أخر الاخبار

نعيمي وجحيمها الفصل الثاني والتالت بقلم أمل نصر كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات

 نعيمي وجحيمها

الفصل الثاني والتالت بقلم أمل نصر

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

الفصل الثاني 

واقفة باعتدال وأناقة، فاردة ظهرها بعزة، من يراها لايصدق أنها مولودة في حارة، فملابسها المهندمة وأسلوبها الراقي في التعامل يعطي صورة مثالية لكل فتاة طموحة مثلها، جاهدت وثابرت لكي تصل لهذه المكانة، في شركة عريقة مثل هذه ومع رجل كعامر الريان، لا يرحم ولا يتساهل بعمله، رغم طيبته ومودته الدائمة لها؛ كانت ممسكة بإحدى الملفات، تنتظر انتهاء رئيسها ورئيس الشركة كلها من مراجعة إحدى العقود قبل أن يمضي بقلمه عليه، رفع رأسه إليها سأئلًا بملل:

- هو انت عايزة الإمضة ضروري النهاردة؟

تبسمت بدهشة قائلة :

- مش انا اللي عايزة ياعامر بيه، دا الشغل هو اللي عايز !

عوج فمه بفكاهة وهو ينظر لورق العقود أمامه على المكتب قبل أن يعود اليها قائلًا:

- بس النصوص اللي في العقد ده كتير قوى، وحاطين شروط كمان ورغي كتير، لا بقولك إيه؛ انا زهقت .

ختم جملته وهو يدفع بملف العقد امامه على المكتب ناحيتها، ضحكت هي بعدم تصديق :

- الله، امال مين بس اللي هايمضي ياعامر بيه؟ اجيب حد من الشارع يعني يمضي مثلًا؟

- وتجيبي من الشارع ليه ياستي؟ هو انا ماعنديش ولاد بقى عشان يمضوا ويشيلوا عني؟

قطبت سائلة بدهشة:

- ولاد! انت قصدك إيه ياباشا؟

أجابها وهو يخلع نظارته ويجيبها منتهدًا بتفكير:

- قصدي اني كبرت يا كاميليا ومعدتش عندي صحة 

للضغط زي زمان.

حركت رأسها بعدم فهم فتابع :

- انا قررت استسلم لزن مراتي ياكاميليا واسافر اوروبا اخدلي أجازة طويلة شوية وبالمرة أكمل علاجي في المانيا.

- طب والشغل ياعامر بيه، مين اللي هايقوم بيه؟

سألت بحيرة ، أجابها :

- ماهو دا اللي كنت عايز افاتحك فيه من الاول يا ست كاميليا ، بصراحة كدة انا عايزك تشدي حيلك شوية في الشغل الفترة اللي جاية، لأن الشركة هاتبقى من ضمن المجموعة اللي بيديرها جاسر ابني، وانتِ عارفة ابني بقى وقته قليل ومسؤلياته كتير.

تمتمت كاميليا بذهول أمام الرجل:

- جاسر بيه! بس دا عصبي جدًا والشغل معاه صعب أوي كمان.

ضحك الرجل مخاطبها:

- وافرضي بس انه عصبي والشغل معاه صعب كمان؛ انتِ قدها ياكاميليا ولا انت معندكيش ثقة في نفسك.

اومات له تتصنع الأبتسام وهي تغمغم بداخلها:

- وأنه ثقة دي اللي تنفع مع ابنك؟!

................................


تلعثمت الكلمات بفمها بعد أن ضاع تركيزها ونست ما كانت تفعله منذ ثوانيٍ قليلة، قبل أن يجفلها هو بدلوفه إليها وسؤالها بتشكك، قلبها يضرب بقوة داخل أضلعها، تشعر ببرودة تجتاح أطرافها خوفًا من هذا الرجل الواقف أمامها بصمت وملامح وجهه المغلفة بغموض وتجهم، تشعرها وكأنها متهمة ويجب عليها اثبات براءتها:

- بتمأمأي ليه ماتردي؟ انتِ مين وبتعملي هنا إيه ؟

أجابت سريعًا:

- انا زهرة سكرتيرة الأستاذ مرتضى حسنين مدير الحسابات، كنت جاية اشوف صاحبتي وماشية على طول اهو والله.

سألها بتجهم رافعًا حاحبه الإيسر بشر :

- ولما انتِ سكرتيرة مرتضى، بتعملي ايه في الملفات هنا في الشركة وكاميليا مش موجودة؟

- أقسم بالله ماهو ملف ولا مستند حتى؟

صرخت بها تدافع عن نفسها وتابعت وهي تناوله الورقة التي تذكرتها اَخيرًا بعد أن رأت نفسها في موضع اتهام بالفعل .

نظر هو للورقة سريعًا ثم عاد اليها يردف باستنكار:

- قسمة مطولة! ليه بقى؟ هو احنا في حصة حساب هنا ولا في شركة محترمة؟ ايه لعب العيال ده؟

صرخته بالاَخيرة جعلت قلبها يكاد أن يتوقف من الخوف فخرج صوتها بقوة رغم اهتزازه :

- مش انا اللي بلعب على فكرة، دي مسألة ادتهاني كاميليا تخص اخوها ميدوا في تالتة ابتدائي، قالتلي اساعدها في حلها عشان تراجعها هي لاخوها بعد كدة...

قاطعها بحزم سائلًا:

- وانت بقى سايبة شغلك في الحسابات عشان تيجي تساعدي كاميليا واخوها هنا؟

هتفت بعدم سيطرة:

- انا مش سايبة شغلي ولا حاجة، انا جيت وشوفت صاحبتي في البريك عادي يعني، واديني ماشية اهو قبل ماينتهي كمان.

- أستني عندك

اوقفها هادرًا بمجرد ان تحركت أقدامها وأكمل

- تخرج كاميليا الأول واتأكد من صدق كلامك، وبعدها بقى ممكن اسمحلك تنصرفي.

تماسكت تقف محلها كما أمرها هذا الرجل المرعب، تمنع قدميها بصعوبةمن السقوط وبداخلها تناجي ربها لخروج كاميليا اليها بسرعة.

سألها فجأة مضيقًا عيناه :

- انتِ البنت اللي اتصدرتِ قدام العربية الصبح واتخانقتي مع عبده السواق؟

رغم دهشتها من تذكره لها ليضيف اليها اتهام اَخر وهي تجزم بداخلها انه لم يكلف نفسه عناء الإلتفاف نحوها،  تمكنت من الإجابة نافية تدافع عن نفسها:

- مش انا اللي اتصدرت على فكرة، سواقك هو اللي كان هايدوسني وهو اللي شتمني كمان من غير مااعمله حاجة.

هز برأسه قائلًا بابتسامة مستخفة:

- يعني انتِ كمان بتجيبي اللوم على السواق مش على نفسك، على العموم كاميليا خارجة دلوقتي، واما شوف حكايتك ايه،

تكتفت بذراعيها ورفعت ذقنها للأمام تنتظر خروج كاميليا بثقة، رغم النيران المشتعلة داخلها، فرد نفسه هو يضع يديه بجيبي بنطاله وسترته عائدة للخلف،  يحدق بها ويتفحصها جيدًا، من حجابها الطويل على غير عادة الفتيات في شركاته، ملابسها الفضفاضة بشدة، وجهها البيضاوي، ملامح عادية لفتاة جميلة لاتختلف كثيرًا عن معظم الفتيات، سوى انها لا تضع شئ من مساحيق الجمال، حتى كحل عينيها التي لم ترفعهم اليه جيدًا ليتحقق من لونهم، رموشها السوداء الطويلة تبدوا طبيعية كباقي ملامح وجهها، انفاسها تعلو وتهبط بأضطراب أو غضب لا يعلم، 

وهي واقفة بتململ من نظراته المتفحصة وعيناها التي لا ترفعهم كالعادة بوجه أي رجل غريب، كانت تتنقل مابين النظر الى باب المكتب الكبير، او الإلتفاف نحو أي شئ في الغرفة، إلا هو.

التفت الإثنان فجأة على فتح باب المكتب الكبير وخروج كاميليا التي سألتهم بإجفال من هيئتهم المتخفزة:

- في إيه؟ هو إيه اللي حصل؟

...............................


بعد قليل 

- ما خلاص يابنتي كفاية بقى، هي حنفية وفتحت؟ كدة الموظفات هاياخدوا بالهم .

همست بها كامليا لزهرة كي تحُثها على التوقف عن البكاء وهي واقفة معها بداخل الغرفة الكبيرة الخاصة بحمام السيدات

زهر وهي تمسح بالمحرمة الورقية وصوتها خارج ما بين بكاءها:

- مش قادرة ياكاميليا، الراجل ده خوفني قوي، دا كان بيقرر فيا وكأني حرامية او بنت حرام.

ردت كاميليا بأسف :

- سامحيني يازهرة عشان كنت السبب في الموقف الزبالة اللي حصل معاكي ده، بس انا كنت هاعرف منين بس ان جاسر الريان هايطب فجأة كدة، بصراحة عامر بيه بكل شدته، مايجيش نقطة في جاسر ده.

- انتِ بتقولي فيها، دا انا حاسة برجلي شايلني بالعافية وجسمي لسة بيتنفص من ساعة ما قابلته وشوفته.

- طب ثواني .

اقتربت منها كاميليا تمسك يدها فهتفت مذهولة:

- يانهار ابيض، دا انتِ إيدك متلجة يابنتي، هو لدرجادي اترعبتي منه؟

اومأت برأسها زهرة وازدادت في البكاء فاأكملت كاميليا:

- يابنتِ اهدي بقى، دا مكانتش مقابلة دي؟ امال انا بقى اللي هايبقى رئيسي في الشغل وتقريبًا ممكن اشوفه يوميًا اعمل ايه؟ انتحر يعني؟

شهقت زهرة قائلة:

- انا مش هاعتب مكتبك دا تاني أبدًا ياكاميليا، وانتِ لو عوزتيتي تبقي تتصلي بيا او تجيني لكن طول ما الراجل ده رئيسك في الشغل انسي ان اروحلك نهائي.

رتبت كاميليا على ذراعها بحنان :

- خلاص ياحبيبتي ولا يهمك، اجيلك انا ياستي ولا تزعلي، بس اهدي كدة انتِ بقى وانسي، دا النهاردة يوم القبض، يعني هاندلع نفسنا بقى ونروش زي الشهر اللي فات ولا انتِ نسيتِ؟ 

اشرق وجهها بابتسامة فهتفت كاميليا :

- ايوة بقى لما جبنا سيرة القبض وشك نور اهو، حبيبتي يازوز اغسلي وشك بقى وفوقي .

....................................

- في مقر شركته الأصلية، كان منكفئ على مراجعة مجموعة من الأوراق والعقود التي الموضوعة أمامها على سطح المكتب، متناسي كالعادة الوقت رغم حجم الإجهاد الذي يشعر به، رفع رأسه فجأة نحو باب المكتب الذي اندفع فجأة بعد طرقة خفيفة من صاحب عمره والذي هتف بملل:

- انتِ لساك برضوا بتراجع في العقود؟ ارحم نفسك يابني شوية بقى.

تبسم له ناهضًا يتقبل عناقه وترحيبه قبل ان يومئ لها للجلوس على الإريكة الجلدية في إحدى زوايا المكتب وجلس هو بجواره فاردًا ذراعيه على اطرافها براحة، وقال :

- اعمل ايه بس ياعم طارق؟ عمك عامر الفترة اللي فاتت وقع على عقود واتفاقيات كتير، وانا مش عايز اغفل عن حاجة منهم، دا غير اني عايز افهم كل صغيرة وكبيرة في الشركة مدام خلاص، هاتبقى تحت مسؤليتي .

- طب إيه؟ انت هاتدير المجموعة من هنا بقى، ولا هاتستمر بنفس الوضع القديم.

سأل عمر باستفسار أجاب عليه جاسر:

- لأ طبعًا دا هايبقى وضع مؤقت على مافهم الجو هنا في الشركة الأول واعرف النظام اللي هاتعامل بيه مع الموظفين.

ربت على ركبة صديقه بدعم :

- ربنا يديك الصحة ياحبيبي ويقويك على المسؤلية الكبيرة دي، بس برضوا؛ انت لازم تراعي لنفسك شوية مش كل حاجة شغل شغل، ان لبدنك عليك حق ياعم ياجاسر ولا إيه؟

مط شفتيه بعدم اكتراث فتابع طارق سائلًا :

- هو انت لسة برضوا على وضعط انت ميرا؟ مافيش أي تقدم في علاقتكم نهائي؟

غمز بوجنته باستخفاف قبل أن ينهض فجأة قائلًا :

- كبر مخك ياعم طارق وخليني اضايفك في مكتب السيد الوالد، تحب إيه بقى، انه حاجة ساقعة من دول ولا اجيبلك عصير أحسن؟

قال الاَخيرة مشيرًا بيده على مجموعة كبيرة من المشروبات الغازية والعصائر، المثطفة بداخل الثلاثة الصغيرة التي فتحها بجوار المكتب.

أجابه طارق :

- لادي ولا دي، هاتلي إزازة ميا اشرب منها وخلاص.

.................................

في نهاية اليوم 

وبعد أن تسوقوا قليلًا بزيارة بعض محلات الملابس والأحذية والهدايا، فرحين بصرف المرتب الشهري، ابتاعت كاميليا طقمين للخروج وحذاء وبعض البيجامات البيتية المريحة، قلدتها غادة في الشراء وزادت بشراء أنواعٍ عدة مساحيق التجميل والكريمات الخاصة بالبشرة، أما زهرة والتي كانت مقررة شراء هاتف جديد تنازلت تؤجل شراءه للشهر القادم حتى توفر ثمن حصص الدرس لشقيقتها وعلاج جدتها، ولكن مع اصرار كاميليا وغادة، اذعنت لإصرارهم وابتاعت لها فستان واسع بألوان مبهجة مع حجاب من الون الوردي انعكس على بشرتها الخمرية والمختلطة بحمرة فزادها بهاءًا وجمالًا، وفي نهاية الجولة لم تسمح لهم ميرانيتهم بتناول وجبة الغداء في مطعم، فاضطروا لشراء شطيراتهم من إحدى العربات المصطفة في الشارع، يكملوا التسكع بالسير ومشاهدة المحلات وكل واحدة بيدها شطيرتها وعلبة مياه غازية .

قالت كاميليا بسعادة:

الله يابنات، دا الخروجة معاكم تطول العمر بجد .

- عشان تندمي انك مشاغلتناش معاكِ من زمان .

قالت غادة متصنعة المزاح، ردت كاميليا بحرج:

- ويعني هو كان بإيدي بس ياغادة، انا كنت في كل مرة يطلبوا فيها موظفين ببعتلكم، وانا موظفة صغيرة، لكن بقى لما وصلت ان ابقى مديرة لمكتب عامر بيه، قدرت وقتها بس اني اتوسط لكم .

رمقتها زهرة بنظرة محذرة قبل ان تخاطب كاميليا بامتنان:

- سيبك منها ياكاميليا هي بتهزر وانتِ عارفة بقى هزارها تقيل، دا انت تشكري ياحبيبتي انك افتكرتينا أصلًا، هو في حد في الزمن ده بيفتكر اصحابه ولا أهله حتى؟

صمتت غادة بخزي قبل أن تغير مجرى الحديث:

- ايوه صح عندك حق يازهرة، طب بقولك إيه ياكاميليا؛ هو انتِ مفكرتيش كدة تشترى عربية أقله عشان ترحمي نفسك من المواصلات وبرضوا عشان الوجاهة وصفتك في الشركة.

تبسمت كاميليا مستجيبة لحديثها وقالت:

- لا ياستي أكيد فكرت طبعًا وبحاول، بس شرا العربية عايز فلوس كتيرة الأيام دي، خصوصًا مع واحدة زيي لساها بتساعد عيلتها، لكن أن شاء الله اقدر اشتري واحدة محندقة على قدنا قريب، عشان أخدكم في المرواح والمجي معايا يابنات .

صفقت غادة مهلله بمرح

- أيوة بقى خلينا نبان هوانم، زي المضاريب الموظفات اللي في الشركة معانا، حبيبتي والله ياكاميليا.

تبسمت الفتاتين لمزاح غادة قبل أن تنتبه زهرة للوقت :

- طب مش يدوبك بقى نروح، انا اتأخرت أوي على ستي وقلبي اتوهوهش عليها.

قالت زهرة بقلق ، استنكرته غادة قائلة:

- قلبك اوتهوهوش ازاي بس يازهرة؟ إشحال إن ماكنتِ بتتصلي بيها كل شوية، دا غير ان اختك صفية مراعيها حسب ما سمعت منك، ولا انتِ صعبان عليكِ تشمي هوا نضيف برة الجحر اللي حابسة نفسك فيه بقالك سنين.

احتقن وجه زهرة بالغضب فسبقتها كاميليا في الرد:

- هي عندها حق على فكرة احنا فعلًا اتأخرنا ويدوبك نمشي .

همت غادة تعترض فلم تُعطيعها كاميليا الفرصة فتابعت:

- السندوتش اللي في إيدي ده ماينفعش اروح ابيه، أنا هاديه للراجل اللي هناك ده، شكله غلبان وعلى البركة .

تأففت غادة وهي تتبع الاثنتان حتى توقفوا أمام رجل رث الثياب، جالس على كرتونة من الورق في ركن اَمن نسبيًا من السيارات والمارة، يهز برأسه ويضحك للفتاتين ببلاهة، تبسمت قائلة:

- يامشاء الله، دا انتوا اديتولوا سندوتشات الكبدة والسجق بتوعكم، وعلبة العصير بتاعتك كمان يازهرة عشان يبلع بيها، يعني ياكل ويحلي براحته كمان.

حذرتها زهرة قائلة:

- خلي بالك من كلامك معاه ياغادة، دا راجل على البركة اَه؛ بس بيفهم .

- اممم على كدة انت صح على البركة ياعم؟

سألت الرجل باستخفاف، فكان رده ان تلاعب لها بحاجبيه يهز رأسه بابتسامة غير مفهومة، جعلت الفتيات يضحكن على فعلته بمرح، شاكسته كاميليا:

- ايه ياعم انت هاتعاكس ولا إيه؟ وانا اللي قولت عليك طيب وجميل .

ردد بأسلوبٍ أثار ابتسامة مختلطة بالأندهاش على وجه الفتيات :

- ماانا جميل واسمي جميل وحتى ابني كمان هاسميه جميل .

- طب قولنا بقى ياجميل لو تعرف، مين فينا اللي هاتتجوز الأول، انا ولا دي ولادي؟

سألته غادة وهي تشير نحوها ونحو زهرة وكاميليا أيضًا، كور هو شفتيه المنغلقة بشكلٍ فكاهي، يهز راسهِ بمرواغة و ينظر اليهم بتفحص اثار ضحكات الثلاثة.. فقال أخيرًا باقتضاب:

- هاتتجوزوا انتوا التلاتة.

شهقت غادة مستنكرة باعتراض:

- بس كدة هو دا اللي ربنا قدرك عليه، طب حتى اعمل بسندوتش الكبدة وعلبة العصير اللي في إيدك وقول حاجة مفيدة تريح قلبنا، مش انت مبروك برضوا؟

لكزتها زهرة لتنبهها بعدم أحراجه ولكنها لم تبالي فوجدته فجأة يجيب والطعام في فمه:

- واحدة فيكم هاتتجوز غفير والتانية هاتتجوز وزير والتالتة هاتتجوز أمير.

انطلقت ضحكات الثلاثة مرة أخرى فخاطبته كاميليا بسخرية 

- غفير ووزير وأمير، ايه الجو القديم ده، هو احنا في الف ليلة وليلة ياعم؟

اومأ لها بتأكيد :

- انا مابقولش قديم انا بتكلم صح.

رفعت غادة كفيها امامه قائلة بمرح:

- حلو ياعم، يبقى انا اللي هاتجوز الأمير.

هز رأسه بنفي وهو يشير بسبابته :

- لا انتِ هاتتجوزي الغفير، دي اللي هاتتجوز الأمير.

شهقت ساخرة وهي ترى وجهة سبابته نحو زهرة:

- يخيبك، طب كنت قول كاميليا يمكن كنت اصدق، انما زهرة....!

قطعت جملتها وهي تشير الى الفتيات كي يذهبوا:

- امشي يابنتِ امشي، دا باينه راجل خرفان واحنا هبل اللي نصدقه.

تبسمت زهرة كي تخفي حرجها من تلميح غادة الجارح لها:

- قلبك ابيض ياغادة، هو كان جد يعني!

ردت كاميليا بفكاهة وهي تتحرك معهم:

- بس انا بصراحة بسطتني لما قال وزير، اهو قدرني وخلاص ياجدعان.

غمغمت غادة بكلام حانق وهي تسير مع الفتيات عائدات لمنزلهم، فنظر الرجل لأثرهم بعد ان ابتعدن وهو يهتف:

- برضوا هي اللي هاتتجوز الأمير وانتِ هاتتجوزي الغفير!

.....................................


حينما عادت زهرة لبنايتهم، دلفت لشقة أبيها اولًا لتطمئن على شقيقاتها وزوجة أبيها سمية المرأة الطبية، البائسة، متعوسة الحظ، كما تسمي نفسها دائمًا، كانت تشتكي وتصف عن ضرب زوجها لها بسبب دفاعها عن ابنتها، والتي تركت اثاره على جسدها كالعادة.

- شوفتِ يازهرة، اهي العلامات اللي في إيدي دي ماتجيش شكة في اللي مزهرين في ضهري من ورا وعلى كتفي، انا مش عارفة ابوكي دا امتى بس ربنا يهديه ويفهم اني كبرت عالبهدلة وقلة القيمة دي؟ لما اخلص في إيده ولا لما اموت وحدي من القهرة والظلم اللي انا عايشة فيه؟

ختمت جملتها بشهقة كبيرة وبكاءٍ حارق، اوجع قلب زهرة التي ربتت على كتفها تهون :

- معلش ياخالتي سمية، ربنا يفك كربك، بصراحة انا مش عارفة اقول إيه؟ ادعي عليه وهو أبويا! ولا ادعيلوا بالهداية عسى انه يحصل .

يحصل فين بس يابنتي؟ دا انا بقالي سنين بدعيها الدعوة دي لحد ماتعبت وقرفت، ولساني تقل عليها، ومابقتش اخرج غير على الدعوة عليه وربنا يسامحني .

صمتت زهرة لا تقوى على مجادلتها فمن وضعت مكانها تملك الحق في قول كل شئ ، تابعت سمية:

- عارفة يازهرة، معلش يعني لو هاقولها في وشك، بس حقيقي بجد؛ أنا بحسد الست والدتك ان ربنا لطف بيها ورحمها من عشرة ابوكي.

ابتلعت زهرة الغصة بحلقها تتجرع الألم، تُعطي العذر للمرأة في طيبتها وحسن نيتها، لنبشها عن الجرح القديم بداخلها، وتذكيرها بعقدة حياتها! خرج صوتها بصعوبة وهي تناول المرأة بعض الأوراق المالية :

- خدي ياخالتي، ادي لصفية حق الدرس وتبتي انت على الباقي بعيد عن ابويا.

اعترضت سمية:

- لا والنبي يابنتي ماانا واخدة حاجة منك، دا حتى يبقى حرام .

قاطعتها زهرة بإصرار:

- حلفان على حلفانك هاتاخديهم يعني هاتاخديهم .


بعد خروجها من شقة والدها واعطاء سمية ماتحتاجه من نقود هي وابنتها صعدت زهرة لشقة جدتها في الطابق الأعلى والذي ما أن وطئت اقدامها اقرب درجاته، تفاجأت بأبيها أمامها مستندًا على إطار الباب بجسده النحيف وبيده سيجارته التي يدخن بها:

- أهلًا بالبرنسيسة، اخيرًا افتكرت ان ليكي بيت عشان ترجعيلوا؟

تفوه بها، قبل أن يصمت قليلًا وعيناه أتت على الكيس البلاستيكي الذي يضم فستانها الجديد وبعض الأشياء التي ابتاعتها بصحبة الفتيات، رفع رأسه اليها سائلًا بحدة :

- فضلتي حاجة بقى من مرتبك بعد اللي بعزقتيه وصرفتيه النهاردة يابت فهمية؟

الفصل الثالث


يسألها عن راتبها وما أنفقته، وبكل صفاقة يذكرها بوالدتها، وكأن له حق عليها؛ بعد تركها لخالها وجدتها كل هذه السنوات رغم قرب المسافة التي لا تتعدي الطابق بينهم، لا نفقة لطعام او ملبس، ولا حتى مصروف مدرسة أو تعليم، يتذكرها فقط في كسوة العيد، كحفظٍ لماء الوجه، او ليتفاخر امام اهل الحارة بكسوته لها؛ رغم عدم عيشها معه، تحمد الله انها لم تحتاج اليه ولو مرة واحدة، فقد أغناها الله برعاية جدتها الحنون وخالها الذي تكفل بتربيتها منذ ان توفت شقيقته، ورفض تركها مع أبيها الذي لم يصبر على وفاة زوجته أكثر من شهرين ليتزوج، فبقى مكانه الفارغ في حياتها طوال سنوات عمرها او بالأصح كخيال ليس له وجود، ثم يعود اليها الاَن وبقوة بعد أن امتلكت الوظيفة التي تدر عليها الراتب الجيد، وسافر خالها للعمل بإحدى الدول العربية، كي يستطيع جمع المال الذي يمكنه من الزواج وقد تعدى عمره الخامسة والثلاوثون من دونه بسبب فقر الحال ورعايته لوالدته وابنة شقيقته الميتة.

- متنحة ليه يابت؟ ماتردي.

استفاقت من شرودها بعد أن نبهها بأسلوبه المتهكم، ولكنها لم تعد تخاف؛ فردت ظهرها بثقة، تتقدم نحوه تردف ببرود وهي تتخطاه لتدلف داخل الشقة :

- مساء الخير.

- مساء الخير!

ردد خلفها بدهشة قبل أن يتبعها صائحًا :

- بتزوقيني وتدخلي من غير ما تعبريني يازهرة! إيه يابت فهمية؟ هي الفلوس قوة قلبك وماعدوتيش شايفة حد قدامك حتى ابوكِ؟.

التفتِ اليها تردد يهدوء من تحت أسنانها:

- فلوس ايه بس اللي قوة قلبي؟ هو انت شايفني بقيت مديرة بنك؟ دا انا اَخري حتة سكرتيرة لمدير حسابات، لسة ماثبتش رجلي كويس معاه وممكن يغيرني في أي وقت.

- وبتكلميني بقرف كمان؟ دا انتِ على كدة مابقتيش شايفاني خالص يابت.

سحبت من الهواء شهيق بقوة كي تتحلى ببعض التماسك ولا تنفجر بوجهه :

- مابقتش شايفاك ليه بقى؟ عشان بكلمك بهدوء افهمك وضعي، بدال ما صوتنا يطلع انا وانت للجيران، ونجيب لنفسنا الفضايح من غير داعي دا غير انك بتتبلى عليا وتقول اني زقيتك عشان بس عديت من جمبك ودخلت الشقة

صمت ينظر اليها قليلًا بملامح مبهمة قبل أن يقطع صمته:

- انا عارف انك شايلة ومعبية مني من صغرك، بس ماتنسيش اني كنت سايبك على راحتك مع جدتك وخالك، وافتكري اني ماغصبتش عليكي تعيشي مع مرات أب.

اومأت برأسها تجاريه ثم سالته مباشرةً:

- عايز إيه ياوالدي من الاَخر، بدل اللف والدوران؟

رد بمسكنة، مصطنع الحرج:

- انتِ عارفة المعايش بقت صعبة ازاي؟ دا غير ان حال الدكان اتدحدر ومابقاش زي الأول، وانا معدتش قادر اكفي خواتك ومصاريفهم و......

- معايش فلوس.

قطعت استرساله هامسة، جعلته يرفع رأسه ويتقدم نحوها غاضبًا:

- يعني إيه معاكيش فلوس وانتِ قابضة النهاردة.

ارتدت عنه للخلف قائلة بخوف:

- ماانت عارف ان خالي مسافر ومعاش ستي يدوب مقضي علاجها، لما اديك أنا بقى من مرتبي القليل من الأساس، هانقضي الشهر انا وستي اكل وشرب منين بقى؟

انقض عليها فجأة يلوي ذراعها خلف ظهرها قائلًا بعنف:

- يابت الكل....... ما اديكي شارية هدوم وصارفة،  يعني هي جات على قرشين تساعدي بيهم ابوكي الغلبان؟ ولا عايزاني اترجاكي عشان تحسي على دمك، أنا ماتخلقش اللي يذلني يازهرة.

حاولت زهرة كاتمة ألمها تقاوم قبضته القاسية والتي ارتخت على اثر صرخة من جدتها؛ والتي تفاجأ الاثنان بظهروها أمامهم اَتية من غرفتها زاحفة:

- سيب البنت يامحروس، والنعمة لو ما سيبتها حالًا دلوقتي لاكون صارخة بعلو عليك صوتي عشان الم عليك اهل الحارة كلهم.

جز على أسنانه، مخرجًا سُبة وقحة قبل أن يدفع زهرة بخشونة أوقعتها على الأرض بجوار جدتها التي جذبتها من ذراعها داخل أحضانها، وخرج هو بعد ان رمقهم بنظرة مشتعلة بالغضب.

......................................


أمام المراَة كانت تلتف بفستانها يمينا ويسارًا، حتى للخلف كي ترى جمال قصته على قدها الرشيق ومنحنياتها البارزة، سألت بلهفة والدتها الجالسة خلفها على التخت وهي تتفحص باقي المشتريات:

- شايفة ياما الفستان على جسمي حلو ازاي؟ دا مخليني زي البرنسيسة.

رمقتها إحسان بملامح ممتعضة قبل أن تجيبها بتردد:

- هو حلو وكل حاجة يعني، بس مش غالي حبيتين ياغادة؟ دا تمنه يساوي مرتب موظف في الحكومة يابنتي.

استدارت اليها بابتسامة تعلو وجهها، قائلة بحماس:

- وماله ياما لما يبقى غالي؟ الغالي تمنه فيه، ولا انتِ ناسية كلمتك الشهيرة، الغالي بيجيب الغالي.

- أيوة يابت، بس مش بالشكل ده، دا انتٍ بعزقتي تقريبًا المرتب كله على فستاين وجزم ومكياجات.

قالت إحسان وهي تلوح بالمشتريات المنتشرة أمامها على التخت بإهمال، ضحكت غادة وهي تجلس بجوارها تتأملهم بسعادة وأردفت:

- انا فعلًا بعزقت معظمه، بس مايضرش، أهم حاجة ان ابقى زيها، البس واتشيك وابقى احلى منها كمان.

سألتها إحسان بانتباه:

- هي مين يابت اللي عايزة تبقي زيها وأحسن كمان منها؟

اجابتها غادة بأعين يملؤها الإنبهار:

- كاميليا ياما، لو تشوفيها وهي ماشية في الشركة كدة واكنها هانم مش موظفة عاديه؛ شياكة إيه؟ ولا إسلوبها في الكلام، عاملة كدة زي البنات اللي بنشوفهم في التليفزيون بالظبط يامًا

- بس عانس !

أردفت إحسان وهي تمصمص بشفتيها، ردت غادة بابتسامة ساخرة :

- بمزاجها ياماما، مش قلة حظ ولا نقص حلاوة

قطبت إحسان تسألها باستفسار :

- يعني ايه ياغادة؟ مش فاهماكي!

برقت غادة عيناها وهي تجيب عن السؤال : 

- يعني كاميليا رفضت كل اللي اتقدمولها عشان كانوا أقل منها ياما، وهي عارفة ومتأكدة انها حتى لو كبرت مش هاتقبل غير بواحد في مستواها أو اعلى.

صمتت إحسان قليلًا تستوعب كلمات ابنتها ثم سألت:

- وانتِ بقى عايزة تبقي زيها؟

- أبقى أحسن منها .

تفوهت بها غادة بتصميم وتابعت:

- انا اصغر واحلى منها، يعني ناقصني بس البس وابقى بنفس شياكتها عشان اقدر اصطاد اللي يرفع من مستوايا ده وابقى هانم انا كمان، اصلك مابتشوفيش الرجالة و الستات اللي بتيجي عندنا الشركة ياماما، ولا حتى الموظفات والموظفين، كلهم بيبروقوا كدة ويلمعوا من النضافة، مش زي الأشكال الضالة اللي في الحارة النحس دي، الواحدة تتجوزلها واحد مصدي ويبقى فاكر نفسه جايبلها الديب من ديله لو دخل عليها بكيس فاكة او ربع عكاوي.

قالت الاَخيرة بقرف، أومأت لها إحسان بإعجاب:

- شاطرة ياغادة وبنت امك على حق، تعجبني دماغك المتكلفة دي، ايوة كدة، تكتكي وخططي على كبير ، عشان ماتخبيش خيبة امك اللي يوم ما اتجوزت ابوكي، كانت فاكراه ياما هنا وياما هناك.

قالت الاَخيرة وهي تلوك بشفتيها، دافعت غادة عن ابيها باستحياء:

- ايوة ياماما، بس ابويا مابيتأخرش عن طلباتك لما ييقبض ولا يبقى معاه فلوس.

قاطعتها بأشمئزاز ملوحة بكفها:

- ياختي افتكريلنا حاجة عدلة .

صمتت غادة فسألتها والدتها بتفكير

- الا قوليلي صح يابت؛ هي المنيلة زهرة بنت خالك دماغها بتفكر زيك كدة رضوا؟

انشق ثغر غادة بضحكة ساخرة ترد:

- هههه انتِ عايزة زهرة الهبلة تفكر زي ياما؟ دي لو لقت شوال بطاطس قدامها، هاتلبسه عادي، بنت اخوكي خيبة ياما هههه

..................................


على الأرض الباردة كانت ماتزال داخل أحضان جدتها رغم توقفها عن البكاء منذ فترة، مستمتعة بدفء حنانها، مغمورة بإحساس الأمان الذي تستمده منها؛ رغم ضعفها، ورقية مشدد عليها بذراع والأخرى تلمس على شعرها وظهرها حتى شعرت بارتخائها فقال متصنعة الحزم:

- ايه يابت انتِ هاتنامي ولا إيه؟ لا اصحي كدة يااختي انا مش حملك.

اهتز جسد زهرة، تردف ضاحكة:

- مش حملي ازاي بس؟ دا انتِ خوفتي ابويا ذات نفسه، جيبتي الشدة دا منين يارقية؟ 

انتفشت رقية قائلة باعتزاز:

- ايوة امال ايه، عشان يتأكد ان وراكي ناس في ضهرك، وما يظنش ان بسفر خالد ابني هيلاقي فرصته بقى عليكي، انا مكسحة اه، لكن عندي حنجرة صوت توصل لمدينة العلمين، هو فاكريني هاينه ولا إيه؟

اهتز جسد زهرة بالضحك مرة اخرى مرددة

- للعلمين! دا انتِ جامدة أوي بقى يارقية.

- اوي اوي.

تمتمت بها رقية وهي تقبل رأس حفيدتها التي انتفضت فجأة منتزعة نفسها منها وسألت :

- صحيح هو ابويا عرف منين اني قبضت النهاردة؟

لوت رقية شفتها بزاوية قائلة بحنق:

- تفتكري هايكون مين يعني ياام العريف، أكيد من إحسان اللي بنتها شغالة معاكي .

استوعبت قليلًا قبل أن تتنهد قائلة بإحباط:

- عندك حق، بس انا هالوم على غادة ليه؟ ماهو اكيد طلب فلوس من عمتي وهي قالتله بحسن نية

رددت خلفها رقية باستهجان:

- بحسن نية! والنبي دا انتٍ اللي طيبة وعلى نيانك .

اومأت زهرة ترمي رأسها لتسلتقي بحجر جدتها:

- طيبة ولا وحشة، هو اصلًا كان يوم غريب من أوله النهاردة، كله عياط وحرقة دم ، رغم الخروجة الحلوة مع البنات.

- ليه يابت؟ هو ايه اللي حصل؟

سألت رقية بفضول فجاوبتها زهرة:

- هاحكيلك ياستي، بس احنا مش المفروض نقوم بقى؟

الأرض باردة عليكِ .

ردت رقية بلهفة أثارت ابتسامة بوجه زهرة:

- ياختي ولا برد ولا حاجة، احكي الأول وبعد كدة نقوم.

....................................

وفي مكانٍ اَخر 

بداخل منزل كبير تحاوطه الأشجار الكبيرة بكثافة، تدلت اغصانها على السور الخارجي، الذي انتشر جمع من الحراس الأشداء على أطرافه، فلا يجرؤ أحد غير معلوم للقرب منه إلا بإذن مسبق.

كان بصالة الألعاب الرياضية الكبيرة أسفل المنزل، يتساقط العرق على جبهته وصدره بكثافة وهو يركض بسرعة على جهاز الممشى وكأنه في حلبة سباق ويريد الفوز، صوت انفاسه الهادرة كانت مسموعة، توشك أن تنقطع من فرط اصراره في افراغ طاقة الغضب المستعرة كحمم البركان بداخله، لا يدري متى تنطفئ؟  وقد تعقدت فرص الحل؛ حتى اصبح الخلاص هو المعجزة بحد ذاتها!

أجفل فجأة على صرخة نسائيه دوت بمحيط صالة الألعاب هاتفة بإسمه:

- كفاية بقى باجاسر، هاتموت نفسك.

وكأنه لم يستمع، مستمر بركضه وعيناه نحوها لم تحيد حتى صرخت بصوتٍ أعلى .

- بقولك كفاية بقى، انت مابتسمعش؟

اذعن اخيرًا يبطء من سرعة الجهاز حتى اوقفه، ثم حرك جسده يبتعد بصعوبة وصوت لهاث انفاسه يصدر بحدة .

رفع رأسه اخيرًا ليواجه بأعّين خضراء قاتمة بلونها، تبرق بالغضب وهي تتقدم نحوه حتى لكزته بقبضتها على كتفه العاري :

- انت مجنون، مش خايف لا قلبك يقف وتموت فيها؟ ايه يابني؟ هي دي برضوا عمايل ناس عاقلين ؟

استقام بجسده يتناول المنشفة يجفف بها العرق المتساقط منه، تجاهلها بصمت، وما ان تحرك ليذهب ، استوقفته تجذبه من ذراعه هاتفة بغضب:

- سايبني وماشي على طول من غير كلام، هو انا مش بكلمك يابني انتِ؟

تبسم قائلًا بهدوء، عكس العاصفة الهوجاء الدائرة بداخله 

- نعم ياماما، عايزة إيه؟

- عايزة اعرف الغضب اللي جواك دا من إيه؟ اتكلم وقول خليني اسمع منك، بدل الحيرة اللي تاعب قلبي فيها دي.

سألت والدته، فتصنع هو التفكير مضيقًا عيناها بتركيز :

- عايزة تعرفي إيه سبب الغضب اللي جوايا؟ أممم يكونش يعني عشان بنت اخوكي بتسافر وتخرج مع اصحابها رجالة وستات من غير ماتقولي، ولا يمكن عشان دايرة على حل شعرها في السهر مع ناس تعرفها وناس ماتعرفهاش من غير ماتراعي هي بنت مين ولا مرات مين؟

شدد على كلماته الاَخيرة، سألته هي:

- طب ولما انت مضايق اوي من عمايلها كدة، ماتوقفها وتواجها، بدال ماانت وهي كدة كل واحد في عالم لوحده ولا اكنكم متجوزين.

ضيق عيناه سائلًت هو الاَخر:

- اقولها إيه؟

- قولها عاللي مضايقك، حلو مشاكلكم دي مع بعض، بلاش حالة الجمود اللي مسيطرة على علاقتكم دي 

اهتزت كتفاه ومط شفتيه مردفًا بعدم اكتراث:

- بس انا مش مهتم اتكلم معاها ولا هاممني حتى حالة الجمود اللي بتقولي عليها دي.

تسمرت تنظر اليه بعدم فهم فتحرك هو مغادرًا ولكنه توقف على ندائها فجأة:

- طب ولما انت مش هامك التفاهم ولا الصلح معاها، شحنة الغضب اللي جواك دي بقى، سببها إيه؟

استدار اليها بملامح قاتمة، ضاغطًا بقبضة يده، يجز على أسنانه ليجيبها بعنف:

- انها على زمتي؟!١

...............................


في اليوم التالي

على مكتبها الصغير كانت مُنكفأة على الحاسوب أمامها تعمل عليه بتركيز داخل الحجرة الكبيرة الخالية الا منها، بعد ان صعد مديرها وكل طاقم المكتب إلى الطابق الرابع، للمشاركة في الإحتفال الصغير بتولي جاسر الريان مسؤلية قيادة الشركة الأم لمجموعة الريان خلفًا لأبيه، الذي صرف لجميع موظفي الشركة مكافأة وأعطى لهم أجازة نصف يوم. احتفاءًا، ولكي يتعرفوا على القائد الجديد للشركة.

انتبهت على صوت هاتفها الذي كان يصدح بورود مكالمة من غادة التي فتحت ترد عليها بتأفف:

- ايوة ياغادة عايزة ايه تاني؟ ماقولتلك يابنتي مش طالعة .

وصلها صوت غادة المتحمس:

- ليه بس يامنيلة؟ دي الدنيا هنا بتشغي بالموظفين، وبيوزعوا جاتوه وحاجات حلوة كدة وغريبة، في حياتك ماشوفتيها ولا هاتشوفيها يافقر.

- ماانتِ قولتي فقر، 

همست بها وتابعت بحزن:

- والنبي بس حاولي ماتتاخريش عشان نمشي بدري.

- ونمشي بدري ليه من الأساس دا انت....

وصلت الى أسماعها من غادة هاتفة بحنق، قبل ان تنقطع كلماتها وتتولى كاميليا الباقي .

- ايوة يازهرة، اطلعي يابنتي وبلاش اللي في دماغك ده، هو انت مزهقتيش من الشغل ولا نفسك تفكي شوية .

جاوبت،وعيناها تدور في أركان المكتب الخالي:

- هو مش زهق قد ماهو خوف، اصل المكتب فاضي خالص من الموظفين، كلهم سابوني ياكاميليا وطلعوا عندك.

- يخرب عقلك ياشيخة، اخلصي وتعالي ياللا زهرة، وبلاش شغل العيال بتاعك ده، هو عفريت يابنتي هاياكلك.


بعد قليل 

صعدت زهرة مضطرة تحت إصرار الفتيات، لتنضم الى جمع العمال والموظفين المحتمعين للإحتفاء بالرئيس الجديد لشركتهم، ارتخت أعصابها المشتدة قليلًا، حينما اختلطت في الزحام، فالردهة الواسعة للشركة والتي تضم العدد الأكير لمكاتب الموظفين، كانت ممتلئة عن اَخرها بالمهنئين، بعد ان قدٌم الرجل الكبير خليفته في الرئاسة ووزعت الحلوة والمشروبات الغازية.

شعرت زهرة بالخوف حينما راته بجوار ابيه ومجموعة من رؤساء الاقسام ومعهم مديرها، يتحدثون ببعض التباسط لظرف المناسبة.سرعت بخطواتها حتى وجدت كاميليا مع إحدى الزميلات تضحك وتتسامر معها، رأتها هي الأخرى فاستاذنت من الفتاة وتقدمت اليها بابتسامة واسعة وانيقة مثلها:

- اَخيرًا جيتي يابنتي دا انا خوفت لا ترجعي في رأيك وبرضوا ماتجيش .

قالت زهرة بتردد:

- انتِ بتقولي فيها؟ والنبي دا انا على اَخر لحظة قبل مااطلع الاَنساسير كنت هاغير رأيي وامشي عالشارع .

- ياجبانة!! طب والله تعمليها .

شاكستها كاميليا ضاحكة، اومأت زهرة برأسها موافقة بابتسامة قبل أن تسألها :

- هي البت غادة فين صح؟ مش شايفاها يعني.

أشارت لها بعيناها نحو زاوية قريبة من جاسر الريان ومجموعته، كانت تقف بها غادة هناك، وقد عدلت من هيئتها وزادت من مساحيق وجهها كي تلفت اليها الأنظار وتشارك مع الفتيات في توزيع الحلوي والمشروبات، فغرت زهرة فاهاها وعادت لكاميليا هامسة بدهشة :

- هي عاملة كدة ليه؟

اجابتها كاميليا بابتسامة ماكرة:

- باينها فاكراه فرح بلدي وعايزة تظهر في الكاميرا لما تقرب من الكوشة والعرسان

استجابت زهرة لمزحة كاميليا ضاحكة، وهي تغطي بكفها على فمها باستحياء.

لتندمج بعد ذلك في الحديث المرح معها وتنسى ماكان يخيفها، وما كان يقلقها في الصعود .

وفي الناحية الأخرى كان يتحدث ويتلقى التحية على مضض بداخله، بعد أن فاجأه ابيه بهذه الفعلة، بحجة زرع المودة بينه وبين الموظفين، يبتسم بتكلف  ومجاملة، مراعاةً لشعور ابيه، فكم هي ثقيلة عليه المناسبات الإجتماعية وتملق الناس اليه ، كان يحتسب الثواني والدقائق حتى يصرفهم وينتهي من هذه المهزلة، حتى وقعت عيناه عليها بالصدفة، واقفة في اَخر الردهة تتحدث وتتسامر مع كاميليا، بفستان واسع كالأمس، ولكن هذه المرة بالوانِ مفرحة وجميلة وليس باهت كالأمس، حجابها الطويل بلونه الوردي انعكس على صفاء بشرتها الرباني مع ابتسامتها الساحرة التى فاجأته بروعتها، أسرت عيناه نحوها، حتى اصبح يومئ برأسه لمن يتحدث اليه دون انتباه، لا يعلم سر هذه الهالة الغريبة التي تحاوط هذه الفتاة وتجذبه اليها، وبلفتة نادرًا ماتصدر عنه، وجده نفسه دون أن يدري يشملها بنظرة رجولية خالصة؛ أنبأته بما قد يخفى عل  الجميع الا عنه؛ كرجلٍ اختبر ورأى من اصناف النساء الكثير، طالت نظرته حتى شرد بها، وتذكر لقاءه بالأمس معها، حياءها الشديد وحشمتها النادر ما يجدها في فتيات هذا العصر، نسي الزمان والظرف وكل ما حوله، احتلت جميع تفكيره في هذه اللحظة، فخرج اسمها من بين شفتيه وكأنه يخاطب نفسه:

- زهرة!!  

تفتكروا ايه اللي هايحصل ؟ وجاسر ده دماغه هاتوديه لفين ناحية زهرة، 


تكملة الرواية من هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close