوة ناظرة إليه بحدة وهي تبعد يده عنها:
-بعد الشر عليك
ضحك وظهرت أسنانه بقوة يهتف بحماس:
-أيوه كده هي دي مراتي
أظهرت الضعف الذي داخلها وقلة حيلتها في غيابه وعدم الأمان الذي هجم عليها:
-وحشتني أوي يا جاد.. مش عارفه أقعد من غيرك، حاسه إني خايفة ومرعوبة مش حاسه بالأمان وأنتَ بعيد عني
أقترب يضع وجهها بين كفي يده قائلًا بحنان بالغ وعينيه تتحرك على عينيها بعمق:
-وأنتِ كمان وحشتيني أوي بس أنا مش عايزك تخافي الكل معاكي هناك محدش يقدر يكلمك وبعدين أنا سايب راجل ورايا... اومال كنتي منشفاها عليا ليه الله
أكمل حديثه مازحًا مستنكرًا ما كانت تفعله معه، فأجابت بقوة وهي تتذكر أفعاله ثم بضعف ولين:
-مهو من عمايلك.. بس خلاص أعمل اللي تعمله والله مش هتكلم نهائي
عينيه ترسل إليها كلمات الحب كل لحظة والأخرى غير شفتيه التي تحركت باغراء لها قائلة:
-مش هعمل حاجه يا هدير... غير إني أحبك
ابتسمت وهي تندمج في الحديث محاولة تناسي كل شيء والوجود معه فقط، تسائلت باستفهام:
-تفتكر مين عمل كده يا جاد
أخذ يده الاثنين مبتعدًا للخلف قليلًا ناظرًا في الفراغ بعد أن أدار رأسه بشرود:
-لأ مفتكرش أنا عارف ومتأكد
تسائلت باستغراب جاد وهي تراه يعلم من الذي فعلها، أهو "مسعد"؟
-مين؟
-كاميليا
إجابته لم تكن في الحسبان، لم ترد عليه بل أكملت نظرها بذهول تام وصدمة كبيرة احتلتها، "كاميليا" من كانت تخاف منها! التي كانت تخاف أن تسرق زوجها هي من زجت به في السجن:
-مالك مذهولة ليه.. والله هي
مرة أخرى تتسائل بصدمة وعينيها مُتسعة تنظر إليه:
-ليه؟
تنهد بعمق يُجيبها متذكرًا ما الذي كانت تريده تلك الغبية غريبة الأطوار التي لا تعرف دين ولا أخلاق:
-كانت نيتها وحشة زي ما قولتي ولما رفضت نيتها السودة اللي زيها دي لبستني قضية أهو
-وكانت عايزة ايه
لن يفيد بشيء الحديث عنها، إنها رحلت وحدث ما حدث ولكن إن خرج من هنا فلن يكن هذا هو تفكيره، سيتغير لا محال:
-مش هيفيد بحاجه الكلام ده
أعادت سؤالها مرة أخرى مصرة على معرفتها ما الذي كانت تريده منه وقام برفضه ثم بعد ذلك يدعوها إلى أن تجعله يسجن في مثل هذه القضية:
-كانت عايزة ايه يا جاد
بمنتهى البرود أجابها:
-اتجوزها... ارتاحتي!..
اتسعت عينيها أكثر بصدمة أكبر لأنها على علم بأن تلك المرأة متزوجة بالفعل:
-دي متجوزة!..
أردف بضيق وضجر، لا يريد الحديث عنها، لا يريد ذلك:
-ست مجنونة، وأنا مش عايز أتكلم عنها ممكن؟، قوليلي عامله ايه كويسه؟.
تنهدت بحزن تُجيبه وهي تقترب منه:
-هبقى كويسه إزاي وأنتَ بعيد
ابتسم قائلًا بمرح ومزاح محاولًا الخروج بها من هذا الجو الحزين الذي يسيطر عليهم:
-بلاش دراما بقى شكلك مبسوطة أصلًا
استنكرت حديثه وضربته في صدره بخفة تهتف:
-أخص عليك دا أنا هموت علشانك
مرة أخرى يقول بمرح يغمز لها بعينيه متذكرًا حديثهم في السابق:
-اوعي انطس حكم جامد تقومي تطلقي وتاخدي فلوسي
-أنت رخم أوي على فكرة
أقترب يضع يده الاثنين خلف خصرها يقربها إليه يقف أمامها يمزح بمرح خافيًا ألامه في هذا اللحظات:
-ما أنتِ عارفه كده يا وحش
وضعت يدها الاثنين هي الأخرى على صدره تبتسم بسعادة متذكرة مناداته لها بهذا الاسم الذي افتقدته:
-تصدق وحشتني الكلمة دي
بعينيه الرمادية يغمز إليها ملقيًا عليها كلماته ذات المعانى الكثيرة:
-أطلع من هنا بس ونصفي اللي بينا ده وهخليكي تفتكري كل حاجه كان بيعملها الوحش معايا
نفت حديثه عن كون هناك تصفية بينهم، فهي لو كانت تريد معاقبته بعد ما علمته الآن منه وبعد أخذه منها لن يكون هناك تصفيات أبدًا:
-لأ نصفي ايه.. أنا خلاص نسيت أي حاجه حصلت ومش فاكرة غير إني بحبك
أقترب منها "جاد" يطبع قبلة رقيقة على شفتيها بعد الاستماع إلى كل هذه الكلمات التي تستفزه كثيرًا وتطالبه بفعل المزيد ولكنه لا يستطيع فعل ذلك..
نظر إلى وجهها بعمق وهو يعود للخف ثم هتف عندما لاحظ احمرار وجنتها عن الأخرى وكأن هناك علامات بها:
-وشك ماله أحمر كده
ليس عليها أن تتوتر، إنه يتسائل فقط، إن توترت سيفهم كل شيء لأنه يعرفها جيدًا، اصطنعت أنها لم ترى هذا وأنه من الأساس ليس هناك شيء:
-ماله؟ مافيش حاجه
نظر مرة أخرى بدقة على وجنتها يشعر بأن هناك احمرار حقًا وقال مُجيبًا إياها باستغراب وجهل ما بها:
-مش عارف أحمر كده
تعمقت بعينيه ونظرتها حنونة وصوتها هادئ يقتله:
-لأ عادي يا جاد مفيش حاجه
مرة أخرى ينظر إليها بعمق وشغف مجنون وداخله يحترق لأجل ذلك البعد الذي بدأ منذ أيام ليس الآن فقط، أقترب مرة أخرى يقبلها تحت اعتراض منها قائلة:
-حد يفتح الباب
بكامل البرود واللامبالاة أجابها مقتربًا أكثر تاركًا كل شيء خلفه مقررًا فعل ما يريده:
-اللي يفتح يفتح هي موته ولا أكتر
عاد ليفعل ما نوى فعله محاولًا أخذ ما يريد قدر المستطاع فبعد هذه المرة لا يدري ستحدث مرة أخرى أم لأ.. على الأغلب لن تحدث ثانيةً.. فلا يوجد شيء يبشر بالخير أبدًا.. إلا إن حدثت معجزة أخرجته من هنا..
#ندوب_الهوى
#الفصل_السابع_والعشرون
#ندا_حسن
"عاد فصل السعادة"
عادت "هدير" مع "سمير" مرة أخرى إلى الحارة بعد أن التقوا بـ "جاد"، تود فقط لو يعود معها إلى المنزل! طلب صغير للغاية لن يكلف فعله، تريده فقط، ولكن للقدر رأي آخر، رأي يقتلها كل ثانية وأخرى تمر عليها بدونه، وليس هناك أي مؤشرات تدل على خروجه الآن إذًا ما الذي سيحدث؟ وإلى متى سيكون في هذه الورطة مُتهم بشيء بشع كهذا وهو نقي لا يفعله أبدًا، بريء والجميع متأكد من ذلك.. ما الحل؟..
تذهب إلى "كاميليا"!؟ تطلب منها السماح وكما فعلت ذلك تعفو عنه وتعود عما برأسها؟ ولكن كيف لقد تم القبض عليه وبحوزته هذه الأشياء ما الذي تفعله هي إذًا، من المستحيل أن تعترف عن نفسها بأنها من فعلت ذلك؟..
لقد توقعت أن يكون "مسعد" من فعلها لينتقم لنفسه بعد الذي فعله به "جاد" كثيرًا من المرات وأمام الجميع، لم يخطر على خلدها أن هذه الحية هي من فعلت ذلك..
يجب أن يكون هناك حل، "جاد" بريء مُتهم بشيء لم يفعله، مؤكد سيكون الله معه وسيخرج عن قريب، هذا اختبار كما قال لها وعليهم التحلي بالصبر والدعاء المستمر.. عليهم التقرب من الله، وأن يكون هناك يقين وإيمان بأن كل شيء سيكون على ما يرام مادام الله معه وبجواره.. مادام هو لم يفعل إلا الخير لن يعطيه الله سوى أكثر من الخير خيرًا..
دلفت "هدير" منزل والده بعد أن صعدت إليه لتكون بالقرب من والدته وجعلها تطمئن على ولدها فهي منذ الذي حدث وإلى الآن وبعد الآن تشعر بالحزن والقهر الشديد على ولدها ولوعة الفراق والخوف تدب داخل قلبها بشدة..
دلفت إليها بعد أن فتحت الباب لها، فابتسمت "هدير" أمامها بعذوبة ووجه بشوش كما قال لها زوجها لتجعلها تطمئن دون خوف بعد الآن، أقتربت منها والدته "فهيمة" بلهفة بعد أن رأت تلك الابتسامة على وجهها تهتف بحماس:
-ايه جاد هيخرج؟
أقتربت منها وأغلقت الباب ثم دلفت معها إلى الداخل تقول بنفس الابتسامة والهدوء:
-قولي يارب
جلست على الأريكة مقابلة لها وحددت نظرات عينيها على وجهها قائلة بهدوء:
-بقول والله يا هدير.. بقول يا بنتي
ثم مرة أخرى تكمل حديثها بقوة تنتظر منها كلمات تجعلها تشعر بالفرح وتخرج من ذلك الحزن تنتظر عودة ولدها إليها مرة أخرى:
-قوليلي أنتِ بقى.. هيخرج؟
بادلتها زوجة ابنها النظرات في البداية بهدوء وخجل وهي لا تود أن تكسر بخاطرها، تحدثت بجدية ثم وضعت كف يدها أمام مقدمة صدرها تهتف بإيمان:
-جاد بريء يا ماما فهيمة وأنا عندي إيمان ويقين إنه هيخرج في أسرع وقت
تسائلت بيأس ونظرة أمل خائبة بعد حديثها وقد فهمت أن الوضع بقي كما هو عليه:
-يعني مفيش أخبار تانية
انتقلت لتجلس جوارها ثم أخذت كف يدها بين يداها الاثنين تقول بهدوء وهناك أمل يعبث داخلها منذ أن رأته ووقعت عينيها عليه:
-لأ يا ماما فهيمة بس جاد قالي اطمنك وأنا والله مطمنة وحاسه إنه هيخرج متقلقيش.. ربنا مش هيسيبه لوحده أبدًا
حركت رأسها من الأعلى إلى الأسفل متحدثة:
-ونعم بالله يا بنتي
رفعت نظراتها مرة أخرى تتسائل بلهفة وقلق زائد وقلبها يدق لأجل فرحة عمرها الغائب عنها:
-طب هو عامل ايه؟ كويس كده وحلو
ابتسمت لها زوجته مُجيبة إياها:
-كويس وزي الفل ومش ناقصة حاجه غير شوفتك
أدمعت عيناها بقوة وهي تنظر إلى الأرضية تبتعد عنها بنظرها تهتف بقلة حيلة وحزن طاغي:
-يا قلب أمك يا ضنايا
قضبت "هدير" جبينها ونظرت إليها بحزن هي الأخرى وقلبها يدق عنفًا وقد كان ارتاح قليلًا ولكن حديث والدته لا يود ذلك، أقتربت منها أكثر قائلة باستنكار:
-في ايه بس هو أنا بقولك كده علشان تعيطي
رفعت نظرها إلى سقف الغرفة تهتف باستهجان وضيق:
-كان مستخبلنا فين بس ده كله يارب
اردفت "هدير" قائلة بحنان وترجي لكي تصمت عن ما تقوله وتتفائل خير بعودته:
-خلاص بالله عليكي يا ماما فهيمة أنا جاية من عنده فرحانه ومتفائلة.. بإذن الله هيخرج
مرة أخرى بقلب أم يحترق خوفًا ولهفتًا على فرحة عمرها وولدها الوحيد دعت قائلة:
-يارب.. يارب يخرج وأشوفه قدام عنيا النهاردة قبل بكرة ويرجع بيته وسط أهله ويفرحه بشبابه قادر يا كريم يارب
آمنت على حديثها داعية الله داخلها مثلها بالضبط ثم قالت بيقين وأمل وهي تنظر إليها لتجعلها تطمئن وتبعد ذلك الحزن عنها:
-آمين يارب، هيرجع... هيرجع إن شاء الله
أكملت بابتسامة ومرح حاولت تصنعه فقط إكرامًا لزوجها وحبيبها وكي تمنع الحزن عن قلب والدته حبيبته:
-ولحد ما يرجع بقى أنا هقعد معاكم هنا
تسائلت باستغراب ودهشة فهي قد طلبت منها ذلك كثيرًا ولم توافق:
-بصحيح؟
أومأت برأسها مؤكدة عدة مرات مُبتسمة:
-آه والله أنا استأذنت جاد وهو وافق وقالي إنه كان عايز كده كمان
تسائلت والدته "فهيمة" هذه المرة تضيق عينيها بعد أن قالت أن"جاد" أراد ذلك:
-هو عرف باللي عمله مسعد؟
أسرعت "هدير" تُجيبها بالنفي مؤكدة على عدم معرفته وأنه لا يجب أن يعرف من الأساس:
-لأ.. لأ مايعرفش حاجه ومش هقوله أي حاجه
أومأت والدته مؤكدة حديثها هي الأخرى قائلة بحزن:
-عندك حق كفاية اللي هو فيه
نظرت "هدير" بعينيها في الأنحاء المتاحة لها في جلستها وتسائلت بجدية عن والده:
-اومال فين الحج
أجابتها وهي تعتدل في جلستها محركة يدها وهي تتحدث:
-نزل يشوف المحلات مع الحج عطوة حالهم وقف وسمير بيجري من هنا لهنا علشان جاد
أكملت وهي ترفع يدها الاثنين أمام وجهها تهتف بحرقة كبيرة داخلها:
-منه لله اللي كان السبب في وقف حالنا، الورشة اتقفلت وضنايا اتحبس.. إلهي يوقف حالك يا اللي كنت السبب في الخراب ده
ربتت "هدير" على فخذها مُتمتمة:
-إن شاء الله خير.. بإذن الله
حركت والدته جسدها وهي تهم بالوقوف:
-أنا هقوم أصلي يابنتي وادعي لجاد ربنا ياخد بايده
تعلقت "هدير" بحديثها تؤكد عليها ذلك فدعوة الأم معروف أثرها في الحياة والممات:
-آه ادعيله يا ماما فهيمة ادعيله ربنا يفك كربه..
أكدت حديثها بوجه باهت وقلب مفتور ولسان ليس عليه سوى الدعاء لابنها:
-بدعيله من غير حاجه يا بنتي
وقفت "هدير" هي الأخرى بعد أن رأتها تقف أمامها تتجه إلى المرحاض لكي تقوم بالوضوء والصلاة وقالت بجدية:
-أنا هروح الشقة أجيب لبس ليا وهاجي أقعد في اوضة جاد
غرفة حبيبها وروحها وكل ما تملك، لقد كان ينام بها عندما مرض والده، ليس من فترة بعيدة مؤكد رائحته داخلها تعم الأرجاء وحتى لو لأ ستأتي بقميص له وعطره ليبقوا معها إلى حين عودته
أردفت والدته بحب وهي تبتسم لها ابتسامة مصطنعة بالكامل وهي تعرف ذلك ولكن هذا تحسن جيد:
-ماشي يا حبيبتي براحتك
ابتعدت "هدير" ذاهبة إلى باب الشقة وحقيبتها معها تتقدم منه لتذهب إلى شقتها:
-عن اذنك
ستأتي بما تريد منها ولتأتي بما تريده ويخصه هو ثم تعود إلى هنا تجلس مع والديه حتى لا يشعرون بغيابه عنهم، لتكون مكانه إلى حين عودته، مؤكد لن تكون مثله ولكن فقط لتخفف عنهم كما طلب منها وطلبه سيف على رقبتها ستنفذ ما أراد ومهما كان هو..
❈-❈-❈
مرة أخرى يعود "سمير" مع محامي جاد إلى النيابة العامة والفرحة داخل قلبه تدق طبولها بقوة كبيرة وعنف شديد ولا يرى أحد أمامه بعد رؤيته لشريط الكاميرا الموضوعة على ورشة "جاد"من الخارج..
والذي أتوا به منذ الصباح وأظهر دلوف "عبده" وهو يقوم بفتح الورشة قبل "جاد" ثم بعدها أتى إليه "جاد" ساعة وأخرى ولم يأتي أحد من العاملين معهم فخرجوا هم الاثنين من الورشة معًا، غابوا عنها ما يقارب الربع ساعة والورشة لم يدلفها أحد إلى حين!!..
إلى حين ظهور مسعد والذي كان واضح للغاية من حسن حظ "جاد" وهو يقف أمام بابها يتلفت يمين ويسار ناظرًا إلى الأعلى والأسفل خائفًا أن يراه أحد ونظر إلى الكاميرا بوضوح دون دراية أن هناك كاميرا مخفية من الأساس وقد استغل وجودهم داخل المقهى الشعبي بعد أن تأكد من ذلك بنفسه وتأكد أن ليس هناك أحد بها ثم وهو يقف على الباب من الداخل بعد أن تقدم ومازالت الكاميرا تستطيع أن تأتي به قام بالقاء ذلك الكيس الأبيض الذي وجدوه بين أدوات عمل "جاد" وكان به البو'درة ذلك السم المشؤوم..
ومن بعدها سار رافعًا رأسه بعد أن نفض يديه وخطى خطواته بعنجهية وغرور وذهب من أمام الكاميرا، يا له من خبيث ماكر، الشر يأتي من عنده بنظرة أو بكلمة، ألقى هذا السم في قلب "جاد" لكي يتخلص منه وينال ما أراد أخذًا حق ليس حقه ولكن عندما قرر فعلتها لم يخيل له شيطانه أن ابن عمه سيكون هنا مكانه وأن زوجته لن تستسلم له بهذه السهولة بل سيرى كل مُر على يدهم وقد حدث بعد تسليمه واتهامه بالتعدي على المنزل وسرقته في وجود الشهود من الحارة وزوجته وشقيقتها وابن عمه الذي تولى مكانه من بعده إلى حين عودته والآن ستكثف العقوبة حتى يعلم أن البيوت لها حرمة الجميع يقف عندها ومن قبلها.. عليه أن يتعلم ما لم تعلمه له الحياة في بقية سنوات عمره الذي سيقضيها داخل السجن بعد كل ما فعله..
❈-❈-❈
ذهبت إلى شقتها تأتي باغراضها التي ستحتاج إليها في جلستها مع أهله إلى حين عودته، إنها متفائلة هذه المرة عن حق تشعر أن الله لن يخذله ولن يتركه وحده بين هذه الحفرة العميقة الذي وقع بها..
سيخرج وسيعود إلى مكانه وبيته وأهله رافعًا رأسه بين الجميع، وضعت يدها على أدويتها وهي تأخذها، تذكرت أمر حملها الذي إلى الآن لا يعرفه! عليه أن يعرف في أول مقابلة له ستخبره لن تخفي الأمر عنه أكثر من ذلك، وكيف هي نسيت هذا الأمر من الأساس وكيف نسيت إخباره اليوم على الأقل كان هذا سيكون الأمل له فوق أمله في الخروج..
لقد نسيت من الأساس أمر حملها وكل ما تذكرته هو "جاد" فقط، ذكرتها شقيقتها سائلة إياها لما لم تخبره وتخبر الجميع ولكنها اعترضت في ذلك اليوم قبل القبض على "جاد" مستمرة في تعذيبه ولم تكن تعلم ما الذي فعله مع "كاميليا"..
لقد أصرت عليه أن يقص عليها كل ما حدث بينهم وما قالته وما أجاب به وفعل ذلك وشعرت بكم كبير من الخجل من نفسها لما ظنته أن هناك ما يخفيه عنها، تثق به ولا تثق بأحد غيره وتعلم أنه من المستحيل أن يؤذيها ولكن غيرتها وكذبه وتلك المرأة احتلوا عقلها وجعلوها تفعل شيء مثل هذا، تحرمه من معرفة أنه سيكون والد لطفل..
كل ذلك في لحظاته كان صعب للغاية عليها ولا تستطيع تقبله وكرد فعل منها أخفت ذلك عنه لتعلم ما الذي سيفعله وما الذي يريده ولكنه أخجلها عندما علمت أنه قابلها فقط لحذف كل شيء حتى قبل أن يكون موجود، الجمت الصدمة لسانها وجعلتها تتناسى أخباره وهي هناك معه ولكن هي ليست حزينة بل تشعر بالأمل وستقول له وهو هنا في بيته ومنزله وسيكون هذا عن قريب ليشعره بالفرحة الأكثر من كل شيء، عهد تأخذه على نفسها الآن أنها لن تزعجه مهما حدث وستكون نعمة الزوجة الصالحة له، كل ما مر عليهم اكتشفت أنه حدث بسبب عدم الحديث والمواجهة، لقد كان "جاد" كتوم في كثير من الأوقات على عكسها ولكنها أيضًا أحيانًا كانت تفعل ذلك ومن اليوم فلتعتبر أنه قد مُحيا وهناك بداية جديدة لهم سويًا..
دق جرس الباب فوقفت على قدميها متجهة لتفتحه وعندما فتحته ظهر من خلفه "جمال" شقيقها ينظر إليها بلهفة وقلق مرتسم على ملامحه ثم دلف خطوة وتحدث:
-هدير صحيح جاد اتقبض عليه؟
لقد كان في الإسكندرية في نفس اليوم الذي تم القبض به على "جاد" أخبرها قبل رحيله أنه ذاهب بسبب نقله لفرع المطعم الآخر هناك والذي يعمل به، أشارت إليه بالدخول وتحدثت وهي تغلق الباب:
-أيوه يا جمال اتقبض عليه بتهمة التجارة في الزفته البود'رة
رفعت نظرها عليه وهي تجلس على الأريكة مقابلة إياه تسائلة باستغراب بعد أن استوعبت أنه لم يكن هنا:
-أنتَ رجعت ليه وعرفت منين
اعتدل في جلسته وتحدث بجدية رجل عاقل قائلًا:
-أنا لسه عارف النهاردة الصبح من أمي وأنا بكلمها مكنتش كلمتها من ساعة ما وصلت علشان تلفوني باظ وعلى ما غيرته ولما عرفت جيت جري
نظرت إلى الأرضية بحزن مُردفة:
-سبت شغلك وجيت ليه بس وأنتَ يعني هتعمل ايه يا جمال
وضع عينيه عليها بعمق ودقة قائلًا بنبرة واثقة ثابتة:
-لأ هعمل وهعمل كتير يا هدير وجاد هيخرج
رفعت نظرها إليه بعد أن استمعت نبرته الغريبة عليها والواثقة بخروج "جاد" وبأنه سيقوم بعمل شيء، تسائلت بجدية مثبتة عينيها عليه كالغريق الذي يريد النجاة بأي شيء أمامه:
-هتعمل ايه يعني
وقف على قدميه بعد سؤالها وتقدم ليجلس جوارها ناظرًا إليها بقوة يهتف بشيء لم تتوقعه أبدًا:
-أنا شوفت مسعد وهو داخل ورشة جاد قبل ما أمشي وكان معاه كيس وخرج من غيره ومكنش فيه حد في الورشة لأني وأنا ماشي عديت على جاد وعبده وهما في القهوة..
اتسعت عينيها بقوة وهي تعتدل بجسدها لتنظر إليه أكثر بوضوح تستمع لما يقوله بقوة وتفهمه عن حق، كيف "مسعد"؟ وماذا عن "كاميليا" تحدثت بجدية وقوة:
-بتقول ايه؟ قول تاني وبالتفصيل
أشار بيده وهو يروي لها ما حدث في ذلك اليوم عندما كان ذاهب إلى الإسكندرية، نظر إليها أكثر وبدقة تحدث:
-كنت خارج من البيت ويدوب مشيت كم خطوة ببص ورايا لقيت مسعد داخل ورشة جاد ومعاه كيس في أيده، استغربت أنه داخل كده عند جاد من غير حساب بس بعدها على طول مافيش دقيقة عدت وخرج فاضي كملت طريقي وأنا ماشي لقيت جاد وعبده في القهوة ورميت عليهم السلام وقولت يمكن حمادة وطارق هناك وهما اللي قابلوا مسعد بس مجاش في دماغي أي حاجه من اللي حصلت
دون تفكير أو ذهول منها أن "مسعد" من فعل ذلك، دون لحظة واحدة تفكر في شقيقها أو أي أحد آخر، ودون لحظة صدمة وقفت تصرخ بهمجية قائلة وهي تبحث عن حقيبتها:
-تلفوني، تلفوني فين... الشنطة فين
وقف هو الآخر وهو يراها تصيح هكذا تركض إلى الغرفة بالداخل ثم خرجت وبيدها الهاتف تلهث بعنف والابتسامة تظهر على شفتيها مرة وتختفي الأخرى، سألها باستغراب:
-طب بتعملي ايه
وضعت الهاتف على أذنها بعد العبث به بيدين ترتجف بشدة وقالت بسعادة ولهفة وقلق وحب ومشاعر لا تدري ما هي ولما توجد الآن:
-بكلم سمير.. سمير لازم يعرف علشان يقول للمحامي ويروحوا النيابة
أجاب عليها من الطرف الآخر معتقدًا أنها علمت بما حدث ولكنها لم تعطيه الفرصة للتحدث قائلة بلهفة وتخبط:
-سمير جمال أخويا رجع.. بيقول إنه شاف مسعد داخل الورشة يوم جاد ما اتقبض عليه وكان معاه كيس.. هو أكيد نفس الكيس اللي فيه البو'درة وأكيد هو اللي عملها
ابتسم الآخر من على الناحية الأخرى بسعادة غامرة وهو يُجيبها بلهفة مثلها وحماس لما هو آتي:
-وأنا معايا شريط كامل لمسعد وهو بيحط البو'ردة جوا الورشة.. الكاميرا جابته يا هدير وإحنا في النيابة دلوقتي
دمعت عينيها بشدة، وضعت يدها الأخرى على موضع قلبها الذي ازدادت ضرباته عنفًا وفرحةً تكاد أن تقتلها، وتسائلت بلهفة وشفتين ترتعش:
-بالله عليك بجد؟
-والله العظيم بجد
مرة أخرى تسائلت بعد أن بللت شفتيها بلسانها وقالت بلهفة وحنين:
-يعني جاد هيخرج؟
أردف من الناحية الأخرى بسعادة يود أن يجعلها تطمئن وترتاح إلى الآن فقد تعبت كثيرًا:
-كلها شوية إجراءات لو طولت آخرها بكرة وهيبقى عندك
صمتت ولم تتحدث فقط ذرفت عينيها الدموع بكثرة شاعرة بالسعادة المطلقة فقال "سمير" من الناحية الأخرى:
-المهم ابعتيلنا جمال دلوقتي على النيابة
مسحت دموعها بكف يدها قائلة بحماس:
-عنيا
أغلقت الهاتف ونظرت إلى شقيقها مبتسمة بسعادة وفرحة عارمة وكأنها الآن بين السحاب ثم هتفت مسرعة وهي تقترب منه:
-سمير في النيابة ومعاه تسجيلات الكاميرا ومسعد فيها وهو بيحط الحاجه
ابتسم بعمق حتى ظهرت أسنانه بقوة يهتف بالشكر لله:
-الحمدلله
-يلا روح بسرعة على النيابة سمير هيحتاجك
اختفى من أمامها ووصل إلى باب الشقة ناطقًا وهو عند عتبته:
-فوريرة
أغلق الباب خلفه بقوة فوقفت هي في منتصف الصالة تبتسم بسعادة واضعة يدها على قلبها والأخرى على بطنها مرحبة بمولودها الذي سيعرف والده بأمره عن قريب بعد أن يستقبلوه بفرحة..
على حين غرة أطلقت من بين شفتيها الزغاريد خلف بعضها بصوتٍ عالٍ ونفس طويل وسارت إلى الشرفة وفمها لم يصمت عن اطلاقهم، فتحتها ووقفت في الشرفة تكمل ما بدأته بفرحة كبيرة وكل من مر ينظر إليها باستغراب وخرجت والدته مقابلة لها تنظر إليها من شرفتها وفوقها زوجة عمه وهي مستمرة..
تسائلت والدته ووجهها يبتسم متوقعة ما الذي ستقوله عن خروج ابنها:
-في ايه يا هدير، جاد خرج؟
نظرت إليها وبصوتٍ عالٍ وابتسامة مشرقة زفت إليها الخبر قائلة:
-النهاردة.. بكرة بالكتير وهيكون هنا... جاد بريء واثبتوا براءته خلاص
على الناحية الأخرى وفور الاستماع إلى هذه الكلمات بدأت والدته بإطلاق الزغاريد مثلها ومن الأعلى زوجة عمه ووالدتها في الأسفل بعد الاستماع إلى حديثها..
فرحة عارمة اجتاحت القلوب بعد معرفة خبر خروج "جاد" الرجل التقي الصالح، انهالت عليهم المباركات من الجميع في الأسفل وفي شرفات المنازل وكم كان "جاد" محبوب منهم..
أغلقت "هدير" الشرفة وأخذت عباءة بيتيه فقط لها وخرجت ذاهبة إلى منزل والدته لتقوم هي بالاتصال بوالده وتبليغه بما حدث ليذهب الحزن منه وليبتعد عنهم فهذا يكفي وبعدها تصلي ركعتين شكر إلى الله على نعمة الكثيرة هذه..
متناسبة أمر التفكير في مسعد وكيف "كاميليا" هي من بلغت عنه؟!
❈-❈-❈
"في المساء"
ذهبت الشمس وعم الظلام على الأرض ومن عليها، ينير القمر محاولًا محو تلك الظلمة المتوحشة ولكن لا يستطيع فعلها وحده والبشر هنا يخفون ما كان أعظم داخل قلوبهم السوداء الذي تتماشى مع ظلمة السماء..
بصيص نور يحاول الدلوف إلى تلك القلوب كالنجوم في السماء ولكن حرارة القلوب ونارها المتشابهة مع الجحيم تمنع ذلك النور..
يظنون أنهم إلى الأبد سيعيشون بذلك السواد، من عاد عنه قد فلح ومن أصر عليه قد وقع في فخ من أعماله.. الله مُطلع ويرى كل شيء وإن غفا المحسنون عما يحدث لهم فالله سيعود بحقوقهم..
ومهما كان خطأك في الحياة فهي لها آخر ونهاية والآن قد حانت نهاية شر قد وُلد من داخل قلب أعمى بالحقد لا يعرف الحلال بصير بالحرام الممنوع وكما هو الممنوع مرغوب..
ولكن إلى اليوم لم تستطع الحصول عليه ولن تستطيع مهما حدث فمن تربى على ذكر الله لن يخرج عن طريقه أبدًا لن يترك طريق ينيره ضوء القمر كهدية من الله ليسير في طريق عتمة حالكة متعبة للأنظار..
وهو كان ذلك النقي الذي لم يقع بشرها، لقد خُدع وأخطأ ولكن حمدًالله على ما توصل إليه قبل فوات الأوان، عودته تعني له كل شيء..
في ظلمة الليل الذي تحدث عنها الجميع خرجت من سيارتها أمام إحدى العمارات السكنية الراقية، ومن الناحية الأخرى مكان مقعد السائق وعجلة القيادة خرج رجل آخر غير زوجها، فارع الطول وجسده رياضي ضخم، أغلق باب السيارة سريعًا وتوجه إليها بخطى واسعة عندما وجدها تستند على الباب بيدها الاثنين غير قادرة على غلقه وتترنح بقوة كأنها ستقع على الأرضية..
أمسك بها واضعًا يده حول خصرها والأخرى أغلق بها الباب ثم بهدوء سار معها إلى مدخل العمارة وهي تتبسم بطريقة غريبة وترقص بيدها عاليًا على أنغام صوتها البشع وكأنها، ثملة!!..
ثملة وتسير مع رجل غير زوجها، تدلف مكان ليس لها وسيغلق عليهم في مكان واحد وكم من الذنوب والمعاصي قد حملت في تلك الدقائق المعدودة..
من بعيد في نفس تلك الظلمة كان زوجها عادل يجلس في سيارته يتابع خطواتها معه إلى الداخل ثم نظر إلى السيارة بهدوء غريب وببطء شديد بدأت الابتسامة تظهر على وجهه!..
لما يبتسم! لأجل صعود زوجته مكان مغلق مع رجل آخر وهي ترتدي ملابس فاضحة وفي غير وعيها..
ابتسامته صفراء وكأن خلفها مكائد ومصائب يرتبها لها ولكن مهما كان ما حدث بينهم ومهما كانت إمرأة سيئة لا يجوز أن يفعل ذلك، لا يجوز أن يتخلى عن رجولته بهذه الطريقة المهينة تاركًا زوجته مع غيره في هذا الوقت وهذه الأثناء، بتلك الحالة الغريبة! ربما يكن معتاد منها على هذه الثمالة ولكن ليس هذا الوقت المناسب لتصفية الحسابات وليست هذه الطريقة أبدًا فهذه طريقة دنيئة لا تخرج من رجل يحمل صفات الرجولة الحقيقية أبدًا..
وبتلك النظرات والحركات التي يقوم بها مع هذه الابتسامة قد ظهر أنه هو من فعلها وهو من أراد أن يجعلها تقع في شر أعمالها بفضيحة كبرى أمام المتجمع بأكمله وليكن هو في موضع الضحية وبهكذا قد يكون نال منها بأبشع الطرق وأخذ حق مظلوم لا يدري بما خطط له..
❈-❈-❈
تم الإفراج عن "جاد الله رشوان أبو الدهب" ما لم يكن مطلوب على ذمة قضايا أخرى، كلمات بسيطة أدمعت لها الأعين، ورقصت لها القلوب الهشة من شدة فرحتها، وأصلبت الضعيف المنكسر بعودة حاميه..
كان معهم محامي ليس بهين التعامل معه، بذلك الدليل وكلمات "جمال" الشاهد على ما حدث من "مسعد" واعترافات كل من يعمل بالورشة وبعض الأشخاص من الحارة الذين تحدثوا عن الاسطى "جاد" بكل احترام وود..
ذكره الجميع بكم هو رجل يعرف الله، لا يريد سوى حلاله، أخلاقه عاليه، ولسانه طيب وليس من طبعه أن يفعل شيء كهذا بل كان دائمًا يحارب صاحب الأساس في هذا العمل وتحت أعين الجميع..
وبكلمات المحامي وخبرته في تلك الأمور وإثبات براءة "جاد" قد تم الإفراج عنه واحتجاز "مسعد" المحتجز من الأساس في قضية التهجم على البيت وسرقته..
بعض الإجراءات فقط التي سيقوم بعملها ثم يفرج عنه ويعود إلى حارته وموطنه الأصلي ويجلس داخل بيته مع أهله وزوجته رافعًا رأسه أمام الجميع قائلًا أنه مازال نقي..
حمد "جاد" الله كثيرًا ولم يكن السبب الأكبر أنه خرج! بل كان السبب في سعادته الكبيرة هو وقوعه في هذه الورطة التي أخذت "مسعد" بها، لو لم يكن حدث ذلك لكان "مسعد" حي يرزق في الخارج يخرب حياته ويلقي كلمات ليست لها داعي ولا تفعل معه أي شيء سوى أنها تعكر صفو مزاجه فقد كان هذا تدبير آخر من الله لينعم به عليه مع هذه النعم الكثيرة التي في حياته والتي أيضًا يعجز عن وصفها وشكر الله عليها ولكن هناك ما يعكر صفوه ويريد تفسير له، كيف "مسعد" من وضعها و "كاميليا" من قامت بالتبليغ عنه!..
الجميع يطير سعادة وفرحة وأمل بعدما علموا بهذا الخبر، انتقلت "هدير" إلى منزل والد زوجها وأتت شقيقتها هي الأخرى وزوجة عمه يجلسون مع والدته في انتظاره بعد أن بلغهم "سمير" أنه تم الإفراج عنه، قامت "هدير" بملئ الشارع من أوله إلى آخره بالزغاريد والفرحة على وجهها تنطق، لم تعد الكلمات تعبر عن أي شيء داخلها، جسدها يحكي ونظرتها تسرد وحركاتها تقول ما لم تقوله من قبل، أكل هذا التأثير منك يا "جاد الله"؟!.
زوجها وحبيبها، والدها وشقيقها، كل ما يلزمها بالحياة هو، ستحاول أن تفعل له كل ما أراد ولن ترد له طلب ولن تزعجه مهما حدث فقد أظهر لها بعدما قص عليها ما حدث منه ردًا على "كاميليا" كم هي بشعة في التفكير به..
ستكون كل ما أراد وستمحي كل ما مضى هذه المرة، حقًا هذه آخر مرة ستزعجه بها وستجعل حياتهم القادمة أفضل بكثير مما قد مر عليهم..
أما من كانت سعادته لا تضاهي شيء حقًا هي والدته، ولدها الوحيد وكبيرها وحبيبها، فرحة عمرها وكل ما انجبته من الدنيا كاد أن يسرق منها تحت أنظار الجميع في سكوت تام وليس هناك أي شيء تفعله لتعود به إلى أحضانها.. الآن حمدًا لله كثيرًا وأبدا..
حمد كثير على هذه الدموع الخارجة من الأعين وتلك الدقات العنيفة من القلب الخارجة بصوت عالي فرحة لأجل عودته حبيب عمرها وفلذة كبدها، لأجل عودته ليفتح ورشته ويفعل صوت للشارع والحارة ولكل مكان بهذه البلد بوجوده
لن نكون قادرين على سرد كم من شخص فرح وكيف كانت فرحته ولكن قادرين على قول أن الجميع طارت رؤوسهم في السماء مع الطيور ثم سحبت قلوبهم في البحار غير قادرين عن التعبير كيف تكون هذه الفرحة العارمة وكيف تصف..
❈-❈-❈
بعد نصف ساعة فقط من صعود زوجته إلى ذلك البيت بتلك العمارة قد حضرت عربات الشرطة للقبض عليها متلبسة في قضية شرف فعلها هو ولكن برضاء تام منها!..
كان كل شيء من تخطيطه، قام بكل شيء بدقة عالية وحرافية ممتازة كي لا يكون هناك أي ثقب يقع به وتخرج منه زوجته المصون.. كما قالت عنه طموح ويعمل بكثرة ليكون الأفضل وقد كان، عقله يعمل باستمرار ليخرج بحلول غير متوقعة وقد تركها تفعل ما يحلو لها إلى اليوم لتكن الضربة القاضية..
وقف في الأسفل رافضًا الصعود معهم متصنعًا الألم وكم أن رجولته مُهانه مطعون بها بسبب فعلة زوجته الدنيئة، علامات الانكسار مرتسمة على وجهه بوضوح شديد وكأنها حقيقية للغاية ولن تشكك بكونها مشاعر مزيفة..
وكم كان بارع في فعل ذلك وأصبح صوته ضعيف للغاية غير قادر على المواجهة..
الآن المواجهة الأصعب!، حضر قدر كبير من الصحافة المعروفة بالكاميرا يترقبون هبوط المذيعة الشهيرة "كاميليا عبد السلام" من منزل رجل آخر غير زوجها في قضية شرف.. ليكون حديث الموسم
بعد أن رآهم يتقدمون إلى أمام البنية دلف سيارته وبقى داخلها كي لا يزعجه أحد وهو لا يود التصريح بأي شيء الآن، تفكير شيطاني مميت استعمله بعد أن نفذ كل صبره منه تجاهها..
أخذ عقله في تذكر الأيام السنوات التي مضت عليه معها في عذاب مستمر وكأنه عقاب مميت من الله، إمرأة غبية كريهة لا تفكر إلا بنفسها والجميع في سلة القمامة..
لا يهمها إلا المظهر العام والشكل الخارجي، تريد أن تنظر إلى أي ذكر يسير أمامها وحتى لو كانت جواره، لا يهمها كونه زوجها وهي إمرأة متزوجة في عصمته، لا يهمها أي من كل ذلك فقط يهمها ما تريد ومهما كان ما هو، يتنافى مع الإسلام لا يهم يتنافى مع العادات لا يهم المهم أنه يرضيها ويجعلها تشعر بالراحة والسعادة كالذي تفعله في الأعلى بالضبط..
إهانته منها كانت من أشد العقوبات، أن يكون رجل حاضر كامل ويقف أمامها لتقول كم كان فقير لا يساوي أي شيء وهي من فعلت له كل ما هو به الآن، أن تقول له أنه ليس له أهل ولا أحد يعرف له هوية من أبشع الأشياء الذي حصل عليها..
هو من الأساس لم يحصل على شيء بشع إلا منها وحدها، الآن عليها أن تجني كل ما فعلته به، تعب كثيرًا إلى أن أخذ هذه الخطوة وأخذ في التخطيط ليفعلها ثم التنفيذ، كم ستبكي الآن! يوم! اثنين! عام! اثنين! ستبكي إلى المُنتهى فهذه فضيحة الموسم والتي سيتحدث عنها الجميع قريب وغريب وإن بقيٰ لها أحد التعامل معه فهكذا سيكون الله يحبها..
ابتسم بسخرية فمن الأساس لا أحد يطيقها بعنجهيتها وغرورها المعروف..
ضجة عالية جذبت عقله المنشغل لينظر من خلال زجاج السيارة ويرى عناصر الشرطة تهبط بها من أعلى درج العمارة الخارجي ملتفة في شرشف فراش كبير ومعها ذلك الرجل كمثلها بالضبط، يا له من شعور غريب، شعور بالانتشاء واللذة، يراها تبكي ووجهها ملطخ بكُحل الأعين أثر البكاء، عينيها بالأرضية وتتمسك بذلك الشرشف بكل قوتها وعدسات الكاميرا جميعها تصور بوضوح!..
لم ولن يقدر أحد ذلك الموقف كي يبتعد بل الجميع يتنافس للحصول عليه أولًا ليرتفع محلقًا في سماء الإبداع والتميز بعد حصوله على صورة ومعلومة كهذه لـ "كاميليا عبد السلام"
الجميع الآن يشكر الشخص الذي أعطى لهم الإخبارية بأن ذلك يحدث الآن ولم يكن سواه الذي تخلى عن النخوة بداخله وترك رجولته جانبًا لكي يأخذ حقه بأبشع الطرق منها راددًا حقوق ناس أخرى غيره..
صعدت في عربة الشرطة منكسرة عينيها لم ترتفع ولو لحظة واحدة ثم ذهبت من أمامه في لمح البصر والصحافة من خلفها..
عليه الآن أن يفكر في زوجته الأخرى حبيبته وأم أولاده القادمين..
فقد انتهت حكاية كاميليا معه هنا ومع الجميع بعد أن أخذت العقاب الأكبر في التاريخ، أخذ الله حق "جاد" وزوجته دون أدنى اهتمام ولا مجهود منه والله يرد الحقوق إلى أصحابها..
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
أخذت الإجراءات في الأمس وقت طويل فتم تأجيل خروج "جاد" إلى اليوم، وقد عاد "سمير" بالأمس فرحًا مُبتسمًا بسعادة ليجعل الجميع يطمئن بعد تأجيل خروجه، كان محقًا ليفعل ذلك بحديث ونظرات وحركات فرحة فقد شعروا بالاحباط مرة أخرى ولكنه قال للجميع بجدية أنه سيخرج اليوم بالتأكيد..
نامت "هدير" ليلة أمس في منزل والده داخل غرفته ومكانه بعد أن أغلقت شقتها جيدًا وتوجهت إليهم، من الصباح الباكر استيقظت هي ووالدته ليقوموا بطبخ كل المأكولات التي يحبها تعويضًا عن اليومين الذي قضاهم خارج منزله وموطنه الأصلي، مستعدين لاستقباله على أكمل وجه والفرحة لا تستطيع أن تصف كيف تكون داخل قلوبهم..
دق باب المنزل وهما في المطبخ، خرجت "هدير" إلى الصالة أخذه حجابها من على الكنبة ولفته على رأسها بأحكام ثم توجهت إلى الباب تفتحه بهدوء ناظرة إلى الأرضية وببطء ترفع عينيها لترى من الطارق!..
وعلى حين غرة كانت عينيها تتعمق داخل عينيه الرمادية الساحرة السالبة عقلها وقلبها وكل عرق نابض بها، ارتسمت الابتسامة على وجهها باتساع وأدمعت عينيها بقوة تاركة الباب الذي كانت تتمسك به متقدمة منه بقوة ملقيه نفسها داخل أحضانه متشبثة به بقوة شديدة..
دفنت وجهها جوار عنقه تضغط على أحتضانه قائلة بصوت خافت حاني يحثه على عدم تركها إلى الأبد:
-وحشتني يا حبيبي
تعمق هو الآخر باحتضانها ضاغطًا على خصرها وذراعيه ملتفه عليه مُجيبًا هو الآخر بصوتٍ رخيم:
-وحشتيني أكتر يا وَحش
عادت للخلف بهدوء وعينيها متعلقة على كل انش بوجهه تحفره داخلها أكثر وأكثر، بادلها تلك النظرات العاشقة المشتاقة إلى أرواح ابتعدت عن موضعها المعروف لتترك داخلهم ألم الفراق المُعذب للقلوب..
أردفت بنبرة لينة مريحة خافتة وهي تضع وجهه بين كفي يدها كطفل صغير تحدثه والدته:
-الدنيا دي مالهاش أي لازمه من غيرك يا جاد
وضع كف يده فوق يدها الموضوعة على وجهه وابتسم بهدوء وما كاد ألا يُجيب عليها ولكنه استمع إلى صوت حمحمة "سمير" من خلفهم بصوت رجولي واضح وقد تناسى وجوده من الأساس، إنه هنا معه منذ لحظة وصوله، أبعد يده وابتسم بسخرية قائلًا وهو يستدير إليه:
-خلاص عرفنا إنك هنا
ابتسمت هي الأخرى لعودة تلك المناوشات التي كانت تحدث بينهم بين الضحك والمرح وابتعدت عن الباب دالفه للداخل راكضًا وهي تصيح بصوتٍ عالٍ:
-جاد رجع يا ماما فهيمة.. جاد رجع
وقفت أمام باب المطبخ تنظر إليها بابتسامة عريضة والدمع داخل عينيها فرحًا، تركت والدته سريعًا ما كان بيدها وتقدمت للخارج تتخطاها قائلة بقوة وعدم تصديق:
-ابني.. ضنايا رجع
خرجت هي الأخرى ركضًا لتراه يتقدم إلى الداخل هو وابن عمه، بكامل قوتها أطلقت الزغاريد خلف بعضها بصوتٍ عالٍ ثم ركضت ناحيته بقوة ملقيه نفسها داخل أحضانه وقلبها يرتعش بقوة وكامل جسدها من خلفه قائلة ببكاء وحنان والدة افتقدت ولدها:
-يا حبيب عمري... يا فرحة عمري يا جاد
قبل أعلى رأسها وهي يحتضنها قائلًا بعتاب:
-طب بتعيطي ليه دلوقتي
أجابته ضاحكة والدمع يخرج من عينيها بغزارة قائلة ومازالت تتشبث به:
-دي دموع الفرح يا واد
ضحك بقوة رافعًا رأسه للأعلى، مازالت تنعته بطفل:
-مش هتبطلي واد دي بقى
عادت للخلف تضربه بخفه على ذراعه مُبتسمة بسعادة لا يوجد بعدها سعادة إلا واحدة فقط:
-هتفضل واد طول عمرك يا واد
ضيقت ما بين حاجبيها بحنان بالغ قائلة بهدوء وفرح:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبي نورت بيتك
مرة أخرى قبل أعلى رأسها مُبتسمًا وهو يعلم ما الذي بداخل الجميع ناحيته وأولهم والدته:
-الله يسلمك يا أم جاد
أبعدت نظرها إلى "سمير" قائلة بسعادة وحماس كبير:
-يلا يا سمير روح هات مراتك على ما أكلم عمك رشوان يجيب أبوك ويجي الغدا عندنا النهاردة على حس جاد
هتف "سمير" مُجيبًا باقتراح أخر لكي ينعم هذا الرجل ببعض الراحة بعد هذه الرحلة الشاقة:
-يا مرات عمي ادي لـ جاد فرصة يريح شوية الأول
استدار ينظر إلى سمير قائلًا بنبرة أصبحت مُرهقة بعد وصوله إلى هذه النقطة:
-لأ أنا هروح بس أخد دش كده اظبط بيه نفسي وأغير هدومي وهاجي على طول على ما الحج يوصل
ربتت على كتفه بيدها بحنان:
-طيب يا حبيبي يلا روح وارتاح شوية لسه بدري على الغدا
استدارت تنظر إلى زوجته قائلة:
-يلا يا هدير معاه وهنادي على أم سمير تنزل معايا
تقدمت منهم ووقفت قبالته مُجيبة بلهفة حقًا تريد أن تكون معه وحدها:
-ماشي يا ماما فهيمة
هتفت والدته مرة أخرى بحنان وحب بالغ وهي تقترب منه تعانقه مرة أخرى تستنشق عبير رجولته وحضوره:
-يلا يا حبيبي.. حمدالله على سلامتك يا قلب أمك انشالله آخر مرة تخرج فيها من بيتك ومكانك
بادلها العناق بقوة مربتًا على ظهرها بابتسامة كبيرة ناظرًا إلى زوجته غامزًا لها بعينيه:
-إن شاء الله يا أم جاد
خرج "جاد" من المنزل ومعه زوجته بعد أن هندمت ملابسها لتلائم الخروج للبيت الآخر والظهور في الشارع، بينما صعد "سمير" إلى منزل والدته في الأعلى..
دلفت إلى شقتها وأنارت الأضواء بهدوء وهو يدلف من خلفها بهدوء شاعرًا أن روحه قد عادت بعودته إلى مملكته ومكانه الوحيد الذي شهد على كم السعادة الخالصة التي شعر بها مع حبيبة عمره..
أغلق هو الباب وتقدم ينظر إليها بعد أن وقفت هي الأخرى تنتظر تقدمه منها، ناظرة إليه بعينيها العسلية متعلقة بكل حركة تصدر منه، تشبع عينيها بالنظر إليه ورؤيته البهيئة..
تقدم بهدوء وعينيه الرمادية متعلقة بها بقوة وعمق، وقف أمامها لا يفصل بينهم شيء يوزع نظرة على كامل وجهها، عينيها العسلية، نمشها الرائع الخلاب، شفتيها التي احتوته كثيرًا..
إنه يفتقدها منذ أيام كثيرة مرت عليهم وهم مبتعدين عن بعضهم بقوة، حمدًا لله أنها تناست حزنها الذي لا يعلم سببه وابتسمت له وللحياة مرة أخرى..
وضع وجهها بين كفيه برقة يقترب منها بوجهه مشتاقًا للمسة منها، أقترب من شفتيها بخاصته مقبلًا إياها بعمق وحنان لين وهدوء معتاد منه..
عاد للخلف بعد قبلته التي أخذت وقت طويل وأخفض يده الاثنين إلى خصرها مقتربًا منها قاطعًا المسافة نهائيًا..
وضعت يدها اليمنى على وجنته بحنان خالص ناظرة إليه بحب ليس معهود على أي حد غيرهم تهتف بنبرة خافتة لينة رقيقة:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبي
ابتسم إليها وأقترب مرة أخرى طابعًا أعلى جبينها قبلة حنونة بريئة قائلًا بحماس ومرح:
-الله يسلمك يا وَحش... بس ايه الحلاوة والطعامه دي... دا فرق سرعات عن آخر مرة خرجت فيها من هنا
رفعت يدها هي الأخرى ووضعتها على ذراعيه قائلة بهدوء وجدية تامة بعد أن فهمت كل ما حدث وقررت أنها لن تُعيده مرة أخرى:
-أكيد يا جاد.. أنا عرفت كل حاجه ولازم بقى ننسى اللي حصل ونبدأ صفحة جديدة
غمزها بعينيه الرمادية ضاحكًا:
-اعتبريه حصل
أبعدت يدها عنه محاولة العودة للخلف وهو محاوطها بذراعيه تهتف مقترحة:
-طيب خد دش وهطلعلك هدوم علشان عايزة أتكلم معاك وأقولك حاجه مهمة
ضيق ما بين حاجبيه متسائلًا باستغراب وعينيه عليها بدقة:
-حاجة ايه
أشارت برأسها مؤكدة أنها ستتحدث عندما يخرج فقط وحركت شفتيها مُجيبة:
-يلا بس أما تخرج هقولك
أومأ إليها برأسه ثم تقدم إلى الداخل متوجهًا إلى المرحاض فهو في حاجه شديدة لأن يأخذ قسطًا من الراحة أسفل المياة ليريح جسده عما تعرض إليه في اليومين الماضيين..
خرج من المرحاض بعد أن ارتدا ملابسه الداخلية التي قامت بإعطاءه إياهم، كان يضع المنشفة على رأسه يحركها بقوة بيده لكي تجف خصلات رأسه سريعًا..
دلف إلى الغرفة ليراها تقف أمام المرآة بعد أن بدلت ملابسها هي الأخرى إلى غيرها بيتيه مكونه من قميص طويل لونه أحمر ناري يصل إلى بعد منتصف قدميها من الأسفل مفتوح من الجانبين، ومن الأعلى يحمل رسومات وردية زائدة على كتفيه ومقدمه صدره..
وقف أمامها يبتسم مانعًا نفسه عن الخطر الذي يفكر به فهناك أشخاص بانتظاره، تحركت تفاحة آدم على أثر ابتلاع ما وقف بجوفه بعد رؤيتها، مد يده إلى البنطال يأخذه من على الفراش يرتديه:
-ها ايه بقى الحاجه المهمة
نظرت إليه بعمق داخل عينيه وناداته بإسمه برقة ونظرتها مطولة عليه:
-جاد!
استغربها وهو يراها تنظر إليه بعمق تناديه هكذا، تقدم من الفراش جالسًا عليه وأجاب محركًا شفتيه ببرود أخذًا المنشفة مرة أخرى يجفف خصلاته بعد أن ارتدى البنطال:
-نعم
-أنا حامل
ابتعدت يده عن المنشفة التي وقعت على الأرضية جوار قدمه وعينيه ثبتت عليها متسعة بصدمة كبيرة بعد أن قالت كلمتين لم يكونوا في الحسبان أبدًا..
#ندوب_الهوى
#الفصل_الثامن_والعشرون
#ندا_حسن
فراق مرة أخرى؟
هل استمع إلى ما قالته بشكل صحيح؟ هل قالت أنها حامل! تحمل داخل أحشائها طفل لها وله؟ هل قالت هذا أم لأ؟..
نظر إليها بعينين مُتسعة بقوة والصدمة وقعت فوق رأسه جعلته لا يستطيع أن يفعل أي شيء سوى النظر إليها بعمق شديد منتظرًا منها أن تكمل أو أن تقوم بفعل أي شيء يخرجه عن صمته..
رفع حاجبيه للأعلى دون حديث وحرك عينيه بحركة تعرفها دليل على أنه يريد تأكيد الحديث مرة أخرى لكي يستوعب أنه صحيح..
تقدمت بهدوء منه ووقفت أمامه وهو جالس على الفراش يرفع رأسه لينظر إليها بتركيز واستمع إليها تهتف بنبرة خافتة ووجهها يبتسم بهدوء:
-أنا حامل يا جاد
أخفض وجهه إلى الأرضية ووضع كف يده على جبينه يمسح عليه بقوة، هذا صحيح! لقد أكدت حديثها، أنها حامل، تحمل طفل داخلها منه هو! سيكون والده! إنه سيكون أب عن قريب..
سيتحقق حلمه البعيد صعب المنال الذي تأخر عنه، ولكنه لم ييأس وعلم أنه له وقت وميعاد يأتي به مقدر له من الله..
لقد كان هذا أكثر شيء يريده.. أكثر وأول شيء يريده من الدنيا بعد وجوده مع زوجته وحبيبته، يريد ولدًا منه ومنها يحمل جمالها وصفاتها الرقيقة يكن له السند والعون في الحياة..
قلبه يدق بعنف شديد ووجهه أصبح يتصبب عرقًا وهو للتو خارج من المرحاض بعد أن استحم، يشعر أن الجو حار كثيرًا وقلبه يزيد عليه الضغط بهذه السرعة التي يخفق بها..
من الأساس لما هذا الشعور الغريب والحركات الأغرب التي تصدر من جسده دون قصد.. ما هذا الشعور وما هذه الرغبة المُلحة في ظهور دموع عينيه..
لقد كان حلم بعيد وأكثر ما تمناه ولكن ليس لدرجة البكاء، ما هذا الضعف، ولما لا يستطيع تحديد كلمات أو أي شيء يقوله أو يفعله.. لما هو هكذا!..
تغلب على نفسه ورفع بصره إليها مرة أخرى ينظر إلى عينيها المنتظرة منه أي رد فعل بعد أن قالت له خبر سعيد مثل هذا، ثم بعد رفعة رأسه وقف بجسده أمامها ومسح على وجهه بكف يده ثم تحدث بخفوت ونظرة مترقبة منتظرة التأكيد الأكبر:
-بجد؟ يعني بجد أنتِ حامل؟
أومأت برأسها عدة مرات مُبتسمة تؤكد له ما يريد التأكيد منه كي يبتسم للحياة مرة أخرى ويتناسى معها كل ما مر عليهم من حزن وقهر، أقترب منها للغاية مقدمًا يده اليمنى واضعًا إياها على بطنها ناظرًا إليها ثم صعد بعينيه مرة أخرى لعسليتها قائلًا بحبٍ:
-في هنا نونو
مرة أخرى تومأ له بعد أن اتسعت ابتسامتها وظهرت أسنانها البيضاء من بين شفتيها الوردية..
على حين غرة ودون تفكير مسبق منه وجد نفسه بكل قوة يمد يده الاثنين إلى خصرها مقتربًا منها للغاية ممسكًا إياها بأحكام رافعها بقوة يقوم بالدوران بها حول نفسه وهو يبتسم بسعادة كبيرة غامرة ممزقة لاشلاءه من كثرة الفرحة..
حاوطت عنقه بيدها الاثنين وهي تتمسك به جيدًا بعدما شعرت بأن قدميها تُرفع في الهواء وكامل جسدها يدور معه بخفه وسعادة لا توصف، أصدرت ضحكات عالية رنانة بصوتها الجميل والمحبب إلى أذنه، مقررًا هو وهي مع بعضهم البعض أن ينعمون بهذه السعادة لبعض اللحظات.. اللحظات فقط!..
وقف ثابتًا مرة واحدة ثم بهدوء أخفضها إلى الأرضية ولكنها لم تبتعد ولم تنظر إليه، لم تحرك يدها المعانقه إياه بل بقيت كما هي تحاوط عنقه بيدها الاثنين وأقتربت منه تضع رأسها على صدره تلهث بعنف وقوة مُبتسمة بسعادة..
قربها إليه أكثر وهو يعانق خصرها قائلًا بنبرة فرحة صاخبة بالحب والحياة:
-ياه يا هدير.. من زمان أوي وأنا نفسي أسمع الكلمتين دول
شدد على عناقها مُكملًا بحماس وشغف حضر إليه في لحظاته الأولى ليكن معه منذ البداية:
-ألف مبروك يا وَحش
أجابته ومازالت كما هي تحاوط عنقه تقترب منه ولم تبتعد قائلة بود ونبرة لينه رقيقة:
-الله يبارك فيك يا حبيبي
رفع إحدى يديه المحاوطه إياها إلى خصلات شعرها يتلمسها بحنان خالص ويستنشق عبيرها بحب كبير لا مثيل له، ثم أردف مُتسائلّا ومازالت الابتسامة على شفتيه:
-عرفتي امتى؟
وقع هذا السؤال على مسامعها ثم هوى قلبها بخوف خلفه، لم تتوقع أن يسأل ولم تفكر في الإجابة، ما الذي ستقوله؟ تخبره بالحقيقة وتبدأ معه صفحة غير الأخرى المليئة بالكتمان أم تخفي هذا وسيكون آخر شيء!، عادت للخلف ثم نظرت إليه بعينين خائفة وقد ظهر عليها هذا:
-من عشر أيام
لم يستوعب أنها تكن علمت منذ عشرة أيام ولم تخبره فعاد مرة أخرى يقول باستغراب ينظر إلى عينيها بقوة:
-هو ايه اللي مش عشر أيام
أنزلت يدها الاثنين من حول عنقه ووقفت أمامه ثابتة فقط تنظر إلى عينيه بخوف وصدق ورهبة داخلها من أن تسوء الأمور بينهم مرة أخرى:
-عرفت إني حامل من عشر أيام
أخفض يده الاثنين من عليها ووقف هو الآخر ثابت مذهولًا يبادلها النظرات المصدومه مما هتفت به، كيف لها أن تكون تعلم منذ هذه المدة وهو الآن فقط يعلم؟ أليس له الحق فيه مثلها!، تسائل مرة أخرى باستغراب أكبر من السابق قائلًا بنبرة خشنة:
-يعني ايه من عشر أيام؟، وأنا ليه معرفش غير دلوقتي
وجدها تنظر إليه بصمت، ربما تفكر الآن لما قد فلت منها لسانها وهتفت بالحقيقة، كان من المفترض أن تبدأ هي بالجديد وتلقي بكل ما حدث في الماضي بعيدًا، لم تُجيب عليه وتنظر إليه فقط نظرة لم يفهم ما هي؟ معاتبة! خائفة! حزينة! لما تغيرت الآن:
-مالك يا هدير ما تردي؟ بقولك ليه مقولتيش
-كنت خايفة
ضيق ما بين حاجبيه وإلى الآن لم يفهم أي مما تقوله، ليقوم هو بالسؤال مرة أخرى:
-خايفة من ايه يا هدير؟ هو ده حاجه تخوف؟ أنتِ مش عارفه أنا مستنى الخبر ده من امتى؟ مش عارفة إزاي دا أنتِ أكتر واحدة عارفة
عادت للخلف خطوتين تدير ظهرها إليه قائلة بسرعة وخوف وداخلها تود لو تعود بها الأيام فالندم الآن لا يفيدها:
-كنت خايفة تبعد عني وتسيبني يا جاد
تقدم هو ما ابتعدته وجذبها من ذراعها إليه بقوة لتستدير كما كانت وتجعله يفهم ما الذي تقوله دون داعي:
-اسيبك إزاي؟ أنتِ مجنونة يا هدير ولا ايه.. ما تفهميني ايه اللي بيحصل
اخفضت بصرها في الأرضية وتمسكت بيدها تقوم بالضغط عليها بقوة عائدة إلى تلك الحركة من جديد ثم رفعت نظرها إليه قائلة بقوة محاولة التحلي بالشجاعة:
-أنا هقولك كل حاجه بس بالله عليك يا جاد تفهمني وماتحكمش عليا بسبب غلطة زي دي
أتى بآخر ما عنده، صاح بقوة بعد أن أخذت كل الصبر الذي داخله وشوشت عقله بحديث ليس له داعي من الأساس وهو لا يفهمه:
-غلطة ايه وبتاع ايه ما تتكلمي يا هدير الله
ضغطت على يدها بقوة وشعرت أن قدميها ترتجف، فهي على وشك الإعتراف بأكبر خطأ ارتكبته في حق نفسها وزوجها خصوصًا بعد أن علمت أنه بريء من كل ما تخيلته، تقدمت تجلس على الفراش فاستدار بجسده معها ليكن مقابلًا لها:
-أنا عرفت إني حامل من عشر أيام يا جاد.. محبتش أنك تعرف غير لما أتأكد لأن ساعات بيبقى فيه غلط فمكنتش عايزة اعشمك
بطيئة وتسرد إليه ببطء فتحدث مشيرًا بيده يحثها على التكملة بعصبية:
-ها كملي
تكونت الدموع بعينيها مما أدهشه وجعله يشعر بالذهول منها ومن تصرفاتها ولكن عندما استمع إلى صوتها الخافت المتقطع بدأ في الفهم لما هي هكذا:
-لما روحت مع مريم كشفت أنا كمان واتاكدت إني حامل.. كنت فرحانه أوي والله العظيم وكنت عايزة اشوفك لما تسمع الخبر، كان نفسي أشوف رد فعلك زي دلوقتي، كان نفسي أشوف الفرحة عليك.. أنا مكنتش فرحانة ليا قد ما فرحانة ليك لأن اللي نفسك فيه خلاص اتحقق
خرجت دموع عينيها على وجنتيها وثقل حديثها أكثر وهو مازال ينظر إليها بصمت يود فهم ما الذي حدث وما الذي فعلته ولا يود أن يكون ما توصل إليه:
-كنت خلاص هقولك والفرحة مش سيعاني بس أنتَ سرقت مني الفرحة دي يا جاد
أشار إلى نفسه بذهول وصدمة متسائلًا باستنكار:
-أنا؟..
رفعت نظرها إليه بقوة وهي تبكي بغزارة دون صوت قائلة بتأكيد:
-أيوه أنتَ... خبيت عني أنك لسه على تواصل مع كاميليا بل بالعكس قولتلي أنك قطعت معاها خالص بس لما قومت تفتح الباب وصلك رسايل منها فيها المكان اللي هتتقابلوا فيه وغيره.. عقلي فكر في حاجات كتير بشعة ومن غير إرادة مني شوفت المكالمات ولقيتك مكلمها بعد ما نزلت من عندي يا جاد... سألتك وانكرت يعني بتكدب عليا وبدل ما كنت هقولك إني حامل قولتلك بس على مريم
تذكر!.. تذكر ذلك اليوم وتلك اللحظات عندما كانت غاية في الرقة والدلال والسعادة كانت من كل جانب عليهما وهي من بدأت بذلك ثم دون سابق إنذار تحولت مئة وثمانون درجة وكأنها إمرأة أخرى غير الذي كان يجلس معها ومن بعدها بقيت على هذا الحال بعيدة عنه ولا تريد الإقتراب منه أبدًا ولا تطيل معه الحديث وكثيرًا حاول معها ولكنها ترفض بشدة..
إذًا كل ما حدث فقط لأجل أنها رأت الرسائل والمكالمة، ولكن الرسائل لم تكن مقروءة.. مؤكد قراتها من الخارج، لها كامل الحق في أن تحزن وتشعر بالغصب والغيرة وكل شيء ولكن إن تخفي عنه أنها حامل!.. أليس هذا صعب!..
يتذكر أيضًا كيف أخبرته أن شقيقتها حامل، بطريقة لم يفهمها، بحدة وقوة ونظرتها ثابتة وألقت الكلمات عليه دون سابق إنذار، يتذكر ذلك جيدًا وفهم الآن ما المغذى منه..
وقف أمامها ناظرًا إليها بضعف انتقل إليه عبر النظرات المتبادلة بينهم يتسائل بقلة حيلة وما وصل إليه قاتل ودون رحمة:
-وقولتلي مريم حامل وقتها بالطريقة الناشفة دي علشان توجعيني! علشان اتوجع أن سمير مراته حامل وأنا لأ مع أن نفسي في عيل من زمان حتى من قبل ما اتجوزك وأنا منايا أشوف عيل ليا
وقفت على قدميها سريعًا تتمسك بيده قائلة بضعف وعينيها تذرف الدموع دون توقف نافية ما فكر به وما هتفه:
-أقسملك بالله أبدًا.. اوجعك؟ أنا اوجعك يا جاد، دا أنا أموت فداك والله العظيم، عمري والله يا جاد ما أفكر في وجعك دا بيبقى ليا الضعف.. أنتَ إزاي تقول كده
جذب يده منها متحدثًا بحدة وهو ينظر إليها شاعرًا بأنها طعنته داخل قلبه دون رحمة:
-وهي تتفهم إزاي غير كده؟ ها تتفهم إزاي، لحد امبارح وقبل لحظة مكنتش مدي للموضوع أهمية أصلًا ولا افتكره بس أنتِ اللي فكرتيني بيه وأنتِ فعلًا كنتي قاصدة إنك تقولي بالطريقة دي علشان توجعيني
اتسعت عينيها وازدادت في البكاء وهي تراه يتفهم الأمر بطريقة خاطئة تزيده سوء وتعقيدًا:
-والله العظيم أبدًا بقولك مقدرش اوجعك.. أنا اللي بتوجع يا جاد مش أنتَ
حركً عينيه على كامل وجهها ناظرًا إلى بكائها بقوة متسائلًا بجدية ونبرة حادة:
-وكنتي ناوية تخبي عليا لحد امتى
أجابته بقوة هذه المرة وقلبها يتذكر قبل عقلها تلك النيران التي كانت تشتغل داخله غيرة وحزن منه وعليه:
-لحد ما أفهم ايه اللي كان بيحصل من ورايا
صرخ "جاد" بعنف فجأةً وهو يبتعد للخلف:
-بردو بتقولي من ورايا؟
أقتربت ببطء ورفعت يدها تضم أصابعها أمامه تبكي بحرقة وها قد عاد من الموت لتدلف معه إلى موت أشد منه:
-أفهمني يا جاد.. أفهمني شوية أنا سألتك وأنتَ كدبت عليا مع إن أنتَ اللي مكلمها مش هي وليه على تواصل معاها ومن ورايا يا جاد أنا انصدمت وده أقل واجب.. جوزي اللي مش بيخبي عني حاجه اللي بيحبني مرة واحدة اتغير معايا كده وبيكلم واحدة من دون أي أسباب مقنعة وبيكدب عليا وهي أصلًا ست مش سالكة.. معرفتش أنا أعمل ايه والله يا جاد بس كنت حزينة والقهرة كانت هتموتني..
أقتربت ووضعت يدها على ذراعه تبكي بقوة أكبر مُكملة:
-كنت خايفة وزعلانه وحاسه بحاجات كتيرة مش عارفة اشرحهالك بس فكر فيا أنا وحط نفسك مكاني، كنت بقوم بالليل كام مرة علشان أبص عليك واتاكد إنك نايم جنبي... جاد أنا كنت مرعوبة
ابتسم بسخرية محركًا شفتيه بذهول وهو يقول ويصطنع الابتسام:
-يعني كمان بتشكي فيا
نفت حديثه بكامل قوتها وهي تشير بيدها بالنفي:
-لأ والله عمري ما شكيت فيك.. أنا بثق فيك أكتر من نفسي بس أنا مكنتش واثقة فيها هي.. مكنتش حاسة بالأمان من ناحيتها وكلامي طلع صح يا جاد
نظر إليها يتعمق في عسليتها الباكية، ورمادية عينيه ودت لو بكت مثلها، نظر إلى كل ما قالته بعينيه مرة أخرى ولم يريد أن يستمعه، أردف بنبرة خافتة منكسرة:
-أنتِ أكتر واحدة عارفه قد ايه أنا نفسي أخلف، وأكتر واحدة عارفه قد ايه أنا بحبك ولو خيروني بين نفسي وبينك هختارك أنتِ.. عارف أنك معاكي حق تغيري عليا وتزعلي مني لما كدبت عليكي وتفكري في حاجات كتير وأنا عارف عقلك مايتوصاش.. اسمحلك بكل ده عادي مفيش مشكلة
صمت قليلًا وأخفض بصره للأرضية ثم رفع عينيه مرة أخرى ووضع يديه الاثنين داخل جيب بنطاله ووقف شامخًا لا يدري كيف فعلها وتحدث بصوت عاري من كل شيء ويوضح أكثر ما به وهو العتاب:
-لكن أنك تشكي فيا وتخبي عني حملك! بأمانة ده صعب.. مع إني قولتلك قبل كده إن عمري ما أبص لواحدة غيرك ومش علشانك كمان أنا أصلًا عمري ما عيني اترفعت في واحدة يا هدير.. وعمرها ما هتحصل بس إزاي أنا بخونك!..
-بس الخيانة الحقيقية بقى هو اللي عملتيه إنك تخبي عني حاجه من حقي زي ما هي من حقك ده اللي اسمه خيانة ومش هسامح فيه يا هدير
تقدم إلى الفراش يخرج يده من جيبه أخذًا القميص الخاص به لكي يرتديه قائلًا بجدية وهو يتجه للخارج مرة أخرى:
-البسي يلا في ناس مستنيانا
خرج من الغرفة وجذب الباب خلفه بقوة مصدرًا صوتًا عاليًا وغرضه الأول من ذلك ألا تخرج خلفه لأنه الآن لا يريد أن يتحدث في هذا الأمر حتى لا يحدث أشياء لا يريدها..
ترك لها الغرفة وخرج يرتدي قميصه في الصالة ضاغطًا على أعصابه التالفة من الأساس والتي تقف على المحك وتريد الإنفجار في الجميع لكي ترتاح بعد هذا العذاب..
لم يكن يعتقد أنها تفعل به هذا، حامل منه وبطفل له وتخفي عليه وهي تعلم أنه يريد ذلك أكثر من أي شيء آخر، تشكك به وبأخلاقه وبحبه لها، تمحي الثقة التي بينهما هكذا في لمح البصر..
لقد كذب عليها لن ينكر ذلك مهما حدث ولها الحق في الحزن والإبتعاد والغيرة وغيرهم ولكن أن تفعل به هذا!..
ذهب إلى النيابة وتعرض لأمر ليس له به يد وتقدمت إليه هناك وتحدثت معه عن كثير من الأمور وحتى لم تكلف خاطرها بقول أنها حامل لتعطي له أي أمل ولتخفف عن نفسها ما فعلته..
لقد قال لها كل شيء حقًا لما هي لم تقول له!..
لقد قهرت قلبه ومزقت روحه إلى أشلاء بعد أن فهم أنها لا تثق به بل تشكك بكل ما يقدمه منذ دلوف هذه المرأة الغبية الكريهة التي إلى حياتهم عن طريق مساعدة نبيلة منه..
الأمر لن يمر هكذا على قلبه وعقله.. لن يمر بهذه السهولة.. عقله سيُجن!..
وهي بالداخل لم تستمع إلى حديثه بل جلست على الأرضية بعد خروجه تخرج كل ما داخلها من بكاء والندم يتأكل قلبها وعقلها، لما فعلت به ذلك؟.. لما؟
ولكنها أيضًا ليست مذنبة لقد شعرت بالصدمة في ذلك الوقت وهو من عليه العتاب لأنه كذب عليها، هو من عليه العتاب لأنه من فعل كل هذا دون أن يخبرها!
تبكي لأن كلما اقتربوا من بعضهم حدث ما لا يحمد عقباه وتم البعد بينهم بنجاح وكأنها عملية جارية التنفيذ كل فترة صغيرة لا تتكون من أيام حتى..
ما العمل الآن يا هدير؟ ما الذي سيجعله يعفو عنك بعد ما فعلتيه وحطمتي قلبه بتفكيرك الغبي..
❈-❈-❈
توجه معها إلى منزل والده بعد أن ارتدى ملابسه كاملة وهندم مظهره ليليق به، وكذلك فعلت هي بعد قليل من الوقت الذي استغرقته في البكاء، ارتدت عباءة بيتية واسعة تناسب فرحتها بعودة زوجها فلا أحد يعلم ما الذي يدور بينهم، سلم على والدتها في الأسفل بحرارة مبتسمة له بسعادة معبرة له عن كم الفرحة التي حصلت عليها عندما علمت بخروجه داعية له ولابنتها كثيرًا بالخير والسعادة..
صعد إلى شقة والده بوجه جامد لا يشوبه أى تعابير مفهومة بل كان يسير معها وينظر إليها بكامل الجدية وكأنه يرفض أي نظرة غير تلك أو أي تعبير آخر منها..
تصعد خلفه بوجه شاحب غير ذلك الذي قابلته به مختلف عنه بفرق شاسع وكأنه من السماء إلى الأرض، عقلها لا يستوعب ما الذي حدث في لحظات بينهم لكي يمحي كل هذه الفرحة التي حصلت عليها، اعتقادًا منها أن كل حزن مر ولن يكن هناك غيره بالأخص بعد القبض على "مسعد" الذي كان يعكر صفوهم..
دق الباب ووقف للحظات شامخًا ثم فتح إليه "سمير" يبتسم بمرح كعادته قائلًا بسخرية:
-أنتَ نسيت أننا هنا علشانك ولا ايه، كل ده بتغير
غمزه في آخر جملة هتف بها فنظر إليه "جاد" بقوة ولم تتحرك تعابير وجهه متقدمًا للداخل وهو يقول ببرود:
-معلش ريحت شوية
استغربه "سمير" واستغرب إجابته الغريبة الباردة، حرك عينيه ورأسه عليه وهو يراه يدلف إلى الداخل ثم نظر إلى زوجته التي دلفت من بعده متوجهه إلى المطبخ، حرك شفتيه باستغراب ثم أغلق الباب ودلف هو الآخر..
دلف "جاد" على والده وعمه في صالة المنزل وتقدم من والده الذي كان الأقرب له ينحني بجذعه أخذًا كف يده رافعة إلى شفتيه يقبله برضاء وهدوء ووجه مُبتسم بلا تعابير تدل على فرحته، وقف والده على قدميه وجذبه إليه يعانقه بقوة شاعرًا أن روحه قد عادت إليه من جديد بعد عودة ابنه إلى موطنه ومكانه الوحيد الذي يشعر فيه بالأمان..
أردف "رشوان" بابتسامة وهو يعود للخلف مربتًا على كتفه بسعادة كبيرة:
-حمدالله على السلامة يا بشمهندس
-الله يسلمك يا حج
أقترب من عمه هو الآخر بعد والده أخذًا يده إلى فمه كما والده بالضبط يقبلها ثم قابله عمه بعناق كبير مشددًا عليه يهتف بحماس:
-حمدالله على سلامتك يسطا جاد.. البيت من غيرك مش بيت عيلة والله يابني
نظر إليه وهو يبتعد قائلًا بنبرة جادة:
-البيت بيت عيلة طول ما انتوا فيه يا عمي
ربت عمه على ذراعه بحنان مُبتسمًا إليه مُشيرًا بيده لكي يجلس معه إلى حين تحضير الطعام، فجلس "جاد" مقابلًا لهم على الأريكة ودلف "سمير" هو الآخر يجلس بجواره بعدما عاد من عند زوجته التي كان يعبث معها في الداخل..
بعد قليل من الوقت دلف الجميع إلى سفرة الطعام التي كانت ممتلئة بكثير من خيرات الله، وكل ما لذ وطاب موجود عليها، وليمة كبيرة وكثير من الأصناف محضرة لعودة الابن الكبير إلى بيته سالمًا معافى..
أردف "سمير" بمرح قائلًا:
-أبسط يا عم كل الأكل ده معمول علشانك
ابتلع "جاد" ما في فمه من طعام وقال باستهزاء:
-هبسط أكتر من كده أروح فين
اردفت والدة "سمير" بحنان كوالدته بالضبط فرحة لعودته التي لم تطول بهم:
-الحمد لله أنك رجعت بالسلامة يابني
أكملت والدته من خلفها قبل أن يُجيب حتى مردفة بقوة وضيق لأجل ما كان يفعله البغيض الآخر:
-الحمد لله رجع وخدوا المخفي التاني ده.. والله أنا ما فرحانه في ده كله غير علشان خدوه من هنا جاته الهم
مرة أخرى تُجيبها "سعيدة" بيقين وهي تحرك فمها قائلة:
-شيطانه اللي وزه يا أم جاد علشان يتمسك ويختفي بشره من هنا
-على قولك شيطانه بصحيح
لما يذكرونه الآن؟ جلسه عائلية من المفترض أن تكون سعيدة، عادت عليها بحزن وهذا واضح وبشدة ولكن لما يزيد الحزن أكثر من هذا ألا يكفي؟ ألا يكفي ليجعلوها تتذكر ذلك الحقير الندل الذي جعلها ترى أبشع الأشياء على يده..
أكملت والدة "جاد" ناظرة إلى "مريم" بابتسامة متسائلة عن أحوالها في وجود طفل داخل أحشائها:
-قوليلي عامله ايه يا مريم في الحمل.. كويسه يا حبيبتي
رفعت "مريم" بصرها إليها من على الطعام قائلة:
-الحمدلله بخير
الجميع يأكل بصمت وهم الاثنين استلموا هذه الأحاديث ولن يصمتوا الآن، زفرت "هدير" بهدوء وهي تستمع إلى زوجة عمه تهتف بحيرة تتسائل:
-بس مش عارفة بقى يا أم جاد هتروح الكلية إزاي
أردفت "مريم" بعد أن تركت الملعقة من يدها ونظرت إليها بجدية قائلة ما قررت فعله هي وزوجها معًا:
-لأ ما أنا اتفقت مع سمير إني هأجل السنة دي
ابتسمت والدته بهذا القرار فهي كانت تريد لها الراحة حتى تلد بسلام ولا يسير التعب بجسدها:
-والله زينة العقل يابنتي كويس علشان متجهديش نفسك
استمع "جاد" إلى والدته تقول بتمني موجهه حديثها إلى زوجته:
-عقبالك يا هدير يا حبيبتي
ترك هو الآخر الملعقة من يده ونظر إليها بجدية شديدة ثم عاد ينظر إلى والدته من بعدها قائلًا بتساؤل ساخرًا:
-ايه هو انتوا متعرفوش؟
أكمل تلك السخرية التي استغربها البعض وهي الوحيدة التي تعرف سببها ناظرًا إليهم واحد تلو الآخر:
-معلش أنا ناسي إني لسه عارف أنا كمان... هدير حامل
قال آخر كلمتين ببرود تام وملامحه حادة لا تظهر الفرحة بل كانت جامدة، جامدة بشكل لا يوصف ولم يعبر عن فرحته كـ يوم معرفة خبر حمل زوجة أخيه..
هتفت والدته بحماس وعينيها متسعة بصدمة تريد التأكيد على هذا الحديث:
-بجد والنبي صحيح؟ حامل!
حرك رأسه بخفة يبتسم بسخرية:
-وأنا هكدب يعني يا أم جاد
صاحت بقوة وهي تقف على قدميها تلتف حول الطاولة لتصل إليه وإلى زوجته:
-يا ألف نهار أبيض دا يوم المنى يا أخواتي
أقتربت منها وهي جالسة ومنعتها من الوقوف تقبلها من وجنتيها الاثنين ووجهها ينطق بالفرحة العارمة والسعادة الأكبر بحياتها، توجهت إلى ابنها هو الآخر والذي وقف لأجل والدته تعانقه بحرارة مُبتسمة تهنئه بذلك الخبر..
أردف والده بابتسامة وقلبه يرقص فرحًا لأجل ابنه ولأجل نفسه ولكنه مازال على الثبات:
-اقعدي يا أم جاد إحنا على الأكل.. نخلص ونقوم نموته بالاحضان
ابتسم الجميع والقوا عليه المباركة والتهنئة هو وزوجته بابتسامات فرحة سعيدة تظهر عليهم من أول صغيرهم إلى كبيرهم ولكن هذه الفرحة لم تكن على وجه "جاد" وزوجته بل كانت ابتسامه مصطنعة تظهر فقط عند النظر لوجه أحد منهم..
نظرت "مريم" إلى شقيقتها التي اخفضت وجهها على سفرة الطعام وكم يظهر عليها الحزن، الهدوء الغريب ونظراتها غير المعتادة وقد تغيرت مئة وثمانون درجة حقًا، لم تكن هكذا فهي كادت أن ترقص من فرط السعادة..
حقًا تستغرب أكثر شيء أنها لم تكن قالت لـ "جاد"، كيف فعلت هذا؟ لما لم تقول له أنها حامل بطفل منه وهي تعرف أنه يموت ليسمع شيء كهذا!..
رفع بصره عليها ليراها تقلب في الطعام بالملعقة ووجها شاحب وحزين، هذا ليس بيده بل هي من فعلت كل ذلك وهو من عليه الحزن والإبتعاد ليست هي بالمرة..
وفي نفس الوقت يصعب عليه تكملة مشوار البعد هذا الذي ارهقه وقطع ما داخله إلى أشلاء، لقد كان مقرر القرب إلى درجة لا توصف، كيف حدث كل هذا!؟..
❈-❈-❈
"في المساء"
كانت انتهت جلسة العائلة الطويلة المليئة بالمرح والسعادة والإجابات العفوية النقية من الجميع، ما عدا اثنين نعرفهم جيدًا، تلقى هو وزوجته المباركات والجميع فرح بقدر لا يوصف لأجله ولأجل قدوم طفل آخر على العائلة يأتي إليهم بالبهجة والرزق والسعادة.. طفلين معًا في طريقهم إلى عائلة "أبو الدهب"! هذا كرم كبير من الله ورزق لا يقدر بثمن أبدًا..
عادوا من منزل والده وتوجه إلى التلفاز منذ أن أتى لا يتحدث معها ولا يقوم بأي شيء يدل على أن معه أحد في المنزل من الأساس، وقف مرة وتقدم يفعل كوب شاي إلى نفسه دون حديث، يفعلها دائمًا تعرف ولكن هو الآن غير، مرة أخرى يتقدم ليأتي بالماء ووضعه جواره..
مرة يرفع الهاتف يتفقد ما به ثم ينتقل إلى التلفاز وكأنها غير موجودة بالمرة ولكن.. لن يستمر ذلك وهي لن تصمت أكثر من هذا عليها أن تنهي كل ما حدث وتنعم ببعض الراحة معه لقد شعرت بالتعب الشديد بسبب ما يحدث لهم..
جلست جواره على الأريكة وأخذت الريموت من على الطاولة أغلقت التلفاز أمامه ثم مدت يدها إلى جواره أخذت الهاتف ووضعته خلفها، تقدمت بجسدها منه تقابله بوجهها وهو يعطي إليها جانبه حيث أنه كان ينظر إلى التلفاز..
أمسكت كف يده بين راحتي يدها وأردفت برجاء ونبرة خافتة متوسلة منه القبول:
-ممكن نتكلم شوية بهدوء وبعدين أعمل اللي يريحك؟
لم تقابل منه أي رد سوى أنه استدار بوجهه ينظر إليها بعمق بعينين باهتة معاتبة إياها بشدة فقالت مُكملة برجاء وحزن:
-جاد بالله عليك ياخي كفاية لحد كده.. أنا تعبت من الزعل والبعد.. يا جاد نفسي نعيش زي أي اتنين وأحس إني فرحانه شوية.. نفسي نرجع زي زمان
استدار هو الآخر بجسده ليقابلها قائلًا باستنكار مشيرًا إلى نفسه باليد الأخرى:
-وهو أنا اللي مانع ده؟ ولا أنتِ شيفاني مبسوط
كرمشت ملامح وجهها محاولة شرح له وجهة النظر الخاصة بها وموضحة أكثر ما الذي يفعله، مطالبة إياه بالعودة إلى الحب والمرح الذي كان بيهم:
-لأ مش أنتَ اللي مانعه ولا مبسوط بس بتساعد فيه يا جاد... كل شوية حاجه تحصل فتبعد من غير حتى عتاب ولا كلام.. البُعد بس اللي بتعرف تعمله وده مش حل يا حبيبي.. البعد عمره ما كان حل
بادلها النظرات ولكن كانت مختلفة عنها كثيرًا، كانت نظرته جادة ناحيتها وأردف بجدية وقوة:
-أنا ببعد علشان مزعلكيش مش علشان ده حل... أنتِ جربتي قبل كده القرب في الزعل والعصبية عامل إزاي
ضغطت على يده بين يديها الاثنين وأقتربت بجسدها معتقدة أن بحديثه ومحاورته سيتخطى هذا معها كما تريد:
-طب خلاص بقى بالله عليك.. علشان خاطري يا جاد لو بتحبني بصحيح.. إنسى اللي فات وخلينا نفكر في اللي جاي
ضحك بسخرية وأبعد وجهه للناحية الأخرى ثم عاد مرة أخرى ينظر إليها مضيقًا عينيه عليها يتسائل بتهكم:
-أنساه إزاي يعني؟ أنسى إنك شكيتي فيا وخونتيني؟ ولا أنسى إنك خبيتي عني حملك واستغفلتيني ولا.....
قاطعته قبل أن يستكمل حديثه عن أخطائها الذي فعلتها تجاهه ساخرًا من حديثها الذي يقول له أن يتناسى ويمضي، أردفت بقوة هي الأخرى تحاول قدر الإمكان أن تجعله يفهم:
-متكملش.. كفاية كده، أنا استحملت كتير وأنتَ كمان بس الزيادة فيه غلط وأنا فهمتك، وقتها والله العظيم حسيت إني مشلولة مش عارفه أفكر ولا أعمل أي حاجه، والله لقيت نفسي بخبي عليك وخلاص.. كنت خايفة يا جاد قدر اللي أنا كنت فيه!
جذب يده من بين يدها واعتدل بكامل جسده رافعًا قدمه اليمنى على الأريكة والأخرى على الأرضية متسائلًا باستنكار وذهول:
-خايفة من ايه؟ أنتِ هبلة؟ اللي بتقوليه ده دليل على إنك لا واثقة فيا ولا واثقة في نفسك حتى
أجابته بقوة تدافع عن نفسها أمام هذا الحديث:
-قولتلك هي الوحيدة اللي مكنتش واثقة فيها وكلامي طلع صح يعني كان ليا حق
جادلها وهو يشير بيده ناحيتها وصوته حاد:
-لأ مالكيش حق لأني أعرف أوقفها وأظن عملت كده
نظرت إليه بعينين متسعة مُجيبة بقوة مرة أخرى تقول إن حديثه ليس صحيح فهو وهي قد تمادوا كثيرًا:
-بس أنتَ اللي سمحتلها من الأول تدخل بينا ومعملتش أي حاجه تمنع ده وأنتَ اللي سبتها تدخل حياتك بدون داعي
برر موقفه ناحيتها بجدية وصدق تام لأنه عن حق كان يتعامل معها بتربيته وأخلاقه هو وليس مثلها:
-دخلت حياتي بقلة ذوق واقتحمتها وأنا كنت برجعها باصلي وتربيتي بس هي اللي كانت قليلة التربية.. مش ذنبي إني احترمت أنها ست ومكنتش عايز أي إهانة
تنفست بعمق قائلة بـ إرهاق شعرت به من هذا النقاش الغريب ووزعت نظراتها بالكامل على ملامحه متوسلة إياه:
-يبقى خلاص أنا عديت اللي حصل ولا كأنه كان موجود من أصله نسيت إنك كدبت وأنها دخلت حياتنا وأنك قابلتها وكل حاجه.. أنتَ بقى يا جاد ده دورك
أجابها بقوة ناظرًا إليها بحدة معترضًا على ما قالته:
-لأ مش دوري.. مش دوري اللي عملتيه مالوش مبرر، مش علشان غيرانه ولا زعلانه مني تعملي كده.. ده مش مبرر أبدًا وبأمانة بقى غلطاتك كلها غبية
تسائلت بقلة حيلة بعد أن أغلق كل الطرق لحل هذه المعضلة:
-يعني أنتَ عايز تقول ايه دلوقتي يا جاد
أبعد نظره عنها إلى الناحية الأخرى مردفًا بضيق:
-مش عايز أقول حاجه
قدمت يدها إلى وجهه جاذبة إياه بحدة لينظر إليها، صاحت بضيق وضجر كبير داخلها من تصرفاته الغبية الكريهة غير مقدر ما الذي تفعله لأجل أن يكونوا في سعادة سويًا:
-أنا بقى هقول.. أنتَ مش مقدر أي حاجه بتحصلي ولا مقدر كام موقف عديته واعتذرت فيه عن أسباب تافهه لمجرد إني عايزاك قريب مني ومش عايزة أجرب البعد تاني.. ايه نسيت عملت ايه لما صوري نزلت في الحارة غصب عني؟ نسيت يا جاد؟ وكنت غلطان في حقي لأني أصلًا ضحية؟ نسيت حاولت كام مرة معاك وأنا بهين نفسي علشان منبعدش.. وعد مواقف كتير أنتَ عارفها وأنا عرفاها..
أدمعت عينيها وتكون اللؤلؤ داخلها ليصبح أمامها غمامة تعيق نظرتها الكاملة إليه ولكنها لم تتوقف هنا بل أخرجت كل ما أرادت قوله له:
-اللي أنا عملته رد فعل لفعلك أنتَ.. أنتَ اللي بدأت وده كان رد فعل طبيعي وأقل من الطبيعي لواحدة شايفة جوزها كداب وبيدافع بايده وسنانه عن واحدة مايعرفهاش، الثقة اللي بتتكلم عنها أنتَ اللي كنت بتمحيها بنفسك أجبها منين؟ ها قولي بس أجبها منين وأنتَ أصلًا بتكدب عليا وتصرفاتك كلها غلط وعلشان واحدة؟..
هبطت دموع عينيها على وجنتيها بقوة خلف بعضهم البعض ووقفت على قدميها مرة واحدة مكملة بحدة وعتاب ظاهر في حديثها ونبرتها الباكيه:
-أنا فهمتك كل حاجه وشرحتلك كل حاجه.. خلاص كاميليا هانم طلعت من حياتنا هي ومسعد اللي معرفش عرفها إزاي.. مافيش مشاكل غير غلطتي فتبعد بقى؟.. براحتك يا جاد.. براحتك خالص
أدارت وجهها إلى الصالة وكادت أن تذهب فأمسك بيدها شاعرًا أنها تحاول معه بكل قوتها لتمحي ذلك الخطأ وتبدأ من جديد، ظاهر عليها وبشدة أنها تريد نسيان كل ما مضى، أردف بصوتٍ جاد ثم لين:
-استني هنا.. بُعد ايه ده اللي أنا عايزة، أنا مش محتاج حد في حياتي غيرك أصلًا بس..
تسائلت مضيقة ما بين حاجبيها:
-بس ايه بقى؟
ترك يدها ونظر إلى عينيها بثبات قائلًا:
-الموقف صعب يا هدير وأنا محتاج وقت علشان أصفى بأمانة
بادلته نظرته وربما يكن معه حق هي أيضًا أخذت وقت ولم تعود عما حدث إلا عندما وقع في أزمته الماضية:
-ماشي يا جاد خليني معاك للآخر..
أومأ إليها برأسه وأبعد نظرة فسارت هي إلى الخارج، يفكر بها وبحديثها، هي محقة، لها حق فيما حدث ولكن ما فعلته صعب، لقد سرقت منه فرحته بعد أن أعطتها إياه، لقد كان يرى السحاب وهو يلتف حول نفسه بها ثم مرة أخرى جعلته يهبط على الأرض بكامل قوته ليتلقى صدمة صعبة عليه للغاية..
ربما معها حق عليه أن يبدأ من جديد ويحاول مع نفسه أن يمر الأمر دون فجوة أخرى بينهم فمؤكد لن تمر حياتهم هكذا بين الحزن والبعاد..
❈-❈-❈
"بعد مرور يومين"
بعد أن وجد "مسعد" نفسه يحمل قضايا كثيرة وحده قرر الإعتراف على "كاميليا" شريكته في آخر مصيبة قد فعلها مقرًا بكل شيء قد حدث بينهم وقال أنها من اعترضت طريقه مطالبة منه المساعدة في أمر "جاد" ولم يبخل عليها بفعل ذلك..
حمل مسعد الكثير وحده لأن كل ما قدم ضده كان له دليل قاطع أنه بالفعل قد حدث من قِبله، التعدي على منزل "جاد" ومحاولة سرقة ما به كان له شهود من الحارة ومن داخل البيت، محاولة وضعه ذلك السم لـ "جاد" بورشته لكي يتم القبض عليه وهو بريء وأخذ حكم لن يقل عن سنوات عديدة يذهب بها شبابه..
قد تحول كل هذا إليه في لمح البصر والله ليس بغافل عما يفعلون، لقد كان بيده كثير من الفرص كي يعود إلى طريق الله تاركًا ما يغضبه مُبتعدًا عن ذلك الحرام أخذًا القدر الكافي من الحلال الذي يود نيله الجميع ولكنه رفضه رفض قاطع..
تاركًا أولاده وبيوته الثلاثة تأكل من ما حرمه الله.. والآن هذا جزاءه، عليه أن يناله بعد كل ما فعله من تخريب في حياة البشر واستحلال عرضهم، سينال ما كان يريد أن يناله غيره، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، الآن سيتعفن داخل السجن..
وكاميليا إلى الآن تحاول بكل قوتها أن تقول أنها لم تفعل شيء، ومن هذا "جاد" ومن "مسعد" الذي تحدث عنها وقال أنه يعرفها؟ حاولت بكل الطرق أن تنكر ما قاله ولكن "مسعد" ولأول مرة كان ذكي وقد أدلى بذلك المكان الذي تقابلوا به وتم رؤية الكاميرا الخاصة بذلك المكان وظهرت كاميليا مع "مسعد" وقبله "جاد" وثبتت التهمة عليها وهي تحاول الفرار منها بكل الطرق.
أما قضية الشرف التي وضعت بها من قبل زوجها لم يكن لديها حيلة في الخروج منها، لقد كانت مثبتة بالكامل وذلك الذي كانت معه أعترف عليها باشياء لم تحدث حقًا قائلًا بأنها تراه من الحين إلى الآخر ودائمًا يتقابل معها في هذا المنزل ومن هنا علمت أن "عادل" هو من فعل كل ذلك في فترة انشغالها بـ "جاد" الغبي الذي جعلها تخسر كل شيء..
لم يكن يستحق كل ذلك الإهتمام منها.. هناك الكثير أفضل منه وأغنى ويستحقون نظرتها أما هو فسيظل ميكانيكي سيارات قذر..
تخلى عنها الجميع وكتبت عنها جميع الصحف فقد كان حقًا خبر الموسم حتى إنه وصل إلى مسامع "جاد" وزوجته وحمد الله أنه قد حدث فهنا قد فهم الجميع ما الذي ربط "مسعد" بـ "كاميليا" وكيف هو من وضع البود'رة وهي من قامت بالتبليغ..
بعد قلة حياءها وتلك القذارة التي كانت تعيش بها متناسية أنها إمرأة متزوجة في عصمة رجل، متناسية أن هناك رب مطلع يرى كل شيء، متناسية أنها لم تغض بصرها عن رجل لا يحل لها، تناست كل أمور دينها ولم تتذكر سوى أنها إمرأة تحب أن يكون معها رجل وسيم مفتول العضلات تتباهى به في تلك البيئة المليئة بالأشياء المحرمة أمام من تريد أن تجعل الغيرة تشتعل داخلهم..
الآن بعد كل ذلك تنال عقابها مثل السابق الذي اتفق معها على تدمير حياة من يعرفون الله، الآن تنال عقابها بعد أن تخلى عنها الجميع وتركوها وحدها ولم يمد لها أي أحد تعرفه من علاقاتها المزيفة يد العون بل أبتعد الجميع.. الآن ستتعفن بالسجن كما "مسعد" بالضبط..
بينما كان هناك من يُعاقب كان هناك أيضًا من يبدأ حياة جديدة، عاتبت "شهيرة" زوجها بقوة معترضة على ما فعله بزوجته السابقة، لم يكن يحق له أن ينتقم منها بهذه الطريقة البشعة المهينة إلى حد كبير، فقد تخلى عن كل شيء بداخله من رحمة وأحضر رجل آخر قاسي جاحد ليستطيع أن يمحي كل العيش الذي كان بينهم ويفعل بها ذلك..
برر موقفه بكثير من الأشياء التي فعلتها به وتركها تقول ما يحلو لها ثم مرة أخرى تعود ففعل ما فعله ومضي الأمر والآن خرجت من حياتهم تلك البغيضة التي كانت تعكر صفوهم ليعيشون في راحة منتظرين ذلك المولود الذي بداخلها وعندما يأتي سيعم عليهم الحب أكثر وأكثر..
❈-❈-❈
وقف "جاد" في منتصف الورشة يستمع إلى حديث العاملين ويرى فرحتهم الكبيرة بعودته وإعادة تشغيل الورشة مرة أخرى..
تحدث طارق وهو ينتقل إلى ركن آخر بالورشة ناظرًا إلى "جاد" يقول بجدية ويقين:
-والله يسطا جاد دا زي ما يكون ربنا عمل كده علشان اللي اسمه مسعد دا يتسجن
أردف "حمادة" يُجيب عليه من بعيد وهو يقف أمام صندوق سيارة يعمل على تصليحها:
-والله يا طارق نفس اللي كنت بفكر فيه
أجابه الآخر يبتسم ساخرًا بقوة وهو يلوي شفتيه:
-من أعمالهم سُلط عليهم
أكمل حديثه بعفوية مطلقة وهو يتوجه إلى "جاد" الذي جلس على المقعد أمامهم يستمع إلى ذلك الحديث بوجه مُبتسم بارد:
-وبدل قضية يبقوا اتنين وتلاتة بعد ما اتهجم على البيت
اعتدل "جاد" في جلسته ونظر إليه عن قرب بدقة متسائلًا باستغراب وعينيه الرمادية متعلقة عليه، الآن للأول مرة يستمع هذا الحديث:
-بيت مين؟
لم يُجيب عليه أحد منهم ونظروا إلى بعضهم البعض بصمت تام وقد ظهر على وجههم الشحوب التام وكأن الإجابة قاتلة، أردف هو مرة أخرى باستغراب أكبر منتظر منهم إجابة:
-مالكم سكتوا ليه؟ بقول بيت مين اللي مسعد اتهجم عليه
أبتعد "طارق" إلى الخلف وعينيه بالأرض ثم تقدم حمادة من عمله مرة أخرى ولم يتحدث أحد منهم ولم يجيبوا عليه، وقف "جاد" على قدميه صارخًا بعنف:
-ما تنطق ياض أنتَ وهو
نظر إليه "طارق" متحدثًا بجدية ناظرًا إليه بخوف:
-اهدا يسطا جاد
-طب ما تردوا عليا
تحدث حمادة بضيق وانزعاج من حديث "طارق" الثرثار الذي اوقعهم بالخطأ على الرغم من أن "سمير" قد قال لهم أن "جاد" يجب ألا يعلم بما حدث من قِبل "مسعد":
-عجبك كده؟
أجابه الآخر بضيق أشد منه لأن الحديث خرج من بين شفتيه دون قصد:
-مش قصدي
بعد أن استمع حديثهم شعر بنيران داخله تود أن تحرقه أما يحرقها هو، رأى نفسه كـ الأبلة بينهم هم الاثنين وكل منهم يتحدث وهو لا يدري بشيء، ولكن هناك شعور داخله يقول له أن ذلك بيته!:
-قسمًا بالله هتصرف تصرف غبي معاكم ما تردوا عليا!.. بيتي؟
-أيوه يسطا جاد بيتك
تقدم إليه يهتف وقلبه يؤلمه خوفًا من أن يكون ما أتى بخلده:
-بيت أبويا ولا ده
ما كان من الآخر إلا أن يخفض رأسه هاتفًا بالحقيقة:
-ده
تسائل مرة أخرى ووقع قلبه بين قدميه رعبًا من الاستماع للقادم:
-مين كان فيه؟..
لم يُجيب عليه فتقدم منه "جاد" يمسكه من ياقة قميصه بعنف صارخًا به:
-انطق ياض
أجابه بحزن شديد لأن كل ذلك حدث بسببه هو وبسبب كثرة حديثه لو لم يكن تحدث بهذا الأمر من البداية ما كان ليصل إلى هذه النقطة:
-مراتك يسطا جاد
تركه "جاد" بحدة وابتعد للخلف وعقله لم يستوعب ما الذي قاله هذا الأبلة والآخر مثله؟ كيف تهجم على بيته وهو غائب، وكيف هي فقط التي بالبيت وأين "سمير" الذي أوصاه عنها؟ أين والده وشقيقتها؟ أين كان الجميع عندما تهجم على بيته ذلك الحقير وهو غائب..
وكيف هي لم تقول له؟ إلى الآن لم تتحدث بالأمر ولم تخبره! فقط كل ما تقوله أن يبدأ معها حياة صريحة وكل ما يحدث إن كان له أو لها يجب على الآخر أن يعرفه!..
ترى ما الذي فعله بها؟. ما الذي قام به في المنزل وهي وحدها؟.. كيف هو لا يعرف كيف؟..
اشتعلت النيران داخله أكثر من أي وقت مضى، وازدادت وتيرة أنفاسه بقوة وعنف، تضخم صدره العريض بسبب صعوده وهبوطه المستمر وعقله وقف عن العمل تمامًا..
وقف عندها هي فقط! إلى الآن هي تكذب وهناك الكثير مخفي عنه، ليس فقط الحمل الذي كاد أن يتناسى ما حدث به، هناك غيره الكثير تخفيه ومازالت تفعل ذلك وتقول أنها المجني عليها من قِبله وتظهر كم البراءة والحنان الذي بداخلها وتقدم يد العون لكي يتخطى كل شيء وهي من الأساس الغبية الوحيدة هنا..
الغبية التي تخفي عنه كل شيء يحدث معها وكأنه ليس بزوجها، وكأنه رجل غريب عنها، ولكن هذه المرة لن يكون لين كالمرات السابقة.. حقًا عليها أن تقابل عاصفته..
#ندوب_الهوى
#الفصل_التاسع_والعشرون
#الأخير
#ندا_حسن
"هوت العقول صارخة من كثرة التفكير
داوت القلوب الموقف بكثرة الحب"
جالسة على الأريكة في صالة الشقة بهدوء تام تتابع التلفاز بينما هناك طعام على النيران في المطبخ تنتظر نضجه، استمعت إلى صوت المفتاح الذي استدار في باب الشقة ثم من بعدها فُتح، نظرت إليه وجدته هو يدلف وأغلق الباب من خلفه بعنف شديد وتقدم إلى الداخل وعينيه تقع عليها ولم تتحرك وتعابيره لا تبشر بالخير أبدًا...
ما به؟ ما الذي من الممكن أن يكون حدث؟ لما ينظر إليها بهذه الطريقة؟، عينيه ليس لها أي لون تستطيع تحديده وتشعر كأنه غاضب، شفتيه مضمومه وصوت أنفاسه عاليه تستمع إليها بوضوح وهو يتقدم منها، تعرفه عندما يكن غاضب وهو هكذا الآن ولكن لما ينظر إليها هكذا ولما يتقدم بهذه الطريقة؟ هل هي من أغضبته!.
وقف أمامها بجدية تامة، قدم كف يده العريض إليها يتمسك بذراعها بحدة وعنف جاذبًا إياها بقوة لتقف أمامه تواجهه..
جذبها بحدة شديدة فمالت عليه تستند بيدها الأخرى باستغراب جُلي وعينيها تتسائل بخوف ما الذي من الممكن أن تكون فعلته هي دون عملها!..
وجدته يهتف بنبرة خشنة حادة غير قابلة أي نقاش فقط سؤال وجواب ويروده الآن وعلى إجابتها أن تكون واضحة:
-مسعد الشباط اتهجم على البيت؟
اتسعت عينيها بصدمة وخوف بعد أن قال هذا الحديث، كيف علم عن هذا فالجميع قال إنه يجب ألا يعرف شيء، كيف هي مستغربة فهم في حارة لا يخفى بها شيء، صرخ بها بعنف وهو يراها تنظر إليه هكذا تستوعب أن الأبلة قد علم:
-انطقي.. مسعد جه هنا
أومأت إليه برأسها عدة مرات متتالية وعينيها متعلقة به بخوف ومظهره لا يبشر بالخير بعدما كان هدأ، أكمل متسائلًا ومازالت يده تتمسك بها بقوة وعنف:
-دخل هنا؟
-أيوة
تسائل ثانيةً بجدية شديدة وخوف ظاهر فقط في عينيه وكأنه لا يريد أن يعلم ما يدور داخل رأسه، يريده غير ذلك:
-وكنتي لوحدك؟
أومأت إليه مرة أخرى وهي تبعد يدها اليمنى عن صدره تضعها على كفه العريض الذي يتمسك بذراعها الأيسر:
-عمل ايه؟ وكان عايز ايه.. وسمير كان فين
أخفضت بصرها للأرض وحقًا لا تريد تذكر أي من هذا، بدأت في الكذب حتى يبتعد وتهدأ عاصفته التي تظهر وكأنها لن تهدأ أبدًا:
-معملش حاجه وسمير مكانش موجود في البيت
شعر أنها تكذب، يعلم متى تكذب وكيف تفعلها والآن هي تكذب، ضغط على يدها بقوة كبيرة جاذبًا وجهها إليه بيده الأخرى لتنظر إليه وهو يتحدث قائلًا بنبرة حادة:
-لأ لو مفكرة إنك هتعرفي تكدبي عليا هيبقى يومك أسود وهطلع القديم والجديد عليكي.. انطقي
تسائلت بمراوغة وكذب معتقدة أنها إذا استمرت في فعل ذلك سيعتقد أنها تتحدث بالصدق:
-أقول ايه؟ مفيش حاجه حصلت علشان أقولها
أقترب بجسده منها بحدة وعينيه الرمادية قد ذهبت إلى مكان آخر لا يعرف من هو "جاد" والآن عينيه حمراء وكأن بها لهب من شدة الغضب:
-لأ فيه وهتقولي كل حاجه.. سامعه
ضغطت على كف يده بيدها محاولة إبعاده مكرمشه ملامح وجهها تحاول أن تأخذ الحديث إلى طريق آخر:
-طب سيب دراعي يا جاد.. أنتَ ماسكني كده ليه
يعلم ما الذي تحاول فعله، هذه ميزة الأزواج المحبين لبعضهم الذين يعرفون تفاصيلهم أكثر من أي أحد آخر، وهو كان على دراية بما تريد فعله، أمسك بذراعها الآخر بيده الأخرى بحدة أكبر ضاغطًا على ذراعيها الاثنين:
-اتكلمي يا هدير مخليش عفاريتي تحضر عليكي... مسعد كان عايز ايه
كرمشت ملامح وجهها أكثر من السابق بعد أن شعرت بالألم بسبب مسكته المؤلمة هذه ثم قالت بنبرة متضايقة بقوة:
-كان جاي يشمت فيا.. ارتحت؟ جاي يشمت إنك مسجون ومش هتطلع من السجن وهتقضي عمرك فيه
تسائل بحيرة وعينيه تتحرك على عسليتها بدقة وقلبه يدق عنفًا داخل قفصه الصدري:
-عملك حاجه؟..
أجابته في لحظة إتمام سؤاله بقوة كبيرة ووجهها أمامه ينظر إليه بحدة:
-لأ معملش
أجابها هو الآخر بيقين قوي وكأنه متأكد من أن "مسعد" قد فعل لها شيء على الرغم من أن العاملين معه قالوا أنه كان يسرق من المنزل ولكن هذا الحديث لم ولن يدلف عقله:
-لأ عمل وأنا عارف إنه عمل يبقى تتكلمي وتحكيلي اللي حصل بالحرف الواحد أحسن من اللي هيحصل لو فضلتي على طبعك الو** ده
أردفت بقوة وعينيها مُتسعة بغير تصديق وهي تستمع لحديثه الذي لم يكن بالحسبان، فهي قد أخفت عنه ما حدث فقط خوفًا عليه، ولا تريد له الحزن والشعور بالعجز:
-طبع ايه؟. طبع ايه ده.. أنا غلطت إني خايفه عليك، كده غلطت علشان خايفة عليك يا جاد
صاح بقوة قائلًا بنبرة حادة ناظرًا إليها بغضب يحرك ذراعيها أسفل يديه بحدة وقسوة:
-آه غلطتي ومش كده وبس أنتِ بتلبسيني العمة، بتخليني قرطاس لب قدام الناس لما يدخل يتهجم عليكي في بيتي وأنا معرفش أعمل حاجه
أجابته هي الأخرى بقوة وصوتٍ عالٍ للغاية محاولة دفعة بعيد عنها فهو يتحدث بعقل طفل صغير أو ربما الصدمة مما حدث أثرت عليه:
-وهو أنتَ كنت هنا ما بلاش غباء بقى
ترك يدها الاثنين وبيده اليمنى أمسك فكها ضاغطًا عليه بعنف وقوة صارخًا بصوتٍ عالٍ حاد والغضب قد تمكنه:
-اخرسي خالص.. أنتِ كمان بتعلي صوتك.. كمان
-عملك ايه اتكلمي
دفعت يده بقوة عنها ونظرت إليه باستغراب جُلي.. ما هذا الذي وقعوا به، لو كان أحد السحرة قد فعل لهم سحر لا يُفك لم تكن حياتهم بهذا الشكل أبدًا لقد تخطوا جميع الحدود ولا يعرفون كيف تكون العيشة بسلام:
-اللي أنتَ قولته اتهجم عليا
تسائل بنفاذ صبر:
-إزاي
تجمعت الدموع بعينيها وهي تراه يُصر على معرفة ما الذي حدث ويجعلها تستعيد ذكريات ذلك اليوم المشؤوم:
-خلاص يا جاد الله يخليك كفاية بقى
أردف بقسوة شديدة ووجه جامد حاد بملامحه ليس به أي تعابير قائلًا:
-اتكلمي
وجدها تنظر إليه بصدمة وعينيها مُتسعة مستغربة من تحوله هكذا إلى شخص آخر لا تعرفه بالمرة، فأكمل قسوته عليها قائلًا بجدية طاغية هي تعرفها:
-ردي يا هدير وإلا قسمًا بالله... ولا بلاش حلفان أنتِ عرفاني من غير حلفان
خرجت دموع عينيها ونظرت إليه بضعف شديد ثم أبعدت نظرها عنه قائلة بانكسار وقلة حيلة:
-اتهجم عليا يا جاد... زقني على الكنبة هنا وربط ايدي وبوقي علشان معرفش أصوت ولا أعمل حاجه
تسائل وهو ينظر إلى دموعها السائلة على وجنتيها، ولكنه الآن لن يحن إليها إلا عندما يدري بكل ما حدث في غيابه والجميع يخفيه عنه، لن يواسيها ولن يقترب منها، سيتخطى كل الحدود اليوم:
-وبعدين
أغمضت عينيها بقوة فخرجت الدموع بغزارة ثم فتحتهما قائلة:
-دخلني.. دخلني جوا في الاوضه
أقترب منها مرة أخرى يتمسك بذراعها كمنذ لحظات، ضاغطًا عليه بحدة جاعلها تنظر إليه وهو يتسائل بقوة:
-في الاوضه فين؟.. اوضتنا؟
أومأت إليه برأسها وعينيها وكأنها أخذت التصريح بالبكاء المستمر وكأنها أيضًا لم تكتفي بالبكاء في الأيام الماضية..
-كملي
تألمت بقوة وهو يضغط على ذراعها بغل واضح على ملامح وجهه بعد الاستماع إلى حديثها الذي يقتل أي رجل من الممكن أن يستمع إليه:
-وبس يا جاد حاول إنه يتهجم عليا بس ضربته وفكيت الربطة اللي على بوقي وصوت.. سمير سمعني هو ومريم ولحقوني
ضيق عينيه الرمادية ذات اللون المختفي عنها، تصاعدت أنفاسه الحادة أكثر وهو يقول بإصرار وحدة والغضب قد عمى عيناه عن أي شيء:
-يعني ايه لحقوكي.. ها يعني ايه؟ لأ مش فاهم فهميني كده بالراحة علشان أنتِ يوم أهلك أسود
خرج صوت بكائها وهي تنظر إليه بضعف قائلة بنبرة خافتة حزينة منكسرة:
-أنتَ بتيجي عليا تاني يا جاد.. بتيجي عليا وبردو أنا المجني عليه
أصر على موقفه ولم يرق قلبه ناحيتها أبدًا، أي رجل غيره لن يكن هذا رد فعله عندما يعلم أن هناك رجل قذر تهجم على زوجته داخل بيته وفي فراشه، وهو آخر من يعلم، تريد المواساة وأن يكون معها أليس كذلك؟ إذًا لما أخفت ذلك عنه، لما!؟ ما الذي يفعله عندما يعلم بهذا الحديث، داخله براكين تحرقه:
-ردي عليا.. اتهجم عليكي إزاي وعمل ايه
أردفت ببكاء حاد وضعف شديد في نبرتها:
-مُصر يعني تقهر فيا.. مُصر
-آه مُصر
جذبت يدها بحدة شديدة ووقفت أمامه معتدلة ووجهها ملطخ بالدموع الكثيرة وشفتيها حمراء من شدة البكاء، صاحت بقوة محاولة أن تقص عليه ما حدث بقسوة كما هو قاسي عليها:
-ماشي يا سيدي.. فتحت الباب لقيته في وشي حاولت اقفله زقه وزقتي ودخل وقفل وراه، جريت علشان أفتح البلكونة وأصوت لحقني وشالني وهو كاتم بوقي ورماني هنا على الكنبة دي بكل قوته ملحقتش أصوت ولا أخرج الصوت مني وكتم بوقي بقماشة وربط ايدي بطرحتي...
أشتعل الغضب داخله أكثر وأكثر، رأى خصلاتها! رأى شعرها الأسود! مرة أخرى له هذا وعلى الحقيقة، اشتعلت نيران الغضب والغيرة الحرة داخله، قلبه يغلي في قدر مياة على نيران مشتعلة بقوة:
-بطرحتك؟ شاف شعرك قصدك
صاحت بقوة مُجيبة إياه بتأكيد وهي تحرك رأسها للأمام بعنف:
-آه شافه، مش ده اللي عايز تسمعه، آه شاف شعري والعباية اترفعت وشاف رجلي كلها ولما دخلني جوا قطعلي العباية عايز تسمع ايه تاني
صرخ بها بقوة وصوتٍ عالٍ لن تستغرب إن كان من بالخارج سمعه، وجسده بالكامل متشنج بعصبية وغضب:
-اخرسي بقى.. اخرسي
عاندته بقوة كبيرة وهي تصيح مثله مُجيبة إياه بحديث أكثر حرقة من السابق:
-لأ مش هخرس مش ده اللي عايز تسمعه؟ أقولك إنه ضربني وقلع شعري في أيده؟ ولا أقول إن كل ده على سريرك
أبتعد للخلف وصرخ بها بقوة جعلتها ترتعد خوفًا وصمتت وهي التي كانت تريد التكملة:
-اخرسي يا هدير
تركها وذهب دالفًا إلى غرفة نومهم بعنف وهمجية واضحة، ذهبت خلفه سريعًا تدلف الغرفة لتراه يرفع الملاءة عن الفراش بعنف كبير ملقيًا الوسادة على الأرضية وكأنه في حالة اللاوعي
-أنتَ بتعمل ايه؟
دفع الفراش بقدمه بعنف وقوة كبيرة قائلًا بجدية تامة وقلبه لا يستطيع السيطرة على دقاته ولا حتى يستطيع السيطرة على نفسه وهناك داخله حرب كبيرة ستنتهي بموته:
-السرير ده هيتغير.. والركنة هتتغير
هتفت باستهجان وضيق وهي تتقدم منه قائلة بحدة:
-ليه كل ده أنا شيلت الفرش في وقتها ورميته
صرخ بها وهو الآخر وتقدم منها بقوة وهمجية جعلتها ترتعد منه ومن حركاته الغريبة الغير متوقعة منه، صرخ بعنف وحدة قائلًا أشياء يجب ألا يقولها:
-ده اللي ربنا قدرك عليه؟. ده اللي عرفتي تعمليه بس سمحتيله يدخل عليكي ويعمل كل ده عادي
نظرت إليه بذهول وبعينين دامعتين توقفوا عن البكاء من أثر الصدمة التي ألقاها عليها دون رحمة، أهي كانت موافقة على ذلك؟ أهي من جعلته يفعل ذلك بها؟ إنه قد جن من المؤكد فهذا ليس حديث شخص عاقل.. صاحت بقوة هي الأخرى تماثله:
-عادي؟.. أنتَ اتجننت، يعني أنا كنت قادرة عليه وسكتت؟ أنا اضربت منه بما فيه الكفاية ومقدرتش عليه ولولا سمير مكنتش هبقى واقفة معاك كده
أشار بيده مستمر بالصراخ عليها وكأنها هي من فعلت كل ذلك:
-وهو كان فين من البداية.. وسابك لوحدك ليه
أردفت بنبرة حادة ناظرة إليه بغضب بعد أن جعلها تفقد كل العقل الذي كان بها، بعد أن كانت تريد احتواء الموقف مقدرة ما الذي يمر به:
-كان بيجري وراك عند المحامي هو ده جزاته
صرخ بعنف قائلًا وهو يتقدم بكامل قوته وعنفوانه من المرأة ثم بيده الاثنين أطاح بكل ما عليها من زينه لها وزجاجات عطر تخصهم، أطاح بكل ما كان موجود عليها ليصدر صوتًا حادًا عنيفًا على أثرها ولتبقى فارغة بعد أن كسرت كل الزجاجات التي كانت موجودة وتناثرت شظايا الزجاج في الغرفة..
-يلعن أبو دي عيشة
صرخت هي الأخرى بعنف وقوة واضعة يدها الاثنين على أذنيها بعد أن استمعت للصوت الذي ازعجها وجعلها تشعر بالآلام..
مرة أخرى يقترب على حين غرة وهو غاضب بشدة وعقلها يقول لها أن عليها أن تتفادى كل ما يأتي منه فقط في هذا الوقت.. هذا أسوأ موقف قد يكون مر عليهم إلى الآن:
-اخرسي بقى مش عايز اسمع صوتك.. عملالي فيها مصلحة اجتماعية ومن ساعة ما جيت وأنتِ واكله دماغي عن الصراحة وإزاي نقرب بالصدق
قلد حركاتها عندما كانت تتحدث بهذا الحديث إليه لكي تكون حياتهم أفضل بعد أن تعلم من الدروس الذي مضت بهم:
-بلاش تخبي يا جاد وأنا مش هخبي ولو حصل أي حاجه زعلتك أو زعلتني نتكلم.. بلاش نبعد يا جاد بلاش الغلط يا جاد وأهم حاجه الصراحة يا جاد
صرخ مرة أخرى مغتاظًا منها وهو يراها تنظر بالأرضية وتبكي واضعة يدها الاثنين على أذنها:
-هي فين الصراحة دي... هي فين
هدأت نبرته قليلًا ولكنها مازالت حادة جارحة وهو يقول لها:
-كل مرة تعملي عمله أسود من اللي قبلها يا شيخه حرام على دينك بقى أنا تعبت
أخفضت يدها من على أذنها ونظرت إليه بقوة غير مبالية بما يفعله فيكفي إلى هنا، وقفت أمامه على أعتاب باب الغرفة بعد أن عادت للخلف وهو يرمى بكل ما على المرأة وصاحت مُشيرة إلى نفسها بيدها ببكاء حاد يمزق انياط قلب المستمع ولكنه لم يكن هو هذه المرة:
-مش واخد بالك إني تعبت أكتر منك؟ مش واخد بالك إن أنا اللي حصل فيا كده بالغصب مش بالرضا؟ مش واخد بالك إنك جاي عليا بزيادة.. زي المرة اللي فاتت بالظبط بدل ما تقف جنبي واقف قصادي
أردف بقوة وجدية شديدة واقفًا قبالتها ناظرًا إليها من الأعلى إلى الأسفل مستمر في قسوة قلبه التي لأول مرة يخضع لها، ولكن الأمر صعب عليه كثيرًا حقًا، لأ يستطيع أن يكون هادئ أو يقف جوارها:
-وهفضل واقف قصادك لحد ما تتعدلي.. قولت لنفسي ياض يا جاد كفاية خصام اللي حصل حصل وعدا أفرح باللي جاي وكنت ناوي أطلع على صلح وكفاية لحد كده لكن اكتشف أن الهانم هي والكل مستغفلاني كأني عيل صغير بيلعب في الشارع مش هيعرف يجيب حقه
تسائلت بقوة مضيقة ما بين حاجبيها باستنكار:
-تجيبه من مين؟ مسعد في السجن خلاص
أومأ إليها بكره شديد وحقد ظهر على ملامحه على ذكر اسم ذلك الحقير:
-صح مسعد في السجن
تقدم ليمر ذاهبًا إلى الخارج ودفعها بيده في جانب صدرها بحدة وقوة كبيرة لتصطدم بالباب بظهرها بعنف وذهب هو وقد استمعت إلى صوت باب الشقة الذي أغلق بعنف وقوة..
بكيت بكثرة وهي تشعر أن عينيها ستجف إلى الأبد فقد بكيت كثيرًا في تلك الفترة الماضية.. لما كل ذلك يحدث لهما؟ لما لا تستطيع أن تشعر بالراحة قليلًا، تقدر ما الذي يمر به بعد أن علم بأن هناك من أقترب من زوجته وداخل بيته، تعلم أنه يشعر بالعجز وكثير من الأشياء التي سيكون من الصعب أن تفهمها..
ولكنه كان قاسي للغاية غير مقدر أي شيء تمر به، وكأنها هي من جعلت ذلك الحيوان يدلف بينهم ويفعل كل ذلك، حديثه يقول إنها كانت تستطيع فعل أكثر من ذلك ولكنها لم تفعل.. لم يشعر بها وهي تبكي عليه وتناجيه لكي يأتي إليها..
قسوته هذه المرة كانت أكبر من كل شيء متناسيًا كل الحب الموجود داخل قلبها له، تناسى كل شيء بينهم وتذكر كل خطأ فعلته ليقسو ويتكبر بضمير يشعر بالراحة..
❈-❈-❈
خرج "جاد" من الشقة وقلبه يغلي داخله، نيران مشتعلة تطوف حول عقله تجعله لا يستطيع التفكير، جسده متشنج غاضب بحدة، وعصبيته تعمي عينيه، لو قابل أي أحد الآن مهما كان من هو سينفعل عليه وسيؤدي بما بينهم..
لقد تعرض لكثير من الصدامات في الأيام الماضية وهو إلى الآن لا يستطيع المواجهة بكل هذا الجمود وآخرهم زوجته!..
لقد حاول ذلك الحيوان الإعتداء عليها ودلف منزله في غيابه، لم يكن يتجرأ أبدًا على فعلها وهو هنا في الحارة أو حتى في أي مكان خارجها ولكنه كان على يقين أنه لن يخرج فاستغل الفرصة وأراد أن يسلب حق "جاد" بها..
فقط لأنه ذهب ساعات فعل هو كل هذا؟ لم يستطع أحد الدفاع عنها وحتى هي لم تستطع الدفاع عن نفسها! يعلم أن الأمر صعب عليها للغاية ومؤكد كانت خائفة بل مرعوبة فما حدث في الماضي يعاد مرة أخرى ولكن وهو بعيد عنها..
ومع ذلك لا يستطيع أن يغفر لها فعلتها هذه المرة، لن يستطيع فعلها أبدًا ومهما مر عليهم من الوقت فهي مرة أخرى تخفي عليه أمر أكبر وأبشع من حملها..
تخفي عنه أن هناك رجل آخر دلف بيته ورأى ما حل له هو فقط منها، رجل صعد على فراشه وجلس عليه بكل أريحية وقابلها بالضرب وأفعال دنيئة..
ما الذي تنتظره منه أن يخفف عنها ويقف جوارها! لا ليس هو هذا الرجل إنه الآن يشتعل غضبًا ورجولته تصرخ داخله على ما حدث لزوجته وهو لا يعلم ولا يستطيع أخذ حقها وحق نفسه..
عنفوانه يدعوه لفعل أي شيء يجعله يخرج الكبت الذي داخله..
ويريد الحديث مع ابن عمه الذي أمنه على بيته وأهل بيته ولكنه لم يكن أهل لهذه الأمانة... ترك زوجته وحدها في المنزل ولم يكن هو به حتى شقيقتها لا يدري أين كانت في مثل هذا الوقت ولما لم تكن معها..
هبط الدرج بعصبية وعنف شديد ثم وهو يسير في ردهة المنزل ليخرج دلف "سمير" من الباب وقابلة قبل الخروج إلى الشارع.. عندما رآه "جاد" أمامه صاح بعنف وقوة دون مقدمات:
-كنت فين يا سمير لما مسعد اتهجم على مراتي
نظر إليه الآخر باستغراب وعينيه مثبتة عليه بقوة، داخل عقله يفكر من أين علم بهذا الحديث:
-وأنتَ عرفت منين؟
استنكر سؤاله وقال بحدة متهكم بسخرية شديدة عليه:
-ايه مكنتش عايزاني أعرف علشان تداري على خيبتك
ملامح "سمير" بالكامل كانت عبارة عن تساؤل مستمر وعقله لا يستوعب لما "جاد" يتحدث معه بهذه الطريقة ولما ينظر إليه هكذا، وعن أي خيبة يتحدث:
-خيبة ايه يا جاد
أقترب منه خطوة ناظرًا إليه بقوة وداخله عنف لم يخرج إلى الآن وشيطانه يدعوه لإخراجه عليه:
-خيبة ايه؟ أنا ياض مش قولتلك خلي بالك من مراتي وحتى لو مقولتش هو أنتَ مش موجود وعارف المفروض تعمل ايه
أكمل بسخرية مُهينة لرجولة "سمير" الذي لم يكن يستحق منه هذا:
-علشان بعدت شوية يحصل فيها كده.. ايه مش سايب راجل هنا معاهم
تضايق "سمير" من حديثه الغير مرغوب به وأقترب منه خطوة هو الآخر قائلًا بحدة مثله مدافعًا عن نفسه:
-لأ راجل يا جاد وأنتَض عارف كده كويس.. أنا في الوقت ده كنت عند المحامي بحاول معاه نلاقي حاجه يطلعك بيها يعني مكنتش بلعب
أجابه بصوت عالي مُردفًا:
-ولزومه ايه بقى يطلعني دا الموت كان أهون
أشار إلى نفسه بضيق واستهجان وقد أثر حديث ابن عمه به ولكنه إلى الآن يقدر الذي هو به، فقال بجدية:
-أنا لما رجعت عملت اللي عليا وكل اللي أقدر عليه ومخلتش أي مخلوق يجيب سيرة مراتك وطلعتها من الموضوع
ضيق عينيه الرمادية الغاضبة عليه قائلًا بتوضيح أكثر وصوته حاد عنيف لأن من الواضح أن ابن عمه طفل صغير أحمق يظن أن ما فعله قد دلف عقول الناس:
-وهي دي بقى المشكلة! أنتَ بتضحك على نفسك ولا عليا؟ الحارة كلها عارفه مسعد كان عندي بيعمل ايه بلا سرقة بلا بتاع
أردف بقوة هو الآخر مثله يُجيب عليه موضحًا ما الذي فعله لأنه هو الآخر ربما أحمق وأتي بكامل العنف القابع داخله يخرجه عليه:
-وأنا كنت أعمل ايه يا جاد.. ده التصرف الوحيد اللي كان صح وعملته في وقتها ولميت الدنيا فمتجيش أنتَ تزعق معايا كده وتقولي كنت فين ومكنتش فين
تضايق "جاد" هو الآخر من حديثه، هو الآن لا يريد أن يقف قبالته أحد فقط عليهم الاستماع، أقترب مربتًا على جانب صدره بظهر يده بعنف وقوة وهو يصيح بغضب:
-لأ هزعق وستين هزعق ولا أنتَ مش فارقلك أن واحد وسخ زي ده يدخل بيت أخوك ويدوس على شرفه
تنهد "سمير" بصوت عالي وحاول أن يكون هو الهادئ الآن لأن "جاد" في حالة لا يحسد عليها، نظر إلى يده التي تمتد إليه بقوة ثم قال باستغراب وذهول وقد جرحه حديثه بعنف، كيف لا يفرق معه أخيه؟:
-مش فارقلي؟.. مالها نبرتك متغيرة عليا يا جاد
عاد للخلف صارخًا بعنف:
-علشان تستاهل.. كلكم تستاهلوا محسسني إني عيل صغير وكل واحد بيخبي عني حاجه شكل.. ما تجيبلوا الرضعة أحسن
هتف "سمير" بقوة قائلًا ناظرًا إليه:
-أنا عملت اللي عليا قدام ربنا بلاش قدامك ولو كنت أعرف أعمل أكتر وأقتله كنت عملتها بس مش هيفيد وإننا نخبي عليك فده علشان زعلك يسطا جاد وعلشان الحالة اللي أنتَ فيها دلوقتي وكلنا عارفين إن لو كان مسعد بره السجن وأنتَ عرفت كان زمانه ميت وأنتَ بتتحاكم
أجابه "جاد" مُبتعدًا عنه بقوة وحرقة داخل قلبه لا يستطيع أن يتعايش معها ولو لحظة واحدة:
-ياريت كان بره.. بس ملحوقه
تحرك "سمير" للداخل يهم بالصعود إلى الأعلى قائلًا بحزن شديد ظهر في حديثه:
-عن اذنك يا ابن عمي علشان شكلك دلوقتي مش عارف أنتَ بتقول ايه
لم يبالي بما استمع إليه وكان قلبه مقرر أن يكون قاسي على الجميع يحمل كل ما بداخله من جحود وقسوة:
-لأ أنا عارف أنا بقول ايه كويس وبقول إنك مكنتش قد الثقة اللي ادتهالك
استدار "سمير" بقوة مدافعًا عن نفسه مرة أخرى بقوة أكبر من السابق لعلى ذلك الأحمق يصمت:
-كنت قدها وأنتَ عارف كده كويس وأنا هسكت علشان مقدر اللي أنتَ فيه
أقترب منه "جاد" وهو معمي العينين وقد كان غضبه حارق لا يستطيع فعل أي شيء الآن سوى أنه مُتعصب وغاضب:
-لأ متقدرش اللي أنا فيه.. مش عايزك تقدر ورد عليا وريني كده يلا
صعد "سمير" على الدرج وتركه فقد فهم أنه الآن يريد العراك أو أي شيء يجعله يخرج ما داخله وهذا لن يكن أفضل شيء أبدًا، قال بنبرة حادة:
-خلاص يا جاد كفاية لحد هنا الكلام اللي جاي هيزعلنا
أجابه الآخر بحزن طاغي عليه من كل جانب:
-مظنش إن فيه حاجه ممكن تزعل أكتر من كده
صعد "سمير" إلى الأعلى وخرج "جاد" إلى الشارع وداخله قوة هائلة تدعوه لقتل أحدهم..
❈-❈-❈
صعد "سمير" إلى الأعلى ودلف إلى شقته، عقله مشوش للغاية بسبب ما حدث قبل قليل بينه وبين ابن عمه، أول ما يشغل تفكيره من الذي أخبره بما حدث من "مسعد"؟ زوجته مستحيل أن تقول له شيء كهذا إنها كانت من أول الأشخاص الذين ودوا إخفاء الأمر عنه، ولكن صحيح في هذه الحارة لا يحدث شيء إلا وعلمه الجميع وبالأخص من يخفون عنه..
مؤكد أنه سألها عما حدث وقد سردت عليه، كان يبدو عليه الضيق الشديد والعصبية المفرطة.. حتى من قبل أن يتحدث معه وربما قد فعل معها مثله تمامًا وأقام الحد عليها..
ولكن الأهم من كل هذا وما جعله يحزن وبشدة هو نظرة ابن عمه له، هل يراه ليس رجل حقًا؟ إنه عندما دلف إليها "مسعد" كان هو عند المحامي الخاص به مهموم للغاية ولا يدري ما الذي يستطيع فعله لأجله، إذًا هو لم يكن يلهو ويلعب بل كان في أمر هام وخاص بحياته أيضًا..
وعندما أتى لم يكن يريد أن يدلف إليها في وقت متأخر من الليل ويعتبر نفسه بهذا جيد للغاية لأنه لا يجوز فعلها مهما كانت درجة القرابة بينهم وهو على علم بذلك ويعلم أن غيرته على زوجته عمياء مهما كان ما يحدث..
ثم علم ما حدث لم يتأخر لحظة واحدة وبادر بالحلول في لحظات بعد أن أخذها من بين يدي ذلك الحقير ولم يستطع أن يفعل معها شيء حمدًا لله ثم سريعًا فكر وجعله يدلف إلى السجن بما فعله ولكن لم يأتي باسمها أيضًا وكان الأمر بعيد عنها.. ما الذي كان سيفعله أكثر من هذا؟ هو يرى نفسه فعل كل ما استطاع فعله لما يلومه الآن؟.. لما يعنفه بهذه الطريقة البشعة التي لم تكن بينهم في يوم من الأيام؟..
لقد أحزنه بشدة حقًا هذا التفكير وأحزنه أكثر حديثه الذي ألقاه عليه وهو يعلم كيف يكون تأثيره ولكن مع كل ذلك هو يقدر ما الذي يمر به، إلى اليوم لم يشعر بالراحة أبدًا، إلى اليوم منذ زواجه وكل دقيقة والأخرى تقع عليه مصيبة من أين أتت لا يدري!..
وما حدث له ولزوجته كان صعب للغاية حقًا وليس هناك من يستطيع تحمله ولو كان رجل آخر لاحترق ما داخله وخارجه ولكنه يعلم ابنه عمه جيدًا أنه كتوم إلى رجة مُرهقة.. سيلتمس له العذر لأنه في حالة صعبة وموقف أصعب من أي شيء..
صاحت زوجته بقوة كبيرة وهي تضربه بكف يدها على وجنته بخفه ناظرة إليه بذهول:
-سميـر
أبعد نظرة المثبت في الفراغ إليها قائلًا بقوة يبادلها نفس الذهول الذي تنظر به:
-في ايه
أجابت بحدة وهي تعتدل في جلستها لتكن مواجهة إياه جالسة جواره على الأريكة في صالة شقتهم:
-أنتَ اللي في ايه بقالي ساعة بكلمك وأنتَ في دنيا تانية خالص
عاد بنظرة إلى الفراغ مرة أخرى وترك وجهها الذي كان يقابله قائلًا بشرود وهدوء:
-بفكر يا مريم
وضعت كف يدها أسفل ذقنها قائلة ببرود معتقدة أنه يفكر بها:
-وبتفكر في مين بقى
أجابها بقوة ونبرة ثابتة حادة ومازالت عينيه على الفراغ يهتف:
-جاد
عادت للخف برأسها وأبعدت يدها مرة أخرى قائلة بجدية متسائلة:
-وبتفكر في جاد ليه
رفع بصره عليها ليراها بملامحها تتسائل فقال هو بهدوء وكأن شيء لم يحدث.. ولكنه في الأصل قد تخطى الصدمة:
-جاد عرف كل اللي مسعد عمله مع هدير.. وطلع عفاريته عليا علشان سبتها لوحدها وكنت فين وإزاي ومش إزاي وكل الكلام ده
أردفت بعينين متسعة بقوة بعد أن اعتدلت مرة أخرى مقتربة منه متسائلة:
-وهو جاد عرف منين اللي مسعد عمله؟.. محدش يعرف غيري أنا وأنتَ وهدير والباقي كلهم مفكرين إنه كان بيسرق..
هتف قائلًا بوضوح ونبرة عقلانية متفهمة لما حدث وما يحدث:
-الناس مش هبلة يا مريم ولا حتى جاد أهبل علشان يصدق كلمتين زي دول هو عارف كويس مسعد عايز ايه من مراته وأكيد هو استجوبها كمان دا نازل من عندها شايط وبيخانق دبان وشه
صاحت بحدة بعد أن قال لها هكذا، فشقيقتها ليس لها يد بما حدث حتى ينفعل عليها ولا زوجها أيضًا فهو فهل كل ما استطاع فعله:
-وهي ايه ذنبها وأنتَ كمان ايه ذنبك.. يروح يخانق مسعد هو اللي عمل كل ده مش انتوا
سألها باستنكار مشيرًا إليها بيده:
-وأنتِ مالك اتحمقتي كده
أجابته بقوة موضحة:
-مهو الكلام اللي بتقوله يعصب
اعتدل ينظر إليها بوجهه وكامل جسده يقابلها، أردف بهدوء وقوة في نفس الوقت بنبرة ثابتة موضحة لما "جاد" يفعل هكذا:
-جاد راجل يا مريم واللي حصل من مسعد مش بالسهل إنه يعديه ولو أي واحد تاني فيه صفات الرجولة والغيرة على أهل بيته مش هيعديه ودلوقتي مسعد اتحبس يعني لا هيعرف ياخد منه لا حق ولا باطل فبيطلع عصبيته علينا وإحنا من واجبنا ناحيته نستحمل
أومأت إليه برأسها وعينيها عليه تتفهم ما الذي قاله وقد أعجبها حديثه وبشدة وكونه لم يتخلى عن ابن عمه حتى بعد حديثه الذي قاله له:
-عندك حق.. بس أنتَ متزعلش منه
ابتسم بسخرية محركًا شفتيه وأشار إلى نفسه بيده قائلًا باستنكار:
-أنا أزعل من جاد؟ أنتِ لسه عرفانا النهاردة ولا ايه؟..
ربتت على ذراعه مُبتسمة بسعادة وود قائلة وجهها بشوش يحمل الفرحة:
-ربنا يخليكم لبعض يا سمير
أخذ كف يدها من على ذراعه مقبلًا إياه ثم أردف بحنان وحب بالغ قائلًا:
-ويخليكي ليا يا أم عشق ويخلي عشق كمان
ابتسمت وهي تقترب منه تميل برأسها على كتفه قائلة بسعادة:
-ياريت يا أبو عشق
صمتت للحظة وهو يلتف بذراعه حولها ليحاوطها بيده مقربًا إياها منه بقوة، ثم تسائلت قائلة بابتسامة:
-مش ناوي تقولي اشمعنى عشق اللي عايز تسميه؟.. ده لو جات بنت يعني
أبعدها عنه ونظر إلى وجهها بقوة قائلًا باستغراب وعينيه مثبتة عليها:
-أنتِ غبية للدرجة دي يا مريم ولا ايه؟.
غمزها بعينيه وابتسم بشدة مُكملًا:
-علشان تشهد على العشق اللي بينا يا بت وتكملة
أكمل هذه المرة بوجه عابس لأنها دائمًا تقول أنها لن تكون فتاة:
-وآه هتيجي بنت وهسميها عشق بس أنتِ متقاطعيش
جذبها مرة أخرى بيده لتعود إلى مكانها تستد على كتفه برأسها وهو بحاوطها بيده فابتسمت بعمق قائلة:
-طيب يا أبو عشق
وبقيت كما هي بين يده وداخل أحضانه ترمي برأسها على كتفه وكأنها ترمي بحمولها عليه، الحب والزواج ممن تحب أفضل شيء قد يمر بك في حياتك..
أن تشعر المرأة بالأمان والطمأنينة مع رجل في مثل هذا الوقت الذي نمر به ربما يكون شيء صعب قليلًا ولكن كل منهم أتى بكامل الأصل الذي داخله ثم على أطباق من ذهب قدموه لبعضهم لتكن حياتهم هكذا.. مبشرة بكل الخير..
❈-❈-❈
"في المساء"
جلس "جاد" في الصالون منذ أن صعد إليها.. لم يتحدث معها ولم يعيرها أدنى انتباه وهو الذي كان قد قرر العودة عما حدث سابقًا والبدء من جديد على نهجها الذي يحتوى على الصراحة الكاملة بينهم ولكنها هي أيضًا من أخلفت كل شيء وكانت تود البدء وهو لا يعلم ما الذي حدث معها في غيابه..
كانت تريد أن تجعله ذلك الأبلة أمام جميع الناس بالحارة وأمام نفسه قبل أي شخص.. لما كل ذلك؟ خوفًا عليه؟ ألا تدري أن قلبه يحترق بنيران الغيرة والحرقة على ما حدث؟ ألا تدري أن هناك نصل حاد دُفع بقوة هائلة ليبقى في المنتصف بالضبط!..
يا الله عقله وقلبه وروحه، كل عرق نابض به وكل عضو يحيى يدعوه لفعل شيء لن يندم عليه أبدًا وبذلك سيكون أخذ حقه ولكن مرة أخرى يعود عنه لأن هذا ليس من طبعه...
غيرته على أهل بيته تحرقه بقوة هائلة غير معتادة.. فما سردته له عما فعله ذلك الحيوان نهش داخله وحطمه وفعل منه أشلاء لا تساوي شيء..
كذبها عليه ومداراة الأمر جعله يعود كما كان وأحضر كل خطأ قد فعلته ليكبر الوضع الأحمق الذي هم به وليبتعد عنها إلى حين أن يعود عندما يقول عقله وقلبه وهم لن يتفقوا معًا أبدًا على هذه النقطة..
الآن "مسعد" بالسجن ولن يخرج منه بسهولة فهو يحاكم على عدة قضايا وليست واحدة بعد أن أعترف عليه بعض من الشباب مثل "جمال" سابقًا أنه يتاجر في الممنو'عات.. سيقضي بقية حياته في السجن هذا إن كان له بقية من الأصل.. ربما يكون كل ما حدث هذا لأجل أن ينال "مسعد" عقابه بهذه الطريقة..
هو إلى الآن يحترق بسببه ولن يستطيع أن يجعل الأمر يمضي هكذا ولكن لن يعترض على أمر الله وقضاءه وهذا عقاب ليس بعده عقاب بل أن الله يأخذ بحقه وحق الجميع منه هو وهذه المرأة الأخرى..
أمسك ريموت التلفاز وأغلقه ثم وقف على قدميه يميل على الطاولة أخذًا هاتفه وتقدم إلى غرفة الأطفال المجاورة لغرفة الصالون، دلف إليها بعد أن أغلق الباب إلى المنتصف ووضع الهاتف على الكومود الموجود في منتصف الفراشين الصغيرين، جلس على فراش منهم ثم خلع عنه قميصه ليبقى بالقميص الداخلي..
نام على الفراش واستدار يعطي الباب ظهره وترك كل شيء بعيد عن رأسه مقررًا النوم قليلًا فهو إلى الآن لم ينعم بالراحة منذ أن أتى..
خرجت من غرفة النوم لتذهب إليه في الصالون ولكنها وجدت أضواء الغرفة مغلقة وهو ليس بها، نظرت إلي غرفة الأطفال الذي كان بابها مفتوح إلى المنتصف ووجدته ينام بالداخل..
هذا تعبير واضح وصريح عن كونه يريد الإبتعاد عنها! في ظل كل ما حدث بينهم منذ أول يوم دلفت فيه بيته هو لم يبتعد عن فراشهم يوم واحد!.. أهذا ابتعاد أم ما الذي يحاول فعله!..
أشعلت الأضواء ودلفت إلى الغرفة، جلست على الفراش في الناحية التي ينظر إليها بوجهه، أمسكت كف يده العريض وعلى أثر ذلك فتح عينيه الرمادية المُرهقة ناظرًا إليها ثم حاول يجذب يده منها ولكنها ضغطت عليه جاذبه كف يده إلى بطنها قائلة بدموع حبيسة داخل عينيها ونبرة خافتة ضائعة معه ولا تدري الذي تفعل صحيح أم لا بعد عاصفته الهوجاء:
-بلاش علشاني أنا!.. وحيات أغلى حاجة عندك.. وحيات اللي في بطني كفاية كده أنا تعبت
نظر إليها مطولًا ويده موضوعه على بطنها ويدها هي الأخرى أعلاها، أطال النظر إليها ثم صاح بحدة:
-وأنا تعبت أكتر منك
ضيقت ما بين حاجبيها برجاء وحنان تود لو تخرجه إليه تعتذر عما بدر منها كله وجعله حزين هكذا:
-طب خلاص يا جاد محلولة.. كفاية كده بقى بالله عليك
ولكنه هذه المرة كان أشد قسوة من أي موقف قد مر عليهم بحياتهم.. هو من الأساس ليس به صفة القسوة ولكنه رغمًا عنه تحلى بها:
-هو فعلًا كفاية بس مش بالساهل كده
تسائلت باستنكار وضعف وهي تراه يسحب يده منها ويدعو ما يفعله بالسهل وكأنه لا يرى ما الذي يحدث بينهم:
-كل ده وساهل يا جاد؟ كل ده وساهل؟
مرة أخرى ينظر إليها مطولًا بعينيه الرمادية يرى كل تعابير وجهها وتسرده عليه ملامحها دون حديثه منها وهو ممدد على الفراش:
-لمي كل حاجة ليكي هنا في الشقة
توسعت عينيها بقوة وصدمة كبيرة بعد أن استمعت إلى كلماته التي خرجت من فمه بكامل البساطة والسهولة!:
-ايه؟
بنفس النظرة المُثبتة عليها أجاب بقوة وقد قرر ما الذي سيفعله وانجزه بالفعل عندما هبط من هنا بعد الشجار الذي حدث بينهم:
-اي هدوم خاصة بيكي ولا أي حاجه تخصك دخليها الدولاب أو حطيها هنا واقفلي باب الاوض
أردفت بنبرة خافتة تتسائل:
-ليه كل ده
هتف وهو يبعد عينيه عنها إلى الفراغ قائلًا بقوة وجدية شديدة وقد أخذ القرار ولا يريد النقاش به:
-بكرة جاي صنايعية يشيلوا السرير وهيركبوا غيره والركنة كمان
هذا الاهدار محرم أكيد.. لما كل هذا لأجل جلوس "مسعد" عليه.. تعلم أن الأمر صعب وهي لم تتحمله ولكنها قد فعلت ما تستطيع فعله لما يريد تغير الأثاث بالكامل:
-الموضوع مش مستاهل كل ده صدقني.. العفش لسه جديد حرام كده
استدار بوجهه إليها يصيح بقوة وعنف لأنه لا يستطيع الجلوس على أي من الأشياء التي لمسها ذلك الحيوان في بيته:
-لأ مش حرام ودي حاجتي وأنا حر فيها.. أنا اللي هدفع وأنا اللي هرمي مايخصكيش
عادت للخف برأسها عندما وجدته يصيح بعنف وقالت بنبرة لينة هادئة ليهدأ قليلًا:
-براحتك... اللي شايفه صح أعمله
صاح مرة أخرى بقوة أكبر من السابق وقد جعلها كل هذا تعود للخف بقرار مصالحته:
-من بكرا الصبح تنزلي عند أمك ومترجعيش غير لما أقولك
-حاضر
اعتدل في نومته على الفراش الصغير وأدار ظهره إليها يستعد للنوم بعد أن قال لها ما يود قوله ولا يريد بعد ذلك شيء يزعجه أكثر من ذلك ولكنها وضعت يدها على ظهره منادية بإسمه بصوت رقيق هادئ:
-جاد!
استدار بعنف ملتقطًا يدها من عليه صارخًا بحدة واستهجان ونظرته عليها ثاقبة:
-بصي بقى أنا أصلًا مش طايق نفسي فعلشان تقعدي تزني على دماغي ده هيرجع ليكي أنتِ بالسواد كله فـ سيبيني أنام أحسن
ترك يدها بعنف واستدار مرة أخرى ينام يعطي لها ظهره، نظرت إليه بصدمة وذهول كيف تحول هكذا!. في كل موقف يكون صعب عليه هو بالتحديد يفعل هكذا.. وهذا أثبت إليها أنه بالفعل لا يستطيع التخطي..
❈-❈-❈
"بعد أسبوع"
بدل "جاد" منذ أسبوع فراشه الذي كان ينام عليه معها بعد أن كرهه بشدة بسبب ذلك البغيض على قلبه، وكذلك الركنية ثم انتقل في اليوم التالي لينام جوارها كالعادة..
اتضح لها أنه انتقل إلى الغرفة الثانية فقط لأجل الفراش، لم يود أن ينام عليه فذهب إلى الغرفة الأخرى ينام بها إلى حين تغيره..
حمدت الله أنه كان لأجل ذلك فقط، فقد شعرت عندما ذهب إلى الغرفة الأخرى وتركها أنه يستطيع البعد عنها وتركها وحدها ولكنه بعد أن عاد مرة أخرى كما كان تأكدت أنه مازال كما هو على وضعه يبغى القرب منها إلى أقرب حد..
ولكن مع ذلك هو إلى الآن لا يحادثها جيدًا ولم يعود كما كان في السابق بل يمارس العقاب معها على أكمل وجه وهي إلى الآن تود لو يعود زوجها وحبيب عمرها ويتناسى كل ما حدث..
قلق في نومه في منتصف الليل، مد يده إلى مكان وجودها في الفراش وهو مغمض العينين فلم يشعر بها بل هبطت راحة يده على الفراش في فراغ تام..
فتح عينيه الرمادية ببطء والنعاس يؤثر عليه ولكنه قلق ولا يدري لماذا.. فتح عينيه جيدًا ليراها في الغرفة ولكنها لم تكن موجودة، جلس نصف جلسه على الفراش يمسح على وجهه بكف يده ثم تثائب..
اعتدل في جلسته عندما استمع إلى صوت آنات خافتة تأتي من الخارج، فتح عينيه على وسعيهما ثم هبط من على الفراش واقفًا على قدميه وأتجه للخارج ليرى ما الذي تفعله أو ما الذي يحدث..
وجد الضوء يخرج من المرحاض الذي بابه مغلق وصوت المياة الخارجة من الصنبور بحدة يستمعه بالخارج مع صوت آناتها الموجعة لقلبه..
وقع قلبه بين قدميه عندما استمع إليها وشعر أن هناك شيء ما ليس على ما يرام، تقدم سريعًا ودق بيده على باب المرحاض قائلًا بنبرة ينهشها القلق:
-هدير!.. هدير مالك
لم تُجيبه واستمرت أذنه في الاستماع إلى صوتها المُتألم فصاح مرة أخرى بعنف وقلبه لا يتحمل الوقوف هكذا ولا يدري ما بها:
-افتحي الباب ده يا هدير
اختفى صوت المياة ثم ببطء فتحت باب المرحاض فدفعه هو سريعًا ولا يطيق الإنتظار، وجدها تقف قبالته منحنية على نفسها ووجهها مغرق بالمياة أو هذا عرق!!.. تضع يدها على بطنها!..
أقترب منها بسرعة والقلق يظهر في لهفته عليها وهو يتسائل بقوة:
-مالك يا هدير
أمسك ذراعيها الاثنين مُحكمًا مسكته عليها، مظهرها لا يروقه أبدًا فأجابت قائلة بنبرة خافتة ضعيفة متألمة:
-عندي مغص في بطني
أسندها معتدلًا يسير جوارها متجهًا بها إلى غرفة نومهم وهو يقول بلهفة وعينيه لم تهبط من عليها:
-طب تعالي البسي ننزل نشوف مالك
أشارت بيدها نافية وهي تسير جواره إلى أن دلفت الغرفة وأجلسها على الفراش:
-لأ يا جاد أنا أخدت علاجي خلاص شوية وهبقى كويسه
جذب قميصه من على مقعد المرأة وهو يرتديه قائلًا بجدية وقوة لتفعل ما يقول ومن يراه الآن يقسم أن ذلك ليس نفس الرجل الذي يقسو عليها منذ أسبوع وأكثر:
-كويسه ايه؟.. مش شايفة نفسك قومي البسي بقولك
تمددت على الفراش بظهرها وأردفت مُجيبة إياه:
-متقلقش يا جاد هبقى كويسه أنا متعودة على كده
أقترب منها متسائلًا باستنكار وذهول ينظر إلى عينيها بعمق وهو يقف أمامها بينما هي تنام على الفراش:
-متعودة على كده إزاي؟.. وساكته ليه أصلًا
أمسكت يده بهدوء ضاغطة عليها قائلة بابتسامة بسيطة مرهقة وهي ترى خوفه عليها ظاهر بوضوح هكذا بعد أن كان لا يتحدث معها من الأساس:
-ساكته ايه يا جاد هو أنا مش كنت عند الدكتورة امبارح ولا نسيت.. وباخد العلاج وأهو بدأت أبقى كويسه
جلس على حافة الفراش أمامها ويده بين يدها ثم هتف بقلق جُلي وقد تناسى كل شيء حدث وكل ما قالته وفعلته وكل ما قاله وفعله فقط عندما شعر أنها تعاني من شيء ما:
-متأكدة؟
أومأت إليه برأسها وعينيها عليه بعمق مُبتسمة بهدوء فرحة لأنه قد عاد يتحدث معها مرة أخرى وهذا سيكون بداية عودة زوجها إليها وتناست من الأساس أنها تتألم:
-آه والله.. وهبقى كويسه أكتر لو عفيت عني ورجعتلي
بنبرة رجولية رخيمة، وبنظرة من عينيه الساحرة جعل كل شيء يمضي من بينهم وأقترب ببعض الكلمات التي هتف بها فقط عندما شعر بأنها تتألم:
-أنا مقدرش استغنى عنك مهما حصل يا هدير.. أنتِ روحي
لم يُجيب عليها أكثر من ذلك ولم يفكر في أي شيء سوى أنه يقترب منها يبادر بعناق كبير أخذها فيه وهي نائمة على الفراش مائلًا عليها يود هو الآخر لو يمحي كل شيء ويبدأ من جديد..
أطال العناق كثيرًا وهي أحاطت عنقه بيديها الاثنين تقترب منه بقوة بعد أن أدمعت عينيها بشدة لكونه لم يستطع أن يكسر خاطرها ويبتعد وهي بهذه الحالة..
أدمعت عينيها لكونه تناسى كل شيء وأقترب منها ماحيًا كل ما مر عليهم وأظهر إليها كم الحب الذي داخله عندما خرجت لهفته وقلقه..
قلبه لم يكن يستطع من الأساس الإبتعاد عنها في هذه الأيام ولا غيرها ولكنه كان في نفس الوقت مجروح جرح غائر وهذه المرة قد شُفي بالكامل ولم يترك خلفه ندوب..
وهذه هي علاقة الأزواج المحبين لبعضهم البعض، هذه العلاقة المبارك فيها من الله عز وجل ولا يحدث ويكن الله مع أحد إلا أن كان بار به وبكل شيء يفعله في حياته..
وقد كان جاد ونعم الزوج لها وهي كانت ونعمة الزوجة له بعيدًا عن كل ما حدث بحياتهم من بعد وألم وصراخ، هذه مناوشات تحدث بين كل رجل وامرأة وفي كل بيت، الأهم من كل هذا أن تكون النهاية تُشفي القلوب المرهقة، أن يعود إليها في نهاية الليل يلقي نفسه في أحضانها بعد شجار طوال وصراخ أعلى..
كل منهم كان قد فعل ما يستطيع عليه ليقترب من الله ويأخذ حلاله مبتعدًا عن حرامه إلى الأبد.. الآن هذا موسم الحصاد، حصاد السعادة الآتية بعد كل هذه الندوب الموجعة عند النظر إليها لتذكرهم بجروحهم الغائرة.. الآن سعادة، سعادة
#ندوب_الهوى
#الفصل_الثلاثون
#الخاتمة
#ندا_حسن
"أثر جروح الحب فرحة للروح"
"بعد مرور خمسة أعوام"
الجميع في منزل "رشوان أبو الدهب"، "جاد" وعائلته الصغيرة، وكذلك "سمير" بعائلته الأكبر قليلًا ووالديهم، في غداء عائلي كالعادة، كل أسبوع يكون الغداء عند أحد منهم، المرة السابقة كان عند "جاد" والآن دور والده..
ركضت "عشق" الصغيرة ابنة "سمير" في صالة المنزل بسرعة كبيرة وهي في الأساس قصيرة جدًا فكان مظهرها مضحك رائع في نفس الوقت،
صعدت على الأريكة الجالس عليها "جاد" ووقفت خلف ظهره وبيدها سيارة بريموت ثم صاحت وهي تلهث:
-الحقني يا بابا جاد
وجدها تدلف عليه في جلسته مقتحمه إياها ثم وقفت خلف ظهره يستمع إلى صوت لهاثها بقوة فتحدث بجدية بعد أن استدار لها:
-في ايه يا عشق
قالت بوجه بريء للغاية عابس حزنًا لأن ابن عمها يريد أخذ السيارة منها:
-آدم عايز ياخد مني العربية
استمع إلى صوت ابنه الصغير في الخلف يهتف بضيق طفل صغير يجعله يموت ضحكًا عندما يراه:
-بابا خليها تديني العربية
نظر إليه بجدية وهتف هو الآخر بعد ابنه المضحك قائلًا باقتراح أفضل:
-طب ما تلعبوا بيها سوا
صاح ابنه بوجه عابس أكثر منها بعدما قال والده أن يلعب معها باشيائها الخاصة بالفتيات والتي تضايقه وبشدة:
-العربية بتاعتي يا بابا وهي معاها العروسة، ينفع يعني ألعب بالعروسة؟
لوى "جاد" شفتيه يفكر في حديثه المقنع ثم أجابه بصدق:
-بأمانة لأ
وضع ابنه الصغير يده الاثنين أمام صدره بطريقة رافضة الذي تفعله هذه الفتاة الصغيرة الغريبة والتي دائمًا تفتعل المشاكل بينهم:
-طب خلاص قولها تجيب العربية
حرك رأسه بخفة إلى الناحية الأخرى جواره والتي كانت تقف بها "عشق" بعد أن أقتربت للخارج قليلًا لترى "آدم":
-اديله العربية والعبي بالعروسة يا عشق
وضعت السيارة خلف ظهرها بسرعة فوق خصلات شعرها الطويلة وهتفت باستنكار مُصطنع وكأن من يتحدث فتاة كبيرة وليست طفلة:
-بابا جاد أنتَ بتقف مع ابنك ضدي
نظر إليها بقوة وعمق، أنه يعلم حديثها الأكبر منها ودائمًا يستمع إليه ولكنها في مرة من المرات ستجعله يُجن:
-ضدك؟.. ايه الكلام الكبير ده
حركت شفتيها بضجر وهي تتحدث مردفة:
-آه ضدي فيها ايه يعني لو لعبت بالعربية بتاعته شوية ما أنتَ جايبله كتير
أجابها وهو ينظر إليها من الأعلى إلى الأسفل باستهزاء وهي تكاد لا ترى من الأساس:
-ما أنا جايبلك كتير بردو زيه
وضعت يدها الحرة في وسط خصرها ونظرت إليه مضيقة عينيها:
-بس أنا سبتهم في بيتنا وعايزة ألعب بيها دلوقتي معاه
ابتسم "جاد" وظهرت أسنانه من بين شفتيه وهو يُجيب قائلًا بجدية ثم استدار يكمل مع ابنه:
-كلام يحترم بردو.. ألعب معاها يا آدم معلش
زفر "آدم" بقوة وهو غاضب منها ومن تصرفاتها الطفولية التي تزعجه للغاية، صاح بضيق وضجر:
-يوه.. مش لاعب خليهالك بقى.. أنا رايح أقعد عند جدو
ذهب الطفل بخطى ثابتة نحو الشرفة الذي يجلس بها جده "رشوان" مع جده "عطوة" وهو كان من محبي الجلسة معهم ويحب جده "رشوان" بطريقة لا توصف..
صاحت "عشق" من خلفه بقوة وهي تناديه ثم جلست على الأريكة جوار عمها لتختفي أكثر وهتفت بطريقة نسائية كبيرة ليست كطفلة:
-استنى يا آدم.. عاجبك كده عمايل ابنك دي.. مش عارفه طالع قفل كده لمين يا بابا جاد
نظر إليها بذهول وهو ينظر إلى طريقتها في الحديث والتي تدهشه كل يوم أكثر من السابق ثم صاح بسخرية مُميتة:
-آه ما أنتِ بنت سمير هيطلع منك ايه يعني
ذهبت سريعًا بعد أن وقفت على الأرضية لتدلف إلى الشرفة تحاول أن تتحدث مع "آدم" الذي يعتبر قاطعها للتو، أتى والدها "سمير" من الداخل وهو يهتف بسخرية هو الآخر موجهًا حديثه لابن عمه بعد أن استمع إليه:
-ومالها بنت سمير بقى يا أبو آدم مش عجباك؟
ضحك "جاد" بسخافة وطريقة سمجة للغاية ثم أجابة قائلًا بنبرة لعوب:
-وأنا أقدر أقول كده بردو
نظر إليه "سمير" بقوة مضيقًا عينيه عليها ثم هتف:
-بحسب يعني
أقترب ليجلس جواره على الأريكة ثم مال عليه يقول بنبرة خافتة لكي لا يستمع إليه أحد ولكن جدية:
-بقولك ايه مش هننزل الچم بعد بكرة في الخباسة كده
تحدث الآخر سريعًا بلهفة وهو يجعله يصمت، فزوجته إن استمعت لهذا لن تصمت أبدًا:
-بس اسكت هدير لو سمعت إني نازل هتشبط في رقبتي
هذه المرة قال "سمير" بجدية وهو يشير إليه:
-ياعم ما أنتَ اللي مش راحم نفسك شغل.. مش الناس عايزينك بردو
غمزه بعد أن قال آخر جملة له بطريقة وقحة لا يحب "جاد" أن يتبادلها معه بهذه الطريقة فصاح بقوة وهو يبعده بكف يده ضاربًا فخذه:
-طب لم نفسك ياض وقوم من هنا
أبعد يده عنه بقوة وضجر وهو يصيح كما قالت ابنته على "آدم":
-ياعم كده وأنتَ قفل
نظر إليه "جاد" وقد فهم من أين أتت الصغيرة ابنته بهذا الحديث، أنها تقول عنه هكذا ترمي بالحديث عليه هو الآخر إذًا بالمعنى الحرفي أن ولده نسخة منه وعقله مغلق!..
وجد ابنة "سمير" الصغيرة والمسماه بـ "غرام" تسير في الصالة آتية من المطبخ وتحاول بكل قوتها أن تثير بثبات كي لا تقع، أردف بحبٍ وحنان وهو يفتح لها ذراعيه:
-أيوة حبيبة عمو جت يا أهي
تحدث "سمير" بانزعاج وضجر يوضح له أن هذه الطفلة مثله ليست كوالدها تحب الحياة بل تحب البكاء دومًا:
-أيوه بالظبط أهي دي اللي تمشي معاك أنتَ وابنك نكدية وقفل زيكم
وجدها تركض ناحيته وهي تبتسم بسعادة كبيرة ثم أقتربت منه وأخذها الآخر بين ذراعيه يحتضنها بحنان ورقة خاصة بها وحدها:
-اخرس ياض.. حبيبة عمو القمر
وجد شقيقتها الكبرى "عشق" تقف أمامه تضرب بيدها على قدمه مناديه بإسمه:
-بابا جاد!
أجابها بهدوء:
-نعم
أردفت بنبرة خافتة بعد أن حاولت مع "آدم" ولكنه لا يريد الحديث معها، وهي لا تحب ذلك بل تحبه كثيرًا وتريد اللعب معه:
-قول لـ آدم يصالحني
زفر هو الآخر بقوة ثم وضع "غرام" على قدمه ممسكًا بها:
-يادي النيلة عليا
ابتسم "سمير" بسخرية يشمت به فصاح الآخر بصوت عالي مناديًا على ابنه لكي ينهي ذلك النزاع بينهم والذي يتعب له أعصابه:
-ولا يا آدم
دلف ابنه من الشرفة ووقف أمامه على بعد خطوات واضعًا يده أمام صدره وكأنه هو بالضبط ومظهره رائع وجميل، شعره الكثيف مصفف بعناية جيدًا ووجه أبيض نقي كوالدته وعينيه الرمادية الساحرة هذه أكثر من والده نفسه، أجاب بضيق وعدم رضا:
-نعم
هتف وهو ينظر إليه بجدية ربما يستمع لحديثه هذه المرة ويبعد ابنة "سمير" عنه، فهي ابنته على حق كما يقولون:
-صالح عشق وخلصنا وألعبوا سوا
هتف الآخر بجدية مثل والده واستدار ثم دلف إلى الشرفة مرة أخرى والذي ظهر منها جدهم:
-أنا قاعد مع جدو مش هلعب
نظر إلى الأخرى ليراها تنظر في أثره بضيق شديد ووجهه عابس ثم عادت بنظرها إليه مرة أخرى منتظرة منه الحديث أو فعل أي شيء، فقال بجدية:
-بقولك ايه روحي لجدو رشوان وهو يخليه يصالحك
ابتسم والدة ثم أشار لها بيده وقال:
-تعالي يا عشق.. تعالى يا آدم
دلف مرة أخرى إلى الشرفة وجلس على مقعدة المقابل لأخيه، وقف الاثنين أمامه فقال بجدية وهو مُبتسم بهدوء:
-يلا صالحها وألعب معاها علشان متزعلش
استمع إلى حديث جده الذي لا يستطيع أن يزعجه أبدًا أو يجعله يحزن منه، فاستدار ينظر إليها ثم بنظرة طفل بريء جميلة هتف بنبرة لينة هادئة:
-خلاص صالحتك بس مش هلعب بلعب البنات
ابتسمت بقوة وأقتربت منه تحتضنه قائلة بوجهها الصافي البريء الذي يشبه ملامح والدها كثيرًا:
-ماشي
أردف عمه "عطوة" من داخل الشرفة بصوت عالي موجهًا حديثه إلى "جاد":
-استعجل الأكل يا جاد إحنا جوعنا
-حاضر يا عمي
وقف على قدميه ثم وضع "غرام" الصغيرة التي كانت تتشبث به على قدم والدها وهتف بهدوء:
-أمسك ياض بنتك
ذهب إلى المطبخ بعد أن ترك الفتاة الصغيرة مع والدها، وقف على أعتاب باب المطبخ لتقابله الرائحة الشهية مثل كل مرة، وقف ينظر إلى الأصناف المحضرة في الداخل وإلى زوجته الحبيبة، ثم صاح إلى والدته:
-ايه يا أم جاد الأكل فين؟
قالت والدته بجدية شديدة وهي تضع في الأطباق قطع من المعكرونة الشهية:
-تعالى شيل يلا رص على السفرة
تسائل بسخرية وهو يميل على باب المطبخ بجسده:
-كمان؟
أومأت إليه برأسها وأكملت بجدية موجهه حديثها إلى "مريم" التي تقف وبطنها ممتدة أمامها بدرجة كبيرة حيث أنها كانت في شهرها السابع من الحمل الثالث لها:
-آه يلا.. روحي أنتِ يا مريم ارتاحي
أخذت هدير طبقين من على الطاولة التي وضعت في المطبخ مؤخرًا ثم توجهت إليه وهي تبتسم وكان بدوره هو عندما وجدها تتقدم منه عاد للخلف قليلًا خارج المطبخ كي يستطيع الحديث معها على طريقته الخاصة بعيد عن مسامعهم:
-خد يلا
ابتسم بقوة غامزًا لها بعينيه الرمادية الساحرة لقبها وعقلها وكل ما بها، وأردف بنبرة لعوب خافتة خبيثة:
-ايه الحلاوة دي وَحش، بالذمة في حد قمر كده ولا حلو كده ولا جميل كده
رفعت كتفيها بدلال واخفضتهم مرة أخرى قائلة بغرور والابتسامة على وجهها تكاد تخفي ملامحها:
-الله ما أنا قدامك أهو يبقى فيه طبعًا
حرك رأسه بخفة يمينًا ويسارًا مضيقًا عينيه عليها قائلًا بسخرية وتهكم:
-غرور من هنا لآخر المجرة يابت الهابط
رفعت حاجبيها هذه المرة متسائلة بقوة بعد أن أتى على ذكر اسم عائلتها بطريقته الساخرة هذه:
-وماله الهابط بقى يسطا جاد
غمزها مرة أخرى وهو يقترب منها مُتناسيًا أين هم ولم يتذكر سوى أنها أمامه كالقمر حقًا في ليلة سطوعه لينير الأرض بأكملها:
-قمر... قمر
استمعوا إلى صوت والدته الحاد من الداخل والتي وجدتهم يقفون يتهامسون متناسيين أين هم:
-شهلي يا هدير أنتِ وجاد كده مش هنتغدا
أجابت "هدير" سريعًا وهي تقدم له الأطباق الذي بيدها لكي يأخذها إلى غرفة السفرة:
-حاضر حاضر.. يلا خد دول
هتف "سمير" من الصالة بصوت عالي ساخر ليشاكس ابن عمه:
-أساعدك يسطا جاد
أخذ منها الأطباق وعادت هي إلى المطبخ وتوجه هو الآخر إلى غرفة سفرة الطعام وصاح بقوة وضجر:
-خليك متلقح مكانك
أردف الآخر بقوة مرة أخرى وصوت عالي ضاحكًا بقوة:
-كان غرضي خير والله
أجاب عليه "جاد" بقوة مثله ليصل إليه صوته في الخارج يتحدث بضيق وانزعاج يبادله إياه ليشاكسه مثلما يفعل به:
-مش عايز من وشك حاجه خليك مكانك
-بشوقك
نظر إلى زوجته التي كانت تجلس جواره ببطنها المنتفخة للغاية والتي يظهر عليها الإرهاق أيضًا وقال بابتسامة عريضة مُحاولًا التخفيف عنها:
-إنما ايه الحلاوة دي يا مريومة.. هي اللي بتحمل على طول بتحلو كده؟
نظرت إليه بعينين متسعة والضيق يحتل كامل ملامحها مما هي به، لقد أجلت سنة دراسية منذ أن كانت تحمل أول مولود لها إلى الآن وهي على وشك ولادة الثالث!.. كيف فعلت هذا؟:
-تعرف تسكت يا سمير علشان أنا مش طايقة نفسي
يعلم أنها متضايقة لأجل ما وقعت به، ثلاث أطفال ووالدهم وهي تعيلهم، يحب دائمًا أن يشاكسها هي الأخرى ويضايقها في جلستها، هذا يشعره بالراحة:
-وأنا مالي طيب وبعدين هو حد ضربك على ايدك وقالك احدفي اتنين ورا بعض والتالت وراهم
صاحت بقوة وهي تصارع عينيها التي تود البكاء:
-أنا عايزة ضرب الجزمة فعلًا أسكت بقى
ضحك بقوة عليها ثم وضع الفتاة الصغيرة فوق قدميها وقال باستفزاز:
-هدي نفسك يا مُزه
أتى صوت "جاد" الذي وقف على بداية الصالة يصيح بجدية وحماس لكي يصل صوته إلى والده وعمه في الشرفة، ثم أكمل حديثه وهو ينظر إلى "سمير" بضيق:
-يلا يا حج يلا يا عمي.. خليك أنتَ هنا، يلا يا مريم قومي وسيبيه
وقف "سمير" هو الآخر على قدميه مثلها ورأى تقدم والده وعمه إلى الداخل فاقترب منه يهتف:
-دا أنتَ راجل نتن بصحيح
جلس الجميع على طاولة الطعام، "رشوان" وزوجته وأخيه وزوجته التي كانت تطعم ابنة ولدها الكبيرة "عشق" على ركبتيها، و "جاد" وزوجته التي كانت أيضًا تطعم ولدها "آدم" تقابلها شقيقتها وزوجها الذي حمل "غرام على يده وهو يأكل كي تستطيع زوجته الجلوس براحه وتتناول طعامها جيدًا..
كان جو أسري ملئ بالراحة الشديدة والهدوء الداخلي المنبعث للخارج ليعم السلام على الجميع.. كان جو ملئ بالحماس والذي كان يفعله "جاد" و "سمير" مع بعضهم البعض أمام الجميع متصنعين الضيق من بعضهم ثم في لحظة يتحدوا ليقفوا ضد أزواجهن في بعض الحديث الذي لا يليق بهم..
بعد كثير من الأيام التي مرت عليهم بكامل العذاب والبعد والاحتراق من كثرة الاشتياق، الآن كان يجب أن ينعمون ببعض الراحة والهدوء في حياتهم..
ومنذ ذلك اليوم من خمسة سنوات حلت على سماء حياتهم غمامة سعيدة للغاية لا تمطر إلا فرحة وسعادة ويكون بها بعض الرعد الخفيف الذي لابد منه في أي حياة..
ولكن لا يستطيع ذلك الرعد أن يأثر عليهم فالحب والمطر النقي المنبعث من السماء الصافية أكبر وأعظم بكثير منه فكان دوره ضعيف للغاية وهم الأكثر استخدامًا..
قد تغيرت حياة جميع العائلة من حينها داعين الله عز وجل أن يديم عليهم هذه النعم وهذا الرزق الكبير الذي يلقى عليهم كل يوم، وكأنه مكافأة لما مروا به سابقًا..
وقفت "هدير" على قدميها وأجلست ابنها في مكانها على المقعد جوار والده ثم قالت بابتسامة عريضة ووجه بشوش:
-سفرة دايمه يا حج إن شاء الله
ابتسم إليها مبادلًا إياها ذلك الحب ثم وقفت شقيقتها هي الأخرى تهتف مثلها بابتسامة تعلو ثغرها:
-نعيش وناكل في خيركم يارب
مضغ "سمير" الطعام الذي كان في فمه وهتف بنبرة خافتة وهو ينظر إلى زوجته المبتسمة بقوة وكأنها ليست تمر بفترة صعبة تخرج عليه كل ما بها من ضيق وانزعاج:
-كهن نسوان بصحيح بتاكلوا بعقولهم حلاوة
استمع إليه "جاد" فاقترب للأمام قائلًا بحدة:
-وأنتَ مالك ما تخرس واطفح ورق العنب بتاعك
جلس الجميع في الصالة بعد تناول الطعام والانتهاء من تنضيف كل شيء، أقترب "آدم" من والده وفي يده ثمرة برتقالة أخذها من طبق الفاكهة الكبير:
-بابا قشرلي البرتقانه دي
كان بيده كوب من الشاي يرتشف منه فوجه حديثه إلى زوجته التي تمسك بالسكين في يدها تقوم بتقشير البرتقال لمن يريد:
-قشريله يا هدير
رفعت بصرها إليه لترى ما الذي يتحدث عنه فلم تكن منتبهه ثم أومأت إليه بجدية مشيرة إلى ولدها بالتقدم:
-حاضر.. تعالى يا آدم
أقتربت "عشق" منها هي الأخرى وبيدها برتقالة مثل "آدم" تقدمها إليها قائلة بلين ورقة فتاة صغيرة الآن ليس كما منذ قليل:
-وأنا يا ماما هدير
-حاضر يا عشق
كان صوت "غرام" المنزعج يعم الغرفة منذ دقائق وتحاول والدتها معها أن تجعلها تصمت ولكن ليس هناك فائدة، أخذتها جدتها لتجعلها تصمت وسارت بها في أنحاء الصالة ولكنها على وضعها فقال "سمير" بضيق حقيقي:
-اعملي رضعة لبنتك يا مريم بدل الزن ده
وقفت "مريم" في لحظتها لأنها من الأساس كانت تهم لفعل ذلك:
-طيب كنت قايمة أصلًا
أومأ إليها ثم مال برأسه ناحية جاد وهتف بنبرة خافتة كي لا يستمع أحد مرة أخرى:
-في ماتش بعد عشر دقايق نسيبهم وننزل ولا نسمعه هنا؟
مال عليه "جاد" هو الآخر وأخفض صوته مثله حتى لا تستمع إليه زوجته التي لا تستطيع أن جلس معه منذ أيام:
-هنا فين في زن العيال ده إحنا ننزل على القهوة أحسن
-ده رأي بردو
قال "جاد" مرة أخرى بجدية بعد أن قرروا ما الذي سيفعلوه، وقف على قدميه بجدية شديدة وكأنه يهبط إلى عمله حقًا وأردف بصوت عالي ليستمع إليه الجميع:
-أنا هنزل الأول.. عن اذنكم بقى علشان عندي شغل
ثم ذهب إلى الخارج وتركهم يكملون الجلسة مع بعضهم ولكن لحظات مضت عليهم ووقف "سمير" هو الآخر يقول:
-أنا هنزل أشوف جاد كنت عايزة في حاجه ونسيت أقوله
أردفت زوجته أمامه الجميع بسخرية أحرجته وهي تسير إليه ناحية الباب:
-أنزل يا سمير.. قال يعني مش عارفين إن فيه ماتش ورايحين تسمعوه
تسائل باستغراب بعد أن حمحم بخشونة ليخفي إحراجه بعد هذه الكذبة أمام والده وعمه:
-واضحين للدرجادي؟
أومأت إليه بجدية وجوارها شقيقتها فعلت المثل فحمحم مرة أخرى ثم هتف قائلًا وهو يتجه إلى الخارج ليهبط إلى ابن عمه:
-طب عن اذنكم بقى
ثم ذهب هو الآخر وتركهم مع بعضهم يكملون الجلسة وحدهم إلى حين انتهاء السهرة ثم يصعد كل منهم يأخذ زوجته وأولاده ويذهبون إلى بيوتهم..
❈-❈-❈
في خلال هذه السنوات التي مرت عليهم تغير الجميع إلى الأفضل وأصبحت حياتهم أفضل من السابق بكثير، سوى كان بالعمل والأسرة، أو الحب والهدوء الذي عم عليهم مع السلام الداخلي لقلوبهم والإيمان والتقوى المقدمة كهدية من الله عز وجل ليملئ بها قلوبهم..
ومن هؤلاء الذي قد تغيروا كان هناك شخص واحد قد تغير.. لا ليس تغير هذا بل تحول مئة وثمانون درجة إلى الأفضل وكأنه شخص آخر من الأساس..
"جمال" شقيقهم الذي كان يجعلهم يشعرون بالألم طوال الوقت، الذي تطاول كثيرًا بالحديث وبالفعل على أسرته، جمال الذي فعل كثير من الأشياء سابقًا وعندما يتذكرها الآن يخفض رأسه إلى الأرضية فقط خجلًا من نفسه وليس من أحد آخر..
منذ أن ذهب ليعمل في مطعم بـ الإسكندرية وقد ثبتت أقدامه به وأفاد به نفسه قبل الجميع ثم والدته..
لقد عافر كثيرًا مرة هنا ومرة هناك، مرة ينخفض بمركزة عندما ينتقل لمكان آخر ومرة يرتفع به ويكون أجره أكبر من السابق ليرضيه ويستطيع به أن يعيش مكرم هو ووالدته..
والدته التي قد أتى لها بمنزل آخر غير الشقة التي تجلس بها في منزل والد "جاد" منذ ثلاث سنوات تقريبًا اشترى "جمال" بيت صغير مكون من طابقين فقط في الشارع الخلفي لشارعهم في الحارة، هذا بعد أن تعب كثيرًا وحافظ على المال الذي كان يجنيه بالحلال وقد بارك الله له فيه وجعله يكفي ليبتاع منزل كهذا ومهما كان صغير فسيكون له ثمن غالي..
انتقل بأثاث والدته كله من الشقة التي في البيت الآخر وقاموا بفرش الدور الأرضي لها وبقيٰ معها بعض الأشهر القليلة ثم قام بخطبة فتاة من حارة أخرى كانت بالنسبة له مناسبة للغاية فهي من عائلة بسيطة مثله، جميلة إلى حد كبير ورقيقة وتُعرف بأخلاقها واحترامها وقد عُرف هو الآخر باحترامه وأخلاقه في الفترة الأخيرة التي وجدوه الناس بها شخص آخر غير الذي يعرفونه..
أردفت "مريم" بنبرة جدية وهي تجلس على الأريكة في منزل والدتها الآخر رافعة صوتها قليلًا ليصل إليهم في المطبخ:
-سمير خمسة وجاي يا ماما
أردفت الأخرى من الداخل تُجيبها بصوت عالي لتستمتع إليها في الخارج:
-طيب يا مريم إحنا خلصنا أهو
استدارت تنظر إلى ابنتها الكبرى التي كانت تساعدها في المطبخ منذ أن أتت وقالت بجدية مقترحة:
-ما تروحي تكلمي جوزك أنتِ كمان يا هدير خليه يجي
وضعت الصينية الساخنة التي أخرجتها من الفرن سريعًا على رخامة المطبخ وقالت:
-يا ماما جاد مش هيتأخر دي خطوة
مرة أخرى هتفت والدتها تُصر على حديثها بأن تتحدث مع زوجها لكي يأتي:
-الله طب ما تكلميه يا بنتي
ابتعدت عنها للخلف ثم أجابتها بهدوء لكي تهدأ وتصمت قليلًا حتى ينتهوا من الطعام:
-حاضر بس نخلص وأكلمه يا ماما
خرجت زوجة "جمال" من المطبخ والتي تُدعى "حنان" وصاحت وهي على أعتاب الباب بقوة تسأل "آدم" الذي كان يجلس على أعتاب باب غرفة أخرى في الشقة ويقع تحت أنظارها:
-آدم سيليا معاك؟
وقف "آدم" على قدميه وأتى ناحيتها قائلًا بنبرة طفولية هادئة مُشيرًا إلى الغرفة الذي كان يجلس بها:
-أيوه يا طنط حنان هناك أهي بتلعب مع عشق
انخفضت للأسفل قليلّا بجسدها مُقتربة منه وقالت بحنان وحب وهي تفهمه أن الفتاة صغيرة وتريد اهتمام ليس كمثلهم:
-خلي بالك منها علشان هي لسه صغنونه ومتعرفش حاجه
أجاب وهو ينظر إليها بعمق معتقدًا أنه يتفهم حديثها:
-آه ماهي زي غرام
نفت حديثه وهي توضح له أكثر قائلة بجدية:
-لأ غرام أكبر منها.. إنما سيليا لسه صغيرة أوي
نظر الآخر إلى الغرفة الذي كان بها معهم هم الثلاثة ورأى "عشق" تجلس مع "سيليا" ابنة خاله "جمال" فهتف وهو يتجه إليهم بنبرة رجل واثق:
-ماشي أنا هروح ألعب معاهم متخافيش وهخلي بالي منهم كلهم
ابتسمت إليه قائلة بحب وهي تقف على قدميها مرة أخرى:
-شاطر يا آدم
أردفت "مريم" ناظرة إلى زوجة أخيها تتسائل عنه بعدما تركهم وذهب:
-اومال جمال خرج راح فين يا حنان مش هو اللي عازمنا الله.. بقى يعزمنا ويمشي ويسبنا
هتفت الأخرى نافية حديثها قائلة بهدوء وابتسامة صغيرة على ثغرها:
-لأ ممشيش ده طلع فوق قالي هجيب حاجه وأنزل
أردفت "هدير" من الداخل بقوة وصوت عالي لتستمتع إليها زوجة أخيها في الخارج وهي تقول بجدية:
-طب إحنا خلصنا أهو اطلعي شوفيه كده علشان هكلم جاد يجي وسمير على وصول
أومأت إليها الأخرى وأردفت بتأكيد على حديثها ثم ذهبت تسير إلى باب الشقة وخرجت منه متجه إلى الأعلى:
-حاضر
خرجت "هدير" من المطبخ وأخذت هاتفها من جوار "مريم" ثم فتحته وقامت بالاتصال بزوجها لكي تستعجله بالوصول إليهم:
-ألو أيوه يا جاد.. ما تيجي يلا
أغلقت الهاتف بعد أن أكد عليها أنه قادم ثم دلفت إلى المطبخ وهي تصيح إلى والدتها بقوة:
-يلا يا ماما جاد جاي أهو
بعد أن دلفت إلى المطبخ دق باب المنزل فوقفت "مريم" على قدميها ولفت حجابها على رأسها بأحكام ثم تقدمت بهدوء لتفتح الباب، بعد أن فتحته وجدته زوجها الذي مال على وجنتها مقبلًا إياها بسرعة غامزها بعينيه وابتسم إليها بحب كبير ومرح لا يخلو من تصرفاته..
افسحت له الطريق ليدلف إلى الداخل وبعد أن دلف ورأته ابنته الكبيرة "عشق" التي تحبه كثيرّا انطلقت تركض ناحيته ففتح لها ذراعيه وأخذها بينهم يرفعها عن الأرضية وهو يقف بشموخ ومالت هي عليه تقبله من وجنته قبلة بريئة رقيقة منها..
لحظة فقط ودق الباب مرة أخرى لتفتح "مريم" ودلف شقيقها وخلفه زوجته، دلفت زوجته إلى المطبخ بعد أن رميت السلام على "سمير" مطمئنة على أحواله وتقدم هو إليه يعانقه بقوة يسلم عليه بحرارة..
أتى "جاد" هو الآخر بعد لحظات ففتح له "جمال" يسلم عليه بحرارة هو الآخر، دلف إلى داخل غرفة أخرى صغيرة للضيوف غير الصالة، ثم لحظات بينهم في الحديث ووقف على قدميه يود الذهاب إلى المرحاض لغسل يديه..
مر على المطبخ ناظرًا داخله بطرف عينيه، لم يرى إلا هي بالداخل وتقف بعباءة ضيقة للغاية قديمة لا تناسبها، وخصلات شعرها ترفعها بدبوس كبير وليس عليها حجاب..
دلف إليها المطبخ وأردف من خلف ظهرها بقوة وجدية شديدة مستغرب من مظهرها هذا:
-ايه اللي أنتِ عملاه ده
استمعت إلى صوته خلفها فاستدارت سريعًا تنظر إليه ولم تفهم ما الذي يتحدث عنه فأشار لها برأسها وعينيه على مظهرها، قالت سريعًا تنفي ما توصل إليه عقله مردفة بلهفة:
-مخرجتش بره والله وسمير جوا ولا حتى عديت من قدام المطبخ أنا زي ما أنا هنا وجايبه عباية تانية معايا
تقدم للداخل قليلًا وأردف قائلًا بنبرة خشنة وهو يقف أمامها بعينين رمادية حادة:
-ولما أنتِ معاكي غيرها لابسه دي ليه
أردفت بصدق وجدية:
-من ساعة ما جيت يا جاد وأنا بساعدهم في المطبخ فقولت ألبس دي علشان مفيش حد هنا
أومأ إليها برأسه قائلًا:
-ماشي روحي بقى غيري هدومك دي والبسي طرحة
-حاضر
ذهب إلى الخارج مرة أخرى يتوجه للمرحاض كما كان ذاهب من البداية بعد أن ألقى تعليماته على زوجته المصون..
دلفت والدتها وزوجة أخيها إلى المطبخ ليقوموا بوضع الطعام لتناوله، ولكنها أردفت قائلة وهي تتجه نحو باب المطبخ لتخرج منه وتفعل ما قاله لها زوجها:
-ماما أنا هدخل البس عبايتي وانتوا حطوا ليهم الأول وإحنا ناكل بره
-طيب ماشي
بعد أن تناولوا الطعام وجلسوا سويًا بعض الوقت في هدوء وراحة لم تكن معتادة سابقًا ولكنها قد حدثت بفضل الله بعد أن ألهم شقيقهم على طريق النور والخير الذي يأخذ منه كل ما هو حلال بقدر كافي له.. ذهب "جاد" إلى عمله مرة أخرى وكذلك "سمير" وتركوا زوجاتهم في بيت شقيقهم يجلسون سويًا بعض الوقت الأكثر من هذا يخلدون لحظات جميلة داخل ذاكرتهم غير تلك المليئة بالألم..
أردف "جمال" بصوت عالي وهو في صالة المنزل يهتف بإسم شقيقته "هدير" مناديًا إياها، خرجت إليه فأخذها ودلف إلى إحدى الغرف وأغلق الباب من خلفه..
نظرت إليه بعمق واستغراب ترى ما الذي يفعله، وجدته يخرج من جيبه قطعة قماش صغيرة وتقريبًا داخلها شيء، قدمها إليها وهو بقى أمامها قائلًا بنبرة جادة:
-خدي دول حقك وحاجتك
أبصرت قطعة القماش ثم رفعت بصرها عليه وتسائلت باستغراب:
-ايه دول
تنهد بهدوء، أخفض وجهه إلى الأرضية بخجل ثم رفعه إليها مرة أخرى قائلًا بصوت خافت خجل مما فعله:
-الغوايش اللي اخدتها منك.. عارف إني اتأخرت عليكي بس أنتِ كنتي شايفة الظروف
وضعت كف يدها على يده المقدمة إليها وعادت بها للخلف وهي تقول باستنكار ورفض تام:
-أنتَ اتجننت ولا ايه أنا مش هاخد الغوايش دي
لم يكن هو على استعداد أن تجعله يأخذهم مرة أخرى، فهذا حقها ومالها ومال زوجها وهو من اغتلسه منها بالسرقة وعليه أن يعود به إلى أصحابه:
-عليا الطلاق لازم تاخديهم
صدح صوتها بحدة بعد أن استمعت يمينه الذي انهته عنه سابقًا كثيرًا:
-قولتلك مليون مرة بلاش تحلف على حاجه بالطلاق أنتَ مش بتتعلم
أجابها بهدوء وجدية ثم أكمل بخجل وهو يمد يده إليها مرة أخرى مُردفًا:
-ياستي معلش.. خدي بقى الغوايش بتاعتك مش كفاية إني صغرت قدام جوزك
ابتسمت بسخرية جلية مستنكرة مُجيبة إياه بصدق تهتف بما حدث حقًا:
-جوزي؟. تصدق بالله جاد ما سألني عليهم ولا مرة ولا يعرف أنا معايا دهب ايه ولا معايش ايه
أومأ برأسه وقال بهدوء:
-عارف إنه كريم ومش بيدقق
نظرت إليه بدقة، ضيقت ما بين حاجبيها مثبتة عينيها عليه تتسائل:
-يعني أنتَ أمورك تمام يا جمال؟ لو محتاج فلوس خليهم والله أنا مش عيزاهم
أردف هو ضاحكًا قم أكمل بجدية ورضا تام ظاهر في كامل حديثه:
-وتوقعي طلاقي؟ وبعدين الحمدلله مستورة أوي
أمسك بكف يدها ثم وضع فيه الأسوار وأجابته هي بابتسامة راضية عنه وعن ما يفعله:
-دايمًا يا حبيبي.. دايمًا
فُتح الباب بقوة كبيرة على حين غرة وظهرت منه "مريم" ببطنها المنتفخة الممتدة أمامها قبل دخولها هي، قالت بصوت عالي يحمل داخله الحماس وملامحها تدقق عليهم:
-بتعملوا ايه قفشتكم
ابتعدت "هدير" للخلف بوجه عابس مصطنع قائلة بمرح ومزاح:
-ها قد أتت مفرقة الجماعات
أشارت إلى بطنها بيدها تهتف بسخرية على حالها قائلة بتهكم:
-أنا؟ طب بالذمة يا جمال يا خويا أنا بمنظري ده أعرف أفرق حباية رز عن التانية
ابتسم جمال بهدوء فاقتربت هي للداخل تقف جوارهم فقال بصدق:
-بصراحة لأ
هتفت بمرح مُجيبة عليهم وهي الأخرى تبتسم:
-اومال ايه بقى بتظلموني ليه وأنا إنسان غلبان
أقترب منهم جمال يقف في المنتصف بينهم وحاوط كل منهن بيده، عانقهم بيده الاثنين عناق أخوي لم يحدث من قبل ولكنه يحدث الآن ودائمًا، بعد كثير من الفراق والألم، بعد اشتياق وعذاب كثيرًا، عوض الله الجميع بما يستحق بعد معافرة كبيرة وعاقب من يستحق على عمله من تخريب في نفوس البشر..
-ربنا يخليكم ليا يارب
وضعت "مريم" يدها على صدره ومالت برأسها عليه مردفة:
-ويخليك لينا يا جمال
والأخرى كمثل قائلة بابتسامة عريضة وفرحة كبيرة تدق داخل قلبها بعد أن استقرت الحياة بهم في مطاف واحد كان الأفضل من الأفضل نفسه:
-يديمك في حياتنا نعمة يا أبو سيليا
وقفت والدتهم على أعتاب باب الغرفة ناظرة إليهم بعينين دامعة، متى كانت تتمنى أن ترى هذا!؟ منذ زمن بعيد وهي تتمنى أن ترى ابنها الأكبر بينهم يحتويهم ويكن لهم العون والسند في الحياة، والآن وبعد كثير من الأعوام الذي مضت هو هكذا يلبي طلبها ويقف جوارهم ويكن لهم خير الأخ والصديق..
رحيل "مسعد" عن حياتهم غير بها الكثير والكثير وكأنه كان الشيطان الذي يوسوس في النفوس ثم من بعد اختفائه عادت النفوس ملائكه، ليعم الخير والسعادة، الفرح والراحة وكل ما هو يطيب خاطر الإنسان ويجعله مطمئن، عاد كل ما هو جميل من عند الله الذي يعطيهم أكثر مما يستحقون، بعد ذلك الصبر، صبرًا جميلًا من بعده حياة..
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
وقفت "هدير" في مطبخ شقتها تُنهي تحضير الطعام بعد أن استمعت إلى انتهاء الصلاة في المسجد والآن سيكون زوجها وولدها الصغير متوجهين إلى المنزل..
لحظات خلف الأخرى تعد الطعام بحب وليس بيدها، ترشه سعادة بعيده عن ملح الطعام، تدندن بفرحة الحياة وابتسامتها السعيدة المقدمة إليها بعد أن نالت ما تستحقه منها على حق..
خرجت إلى الصالة بعد أن فتح باب الشقة واستمعت إلى أصواتهم في الخارج، نظرت إليهم بحب كبير وراحة لأ نهائية شعرت بها عندما أبصرت زوجها يقف على أعتاب باب الشقة بهذه العباءة البيضاء الخاصة بصلاة يوم الجمعة، ذقنه مهذبه ووجهه بشوش، شعره مصفف بعناية وملامحه تبتسم بالكامل، كل هذا غير عينيه الساحرة التي تجعلها تموت داخلها..
أقترب الصغير منها ركضًا يبتسم بسعادة وكان هو الآخر يرتدي عباءة صغيرة بيضاء كوالده قد أتى بها جده "رشوان" إليه، كان الصغير يشبه والده بالمعنى الحرفي، عينيه رمادية مثله ولكنها حادة قليلًا تظهر بوضوح أكثر من "جاد"، أنفه مثله وشفتيه وكل ما بوجهه يشبهه ولكن طريقته وحديثه لا يشبه إلا جده "رشوان"..
أقترب منها يهتف بصوت عالي وبفرحة كبيرة:
-صليت.. صليت يا هدير
أقتربت منه جالسة على عقبيها على الأرضية وقبلته من وجنته بقوة مبتسمة بسعادة هي الأخرى قائلة بمزاح أم ودلالها الذي لا يعجبه:
-ياختي كبرت وبقت تصلي يا ولاد
عاد للخلف قليلًا ناظرًا إليها بقوة وهتف بنبرة منزعجة:
-ياختي مين وكبرت مين يا ماما أنا آدم
استدار ينظر إلى والده بقوة مُردفّا بضيق يشكي إليه من والدته الذي تزعجه دائمًا بحديثها كجدته بالضبط:
-ينفع يا بابا تقولي ياختي بيضة قدام عشق تقول عليا ايه يعني
أقترب "جاد" للداخل وهو يبتسم قائلًا بنبرة جادة لكي يشاكسها:
-لأ طبعًا غلط.. أنتَ راجل إزاي تقولك كده
صاح الآخر بطريقة طفولية جميلة للغاية وهو يظهر انزعاجه لهم:
-الله طب ما تقولها
صاح والده هو الآخر يجاريه في حديثه قائلًا:
-منا بقول أهو
وقفت هي على قدميها ثم أشارت لهم هم الاثنين وقالت بجدية شديدة لكي تقوم بوضع الطعام كي يأكلون سويًا:
-طيب يا حلو أنتَ وهو غيروا علشان ناكل
أقترب منها "آدم" مرة أخرى وهنا قال بنبرة خافتة بريئة سائلًا عن طلبه الذي قال لها أن تقوم بعمله واتضح أنه يحب أكل هذه الأصناف كعمه بالضبط:
-عملتي محشي يا ماما زي ما قولتلك
ابتسمت إليه وأومأت برأسها مُجيبة إياه بحب مكملة بجدية لكي يبدل ملابسه:
-عملت يا روح ماما يلا غير بقى.. هدومك جوه على السرير أنا مطلعاها
بعد أن دلف الصغير للداخل أقترب منها "جاد" مُبتسمًا وهو ينظر إلى قميصها ذو اللون الأسود، طويل يصل إلى قدميها ولكنه يلتصق عليها بطريقة تتلف أعصابه، به فتحه من الجانب ككل ما عندها لتغريه أكثر وأكثر وهو من الأساس لا يحتاج لكل ذلك..
عنقها بالكامل يظهر ويتنافى مع لون القميص بطريقة ترهقه فهي تتمتع بلون بشرة بيضاء بشدة، وخصلاتها التي عقصتها للأعلى وفي كل الأحوال هي ترهقه فقط من نظرة عين..
هتف بخبث ومكر وهو يقف قبالتها ناظرًا إليها بقوة:
-إنما ايه الحلاوة دي يا وَحش.. مكنش فيه حفلة امبارح ولا حاجه
أقتربت هي الأخرى تضع يدها على كتفه قائلة بسخرية واستنكار مُضحك:
-وهو أنا ببقى حلوة بعد الحفلة بس ولا ايه
تسائل بنبرة لينة مُريحة هادئة توضح كم السعادة التي ينعم بها معها وفي ظل وجودها جواره كل هذه السنوات:
-مين قال كده أنتَ جميل في كل وقت يا جميل
ابتسمت إليه بهدوء بعد أن ثبت حديثها بحديثه المصاحب لمعاني كثيرة داخله:
-طب يلا روح غير علشان نتغدا بقى
غمزها بعينيه الرمادية الساحرة متسائلًا بنبرة خبيثة ماكرة منتظر إجابة يود سماعها:
-طب وبعد الغدا.. ها
أردفت هي بنبرة لينة متدلله بوضوح وقوة كبيرة وهي تهبط بيدها من عليه تمر على صدره:
-ما تخلص يا جاد بقى
أشعلت النيران داخله وهي من الأساس مشتعلة دون تدخل أحد، ولكنه لا يتحمل أكثر من هذا، كل هذه الرقة والجمال الذي يواجهه يوميًا:
-يقطع جاد على سنين جاد
ضحكت بصوت عالي وقالت مُستنكرة:
-الله طب وليه كده
أقترب أكثر يقول بنبرة خافتة:
-جمالك يا وَحش محيرني
خرج "آدم" من الغرفة إلى غرفة السفرة معتقدًا أنها وضعت الطعام ولكنه لم يجد شيء استدار يصيح بقوة كبيرة وصوت صارخ:
-فين الأكل ده يا ماما
نظرت إليه على الطرف الآخر وهتفت بقوة متناسية من الأساس أن هناك طعام عليها أن تضعه:
-أيوه حاضر يا آدم أهو ياحبيبي
نظرت إليه هو الآخر مرة ثانية وقالت بصوت خافت خجل ووجهها يحمل الجمال كله والرقة التي لا يوجد مثلها:
-اخلص بقى
أبتعد ذاهبًا إلى غرفة النوم وهو يغمز إليها مُجيبًا بقوة وتوعد:
-لينا كلام تاني يا وَحش
ثم اختفى داخل الغرفة ودلفت هي الأخرى إلى المطبخ لتأتي بالطعام إلى غرفة السفرة ليتناولوه سويًا في ظل جو أسري محبب إليهم بعد حديث جاد ومشاكسة ابنه، في ظل محبتها لهم ورؤيتها للسعادة داخل بيتها..
❈-❈-❈
"في المساء"
وقف في صالة المنزل شامخًا وهتف بصوتٍ عالٍ قليلًا لكي تستمع إليه والهاتف بيده:
-أنا في بلكونة الصالة.. هاتي الشاي وتعالي
أجابته من الداخل بنبرة عالية:
-ماشي
ذهب هو إلى الشرفة، فتحها ودلف إليها بهدوء ثم أغلق الباب خلفه وجلس في الداخل على المقعد والهاتف بيده يجري اتصال بأحد ما، بينما هي كانت في الداخل تحضر كوبين من الشاي لهما سويًا في جلسة صفاء بينهم..
دقائق وانتهت من تحضيره ثم أخذت كوبين الشاي على صينية صغيرة بعد أن ارتدت عباءة بيتية وأحكمت الحجاب على رأسها وذهب إليه في الشرفة..
فتحت بابها بهدوء ودلفت إليه تجلس على المقعد المقابل له ووضعت الصينية على سور الشرفة، وجدته يتحدث في الهاتف وكان يُنهي المكالمة، وضع الهاتف على سور الشرفة جوار الصينية بعد أن أنهى المكالمة فتسائلت بجدية:
-كنت بتكلم مين؟
تحدث بنبرة عادية ينظر إليها بهدوء:
-ده عبده والجماعة بيسلموا عليكي
ابتسمت بهدوء وظهر الاشتياق على ملامحها فقد رحل "عبده" من هنا بعد أن تزوج من "رحمة" صديقتها، كانت الظروف بالنسبة إليه صعبة للغاية فقرر البحث عن محافظة أخرى يتوفر بها عمل أفضل من هذا له لأن عمله مع "جاد" في النهاية لن يجني له ما يكفي أسرة كاملة..
-عليك وعليهم السلام.. ربنا يصلح حالهم
مد يده وأخذ كوب شاي ثم قدمه إليها أولًا فأخذته منه، ثم مد يده ثانية وأتى بكوب إليه يرتشف منه بهدوء قال بجدية:
-كنتي خلي آدم ينام في اوضة الأطفال
عادت للخف بظهرها تستند إلى ظهر المقعد وعقبت على حديثه قائلة بهدوء ولين وهي تتذكر صغيرها نائم عليها بكل براءة:
-بعد ما نام جوه نقلته
ارتشف من كوب الشاي ثم أخفضه من على فمه قائلًا باقتراح يود تنفيذه اليوم قبل غد:
-المفروض يتعود ينام فيها
اعترضت مكرمشه ملامحها ناظرة إليه بقوة وصوتها هادئ كما هو تنظر إليه بجدية:
-لأ لسه شوية يا جاد مقدرش اسيبه لوحده دلوقتي
استنكر إجابتها عليه، تتركه هو وحده هذا لا يهم لكن أن تترك ابنها الصغير فلا إنه صغير وأنتَ الأكبر عليك التحمل وأن تجعل عقلك أكبر من هذا:
-بس تسيبيني أنا مش كده
سألته باستنكار مُشيره بيدها الحرة من كوب الشاي:
-وأنا سيبتك امتى؟
ضيق عينيه الرمادية ذات اللمعة الرائعة عليها وقال بسخرية ويبدو حقًا منزعج من هذا الوضع الذي لا يجعله يأخذ راحته معها:
-مش بينام في نص السرير بينا
صدحت ضحكتها في المكان وهي تراه منزعج هكذا وكأنه هو طفل صغير يغير من أخيه الذي تفضله عليه والدته:
-معلش يا جاد اعتبره زي ابنك
هتف بجدية ينبهها أنهم يجلسون في الشرفة أي في الشارع:
-صوتك في ايه
أومأت إليه برأسها فعاد مرة أخرى إلى موضوعه غامزًا لها بعينيه مُبتسمًا وكأنه يقدم إليها معروف وينتظر المكافأة:
-علشان خاطرك بس
أردفت قائلة بابتسامة هادئة ترتسم على ثغرها الوردي الصغير:
-طب أشرب الشاي وخلصنا عايزة أقولك أخبار حلوة
أخفض الكوب مرة أخرى بعد أن ارتشف منه وتسائل باستغراب وعينيه مثبتة عليها:
-أخبار؟.. أخبار ايه دي؟
أجابته بجدية والإبتسامة على وجهها ثم رفعت كوب الشاي ترتشف منه بهدوء مثله:
-اشرب الشاي وندخل جوه وأقولك
تسائل بنبرة جادة يستغرب حديثها:
-اشمعنى
علقت على حديثه بقوة لأنه لا يطيق الإنتظار أبدًا ويريد أن يعرف كل شيء في وقته، كما عودته في الفترة الأخيرة، أن كل شيء بينهم واضح وصريح وكأنهم كتابين مفتوحين أمام بعضهم:
-كده يا جاد كده
لوى شفتيه ببرود وأكمل ارتشاف الشاي قائلًا:
-طيب ياستي براحتك
دقائق مرت عليهم وهم في الشرفة ينتقلون من هنا إلى هنا في الحديث ثم دلفوا إلى الداخل بعد أن أغلق "جاد" الشرفة وتقدمت زوجته بالصينية إلى المطبخ لتضعها به، دلف هو إلى غرفة نومهم ينتظر قدومها وهي خرجت من المطبخ إلى غرفة الأطفال الصغيرة لتطمئن على صغيرها...
دلفت إلى غرفة نومهم وكان هو يجلس نصف جلسة يستند بظهره إلى ظهر الفراش، وقفت أمام المرآة ثم أبعدت عنها هذا الحجاب والعباءة هي الأخرى ليظهر من أسفلها ذلك القميص القصير..
ترتدي قميص قصير لونه أحمر ناري يصل إلى منتصف قدميها البيضاء الناعمة، به رسومات صغيرة للغاية تجعله يظهر بشكل مغري عليها، بحملات أكتاف رفيعة للغاية..
تركت لخصلات شعرها العنان خلف ظهرها ثم استدارت تنظر إليه بابتسامة بعد أن رأته من خلال المرآة مثبت بصره عليها منذ أن دلفت إليه..
أقتربت وجلست على حافة الفراش جواره ثم أمسكت كف يده بين يدها الاثنين وفي لحظة خاطفة كانت تضعه على بطنها قائلة بشغف وحب:
-جاد... أنا حامل
اعتدل في جلسته وأبتعد عن ظهر الفراش يجلس باستقامه أمامها وعينيه الرمادية تتحرك على عينيها بسرعة فلم يكن يتخيل ذلك الآن فهي لم تأخذ أي وسيلة فقط استمر الإنتظار ليس كما شقيقتها وتسائل بصوت خافت:
-بجد
أومأت إليه برأسها وعينيها تضحك بسعادة ثم أكملت ضاحكة كي تذكرة بما حدث سابقًا ولكن هذه المرة على طريقة المزاح:
-أيوه.. ولسه عارفه امبارح علشان متسألش السؤال ده تاني
كرمش ملامحه وأجابها بتهكم:
-قلبك أسود أوي
ضحكت بصوتٍ عالٍ وهي تنظر إليه فمال عليها يعانق إياها بشدة قائلًا بسعادة وحب ثم أكمل بمرح:
-ألف مبروك.... عقبال التالت والرابع والخامس..
أبعدته للخلف وقاطعت حديثه الذي وجدته يستمر به وكأنها ستفعل ذلك حقًا:
-ايه هما اتنين كفاية
أخذ يدها بين كفيه برقة يضغط عليها وقال بجدية وهو ينظر داخل عينيها بقوة وود لو فعل ما يهتف به معها حقًا، هنا سيكون أمتلك كل ما في الدنيا:
-كفاية أوي بس نقدر نربيهم التربية الصح
وضعت يدها الأخرى على وجنته تحرك إصبعها الإبهام عليه بحنان ودلال ظهر في كل تعابيرها التي تخرج منها دون أدنى مجهود:
-طلما أنتَ أبوهم يبقى هيتربوا أحسن تربية يا جاد
رفع يدها إلى فمه يقبلها بسعادة بالغة وفرحة كبيرة أخذها على هيئة خبر سعيد منها، لقد أمتلك كل شيء حقًا ما الذي يريده بعد:
-مبروك يا أحلى حاجه حصلت في حياتي
أقتربت منه قائلة بحب ونظرتها متعلقة به:
-يتربوا في عزك يا ابن أبو الدهب
بعد أن طال الإنتظار لينجب مرة أخرى لم يكن طامع كثيرًا في ذلك.. كان يوده ولو قال أكثر من السابق سيكون حقيقه ولكنه لم يكن يريد أن يكون من طامعي الدنيا فيأخذ كل شيء ولا يترك شيء للجنة يأخذه معها:
-الواحد يحبك أكتر من كده ايه بس
رفعت حاجبيها إلى الأعلى معقبة باستغراب:
-للدرجة دي
رفع رأسه ونظر إلى خلفها قائلًا بحماس وجدية في نفس الوقت وعينيه تقص كم يحبها مُردفًا معهم كل ذلك وأكمل ناظرًا إليها:
-ياه... وأبعد كمان وكمان وكمان.. بأمانة بحبك حب مش موجود في الدنيا دي ولا عمري اتخيل إنه يكون موجود
صاحت بقوة هذه المرة تريده أن يعرف أنها تحبه فوق حب المحبين حبًا فلا يتخيل نفسه يحبها أكثر مما تحبه:
-ليه إن شاء الله وأنا ايه منا بحبك أنا كمان وشيفاك كل حياتي
ضغط على يدها بقوة وعينيه الرمادية الرائعة مثبتة على عينيها العسلية يردف لها بكل الحب والصدق الذي داخله، يلقي عليها كل العشق والإخلاص الذي اجناه معها قائلًا بشغف غير مبالغ فيه:
-هدير أنتِ روحي وعمري كله.. أنتِ النفس اللي مخليني عايش
ابتسمت إليه وأدمعت عينيها وهي تنظر إلى داخل عينيه مباشرة وتستمع حديثه عنها، فلم تجد شيء تقوله وتعبر به عن حبها له وكم أنه الفاصل الوحيد بين السعادة والحزن:
-وأنتَ ندوب.. ندوب فضلت مكان الجروح علشان كل ما أشوفها أضحك وأحمد ربنا أنها حصلت علشان تبقى أنتَ ليا يا أحسن راجل في الكون كله
لم يكن يريد منها أكثر من هذه الكلمات لتكون إشارة له في البدء مرة أخرى للسير على طريق الحب والسعادة، أقترب منها بوجهه وجسده مشتاقًا إليها وكأنها منذ زمن بعيدة عنه، أقترب مقبلًا شفتيها برقة وحنان بالغ وكأنه يعامل قطعة حرير غالية الثمن لا تخص إلا الملكات المتوجة، ولم تكن تريد هي أكثر من أمير المملكة ليقترب منها ويسرد عليها بطريقته الخاصة كم يحبها ويجعلها تجلس داخل قلبه متربعه على العرش..
رأيت الندوب كم هي جميلة؟.. منذ البداية تطاردنا الجروح، تنزف دماء كثيرة وبغزارة تجعلنا نرى الحياة أسوأ بكثير مما هي عليه، تشوه جسدنا وتجعله بصورة بشعة للغاية، تترك ذكريات محفورة في القلب والعقل وما نبض داخلك، كلما تذكرت منها شيء صرخت، رأيت الجروح الكريهة؟. هي التي تركت لك "ندوب الهوى" لتذكرك بكل ما مضى من ألم وآنين يتحول لضحكات ساخرة وهي ترى الحب والهوى يسيطر عليها من كل جانب
تذكر!!.. أن الله هو العون في كل طيب وخير، مادمت على الطريق المستقيم، مادمت تريد الحلال في حياتك يُنيرها كضوء القمر الساطع..
❈-❈-❈
"تمت بحمد الله"