أخر الاخبار

رواية غابة الذئاب البارت السابع والتامن والتاسع والعاشر من الجزء الثالث بقلم ولاء رفعت علي

 

رواية غابة الذئاب البارت السابع والتامن والتاسع والعاشر من الجزء الثالث بقلم ولاء رفعت علي 


رواية غابة الذئاب الفصل السابع والتامن والتاسع والعاشر من الجزء الثالث بقلم ولاء رفعت علي 


رواية غابة الذئاب البارت السابع والتامن والتاسع والعاشر من الجزء الثالث بقلم ولاء رفعت علي 


※ الفصل السابع ※

🐺 غابة الذئاب «ما بعد العهد» 🐺

"الجزء الثالث من رواية صراع الذئاب" 

بقلم: ولاء رفعت علي


تجلس أمام المرآة و تضع الحمرة علي شفتيها ثم أطبقت إياها ليتم توزيع الحمرة بشكل متناسق، رفعت عينيها المزينة بالكحل الأسود لتنظر إلي الذي وضع يديه علي كتفيها، يتأمل ملامحها التي يحفظ بها كل إنش، عقدت ما بين حاجبيها و بإبتسامة وديعة سألته: 

"بتبص لي كده ليه؟". 


ابتسم و أنحني ثم أستند برأسه علي كتفها قائلاً: 

"أصل أول مرة أشوف قمر طالع الصبح". 


وضعت يديها علي خاصته قائلة: 

"صاحي مزاجك رايق، أنت النهاردة أجازة و لا إيه؟". 


نظر إليها عبر المرآة مبتسماً: 

"هو أنا مزاجي ما بيروقش غير في الأجازات! ". 


نهضت و ألتفت إليه تكمل هندام ربطة العنق خاصته: 

"بصراحة مش علي طول، هو يمكن الفترة الأخيرة بقينا قليل لما بنتكلم أو بنقعد مع بعض، المستشفي واخدة وقتك و أنا المركز نفس الحكاية، إحنا فعلاً محتاجين وقت راحة و نرجع نقرب من بعض تاني". 


أطبق شفتيه و أخذ يفكر ثم قال: 

"مش إحنا إتفقنا هنقضي مع بعض الـ weekend و هنسافر!". 


نظرت إلي أسفل تتهرب من التحديق إليه و هي تخبره: 

"بصراحة عندي اليوم دي حالتين ولادة ما ينفعش يتأجلوا ". 


بالخارج في الرواق، خرجت من غرفتها للتو و توقفت أمام غرفة والديها قبل أن تطرق الباب، راقبت الأجواء من حولها لتطمئن أن لا يشاهدها أحد و هي تتصنت علي والدها و زوجته. 


نعود إلي يوسف الذي تراجع جانباً و وضع يديه علي جانبي خصره، يعتصر شفته السفلي أسفل أسنانه و يهز رأسه قائلاً: 

"تمام يا دكتور علياء، براحتك خالص بس ما ترجعيش تشتكي و تقولي أنت مش بتقعد معايا ليه". 


اقتربت منه و حاوطت عنقه بذراعيها قائلة: 

"بالله عليك يا چو ما تزعل مني، أنت أكتر واحد المفروض يكون مقدر ظروفي عشان هي نفس ظروف شغلك، و عارف إن تخصصي بالذات وقتي ما بيبقاش ملكي". 


"طب و بالنسبة لجوزك مالهوش حق من وقتك ده خالص!". 

قالها و يحدق إليها بنظرة عتاب، فأجابت بدلال: 

"يا حبيبي وقتي و كل ما أملك حقك، و أوعدك إن شاء الله هارجع بدري من الشغل هعدي عليك و نروح نسهر في أي حتة، و أنت اللي هتختار المكان بنفسك". 


"عارفة يا لولو أنتِ أحسن واحدة تقدر تثبت اللي قدامها، أوك موافق بس تسعة بالدقيقة ألاقيكي مستنياني قدام المستشفي، تسعة و دقيقة مفيش خروج". 


أومأت إليه بإبتسامة ظهرت أسنانها البيضاء المتناسقة: 

"أمرك يا دكتور". 


رفع حاجبه الإيسر و بتوعد زائف مازحاً يخبرها: 

"عارفة لو ماجتيش بقي و أعتذرتي أصل عندي حالة و الكلام ده عارفة هعمل فيكِ إيه؟ ". 


أنزلت يديها و أبتعدت خطوة إلي الوراء و سألته بجدية و بمزاح: 

"هاتعمل إيه؟". 


جذبها من ذراعيها و أرتطمت علي صدره قائلاً: 

"هعمل كده". 


كاد يقبلها لكن أوقفه طرق الباب و يعقبه صوت ابنته: 

"داد؟"


أطلق زفرة بحنق فأبتسمت علياء و أبتعدت، و قالت إليه بصوت خافت حتي لا يصل إلي صغيرته المراهقة: 

"لما نرجع بالليل هعوضك". 

و قامت بتقبيل خده و ألتفت دون أن تلاحظ أثر الحمرة علي شكل شفتيها الذي تركته علي خده. 


بينما هو صاح مجيباً علي نداء صغيرته: 

"أدخلي يا لوچي". 


فتحت الباب و ولجت، ألتفت إليها علياء مبتسمة: 

"good morning لوچي ". 


قبل أن تجيب الأخري علي التحية، لاحظت أثر الحُمرة علي وجنة و الدها، عادت ببصرها إلي علياء و حدقت بطيف ابتسامة لا تخلو من نظرة حقد أدركتها الأخري، فقالت علي عجلة من أمرها: 

"طب أنا هستأذنكم عشان أتأخرت، باي". 


رد زوجها ينظر نحو إثرها: 

"باي". 


بينما ابنته، اقتربت منه و قامت بمعانقته قائلة: 

"good morning Dad ". 


ربت عليها بحنان قائلاً: 

" good morning ". 


و كأنه تذكر شيئاً، عقد ما بين حاجبيه و سألها: 

"مش المفروض تكوني في المدرسة دلوقت؟". 


أنسحبت من بين ذراعيه و قالت: 

"صحيت متأخر، و تعبانة شوية". 


مسك يدها و بإهتمام و ضع يده الأخري علي جبهتها، يتفحص ملامحها: 

"حاسة بإيه بالظبط؟". 


أومأت بنفي و أجابت: 

"حضرتك فهمت غلط، أنا حاسة بس بإرهاق". 


تركها و ذهب يبحث عن سترة حُلته السودا: 

"الإرهاق ده سببه ما بقتيش تروحي النادي و علي طول قافلة علي نفسك، ياريت ترجعي لتمارين السباحة اللي بعدتي عنها بقي لك أكتر من خمس شهور". 


"أوك، أنا بس هستأذن حضرتك هاروح أزور مامي و هاقضي عندها اليوم النهاردة". 


ظل ينظر بضيق، بداخله يرفض تلك الزيارة لكن عندما رأي رغبة صغيرته في رؤية والدتها، فوافق علي مضض: 

"خلي عم محسن يوصلك و يستناكِ لحد ما تروحي من هناك". 


ابتسمت ابنته و عانقته مرة أخري قائلة بإمتنان: 

" thank you dad". 


بادلها العناق ثم ابتعد و أخبرها: 

"أنا مضطر أمشي أنا كمان عشان ما أتأخرش، و لما ترجعي أتعشي و نامي عشان هتأخر أنا و ماما علياء بره". 


هزت رأسها في صمت، و وسوس إليها الشيطان بأن والدها لا يكلف عناء نفسه بإخبارها عن موعد العشاء الذي بينه و بين زوجته مما أشعل النيران بداخلها أكثر. 


كاد والدها يغادر، لمحت هاتف علياء فوق طاولة الزينة، قامت بأخذه سريعاً و ذهبت مسرعة خلف والدها: 

" dad,  dad". 


توقف قبل أن ينزل علي الدرج،  وجدها ترفع الهاتف لتعطيه إياه: 

"طنط علياء نسيت الفون بتاعها، ياريت تعدي عليها و تديهولها". 


أخذه و وضعه في جيب سترته الداخلي قائلاً: 

"تمام، هعدي عليها، خدي بالك من نفسك". 


أومأت إليه بعينيها و أكتفت بإبتسامة، أزدادت و تتخيل ردة فعل والدها عندما يري صديقه لدي زوجته في المكتب دون أن يعلم و لا يوجد سبب لزيارته إليها! 

༺༻

"آسر؟". 

قامت بالنداء عليه و تقوم بإغلاق زر قميص صغيرها، أجاب زوجها الذي يقف لدي الطاولة الرخامية، يرتشف فنجان القهوة و يتصفح هاتفه في آن واحد: 

"نعم؟". 


انتهت من ما كانت تفعله و تقدمت منه لتخبره: 

"منة بنت خالتي الحنة بتاعتها بكرة و بعد بكرة الفرح". 


أنتهي من شرب القهوة و ترك القدح فوق الطاولة، أغلق شاشة الهاتف ثم وضعه في جيب سترته الداخلي، فقال لها: 

"يعني حنة و فرح بنت خالتك طلعوا مرة واحدة كدة، اللي هم قرروا فجأة تتجوز، اللي أعرفه الطبيعي الناس بتعزم قبل بفترة علي الأقل أسبوع". 


رفعت إحدى حاجبيها و عقدت ساعديها أمام صدرها: 

"ما أنا قايلة لك من شهر حتي بالأمارة كنت قاعد نفس القاعدة بتاعتك دي و عشان ماسك الفون و مش مديني ربع اهتمام بالتأكيد مش هتفتكر". 


زفر بضيق فسألها و قد أوشك صبره علي النفاذ: 

"و المطلوب مني إيه يا هاجر؟". 


حدقت إليه بنظرة مطولة ثم أجابت: 

"كل اللي طلباه منك، ياريت تركز مع بيتك و أولادك زي ما أنت مركز مع ولاد غيرك". 


"أنا مش هتكلم في الموضوع اللي بتلمحي ليه ده تاني، عشان عيب عليكي لأنك عارفاني كويس، إما بالنسبة لفرح بنت خالتك، أتفضلي روحي". 

شعرت بالحرج لما تفوهت به، كاد يولي ظهرها إليها، ركضت نحوه و أوقفته لكي تسأله: 

"طب و أنت مش هتيجي الفرح؟". 


تناول نظارته الشمسية المعلقة في جيب سترته الخارجي و قام بإرتدائها قائلاً: 

"هابقي أكلمك قبلها، يلا أمجد أنت و كارما". 


أمسكت يده و أوقفته مرة أخري تنظر إليه بأسف و تخبره مُعتذرة: 

"آسر، أنا آسفة و الله ما قصدي حاجة من اللي فهمته". 


استدار و وقف أمامها وضع يده علي خدها ليضغط بإبهامه و سبابته عليه، قائلاً بإبتسامة: 

"أنا أصلاً ما باخدش علي كلامك و أنتِ متضايقة، لأن بعتبرك طفلة". 


لكزته في صدره قائلة بحنق طفولي: 

"طفلة إيه اللي عندها ٣٤ سنة!". 


أطلق قهقه: 

"حتي لو عندك ١٠٠ سنة و شعرك أبيض و سنانك واقعة و وشك مكرمش، برضو بالنسبة ليا طفلة، الطفلة اللي عيني عمرها ما شافت و لا هاتشوف غيرها، اللي خطفت قلبي و عقلي و جننتني معاها و نفسي دلوقتي أخطفها بين إيديا و نطلع أوضتنا و... 


هبط بشفتيه إلي خاصتها، سرعان منعته بوضع كفها علي فمه و أشارت إليه بنظرة إلي طفليها اللذان يقفان و يشاهد كليهما ما يحدث و كأنهما يشاهدان فيلماً رومانسياً. 


تنحنح آسر و أعتدل قائلاً: 

"كنت هقولك في ودنك كلمة سر". 


فقال صغيره أمجد بمشاكسة: 

"و إحنا كمان عايزين نعرف كلمة السر يا بابي".


و عقبت شقيقته كارما:

"و أنا كمان عايزة أعرف". 


همس الأخر إلي زوجته: 

"ما تقولي لهم أنتِ يا مامي". 


تهربت من نظرات صغيريها و حدقت إليهما بنظرة جدية: 

"يلا يا ولد أنت و أختك أتأخرتوا علي المدرسة ". 


أشار إليهما والدهما إلي الخارج: 

"يلا قدامي علي العربية". 


و بعد أن خرج الصغيران، اقترب منها علي حين غرة و بيد واحدة ضغط علي وجنتيها و شفتيها فأختطف قبلة 

"تصبيرة لحد ما أرجع لك بلليل، سلام". 


ضحكت الأخري و سارت خلفه، و أشارت إلي صغيريها بيدها: 

"باي، في حفظ الله يا حبايبي". 


عادت إلي الداخل و سارت نحو الدرج، أوقفها تنبيه رسالة واردة، تراجعت و سارت إلي الأريكة حيث تركت الهاتف و أخذته، وجدت الرسالة صادرة من رقم مجهول، قامت بفتحها لتجد المحتوي كالآتي

«خلي بالك من جوزك لأن الضربة مش بتيجي غير من أقرب الناس ليكِ حتي لو من دمك»

༺༻ 

في مكتب الخاص بالشئون داخل إحدي الجامعات الخاصة، تمسك تلك السيدة بأوراق و تضعها أمام الأخري: 

"أتفضلي يا مدام خديجة، أملي بياناتك هنا". 


نظرت خديجة إلي آدم بإبتسامة يشوبها التوتر، أومأ لها بأن تفعل ما طلبته منها السيدة، أخذت تكتب حتي انتهت من ملأ البيانات المطلوبة ثم أعطت الورقة إلي الأخري و سألتها: 

"هل في أي إجراء تاني أعمله؟". 


أجابت الأخري: 

"لاء، كده كله تمام، طبعاً الدراسة هتبدأ من السنة الدراسية الجديدة، لكن ممكن تيجي تحضري courses في التنمية البشرية و الـ English و Icdl، دول الجامعة بتقدمهم علي مدار السنة كلها و بتمنح الطلاب شهادات بعد ما بينتهي كل course ". 


ضحك آدم معقباً: 

"دي خديجة هي اللي تيجي تدي عندكم دروس في التنمية البشرية". 


حدقته الأخري بتوعد، فقالت السيدة: 

"ده شرف لينا يا آدم بيه". 


بينما خديجة التي شعرت بالحرج، أخفت هذا خلف بسمة ارتسمت علي ثغرها حينما قالت: 

"آدم بيه بيهزر، أنا بس لما بتحصل مشكلة ما بين أي إتنين بحاول أحلها علي قد ما أقدر، ده أنا غير كنت إن قرأت كتب كتير لدكتور إبراهيم الفقي الله يرحمه". 


عقبت السيدة: 

"الله يرحمه، طيب دي حاجة كويسة جداً كونك إنك بتنجحي تصلحي و تحلي مشاكل اللي حواليكِ ده في حد ذاته نجاح، علي العموم هنكلم حضرتك و هنبلغك عن المواعيد  ". 


"تمام". 

قالتها خديجة و بعد إلقاء السلام و غادرت بوابة الجامعة برفقة آدم الذي أمسك بيدها و حدق إليها بسعادة: 

"ألف مبروك يا حبيبتي، عقبال الشهادة و أول ما هتخلصي هاجيبك تشتغلي معايا". 


"بجد يا آدم؟". 

سألته و الفرح يقفز من عينيها، فأجاب الأخر بزهو: 

"و أنا من إمتي بضحك عليكِ، ده أنتِ هتبقي سكرتيرة آدم البحيري، و مكتبك هيبقي جوة أوضة مكتبي". 


ضحكت و قالت: 

"إيه جو الروايات ده!، ناقص تقولي و هتلكك ليكِ علي أي غلطة عشان تتخانق معايا و هتعاقبني ببوسة و جو مدير الشركة و السكرتيرة". 


أخذ يضحك و لم يستطع التوقف عن الضحك: 

"لاء يا ديجا ده أنتِ الروايات خربت تفكيرك خالص، فين ديجا حبيبتي المتدينة". 


لكزته في كتفه و قالت: 

"و حد قالك إن اللي بيحب دينه و بيطبقه في حياته لازم يكون إنسان مُعقد و ما بيهزرش، بالعكس بقي، دول أكتر ناس عايشين حياتهم صح، هي مسألة وقت الجد جد و الضحك ضحك من غير ما نغضب ربنا و لا نأذي حد بكلمة تجرحه". 


وقف أمامها، يتأملها بفرح و كأنه ظفر بكنز  لايقدر بثمن: 

"كل مدي و بندم إن معرفتكيش عن قرب من زمان، أنا ساعات بحسد نفسي عليكِ". 


بينما كان يتحدث إليها لفت انتباهها فتاة تصيح في شاب يمسك بيدها عنوة، لاحظ آدم شرود زوجته فألتفت إلي ما تنظر إليه


"بحذرك لآخر مرة يا باسم، أبعد عني أحسن لك، أنت إيه ما بتفهمش قولت لك أنا ما بحبكش، و لا عمري حبيتك". 

صاحت بها الفتاة و جذبت يدها من قبضة المدعو باسم و الذي صاح بغضب أيضاً: 

"بس أنا بحبك يا فجر، و هاتحبيني سواء بمزاجك أو غصب عنك". 


أثار تهديده غضب الفتاة فصرخت بسخط: 

"ده في أحلامك، واضح واخد مقلب في نفسك أوي، مفيش راجل يفرض نفسه علي واحدة مش طايقه تبص له، لكن واضح جداً ما تعرفش حاجة عن الرجولة". 


باغتها بصفعة قوية و يليها الأخري: 

"أنا راجل غصب عنك يا بنت... 


لم يكمل سبه البذئ بسبب ما فعله آدم به، حيث قام بتسديد لكمة في وجهه أطاحت به علي الأرض: 

"أنت مين عشان تضربني؟". 


كان حراس أمن بوابة الجامعة يكتفون بالمشاهدة فقط، بينما آدم قام بتوبيخ الشاب: 

"أنا واحد شاف حتة عيل زيك بيمد إيده علي واحدة بنت". 


نهض الشاب و كاد يهجم علي آدم فتدافع نحوه الحارسان اللذان كان في إنتظار سيدهما لدي سيارته، أوقفهما الأخر بإشارة من يده

و أردف: 

"أبقي أعملها و هادفنك مكانك". 


كانت خديجة تحتضن الفتاة التي تبكي أثر الصفعة التي تلقتها، تربت عليها: 

"ما تخافيش مش هانسيبك، تحبي نروح نعمل فيه محضر عشان ما يتجرأش عليكِ تاني!". 


رفعت فجر رأسها و أبتعدت لكي تنظر إليها بتوسل قائلة: 

"بلاش بالله عليكِ، مش عايزة فضايح". 


تعجبت خديجة من موقف الفتاة العجيب: 

"فضايح إيه!، يا بنتي ده ضربك بالقلم قدامنا و عمال يهددك، إحنا هنشهد معاكِ". 


هزت الأخري رأسها برفض قائلة: 

"لاء مش عايزة، و شكراً لحضرتك و للأستاذ". 


و أبتعدت ثم دلفت إلي الداخل، فأبتعد الشاب أيضاً و صعد أعلي درجاته النارية و أنطلق بها. 


أمسك آدم خديجة من يدها و قال: 

"يلا بينا عشان أوصلك للقصر و أطلع أنا علي الشركة". 


و بداخل السيارة التي يقودها إحدي الحارسين و الآخر يجلس بجواره، و كلا من خديجة و آدم يجلس في الخلف،  كانت الأخري شاردة، تنظر إلي الطريق في صمت، وضع آدم يده علي يدها و سألها: 

"حبيبتي مالها سرحانة في إيه؟". 


نظرت إليه و بشبه إبتسامة و إقتضاب قالت: 

"مفيش". 


سألها و قد أدرك السبب: 

"أوعي تكوني لسه شاغلة بالك باللي حصل مع البنت!". 


نظرت إليه بحزن: 

"أكدب عليك لو قولت لك لاء، بصراحة مستغربة لموقفها الضعيف و الخوف اللي شوفته في عينيها لما قولت لها نعمل فيه محضر ". 


"ديجا حبيبتي، مش كل الناس تملك الجرأة، و ممكن تكون من عيلة الأمر ده عندهم إنها تبلغ أو تعمل محضر ده فضيحة في حد ذاته، أنتِ لو تلاحظي كمان كلامهم قبل ما يضربها إنهم يعرفوا بعض، ممكن كانو مرتبطين و سابته، الله أعلم إيه اللي بينهم و ممكن ده سبب خوف البنت". 


استدارت إليه بزاوية و قالت: 

"بابا الله يرحمه ديماً كان بيقولي صاحب الحق ما بيخافش و لو حد جه عليكِ و ظلمك و أنتِ سكتي عن الظلم مهما كان السبب يبقي أنتِ زيك زي اللي ظلمك، ومفيش حد هيدفع ضريبة السكوت غيرك". 


عقب آدم بعدما تنهد قائلاً: 

"الله يرحمك يا عم سالم، بقولك إيه إحنا هنقضي باقي اليوم كله عن البنت اللي انضربت!، عايزين نحتفل بمناسبة إنك بقيتي طالبة جامعية حالياً، و سكرتيرتي الخاصة مستقبلاً". 


ابتسمت رغماً عنها ثم ضغطت بيدها علي يده و أشارت إليه بعينيها نحو السائق و الحارس، كدلالة أن يتوقف عن التغزل بها أمامهما. 


أنحني نحو موضع أذنها التي يغطيها الحجاب، همس إليها: 

"بكرة و بعده و بعده أنا معنديش حاجة في الشركة و هاخدهم أجازة، إيه رأيك نخطف لنا اليومين دول في شاليه الجونة، فاكراه؟". 


غمز إليها بعينه فضحكت و أجاب: 

"عمري ما نسيته". 


خلل أنامله بين أناملها و وضع يدها علي منتصف صدره و أخبرها: 

"إن شاء الله هيبقوا من أجمل أيام حياتنا، بحبك أوي يا ديجا". 

༺༻

تضع المساعدة أمامها دفتر ورقي قائلة: 

"أتفضلي يا دكتور، دي أسماء و مواعيد حالات الولادة لحد آخر الأسبوع". 


ردت علياء و هي تنظر إلي المواعيد قائلة: 

"أتصلي علي كل حالة فيهم تبلغيهم ما ينسوش عمل التحاليل المطلوبة منهم قبل العملية". 


"أمرك يا دكتور". 

قالتها الأخري و ذهبت لتفتح الباب و تغادر فوجدت أمامها آسر الذي طرق الباب قائلاً: 

"صباح الخير". 


رفعت وجهها و نظرت إلي صاحب الصوت و ابتسمت، نهضت قائلة: 

"صباح النور، إيه المفاجئة الحلوة دي؟". 


جلست و حدق إليها بتعجب و عدم فهم ما يحدث، فأخبرها: 

"مفاجئة إيه يا دكتور!، ده أنتِ اللي بعتالي رسالة علي الواتس إمبارح، آسر أنا عايزاك بكرة في المركز، قلقت و قولت فيه حاجة بخصوص لوچي". 


قطبت ما بين حاجبيها و تحاول أن تتذكر إنها أرسلت إليه كما قال أم لا

"أتفضل أقعد". 


أخذت تبحث عن هاتفها و لم تجده فقالت له: 

"معلش يا دكتور آسر، أنا بعت لك الرسالة دي إمتي بالظبط؟، شكلي نسيت الفون في العربية". 


فتح الرسالة في هاتفه و أعطاها إياه: 

"أتفضلي". 


ضبطت من وضع نظارتها الطبية جيداً ثم نظرت إلي توقيت الرسالة، زادت دهشتها أكثر لأنها تذكرت في هذا الوقت كانت نائمة، كيف حدث ذلك! 


"غريبة، أنا الوقـ... 

قاطعها طرق الباب ثم فتحه ليظهر يوسف الذي كان مبتسماً و كاد يتحدث و عندما رأي آسر تجلت الدهشة في نظرات عينيه: 

"ده أنا كنت فاكرك في المستشفي و المفروض عندك عمليات بعد ساعة!". 


قالها و عاد ببصره إلي علياء التي حدقت إليه بتوتر لا تعلم لما تشعر بهذا، ربما نظراته المبهمة و التي لم تستشف منها شيئاً، رسمت علي شفتيها ابتسامة زائفة و قالت: 

"لاء كده المركز نور بالحبايب، ده دكتور آسر لسه جاي دلوقتي". 


جلس يوسف علي الكرسي المقابل لصديقه، وضع هاتفها أمامها علي المكتب: 

"أنا جيت عشان أديلك موبايلك اللي نستيه". 


أمسكت بالهاتف و قالت: 

"و أنا اللي كنت فاكرة إن نسيته في العربية، لاء ده أنا كدة خلاص محتاجة أخد علاج لتنشيط الذاكرة". 


عقب آسر بمرح: 

"بالعكس أنتِ أكتر واحدة فينا ذاكرتك قوية، أومال أعمل إيه مع بنت خالتك اللي ذاكرتها زي ذاكرة السمكة أقولها علي الحاجة تنساها بعد دقايق". 


ضحكت الأخري رغماً عنها و دوت ضحكتها دون قصد منها مما جعل زوجها يحدقها بنظرة تحذيرية جعلتها تتوقف عن الضحك، فرت من نظراته إليها و قالت إلي صديقه: 

"جوجو من زمان و هي كدة، احمد ربنا إنها فاكرنا و فاكراك أنت شخصياً". 


رفعت سماعة الهاتف الأرضي و سألت كليهما: 

"تشربوا قهوة معايا؟". 


أجاب آسر: 

"شكراً، أنا سبقتكم". 

نهض و أردف: 

"أنا هستأذنكم عشان يا دوب أوصل للمستشفي و عندي كام حالة همر عليهم قبل ما أبدأ العمليات، جاي معايا يا چو؟". 


حدقه الأخر ببرود قائلاً: 

"لاء أنا قاعد مع مراتي شوية، أتفضل أنت روح شوف اللي وراك". 


لم يعلق آسر علي حديث صديقه و أكتفي بإبتسامة: 

"سلام عليكم". 


ردت علياء التحية و كانت تنظر نحوه و بعد أن ذهب و أغلق الباب خلفه، تحولت ملامح يوسف الهادئة إلي غاضبة جعلت زوجته تشعر بالتوتر و الخوف: 

" آسر كان بيعمل إيه عندك؟". 


غرت فاهها و شردت في سؤالها الذي يحمل ألف معني، أجابت و الصدمة تنضح من عينيها: 

"أنت أكيد بتهزر، و إيه نبرة صوتك اللي بتحمل إتهام ليا!". 


"أنا ما بهزرش يا علياء، و ما وجهتش أي إتهام ليكِ، سؤالي واضح جداً، بسألك هو هنا ليه؟ إيه السبب؟". 


لم تعلم هي أيضاً السبب، لذا أجابت بصدق: 

"معرفش، هو لسه واصل قبل ما أنت تيجي بدقيقة و لسه ما أتكلمناش لاقيتك جيت، و زي ما شوفت بعينك ما أتكلمش في أي حاجة". 


أومأ لها و يطبق شفتيه: 

"تمام". 


نهض و أردف: 

"بمناسبة موضوع الذاكرة بأكد عليكِ ميعاد العشا بالليل ياريت ما تنسيش، سلام". 


أتجه إلي الباب فأوقفته: 

"يوسف أستني بس لسه مخلصناش كلامنا". 


ألتفت إليها و نظر في ساعة يده: 

"معنديش وقت، نبقي نكمله بالليل في السهرة ما تقلقيش، سلام يا دكتور". 


غادر و تركها حائرة، تخشي إن ما وراء غضبه سوء فهم و غيرة واضحة إليها، كما تذكرت أمر الرسالة، أمسكت هاتفها و أخذت تبحث عن الرسالة، لم تجد أي رسائل علي تطبيق الدردشة بينها و بين آسر، فكيف وصلت إليه تلك الرسالة من الحساب خاصتها! 

༺༻

تقف داخل الشرفة المليئة بالأزهار و الزرع، تستنشق رائحة عبيرها و الهواء قائلة: 

"ياه يا ملك، الريحة دي بتفكرني بتمن سنين فاتت، و لما كنا بنروح الجامعة الصبح، بيبقي فيه ريحة في الجو مميزة تحسسك بالدفا و قد إيه مهما سافرتي و لافيتي في أي بلد حتي لو أحسن من هنا مش هتحسي بالإحساس ده غير في مصر". 


عقبت صديقتها و تعطيها كوب مشروب القهوة بالحليب: 

"فعلاً مصر زي الأم اللي أولادها مهما بعدوا عنها يشتاقوا لحضنها، و ده كان نفس إحساسي لما سافرنا أنا و مصعب و قضينا أسبوع في روما في أول سنة جواز، برغم كانت رحلة جميلة و أنبسطنا فيها بس برضو مكنتش حاسة بالراحة و أول ما رجعت فرحت كأني كنت في غربة، ما قولتليش بقي ناوية تعملي إيه الأيام الجاية غير الشغل و رسالة الدكتوراة اللي بتحضريها". 


ابتلعت رشفة من الكوب ثم أجابت: 

"و الله يا ملك مش عارفة أبدأ منين، حاسة كأني تايهة، ده غير بقي مطلوب مني حاجات كتير تبع الرسالة اللي لازم أكون مطبقاها عملي علي حالة حقيقية". 


نظرت إليها الأخري و كأنها تذكرت شيئاً فسألتها: 

"إزاي صح أنا و أنتِ كنا بندرس Economy و أنتِ دلوقت بتحضري دكتوراة في مجال علم النفس اللي هو إزاي؟". 


تركت رودينا الكوب فوق المنضدة لتجيب علي سؤال صديقتها: 

"أنا لما سافرت لكندا دخلت الجامعة هناك و أختارت المجال ده عشان أنا كنت حباه من زمان، و بابي رفض أدرسه لما كنت صغيرة و صمم علي الإقتصاد، و لما سافرت قولت أنا عملت اللي هو عايزه و جه الوقت أحقق اللي نفسي فيه، و هناك في كندا دخلت كذا إختبار زي القدرات، الحمدلله عديت و نجحت و خلصت دراسة و عملت ماچيستير و برضو نجحت و أتقبل، قولت لازم أكمل طريقي للأخر  و ده اللي خلاني رجعت هنا". 


علقت ملك التي شعرت بالفرح من أجل نجاح صديقتها رغماً من حزنها الدفين من أجل إنها لم تحقق أي إنجازاً يُذكر سوي إنها تزوجت من حبيبها و أنجبت. 

"براڤو عليكِ يا رودي، حققتي اللي نفسك فيه و وصلتِ لحلمك، كان نفسي أعمل زيك بس أحقق نجاح في career بحبها، لكن مصعب للأسف وأد لي أي حلم بحجة إنه بيغير عليا". 


ألتفت الأخري و نظرت إليها: 

"مصعب بيحبك و حب يقفل باب عليه عارف إنه هيجي من وراه مشاكل كتير، أقولك علي حاجة برغم اللي وصلت ليه ده بس نفسي يكون ليا حد بيحبني و أحبه و بيت يجمعنا سوا و يكون عندنا ولاد و بنات". 


"هيحصل إزاي و أنتِ أي حد يقرب منك بتبعدي أو أي عريس يتقدم لك بترفضيه من غير ما حتي تعرفي هو مين، خليتي مامتك كل شوية تسألني من وراكِ هي رودي مرتبطة بحد، طيب فيه حد في حياتها". 


أطلقت الأخري ضحكة و تتذكر هذا: 

"أنا فعلاً حبيت مرة واحدة في حياتي، و الحب ده قفلت قلبي عليه، و للأسف مش عارفة أحب تاني، حاولت أفهم مامي كده و هي أخر ما زهقت مني قالتلي خليكِ أنتِ اللي هاتتعبي و هيجي اليوم هاتبقي وحيدة زي حبك اللي من طرف واحد". 


انتبهت ملك إليها جيداً و تركت الكوب من يدها علي المنضدة، سألتها بحماس: 

"اه يا سوسة، طلعتِ بتحبي و مخبية من ورايا، لاء تعالي لي هنا و الله ما هاسيبك غير لما تقولي لي مين فارس أحلامك؟". 


قاطع تلك اللحظة رنين جرس المنزل، فأردفت: 

"هاروح أشوف مين و راجعة لك". 


ألقت نظر في المرآة لتتأكد من وضع الحجاب بشكل جيد ثم نظرت عبر الفتحة الصغيرة التي تتوسط الباب، ابتسمت و فتحت بترحاب و حفاوة: 

"ياسين!". 


قامت بمعانقته و أردفت: 

"فينك كده مختفي بقي لك يومين و أتصل عليك ما بتردش". 


أجابت صغيرته بدلاً منه: 

"كان في البيت يا عمتو و علي طول قاعد لوحده و مش عايز يخرجني". 


حدقت شقيقها بعتاب ثم نظرت إلي ابنته: 

"معلش يا حبيبة عمتو، إحنا لازم نعاقبه عشان كده مش هاتروحي معاه النهاردة لحد الـ weekend كمان". 


"بس كده بابي كده هيقعد لوحده من غيري، لاء أنا هاروح معاه لما يرجع من الشغل و ياخدني". 

قالتها و تمسك بيد والدها الذي ربت علي رأسها بحنان: 

"حبيبتي يا ياسمينا و أنا كمان مقدرش أقعد من غيرك". 


"يا سيدي علي الحنية و الدلع، اللي يسمعكم يقول واحد و حبيبته". 


ابتسم شقيقها و نظر إلي ابنته التي أخذت من والدتها ملامحها و كأنها توأمها الصغير: 

"هي فعلاً حبيبتي و بنتي و كل حاجة". 


"ربنا ما يحرمكم من بعض، يلا روحي يا ياسمين غيري هدومك عقبال ما نور و مليكة يرجعوا من المدرسة". 


فقال ياسين و يهم للذهاب: 

"و أنا بقي هامشي قبل زحمة المرور". 


أوقفته شقيقته و تمسك يده:

"ماشي فين تعالي أنا محضرالك فطارك لأن عرفاك ما بتاكلش حاجة الصبح، و كمان فيه مفاجأة ". 


"استني بس فهميني بدل ما أنتِ سحباني وراكِ". 

وصلت إلي الشرفة و أشارت إلي صديقتها التي تنظر إلي الخارج: 

"المفاجأة هي يا سيدي، رودينا صاحبتي، لسه إمبارح راجعة من كندا". 


ألتفت إليهما و عندما تلاقت عيناها بعينيه تسمرت، دقات القلب لديها متسارعة و كأنها تعدو بكل قوتها في سباق مارثون، تتأمل ملامحه التي تغيرت قليلاً، لكنه أصبح أكثر وسامة من ذي قبل، عيناه ما زالت تحتفظ بنظرته الساحرة و التي اختطفت قلبها منذ زمن بالرغم من الحزن الساكن بداخلهما و تعلم سببه جيداً. 


"أزيك يا رودي؟". 

انتبهت إلي يده الممدودة إليها، بادلته المصافحة و بمجرد ملامسة يدها في يده سرت قشعريرة في جميع خلايا جسدها جعلتها جذبت يدها علي الفور، أجابت بصوت هادئ: 

"الحمدلله بخير". 


لاحظت ملك نظرات صديقتها إلي شقيقها و أخبرها حدسها بأمر ما، فقالت: 

"رودي يا ياسو، ماشاء الله هتاخد الدكتوراة". 


عقبت الأخري: 

"أدعي لي ربنا يوفقني و أخدها". 


تحدث ياسين بدلاً من شقيقته: 

"بإذن الله ربنا يوفقك، لكل مجتهد نصيب". 


نظرت إليه بإمتنان و قالت: 

"شكراً ". 

و من فرط ما تشعر به الآن و هي تراه أمام عينيها، يغلبها الشعور بالخجل و الحرج، أردفت: 

"أنا هستأذن بقي، و إن شاء الله نتقابل مرة تانية". 


أوقفتها ملك: 

"رايحة فين؟، مش سيادتك متفقة معاكِ هنقضي اليوم كله مع بعض و لا مكسوفة من ياسين؟". 


حدقت إليها بتوعد دون أن يلاحظ الأخر، و قالت بتردد: 

"أنا، أنا بس... 


قاطعها الأخر قائلاً: 

"خدوا راحتكم أنا كدة كدة ماشي عشان ما تأخرش علي شغلي، سلام يا رودي". 


أومأت إليه و قالت بصوت خافت: 

"سلام". 


ذهبت شقيقته خلفه و أخبرته قبل أن يغادر: 

"بقولك قبل ما أنسي،  عيد ميلاد ياسمين بعد كام يوم و هانعمله لها إن شاء الله في القصر". 


نظر إليها بإمتعاض و ضيق قائلاً: 

"و أنا يا ملك ما بحضرش أعياد ميلاد و أنتِ عارفة و فاهمة". 


"حرام عليك يا ياسين، بنتك ملهاش ذنب تنكد عليها في يوم زي ده، و لا ليها ذنب في اللي حصل، تعالي بس خليك جمبها و هي بتطفي الشمع و أقعد معاها شوية و بعدين أمشي براحتك". 


أطلق زفرة من أعماقه و أجاب علي مضض: 

"اللي أنتِ شيفاه، بس ما وعدكيش هاحضر و لا لاء، سلام عليكم". 


ردت التحية و أغلقت الباب خلفه، تشعر بالحزن من أجله، تريده أن يخرج من تلك الدائرة السوداء التي يحيط بها ذاته و لا يسمح لأي أحد أن يقترب من منطقة أحزانه التي أصبح بداخلها أسير. 


عادت إلي صديقتها و التي كانت شاردة في الفراغ و انتبهت إلي ملك و هي تلوح بيدها أمام وجهها تسألها بمكر: 

"ما قولتيش يا رودي مين بقي اللي خطف قلبك؟". 


أجابت الأخرى دون أن تنتبه إلي السؤال جيداً: 

"ماله ياسين؟". 


عقدت ساعديها أمام صدرها و بخبث تحدثت: 

"أنا ما جبتش سيرة ياسين، أنا بقولك مين اللي خطف قلبك؟". 


غرت فاها و لا تعلم بماذا تخبرها فأردفت: 

"يبقي اللي شوفته و حسيته صح". 

༺༻

في وسط غرفة ذات إضاءة خافتة و أثاث قديم تجلس و تحتضن صغيرها الذي يبكي و يردد جملة واحدة منذ مجيئه: 

"ماما، حمزة عايز يخرج". 


يرددها من بين بكائه مراراً و تكراراً، تزيد من ضمها إليه و تقول بصوتها الحنون لعله يهدأ و لو قليلاً: 

"هنخرج يا حبيبي، بس كفاية عياط عشان خاطري، حمزة قوي و شجاع ما بيخافش، فيه بطل بيعيط؟". 


هز رأسه بالنفي و قال: 

"أفتحي الباب ده، حمزة عايز يخرج". 


نظرت إلي عيون صغيرها الباكية و إلي المكان من حولها، ما كانت تهرب منه و تخشاه قد حدث، تعلم إنها في هذا المنزل الذي أتت إليه مرة واحدة و ابنها كان حينها مازال جنيناً داخل رحمها، و هذا لكي تواجه والد حازم بالأثم الذي أقترفه ابنه في حقها و نتج عنه حمل، و كان في هذا الوقت تم قتل ابنه و ما بداخل أحشائها سوف يولد بلا أب، كانت تسعي بشتي الطرق أن تحتفظ بحق ابنها بأن يصبح مثل بقية الأطفال، تستخرج له شهادة ميلاد و ما يترتب عليها بتلقي التطعيمات و التعليم، كل هذا يحتاج إلي شهادة و ذلك كان الهدف من التواصل مع والد حازم الذي صدقها و شعر بالشفقة عليها خاصة بعد أن قابل شقيقها صالح و الذي أخبره إنه و شقيقته كليهما لا يطمع في أمواله، قرر الأخر أن يقف معها حتي يضمن حياة آمنة لحفيده عندما يأتي للحياة، كان يرسل كل حين أموال لها من خلال العم صابر و ذلك بعد أن علم بإختفاء شقيقها صالح بدون أسباب. 


و في المكتب يجلس المحامي و أمامه أوراقه و في الجهة المقابلة له تجلس السيدة شيريهان و ابنها أحمد جالساً خلف المكتب، يزفر بضجر و يقول بحدة: 

"بقي لك ساعة بتفر في الأوراق اللي قدامك، هو فيه إيه بالظبط؟". 


توقف المحامي عما كان يفعله و قال بهدوء و برود أعصاب: 

"و أنا من أول ما جيت قولت لك وصية يسري بيه الله يرحمه بيقول مفيش ميراث هيتقسم غير في وجود حفيده، و أنا جيت بناءً علي كلام مدام شريهان لما بلغتني إن حفيدكم موجود". 


نهضت شيريهان و أخبرته بابتسامة تخفي خلفها دهاء و مكر: 

"ثواني هخلي حد من الشغالين يجيبه". 


ذهبت بالفعل و أبلغت إحدي الخادمات و التي ذهبت فقامت بفتح الباب بالمفتاح، انتفضت علا عند سماع المفتاح ضمت ابنها بقوة، ظهرت لها الخادمة تخبرها: 

"شيري هانم عايزة حمزة". 


صاحت الأخري بها و كأن الخادمة سوف تخطف الصغير: 

"روحي قولي لها اللي هيقرب من ابني هاكله بسناني". 


صعقت الخادمة من ردة فعل علا، نظراتها العدائية و نبرتها الشرسة جعلتها تخشي أن تقترب، ركضت و ذهبت مسرعة إلي سيدتها لتخبرها ما حدث

"طيب روحي أنتِ و أنا هاتصرف". 


ذهبت إلي ابنها و دنت منه ثم أخذت تخبره بهمس خافت لا يسمعه سواه، ضيق عينيه و تحفز لما قد سمعه للتو، فمنذ أن جاء بها رجاله إلي هنا لم يلتق بها و تركها تنتظر و تخشي من المجهول، و عليه الآن أن يذهب إليها خاصة بعد ما سمعه من والدته. 


"أنا هاروح لها بنفسي". 


نهض تحت أنظار المحامي الذي كان يراقب الأجواء في صمت و يشعر أن هناك خطب ما. 

لحقت به والدته في خارج غرفة المكتب: 

"أحمد أستني". 


توقف و استدار إليها فأردفت إليه بتحذير: 

"إياك تأذيها، إحنا مش ناقصين مصايب، خلي الموضوع يعدي علي خير و أول ما ينتهي إعلان الوراثة هناخد الولد و هنرميها". 


نظر إلي والدته و أومأ لها قائلاً: 

"أطمني مش هعملها حاجة". 


و بالعودة إلي علا التي تبكي و تحتضن صغيرها الخائف و هي لن تقل حالاً عنه: 

"ما تخافش يا حبيبي، محدش يقدر ياخدك مني". 


انفتح الباب فجأة علي مصرعه، انتفضت بفزع و نظرت إلي الذي يقف لدي الباب، ظلت تحدق إلي هيئته بخوف و قوة في آن واحد، فالخوف سببه هيئته البدنية حيث يمتلك جسد رياضي فارع الطول و عريض المنكبين، نظرة عيناه حادة ترهب قلبها رعباً، بينما القوة  لاحظها في نظرتها و كيف تحتضن صغيرها بقوة لحمايته. 


ظل هو أيضاً ينظر إليها في صمت يتأمل كل إنشاً بها، عينيها البنية الضيقة قليلاً و ذات أهداب كثيفة، أنفها الطويل و المنمق، شفتيها المكتنزة و لونها الوردي الداكن، ترتدي حجاباً باللون الأسود و ثوب فضفاض يخبئ جسدها دون تجسيد مما زاد من فضوله، ود أن يري تلك اللوحة الفنية التي أمامه كاملة. 


وضع يديه في جيوبه و وقف بكبرياء و ألقي عليها أمره دون نقاش: 

"هاتي الولد". 


تحولت ملامحها في لحظة إلي وحش كاسر، صاحت بتحذير: 

"اللي هيقرب من ابني مش هسيبه غير و روحه في إيدي". 


اعتلت ثغره بسمة ساخرة، أخرج يديه من جيب بنطاله و تقدم منها بخطي جعلت دقات قلبها كقرع الطبول: 

"أعتبر ده تهديد!". 


خبأت ولدها خلفها و أخذت تتراجع: 

"أفهمه زي ما تفهمه، عايزين مني إيه أنا بعدت أنا و ابني عنكم كافية غيري شري، و لو علي الميراث مش عايزة أي حاجة و ربنا ما يحوجنا لحد". 


ها إذاً يبدو أن أحدهم أخبرها بموضوع الميراث، رفع إحدى حاجبيه مُردداً بدهشة: 

"الميراث!". 


وقف صغيرها بجوارها يتشبث بيدها، بينما هي ارتطم جسدها في الخزانة فأصبحت محاصرة بينها و بينه

"أهبل أنا عشان أصدق كلامك، قال إيه مش عايزة حاجة مننا و إن ابنك اللي لزقتيه لأخويا الله يرحمه، عارفة إنه هيورث حق أبوه، لكن ده بُعدك ". 

صاح بصوت مرتفع و ضرب قبضته بجوارها في ضلفة الخزانة فوقعت مما سبب ذعر للصغير و أجهش في البكاء، ربتت عليه و نظرت إلي الذي أمامها بقوة و إصرار: 

"أنا ما لزقتش حاجة لأخوك، و يسري بيه الله يرحمه جه بنفسه معايا و سجلنا حمزة في الصحة بعد ما عمله تحليل DNA و أتأكد إن ما بكذبش و لا بتبلي علي أخوك". 


كان ينصت إليها بعينين ضيقة و أظهر لها عدم صدقه، نظراته تخترق روحها لكنها مازالت تحتفظ بقوتها الزائفة أمامه

"و لما هو ابن حازم، ليه أخويا مكنش متجوزك رسمي أو حتي عرفي، بالتأكيد كنتِ واحدة من إياهم و... 


قاطعته صفعة قوية دوي صداها بين جدران الغرفة! 

༺༻

تعالت صوت ضحكاتهم داخل السيارة التي توقف سائقها أمام القصر للتو

"يعني ملك خافت تقول لمصعب إن سبب طلاق يونس و كارين إن أخوها راح إتجوز عليها، خافت ليعمل زيه، يخربيت التفكير". 


تفوهت بها صبا من بين ضحكاتها، رد قصي قائلاً: 

"ليه نسيتِ اللي كانت بتعمله فيه، لما كانت كل شوية تطب عليه خايفة ليكون علي علاقة بمنار السكرتيرة؟". 


"يا نهار أبيض، ما تفكرنيش دي كانت معينة جواسيس بينقلوا لها كل حاجة، و أطمنت لما عرفت إنه نقلها في العلاقات العامة و شغلها بعيد عن مكتبه، و طبعاً الأخبار يومياً بتبقي عندها". 


"خلاص هو أرتاح من منار خالص". 


ترجل من السيارة و تبعته هي أيضاً تتذكر أمر قد نسته تماماً: 

"بمناسبة منار، ياريت تنقلها أنت كمان". 


ابتسم بخبث دون أن تراه، يعلم ما سيخبرها إياه الآن، سوف يجعلها تفتك به

"خلاص ما ينفعش أنا خليتها السكرتيرة الخاصة بشغلي كله". 


تسمرت مكانها و صاحت قائلة: 

"خلتها إيه!". 


حك ذقنه و تأهب للفرار ثم أجاب بشجاعة: 

"السكرتيرة بتاعتي". 


غمز بعينه إليها، بينما هي غرت فاها و تعيد إجابته علي مسامعها من جديد، بهدوء الذي يسبق العاصفة و الزلازل: 

" أنت فهمتني إن شغلها بعيد عن مكتبك زي ما كانت عند مصعب، قصي أنت بتتكلم بجد و لا بتهزر عشان تغيظ فيا؟". 


ألتفت إلي السائق الذي سار بالسيارة نحو المرآب

"بكره حضر الفيراري السودة". 

و أسرع من خطواته إلي الداخل،  و خلفه صبا تركض لتلحق به و تصيح: 

"ده أنت اللي ليلتك سودة، تعالي هنا يا قصي". 


ولجت إلي الداخل فوجدته يحمل ابنته: 

"كنت فين أنت و الست مامي و سايبني أنا و لوكا لوحدي أوعي أنا زعلانة منك أوي". 


عقدت ساعديها و عقدت حاجبيها ثم زمتت شفتيها إلي أسفل

"يا حبيبتي أنا و مامي كان عندنا شغل و لازم نخلصه، و بعدين أنتِ و لوكا معاكم دادة زينات ". 


"كنت خدني أنا أشتغل معاك، مامي ما بتعرفش تعمل حاجة". 


عقبت صبا بسخرية و تحدق زوجها بتوعد: 

"ما خلاص يا زوزو يا حبيبتي، بابي ما بقاش محتاجنا لأنه جاب ست منار". 


حدقها بتحذير و قال لها: 

"صبا، خلاص خلصنا". 


وضعت الصغيرة يدها علي خده لتجعله ينظر إليها، فسألته ببراءة: 

"مين نار دي يا بابي؟". 


اجابت والدتها واضعة يديها علي جانبي خصرها تتشدق بسخرية: 

"هي فعلاً نار يا بنتي، و اللي أبوكِ جايبها لحد عنده عشان أولع أنا". 

قالتها و ألقت حقيبة يدها بغضب علي الأريكة و ذهبت مسرعة إلي الدرج لكي لا يرى عبراتها. 


أغمض قصي عينيه نادماً، لا يعلم بأن مجرد مزحة ستؤلمها إلي هذا الحد، كان يعتقد إنها مجرد غيرة عابرة، يبدو إنه ليس لوحده من يمتلك الغيرة الشديدة هنا، فهي أيضاً مثله بل أكثر منه، يكفي نبرتها التي تخللها الحزن و عينيها التي كانت علي وشك البكاء. 


"زوزو حبيبتي أنا هطلع أغير هدومي و راجع لك تاني". 

قالها و أنزل صغيرته علي الأريكة


"بتضحك عليا، أنت طالع تصالح مامي عشان زعلانة و بتعيط، ماشي ماشي". 


ضحك رغماً عنه من ذكاء و فطنة ابنته التي ورثته من والدتها و منه أيضاً، صعد خلف صبا  و ولج إلي الغرفة لم يجدها، لكن وجد باب المرحاض مغلق، ذهب إليه و قام بفتح الباب فوجده أيضاً موصد من الداخل، طرق قائلاً: 

"صبا أخرجي من الحمام، ما ينفعش تعيطي عندك، تعالي بس هنتكلم مع بعض و هنتفاهم  ". 


صاحت من الداخل و تبكي: 

"ملكش دعوة بيا، أنا لو بهمك أوي كدة مكنتش عملت حاجة عارف إنها هتضايقني". 


زفر بسأم و ندم ثم قال: 

"عشان خاطري أخرجي و هعملك اللي أنتِ عايزاه". 


مرت ثواني فوجد المقبض يتحرك و انفتح الباب، خرجت بوجه باكي، أعين تذرف دموعاً كالنهر الجاري، و طرف أنفها شديد الحمرة، جذبها بين ذراعيه و في عناق قوي أخبرها معتذراً: 

"حقك عليا، هزاري كان تقيل عمري ما قصدت إن الأمر يوصل إنك تعيطي و تزعلي جامد بالشكل ده، أنا عارف إنك بتحبيني أوي و بتغيري عليا أكتر، بس المفروض فيه حاجة اسمها ثقة، و عارفة جوزك إن اللي جوه قلبه و مالية عينيه هي واحدة بس، أنتِ يا صبا". 


كانت كلماته بمثابة مهدئ جعل بكائها يخبو رويداً رويداً، نظرت إليه برجاء: 

"طب عشان خاطري أنا، مشيها من الشركة خالص أو خليها تشتغل في أي حتة تانية بعيد عنك". 


قطب ما بين حاجبيه و أخبرها: 

"أنتِ مش شايفة إنك مدية الأمر أكبر من حجمه، ما أنا بيشتغل عندي اللي أجمل من منار، إشمعنا ما اتكلمتيش عليهم؟". 


"كل اللي عندك أنا عارفاهم و شاغلين معاك من زمان و نصهم متجوزين و النص التاني يا مخطوبة يا مرتبطة". 


وضع كلا كفيه علي خديها، و أخذ يجفف دموعها بإبهاميه: 

"حبيبتي، أنا عارف قد إيه بتغيري عليا و الموضوع ده ما تعرفيش مفرحني إزاي، لكن أنا دلوقت محتاج حد في مهارتها في الشغل، غير إنها خبرة في مجالنا و ليها علاقات كتير بشركات تانية هتنفعنا وقت الصفقات". 


ابتلعت غصتها بعد أن رأت إصراره داخل عينيه و كم الأعذار التي لا تعني لها شيئاً، ابعدت يديه عن خديها قائلة: 

"أنا عارفة إنك عنيد و لما بتصمم علي حاجة مهما أتحايلت أو أترجيتك برضو هتفضل علي موقفك، كده وصلتني لأمر مكنتش حابة أقوله، يا أنا يا هي يا قصي". 


حدق إليها بإمتعاض و تحولت ملامحه من الهدوء إلي الغضب: 

"مالك يا صبا إيه اللي جرالك!، أنتِ فاكرة لما بتخيريني يبقي هتلوي دراعي و أعملك اللي أنتِ عايزاه!". 


ولت ظهرها إليه و أتجهت نحو غرفة الثياب: 

"أنا ما بفرضش عليك حاجة زي ما بتعمل معايا ديماً، لكن يوم ما بطلب منك حاجة تفضل تخدني علي قد عقلي و تنفذ اللي في دماغك، و بعديها بمزاجي كل مرة، بس المرة دي مش هاسكت". 


جذبها من ساعدها و حدقها بنظرة نارية جعلتها تتذكر سابق عهده في السنة الأولي من زواجهما، سألها بتهكم: 

"هاتعملي إيه يا صبا هانم؟". 


لحظة من الصمت و هي تنظر إلي قبضة يده علي ساعدها تارة و إلي ملامحه الغاضبة تارة أخري، قاطع هذا الصمت طرق علي الباب، ترك ذراعها بحدة و ذهب ليفتح الباب، وجدها الخادمة و الفزع يغزو ملامحها، التقطت أنفاسها و تحدثت بخوف: 

"زز، زينب جيت أحط لها كوباية اللبن، لاقيتها بتعيط و تصرخ من بطنها و جمبها شريط برشام فاضي شكلها بلعته". 


مدت يدها بالشريط إليه، أختطفه من يدها و ركض إلي صغيرته ليري ما حدث لها، ذهبت خلفه صبا و التي لم تفهم شيئاً، و عندما وصل إلي ابنته وجدها بالفعل تصرخ بألم و بجوارها حقيبة والدتها مفتوحة و كل ما كان بداخلها مبعثر علي الأريكة


"زوزو حبيبتي، أنتِ بلعتي الدوا ده؟". 

أكتفت ابنته بالنظر إليه و ما عليها سوي البكاء،

رأت صبا الشريط في يده، شهقت و جحظت عينيها في آن واحد، وضعت كفيها علي فمها، 

ألتفت زوجها إليها يرفع الشريط الذي يجهل نوعه و فيما يستخدم أمام عينيها يسألها بغضب كالنيران تحرق الأخضر و اليابس: 

"الزفت ده كان فيه كام حباية؟". 


أجابت بتردد و خوف: 

"أنا كنت واخدة منه تلات حبيات بس". 


صاح في الخادمة: 

"خلي السواق يحضر العربية بسرعة". 

حمل ابنته و ركض بها إلي الخارج و ذهبت زوجته خلفه، قلبها يرتجف من الرعب، خوفها علي ابنتها و الأمر الأخر الذي بمثابة الكارثة التي وقعت فوق رأسها. 


و في المشفي، يجول ذهاباً و إياباً، قلبه يأكله علي ابنته، و صبا تقف جانباً تبكي مما جعلته يزداد توتراً أكثر، فصاح بها: 

"أسكتي بقي". 


وضعت يدها علي فمها لتمنع شهقات بكائها، و أخذت تهز رأسها بنعم. 

خرج الطبيب الذي قام بفحص الصغيرة و فعل لها كل ما يلزم: 

"أطمن يا قصي بيه، البنت الحمدلله بخير، هي مجرد ما دخلت أوضة الفحص رجعت كل الحبوب اللي بلعتها، كل الحكاية هتشرب لبن كتير، و هتبقي تحت الملاحظة كام ساعة، و الحمدلله إن الحبوب مكنتش لدوا شديد زي المضادات الحيوية أو المسكنات". 


أخرج قصي الشريط الفارغ من جيب بنطاله: 

"ده اللي لاقيناه جمبها يا دكتور". 


أخذه الطبيب و بمجرد النظر إليه قال: 

"كنت لسه هقول لحضرتك، ده برشام منع الحمل". 


في تلك اللحظة العصيبة استدار إليها و نظر نحوها، ودت حينها أن يُلقنها صفعة قوية أرحم من التحديق إليها بتلك النظرة القاتلة! 


※ الفصل الثامن ※

🐺 غابة الذئاب «ما بعد العهد» 🐺

"الجزء الثالث من رواية صراع الذئاب" 

بقلم: ولاء رفعت علي


قاطعته صفعة قوية دوي صداها بين جدران الغرفة! 

"أخرس، أنا أشرف و أنضف منك و الكلام ده توجهه لأخوك اللي كان كل يوم مع واحدة و الكاس مكنش بيفارق إيده". 


تلقي الصفعة و جز علي فكه في لحظة هدوء خادعة، و في خلال برهة قبض علي عنقها بيدٍ واحدة، يحدق إليها بعينين يندلع منها الغضب كألسنة لهب آتية من الجحيم، كشر عن أنيابه و أخبرها من بين أسنانه: 

"أنا ممكن دلوقت أموتك و أدفنك مكانك، لكن الموت ليكِ رحمة عن العذاب اللي هاتشوفيه علي إيدي". 


كادت تختنق، فقام ابنها بالدفاع عنها، أخذ يدفعه عن والدته بيديه الصغيرتين: 

"أبعد عن ماما، أبعد عن ماما". 

ظل يردد الصغير تلك الجملة و يبكي في آن واحد، بينما لاحظ الآخر إنه إذا ظل ضاغطاً أكثر من ذلك سوف تموت لا محالة، تركها تلتقط أنفاسها و هاجمها السعال، تحول نظره إلي الصغير بغضب، فوجده يحدقه بنظرة مماثلة و قوية علي غرار عمره الصغير. 


أبتعد قليلاً و أخبرها مُشيراً إليها بسبابته: 

"لولا إن عندي حاجة أهم إن أضيع وقتي معاكِ كان زماني عرفتك إزاي تمدي إيدك عليا و تجيبِ سيرة أخويا علي لسانك". 


لم يمهلها فرصة الرد عليه، جذب صغيرها عنوة و أتجه نحو الخارج بخطي سريعة، و بكل قوة لديها لحقت به قبل أن يوصد الباب، أمسكت بقميصه من الخلف صارخة: 

"سيب ابني يا... 

دفعها بعنف إلي داخل الغرفة فسقطت علي الأرض، فقد ترك الصغير و دفعه أيضاً لكن نحو الخارج و عاد هو إليها و يغلق الباب خلفه، يحدق إليها بنظرة لا تنذر بالخير بتاً، أخذت تتراجع إلي الخلف زاحفة، تخشي أن يفعل بها أذى، و طرقات صغيرها و صراخه منادياً عليها: 

"ماما، أفتح، سيب ماما". 


"واضح أنك فاكراني كنت بهددك و خلاص، أنا بقي هوريكِ". 

دنا منها و جذبها من قدميها بقوة، جثي علي ركبتيه أعلاها و أخذ يقبلها بقوة و عنف، بينما هي لم تستسلم لإعتدائه الآثم عليها و قامت بضربه و إزاحته عنها، لم تفلح بأن تزحزحه لو إنشاً واحداً بسبب قوته الجسدية و مهاجمته الشرسة كذئب ضاري ينقض علي فريسته بلا رحمة. 


صراخ الصغير مع طرقه الشديد وصل إلي الخدم و السيدة شيريهان التي نهضت بتوجس، تخشي أن ابنها قد أقترف أذى في علا و صغيرها. 


بالعودة إلي علا، كانت تقاومه وقامت بخمشه في عنقه بأظافرها الطويلة، زمجر كالوحش و قبض علي يديها و أمسكهما في قبضة واحدة و بيده الأخري قام بخلع حجابها عنها فأنكشفت إليه خصلات شعرها البنية الناعمة و الذي أصبح أشعث بسبب جذب الحجاب بعنف، 

مال نحو شفتيها و أخبرها بفحيح: 

"أنتِ وجودك هنا عشان مزاجي و بس، و ابنك ده تنسيه خالص". 

حدق إليها بشهوة ثم باغتها بتمزيق مقدمة ثوبها


"أحمد؟"

كان نداء والدته التي فتحت الباب للتو و وجدته في ذلك الوضع المشين، أدركت في الحال ما كان سوف يفعله، ترك علا و نهض دون أن ينظر إلي والدته التي رمقته بنظرة حادة قائلة: 

"خد الولد و أسبقني علي المكتب". 


نهضت علا سريعاً تمسك بتلابيب ثوبها التي مُزقت  و بيدها الأخري التقطت حجابها من الأرض و وضعته بعشوائية علي رأسها، تصيح في وجه السيدة شيريهان: 

"عايزين مننا إيه أنا و ابني حرام عليكم، أنا مش عايزة أنا و لا هو حاجة منكم، بس سيبونا نمشي من هنا". 


حدقتها الأخري بنظرة زهو و ازدراء: 

"إحنا مش هنأذي ابنك، هناخده نعمله تحليل و هانعرف الحقيقة قبل ما يتم إعلان الوراثة، يعني هاتفضلي هنا في أوضة الخدامين لحد ما الإجراءات دي تخلص، و لو اثبتت نتيجة التحليل العكس أنا بنفسي اللي مش هرحمك". 


قالتها و ولت إليها ظهرها إستعداداً للمغادرة، لحقت بها علا بعدما وجدت لا مفر و ضاقت بها كل السبل، وقفت أمامها و بتوسل أخبرتها: 

"و الله حمزة يبقي حفيدك و لما جيت لكم من سنين كان كل غرضي عايزاه يعيش زي أي طفل و يتنادي بإسم أبوه و يبقي من حقه يتعلم و كل ده كان لازم شهادة ميلاد، أنا لو طماعة كنت طلبت بحقه من زمان، و دلوقت أنا بقولك مش عايزة و لا ورث و لا فلوس، بس تسيبونا نعيش بعيد عنكم و في حالنا زي ما كنا عايشين". 


نظرت إليها الأخرى ثم رفعت حاجبها و قالت: 

"كله هيبان". 


حدقتها علا بنظرة استعطاف و رجاء: 

"أنا موافقة علي اللي حضرتك قولتيه، بس ممكن تسيبي لي ابني، محدش هيعرف يتعامل معاه غيري أنا". 


نظرت إليها بإستهزاء و بسخرية سألتها: 

"ليه هو مجنون؟". 


ابتلعت الأخرى التهكم ثم أجابت: 

"حمزة مريض بالتوحد". 


و بعد أن تركت علا و ذهبت إلي المكتب، أشارت إلي ابنها للمجئ إليها، نهض الأخر و لبي أمرها لكن يتهرب من النظر إليها، بينما هي بدأت بتوبيخه بصوت خافت: 

"اللي أنا شوفته من شوية ده ياريت ما يتكررش تاني". 


أجاب بتردد: 

" أنا كـ... 


قاطعته بحدة: 

"وفر كذبك، أنت ابني اللي مربياه و عارفة  بتفكر في أي من نظرة واحدة، ياريت تخلي كل تركيزك و مجهودك في الموضوع اللي بلانا بيه باباك، أول حاجة تعملها تاخد الولد و تعمله تحليل DNA، عشان نتأكد إنه ابن أخوك و لا لاء". 


"طيب كدة المفروض يبقي نوقف اعلان الوراثة لحد ما تطلع النتيجة!، يبقي ليه كلمتي المحامي يجي من الأول؟". 


ردت بندم: 

"للأسف أتسرعت، و بيني وبينك قلبي حاسس أبوك هيفاجأنا بكارثة عشان كدة طلب حضور الولد". 


ابتسم أحمد بسخرية قائلاً: 

"هايكون مثلاً كتب له كل أملاكه!". 


أجابت والدته بحنق: 

"أتوقع أي حاجة من أبوك، زي ما خلي أخوك زمان يبعد عشان يتجوز اللي إسمها روح". 


تبدلت ملامحه في الحال من الابتسامة إلي النقيض تماماً

"خلاص أقفلي علي السيرة دي، أنا هاخد الولد دلوقت علي أقرب مراكز تحاليل، و ابقي اتصرفي مع الأڤوكاتو اللي جوه". 


أوقفته و أمسكت بيده تخبره: 

"خد بالك منه و عينك عليه، الولد أمه قالت مريض توحد و محدش بيعرف يتعامل معاه غيرها". 


أومأ لها في صمت و علم الآن لما كانت علا تقوم بمهاجمته عندما أخذ منها ولدها، لاحت ابتسامة في نظرة عينيه و بداخله صوت شيطانه يخبره بالآتي

"كدة عرفت إزاي هخليكِ تيجي لحد عندي و بإرادتك يا علا!". 

༺༻

في مطعم شهير أعلي ناطحة سحاب حيث تطل النافذة الزجاجية علي النيل مباشرةً، يقطع قطعة اللحم بالشوكة و السكين ثم غرس الأولي في القطعة و تناولها داخل فمه ثم أغلقه ليبدأ المضغ بإستمتاع

"واضح ذوقي المرة دي في إختيار الأكل عجبك". 


ابتلع ما بفمه و أجاب: 

"أنا علي فكرة من زمان و بعشق الإستيك المشوي، و لا نسيتِ أيام الجامعة لما كنت باخدك بعد المحاضرات و نروح علي أقرب مطعم!". 


ابتسمت بتهكم و عقبت: 

"طب كويس إنك لسه فاكر الذكريات دي". 


ترك ما في يديه و حدق إليها بحاجبين كاد كليهما يلتقيان: 

"هو أنا ليه حاسس بسخرية في كلامك؟". 


نظرت نحوه عدة ثوان ثم تنهدت و قالت: 

"مفيش". 


رفع إحدى حاجبيه و أخبرها بغضب كامن: 

"بلاش أسلوب التنقيط في الرد و ياريت تنجزي و تقولي فيه إيه؟". 


استندت بساعديها أعلي المنضدة و أجابت: 

"بصراحة كل ما أفتكر الأيام اللي كنت بتتكلم عنها دلوقت، ما بيجيش في بالي غير حاجة واحدة بس، و هي يوم ما خلتني أستناك أنت و أهلك و في الآخر ماجتش عشان بتتجوز بنت خالك، و بابا الله يرحمه لما تعب و مات من زعله و قهرته عليا". 


زفر الأخر بضيق و تناول منشفة ورقية لمسح يديه ثم ألقاها بغضب علي المنضدة قائلاً: 

"يعني كل واحد فينا سايب اللي وراه عشان نيجي هنا نستمتع بجو هادي و شاعري محتاجين نجدد فيه شوية من الروتين و التعب اللي بنشوفه في شغلنا، و أنتِ بكل بساطة بتنكدي علي الواحد". 


تظاهرت بالبرود و قالت: 

"يعني اللي قولته ده ما حصلش!". 


عادت بظهرها لتريح علي المسند الخلفي للكرسي و أردفت: 

"أنا بحب أفكرك كل فترة عشان أنا ذات نفسي عمري ما نسيت و لا هانسي". 


جز علي أسنانه و سألها من بينها: 

"و لما هو قلبك أسود أوي كدة من ناحيتي، و مش قادرة تنسي اللي فات، ليه وافقتي علي جوازنا من الأول!". 


"نعم!". 

صاحت بتعجب و أعين متسعة، ألتفت من حوله ليتأكد من عدم سماع المحيطين إلي صياح زوجته، أمرها بغضب: 

"وطي صوتك الناس بدأت تاخد بالها مننا". 


"حاضر هوطي صوتي، بس ياريت ما تجبش سيرة أي ذكري لينا من الماضي بتقلب عليا مواجع ما بصدق أعمل نفسي نسيتها". 


"تمام يا دكتورة، أوعدك مش هاجيب سيرة أي حاجة قديمة". 

قالها و نهض ليهم بالذهاب، أوقفته و سألته: 

"أنت رايح فين؟". 


أجاب بوجه عبوس: 

"رايح التويليت و راجع". 


ذهب و تركها بمفردها تزفر بضيق، لا تعلم لما تشعر بتلك الغصة التي تلاحقها كلما تأتيها ذكري من الماضي، أو ربما تغير الهرمونات لديها في ذلك التوقيت من الشهر يجعل حالتها المزاجية سيئة دون سابق إنذار و تصبح أكثر حساسية من أي كلمة أو موقف يحدث معها! 


"و يا تري دكتورتنا العظيمة قاعدة لوحدها و سرحانة ليه؟". 


انتبهت إلي صاحب الصوت، نظرت نحوه في الحال فأبتسمت علي الفور و نهضت لتصافحه: 

"آسر، أزيك؟". 


بادلها المصافحة و سألها: 

" تمام الحمدلله، أومال فين چو؟". 


أشارت إليه نحو الممر القريب منها و أجابت: 

"دخل التويليت و جاي دلوقت، هاجر معاك و لا جيت لوحدك؟". 


وضع يديه في جيبي بنطاله: 

"معاها تليفون بتكلمها منة بنت خالتكم بتأكد عليها ميعاد الفرح". 


وضعت كفها علي جبهتها تردد: 

"يا الله، ده أنا نسيت فرح منة ده خالص من دماغي، خالتو عزمتني من شهر و نسيت حتي أقول ليوسف". 


"خلاص أنا هاخدها أوصلها بكرة و هاعدي عليكِ أخدك معانا، إيه رأيك؟". 


ابتسمت بإمتنان قائلة: 

"طبعاً موافقة، شكراً جداً". 


هناك زوج من العيون الحادة تراقب ذلك المشهد من بعيد، فقد خرج للتو من المرحاض و يمسك بالهاتف حيث جاءت إليه مكالمة هاتفية و أجاب، بينما عيناه ما زالت تتأمل ابتسامة زوجته و هي تتحدث مع صديقه و الذي كان يضحك أيضاً. 


بالعودة إليهما، تذكرت الحين أمر قدومه إليها صباحاً فسألته: 

"ألا قولي صح، أنت الصبح لما جيت لي المكتب قولتي لي إن بعت لك رسالة و بقولك فيها تعالي المكتب ضروري، إزاي و أنا ما بعتش الكلام ده خالص، غير علي ما أتذكر كنت نايمة". 


أصاب ملامحه الوجوم فقال حائراً: 

"إزاي!، أنا بصراحة أفتكرتك عايزاني في حوار بخصوص لوچي". 


"أنا جيت فتحت الرسايل عندي ما لقتش أي شات بيني و بينك برغم كنت فاكرة كويس بعت لك قبل كدة أسألك عن حالة كنت بعالجها عملت عندك عملية قبل كدة". 


أومأ لها و عقب: 

"أيوة أنا فاكر كويس المحادثة دي، عموماً ممكن يكون الواتس بيخرف زي الفيس اللي كل شوية يزاولني بإشعارات و أدخل أشوف ألاقيها منشورات قديمة و كان جايلي إشعارات منها قبل كدة كذا مرة". 


ضحكت و قالت: 

"الحمدلله أنا مريحة دماغي من السوشيال ميديا، أخري واتس عشان بتواصل مع الحالات اللي بتابعها، أكتر من كدة مفيش". 


"و الله أنتِ كدة في راحة". 


تنهدت و عقبت بحزن دفين: 

"و مين فينا مرتاح يا آسر، التعب ورانا ورانا". 


"ألف سلامة عليكِ من التعب يا حبيبتي". 

كان صوت يوسف و يجذبها من خصرها و يحاوطها بذراعه، و في ذات اللحظة يحدق آسر بنظرة مبهمة لم يدرك الأخر منها شيئاً و أردف: 

"رب صدفة خير من ألف ميعاد يا دكتور آسر". 


أجاب الأخر بشبه إبتسامة: 

"علي رأيك فعلاً، ده لو كنا متفقين نتقابل مكنش هيحصل، النصيب خلاني قولت أخد هاجر و نتفسح شوية بعد ما ودينا الولاد عند حماتي، قولنا نيجي هنا نتعشا، أصلهم بيعملوا أحلي إستيك مشوي مش هتلاقيه في أي حتة تانية غير هنا". 


نظر يوسف إلي علياء ثم عاد ببصره إلي آسر و قال: 

"اه فعلاً هنا بيعملوه حلو جداً، كنت لسه واكل منه حالاً". 


حدق زوجته بنظرة أصابتها بالحيرة و الخوف معاً، قائلاً لها بأمر: 

"يلا هانروح". 


أشار إليه أسر نحو زوجته التي تقترب نحوهم: 

"هاجر جاية أهي، رايحين فين، خلينا نسهر سوا مع بعض". 


أومأ له الأخر بشبه إبتسامة: 

"خليها في وقت تاني، يلا يا حبيبتي". 


قالها و ذهب جاذباً زوجته من يدها خلفه، و عندما وصلت هاجر سألت زوجها: 

"إيه ده هم مشيوا ليه كنت عايز أسلم عليهم". 


رفع كتفيه و أجاب بإقتضاب: 

"معرفش". 


و في ساحة الإنتظار، فتح باب السيارة لها آمراً إياها: 

"أدخلي". 


"فيه إيه يا يوسف، بتعمل تصرفات غريبة و تحرج صاحبك و تمشي و دلوقت متنرفز عليا من غير سبب". 


بماذا يخبرها عن سبب غضبه الناتج عن إندلاع شرر شكوكه، و التي أصبحت مسيطرة علي عقله و يرفضها قلبه الذي يحذره من تلك الهاوية التي علي وشك أن يلقي بنفسه داخلها فيصبح صريع أفكاره، حينها لن يجد سوي الندم و لا سبيل إلي الغفران قط. 


صاح بغضب ليجعلها تكف عن طرح تلك الأسئلة الهالكة: 

"قولت أدخلي". 


في ثوان كانت داخل السيارة، تحدقه بتوجس، كما شعرت بالخوف لأول مرة من ردة فعله التي لم تجد لها سبباً واضحاً، ما زالت تجهل لما هو غاضب، فكان الصمت سيد الموقف و خير ما حدث في تلك اللحظة العصيبة. 

༺༻

أقترب الشروق علي الظهور، و كانت بجوار ابنتها تلمس جبهتها من حين لآخر، نظرت في ساعة الهاتف و الوهن يتملك منها، جسدها يريد الراحة، و كيف لها أن تنعم بها بعد أن علم زوجها ما كانت تخفيه! 


بينما هو بعد أن عاد من المشفي و أطمئن علي صغيرته، ذهب إلي غرفة مكتبه و ظل داخلها، يقف خلف زجاج النافذة، ينفث دخان سيجارته و يراقب شروق الشمس التي تزداد أشعتها تدريجياً، يخترق ضوئها الزجاج و يتسلط علي عينيه ذات النظرة الحادة حالياً. 


بالعودة إليها، انتبهت إلي دخول المربية، اقتربت نحوها قائلة بصوت خافت حتي لا توقظ الصغيرة: 

"صبا، قومي يا حبيبتي نامي في أوضتك و أنا هخليني جمبها أخد بالي منها و لو فيه أي حاجة هنادي عليكِ". 


نهضت الأخري و تتجنب النظر إليها مباشرة حتي لا تري إلتهاب جفونها من كثرة البكاء، كلما تذكرت نظرته في المشفى بعد أن علم إنها تخدعه، التزمت حينها الصمت لا تملك الشجاعة الكافية بأن تبرر له لما فعلت ذلك، فهي أكثر مَنْ يحفظون خصاله عن ظهر قلب، تدرك عاقبة كذبها و خداعها، يُخيل إليها العديد من السيناريوهات عن ردود أفعاله مقابل ما أقترفته في حقه، لديها يقين لا يشوبه أدني شك بأن القادم سوف يكون الأسوأ لا محالة و عليها أن تتحمل عاقبة فعلتها إلي أن يمنحها الغفران. 


ولجت إلي الغرفة بتردد تظن إنه بالداخل، وجدت الفراش شاغراً بل و مرتب، يبدو لم يخطو هنا منذ أن عادوا من المشفى، ها هي أول القصيدة الإبتعاد، داهمتها نوبة بكاء من جديد، وضعت يدها علي فمها لتمنعها و ظلت تأخذ شهيقاً و تطلق زفيراً حتي هدأت. 


و بعد أن انتظمت أنفاسها اتخذت قرارها الحاسم و الأخير، و هو الذهاب إليه و تتحدث معه بكل هدوء. 


غادرت الغرفة و نزلت علي الدرج ثم سارت إلي الغرفة حيث يوجد، طرقت الباب و لم تجد رد، فتحت الباب و ولجت فقابلها رائحة نفاذة لدخان سجائر. 


وقعت عينيها عليه، يقف كالجبل الساكن يحيطه هدوء مخيف، داخله بركان مليئ بالحمم التي تستعد إلي الإنفجار في لحظة ما


دقات قلبها تسبق خطوات قدميها و رجفة يديها التي تتشابك معاً، وقفت علي مقربة منه، ابتلعت ريقها و استعادت رباطة جأشها لتبدأ في التحدث إليه و عينيها تنضح بالندم: 

"قصي؟". 


كان صمته أبلغ من إجابته عليها، و مازال يقف مولياً إليها ظهره لا يريد النظر إليها، يخشي أن يخرج لها أسوأ ما فيه دون وعي منه، فهو الآن تحت سطوة غضبه الذي علي وشك أن يبلغ ذروته، ابتلعت غصتها ثم تحدثت من جديد: 

"أنا مش جاية أبرر اللي عملته و لا أدافع عن نفسي، و راضية بأي حكم هتقوله، بس قبل ما تاخد مني أي موقف عايزاك تعرف أنا... 


"برة"

بتر حديثها بتلك الكلمة، لم تستسلم رغماً عن الدموع التي أبت الأسر داخل رماديتيها، انهمرت علي خديها في التو

"لازم تسمعنـ... 


"برة". 

صاح بصوت بلغ عنان السماء، و جعلها انتفضت ثم تراجعت بضع خطوات إلي الوراء، ألتفت لتعود أدراجها فأوقفها قائلاً: 

"من اللحظة دي ملكيش معايا كلام نهائي، ياريت تلتزمي بكدة ده لو كنتِ لسه باقية علي آخر خيط ما بينا". 


أنتهي من إلقاء كلماته التي كان تأثيرها أقوي من إطلاق الرصاص، أخترقت قلبها قبل أذنيها، سار نحو المكتب و أخذ سترته و ألقاها علي ساعده ثم غادر الغرفة عابراً أمام عينيها، لم ينظر حتي إليها بطرفة عينه، لكن علي يقين كيف حالتها الآن و الصدمة التي جعلتها كالجماد دون حراك، لا يتحرك بها سوي دموع الندم. 

༺༻

بعد أن حسمت قرارها و هو أن عليها الإبتعاد لعله يشتاق إليها، تقف أمام الإطار الكبير المعلق علي الحائط، صورة من يوم الزفاف تجمع كليهما، إذا دققت النظر سوف تري أن السعادة تنضح من عينيها هي فقط بينما عيناه يغلفها نظرة باردة كما هو الحال حتي الآن. 


انسدلت من عينها عبرة، كيف تحملت جفاء مشاعره منذ سنوات، تغدقه بحنانها و عطائها بلا حدود، فما هو الذنب الذي أرتكبته لأجل أن يعاملها هكذا! 


قامت بمسح العبرة من وجنتها و ذهبت إلي الغرفة لتفتح الخزانة، أخرجت حقيبة كبيرة ثم وضعتها علي الفراش، وقفت أمام ثيابه المعلقة علي المشجب و أخذت تستنشق رائحة عطره التي تفوح منها، تناولت إحدى قمصانه و خلعت منه المشجب لتأخذه معها و تحتضنه كأنه هو عندما تنام، قد بدأت بطيه فوقع منه شيئاً معدنياً وقع من الجيب، نظرت إلي هذا الشئ لتكتشف إنها حلقة معدنية تحتوي علي مفتاحين إحداهما كبير و الأخر صغير. 


تذكرت علي الفور عندما رأته من قبل يغلق الغرفة الخاصة بتلك المفاتيح، كما كان يمكث بداخلها لساعات، كلما سألته لما يمنعها و يمنع صغاره من دخول تلك الغرفة، كانت إجابته واحدة و هي يوجد بها ملفات و أوراق هامة خاصة بعمله و لا يريد لأحد أن يعبث بها. 


ظلت تنظر إلي المفتاح ثم إلي الساعة لتجد إنه مازال مبكراً علي موعد عودته من العمل، و ها هي عزمت علي كشف ما يخفيه عنها كما أخبرها حدسها بأن داخل تلك الغرفة الإجابة عن جميع الأسئلة التي تفتك برأسها كل يوم. 


ذهبت في خطي مسرعة، توقفت و ترددت قبل أن تدس المفتاح في فتحة القفل، أخذت شهيقاً و أطلقته زفيراً، دست المفتاح و قامت بفتح الباب، عندما وطأت قدمها داخل الغرفة شعرت بصقيع تحول إلي رجفة أصابت فؤادها و جميع خلايا جسدها، أغمضت عينيها و قامت بفتحها، بحثت عن زر الإضاءة و ضغطت عليه، أنكشفت لها جميع الأركان، غرفة مكتب تشبه التي توجد في الشركات، ذهبت و جلست علي الكرسي الجلدي، فتحت الدرج الكبير وجدت أوراق فقامت بغلقه، قامت بفتح الدرج الجانبي وجدته موصد بمفتاح، نظرت إلي المفتاح الأخر الصغير و أدركت إنه الخاص بهذا الدرج، بالفعل نجحت في فتح الدرج فوجدت صندوق خشبي مزخرف بالفضة، أخذته و وضعته أعلي المكتب، فتحته و قلبها يخفق بقوة، و ما أن وقع بصرها علي داخل الصندوق كانت الصاعقة! 


صور تجمع زوجها بزوجته الأولي، لأول مرة تراها، شقراء جميلة ذات قوام ممشوق، صور كثيرة تخلد ذكري لهما فوق اليخت تارة و علي شاطئ البحر تارة أخري بثياب فاضحة، لم تتعجب كما تعلم هي أجنبية، لكن أكثر الصور التي اوجعت قلبها هي نظرات السعادة و الحب التي يحدق بها زوجته الأولي، صورة يقبلان بعضهما أسفل برج إيفل و صورة أخري يعانقها و ثالثة يحملها في وسط أعشاب خضراء و رابعة يرتديان ثياب ثقيلة و يحاوطهما الجليد، ذات الإبتسامة في كل صورة تثبت لها كم كان سعيداً مع سيلينا علي غرار ما هو معها منذ أن تزوجته، و إذا بها تحدق في الصور انتبهت إلي زجاجة عطر و أسفلها قطعة حرير مطوية بعناية، قلم حمرة ذات ماركة شهيرة. 


تناولت الزجاجة بعينين جاحظتين، ذات الزجاجة التي يجلبها إليها دوماً و يطلب منها في كل لقاء بينهما أن تتعطر، تذكرت في ليلة الزفاف 

«مشهد من الذاكرة» 

"ممكن تحطي من البيرفيوم ده؟". 


ابتسمت بخجل و أخبرته: 

"ما أنا جبت كتير ليه أشتريتها؟". 


نظر إليها برجاء و نظرة تقرب إلي التوسل قائلاً: 

"أنا بحب أوي النوع ده أوي". 


تناولت من يده الزجاجة: 

"طالما بتحبه أوي كده، هغرق نفسي بيه ديماً". 


نثرت الكثير منه عليها، و بمجرد أن أستنشقه بقوة و كأنه يتنفس الأكسچين قام بجذبها بين ذراعيه و أخذ يقبلها بنهم. 


«عودة إلي الوقت الحالي» 


أمسكت قلم الحمرة و قامت بفتحه، نفس اللون الأحمر القاتم الذي يحبه دائماً أيضاً أن تطلى به شفتيها، و أخيراً مدت يدها إلي قطعة الحرير و أخذتها من داخل الصندوق فأنسدلت لتكتشف إنها قميص نوم أرجواني! 

༺༻

تجلس خلف المكتب شاردة في الفراغ، تتحدث إليها مساعدتها عن خطة يوم المعرض التي سوف تقدم فيه لوحاتها الفنية، كان عقلها في زاوية فكرية أخري، كثير من الأفكار تراوضها في آن واحد و مشاعر متناقضة تهيمن عليها، تشتاق إليه و عندما تتذكر أمر زواجه من أخري تشعر بالنقيض، تشعر بالحب و الكراهية، تريد القرب و البعد معاً، ودت أن لو يكون أمر قلبها بيدها لكانت تنعم بالراحة. 


"مدام كارين؟، يا فنانة؟". 


انتبهت إلي نداء الأخري و أجابت بحدة: 

"نعم؟". 


ترددت في الإجابة: 

"إيه رأي حضرتك في اللي قولته لك من شوية؟". 


عقدت الأخري ما بين حاجبيها و قالت: 

"روحي دلوقتي علي مكتبك و لما أروق شوية نبقي نتكلم، خلي الـ office boy يعملي فنجان قهوة سادة". 


نهضت الفتاة و أومأت لها: 

"أمرك يا فندم". 


أطلقت زفرة و ترجع خصلاتها المحيطة لوجهها خلف أذنيها، نظرت نحو لوحة مغطاة بقطعة قماش، نهضت و سارت نحوها، جذبت القطعة و ألقتها، لوحة لم تكتمل بعد. 


اللوحة عبارة عن إمرأة تجلس في زاوية و تضم ركبتيها إلي صدرها، تتساقط من عينيها دمعة تلمع كبريق نجمة في السماء. 


أمسكت الفرشاة بيد مرتجفة لتكمل الرسم، سبقتها يد رجولية سحبت منها الفرشاة و يخبرها صاحبها بصوته الرخيم: 

"اللوحة دي تتقطع و تترسم من أول و جديد بطريقة صح". 

قام بدس الفرشاة في لون أسود و قام برسم علامة خطأ علي اللوحة بأكملها


استدارت الأخري إليه و حدقت نحوه بغضب: 

"أنت مين؟، و مين سمح لك تدخل عليا المكتب من غير إستئذان؟". 


ترك اللوحة و حدق إليها بعينيه الصغيرتين يعلوها حاجب كثيف، مد يده ذات العروق البارزة للمصافحة، يعرف عن نفسه لها: 

"مهند عبدالرحمن، مهندس ديكور و مدير مكتب لوتس". 


"أهلاً و سهلاً بحضرتك". 

مدت أطراف أناملها، فوجدته قبض علي يدها بقوة، جذبت يدها و ابتعدت بتوتر، فسألته: 

"يا تري إيه سبب الزيارة؟". 


وضع يديه في جيوب بنطاله و أشار لها بعينيه نحو المكتب: 

"هنتكلم علي الواقف كدة، و لا دي المعاملة الطبيعية للضيوف!". 


أشارت إليه علي مضض و يبدو عليها التوتر: 

"اتفضل". 


جلست خلف مكتبها و تبعها بالجلوس علي الكرسي أمام المكتب، تنحنح و بدأ في الحديث: 

"أنا كنت باعت إيميل علي البريد الخاص بالجاليري لطلبية لوحات مناظر طبيعية و سيرالي، ردت عليا الـ assistant و المفروض متفق معاها علي ميعاد الإستلام الأسبوع اللي فات، بعت لها تاني و مالقتش رد و حضرتك بالتأكيد عارفة إن مش كل العملاء بيتمتعوا بالصبر الكافي، ده غير الضرر اللي بتعرض له". 


نظرت إليه بشبه ابتسامة و قالت: 

"بعتذر جداً عن التأخير، كان عندي شوية ظروف خلتني معنديش مقدرة أتابع بنفسي الطلبيات اللي بتيجي سواء علي الميل أو غيره، لكن أوعدك في خلال يومين هاتكون كل حاجة جاهزة إن شاء الله، و هابعتها لك لحد عندك، أي أوامر تانية؟". 


ظل ينظر إليها لثوان في صمت ثم أجاب: 

"اه فيه". 


أجفلها بإجابته و التي لا تخلو من نظراته التي تتفحص كل إنشاً بها، يبدو إنه أيضاً علم بما يدور داخل عقلها، أردف: 

"ممكن تشرفيني في إفتتاح الجاليري بتاعي الأسبوع الجاي، هو خاص بالمنحوتات، و يبقي شرف ليا فنانة مبدعة زي حضرتك تيجي بنفسها تحضر الإفتتاح". 


أخرج من جيب سترته الداخلي ظرفاً صغيراً و و وضعه أمامها: 

"أتفضلي الـ invitation، هستناكِ". 


أومأت إليه و اجابت بإقتضاب: 

"إن شاء الله". 


نهض قائلاً: 

"ياريت ماكُنش سببت ليكِ أي إزعاج". 


نهضت أيضاً: 

"و لا يهمك". 


"بالنسبة للوحة عايزة منك ترسميها بنظرة مصور عشان تقدري تظبطي الزاويا صح، و كمان جسم البنت محتاج منك تفاصيل عشان توضح أكتر، أهم حاجة في أي عمل فني سواء في الرسم أو الديكور، الإهتمام بالتفاصيل، لأنها بتفرق أوي في الشكل النهائي للعمل". 


كادت تجيب علي نقده و توجيهاته، توقفت عندما سمعت صوت مساعدتها و هي تتوسل إلي احدهم في الخارج


"لو سمحت يا أستاذ يونس، المدام قالت ممنوع المقابلة". 


صاح الأخر بغضب: 

"هو أيه اللي ممنوع، أنتِ أتجننتي!، أنا هقابلها يعني هقابلها، أوعي من طريقي أحسن لك". 


لم تستطع الأخري أعتراضه، بينما كارين بالداخل ذهبت لفتح الباب 

"إيه اللي بيحصل...


حدقت طليقها بحدة ثم نظرت إلي المساعدة و أشارت إليها نحوه: 

"مش قولت ممنوع دخول البني آدم ده هنا!". 


استشاط الأخر غيظاً من تلك الإهانة، جز علي أسنانه و تفوه من بينها:

"البني آدم ده ليه إسم بيتنادي بيه". 


عقدت ساعديها أمام صدرها و رفعت حاجبها الأيسر لتخبره بنظرة ازدراء: 

"و أنا مش طايقة حتي انطق اسمك و لا عايزة أشوف وشك، أتفضل يلا من هنا". 


باغتها بالقبض علي عضدها بقوة جاذباً إياها إليه: 

"مش هامشي و هاتسمعيني، بالذوق و العافية هاتسمعيني". 


خرج مهند من الغرفة علي صياح يونس و رأي ما يحدث، لم يعط أي فرصة ليعرف من هذا الذي يتعدي علي كارين


"نزل إيدك عنها يا حيوان". 

و صوب له لكمة قوية أصابت وجهه و جعلته يختل توازنه و وقع علي الأرض، صاحت كارين بخوف و اقتربت منه لتطمئن عليه، نهض و أبعدها جانباً و الغضب يعمي عينيه، رد له الضربة، تشابك الإثنان فصاحت كارين بأمر مساعدتها: 

"اندهي علي الـ security بسرعة ". 


جاء الحارسان، أبعد كل منهما كل واحد علي حده، فأردفت: 

"معلش يا أستاذ مهند، حضرتك بالتأكيد فهمت غلط، بإذن الله الطلبية هاتكون عندك بعد بكرة، نورت الجاليري". 


أخرج الأخر محرمة من جيب سترته ليجفف بها دماء جانب فمه، جذب ذراعه من قبضة الحارس و قال: 

"أوكِ، ما تنسيش ميعاد الإفتتاح هستناكِ". 

قالها و غادر تاركاً يونس يستمع إلي هذا الحوار و تندلع من عينيه نيراناً تحرقهم جميعاً أحياء


"مين ده يا كارين هانم و كان بيعمل جوه إيه؟ ". 


تجاهلت سؤاله، رفعت سبابتها أمام وجهه لتحذره: 

"خليك في حالك و ملكش دعوة بيا، ما تنساش إن أنا بقيت طليقتك مش مراتك عشان تسأل براحتك!". 


جز علي أسنانه في محاولة كظم غضبه، نظر إلي الحارسين و الفتاة ثم إلي كارين و قال: 

"عايزك في موضوع مهم و هامشي علي طول ده لو مش عايزة مشاكل". 


اختارت الحل الأمثل لعلها تتخلص من إصراره و ربما شئ ما داخلها يخبرها بأن تستمع إليه و الحنين يجذبها نحوه و التأمل من ملامحه التي اشتاقت إليها و لم يتركها في أحلامها بتاً. 


أشارت إليه للدخول إلي غرفة المكتب، ولج إلي الداخل و اتبعته، جلس علي الكرسي و قال: 

"واقفة عندك ليه؟، تعالي أقعدي". 


"أنا مرتاحة كدة". 

قالتها و تستند بـ ظهرها علي الباب ، أطلق زفرة نابعة عن صبره الذي أوشك علي النفاذ ثم لوح لها بيده: 

"تعالي يا كارين، أنا مش هاجي جمبك ما تخافيش". 


ترددت في الأمر قليلاً، ثم ذهبت لتجلس خلف المكتب و في تأهب للنهوض إذا أقترب، رفع إحدى حاجبيه و قال بتهكم مبتسماً: 

"فكرك يعني المكتب اللي بتتحامي وراه يقدر يمنعك عني!". 


حدقته بوجه متجهم و بحدة قالت إليه بأمر: 

"إنجز يا يونس قول اللي عندك، أنا وقتي أغلي أضيعه في حاجة تافهة". 


تحولت ابتسامته إلي ضيق فقال: 

"شكراً علي ذوقك". 


شعرت بالحرج، تهربت من النظر إليه و أصرت علي أسلوبها الحاد معه: 

"العفو". 


"قبل أي كلمة هقولها عايزك تعرفي أقسم بالله ما حبيت و لا هاحب حد غيرك، و آسيل دي مجرد مساعدة إنسانية، هي كانت متجوزة من واحد عايشة معاه بره مصر و جوازه منها كان تحت التهديد و أول ما عرفت تطلق منه هربت  علي مصر، ملهاش غير أخ واحد و مسافر برة، كسر مدة الإقامة و هربان من حكومة البلد اللي هو فيها و مش عارف يجي، آسيل جت لجأت ليا عشان مكنش معاها فلوس و لا ليها مكان تقعد فيه و خايفة طليقها يوصلها و يخطفها و يتجوزها غصب عنها". 


ابتلع ريقه و التقط أنفاسه ليسطرد:

"عرضت عليا نتجوز جواز علي ورق، عشان تكون في عصمة راجل و بالتالي طليقها ما يقدرش يجي جمبها". 


رفعت زاوية فمها جانباً بتهكم و قالت: 

"قومت مطلع الشهم اللي جواك و قولت أنت أولي بيها من أن تجوزها لحد تاني، طبعاً ما هي كانت الإكس بتاعتك أيام الجامعة و بتغير عليها أو يمكن الميه رجعت لمجاريها من جديد، كمل باقي التمثيليه السخيفة اللي جاي تضحك بيها عليا". 


"أنا لا بمثل و لا بضحك عليكِ، و كل اللي قولتيه ده مفيش حرف منه صح". 


نهضت و بغضب ضربت بكفيها علي زجاج المكتب: 

"ده بأمارة بقي لكم ست شهور متجوزين، لاء و كمان حامل منك!، روح أضحك علي حد تاني غيري". 


نهض الأخر و صاح بدفاع و إنكار: 

"و ربنا ما بضحك عليكِ، و هي مش حامل مني، و الله ما لمستها". 


و بصراخ هيستيري: 

"كداب، قوم غور من وشي، ده أنا لو رجع بيا الزمن تاني لما كنا عند المأذون هطلق منك تاني و تالت و رابع كمان".


رفع كلا يديه قائلاً: 

"ممكن تهدي و تبطلي صريخ، إحنا بنتكلم بالعقل، بلاش اللي بتعمليه ده". 


"هو أنت خليت فيا عقل!، ده أنا عملت المستحيل عشان أكون ليك، اتهنت و أتضربت بالقلم و استحملت عشانك، سيبت كل حاجة و كان ممكن أخسر أخويا و كل ده برضو عشانك، و أنت بكل سهولة ضربت كل ده في عرض الحيط و عمال تبرر عملتك السودة بحجج ما تدخلش دماغ حد من ولادك". 


اقترب منها و بتوسل يخبرها: 

"طب عشان خاطر ولادنا إديني فرصة أصلح كل اللي عملته، هي أول ما هتولد أخوها هايرجع هاطلقها و أسلمها له، يعني الموضوع كله تلات شهور مش أكتر". 


"أنت يا مجنون يا إما بتستهبل، مين دي اللي هتوافق تطلقها طيب بالنسبة لأبنكم؟". 

تفوهت بسخرية لاذعة، رد قائلاً: 

"أقسم بالله ما ابني، ده ابن طليقها". 


شهقت و حدقته بأعين كادت تخرج من محجريهما: 

"أنت تقصد إنها كانت حامل منه و أنت أتجوزتها!، عارف ده يبقي حرام يا فنان". 


"هي مكنتش تعرف إنها حامل غير بعد أسبوعين من جوازنا". 

كان رده سريعاً مما سبر أغوارها، مدت ذراعها للأمام و بإصبعها تشير نحو الباب: 

"أطلع برة". 


"كارين إسمعيني". 


صرخت بكل قوة و بجنون: 

"قولت لك برة، أنا بكرهك يا يونس، بكرهك، بكرهـ... 


داهمها ألم قلبها و لم تتحمل أكثر من ذلك ففقدت وعيها، ألتقطها سريعاً بين ذراعيه صارخاً برعب:

"كارين!"

༺༻

"ألو يا تيتا الأولاد كويسين؟" 

تتحدث في هاتفها من داخل سيارة الأجرة التي أنطلقت من أمام إحدى مراكز التجميل الشهيرة


اجابت الجدة: 

"ايوه يا حبيبتي، يزيد و سيف لسه نايمين و قصي قاعد بيكتب الواجب بتاعه". 


"ما تخلهوش يسهر كتير، و يدخل الحمام قبل ما ينام". 


"حاضر يا حبيبتي، ألا قولي لي ماله صوتك، أنا كنت عايزة أشوفك و أقعد معاكِ شوية بس لاقيتك مستعجلة و أنتِ بتديني الولاد و نزلتي جري، فيه حاجة أنتِ كويسة؟". 


"مفيش يا تيتا، انا بس في العربية مش عارفة أتكلم". 


"ما تكذبيش عليا يا دنيا، طالما قولتي مفيش يا تيتا يبقي مخبية حاجة و حاجة كبيرة أوي كمان". 


انسدلت دمعة هبطت علي خدها، سرعان تلقتها بطرف أناملها و أزالتها: 

"معلش مضطرة هاقفل معاكِ دلوقتي، أنا تقريباً وصلت هابقي أكلمك بعدين مع السلامة". 


أنهت المكالمة و قالت للسائق: 

"أيوه البيت هنا". 


قامت بدفع الأجرة و ترجلت من السيارة، و في دقائق كانت داخل منزلها، ظلت تنظر إلي كل ركن تستعيد الذكريات، القليل منها يتسم بالسعادة و الأغلب كان الألم عنوانها، ألم الوحدة و البعد في ظل قربه، تعيش معه و ليست معه في آن واحد، كان معها بالجسد و غائب بالروح، و كأنه عالق في ملكوت آخر قد أنكشف لها في هذا اليوم. 


مرت أكثر من ثلاث ساعات، عاد من الخارج كالعادة يفتح باب المنزل بالمفتاح خاصته، تفاجئ بالظلام يعم في أرجاء المنزل و هدوء مريب، لكن هناك ضوء خافت ينبعث من غرفة مكتبه، تذكر إنه أوصدها بالمفتاح الخاص بها في أخر مرة دلف داخلها، خفق قلبه علي الفور و ذهب ليري من بالداخل، و في طريقه ينادي علي زوجته: 

"دنيا؟، دنيا؟". 


لم يجد إجابة، و عندما وصل إلي الغرفة ضرب أنفه رائحة عطرها القوية، وقعت عينيه و قلبه كاد يتوقف عندما رآها، أغمض عينيه ربما يتوهم، كيف هي و متي جاءت و أين زوجته الآن؟ 

فتح عينيه مرة أخري ليصتدم بصره برؤيتها، تجلس علي المكتب، تضع ساق فوق الأخري، خصلات شعرها الشقراء تخبئ جانب وجهها و بشرتها البيضاء أكثر ما يميزها، ترتدي قميص النوم الأرجواني، لما تجلس هكذا و كأنها أحدى التماثيل الأغريقية المنحوتة. 


حاول جمع شتاته، و مازال قلبه يخفق بقوة و كاد يتوقف، ابتلع لعابه ليستطيع النداء عليها بصوت قد فاض به الشوق و العشق: 

"سيلينا؟". 


استدارت ببطئ و تنظر إليه لتهبط فوق رأسه بصاعقة جعلت خلايا جسده تنتفض حينما أخبرته بالحقيقة المريرة: 

"لاء، دنيا مراتك". 


نزلت من فوق المكتب و وقفت أمامه تسطرد: 

"مراتك اللي ما عرفتش الحب غير لما دخلت حياتها، مراتك اللي بتصونك في غيابك قبل وجودك، مراتك اللي كل ما تكون بين إيديك تحس إنها زي الهم التقيل علي قلبك، اللي من كتر حبها فيك بقت زي الكفيفة، ما شافتش حقيقتك أو يمكن مكنتش عايزة تشوفها عشان كانت عايشة في وهم الحب". 


اقترب منها قائلاً و صدرها يعلو و يهبط: 

"دنيا أنتِ فاهمة غلط خالص". 


مدت كفها في مواجهته ليتوقف في مكانه: 

"خليك مكانك، و بلاش تلف و تدور في الكلام، مش ده قميص النوم اللي محتفظ بيه من ريحتها!". 


أشارت إلي ما ترتديه، أمسكت بزجاجة العطر من فوق المكتب و أردفت: 

"مش ده البرفان اللي كل ما يخلص تشتري لي منه أون لاين مخصوص، و تطلب مني أرش منه وقت ما بنكون مع بعض!، مش ده قلم الروچ اللي بتخليني برضو أحط منه عشان بيفكرك بشفايف الهانم اللي محتفظ لحد دلوقت بصورك معاها!". 


رفعت كل ما ذكرته و قامت بألقائه علي الأرض أمامه: 

"أنا كنت مجرد سد خانة أو لعبة تلهيك عن شوقك ليها، طيب ليه أتجوزتني و أنت بتحبها؟، ليه طلقتها مادام مش قادر تنساها؟". 


ابتلع غصة عالقة بحلقه و عبرات عيناه متجمدة مثل قلبه البارد، ألقي عليها صدمة أشد لعنة من الصدمات الأخري: 

"أنا ما طلقتهاش". 


غرت فاها، أجهشت بالبكاء في صمت، سألته بقلبٍ قد تمزق إلي أشلاء: 

"كمان؟". 


نظر إلي أسفل، لم يملك الشجاعة للنظر إليها و هو يخبرها بهذا: 

"يوم ما قابلتك بالصدفة، كانت هي هربت، كنت بدور عليها في الشوارع لحد أنتِ ما ظهرتي في طريقي، محاولتش من بعدها أدور عليها تاني لأن كنت خايف لو لاقيتها وقتها كان ممكن قتلتها و أنتحرت". 


"ياريتني ما شوفتك و لا قابلتك يومها، أنا كل ما أعيد شريط حياتي معاك أتجنن، إزاي أستحملت كل ده معاك، إيه اللي خلاني أتحمل جفاك و برود مشاعرك". 


شهقت ببكاء و جالت بعينيها نحو زجاجة العطر و قلم الحمرة فسألته مرة أخري: 

"و أنا من عبطي و سذاجتي كنت بفرح أوي و بعملك اللي بتحبه، أغرق نفسي بالبرفان عشان بتحب تشمه عليا، أتاريك بتتخيلها هي، تصدق بالله أنت أحقر بني آدم شوفته في حياتي". 


اقترب منها و كاد يعانقها: 

" دنيا... 


"أبعد عني إياك تلمسني". 

صرخت بها بعد أن هبطت علي وجهه بلطمة دوي صداها بين جدران الغرفة، وضعت يديها علي فمها غير مصدقة ما أقترفته للتو، رمقها بغضب و أطبق شفتيه، وصل إلي أذنيها صوت اصطكاك أسنانه


ابعدت كفيها و حدقت إليه بازدراء: 

"لو تعرف أنا شايفاك في نظري إيه دلوقت كان زمانك فعلاً أنتحرت، و لا أقولك أستني لما تلاقي المدام اللي هربت منك". 


يستمع إلي إهانتها إليه، يكور كلا قبضتيه حتي ابيضت مفاصل أنامله، يأمر من بين أسنانه: 

"اسكتِ يا دنيا". 


صرخت بسخط قائلة: 

"مش هاسكت، بقي لي سنين ساكتة و كاتمة في قلبي، و دي اللحظة اللي هقول فيها كل حاجة قبل ما أمشي و أسيبك". 


وضع يديه خلف ظهره و سألها بجمود و كأن لم يحدث شئ: 

"و مين هيسمح لك تمشي من هنا؟". 


ابتعدت إلي الوراء: 

"أنا، هاسيب لك شقتك و هاطلقني، و هاخد ولادي و هاربيهم". 


حدق إليها بتحدي و حسم: 

"مش هاتخرجي من باب الشقة و مفيش طلاق، و وريني هاتعملي إيه". 


"بلاش تتحداني يا كنان و تخليني أكرهك أكتر ما كرهتك، أوعي تفتكرني هخاف منك، أنا خلاص مش هيعيش معاك دقيقة واحدة كمان". 


في لحظة جذبها من يدها و يده الأخري جذبها من خصلاتها، تأوهت من الألم، فقال لها بتهديد جلي: 

"ده أنتِ اللي بلاش تقفي قدامي أحسن لك". 


"هاتموتني عشان ما أهربش زيها، طيب علي الأقل هي بتحبها، لكن أنا ما أفرقش بالنسبة لك، طلقني بالمعروف بدل ما هلجئ لأسلوب مش هيعجبك". 

نظرات التحدي و التغير الطارئ الذي قامت به ذكره بالأخري عندما كانت تفعل المثل، غلت الدماء في عروقه و عقد العزم أن لا ينهزم في تلك المرة، جذبها بيد و الأخري يقترب من الباب و المفتاح معلق داخل القفل

"الأولاد فين؟". 


تحاول التملص منه، فزاد من قبضته، تأوهت مرة أخري: 

"عند تيتا". 


"حلو أوي، ما تزعليش أنتِ بقي من اللي هاعمله"


أدركت ما يقصد و هو وصد الباب عليها و جعلها حبيسة داخل تلك الغرفة، قامت بكل قوة دفعه و جذب ذراعها ثم دفعته في صدره بكل قوتها، ركضت إلي الخارج، نهض ليلحق بها، و حين خرج من الغرفة وجدها تصفق باب غرفة النوم في وجهه و قامت بوصده من الداخل، ذهب اتجاه الباب و أخذ يطرق بكل قوته، فهو الآن في ذروة غضبه: 

"افتحي يا دنيا، افتحي بدل ما أكسر الباب". 


كانت تبحث عن ضالتها و هي تفكر في أمر واحد،  شخص لم تلجأ إليه من قبل و حان الوقت بأن ينقذها من هذا المجنون بالخارج، وجدت هاتفها علي طاولة الزينة، ركضت نحوه ثم ألتقطته، قامت بالإتصال عليه في الحال، انتظرت ريثما يجيب و عينيها صوب الباب الذي يهتز من دفع كنان له بجسده. 

أجاب أخيراً: 

"ألو؟". 


ردت بتوسل و خوف: 

"ألحقني يا قصي بيه". 

༺༻

"أريد أن أعلم لما أنا أسيرة هنا؟، أخرجني أيها الوقح". 

تصرخ بها من خلف قضبان حديدية، و التي ألقي بها داخل تلك الزنزانة المظلمة، منذ أن قام بأمر رجاله بأسرها 


تقدم منها الحارس ذو الجسد الضخم، يأمرها بتعنت: 

"أخفضِ صوتك اللعين يا عاهرة". 


و ما أن نطق بتلك الجملة باغتته رصاصة في منتصف رأسه جعلتها شهقت بخوف و تراجعت و هي تري من قام بذلك. 


يقترب من الزنزانة بخطوات تدب الرعب في قلبها،  فهي تعلم عنه الكثير و خاصة الجانب المظلم لديه، وضع سلاحه في جيب معطفه الداخلي، أشار إلي الحارس الأخر نحو القفل،  علي الفور قام الحارس بفتح القفل، ولج إلي الداخل بينما هي تلتصق بالجدار، تحدق إليه برعب و تسأله بتوجس: 

"هل أتيت لتقتلني؟". 


وقف أمامها و أستند بكفه ذو القفاز الأسود علي الجدار الصخري: 

"لو كنتُ أريد قتلك، ما كنتِ تقفين أمامي الآن ". 


سألته بنظرة ينبع منها فن الإغواء: 

"و لما أنا هنا؟". 


أستند بكفه الأخر و اقترب بشفتيه جوار أذنها: 

"لقد أقتحمتِ قلعة الزعيم بل و قمتِ بتصويب سلاحك نحوه، فلابد من عقاب أمام الجميع حتي لا يتجرأ أحدهم علي التفكير حتي مثل فعلتك". 


رفعت كفيها و وضعتهما علي الفراء الأسود المحاط بتلابيب معطفه: 

"لم تتغير فلاد، ما زالت تتمتع بقوة و ذكاء خارق". 


أمسك كلا رسغيه بقبضتيه القويتين، يحدق إليها بتحذير آمراً إياها: 

"كُفِ عن ما تحاولين الوصول إليه، أنا ليس كلاوس الذي خر صريعاً بسبب حبك الخادع إليه، أتحسبين أن لا أعلم شئ مما حدث!". 


في لحظات تحولت نظرة الإغواء إلي الحزن و دموع سرعان تجمعت و بدأت تهبط علي خدها: 

"شقيقك لم يحبني يوماً، كنت بالنسبة إليه مجرد شئ من ممتلكاته، لا تعلم ماذا فعل بي قبل أن أهرب منه و أفر إلي مصر". 


ابتعد و عقد ما بين حاجبيه، يسألها بإهتمام: 

"ماذا فعل؟". 


جلست علي المقعد الصخري و ضوء الشعلة الخارجي يصل إلي منتصف وجهها، دموع عينيها تومض كالبريق في السماء و هي تتذكر ما حدث... 


※ الفصل التاسع ※

🐺 غابة الذئاب «ما بعد العهد» 🐺

"الجزء الثالث من رواية صراع الذئاب" 

بقلم: ولاء رفعت علي


"مشهد من الجزء الثاني عهد الذئاب_ الفصل الثاني"


« صفعها بقوة صارخاً: 

- هل تهزأين بي !، إنه أدرك الآن إنني من دبر له هذا الحادث. 


أحست بصفير في أذنها و خط من الدماء إنسدل من جانب شفتيها، وضع إصبعه يمسح ذلك الخط و قام بلعقه متلذذاً: 

- كم هي شهية طعم دمائك صغيرتي، أنني إشتقت كثيراً لتلك الشفاه و أنا أعتصرهما بين أسناني و تسيل دمائك داخل فمي.

 

حدقت إليه بتقذذ و إمتعاض بل و خوف في آن واحد، أردف حديثه المرعب:

- ماذا أفعل في هذا اللعين؟


 قالها و هو يشير إلي موضع قلبه ليردف : 

- للأسف أشفق عليكِ من الموت، لذا سأكون رحيم معك و أجعل عقابك هيناً. 


قهقهت بسخرية أثارت نيران غضبه التي قلما تندلع فقالت: 

- هل ستقوم بالإعتداء علي؟ 


حدق في عينيها بنظرات قاتلة و أقترب من وجهها لينقض علي شفتيها بكل قسوة، يرتشف دمائها تحت صرخاتها من الألم، أبتعد عنها بعد دقائق و زمجر بلذة غريبة، يلعق دمائها من علي شفتيه ثم نظر إليها بتشفي و إلي شفتيها التي تنزف بغزارة، تبكي بقوة من شدة الألم 

فصاح منادياً علي إحدي رجاله: 

- ماركوس. 


جاء إليه الرجل مهرولاً: 

- أمرك سيدي. 


أخرج محرمة من جيبه، قام بمسح شفتيه و قال: 

- هيا نفذ ما أمرتك به، و لا تنس أريد كل ما يحدث مسجل بالصوت و الصورة. 


أومأ له ماركوس بالطاعة: 

- أمرك سيدي.

 

ألقي نظرة أخيرة نحوها و هي تتلوي من الألم فقال: 

- وداعاً صغيرتي. 


غادر الغرفة و يأتي أربعة من الرجال كالجدران الضخمة ولجوا جميعهم إلي الداخل فأقترب إحدهم منها و نزع من فوقها الغطاء، ينظر إليها بشهوة مقززة حيث لم يغط جسدها سوي ثيابها الداخلية، وضع يده الغليظة يتحسس جسدها فصرخت:

- لا لا أبتعد عني يا قذر. 


قام الأخر بنزع ثيابها و أنقض عليها هو و من معه بلا رحمة تحت صرخاتها التي وصلت إلي مسمع نيكلاوس » 


عادت من ذلك المشهد بنظرة زجاجية و وعيد بالإنتقام، فما حدث لها من تحت رأس الذي أحبته بجنون و لا يبالي إليها، لم تأبه عاقبة خيانتها لكلاوس قدر ما كانت تخشي أن يحدث إليه مكروهاً، تزوجت من صديقه رغماً عنها لتكون قريبة منه و لم تفلح في ذلك فأصبحت أسيرة هوس الأخر حتي أستطاعت الفرار منه، و منذ ذلك الوقت تنتقل من بلدة إلي أخري حتي تمكنت من العودة إلي مسقط رأسها، و بعد أن علمت بعودة فلاديمير الإسم الذي يهابه جميع أفراد عصابات المافيا الروسية لتولي المنصب المناسب له و الذي يستحقه عن جدارة، قررت الدخول إلي القلعة التي شاهدت علي تعذيبها علي يد رجال كلاوس، لكن تلك المرة عودتها لا تنذر سوي بالشر و إندلاع حرب ضروس، سوف يقع بها الكثير من الضحايا. 


"و لماذا كلاوس فعل بكِ ذلك؟". 

لم تنتبه إلي ظلام عينيه و هو يسألها، فأجابت بالكذب دون أن ترفع وجهها و مازالت تبكي: 

"ظن أنني تحالفت مع عدوه اللدود، و بعد أن أنتهي من تعذيبي سافر إليه رغماً من تحذيري إليه من قوة و دهاء الأخر، لكن شقيقك كان مصاب بجنون العظمة، لم يكترث إلي تحذيري و ذهب ليقضي عليه، لا يعلم إنه فخ قد نُصب إليه و حُرق حياً علي يده". 


"كيف حدث هذا، لقد أبلغني رجالي من السفارة الروسية في مصر، إنه حادث حريق نتيجة تشابك رجال أخي مع رجال الشرطة هناك، و لم يأت بذكر شخص أخر". 


ابتلعت لعابها و نظرت بقوة في عينيه لترسخ كذبتها داخل عقله: 

"هراء، ما قيل لك كله كذب لأنهم يعلمون جيداً أنك لن تتهاون عن الثأر لمقتل أخيك". 


جذب ذراعها و أخبرها بغضب و نظرة قاتلة جعلت فرائصها ترتجف من الخوف: 

"سوف أتحري الأمر بنفسي للتأكد من صدق حديثك، و إذا اكتشفت إنك مجرد كاذبة و خادعة لن أخبرك ماذا سأفعل بك حينها، و ما تم معك علي يد أخي أكثر هواناً مما سوف أفعله بك". 


ابتلعت لعابها و رفعت وجهها لتنظر في عينيه دون أن يرف لها هدب واحد: 

"ثق بي فلاد، أنا لم و لن أكذب عليك، و إذا ثبت لك العكس أفعل بي ما شئت". 


حدق إليها بنظرة تنضح بصدق وعيده إذا حدث غرار ما أخبرته به مما جعلها سوف سوف تبذل قصار جهدها حتي تقعه في شباكها و تتلاعب به كيفما تشاء، يا لها من حمقاء يبدو إنها لم تعلم جيداً مَنْ هو فلاديمير رومانوف! 


تحدث بصوت في ظاهره يحمل الهدوء غرار مكنونه و الذي يخفي وحش كاسر: 

"إذاً سيلينا، تذكري قولك هذا جيداً، ربما سوف أعيده عليكِ في وقت آخر". 

༺༻

"هاتفضلي قافلة علي نفسك لحد إمتي!، ساعة أتنين، اليوم كله، أنا قاعد لك يا دنيا، و أبقي وريني هاتقدري تخرجي من هنا إزاي". 

قالها كنان و يجلس علي كرسي أمام الباب، بينما هي بالداخل قد انتهت من ارتداء حجابها و أغلقت أخر زر في مقدمة ثوبها استعداداً للضيف الذي دعته و قد وصل للتو. 


صدح رنين جرس المنزل مما جعل زوجها نظر بتعجب نحو الباب، نظر في ساعة هاتفه وجد أن الوقت متأخراً، ذهب ليري من الطارق، ربما يكون حارس العقار هكذا ظن، لكن عندما فتح الباب تفاجئ بالزائر الذي يقف أمامه، تفوه بدهشة: 

" قصي باشا!". 


"مش هتقولي أتفضل! ". 

قالها قصي فأجاب الأخر بتوتر و يشير إليه نحو الداخل: 

"اتفضل يا باشا، ده البيت بيتك". 


ولج إلي الداخل و عينيه تتجول في الأرجاء، أغلق كنان الباب و تقدم نحوه، و بشبه ابتسامة يشوبها التوتر سأله: 

"إيه المفاجأة السعيدة دي يا كينج؟". 


خلع الأخر سترته و جلس علي أقرب كرسي و حدق إليه بنظرة غامضة: 

"قصدك إيه اللي جابك دلوقت؟، مش كدة؟". 


حدق إليه الأخر و قد أدرك سبب زيارته، فأجاب بسؤال بعد أن أصاب الوجوم ملامح وجهه: 

"هي دنيا كلمتك؟". 


نظر إليه في صمت لثوان ثم أشار إليه نحو كرسي قريب منه: 

"تعالي أقعد يا كنان، عايزك في كلمتين". 


تمثل لأمره و فعل ذلك و عينيه صوب باب غرفة النوم المغلقة، طرق الأخر علي المنضدة بيده و بنبرة لا تحمل أي مزاح: 

"ياريت تنتبه ليا و تجاوب علي سؤالي من غير لف و لا دوران، أنت اتجوزت دنيا ليه؟". 


ازداد شعوره بالتوتر أكثر و نظرة صديقه القوية جعلته لم يكن قادراً علي منحه إجابة وافية، فأجاب بإقتضاب: 

"معرفش". 


اثارت إجابته غضب الأخر، لكنه كظم هذا الشعور المقيت، يعلم أن الغضب في تلك الأمور لا يجدي نفعاً و عليه أن يتحلي بالصبر و التروي حتي يصل إلي حل يرضي كلا الطرفين: 

"أنا كان كلامي واضح من البداية، بقولك عايز إجابة واضحة، أنا جاي و ناوي أسمع منك زي ما سمعت منها، أظن اللي قولته مفهوم و لا أفهمه لك بطريقة تانية؟". 


ابتلع كنان غصة علقت في حلقه، يدرك ما يرمي إليه الأخر فقال بكل هدوء و سلاسة: 

"أتجوزتها عشان عجبتني، لاقيتها دي اللي تنفع تكون مراتي و أم لأولادي، محترمة، متربية، بنت أصول". 


"و لما هي كل ده، مزعلها ليه؟". 


نظر إلي أسفل يفكر في كلمات تسعفه، لم يجد سوي أن يسأله: 

"هي حكت لك إيه بالظبط؟". 


تنهد قصي ثم عاد بظهره إلي مسند الكرسي الخلفي بأريحية، وضع ساق فوق الأخري و أجاب بدهاء قائلاً: 

"هي كل اللي قالته ليا خليه يحكي لك بنفسه، و أنا بسألك أهو". 


"أنا هجي لك دوغري في الكلام، أنت أكتر واحد جربت و عارف معني الحب و قد إيه صعب تعيش بعيد عن الإنسانة الوحيدة اللي حبيتها، أنا لما أتجوزت دنيا كنت فاكر إن هانسي الحب ده و هاقدر أعيش حياتي من أول و جديد، مكنتش عارف إن اللي حبتها لما هربت خدت قلبي معاها و من وقتها بحاول أعيش حياتي طبيعي". 


أخرج الأخر من جيبه قداحة ثم سيجاره الذي لم يفارقه إينما ذهب لينفث بها غضبه الذي يحرق الأخضر و اليابس. 

"و اللي خدت قلبك دي تبقي سيلينا، مش كدة برضو؟". 


قام بإشعال سيجاره و نفث دخانه في الهواء ثم أردف بسخرية بالغة: 

"تصدق صعبت عليا، و الدمعة هتفر من عيني ". 


حديثه الساخر جعل الأخر شعر بالضيق فقال: 

"هو إيه في كلامي يخلي حضرتك تتريق؟". 


أطلق من فمه و أنفه دخاناً كثيفاً و اعتدل في جلسته قائلاً: 

"بص يا كنان، دنيا ست جدعة و بنت ناس محترمة و ليها الجنة إنها رضيت تتجوز واحد تافه و مالهوش لازمة زيك". 


غر الأخر فاه بصدمة و يستمع توبيخ قصي له و الذي أردف: 

"مش معني إن مالهاش بعد ربنا غير جدتها يبقي مالهاش كبير يرد عليك و يعلمك إزاي تشيل مراتك جوه عينيك، أنا بقي في مقام أخوها، و الأخ لما يلاقي أخته متبهدلة و جوزها مش عارف قيمتها و مخليها كل يوم تنام و دمعتها علي خدها، يبقي بيت أهلها أولي بيها". 


نهض كنان و الغضب قد أعمى بصره عن من يتحدث أمامه، صاح في وجهه: 

"و ده مين اللي هيسمح لها تمشي من البيت إن شاء الله؟". 


وصل صوته المرتفع إليها فقامت بفتح الباب و خرجت لتخبره بتحدي: 

"أنا اللي بقولها لك هامشي من هنا و مش راجعة لك تاني". 


كاد يسرع نحوها لكن أوقفه صياح قصي منادياً: 

"كنان؟". 


استدار إلي دنيا و قال لها بإشارة من يده: 

"تعالي يا دنيا هنا". 


أجابت الأخري بحزن و نبرة علي مشارف البكاء: 

"لو سمحت يا أبو مالك أنا مش طايقة أشوفه و لا أسمع صوته، لأنه مهما قال و برر عمري ما هسامحه، ياريت يسيبني في حالي و يعتبرني هوا زي ما كان بيتعامل معايا طول السنين اللي فاتت". 


عاد قصي ببصره إلي كنان، يحدق إليه بلوم و عتاب ثم قال: 

"تعالي أقعدي و أنا هخليه يعملك اللي أنتِ عايزاه و يرضيكِ". 


تقدمت بخطوات هادئة و أعين أرهقها الحزن و الألم، وقفت أمام كرسي علي مقربة منهما لكن تتحاشي النظر إلي زوجها، أشار إليها نحو الكرسي الذي تقف أمامه مباشرة: 

"اتفضلي أقعدي و أوعدك كل طلباتك مجابة". 


كان كنان يكور قبضتيه، و يكبت غضبه الذي وصل إلي الحلقوم و فاض صبره، بالعودة إليها جلست كما طلب منها قصي ثم جلس هو أيضاً و أمر الأخر الذي يحدق إلي زوجته بنظرة قاتلة، مما جعله يخشى أن ينفرد بها و هو في تلك الحالة و من المؤكد سوف يؤذيها، لذلك قال لهما: 

"اللي أنا عرفته و شايفه دلوقتي يخليني أقولك يا كنان خلي دنيا تقعد عند جدتها و سيبها لما تهدي خالص، و أنت كمان تقعد مع نفسك و حدد موقفك إيه و مشاعرك من ناحيتها، أنا بتكلم معاكم كأتنين عاقلين و ناضجين و بينكم أولاد محتاجين وجودكم و رعايتكم الكاملة ليهم سواء من الجانب المادي أو النفسي و خصوصاً النفسي، لأنهم لو لقوا أبوهم و أمهم مش طايقين بعض و علي طول في خناقات كل ده هيأثر علي نفسيتهم و مش محتاج أقولكم اللي هيحصل بعد كدة، قبل أي قرار هتاخدوه كل واحد يقعد يفكر الأول". 


نهضت دنيا و عقبت: 

"أنا مش محتاجة أفكر، كفاية تفكير بقي لي سنين، أنا حسمت أمري و كفاية لحد كدة، مستحيل أكمل مع واحد أنا بالنسبة له و لا حاجة". 


أخبرها زوجها من بين أسنانه: 

"طلاق مش هاطلق و اللي عندك أعمليه". 


ابتسمت بسخرية و قالت: 

"إيه اللي يسمعك كده يقول الحب مولع في الدرة و إنك مغرم بيا و ولهان و أنا الظالمة القاسية اللي بفتري عليك، كفاية بقي قرف لحد كدة". 


في لحظة كان قابضاً علي ساعدها: 

"قصدك مين بقرف، طب أقسم بالله ما أنتِ خارجـ... 


" كنان، لم نفسك أحسن لك". 

صاح بها قصي و جذب يد الأخر عن ساعد دنيا التي أجهشت بالبكاء رغماً عنها: 

"شوفت يا أبو مالك، بدل ما يندم  أو يعترف إنه غلط في حقي، بيعمل معايا إيه! ". 


زفر الأخر بغضب و ألقي بيد كنان بعنف، أخرج مفتاح التحكم بسيارته و قال لها: 

"خدي مفتاح عربيتي و استنيني فيها لحد ما أجي لك". 


قد نفذ صبر كنان كما أعادت عليه مشاهد من منبع ذكرياته مع زوجته السابقة و أخر يوم قامت بالفرار، و في غضون لحظات كان يقف أمام دنيا قاطعاً طريقها و عينيه يتطاير منها الشر كالشرر 

"هو أنا مليش كلمة عليكِ و لا إيه، قولت مش هاتخرجي". 


و جذبها بالقوة و الإجبار دفعها إلي غرفة النوم، مما جعل الأخر لم يتحمل أن يكتفي بموقف المتفرج و عليه أن يرجعه إلي صوابه 

"لاء أنت كدة زودتها أوي". 

قبض علي تلابيب قميصه و سدد إليه لكمة قوية جعلت الأخر يترنح و يقع علي الأرض،  صرخت دنيا عندما رأت ذلك، فبرغم غضبها نحو زوجها لكنها لم تستطع أن تراه في ذلك الوضع المزري


دنا قصي منه يجذبه من تلابيبه مرة أخري: 

"أنا صابر عليك و ساكت قولت يمكن يعقل و يفوق من الهبل اللي هو فيه،  لكن الظاهر أنت زي ما أنت، لازم أديلك العلقة اللي تفوقك و ترجع لك عقلك من تاني". 


لم يعط إليه مهلة للتحدث و سدد له لكمة أخري، لم تتحمل الأخري أكثر من ذلك فأقتربت منهما: 

"كفاية يا قصي بيه بالله عليك". 


و بدون أن ينظر إليها أشار نحوها و تحدث إلي هذا الطريح: 

"شوفت؟، شوفت هي خايفة عليك إزاي!، و ربنا خسارة فيك". 


أخذ الأخر يمسح دمائه التي سالت من جانبي شفتيه و يحدقه بنظرة عدائية ينضح منها الغيرة، و كذلك الحقد الذي يسيطر عليه الآن، جعله يهذي بالترهات: 

"أنت السبب في كل اللي حصل، ما هي لو سيلينا مكنتش متعلقة و مهوسة بيك كان زمانها عايشة معايا لحد دلوقت، مكنتش ضغطت علي نفسي و أنا عايش معاها و عارف إن أنا كنت بالنسبة لها مجرد وسيلة تكون بيها قريبة منك، مكنتش وقفت تتحداني إنها مش بتحب غيرك أنت و بس و في الأخر هربت مني". 


اخذت دنيا تتراجع خطوات إلي الخلف و هي تستمع بصدمة إلي كلمات زوجها و التي بمثابة طعنات خنجر ذو نصل بارد يقتلها ببطئ. 


ابتسم الأخر بتهكم و استطرد حديثه: 

"يعني لو عايز تطلع غضبك في حد، طلعه فيك أنت، لأنك السبب في معاناة كل واحد فينا سواء أنا و لا سيلينا و حتي هي". 


و أشار بعينيه إليه نحو دنيا التي تضع كفها علي فمها و لن تتحمل أكثر من ذلك ركضت إلي داخل الغرفة تجلب حقيبة يدها و حقيبة أخري تسحبها خلفها من مقبض معدني، و قبل أن تذهب نظرت إليه بكبرياء و شموخ أنثي حرة: 

"أنا لحد النهاردة كنت بحاول ألتمس لك أي عذر أحاول أسامحك بيه و يمكن تحس بالندم، لكن لاقتني كل ما أتقدم خطوة ألاقيني برجع لألف ورا، و شكراً أوي إنك وضحت لي اللي كنت بتعمله معايا نفس اللي أتعمل فيك زمان، يعني حياتك معايا كانت مجرد إنتقام!، عمري ما كنت أتوقع في يوم بدل ما أدعي لك أدعي عليك من قهرة قلبي".


ابتلعت غصة مريرة لتردف:

" روح منك لله و يفضل قلبك متعذب و موجوع طول عمرك". 

تفوهت بذلك الدعاء الذي أرجف قلبه لأول مرة، ظل في حالة من الصدمة لدقيقة حتي أنتبه إلي إنها غادرت، ألتفت إلي قصي عندما أخبره: 

"أنا مش هعاتبك علي اللي قولته و لا هشمت فيك، و لا هقولك أنا كنت بعتبرك أخويا الصغير قبل ما تكون دراعي اليمين، كفاية اللي أنت هاتعيش فيه من دلوقت من وجع قلب و بُعد أقرب الناس ليك و أولهم أنا، كفاية نار الوحدة اللي هتسويك علي الهادي، دي كفيلة تخليك تعض صوابعك من الندم، سلام يا صاحبي". 


رفع يده بتحية ساخراً ثم تناول سترته و متعلقاته و غادر علي الفور خلف دنيا التي أنتظرته داخل سيارته كما قال لها. 

༺༻

ظلت تنتظر عودته من عمله بعدما أعدت إليه طعام العشاء، و ها قد جاء في ساعة متأخرة من الليل، ولج إلي الداخل فوجدها نائمة علي الأريكة مرتدية ثوب زمردي من الحرير، تاركة خصلات شعرها بـ حرية علي كتفيها، إنها تعلم كم يعشق تلك الهيئة التي تتسم بالبساطة، جلس بجوارها و ظل يتأمل ملامحها التي وقع فؤاده في عشقها و غمره الهوى، أخذ يلمس خدها المياس و ينظر إليها بسعادة يتراقص لها قلبه، فهي حب عمره التي عندما ولدت حملها بين يديه و كبرت و ترعرعت أمام عينيه حتي ظفر بها في النهاية و أصبحت زوجته و أم ابنتيه. 


فتحت عينيها و يغلب عليها النوم: 

"مصعب؟، أنت جيت امتي؟". 


أجاب و الابتسامة ما زالت علي شفاه التي تفوهت: 

"لسه واصل حالاً، إيه اللي منيمك في الليفنج؟ ". 


جلست باعتدال بعد أن نزلت ساقيها علي الأرض و قالت بتثاؤب: 

"نيمت البنات و خلصت كل اللي ورايا، و حضرت لك العشا و فضلت مستنياك هنا و أنت أتأخرت". 


نظر إلي المائدة فوجد العديد من الأطباق المغطاة بأطباق أخري، أمسك يدها و قام بتقبيل ظهرها: 

"تسلم إيدك يا حبيبتي". 


عانقته و قالت: 

"بحبك أوي يا صاصا". 


بادلها العناق لكن عندما تفوهت بذلك الإسم المدلل الذي لا يحبه، قام بضربها بخفة علي أسفل ظهرها قائلاً: 

"مش قولت كذا مرة بلاش الدلع اللي ما بحبهوش ده". 


تأوهت بألم: 

"اه، إيدك تقيلة، و بعدين اسمك صعب و مش لاقيه له اسم دلع ليه". 


جذبها من خصرها و جعلها تجلس علي فخذيه: 

"حقك عليا مكنش قصدي ايدي توجعك". 


دفعته برفق في صدره و بدلال قالت: 

"أوعي سيبني، أنا مش ههزر معاك تاني". 


أطلق قهقهه دوي صداها مما جعلها تتأمله و هو في تلك الحالة، كم تعشق ضحكته، قوست شفتيها بحزن كطفلة صغيرة بمزاح و قالت:

"و كمان عمال تضحك عليا، أوعي أنت رخم". 


نهضت فجذبها من يدها ليعيدها علي فخذيه مرة أخري قائلاً: 

"تعالي هنا و أنت لما بتكشري زي البيبي بيبقي عايز أكُل خدودك و شفايفك". 


حاوطت عنقه بذراعيها و أخبرته بدلال: 

"و أنت كمان ضحكتك حلوة أوي، و ببقي نفسي أكُل خدودك". 


"خدودي بس؟". 

سألها و غمز بعينه، فأجابت بعد أن أدركت الإجابة التي يريد أن يسمعها من موطن كلماتها: 

"و شفايفك". 


قال لها بهمس و نظرة عينيه نحو شفتيها  كالظمآن حينما يري الماء: 

"طيب أنا جعان". 


قامت بالضغط علي وجنتيه بأناملها، تخبره بمشاكسة: 

"الأكل علي السفرة قوم كُل قبل ما يبرد". 


نهضت سريعاً و اتجهت نحو غرفة ابنتيها، فسألها: 

"رايحة فين؟". 


"أطمن علي البنات و راجعة لك". 


ابتسم و سألها بمكر: 

"تطمني علي البنات برضو، و لا بتتأكدي إنهم نايمين عشان تستفردي بيا علي راحتك". 


نظرت إليه بتوعد و ابتسامة قائلة: 

"صبرك عليا لما أجي لك". 


ولجت إلي الداخل، بينما هو قبل أن يجذب الكرسي و يجلس علي المائدة استمع إلي تنبيه رسالة واردة من تطبيق الدردشة، تكرر التنبيه عدة مرات متتالية، ظن إنه هاتفه، أخرجه من جيب سترته لم يجد شئ، لاحظ هاتف زوجته و الموجود علي الأريكة مضيئاً، لم يعط إهتماماً فتكرر التنبيه مرة أخري مرتين، عقد ما بين حاجبيه بتعجب، طرأ سؤالاً علي خاطره الآن و هو مَنْ الذي يراسلها في ذلك الوقت المتأخر. 


خرجت من الغرفة بخطوات هادئة و أغلقت الباب بدون إصدار صوت يوقظ صغيرتيها. 


"بصي علي تليفونك، جالك رسايل علي الماسنجر كذا مرة ورا بعض". 


لاحظت اهتمامه البالغ هذا فأصابها التوتر، ذهبت لتري من المرسل فوجدتها السيدة التي تراسلها و أخبرتها إنها تدعو سلمي، أرسلت لها الآتي

"عاملة إيه يا ملك؟ 

وحشاني أوي فينك كدة؟ 

عايزة افضفض معاكِ و مفيش غير بحكي له أسراري

طيب ينفع أكلمك فون ماسنجر و لا جوزك جمبك؟ 

خلاص لما تفتحي ردي عليا محتاجة لك ضروري". 


"مين يا ملك؟". 

انتبهت إلي سؤال زوجها، استدارت إليه و رأت الإهتمام بجدية جلي علي ملامح وجهه و نظرة عينيه، فأجابت بصدق و توتر في آن واحد: 

"دي واحدة صاحبتي، هابقي أكلمها بعدين". 

ألقت هاتفها علي الأريكة و كادت تخطو إليه فأوقفها بسؤال أخر: 

"صاحبتك رودينا؟". 


تعجبت لسؤاله: 

"لاء، دي واحدة تانية". 


سار إليها و عينيه صوب هاتفها، فسألها للمرة الثالثة: 

"أعرفها؟". 


شعرت بالضيق من كثرة أسئلته، زفرت بنفاذ صبر و اجابت: 

"لاء ما تعرفهاش و كفاية أسئلة بقي". 


حدق إليها بإمتعاض قائلاً: 

"جري إيه يا ملك!، من حقي أسأل طبعاً مين بتكلم مراتي، و بعدين مين صاحبتك اللي معرفهاش دي ملهاش اسم يعني!". 


عقدت ساعديها أمام صدرها و تهز إحدى ساقيها بغضب: 

"اسمها سلمي و عرفتها من علي الفيس، فيه أسئلة تاني؟". 


رفع حاجبيه مُردداً: 

"عرفتيها من علي الفيس، تمام أوي". 


اتجه إلي الأريكة و أخذ الهاتف، اتسعت عينيها و تذكرت أمر الدردشة التي بينها و بين الأخري و ما تحتويها من أسرار خاصة قد سردتها لها و كذلك الأمر لدي ملك التي كانت تخبرها عن حياتها بكل أريحية و دون أن تأخذ حظرها من تلك الغريبة! 


"أفتح لي موبايلك". 

أمرها بذلك بعد أن فشل في فتح الهاتف و أردف: 

"أنتِ عمله password ليه؟". 


انتفخت أوادجها و فاض بها الكيل: 

"عملاه عشان الفون ده خاص بيا أنا زي ما حضرتك عامل برضو password للفون بتاعك و أي حد نفس الموضوع، ممكن أعرف أنت ليه عامل معايا تحقيق، و عايز من الفون إيه بالظبط عشان اللي بتعمله ده مالهوش غير معني واحد و هو معندكش ثقة فيا". 


"أولاً أنا مش منعتك تعملي password لموبايلك بس يكون عندي علم بيه، ثانياً بقي أسألتي دي مش تحقيق ده اسمه حب و خوف و اهتمام، ببقي عايز أعرف مين دي اللي بتكلمك هل هي ست كويسة و لا ما تكونش ست أصلاً و يطلع راجل و بيشتغلك". 


صاحت بغضب و لم تنتبه إلي صوتها الذي أرتفع دون دراية منها: 

"و أنا مش طفلة صغيرة عشان ينضحك عليا، و كفاية بقي دور الواصي عليا في كل حاجة، أعملي ده و ما تعمليش، مفيش شغل عشان بغير عليكِ، أوعي يا ملك تثقي في أي حد غريب و خدي حذرك، أوامر و تعليمات و كأني عيلة في ابتدائي". 


صاح أيضاً بغضب مماثل: 

"أيوه أنتِ بالنسبة لي فعلاً طفلة، روحك روح طفلة بتتعامل مع أي حد ببراءة و فاكرة الناس ملايكة ما تعرفيش إحنا في زمن لا يعلم بيه إلا ربنا، أنا بتعامل كل يوم مع ناس أشكال و ألوان و عرفت الطيب و الخبيث و القذر و النضيف، عشان كدة ببقي خايف عليكِ، و ده عندي اسمه حب أنتِ شيفاها أوامر و قلة ثقة!، عرفتي بقي أنك طفلة بتفكيرك". 


ظن إنها أدركت مدي خوفه و حبه لها لكن ما حدث كان علي غرار هذا تماماً حيث قالت: 

"أوك، مش أنا بقي طفلة، من هنا و رايح شغل البيت و مذاكرة بناتك كله هيبقي مسئوليتك، وريني بقي مهمتك يا عاقل يا كبير". 


اختطفت من يديه هاتفها و ذهبت إلي غرفة النوم أمام عينيه، ذهب خلفها و قبل أن يلحق بها أغلقت الباب و قامت بغلقه بالمفتاح من الداخل

"افتحي يا ملك و بطلي أمور العيال دي، مش لما أكلمك تتقمصي و تقفلي علي نفسك الأوضة". 


أجابت من الداخل بسخرية و عناد: 

"معلش أصل أنا طفلة، خدني علي قد عقلي و استحمل". 


"ماشي، براحتك خالص و بكرة نشوف مين فينا اللي هيجي معيط للتاني". 

تفوه بجدية لكن هناك ابتسامة علي ثغره عندما أدرك كم هي غاضبة الآن، بينما هي تنفست الصعداء عندما نسي أمر هاتفها، انتظرت ريثما سمعت صوت حركته و يدلف إلي داخل غرفة ابنتيه، و قامت بالرد علي الرسائل: 

"حبيبتي سلمي sorry  أتأخرت عليكِ في الرد

جوزي كان جمبي فعلاً و معرفتش أرد عليكِ، تخيلي بيسألني مين بيبعت لك رسايل، فقولت له دي واحدة صاحبتي أتعرفت عليها من علي النت، فتح لي تحقيق و عمال يحذرني و يقولي ممكن تطلع صاحبتك دي راجل في الأخر... 


أرسل إليها الأخر رمز تعبيري وجه يضحك حتي البكاء و يليه كتابة رسالة:

"طب و أنتِ قولتي له إيه؟". 


زفرت ملك بضجر و قد ملت من الكتابة فقامت بتسجيل رسالة صوتية: 

"أنا شديت معاه خصوصاً لما كان عايزني أفتح له الفون بتاعي، خوفت يشوف رسايل الفضفضة اللي ما بينا، و هو أكتر حاجة بيكرهها إن أحكي أي أمور خاصة بينا لأي حد حتي لو كان أخويا". 


استمع هذا الثعلب الماكر إلي مقطع الصوت المسجل بصوتها الرقيق الناعم و ابتسم بدهاء قائلاً: 

"يا جمال صوتك يا مزة، أنا خلاص معدتش هاصبر أكتر من كدة". 


أخذ يكتب ليرسل إليها الأتي: 

"طيب عندي فكرة بدل ما نتكلم شات و أجيب لك مشاكل، نتقابل برة في أي كافيه، مش أنتِ بتخرجي و لا جوزك مش بيسمح لك؟". 


أجابت ملك دون تفكير: 

"لاء بخرج عادي، بزور أخواتي و بوصل البنات للنادي و بفضل معاهم لحد ما يخلصو و نرجع ". 


"جوزك بيكون معاكِ؟". 


"لاء، بس بيبقي معايا السواق". 


قال الأخر بسعادة من خلف شاشة الحاسوب: 

"حلو أوي". 


قام بالكتابة: 

"أبقي ابعت لي قبل ما تنزلي أنتِ و البنات و أنا هاجي لك علي طول". 


ترددت ملك في الموافقة علي تلك المقابلة، و منعاً للحرج ردت في النهاية: 

"حاضر إن شاء الله

معلش بقي أستأذنك كابس عليا النوم

و هاصحي بدري

تصبحي علي خير". 


لم يرد برسالة لكنه قال لنفسه: 

"ده الخير كله هيجي منك يا مهلبية بالقشطة". 


قام بفتح إحدى الصور لها و التي قام بسرقتها عن طريق القرصنة، صورة «سليڤي» قد التقطتها عبر عصا التصوير في الخفاء دون علم زوجها عندما كانا علي شاطئ خاص لا يوجد عليه سواهما، تحتفظ بها علي هاتفها، فكانت ترتدي فيها ثياب البحر المكونة من قطعتين فقط و علي رأسها قبعة مصنوعة من القش يحيطها شريط من الحرير الوردي. 

༺༻

في الصباح الباكر، بداخل متجر للتسوق يدفع العربة و يأخذ من فوق الرف المنتجات الذي يريد شرائها و يضعها داخل العربة و تسير بجانبه ابنته و تضع هي أيضاً ما تريده، توقف عندما رأي في يدها عدة أكياس لمنتج شهير، فقال لها: 

"ياسمين رجعي البتاع ده مكانه، أنا قولت مش هيتاكل تاني لأنه مضر". 


حدقت إليه بإمتعاض ثم بتوسل أخبرته: 

"بابي please، أنا بحب النوديلز دي أوي، و أنت كنت بتجيبها لي و أنا صغيرة و كنا بناكلها أنا و أنت من ورا مامي، فاكر؟". 


شرد للحظات و يتذكر عندما كانت زوجته توبخ ابنتها علي أكل ذلك الطعام، فكان حينها ينتظر حتي تنام و يقوم بطهيه ثم يأكله مع ابنته و يطلب منها أن لا تخبر والدتها بذلك، ابتسم و سرعان ما عاد من عالمه إلي صوت ابنته و ملامحها التي أوشكت علي البكاء: 

"بابي، please؟". 


أومأ لها و يضع يده علي رأسها مبتسماً لها: 

"هاتي اللي نفسك فيه بس هتاكليه بعد ما تخلصي معايا البيتزا اللي هعملها لك". 


قامت بالتهليل و الصياح بسعادة: 

"بجد يا بابي، هاتعملي بيتزا اللي بحبها؟". 


دنا منها و أجاب بفرح: 

"أيوه يا روح قلب بابي". 


حاوطت جذعه بذراعيها الصغيرين: 

"ilove you dad ". 


ردد بحنان و عطف: 

"و أنا كمان بحبك أوي يا ياسمين". 

قام بتقبيل  بداية مفترق شعرها، ظل يضع الكثير من الأشياء و حينما أنتهي ذهب و وقف في الصف أمام المحاسب، قام العامل بأخذ كل منتج و يضعه أمام الجهاز ليقرأ الباركود الخاص بالمنتج و يردد المحاسب سعر كل سلعة علي حده حتي وصل إلي السعر الإجمالي و أخبره: 

"الحساب كدة يبقي ٢٧٠٠ يا فندم". 


أخرج ياسين من محفظته البطاقة الائتمانية خاصته و أعطاها إلي المحاسب،  انتبه إلي صوت بجواره تتحدث مع محاسب آخر: 

"إزاي الـ credit مش شغالة!". 


أشار إليها الأخر إلي الماكينة و أخبرها: 

"يا فندم اتفضلي بصي علي الـ Machine و أقرأي مكتوب إيه، ممكن الـ credit محتاجة تتجدد". 


نظر ياسين إلي وجهها ليتأكد إنها هي فقال للمحاسب: 

"اتفضل خد حساب الآنسة من الـ credit بتاعي". 


استدارت إليه و قلبها يخفق بقوة و تصدق أذنيها بسعادة اهتزت إليها خلايا جسدها: 

"ياسين أنت بتعمل إيه،  أنا...


"استلمي حاجتك و نبقي نتكلم برة في الـ parking

"

و بالخارج كان يقف خلف سيارته و يضع في الحقيبة الخلفية المنتجات التي قام بشرائها، 

كانا الخجل و الحرج يسيطران عليها بسبب ذاك الموقف الذي حدث معها و قام بالدفع لها. 


"فين عربيتك عشان أحط لك الحاجة؟". 


أجابت و تشعر بالتوتر و الحرج: 

"عربيتي في الصيانة، أنا هطلب أوبر Now". 


ابتسم بترحاب قائلاً: 

"أوبر و أنا موجود!، أتفضلي أركبي أنتِ و ياسمين، عقبال ما أحمل الحاجات دي". 


ردت بخجل: 

"أنا مش عايزة أعطلك". 


"و لا عطلة و لا حاجة، مالك مكسوفة كدة ليه؟، أنتِ زي ملك أختي". 


ليته ما تفوه الجملة الأخيرة التي شطرت قلبها إلي نصفين، شعرت بالإختناق و انتابها حالة من السعال الشديد، اقترب منها و بقلق سألها: 

"رودينا أنتِ كويسة؟". 


رفعت يدها و هزت رأسها بالإيجاب،  و بيدها الأخري قامت بإخراج عبوة صغيرة من حقيبتها، قامت بوضع الفوهة في فمها و مع كل ضغطة تأخذ شهيقاً عميقاً، التقطت أنفاسها بهدوء و أجابت: 

"الحمدلله، أنا بخير". 


انتهي من وضع السلع الخاصة بها في حقيبة سيارته، ذهب ليفتح الباب الأمامي و قال: 

"اتفضلي". 


ابتسمت و أخبرته: 

"أنا هاقعد مع ياسمين ورا". 


و في الطريق أخذت تراقبه عبر المرآة الأمامية دون أن يلاحظ نظراتها، انتبهت إلي الصغيرة التي أعطتها كيس حلوي: 

"رودي ممكن تفتح لي دي؟". 


أخذتها من يدها و قامت بفتحها ثم أعطتها إليها، فقالت لها الصغيرة: 

" thank you". 


وضعت الأخري يدها علي رأسها مبتسمة إليها: 

"العفو يا ياسمينا". 


نظر إليهما ياسين عبر المرآة و قال: 

"مادام ياسمين ندهت لك بإسم الدلع يبقي حبتك أوي". 

 

بادلته النظر خلال المرآة و أجابت:

"و أنا كمان بحبها أوي، ماشاء الله عليها زي القمر و رقيقة جداً، ربنا يبارك لك فيها". 


و بعد قليل وصل أمام المبني التي تقطن به هي، ترجل من السيارة و أخرج لها الحقائب البلاستيكية، و جاء حارس العقار حملها إلي الداخل، فقالت رودينا: 

"أنا مش عارفة أشكرك إزاي علي مواقفك النبيلة معايا النهاردة".


"مفيش داعي للشكر و لو عوزتي أي حاجة كلميني في أي وقت و أنا تحت أمرك". 


"طيب لو ممكن تسمح لي أعزمكم علي الغدا أنت و ياسمينا؟". 


رد مبتسماً: 

"معلش خليها في وقت تاني، لأن يا دوب هاروح علي البيت عشان أطلع الحاجات و بعد كدة هاروح علي ملك أسيب معاها ياسمين و بعدها هاطلع علي الشركة". 


"و ليه اللفة دي كلها، ممكن تسيب معايا ياسمين". 


نظر في ساعة هاتفه وجد إنه قد تأخر بالفعل علي الذهاب إلي شركته، عقبت ابنته: 

"بابي أنا عايزة أقعد مع رودي شوية؟". 


تردد في الموافقة فقالت رودينا: 

"أنت خايف تسيبها معايا، أطمن أنا قاعدة لوحدي و هاخد بالي منها، يعني ما تقلقش عليها خالص". 


"لاء مش كدة هو بس مش عايز أتقل عليكِ و أشيلك مسئولية و... 


قاطعته الصغيرة برجاء: 

"وافق يا بابي عشان خاطري please". 


ابتسم و قال لابنته: 

"أوك موافق بس ما تعمليش شقاوة و ما تضايقيش طنط رودينا". 


"ياسمينا ماشاء الله عليها هادية و so cute". 


"خلاص كدة هامشي و أنا مطمن و لو في أي حاجة ممكن تكلميني من علي الفون اللي معاها، و أنا هابقي أتصل اطمن عليكم كل شوية". 


أومأت له مبتسمة و قالت: 

"أوك". 


"خدوا بالكم من نفسكم مع السلامة". 


قالها و فتح باب السيارة ثم عاد إلي مقعد القيادة،  لوحت صغيرته بيدها قائلة: 

"باي باي بابي". 


و كانت الأخري تنظر إليه و الإبتسامة لا تفارق شفتيها: 

"مع السلامة". 


أردفت بهمس لا يسمعه سواها: 

"يا حبيبي". 

༺༻

في حديقة قصر البحيري، يجتمع  حول المائدة كل من يوسف و علياء و خديجة و في الجهة المقابلة لوچي و بجوارها شقيقها عز و يليه يوسف الصغير، و علي رأس المائدة يجلس آدم. 


كان جميعهم يتناولون طعام الفطور في صمت و بداخل رأس كل منهم الكثير من الأفكار، لاحظ يوسف أن زوجته لم تعد نفسها للذهاب إلي عملها، سألها زوجها: 

"أنتِ مش رايحة المركز النهاردة؟". 


ابتلعت ما بفمها و أجابت: 

"لاء، أنا نسيت أقولك معزومة علي حنة منة بنت خالتي النهاردة و مضطرة أبات هناك عشان الفرح". 


ترك الأخر ما بيده و بهدوء مريب قال بتعجب ساخر: 

"و هي الحنة دي طلعت فجأة كدة!". 


التفت إليه بزاوية و أجابت: 

"لاء طبعاً، خالتو كلمتني من شهر و عزمتني أنا و أنت و الأولاد، بس أنا عارفة إنك مش فاضي عشان شغلك في الطوارئ لازم تكون موجود في المستشفي، قولت هاخد لوچي و عز و هانروح". 


عقبت لوچي التي تتابع الموقف منذ البداية: 

"أنا مليش في جو الحنة و الأفراح أنا هاروح هاقضي اليوم مع مامي النهاردة". 


أثار قرارها دون استئذان والدها غضبه: 

"و أنتِ قررتي مع نفسك كدة تروحي لمامتك من غيري حتي تستأذني و تعرفي هوافق و لا لاء؟". 


"في إيه يا بابي، هو أنا محتاجة أستأذن عشان أشوف مامي!". 


شحنة الغضب داخله قد بلغت قمتها فصاح بها دون سبب: 

"أيوه لازم تستأذني، و عقاباً ليكِ مش هاتروحي لها الـ weekend ده و لا اللي جاي". 


نهضت و تنظر إليه في صمت و داخل عينيها آلاف الكلمات، أزاحت الكرسي و ذهبت، نهضت خديجة خلفها: 

"لوچي، يا لوچي استني". 


تدخل آدم و قام بعتاب شقيقه: 

"إيه اللي أنت عملته ده؟،  رد فعلك علي البنت كان مبالغ فيه أوي و أحرجتها قدامنا كلنا، ما تقولي له حاجة يا علياء؟". 


نظرت إلي زوجها أولاً ثم إلي آدم و قالت: 

"أنا كلامي ما بقاش يعجب أخوك، فقولت أخليني في حالي أحسن". 


التفت إليها يوسف و حدق إليها بنظرة وعيد، لم تعط إكتراث له، نهضت و أردفت: 

"أنا طالعة أشوف اللي ورايا،  تعالي يا عز معايا". 


نهض الصغير و ذهب إليها، و بعد أن ابتعدت نظر آدم إلي شقيقه و يشعر أن هناك خطب ما فسأله: 

"مالك يا يوسف، بقيت عصبي كده ليه، أنت عمرك ما كنت كدة و علي طول بنقول أنك أهدي واحد فينا". 


لم يستطع التفوه عن سبب غضبه و الشكوك التي تأكل رأسه تجاه زوجته، حتي لو كان يملك دليلاً واحداً فهذا الشأن خاص به هو فقط 

"مفيش يا آدم، ضغط الشغل و الفرع الجديد مشاكله كتير عشان لسه ماخلصش". 


أجاب الأخر بإهتمام: 

"طول عمرك في ضغوط شغلك و بتتحكم في أعصابك، و إن كان علي الفرع الجديد أنا موصي المهندس المسئول إنه يخلصهولك علي نهاية الشهر، أطمن أنا متابع كل حاجة بنفسي". 


أطلق يوسف زفرة لعلها تهدأ من روعه: 

"تمام، حصل خير،  عن أذنك أنا طالع فوق". 


تركه و ذهب، التفت آدم إلي ابنه الجالس في صمت و يضع يده علي خده، ضحك رغماً عنه و سأله: 

"فيه إيه يا چو قاعد زعلان ليه؟". 


عقد ما بين حاجبيه الصغيرين و قال: 

"أنا مش عايز أطلع دكتور زي uncle". 


"ليه يا حبيب بابي؟". 


أجاب الصغير ببراءة: 

"عزالدين علي طول بيقولي إن uncle مش بيلعب معاه و بيتعصب عليه كل ما يجي يكلمه و يقعد يعيط". 


ربت آدم علي ظهر صغيره بحنان و أخبره: 

"ما تقلقش يا حبيبي أنا هاتكلم مع عمك و هخليه ياخد باله منه". 


نهض من علي الكرسي ليعانق والده قائلاً: 

"أنا بحبك أوي يا بابي". 


بادله والده العناق بحنان و أخذ يربت علي ظهره: 

"ربنا يبارك لي فيك يا يوسف". 


و بالأعلي داخل غرفة ابناء يوسف، تربت خديجة علي لوچي التي تبكي و تعانقها بقوة: 

"خلاص يا لوچي باباكِ بالتأكيد مكنش يقصد يزعق لك، ممكن كان متضايق من حاجة عنده في الشغل". 


ابتعدت برأسها لتقول ببكاء: 

"و إيه الجديد يا ديجا، كل ما أجيب له سيرة رايحة لمامي يقوم متنرفز عليا، أنا عارفة إنه مش بيحبها عشان اللي حصل زمان، بس هي مهما كانت وحشة فهي في النهاية أمي و بحبها و مش هقدر أكرهها مهما حصل". 


امسكت الأخري طرف ذقنها و حدقت إليها قائلة: 

"يا حبيبتي طبعاً أنتِ صح و محدش قالك ما تحبيش مامتك، و أنا متأكدة إن يوسف عمره ما بيفكر كدة". 


طرق الباب و يليه صوت يوسف الذي قال: 

"لوچي؟". 


حدقت إليها خديجة بسعادة و بهمس أخبرتها: 

"شوفتي بقي إن كلامي صح، أهو باباكِ جاي لحد عندك عشان يصالحك، امسحي دموعك بقي و وريني ابتسامتك الجميلة". 


طيف ابتسامة ظهر علي ثغرها الوردي، فأردفت الأخري: 

"أيوة كده مفيش حاجة تستاهل دموعك، لما أقوم أفتح له". 


نهضت و ذهبت و قامت بفتح الباب: 

"اتفضل يا دكتور". 


غادرت الغرفة بينما هو ولج إلي الداخل و ينظر إلي ابنته التي نظرت إلي أسفل،  جلس بجوارها و حاوطها بذراعه، يعانقها بحنان: 

"حقك عليا ما تزعليش مني، عمري ما أقصد أزعلك". 


رفعت وجهها و نظرت إليه و سألته: 

"داد، هو حضرتك بتكره مامي؟". 


برغم ما شعر به للتو من ضيق لهذا السؤال،  فأجاب بحيادية: 

"بصي يا حبيبتي، أنا عمري ما كرهت مامتك، و لا حبيتها و ماتنسيش هي تكون بنت خالي قبل ما تكون طليقتي". 


تنهد و أردف محاوطاً وجهها بين كفيه: 

"أنا عارف عمرك ما نسيتي اللي حصل زمان، و أظن أنك دلوقتي فاهمة كل حاجة و وضحت ليكِ أمور كتيرة مش حابب أتناقش فيها خوفاً علي مشاعرك،  بس كل اللي أقدر أقوله لك إن قلبي مفيهوش غيرك أنتِ و عزالدين و علياء، أنتم كل حياتي و دنيتي". 


أومأت إليه و حاوطت جذعه بذراعيها و دفنت وجهها في صدره، و كأنها تستمد منه العاطفة و الأمان الذي تفتقده في الآونة الأخيرة، تهمس إليه بصوت خافت: 

"أنا محتاجة لك أوي يا dad ". 

احتضنها بفيض من حنانه، يعلم بداخله كم إنه مقصراً في حق إحتوائها و عليه أن يعط لها جزء من وقته، لكن كيف ذلك و هناك ما يجعل النوم لم يعرف درباً إلي عينيه. 

༺༻

يقف خلف النافذة في مكتبه الخاص داخل الشركة، يحتسي القهوة و شارداً في نقطة وهمية، يتذكر لحظاته السعيدة الأخيرة عندما كانا في ليلة من أجمل لياليهما الخاصة داخل الفندق، كيف كانت تخدعه و تفعل ذلك من خلف ظهره، يعطي لها الأمان و الثقة و لم يجد منها سوي الخداع، أجل فما فعلته يعد في قاموسه خيانة، ليس بالمعني المتعارف عليه لكن لديه خيانة الثقة التي يعطيها لها و هي فعلت ما يحلو لها هي فقط دون أن تخبره أو يكن لديه علم، هذا أكثر ما يؤلمه، و رغماً من مرور سنوات علي زواجهما لم تدرك حتي الآن أسوأ صفة لديه و هي الإنتقام من ما يسيئون إليه مهما بلغ هذا الشخص أهمية أو قرب منه، طالما ألمه و أوجع قلبه فلم تغفل جفونه إلا إذا قام بالإنتقام منه و رد الصاع صاعين و لو كانت زوجته التي يعشقها إلي حد الجنون! 


طرق علي الباب، فقال بصوت مرتفع: 

"اتفضل". 


ولجت إلي الداخل تحمل العديد من الملفات الورقية، اغلقت الباب بقدمها: 

"مستر قصي، الفايلات اللي حضرتك طلبتها مني إمبارح كلها جاهزة و مش محتاجة غير مراجعة أخيرة من حضرتك". 


لم يلتفت إليها بل أمرها و مازال علي وضعه، يحتسي القهوة و يده الأخري في جيبه: 

"حطيهم عندك يا منار و تعالي". 


فعلت ما أمرها به و ذهبت إليه، وقفت بجواره، رأت وجهه عابساً فخشيت أن يكون غاضباً منها و هي لا تعلم السبب: 

"هو أنا عملت حاجة ضايقت حضرتك؟"


أنتهي من القهوة فمد يده إليها بالقدح، أخذته و تركته علي المنضدة ثم عادت إليه و قلبها يخفق بقوة من القلق، مازال يقف هكذا و عقد ساعديه أمام صدره، سألها بنبرة تحمل من الحزن أطناناً: 

"لو حد أقرب ليكِ من روحك و طلع بيكدب عليكِ و خذلك هاتعملي إيه معاه؟". 


ظنت إنها المقصودة من حديثه أجابت بتوجس: 

"و الله ما كدبت عليك في أي حاجة و الـ c.v  بتاعي فيه كل حاجة عني". 


لم يعط لما قالته أهمية و كأنه يتحدث مع ذاته: 

"أنتِ ممكن أقل حاجة هاتعمليها إنك تبعدي عن الشخص ده و في نفس الوقت ما تقدريش تبعدي عنه، لأن محدش فينا يقدر يبعد عن روحه غير و مصيره الموت، مضطرة تعيشي معاه و عينيكِ تشوفه كل يوم لكن لغة التواصل ما بينكم هي السكوت، السكوت أحسن من كلام كتير يوجع و ممكن ينهي كل حاجة حلوة ما بينكم". 


بينما يتحدث تذكر وجه صبا صباح اليوم، تقف في الشرفة تتابعه بعينيها التي لم تكف عن البكاء، انتبه إليها و بطرف عينيه دون أن يجعلها تلاحظ إنه ينظر إليها استطاع رؤيتها تبكي بحرقة و ندم، برغم احتراق فؤاده عندما رآها في تلك الحالة لكن كبريائه المسيطر الآن جعله يتركها تتحمل نتيجة فعلتها. 


أفاق من شروده علي صوت منار،  ألتفت إليها و رآها تبكي كالطفلة و تردد: 

"حقك عليا يا مستر قصي، أنا مش عارفة عملت إيه مزعلك مني أوي كدة، أوعدك مش هكرر اللي عملته و مش عارفاه في نفس الوقت، بس بالله عليك ما تطردنيش، أنا حبيت الشركة أوي و حبيت أصحابي هنا حتي حبيتك أنت".


رفع حاجبيه بتعجب من ما تفوهت به، فأردفت:

" ما تفهمنيش غلط، أيوه بحبك زي أخويا الكبير". 


وضع كفيه علي وجهه و أطلق زفرة ينفث بها غيظه من تلك الحمقاء التي لم تدرك كلمة واحدة من حديثه

"يارب صبرني، خلاص يا منار بطلي عياط أنا ما قولتش حاجة خالص من اللي عماله تبرطمي بيه من بدري". 


توقفت عن البكاء و ذهبت إلي المكتب و ألتقطت محرمة ورقية من الصندوق الخشبي المزخرف، قامت بمسح دموعها ثم وضعت المحرمة علي أنفها و أصدرت صوتاً جعله يحدق إليها متقززاً، فسألته بإبتسامة بلهاء: 

"إيه ده يعني مش هاتطردني من الشركة؟". 


ذهب إلي مكتبه و جلس علي كرسيه قائلاً: 

"أنا لو طردتك يبقي بسبب غبائك و يبقي عندي حق، لكن أنا ممكن أتغاضي كل ده و هاسيبك تكملي معانا بس بشرط". 


اتسعت ابتسامتها من الأذن إلي الأذن الأخري، و وقفت أمام المكتب و قالت: 

"أنا تحت أمرك، أشرط زي ما حضرتك عايز، و مش هتلاقي مني غير السمع و الطاعة". 


داهمه وميض من مشهد سابق بينه و بين زوجته

«وضع كلا كفيه علي خديها، و أخذ يجفف دموعها بإبهاميه: 

"حبيبتي، أنا عارف قد إيه بتغيري عليا و الموضوع ده ما تعرفيش مفرحني إزاي، لكن أنا دلوقت محتاج حد في مهارتها في الشغل، غير إنها خبرة في مجالنا و ليها علاقات كتير بشركات تانية هتنفعنا وقت الصفقات". 


ابتلعت غصتها بعد أن رأت إصراره داخل عينيه و كم الأعذار التي لا تعني لها شيئاً، ابعدت يديه عن خديها قائلة: 

"أنا عارفة إنك عنيد و لما بتصمم علي حاجة مهما أتحايلت أو أترجيتك برضو هتفضل علي موقفك، كده وصلتني لأمر مكنتش حابة أقوله، يا أنا يا هي يا قصي"». 


عاد من ذلك المشهد و داخل عينيه وعيد بالإنتقام قائلاً داخل عقله: 

"أنتِ اللي خلتيني أختار يا صبا". 


اعتدل في جلسته و تأهب إلي ما سوف يتفوه به الآن،  تنحنح أولاً ثم سألها: 

"تتجوزيني يا منار؟". 

※الفصل العاشر※

🐺 غابة الذئاب «ما بعد العهد» 🐺

"الجزء الثالث من رواية صراع الذئاب" 

بقلم: ولاء رفعت علي


التفاعل + التعليق قبل القراءة 🔪🔪😈😂


أطفأت الفرن و فتحت الباب الزجاجي مرتدية القفاز الواقي من الحرارة، جذبت الصينية و وضعت الأخري، أخذت تستنشق الرائحة بإستمتاع ثم قامت بتقطيع البيتزا إلي قطع علي هيئة مثلثات متساوية، فتحت خزانة الأطباق و تناولت أثنين، قامت برص القطع في كل منهما، وضعت كليهما أعلي الصينية، خرجت تبحث عن الصغيرة: 

"ياسمين؟، ياسمين؟". 


تركت الصينية أعلي الطاولة المقابلة للأريكة و ذهبت تبحث عنها، خفق قلبها وجلاً، تخشي أن قد أصابها مكروه، لكن عندما وجدتها آتية من الشرفة تحمل الهرة الصغيرة و تداعبها، نظرت إليها ببراءة و قالت: 

"حلوة أوي القطة يا طنط رودي، اسمها إيه؟". 


اقتربت منها و دنت منها: 

"اسمها بوسي، أنتِ مش خايفة منها؟". 


هزت رأسها بنفي قائلة: 

"أنا بحب القطط أوي، و بابي مش بيرضي يشتري لي واحدة، بيقولي إنه بيقرف من القطط، بس هقولك علي سر بابي مش بيقرف منهم هو بيخاف منهم جداً، مرة لما كنا في القصر عند uncle  يوسف و uncle  آدم، دخلت قطة الجيران و كانت بتنط وقعت علي رجل بابي قام مفزوع و صوت جامد". 


قالتها و أطلقت ضحكاتها الطفولية فبادلتها الأخري الضحك لا سيما عندما تخيلت هذا المشهد الكوميدي


"سيبي بوسي دلوقتي، و تعالي نغسل إيدينا عشان عاملة لك بيتزا حلوة أوي هاتعجبك". 


صاحت الصغيرة بسعادة: 

"إيه ده بيتزا، الله أنا بحبها أوي". 


مدت يدها إليها و قالت: 

"تعالي أنا عاملة لك صينية كبيرة عايزاكِ تخلصيها كلها لوحدك ". 


بعد قليل... 

عادت بظهرها إلي الوراء تشعر بالتخمة: 

"تسلم إيدك يا طنط رودي، البيتزا حلوة جداً، بابي بيعملها بس ما بتبقاش كدة". 


انتبهت إليها بتمعن و سألتها بإكتراث: 

"أومال بيعملها إزاي؟". 


ابتسمت الصغيرة بمكر و سألتها: 

"هقولك بس هيبقي سر برضو؟". 


ضحكت الأخري و اجابت: 

"عيب عليكِ، سرك في بير، و بعدين مش اتفقنا إننا نبقي أصحاب؟". 


اومأت لها: 

"اه". 


"ما دام إحنا أصحاب يبقي ننادي علي بعض من غير كلمة طنط، يعني أقولك يا ياسمينا، أنتِ تقولي لي يا رودي زي عمتو ملك ما بتناديني، اتفقنا؟". 


ابتسمت الصغيرة بمرح و قالت: 

"اتفقنا يا رودي". 


جذبتها بين ذراعيها و احتضنتها، فأخبرتها  الصغيرة:

"بابي ما بيعرفش يعمل بيتزا خالص عشان كدة بيطلبها دليفري، و هو بيحبها أوي بس من إيد مامي و هي خلاص ما بقتش موجودة، بابي بيقولي هي سافرت و مش راجعة تاني". 


شعرت بالحزن حيالها فسألتها بتوجس: 

"و هي مامي حصلها إيه بالظبط؟". 


صدح رنين هاتف ياسمين، انسحبت من بين يدي الأخري قائلة: 

"هتلاقيه بابي اللي بيرن ". 


أمسكت بالهاتف و أجابت: 

"ألو يا بابي". 

.......... 

"كنا بناكل بيتزا أنا و رودي و قعدنا نلعب و نتفرج علي الكارتون". 

....... 


ألتفت إلي رودينا و أخبرت والدها: 

"أوك يا بابي، رودي معاك أهي". 


مدت لها الهاتف و قالت: 

"خدي يا رودي بابي عايز يكلمك". 


أصابها التوتر و القشعريرة التي تداهمها كلما تتحدث معه أو تراه، وضعت الهاتف علي أذنها و بصوت يكاد يخرج بشق الأنفس: 

"ألو؟". 


كان الأخر يقود سيارته و يتحدث عبر السماعة اللاسلكية: 

"أنا مش عارف أشكرك إزاي، ياسمين أول مرة أشوفها مبسوطة من فترة كبيرة". 


ابتسمت و أجابت: 

"العفو، أنا معملتش حاجة و هي ماشاء الله عليها هادية و دمها خفيف، إحنا خلاص بقينا أصدقاء".


ضحك قائلاً: 

"مش كفاية ملك أختي عليكِ مستحملاها بقي لك سنين، هيبقي كمان ياسمين لاء كده الله يكون في عونك". 


ضحكت ثم عقبت قائلة: 

"بالعكس ملك عمري ما هلاقي زيها و الحمدلله إحنا أصدقاء من أيام ثانوي و بإذن الله لحد أخر العمر". 


"ربنا يخليكم لبعض، طيب أنا يعتبر خلاص قدامي خمس دقايق و هاكون عندكم". 

༺༻

يقرأ التقرير الذي في يده للمرة المائة ثم ألقاه بغضب أعلي المكتب، بينما والدته تجلس في حالة من الصدمة و تردد: 

"نفسي أفهم أخوك ده كان دماغه بتفكر إزاي لما عمل عملته مع البت دي!، مش كفاية اللي عمله زمان و راح أتجوز غصب عني البنت الموظفة اللي كانت عايشة في حارة و ساكنة و هي و أهلها في أوضة و صالة، طول عمره كان تاعب قلبي و مش مريحني، و أبوك كان واقف معاه في أي حاجة بيعملها كأني عدوتهم اللدودة". 


أطلق الأخر زفرة يخرج بها غضبه الذي اشتعلت نيرانه للتو عندما تفوهت بجرح الماضي، طرق بقوة علي المكتب قائلاً: 

"مش قولت لك ميت مرة بلاش تفتحي في القديم، روح ماتت و ابنك مات حتي بابا اللي كان تاعب أعصابك مات، أهم كلهم ماتوا و ريحوكِ".


 حدقت إليه بإمتعاض و سألته بحدة و توبيخ: 

"جري إيه يا ولد إزاي تعلي صوتك علي مامتك و تكلمني بالأسلوب  ده؟". 


أطلق زفرة بين كفيه ثم قال من بين أسنانه يحاول تصنع الهدوء و كبت غضبه: 

"حقك عليا، و ياريت و أرجوكِ بلاش سيرة الموضوع اللي كل شوية تفتحي ده بالذات و خلينا في المصيبة اللي مستنينا و المحامي اللي خلاص كلها دقايق و هايكون هنا". 


نظرت إليه و أومأت إليه: 

"حاضر يا أحمد، مش هافتح السيرة دي تاني، بس ياريت أنت اللي تكون اتعلمت من الماضي و ما تغلطش غلطة أخوك اللي شكلنا هاندفع تمنها دلوقت و لسه ياما هانشوف". 


أخذ ينظر إليها و في عينيه آلاف الكلمات و العتاب، انتبه إلي طرق الخادمة فقال: 

"أدخل". 


ولجت إلي الداخل و أخبرت كليهما: 

"المحامي وصل يا شيري هانم و مستني برة". 


أجابت الأخري عليها بأمر: 

"قولي له يتفضل". 


نهضت و همت بالذهاب مردفة: 

"هاروح أجيب حمزة و راجعة". 


بالفعل ذهبت و قامت بفتح الباب، قابلها السكون التام، بحثت بعينيها عليهما وجدتها تغفو و صغيرها علي السرير و الدثار يغطي كليهما بالكامل، تقدمت بخطوات هادئة حتي لا تستيقظ علا و كما تتمكن من أخذ الصغير في هدوء و دون رفض من والدته مثل المرة السابقة. 


اقتربت و رفعت الدثار لتكشف عن حفيدها و كانت المفاجأة، و في لحظات صياح السيدة شيريهان يسمعه القاصي و الداني: 

"ألحقني يا أحمد، أحمد؟". 


وصل صياحها الجهوري إليه، نهض و ركض إليها حيثما يعلم مكانها، دخل إليها وجدها تقف أمام السرير الموضوع أعلاه وسادات و كأنها أشخاص نائمة 


"إزاي ده حصل؟". 

صاح و الشر ينضح من عينيه، أجابت والدته: 

"هو ده وقت أسألة، كلم الرجالة خليهم يقلبوا الدنيا عليها هي و ابنها لحد ما يلاقوهم". 


قام في الحال بمهاتفة مدير الحرس و أمره بالبحث عن علا و ابنها في جميع أرجاء الفيلا بالداخل و الخارج، أنهي المكالمة و هم بالذهاب، أوقفته والدته و سألته: 

"رايح فين؟". 


حدقها و عينيه يملؤها الوعيد: 

"رايح أدور عليها و مش راجع غير و هي و ابنها معايا، هسلمك حمزة إنما هي بقي هخليها تعرف مين هو أحمد الشريف و تكره اليوم اللي شافتني فيه". 

༺༻

صدح رنين جرس المنزل، حملت حقيبة ورقية و ذهبت لتفتح الباب، لحقت بها الصغيرة التي علم أن والدها هو الزائر


"السلام عليكم". 


ردت الأخري التحية: 

"و عليكم السلام". 


احتضنت الصغيرة والدها، بادلها العناق و ربت عليها بحنان، التفت إلي رودينا و رفع يده بشئ كان يحمله: 

"أتفضلي". 


نظرت إلي ما يقدمه و هي عبارة عن علبة من الشيكولاتة الشهيرة

"ليه تعبت نفسك، أنا عندي كل حاجة". 


ابتسم و أخبرها: 

"دي هدية بسيطة". 


تناولت العلبة بإبتسامة تغمر ثغرها: 

" Mercie". 


رفعت يدها بالحقيبة الورقية ثم قالت: 

"دي بقي حاجة بسيطة، أنا اللي عاملاها بإيديا، تتعشا بيها أنت و ياسمين، يارب تعجبك". 


كاد يتردد أن يأخذها فتدخلت ابنته و أخبرته: 

"دي بيتزا يا بابي رودي عاملاها حلوة أوي أحسن من اللي أنت بتعملها و بتوجعي لي بطني". 


كبتت رودي ضحكتها، بينما ياسين قال لها بتوعد مازحاً: 

"بقي أنا بعملك بيتزا بتوجع لك بطنك، ماشي مفيش بقي نوديلز". 


أمسكت يده و برجاء قالت: 

"خلاص يا بابي أنا بهزر معاك". 


تصنع الحزن و رسم علي ملامحه الحزن و الجدية معاً: 

"بعد إيه ما فضحتيني قدام رودينا، لا أنا زعلان". 


ضحكت رودينا رغماً عنها: 

"بس كفاية مش قادرة أضحك أكتر من كدة، الضحك بيقلب معايا بكحة شديدة". 


حدق إليها مبتسماً: 

"لاء ده الطبيعي بتاعنا، ألف سلامة عليكِ". 


"الله يسلمك". 

قالتها و أخذت تنظر إليه عينيه في صمت، تنحنح قائلاً: 

"أنا مضطر أستأذن و شكراً علي البيتزا، متأكد هاتطلع حلوة إن شاء الله". 


انتبهت إلي حديثه و اجابت: 

"العفو ". 


و نظرت إلي الصغيرة و أردفت: 

"هستناكِ يا ياسمين تيجي تاني، اتفقنا؟". 


"اتفقنا". 

قامت بمعانقتها و بادلتها الأخري العناق، و قبل أن تذهب مع والدها لوحت بيدها: 

"باي باي رودي". 


و قال ياسين: 

"مع السلامة". 


أومأت بإبتسامة و اجابت: 

"الله يسلمك، باي يا ياسمينا". 


وقفت تنظر إليهما و هما يقفان في إنتظار المصعد، لوحت ياسمين بيدها قبل أن تدخل إلي المصعد و فعلت الأخري المثل و عينيها لا تحيد عن الذي سلب عقلها و أسر فؤادها. 


و بعد أن ذهب كليهما، أغلقت الباب و تنظر إلي علبة الشيكولاتة بسعادة، لا يعلم إنه أهداها النوع الذي تفضله و تعشقه كما تحبه تماماً. 

༺༻

عاد للتو من الخارج و كان الوقت متأخراً، ربما فعل هذا عن عمد، يقضي معظم ساعات يومه في الشركة و يعود في في أواخر الليل حين وقت نومها، و ذلك لإنه لا يريد أن يلتقي بها، 

صعد الدرج و أتجه إلي غرفة صغيريه، ولج إلي الداخل فوجد ابنه نائماً و الغطاء قد أزيح عنه، اقترب منه و دثره جيداً ثم دنا منه و قام بتقبيل رأسه، ألتفت إلي صغيرته التي تحتضن الوسادة و تهمس و هي نائمة: 

"مامي، بابي، لوكا، عايزة مامي". 


وضع يده علي جبهتها، عقد ما بين حاجبيه، ثم قام بلمس وجنتها ليتأكد من إرتفاع حرارتها الذي جعلها تهذي للتو، ذهب ليبحث عن المربية، خرج من الغرفة منادياً: 

"دادة زينات؟". 


كرر ندائه فقامت إحدي الخادمات بالرد عليه من الطابق الأسفل: 

"مدام زينات نايمة عشان كانت تعبانة، حضرتك كنت عايز حاجة؟". 


"شكراً". 

أجاب بإقتضاب و أطلق زفرة لإنه سوف يضطر للولوج إلي داخل غرفة النوم حيث يوجد الأدوية الخاصة بإبنته داخل الثلاجة الصغيرة، تردد و في النهاية دخل إلي الغرفة وقعت عينيه علي الفراش، لكنه تفاجئ الفراش كما هو مرتب، ألتفت إلي الشرفة لم يجدها أيضاً هنا، وصل إلي أذنه صوت حركة آتية من داخل المرحاض و الباب مغلق، أدرك إنها بالداخل، ذهب إلي الثلاجة ليأخذ منها الدواء، أخذ يبحث عن خافض الحرارة 


فتحت باب المرحاض و خرجت مرتدية حول جسدها منشفة قطنية كبيرة و خصلات شعرها مبتلة بالماء، توقفت حينما تفاجأت بوجوده، 

كان يشعر بها لكنه يتجاهلها، أقتربت منه و توقفت بجواره، لاحظت أنه يبحث عن شئ ما و لم يجده، فسألته: 

"أنت بتدور علي حاجة؟". 


سألها بنفاذ صبر: 

"فين خافض الحرارة بتاع زينب؟". 


"أنا لسه كنت مديالها من شوية و رايحة أعملها كمدات دلوقت". 


أغلق باب الثلاجة بعنف و هم بالمغادرة، لحقت به و وقفت أمامه، وضعت يدها علي عضده، و بأعين قد جفاها النوم و لم تتوقف عن الدموع: 

"ممكن نتكلم مع بعض شوية؟". 


نظر إلي يدها التي تمسك بذراعه ثم عاد ببصره إليها، بداخله صوت يوبخه و يأمره بأن يكفيه ما يفعله و يرفق بحالتها و ضعفها أمامه، و سرعان ما صاح صوت آخر للوحش الكامن الذي بداخله يأمره غرار ذلك، و كان الفاصل هنا إلي صوت كبريائه الذي جعله قام بجذب يدها و ألقاها و قال محذراً إياها بحدة: 

"ابعدى عني أحسن لك". 


ابتلعت غصة مريرة، كاد يفتح الباب فأوقفته فأسرعت و أوقفته تسأله بأعين فاض بها العذاب: 

"و أخر البعد ده إيه؟". 


أجاب بهدوء دب الخوف في أوصالها: 

"أخره هاتعرفيه قريب أوي". 


دفعها من أمامه بحدة و غادر الغرفة قلبه يحترق قبل فؤادها الذي تمزق إلي أشلاء، أسرع للدخول إلي غرفة صغيريه، خلع ربطة عنقه و ألقاها علي الأرض، قام بفتح أول ثلاثة أزرار حيث يشعر بالإختناق، نظر إلي ابنته و تذكر أمرها،  اقترب منها و وضع يده علي جبهتها فوجد حرارتها بدأت بالإنخفاض قليلاً و العرق ينتشر علي جانبي جبهتها، رأي وعاء علي الكمود مليئ بالماء و بجواره قطعة قماش قطنية، أمسك بها و غمرها في الماء و قام بـ عصرها ثم وضعها علي جبهة الصغيرة. 


ظل يكرر ما فعله عدة مرات، أمسك بمقياس الحرارة الرقمي و قام بإدخاله في فمها أسفل لسانها، نظر إلي الشاشة الرقمية و جد حرارتها عادت إلي معدلها الطبيعي، زفر بأريحية و ترك المقياس علي الكمود. 

تمدد بجوارها و جذبها بين ذراعيه، استيقظت عندما شعرت به و بصوت يغلب عليه التعب و النوم: 

"أنت جيت أمتي يا بابي؟". 


ابتسم إليها رغماً عن ما يشعر به داخله و أجاب بهمس، يده تلمس خدها الممتلئ: 

"أنا لسه جاي من شوية". 


احتضنته و قالت: 

"نام جمبي و ما تسبنيش تاني عشان أنت بتوحشني أوي". 


"و أنتِ كمان بتوحشيني أوي يا روح بابي". 


قامت بتقبيل خده و أخبرته بإبتسامة: 

"Ilove you". 


" Ilove you too". 

و احتضنها بقوة، و هي أيضاً: 

"بابي ممكن تحكي لي حدوتة الأميرة زوزو و الشاطر قصي". 


ضحك و تذكر تلك القصة القصيرة التي لا تمل منها مهما قام بسردها عدة مرات، تنهد و قال: 

"أمرك يا أميرة زوزو، كان يا ما كان في سالف العصر و الزمان، كان فيه أميرة جميلة حبها الشاطر قصي و هي مكنتش بتحبه لأنها كانت متعلقة بواحد تاني و فاكرة إنها بتحبه، لكن قصي ما استسلمش لحد ما أتجوز الأميرة اللي مكنتش طيقاه و لا بتحبه في الأول، هو كان غبي عشان عاملها بقسوة و كان بيجبرها تحبه بالقوة لحد ما كان هيخسرها في يوم، مرت الأيام و بقي يعاملها بحنية لحد ما بدأت تحبه و امتلك قلبها زي ما هي ملكة قلبه، بعد كدة ربنا رزقهم بولد و بنت زي القمر، و في يوم من الأيام الأميرة عملت حاجة زعلته منها أوي، خلته مش قادر يسامحها و لا يعمل معاها إيه، هو برغم كل ده بيحبها و مش قادر علي بعدها رغم إنه رجع يقسي عليها من تاني لما غلطت في حقه، هو نفسه تفوق و تبطل عناد و غباء اللي ممكن يخليها تخسر كل حاجة، لحد دلوقت هي ما تعرفش هي بالنسبة له إيه، هي صبا قلبه و روحه... 

توقف عن الحديث حينما رأي وجه ابنته الغاضب، سألها بقلق: 

"مالك يا زوزو؟". 


اجابت بغضب: 

"بتضحك عليا و بتحكي لي قصتك أنت و الست مامي!، قوم يالا روح لها و ما تنمش جمبي تاني". 


دفعته في صدره بيديها الصغيرتين، لم يتمالك نفسه و أطلق العنان لضحكته، جذبها إليه قائلاً: 

"تعالي هنا ما تزعليش، و بعدين أنتِ و مامي واحد، أنتِ غيرانة منها؟". 


زمتت شفتيها لأسفل و حاوطت وجهه بكفيها: 

"مش بغير، بس أنت حبيبي أنا و بس". 


ظل ينظر إلي ملامحها، كم تشبه والدتها حتي في خصالها مثل ملامحها، لا ينكر كما طرب قلبه ذلك، احتضنها و أخبرها: 

"أنتِ و ماما و مالك، كلكم حبايب قلبي و روحي". 


و أمام الغرفة تقف و تسترق السمع، ابتسمت بعد أن ظهر أمامها شعاع أمل جعل قلبها يشعر و لو بالقليل من الراحة، تحركت و عادت إلي غرفتها، و بالعودة إليه كان يتحدث إلي ابنته و عينيه نحو الباب حيث رأي ظلها عندما كانت تقف منذ أن بدأ بسرد القصة إلي ابنته، يعلم الآن ما يجول في رأسها من أفكار و هذا ما يريده في الوقت الحالي إستعداداً للقادم! 

༺༻

تتقلب علي الجانب الأيمن تارة و الأيسر تارة أخري، تشعر بالحر فأستيقظت تتصبب عرقاً، نظرت إلي السقف لتجد المروحة لا تعمل، أطلقت زفرة بحنق و قالت: 

"أنا عارفة هو يوم أجازة باين من أوله". 


خرجت من الغرفة تنادي: 

"ماما، يا ماما؟". 


خرجت والدتها من المطبخ و سألتها بقلق: 

"في إيه يا بنتي، الناس تصحي تقول صباح الخير لكن أنتِ صاحية و عمال تجعري يا ماما، يا ماما". 


نظرت إليها بإمتعاض: 

"أنا نفسي أفهم، هي المروحة عملت لك إيه عشان تطفيها عليا و أنا نايمة!". 


"أنا لاقيت الجو برد و أنتِ نايمة من غير غطا خوفت لتتعبي و يجي لك برد، فطفيتها". 


ضغطت بقوة علي أسنانها من فرط الغيظ: 

"و إشمعنا ما بتعمليش كده مع ابنك اللي نايم ليل و نهار تحتها و مشغل التكيف كمان". 


أجابت الأخري بدهاء حتي لا تثير غضب ابنتها: 

"يا هبلة أنتِ مش زيه، أنتِ رقيقة و زي البسكوتة مش بتستحملي حبة برد، لكن هو ماشاء الله لو نام من غير هدوم تحت التكيف مش هيحصله حاجة". 


"ماشي يا ماما، اضحكي عليا بكلمتين عشان أسكت، أنا بعد كدة هقفل عليا الباب بالمفتاح من جوة". 


ضحكت والدتها ثم سألتها: 

"رايحة فين كدة، برضو عايزة تحكي لي إيه اللي حصلك في الشغل و مطير النوم من عينيك و خلاكِ سهرانة للصبح؟". 


هربت من النظر إليها و اجابت كذباً: 

"قولت لك مفيش حاجة حصلت، كان عندنا ضغط شغل بيخليني مش مركزة، و كنت سهرانة عشان شربت قهوة إمبارح و هي اللي خلتني سهرانة للصبح". 


رفعت والدتها إحدى حاجبيها و قالت: 

"ماشي يا منار، براحتك مش هسألك تاني، و أنتِ بنفسك اللي هتيجي تحكي لي بنفسك بس بعد ما تاخدي علي قفاكِ زي كل مرة". 


تخشي أن تخبرها بالأمر الذي يحيرها و تخفيه عنها لأنها تعلم جواب والدتها و كم التوبيخ الذي سوف تتلقاه منها فأثرت الصمت، همت بالذهاب و العودة إلي غرفتها: 

"لما هيبقي فيه هابقي أحكي لك ". 


"استني عندك". 

فعلت كما قيل أمرتها والدتها و سألتها: 

"نعم يا ماما؟". 


"أبوكِ أتصل بيا إمبارح و بيشتكي منك إنك ما بترديش علي إتصاله و لا بتسألي حتي عليه". 


اجابت الأخري بجدية و حزم: 

"و إيه الجديد في كدة!، و لا عشان طولت عليه المرة دي و بقيت أتجاهله!". 


حدقت إليها والدتها بحزن و قالت: 

"معلش عشان خاطري، مهما كان دي أبوكِ و شايلة اسمه، ملكيش دعوة باللي عمله معايا زمان". 


تحولت ملامحها الغاضبة إلي أخري حزينة باكية، تتذكر مشاهد من الماضي عندما كانت في الثامنة تحضن شقيقها الذي يصغرها بأربعة سنوات داخل الغرفة المظلمة و يري كليهما والدهما يقبض علي تلابيب والدتهما، يزمجر كالوحش: 

"هاتي الفلوس أحسن لك بدل ما أقتلك". 


صرخت الأخري بسخط: 

"مش هديك حاجة، حرام عليك بدل ما تصرف علي عيالك أنا اللي بشتغل و بصرف عليهم بدالك و أنت المرتب بتاعك بتخلصو علي مزاجك و النسوان و أنا و عيالك نولع بجاز، أنا مش هديلك حاجة و أعمل اللي تعمله". 


صاح بغضب عارم: 

"بقي كده، أنا مش همد إيدي عليكِ المرة دي بس هاعمل اللي هخليكِ تيجي تبوسي رجلي و هاتديني الفلوس و فوقيهم بوسة كمان". 


لمحة من مشهد آخر

فتحت والدتها الباب وجدت ضابط شرطة و معه بعض الرجال، فسألته: 

"خير يا حضرة الظابط، فيه حاجة حضرتك؟". 


أجاب الأخر قائلاً بجدية: 

"مطلوب أخلاء الشقة لمالكها الأستاذ مسعد". 


صاحت بصدمة: 

"مسعد مين؟، و شقة إيه اللي هنخليها، دي شقتنا بإسم جوزي و أخدها ورث عن حمايا و أتكتبت بإسمه". 


ظهر من خلف الضابط رجل ذو ملامح مخيفة: 

"ايوه كانت بتاعته و هو باعها ليا من سنتين و المدام قاعدة فيها و سيبتها رأفة بحالهم هي و عيالها لكن أنا عايز أستلم شقتي و هي قاعدة فيها غصب، دي ينفع يعني يا باشا؟". 


ركضت إلي والدتها تتشبث بها بخوف

"الراجل ده كداب يا فندم، أنا عمري ما شوفته و لا أعرفه قبل كدة، و الشقة دي زي ما قولت لحضرتك بإسم جوزي، ثواني هادخل أجيب لحضرتك العقد". 


ذهبت إلي الغرفة لتبحث عن عقد ملكية الشقة لم تجده،  أخذت تبحث في كل رف داخل الخزانة و في كل درج بالكمود و طاولة الزينة لم تجده، هنا تذكرت حديث زوجها عندما توعد لها، أخذت تلطم خديها و تنوح


عادت منار من محيط الذكريات الأسود بجراح لم تندمل بعد، فقالت من بين دموعها: 

"عايزاني أسامحه علي إيه و لا إيه، تحب أفكرك لما الحكومة جت خرجتنا بالقوة و عفشنا أترمي في حوش العمارة، و روحت بعدها لبابا تتحايلي عليه عشان خاطر إن أنا و أخويا ما نتبهدلش، فاكرة قالك إيه وقتها؟، تحبي أعيد لك كلامه و لا تعيديه مع نفسك عشان تفتكري!". 


صاحت بها والدتها لتنهيها: 

"كفاية، كفاية بقي". 


صرخت الأخري بإنهيار و دموع يتمزق لها القلب: 

"لاء مش كفاية، لأنه مغلطش فيكِ لوحدك، غلط في حقنا إحنا كمان يا عياله، و زي ما في عقوق الوالدين، فيها حاجة اسمها عقوق الأبناء و هو أصلاً عمره ما اعتبرنا ولاده، أب بالأسم و بس، فأنتِ بقي اللي كفاية تجيبي لي في سيرته، و لو كلمك أو سألك عليا تاني قولي له منار بتعتبرك مش موجود". 

بعد أن أطلقت كلماتها ركضت سريعاً إلي غرفتها و أغلقت الباب، و أطلقت لعبراتها العنان، تبكي مثل الطفلة الصغيرة تعقد ذراعيها علي جسدها و كأنها تعانق نفسها. 

༺༻

استيقظت للتو ثم نهضت بجذعها، تعتصر عينيها بألم بسبب ألم الرأس الذي أصابها للتو، فتحت عينيها و رأت إنها في غرفتها، اتكأت بيدها لكي تتحرك، تأوهت من وخزة إبرة، نظرت إلي ظهر كفها وجدت إبرة الخاصة بتوصيل المحلول المغذي، حاولت أن تتذكر ماذا حدث لها و أين كانت، وصل إلي أنفها رائحة طعام شهية، شهقت و نهضت علي الفور، لاحظت هيئتها في المرآة قبل أن تغادر الغرفة، ترتدي منامة حريرية من كنزة بلا أكمام و سروال يصل إلي منتصف فخذيها، حاولت جاهدة أن تتذكر كيف ارتدت تلك المنامة التي باتت لم ترتديها. 


ذهبت مسرعة إلي المطبخ، تسمرت في مكانها حينما رأته يقف أمام الموقد، يرتدي منشفة قطنية حول خصره، يغني و يقلب الطعام في الإناء و المقلاة المجاورة إليه، ماذا يفعل هنا و مَنْ سمح إليه بالدخول و يقف في المطبخ يعد الطعام و يغني كما و كأنه مازال زوجها! 


وصل غضبها إلي قمته فصاحت: 

"بتعمل إيه عندك؟". 


التفت إليها مبتسماً: 

"الحمدلله بقيتِ كويسة، حمدالله علي السلامة ". 


أشارت إليه دون الحاجة إلي المشاجرة و معرفة الجيران بما يحدث بينهما، قالت بهدوء: 

"أطلع برة". 


أجاب ببرود و الإبتسامة لا تفارق محياه: 

"ده بدل ما تشكريني إنك لما تعبتي و أغمي عليكِ في المكتب، مارضتش أسيبك، شيلتك و اخدتك علي هنا و جيبت لك الدكتور و قال اللي عندك ده عشان ما بتاخديش العلاج و الضغط عندك مش مظبوط، خلتني جمبك و عشان أخد بالي من الولاد، بعد كل ده تطرديني!". 


تنظر من حولها تبحث عن ابنيها، فقال إليها: 

"الأولاد في النادي و بعد ساعة هاروح أجيبهم ". 


جزت علي أسنانها ودت أن تقذفه بالمقلاة التي خلفه علي الموقد

"أنا و لا هزعق و لا هصرخ، بس ياريت بكل أدب و احترام خد بعضك و أمشي من هنا". 


أطفأ الموقد و التفت إليها قائلاً: 

"حاضر يا كارين، هنفذ لك اللي أنتِ عايزاه، بس أنا مستني هدومي تنشف عشان غسلتها و نشرتها برة في البالكونة، قدامها ساعة عقبال ما تنشف، أنا جيت أدور علي هدومي في الدولاب ما لقتش أي حاجة ليا". 


نظرت إليه بازدراء و أخبرته: 

"لمتهم لك و حطتهم في شنط الزبالة و أديتهم للبواب يخليهم عنده عشان لما تيجي تسأل عليهم يديهم لك، ما تنساش و أنت نازل تبقي تعدي تاخدهم". 


جز علي أسنانه بحنق، يعلم كم هي ماهرة في الكيد، تريد إثارة غضبه لكنه لم يعط إليها تلك الفرصة، أومأ لها مبتسماً: 

"شكراً يا فنانة، كله من ذوقك". 


نجح في سبر اغوارها، صاحت في وجهه بأمر: 

"أنا داخلة جوة هقعد في أوضتي لحد ما هدومك تنشف تلبسها و مش عايزة أشوف وشك هنا في البيت خالص". 


استدارت و ذهبت ثم عادت مرة أخري لتسأله: 

"أنت مين اللي سمح لك تغيري لي هدومي و تلبسني البيچامة اللي بقيت أكرهها دي؟". 


اقترب نحوها حتي أصبح قريباً منها، عقد ساعديه أمام صدره و أخبرها بنظرة يعلم مدي تأثيرها عليها: 

"هايكون مين غيري اللي يقدر يعمل كدة!، أنا كان كل همي أغير لك هدومك و ألبسك حاجة تنامي و أنتِ مرتاحة فيها، لاقيت البيچامة دي لأن بحبها عليكِ، لبستها لك، أنا فاهم اللي بيدور في دماغك كويس، ما تخافيش أنا ما قربتش منك لأن عارف حدودي كويس، ده غير حافظ كل حتة فيكِ، مش محتاج أشوفك من غير هدوم،  أنا مش مراهق يا كارين". 


كادت تشعر بالضعف أمامه و تسير خلف قلبها، لكن قبل أن يصدر منها ردة فعل يدرك منها هذا الضعف، داهتمه بسخرية و تعنت: 

"و لما أنت عارف حدودك كويس، إيه اللي دخلك بيت ما بقاش بيتك، و تقلع و تغسل هدومك و عمال تعمل في أكل و واخد راحتك علي الأخر، هي حدودك دي بالظبط مالهاش نهاية و لا إيه إن شاء الله!". 


اقترب خطوة فتراجعت إلي الوراء خطوتين لتجد نفسها محاصرة بينه و بين الطاولة الرخامية: 

"هو مش بيتي بس بيت ولادي، و ده وضع مؤقت و هترجع كل حاجة لوضعها الطبيعي، و أولهم أنتِ". 


ابتلعت ريقها و أغلقت عينيها، و بصوت يكاد يخرج من بين شفتيها بعد إنهيار حصونها حجر تلو الأخر: 

"أبعد عني يا يونس". 


أقترب بشفتيه من عنقها و سألها بهمس: 

"ما تكذبيش علي نفسك، أنتِ مش عايزاني أبعد، بالعكس عايزاني أقرب منك أكتر". 


حاوطها بين ذراعيه فشعر بـ رجفة جسدها بين يديه فأردف: 

"كارين، إحنا مالناش غير بعض، أنتِ ملكي و أنا ملكك، بلاش تخلي عنادك يحرمنا من بعض، قصة حبنا مش مجرد قصة حب عادية، كل اللي يعرفنا لما بيحكو عنها كأنها أسطورة من أساطير قصص العشاق". 


فتحت عينيها و نظرت صوب خاصته و سألته و حصونها أصبحت أطلال بين يديه: 

"أنت عايز مني إيه دلوقت؟، مش كفاية جرحك ليا و خيانتك اللي عمري ما هسامحك عليها". 


أمسك طرف ذقنها و أخبرها بنظرة عاشق يتوسل إلي معشوقته: 

"أنا عارف اللي عملته غلط كبير و غباء مني، بس أقسم لك بالله ما لمستهاش، مجرد جواز علي ورق مش أكتر، و هاروح أطلقها حالاً بس تسامحيني و نرجع لبعض". 


اجابت بنبرة قد أوشكت علي البكاء: 

"و لو رجعنا ما أقدرش أوعدك هانرجع زي الأول، جرحي صعب يتداوي". 


نظر إلي شفتيها ثم عاد ببصره صوب عينيها و قال: 

"أنا اللي جرحتك و أنا اللي هداوي جرحك، بعشقك أوي يا كارين و مش قادر أعيش بعيد عنك أكتر من كدة". 

أنهي حديثه بإلتقاط شفتيها في قبلة و عناق أفاض بهما بكل مشاعره إليها، جعلها لم تكن قادرة علي الرفض أو حتي دفعه عنها، لأن الآن الكبرياء قد غفي في سبات عميق و المسيطر عليها هو القلب، فؤادها المتيم به. 


أخذ يقبل كل إنشاً في وجهها و يهبط إلي عنقها ثم إلي جيدها و يديه تحيط خصرها ليحملها و جعلها تجلس فوق الطاولة الرخامية، يغمر هما الشوق، هيهات و قد قطع تلك اللحظة رنين الجرس، دفعته في صدره و عادت إلي وعيها. 


"إيه ده مين اللي جاي لك علي الصبح؟". 


نظرت إليه بإمتعاض و أشارت إليه: 

"خليك مكانك ما تتحركش عقبال لما أشوف مين". 


أوقفها و أمسك يدها قائلاً: 

"أنتِ هاتستهبلي، إزاي هاتروحي تفتحي الباب بالمنظر ده؟". 


جذبت يدها من يده و اجابت: 

"أنا هاروح ألبس حاجة الأول يا ذكي، و بعدين الكل عارف إن إحنا مطلقين إزاي هاتفتح و حد يشوفك عندي و كمان هتخرج لهم بالفوطة حوالين وسطك!". 


زفر بحنق فقال علي مضض: 

"اتفضلي انجزي و لو حد غريب ما تفتحيش". 


لوحت بيدها بعدم إكتراث إلي ما أخبرها به، ركضت إلي غرفتها و أرتدت مأزر طويل و ذهبت إلي الباب، ألقت نظرة من العدسة الزجاجية، شهقت بخوف، عادت إلي هذا المناظر داخل المطبخ، رأي وجهها الشاحب فسألها: 

"في إيه مالك، مين اللي بيرن الجرس؟". 


"قصي، أعمل إيه، يادي المصيبة، لو شافك هنا هاتحصل كارثة فوق دماغي و دماغك، منظري هيبقي زبالة قدامه، منك لله". 


"إهدي و ما تخافيش، أنا هادخل استخبي في الأوضة، و أنتِ روحي أفتحي له و أقعدي معاه لحد ما هايمشي، سهلة و بسيطة، و اهدي كدة عشان ما يشكش في حاجة، قصي ذكي جداً ده من بصة واحدة في عينيكِ و أنتِ في الحالة دي هايفهم علي طول". 


أشارت إليه نحو الخارج و قالت بصوت خافت: 

"أنت لسه هاترغي، أخلص روح أستخبي بسرعة و أقفل عليك الباب". 


و بعد أن دلف إلي الغرفة و أغلق الباب، ذهبت لتفتح الباب و تظاهرت كأنها مستيقظة من النوم للتو. 


يمسك هاتفه في يده و يسألها: 

"إيه يا كارين،  عمال أتصل عليكِ من إمبارح ما بترديش". 


أجابت بتوتر: 

"أصلي كنت تعبانة فعملت الفون silent و نمت و صحيت علي صوت الجرس، أتفضل". 


أشارت إليه فولج إلي الداخل، اخترقت رائحة الطعام أنفه، نظر إليها فوجدها تنظر نحو باب الغرفة المغلقة: 

"أنتِ كنتِ نايمة و لا بتعملي أكل؟". 


انتبهت إليه و غرت فاها ثم اجابت: 

"لاء، قصدي كنت عاملة فطار لچوليانا و رسلان و السواق خدهم علي النادي فقولت أنام شوية و أصحي أروح أجيبهم، كويس أنك صحتني". 


أومأ لها و حاول أن يصدقها، فهو كما أخبرها شقيقه، من النظرة الواحدة يدرك الكذب من الصدق لاسيما أقرب الناس إليه


"واقفة عندك ليه ما تيجي تقعدي". 


ابتسمت لتخفي التوتر الذي علي وشك فضحها أمامه: 

"ما أنا كنت لسه هاقعد، كنت بس هسألك تشرب إيه و لا لسه ما فطرتش؟". 


"تعالي أقعدي، أنا مش هفطر دلوقت". 

فعلت كما أمرها: 

"بس قولي أنت، إيه المفاجأة الحلوة دي، لازم يعني ما أردش علي الفون عشان تقلق و تيجي تطمن عليا؟". 


تنهد بعمق و أخبرها بنبرة مليئة بالشجن: 

"و الله يا كارين ربنا اللي عالم باللي أنا فيه، و مشاكل جوة الشغل و برة الشغل، مش عارف ألاقيها منين و لا منين". 


"إيه ده أنا كنت بقول عليك ديماً جبل، إيه اللي حصلك؟". 


أخرج من جيبه سيجاره و القداحة، أنزلقت من يده، فأنحنت مسرعة لتمسك بها و تعطيها إليه،  نظر إلي ظهر يدها فأمسكها برفق: 

"إيه ده، أنتِ كويسة؟". 


نظرت إلي الإبرة التي تخترق وريد يدها و اجابت بتوتر: 

"أنا الحمدلله بخير، أصل كنت تعبانة و روحت كشفت علقوا ليا محلول و نسيت أشيلها". 


"أوعي تكوني ما بتاخديش علاجك؟". 


"لاء باخده بس اللي حصلي كان نتيجة إجهاد و تعب و مكنتش باكل كويس". 


ابتسم بمكر و سألها: 

"و يا تري الإجهاد ده بسبب قلة الأكل و لا من كتر التفكير في حبيب القلب؟". 


"بس ما تجبليش في سيرته، أنا بحاول أنسي أحسن بدل ما أروح أخنقه". 

كانت ردة فعلها المبالغة زادت من شكوكه أن تخفي أمر ما، نهض و هو يشعل سيجاره: 

"أنا هاروح أشرب السيجار في البالكونة، اعملي لي فنجان قهوة و تعالي عشان عايزك في موضوع". 


ابتسمت بترحاب و قالت: 

"أحلي فنجان قهوة للكينج، روح و أنا هعملها و جاية لك". 


ولج إلي داخل الشرفة و ينفث دخان السيجار، انتبه إلي الثياب المعلقة علي المشجب الداخلي، أقترب منها و تأكد إنها ثياب رجالي،  بنطلون چينز و قميص قطني و فانلة و سروال و جوارب أيضاً، لم ينتظر أكثر من ذلك و قام قطع الشك باليقين، أطفأ سيجاره ثم ألقاها من الشرفة،  أخرج هاتفه و قام بالإتصال علي شقيقه، عاد إلي الداخل و يسمع صوت رنين الهاتف يأتي من غرفة الأطفال، ذهب ليأتي به من الداخل و عينيه صوب الباب المغلق لغرفة النوم، أتجه إليه، بينما هي تأخذ الفنجان من ماكينة عمل القهوة و وضعته أعلي الصينية ثم ذهبت إليه، لم تجده داخل الشرفة لكن رأت الثياب المعلقة بالداخل، شهقت و ألقت ما بيدها، عادت إلي الداخل لتجده يضع يده علي مقبض باب غرفة النوم و كاد يفتحه، أوقفته بتوسل: 

"قصي استني". 

༺༻

"أتفضلي يا مدام علا، معلش هي الشقة ضيقة بس فيها حبة هوا يردوا الروح، يوه نسيت أعرفك بنفسي، أنا خالتك أم حسين و أبقي جارة عمك صابر، بيته قصاد بيتنا". 


 سألتها الأخري بعدما شعرت بالطمأنينة هنا في هذا المكان الهادئ، و رغماً من مظهره الرث يكفي إنه بعيداً عن السيدة شيريهان و ابنها الذي حاول الإعتداء عليها و يتوعد إليها بالأذي، كما تخشي علي ابنها من شرهما: 

"و المقدمة و الإيجار هيبقوا كام يا حجة أم حسين؟". 


أجابت السيدة بترحاب وإبتسامة:

"عمك صابر ربنا يبارك لك فيه دفع كل حاجة، مقدمة و إيجار خمس شهور، هو أنتِ تبقي بنت أخوه زي ما قالي؟". 


أدركت علي الفور أن العم صابر أخبرها ذلك حتي يتجنب أحاديث أهل الحارة، هزت رأسها بالإيجاب قائلة: 

"اه، هو عمي". 


ربتت الأخري علي ذراعها بـ ود و حنان: 

"ربنا يخليكم لبعض يا حبيبتي، عم صابر ده راجل طيب و أمير و كل أهل الحارة هنا بيحبوه، أسيبك أنا بقي تاخدي راحتك و هابقي أبعت واحدة تنضف لك الشقة". 


"لاء، قصدي شكراً مفيش داعي، أنا هروقها بنفسي". 


ابتسمت السيدة و قالت: 

"علي راحتك يا حبيبتي، اسيبك أنا بقي عشان أنا سايبة الأكل علي النار زمانه أتحرق، فوتك بعافية". 


ذهبت أم حسين و أغلقت الباب خلفها و أصدر صوتاً أفزع الصغير الذي ألقي بنفسه بين ذراعي والدته بخوف قائلاً: 

"حمزة خايف يا ماما". 


ربتت عليه بحنانها الفياض و أخبرته: 

"ما تخافش يا حبيبي، إحنا هنا في أمان". 


نظر إليها و ببراءة قال: 

"الراجل الوحش هيجي يخطفنا تاني، و يخلي حمزة يعيط و ماما تعيط". 


احتضنته بقوة تبث إليه الشعور بالأمان: 

"ما تخافش يا حمزة، الراجل الوحش ده مش هيعرف يوصلنا تاني لأننا بعيد عنه، و بعدين حمزة راجل شجاع ما بيخافش من حد". 


عانقها بقوة و أخبرها: 

"حمزة شجاع و بيحب ماما أوي". 


"و أنا روحي فيك يا قلب ماما". 

قامت بتقبيل وجنته و ظلت تحتضنه، شردت في أحداث أمس و التي كانت بالنسبة إليها كالمعجزة... 


فتحت الخادمة الباب و تحمل صينية الطعام،  حدقت إليها علا بعدائية و قالت: 

"أنا مش هاكل حاجة  أنا و ابني من الأكل ده غير لما تاكلي منه أنتِ الأول". 


أخبرتها الأخري بصوت خافت: 

"أطمني يا مدام علا، أنا جاية لك من طرف عم صابر، هو بيقولك جهزي نفسك أنتِ و ابنك عشان هيجي لك بعد ساعة و هيهربك من هنا، ست شريهان رايحة مشوار و البيه ابنها بيحب ينام في الوقت ده". 


سألتها علا بتوجس: 

"طيب و الحراسة اللي برة دي كلها هنهرب منها إزاي؟". 


أجابت الفتاة بثقة: 

"إزاي دي بتاعتي، طقم شاي ليهم كلهم يتحط لهم منوم فيه يهد جبل و بكدة يقدر عم صابر يدخل ياخدك و تهربوا علي طول و أنا هابقي أراقب لكم الجو". 


بعد قليل، جاء إليها بالفعل العم صابر و أشار إليها: 

"يلا أتحركوا بسرعة قبل ما حد يصحي من اللي برة و لو أتمسكنا هانروح في ستين داهية". 


كان يتمسك الصغير بيدها و يتلفت من حوله بخوف، سارت خلف العم صابر تتبع خطواته، رأت جميع رجال الحراسة في الخارج يغطون في النوم، عبروا بوابة صغيرة تقع في خلف الحديقة و كان في إنتظارهم سيارة أجرة


"يلا أركبوا و خلي بالك من ابنك و خدي التليفون ده عشان أعرف أكلمك و أطمن عليكم أول ما توصلوا". 


سألته قبل أن تولج إلي السيارة: 

"طيب و أنت يا عم صابر هاتعمل إيه؟". 


"ما تقلقيش عليا، أنا هارجع مكاني علي البوابة و هعمل نفسي نايم زيهم عشان محدش يشك في حاجة، أنتِ لحد دلوقت ما تعرفيش الست دي و ابنها ممكن يعملوا فيكِ إيه أنتِ و ابنك". 


خفق قلبها من الخوف و خاصة علي ابنها فسألته بتوجس: 

"هم بيعملوا معانا كده ليه، أنا قولت لهم مش عايزين منكم حاجة و يسيبوني في حالي أنا و ابني". 


اجاب عليها و يشعر بالشفقة عليها: 

"أنتِ غلبانة أوي يا علا يا بنتي، اللي ما تعرفهوش و اللي المحامي المفروض جاي عشان يعلنه في وجود ابنك، هو أن يسري بيه الله يرحمه كاتب كل أملاكه بإسم حمزة ابنك و أنتِ اللي هاتبقي واصية عليه، الحاجة الوحيدة اللي سابها لمراته و ابنه الكبير الفيلا و و فلوس في البنك بإسم مراته، برغم اللي كانوا بيعملوه معاه مارضاش يسيبهم متبهدلين من بعده". 


كانت تستمع و لم تصدق أذنيها، فقالت: 

"ده لو اللي أنت بتقوله حقيقي كده ممكن يخلصوا من أنا و قبلي ابني لو عرفوا بالخبر ده". 


"أنا كنت عارف من فترة كبيرة و من قبل وفاة يسري بيه الله يرحمه، و وصاني أخد بالي منكم و ربنا قدرني و لحقت أنقذكم من ايد الشياطين اللي جوه، يلا اركبي يا بنتي و ربنا يستر طريقكم، السواق هيوصلك لحد باب البيت هتقابلك واحدة اسمها أم حسين". 


عادت من طيات الذاكرة إلي الوقت الحالي، استمعت إلي رنين الهاتف داخل حقيبتها،  قامت بأخذه من داخل الحقيبة، أجابت: 

"ألو يا عم صابر، الحمدلله إحنا وصلنا بالسلامة ". 


"طيب الحمدلله يا بنتي ربنا يحفظك أنتِ و ابنك". 


"يارب، طمني عليك و قولي هم عرفوا؟". 


أخبرها بصوت خافت: 

"أيوه عرفوا، و مدام شيريهان قعدت تزعق في الخدم و كل اللي موجودين، و ابنها خلي الرجالة كلهم يقلبوا عليكِ الدنيا و عيونه بتطق شرار". 


"بالله عليك يا عم صابر، خلي بالك من نفسك،  و لو فيه أي جديد  بلغني". 


"عينيا يا بنتي و أنتِ كمان لو في أي حاجة ابعت لي علي طول و أنا عينيا ليكِ ". 


"تسلم لي ياعم صابر". 


" يلا مع السلامة، في حفظ الله". 


"الله يسلمك". 


أنهي مكالمته و نهض من مكانه ليذهب و يري ماذا حدث حتي الآن، وجد باب غرفة الأمن يندفع علي مصرعه و ولج إلي الداخل أحمد بطوله الفارع و علي يمينه و يساره يقف رجاله، ابتلع ريقه ريقه بتوتر و خوف ثم سأله: 

"خير يا أحمد بيه فيه حاجة؟"


تكملة الرواية من هنا


بداية الروايه من أولها هنا






تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close