القائمة الرئيسية

الصفحات

لا يليق بك إلا العشق البارت التاسع والعاشر بقلم سماح نجيب كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات


لا يليق بك إلا العشق

البارت التاسع والعاشر 

بقلم سماح نجيب

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

 ٩– " الوجه الآخر للشيطان "


صوت إدارة مفتاح الباب ، هو من جعله يكف عن إسترساله بحديثه ، عملت على إزاحة يده عن ذراعها ، فالألم لا يحتمل ، فهو كان على وشك كسره بأصابعه القاسية ، ظلت تدلك بيدها ذراعها لتخفف من وقع الألم عليه ، فجاهدت على مسح تلك العبرات سريعاً قبل أن تراها أبنتها التى تسمرت على عتبة الباب ، بعد رؤية أبيها 

فدلفت ولاء تغلق الباب خلفها بحدة ، ولكن تلك المرة فضلت أن لا تجابهة بالقول ، بل ذهبت رأساً إلى حجرتها ، تغلق الباب بغيظ فى وجهه 


فأستدار برأسه لإسعاد قائلاً بتهديد :

– يلا روحى هاتى الفلوس ولا تحبى أنادى لولاء ويبقى الكلام على المكشوف وتعرف كل حاجة قولتى إيه


لم ترد له كلمة ، بل ركضت لغرفتها ، وأخرجت صندوق خشبى تحتفظ بمالها فيه ، فهى تحاول تجميع المال من أجل زيجة أبنتها ، ولكنه لا يدعها تفعل ذلك ، فدائماً ما يسلبها أموالها ، مقابل أن لا يفتضح أمرها أمام إبنتها ، أو أمام أحد أخر وربما ينتهى بها المطاف بالسجن ، لذلك تطيعه ولا تخالف له أمراً 


خرجت بالنقود ووضعتها أمامه على الطاولة ، فأخذها يضعها بجيبه وهو يبتسم بمكر ودهاء يناسبه :

– شطورة يا إسعاد سلام بقى دلوقتى أشوفك بعدين يا روح الروح


خرج حسان من الشقة ، فأغلقت الباب خلفه وهى تستند عليه ، تبكى بمرارة على حالها ، ولكن كفكفت دموعها سريعاً ، وهى تسمع صوت باب غرفة ولاء يفتح ، فخرجت ولاء تبحث بعيناها إذا كان أبيها هنا أم رحل 


فهتف بإسعاد قائلة بتساؤل هازئ :

– هو بسلامته راح فين 


– مشى خلاص هتاكلى أجبلك الأكل ؟

قالتها إسعاد وهى مازالت توليها ظهرها ، تجفف عبراتها ، التى لم تخفى على إبنتها ، فهى دائما ما تراها تبكى 


شعرت بيد إبنتها تربت على كتفها بحنو بالغ وهى تقول :

– فى حاجة حصلت منه تانى يا ماما قوليلى وأفتحيلى قلبك نفسى ألاقى تفسير واحد للى بيعمله ده ومخليكى ساكتة بالشكل ده هو ماسك عليكى ذلة 


تصلب جسد إسعاد بعد سماع ما قالته ولاء ، تزدرد لعابها تخشى أن تكون إستمعت ولاء لقول أبيها أثناء وجودها أمام باب الشقة ، أو أن تكون تنصتت عليهما من داخل غرفتها 


فتلعثمت وهى تقول :

– مماسك ععليا ذلة إيه ايه اللى بتقوليه ده يا ولاء ، أنا بس ساكتة علشان إحنا إتنين ولايا وضل راجل ولا ضل حيطة 


– لاء ضل الحيطة أرحم يا ماما من اللى هو بيعمله ده 

قالتها ولاء بنزق ، تجد مبرر أمها لا يستحق عناء العيش برفقة رجل مثل أبيها 


ولكن قبل أن تخوض ولاء نقاشاً معها ، أسرعت هى فى الذهاب لحجرتها ، وأغلقت الباب خلفها ، إشارة على أن لاتزيد كلمة أخرى ، فذلك الحوار بينهما ، لن يأتى بثمار مُرضية ، بل حتماً ستكون العواقب وخيمة للغاية ، فمن الأفضل لولاء أن لا تنبش بداخلها ، فربما البحث عن إجابات ترضيها ، سيجعلها تتحسر أنها بدأت بالبحث منذ البداية 


– أنا هموت وأعرف أنتى مخبية عليا إيه يا ماما

دبت ولاء الأرض بقدميها ، وهى تشعر أنها بقفير نحل من كثرة التفكير ،ومحاولاتها بربط كل الخيوط والاحداث ببعضها البعض ، ولكنها تصل بالنهاية لطريق مسدود ، فالأمر بدأ يتخذ شكلاً جدياً تلك المرة ، فإن كانت تمرر كل ما يحدث سابقاً بدون التمعن بأسبابه ، مكتفيه بظواهر الأمور فقط ، فالأن عليها أن تكون أشد حرصاً وإنتباهاً على ما يدور حولها ،وخاصة حياة والداتها المعقدة التى لاتجد شيئاً بها يسير بتفسير منطقى

_____________

صم أذنيه صوت نباح ثلاثة كلاب سوداء يشبهوا الذئاب ، وهى تقفز على قوائمها ، كأنها بإنتظار فريستها ، يمسك بطوق كل كلب منها حارس ضخم الجثة ، يشبه المصارعين ، يقفوا قريباً من مجلس ذلك الرجل ، الجالس على المقعد الضخم ذو التنجيد الأرجوانى ، واضعاً ساق على الاخرى ، ينعكس ضوء الثريا الكريستال المعلقة بالسقف على وجهه المتصلب ، شعره أسود فاحم ،وعيناه بلون مماثل ، ولحية مشذبة يتخللها شعيرات بيضاء ، فمن الوهلة الأولى يظن الرائى أن ذلك الرجل ربما فقد الحياة ، وهو يجلس ثابتاً لا يرف جفنيه 


ولكن صوته المنبعث من حنجرته القوية ، هو من جعل نادر يرتجف قليلاً وهو يأنبه على التأخير :

– حمد الله على السلامة يا دكتور نادر إيه ده يا راجل هقعد استناك الليل بطوله دا أنا حتى كده أزعل منك وشوف لما أخوك الكبير يزعل منك يحصل إيه


تقدم نادر حتى جلس بمقعد على يمينه وهى يجيبه بإقتضاب طفيف :

– على ما خلصت شغل فى المستشفى وفضيت يا نصر ما أنت عارف وبطل بقى تكلمنى كده كأن عيل صغير قدامك بتزعقله علشان رجع البيت متأخر


أفتر ثغر نصر عن إبتسامة هازئة :

–  أمم على ما فضيت ولا شبعت يا نادر ولقيت العروسة اللى هتخليك تستغنى عنى و عن شغلنا ماهى الصراحة أبوها برضه مش قليل راجل مليان فلوس عرفت تنشن صح يا نادر برافووو


تبع نصر حديثه بتصفيق يديه وهو يشيد بخبث نادر معقباً :

– خليت البت تتعلق بيك وأتغرت بشكلك الوسيم ووظيفتك متعرفش أن ده كله من خيرى والفلوس اللى أدفعت فى العفش اللى أختارته من فلوس عمليات بنعملها لبيع الأعضاء ، وأنك واخد شغلك فى مستشفى راسل صفى الدين ستارة تدارى بيها على حقيقتك 


لم يكن من نادر بعد سماع قول نصر ، إلا أنه أقترب يأخذ كأس من الخمر الموضوع على الطاولة الفاصلة بينهما ، فتجرع منه بعدما كان يحركه بين يديه :

– أصل الحياة فرص يا أخويا يا حبيبى ، ولما ألاقى فرصة زى دى ما أستغلهاش يعنى دا حتى أبقى غبى ، وأنا قولت جوازى يتم وهرجعلك كل الفلوس اللى اخدتها منك وكده نبقى خالصين بقى ، ونرجع أخوات وحبايب من تانى


أخرج نصر سيجاراً من جيبه ، يقص طرفه بألة حادة صغيرة  وهو يقول :

– ماشى يا نادر عندى إستعداد أسيبك فى حالك ، بس دلوقتى مطلوب مننا عملية حلوة فيها قرشين بالدولار ، أعتبرها ماتش إعتزالك يا أخى ، وبعد كده روح للعروسة الننوسة بتاعتك ، وأعتبر الفلوس هدية جوازك ، مقولتليش كتب الكتاب إمتى والفرح علشان أجى أبارك ، ماهو واجب برضه أخويا بيتجوز ولازم أفرح بيه


نقر نادر بطرف إصبعه ، على زجاج كأسه وهو يجيبه :

– كتب الكتاب بعد كام يوم والفرح بعده بأسبوعين ، مش عايز مشاكل يا نصر قبل الفرح محدش عارف أصلاً أنك أخويا ،حتى الناس اللى أجرتها وعملتهم قرايبى علشان أخطب حياء ، محدش يعرف هم مين ، وأصريت أن الفرح يكون بعد شهرين علشان محدش يلحق ياخد باله من حاجة ، وأكون ملكتها أنا فى إيدى 


– ماشى يا إبن أبويا وأمى ، بس تصدق مضعش تعبى أنك تطلع دكتور بلاش ، طلع له مميزات كتير أوى الصراحة

بعد أن قال نصر عبارته ، وضع السيجار بفمه يشعله بقداحته الذهبية ، التى حملت الحرف الأول من إسمه منقوشاً باللغة الإنجليزية ، فألقاها بعد ذلك تحدث صوت قرقعة على الطاولة 


أستند نادر برأسه على طرف المقعد وهو يحدق بالسقف فهمهم بصوت خافت :

– تعبك يا نصر ولا علشان تكمل مسيرة أبونا بس المرة دى تبقى ضامن أن الدكتور من لحمك ودمك ومش هيقلب عليك ولا يوديك فى داهية 


كل كلمة وصلت لأذنيه ، جعلته يتذكر أبيه الذى أمتهن تلك الحرفة القذرة من قبله ، فهو كان يعمل لدى مافيا لتجارة الأعضاء ، حتى توفى غدراً  على يد الزعيم ، بعدما رأى أنه بغير فائدة ، ليبدأ بعد ذلك الإبن الأكبر على أتباع خطى أبيهما ، أو بالأصح خطى الشيطان ، فوالدهما لم يفعل شئ حسن بحياته 

ولكن حرص نصر على أن يحصل نادر على نظرة الاحترام من المجتمع ، وساهم بذلك تحصيله الدراسى وشكله الوسيم الوديع ، الذى لا يستطيع أحد إكتشاف ما يخفيه خلف تلك الوسامة أو المركز الاجتماعى 


– مش بيقولك زيتنا يبقى فى دقيقنا 

قالها نصر وهو يهم بترك مقعده ، وأقترب من مقعد نادر ، يمسد على خصلات شعره كأنه ولد صغير يجب أن يطيع كل ما يقال له 


رفع نادر عيناه يرمقه بصمت ، فإن كان نصر وغد ومجرم ، إلا أنه لم ينسى بيوم أنه شقيقه الأصغر ، الذى حرص على دلاله من وقت لآخر ، فهو من أشار على أبيهما أن يترك نادر يكمل دراسته ، فلم يرد أبيه كلمته ، ولكنه توفى قبل أن ينتهى نادر من دراسته بكلية الطب 


أنحنى نصر إليه قليلاً ، وهتف به متفكهاً :

– بس مقولتليش بقى عروستك دى لو سألت على قرايبك اللى شفتهم لما أنت خطبتها هتقولها إيه 


– هقولها ماتوا كلهم فى حادثة ، وهى هتدعيلهم وتقرالهم الفاتحة أصلها طيبة أوى

قال نادر عبارته ، وسرعان ما تعالت ضحكته ، متيقناً من إقتناع حياء بأى شئ يخبرها به ، فتلك الزيجة هى من ستعزز موقفه ومكانته بالمجتمع ، فستكون كالإطار المزخرف لصورة الطبيب الوسيم المتفانى بعمله وحبه لشريكة حياته ذات الحسب والنسب والصيت الحسن 


شاركه نصر الضحك ليستقيم بعد ذلك بوقفته بعد انحناءه وهو يتسائل بغرابة :

– بس مش عارف يا أخى إزاى حماك عدا الموضوع ومسألش عليك ولا على قرايبك ولا نبش وراك فى أى حاجة أنت قولتى أنه رحب بالموضوع ومعترضتش


رفع نادر عيناه يرمق أخيه وهو يقول بخبث :

– ماهو ده فايدة أن تخلى البنت تتعلق بيك لأن طبعا ساكن فى نفس المكان اللى ساكنين فيه وعارفين أنا بشتغل فين ، وكمان عارفين أن مليش غير قرايب من بعيد وعملت حسابى وقولتلهم انهم مش عايشين فى اسكندرية لاء فى الصعيد ، وأن أنا جبتهم علشان مبقاش لوحدى كلهم فاهمين كده 


ولكن أطرق برأسه وهو يعقب :

– بس مكدبش عليك ساعات كنت بحس أن عرفان الطيب مكنش حابب الجوازة من الأول وخصوصاً لما وافقت أعيش معاهم فى البيت تفتكر يكون شاكك فى حاجة


وضع نصر يده بجيبه وهو يفكر فيما قاله نادر ليهتف به بعد ذلك مطمئناً:

– مظنش وإلا كان زمانه فركش الجوازة زى ما أنت خفت الجوازة تبوظ لما ظهر راسل صفى الدين فى الصورة وحكيتلى عن اللى حصل بينه وبين عروستك 


شد نادر على الكأس بيده كأنه على وشك تحطيمه فغمغم من بين أسنانه بغيظ :

– كانت هتبقى مصيبة لو كانت الجوازة باظت لأن دى أول مرة أشوف دكتور راسل يهتم بواحدة كده حتى لو كان بيضايقها بس من حسن حظى أن حياء كرهته وإلا كان زمانى أنا برا اللعبة 


عاد نصر من جديد ليجلس على مقعده وهو مبتسم :

– متقلقش أنا حاططها تحت عينى وأظن الهدية اللى أنا بعتهلها زودت كرهها ليه أكتر ولا إيه ، لأنها مليون فى المية فكرت أن هو اللى بعتها وخصوصاً بعد خناقتهم فى المول أنا متابع خطواتها خطوة خطوة علشان أتمملك الجوازة علشان تعرف أخوك بيحبك قد إيه


شعر نادر بإنتشاء بعد سماع حديث شقيقه فغمغم قائلاً :

– أنت متعرفش عملت فيها ايه دى ولعت فيها قدام عينيا ولو تشوف وشها ساعتها كانت أكيد بتفكر تقتله وتخلص منه ، حياء مش لازم تشوف راجل فى حياتها غيرى أنا وبس


أطل وجهه البشع من خلف قناع تلك الوسامة الوديعة ، فأنتزع عنه القشرة البراقة ، التى جعلت حياء تراه فارس أحلامها ، لتظهر الحقيقة البشعة من أنه ليس فارساً كما تظن هى ، بل وغداً وكاذباً يرتكب من الجرائم أبشعها ، يوارى كل ذلك بحنكة لا يستطيع أحد أكتشافها ، وكيف ذلك ؟ وكل الدلائل تشير على أنه طبيب حسن السيرة والسلوك الاجتماعى

_____________

بأحد أروقة المشفى ، أستوقفت هند تلك الممرضة ، التى راحت تدير برأسها يميناً ويساراً لتأكدها من عدم وجود أحد يتلصص عليهما ، أو أن يراها أحد وهى تأخذ تلك النقود التى ناولتها إياها هند ، نظرت الممرضة للنقود بحبور ، ووضعتها بجيب ردائها 


فرفعت وجهها لهند قائلة بإبتسامة عريضة :

– من إيد منعدمهاش يا أنسة هند 


– قولى اللى عندك يلا 

قالتها هند بتلهف لمعرفة أخر أخبار راسل وما يدور بالمشفى ، فهى بغفلة منها ، جاءت تلك المرأة الأجنبية ، لتسلبها الفرصة التى كانت تتحينها من وقت لأخر منذ معرفتها براسل ، فهى لا تريد تكرار الأمر ثانية ، لذلك جعلت من تلك الممرضة عيناً لها هنا ، تنقل لها كل ما تراه وتسمعه بالمشفى ، كأنه تقرير يومى تخبرها به عبر الهاتف ، أو أثناء تواجدها بالمشفى


أقتربت الممرضة منها قليلاً وهى تهمس لها :

– هو لحد دلوقتى كل شئ تمام مفيش غير الدكتورة اللى إسمها ميس دى ، والصراحة كلنا مستغربين علاقتها بدكتور راسل ، وطول ماهى هنا فى المستشفى قاعدة فى مكتبه ، ولما بتروح بتخرج وهى حاطة ايدها فى دراعه زى ما يكونوا أتنين حبيبه 


بسماع هند لما يقال ، قطبت حاجبيها تحتدم ملامحها بمعالم الغضب والغيرة ، فمن تكون تلك المسماة ميس ، فما الذى يحدث وهى لا تعلم ؟ فقبضت هند على ذراع الممرضة بشئ من القسوة وهى تهتف من بين شفتيها بغيظ :

– أنتى متأكدة من اللى بتقوليه ده وهى بتيجى هنا من أمتى دى كمان


أجابتها الممرضة بوجل :

– هى بتيجى يومين فى الاسبوع  على أساس أنها بتدرب هنا ، والوحيدة اللى مبيقدرش يتكلم معاها دكتور راسل زينا ، بالعكس بيسكت خالص ، والوحيدة اللى لو عملت ايه فى أوضة العمليات مش بيطردها زى ما بيعمل مع أى حد ، دى زى ما تكون واكلة عقله خالص ، دى حتى هى جاية هناك أهى


رفعت الممرضة تشير بيدها لميس ، التى أتضح أنها قادمة بأخر الرواق المؤدى لغرفة مكتب راسل ، تتبعت هند يد الممرضة ، حتى وصلت عيناها لتلك الفتاة التى تشير إليها 


لم يكن لدى هند الوقت الكافى لتتريث بتصرفها ، فأندفعت إلى ميس تسد عليها الطريق ، تعجبت ميس بالبداية إلا أنها حاولت أن تكمل بطريقها ، ولكن جعلت هند ذلك الأمر شاق عليها ، وخاصة أنها تقف أمامها بكل طريق تسلكه 


حاولت ميس الحفاظ على هدوءها وهى تقول :

– فى إيه حضرتك مالك واقفة ليه كده زى ما تكونى مستقصدانى


شبكت هند ذراعيها أمام صدرها قائلة بهجوم :

– أنتى مين وبتعملى ايه هنا وايه علاقتك براسل أنطقى 


أثارت هند شياطين ميس بعلو صوتها ، فرفعت ميس يدها تدفعها بكتفها وهى تقول :

– أنتى مجنونة ولا ايه أبعدى عن طريقى وإلا مش هيحصلك طيب 


تجمع عدد من العاملين بالمشفى ، لرؤية ذلك الشجار بين هاتان الفتاتان ، كأنهم يشاهدون عرض مسرحى ، وخاصة بعدما عملت هند على رد تلك الدفعة لميس ، فصار الموقف أكثر تأزماً 

تناهى إلى مسامع راسل صوت تلك المشاجرة بالخارج ، فترك مكتبه ليرى سبب تلك الجلبة ، خرج من المكتب ورآى هند وميس يتشاجران بوسط جمع من الناس 


بالبداية وقف مشدوهاً مما يراه ، إلا أنه خرج من دائرة تعجبه  فصرخ بهما بصوت جهورى :

– بااااااس بتعملى إيه أنتى وهى بتتخانقوا ليه 


سحب راسل ميس من مرفقها ، فرمقته بعينان باكيتان من تلقيها تلك الإهانات من هند ، فعاد للنظر لباقى الجمع ، فصرفهم بجملة واحدة ، تحوى تهديداً إذا خالف أحد ذلك الأمر :

– كل واحد على شغله أحسن فاهمين 


انفض الجمع وظلت الفتاتان بحضرته الغاضبة ، التى لا تنبأ بالخير ، فأشار إليهما بأن يسبقاه لغرفة مكتبه ، فأمتثلتا لأمره ، فأغلق راسل باب غرفة مكتبه ، يستند عليه وهو يحملق بوجه كل منهما تارة ليعود ويزفر بحنق تارة أخرى ، طلب منهما الجلوس  ولكن ميس أمتنعت عن الامتثال لأمره وأن تجتمع بتلك الفتاة بمكان واحد


فحركت رأسها رفضاً تاماً:

– أنا مش هقعد مع البنى أدمة قليلة الذوق دى فى مكان واحد أنا ماشية 


– هى مين اللى قليلة الذوق ولا أنتى اللى خطافة رجالة 

قالتها هند بعداء واضح ، ليرتفعا حاجباه بدهشة ، فلم تنتظر ميس سماع كلمة أخرى ، بل ركضت خارجة من الغرفة وهى تبكى ، فناداها راسل ولكنها لم تستمع إليه 


حول بصره لوجه هند الممتقع فدمدم ساخطاً على قولها :

– إيه اللى أنتى بتقوليه ده يا هند انتى جرا لمخك حاجة 


– أنا بحبك يا راسل وبغير عليك ، معقول أنت مش حاسس بحبى ليك ، أنت قلبك ده إيه ، أنا مش قادرة أشوف حد غيرك 

كمن أصيبت بحمى مفاجأة ، فطفقت تردد كلامها بحالة تجمع بين الهذيان والهيام


أرتمى على مقعده بإرهاق ، فرد قائلاً بهدوء :

–  أنا قولتهالك ١٠٠ مرة قبل كده أنا منفعكيش وشوفى حد تانى يقدر حبك ليه ، أنتى مليون واحد يتمناكى يا هند ، صدقيني أنا مش زى ما أنتى شيفانى ، والتجربة اللى مريت بيها موتت كل حاجة جوايا ، فمش عايزك تضيعى عمرك على الفاضى 


– وأنا مش عايزة من المليون دول غيرك أنت يا راسل

نطقت بها هند بعينان لامعة وبيأس أيضاً ، فما كان منه سوى أنه وضع رأسه بين يديه ، يغمض عيناه بتعب كمن أصيب بالسقم فجأة ، فماذا يفعل معها حتى يفهمها أنه ليس ذلك الرجل الذى تبحث عنه ؟ وأنه ليس كما تراه ، فإن كان أحياناً يتحدث معها بود ، فلا يعنى ذلك أنه سيقع بغرامها ، فصدره لم يعد يحوى قلباً قادراً على الحب بل تجويفاً فارغاً مكانه ، ولا يريد منها إنتظار شئ لن يحدث ، بل من الأفضل لها أن تبحث عن من يسكنها بقلبه ، ويستشعر حلاوة حبها له ، وليس رجل لم يعد يشعر سوى بطعم المرار الذى طغى على قلبه وحياته بأكملها

____________

صاح كرم بصوته قليلاً ، لكى تكف تلك الفتاة عن الهمهمة ، والثرثرة التى بدت مسموعة له بوضوح ، فساد الصمت بعد صيحته ، فعاد إكمال كتابة عنوان الدرس على اللوح الأبيض المتصدر الحائط ، ولكن عادت تلك الأصوات ثانية ، وهو يعلم أن فتاة واحدة هى التى لا تنصاع لتنبيهه ، وتعود للثرثرة مرة أخرى


فبدون أن يلتفت إليها ناداها بصرامة :

– سهى قومى أقفى 


أمتلثت تلك الفتاة لأمره ، فأستقامت بوقفتها توكز صديقتها الجالسة بجانبها ، لكى تكف عن الضحك ، فبإستدارته إليها ، ضمت يديها سريعاً ، تدعى الأدب والاحترام والطاعة 


فحاولت أن تضمن صوتها نبرة الاستعطاف وهى تقول:

– هو أنا عملت إيه يا مستر كرم مش أنا اللى كنت بتكلم 


وضع كرم القلم من يده يستند على المكتب الصغير بيديه ينحنى قليلاً للأمام :

– وإيه اللى عرفك أن وقفتك علشان بتتكلمى أنا عايزك تترجمى القطعة اللى كتبتها دى دلوقتى


أيقنت أنها وقعت بشرك من صنع يدها ، فإن كانت ماهرة باللغة الفرنسية ، فهى تعلم أنها ستخطئ لا محالة ، وخاصة وهو يهددها بأنها لو أخطأت ستعاقب ، فأزدردت لعابها وبدأت بترجمة الكلمات ببطئ ، حريصة على ألا تخطئ أمامه ، فهى لا يعنيها العقاب ، قدر أنها تريد أن يراها الطالبة المثالية ، تريده أن يشعر بأنها صارت تكن له مشاعر أخرى ، غير تلك التى يجب أن تكون بين المعلم وتلميذته 


رفع كرم أحد حاجبيه بإستحسان بعد إنتهاءها :

– برافو يا سهى بس ياريت تبطلى كلام فى الحصة أنتوا مش صغيرين يعنى علشان كل شوية أقولكم بطلوا كلام دا أنتوا فى ٢ ثانوى دلوقتى مش أطفال يعنى 


أماءت سهى برأسها مراراً و تكراراً ، فجلست مكانها وهى تنظر له بهيام ، كأنها ترى أحد أبطال مسلسلها المفضل ، حتى أنتهى الوقت المخصص لتدريسه اللغة الفرنسية ، فلم تخرج من تلك الحالة إلا على ضرب صديقتها ساقها وهى تهمس لها :

– بت يا سهى صحصحى يخرب بيت تناحتك وبطلى تبصيله كده حرام عليكى


أغمضت سهى عينيها متنهدة بحرارة :

– مش قادرة أشيل عينى من عليه دا المفرض يبقى ممثل مش مدرس شايفة لون عينيه الرمادى دى يلهوى تلحس المخ أنا بحبه


كسا الغضب والوجوم وجه صديقتها وهى تجيبها :

– دا أنتى دماغك طق فعلاً يا بنتى اللى أنتى فيه ده مرحلة مراهقة حب ايه ونيلة إيه ، يعنى عادى ممكن تمشى تحبى على نفسك حتى بس دا بتبقى مشاعر كده عابرة وخلاص مش حقيقية يعنى 


رفعت سهى يدها لتكمم فمها وهى تقول :

– بس أسكتى متقوليش كده أنتى مش فاهمة حاجة ولا أنتى غيرانة منى علشان هو شكله بيحبنى


تبسمت صديقتها بسخرية :

– بيحبك ! دا أنتى هربت منك خالص ربنا يهديكى 


تركتها صديقتها بعد سماع جرس المدرسة ، يعلن إنتهاء اليوم الدراسى ، أخذت سهى حقيبتها تضعها على ذراعها ، ووضعت يديها بجيب سترتها الثقيلة ، أثناء خروجها من باب المدرسة ، لمحت خروج كرم ، فركضت للحاق به


نادته بإلحاح مكررة :

– مستر كرم مستر كرم 


سمع كرم صوتها يناديه ، فكفت قدماه عن السير ، ينتظر وصولها إليه ، ليرى ماذا تريد منه ؟ فأقتربت منه لاهثة ، تحاول إلتقاط أنفاسها 


فتبسمت وهى تقول :

– هو حضرتك يا مستر الدرس بكرة فى ميعاده ولا حضرتك غيرته وأنا معرفش 


أجابها كرم بهدوء :

– لاء فى ميعاده يا سهى وفى السنتر اللى بناخد فيه الدرس على طول وذاكرى كويس


رحل كرم قبل أن تجيبه ، فظلت تتبعه بعيناها ، حتى أنها لم تكن تنتبه لتلك الدراجة النارية ، والتى عملت صديقتها على سحبها من أمامها قبل أن يصيبها سوء أو مكروه ، شحب وجه سهى بعد رؤيتها تلك الدراجة تمر بجانبهما بسرعة ، كانت كفيلة بإطاحتها وإلقاءها أرضاً 


– شكراً 

نظرت لصديقتها بإمتنان ، بادلته الأخرى بغضب طفيف من سبب معرفتها أن ماحدث لم يكن سوى نتيجة لتحديقها الأبله بمعلمها العزيز ، فسحبتها من يدها بدون أن تفه بكلمة يكملان طريقهما ليصلا للمنزل ، فهى تقطن ببناية مجاورة لتلك البناية التى تقطنها سهى ، وهما صديقتان منذ الطفولة ، ولكن لكل منهما طباع تختلف عن الأخرى

_____________

تسير على أطراف أصابعها ، وهى تلج المطبخ بعد تأكدها من خلوه من جدتها والخادمة ، فتحت مبرد الطعام ، تنظر لحلوى الشيكولاتة ولثمار الفراولة بإشتهاء طفولى ، فأبيها يشدد أوامره عليها بأن لا تفرط فى تناول الشيكولاتة أو الفراولة ، فبعد تناولهما تصاب بحكة بجلدها تظل تبكى على أثرها وقت طويل ، يعمل أبيها عن وضع مراهم طبية مرطبة حتى تكف عن البكاء والحكة 


ولكنها صغيرة تريد أن تتناول ما تشتهيه وبالكمية التى تريدها ، فأخرجت طبق الفراولة المغسول بعناية ، ووضعته أسفل تلك الطاولة التى تتوسط المطبخ ، لتعود وتأخذ طبق الحلوى ، وعادت لمخبأها ، فقطعة من الحلوى يلحقها ثمرة فراولة ، فظلت على ذلك المنوال حتى أنهت الطبقين ، وصار وجهها مغموس بالشيكولاتة وباللون الأحمر 


سمعت صوت خطوات قادمة فشهقت بخفوت وهى تقول :

– بابى 


صوت حركة أسفل المائدة هو من أسترعى أنتباهه ، فهو يبحث عن صغيرته ولا يجدها ، فأنحنى يرفع غطاء المائدة المتدلى للأرض ، فرأها تضع يديها على فمها ، ترمقه بزرقاوتيها بوداعة 


فرفع سبابته يشير إليه :

– تعالى أخرجى بتعملى إيه عندك كده تعالى 


هزت رأسها برفض ، فأعاد عليها مطلبه ثانية ، فلم تستجيب له إلا بعد المرة الخامسة ، خرجت من اسفل المائدة تسير على يديها وركبتيها كأنها تحبو 


فرفعها عن الأرض يضعها على الطاولة ، يتأمل هيئتها المزرية قائلاً بتأنيب وعتاب :

– إيه اللى أنتى عملاه فى نفسك ده يا سجود مش قايلك متاكليش شيكولاتة وفراولة كتير 


مطت سجود شفتيها تمهيداً لبكاءها :

– كنت عايزة أكلها يا بابى 


فبعفوية منها وضعت يداها على صدره ، فلطخت قميصه الأبيض بالشيكولاتة ، فقبل أن يقول شيئاً أبدت الصغيرة أسفها تغمغم وهى تكور يديها أمام فمها :

– أنا أسفة يا بابى 


تبسم لها بحب وهو يقول :

– ولا يهمك يا قلب بابى تعالى يلا غسلى وغيرى هدومك علشان عارف أنك هتتعبى من العك اللى عملتيه ده 


حملها راسل على ذراعه ، وخرج من المطبخ وجد والدته قادمة بعد البحث عنها بالحديقة ، فلم يكن لديها متسع من الوقت للسؤال عما فعلته ، فحالتها تغنى عن أى سؤال ، فأخذتها منه ، وصعدت بها لغرفتها ، حممتها وألبستها ثيابها ، ولكنها رفضت أن تمشط لها شعرها تريد من أبيها أن يفعل ذلك 


فأخذت فرشاة الشعر وخرجت من غرفتها ، وذهبت لغرفة أبيها ، وجدته يبدل قميصه ، فناشدته أن يمشط لها شعرها 

جلس على الفراش يجلسها على ساقيه المضمومين وبدأ بتمشيط شعرها ، ولكن علقت يداه بالفرشاة بمنتصف رأس الصغيرة ، بعد تذكره بأنه هو من كان يلح على صوفيا بأن يصفف لها شعرها الأشقر النحاسى ، ذلك الشعر الذى تبقى منها بعدما تفحمت جثتها بالكامل ، تختفى معالم الجمال والفتنة ، ليتحول جسدها كقطعة من الفحم المحترق 


كأن الصغيرة أنتبهت على ما يحدث فهتفت به :

– بابى فى حاجة بتوجعنى 


بدأت بحك جلدها بشراسة ، فأنهى تصفيف شعرها ، يركض لإحضار المواد المرطبة للجلد ، فبدأ بتوزيعه على جسدها يدلكه بلطف ، ولا ينفك عن تقريعها وتأنيبها على ما فعلته ، بعد أن شعرت سجود بالراحة جلست بأحضان أبيها ، تلح عليه بمشاهدة أفلام الرسوم المتحركة على هاتفه 


استند راسل بظهره على الوسائد خلفه يمدد ساقيه وسجود مازالت متوسدة صدره بجسدها النحيل ، يطبق عليها بذراعيه ، ولا ينفك عن تقبيل رأسها ومداعبتها ، فهو لا يحافظ على ما تبقى من أدميته إلا من اجلها ، فهى نسمة الهواء اللطيفة التى ترطب من لهيب ذلك الجحيم الذى يعيش به ، فهى بسمته بوسط ركام الحزن بداخله ، فهى ستظل قلبه النابض ، حتى وإن كانت تحمل شبه ودماء تلك اللعينة المسماة أمها 


انتبه على صيحة الصغيرة وهى تشاهد صورة على هاتفه :

– بابى دى اللى كنت أنا وولاء قاعدين ناكل معاها لما روحنا المول


أعتدل راسل بجلسته بإهتمام بعد سماع قول سجود ، فأخذ منها الهاتف يحدق بصور خطوبة حياء ونادر بغرابة ، فمن أين أتت الصورة ، ولكنه أنتبه على أن أبنته كانت تعبث بحسابه الشخصى على أحد مواقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" ، 


فرأى صورة تجمع نادر بحياء من يوم خطبتهما ، ولكن تلك المرة كتب نادر على الصورة جملة اخذ راسل بقراءتها بصوت هامس :

– بكرة إن شاء الله كتب كتابى وكلكم معزومين 


أنهالت عبارات المباركات والتهنئة والدعوات بأن يمن الله عليهما بالسعادة الأبدية ، فأقتصر على كتابة كلمة واحدة وهى " مبروك " 


فأغلق الهاتف بعد ذلك ، بالرغم من تبرم الصغيرة لأنها تريد إكمال عبثها بالهاتف ، فألح عليها بضرورة الخلود للنوم ، الذى سرعان ما أستجابت لدفء الفراش والأغطية ، وغطت بنوم عميق ، إلا أن النوم جفا عيناه ، فترك الفراش ، وخرج للشرفة ، يتذكر أخر مرة قابلها بها ولم يراها ثانية ، فربما كان هذا أفضل لكليهما 

_______________

نصف دزينة من الثياب ملقاة على الفراش ، غير ذلك الثوب الذى ترتديه تقيمه لترى من الأفضل بينهم ليكون هو الثوب الملائم للإرتداء بالغد ، فغداً ستصبح زوجة رسمية لنادر ، فالليل قد أنتصف ، وهى مازالت تجرب الثوب تلو الآخر ، حتى وقع إختيارها بالأخير على ثوب يجمع بين اللونين الأبيض والأزرق بلون السماء ، فأستحسنت أختيارها 

– تمام ده حلو هلبسه بكرة


لملمت الأثواب الاخرى لترتيبها بغرفة الثياب ، فمديحة أصرت على شراء كل تلك الاثواب من أجل عقد القران 

بعد إنتهاءها ، أرتمت على الفراش وأخذت هاتفها تتصفحه ، فرأت ما نشره نادر على حسابه الشخصي ، فتبسمت وأخذها الفضول فى قراءة التعليقات التى حوت على بعض التندر من أصدقاءه ، وخاصة تلك الجملة التى جاءت بتعليق أحدهم " أنتم السابقون ونحن اللاحقون ''


بتوالى قراءتها وصلت لتلك الكلمة الوحيدة التي تركها راسل ، كلمة واحدة قصيرة تشعر بجفاءها كصاحبها ، فتخطتها ولم تبالى بها ، حتى أدركها النعاس ، فغطت بالنوم والهاتف مازال بيدها 


أنبلج صباح اليوم التالى ، تحاول حياء إزالة النعاس عن جفنيها اللذان تشعر بثقلهما ، سمعت أصوات بالخارج ، فعلمت أن نشاط العاملين بالمنزل بدأ مبكراً من أجل الحدث السعيد ، والحفل الذى سيقام بحديقة المنزل بمناسبة عقد القران


فأعتدلت جالسة بالفراش ، تزيح الغطاء عنها فمسحت وجهها بكفيها ،وأنزلت قدميها أرضاً تنتعل خفها البيتى ، تمطت بكسل ناعم وهى ذاهبة للمرحاض ، لأداء روتينها اليومى 


بعد الانتهاء وإرتداءها ثيابها ، خرجت من غرفتها ، أقتربت من الطاولة الموضوع عليها باقى طعام الافطار ، فمن الواضح أن والدايها تناولا إفطارهما ، ولكنها لم ترى أحد منهما 

فذهبت للمطبخ لسؤال صالحة عنهما فبعد إلقاءها تحية الصباح سألتها عن والدايها:

– هو بابا وماما فين يا دادة مش لقياهم


إلتفتت إليها صالحة وهى تبتسم :

– الست مديحة قالتلى أنها هى وعرفان بيه رايحين لناس من معارف عرفان بيه علشان يدعوهم لكتب الكتاب كان نسى يدعيهم وقال يروحلهم بنفسه علشان ميزعلوش منه 


أماءت حياء برأسها قائلة وهى تقضم تفاحة أخذتها من الفاكهة الموضوعة أمامها :

– اه دا تلاقيهم حد من أصحابهم تمام يا دادة عايزة أكل 


– من عينيا الاتنين أحلى أكل لست العرايس

قالتها صالحة تسرع بوضع أطباق طعام الإفطار ، فجلست حياء لتناول فطورها ، وتخرج للحديقة لترى التجهيزات اللازمة من أجل الحفل ، وأيضاً لتستعد هى الأخرى ، فهى أوصت بمجئ إخصائية تجميل من أشهر صالونات التجميل


مرت عدة ساعات ولم يأتى والدايها بعد ، فأخذت هاتفها تهاتف مديحة ، التى جاءها صوتها بعد برهة وهى تقول :

– أيوة يا حياء 


دارت حياء حول نفسها وهى تقول :

– ماما أنتوا فين ده كله دا خلاص العصر أذن دا كله كنتوا فين 


أجابتها مديحة بصوتها العذب :

– أصل بعد ما روحنا للناس اللى بندعيها روحنا علشان نشتريلك هدية يا قلبى لأن النهاردة يوم مش عادى وخلاص شوية وجايين 


– ربنا ما يحرمنى منكم أبدا يا ماما 

بعد أن قالت حياء عبارتها ، أنهت المكالمة وذهبت لغرفتها بعد مجئ أخصائية التجميل ، فلم يتبقى الكثير ، فعقد القران بالساعات الأولى من الليل ، وباقى الوقت مخصص للحفل 


عملت يد المرأة على تزيين وجه حياء ، يتحدثان بود وفكاهة حتى أنتهت حياء ، وذهبت لغرفة الثياب ترتدى ثوبها الأنيق ، وتعود من أجل إرتداء حجابها 


بعد الانتهاء نظرت حياء بالمرآة فتبسمت لتلك المرأة الواقفة خلفها :

– تسلم إيدك 


– تسلمى يارب وألف مبروك ربنا يتمم بخير 

قالتها المرأة وهى تضع النقود التى أعطتها لها حياء بحقيبتها ، فلملمت أدواتها بحقيبة أخرى وخرجت من الغرفة ، سمعت حياء رنين هاتفها ، فألتقطته لتجيب نادر ، بعدما رأت أسمه على شاشة الهاتف 


قبل أن تفه بكلمة أنبعث لها صوته جذاباً وهو يقول :

– القمر خلص ولا لسه خلاص مبقاش فاضل كتير والمأذون جاى معايا 


حاولت أن يخرج صوتها بعد شعورها الشديد بالخجل :

– اه خلاص خلصت وكل حاجة جاهزة بس ماما وبابا لسه مرجعوش من برا أنا مش عارفة هدية ايه اللى أخرتهم دى أنا .....


قبل أن تكمل عبارتها ، سمعت صوت نحيب وبكاء من الخارج ، فتعالت الصيحات التى جعلت الرجفة تسكن أوصالها ، فما الذى حدث ؟


سقط الهاتف من يدها ، تركض للخارج ، فوجدت صالحة تلطم خديها بشكل أفزعها ، فتقدمت منها تقول بذعر :

– فى إيه يا دادة بتصوتى وبتلطمى ليه كده فى إيه 


ظلت صالحة تدب على صدرها ،كأن أحبالها الصوتية علقت بهما غصة منعت عنها الكلام ، ولكن بتحريك حياء لكتفيها تحثها على الكلام ، خرج صوتها ملتاعاً وهى تقول :

– مصيبة مصيبة يا ست حياء اتصلوا علينا وقالوا عرفان بيه وست مديحة عاملوا حادثة وفى المستشفى ماتوا يا ست حياء ماتواااا

___________

١٠ – " أتت النهاية مبكرة "


تركض بأروقة تلك المشفى ، كمن تركض بمتاهة لا نهاية لها ، كمن خدعها النعاس بكابوس ، جعلها لا تعلم إذا كان ما حدث حلماً أم حقيقة ، فذلك النبأ الذى تلقته مسامعها ، من أن أبويها لقوا حتفهما نتيجة حادث سيارة ، أصاب قنوات الحس والادراك لديها بما يشبه الغيبوبة ، فإن كانت قدميها تسعفها بالركض ، وعيناها لا تكف عن ذرف الدموع ، فهى تشعر بتوقف حواسها بأكملها ، كأنها صارت بلا روح وأن جسدها ماهو إلا دماء وعظام ولحم تستجيب لحركة قدميها ، فربما هى مازالت نائمة ، وسيأتى أحد ويوقظها الآن ولن يكون سوى والداتها ، فهى لن تصدق أنهما رحلا بتلك البساطة والسهولة ، وأن نهايتهما أتت هكذا بهذا الوقت المبكر 


ولكن ذلك لم يكن حلماً أو كابوساً ، بل أمراً واقعاً ،وها هى تقف أمام جثتهما بتلك الغرفة المخصصة للموتى التى يطلق عليها " المشرحة " ، ترى جثمانين مغطان بغطاء أبيض لا يرى منهما شيئاً 


رآت الطبيب يقترب منهما يرفع طرف الغطاء عن وجههما ، لتأتى لحظة أنهيارها التى حافظت على أن لا تزورها ثانية إلا بعد أن تتأكد مما سمعته ، فها هما متسطحان أمامها فاقدان للحياة 


فصرخت بجماع صوتها وهى تحتضن جسد مديحة وتنادى عرفان :

– مامااااا لاء أصحى يا بابااااا متعملوش فيا كده لااااااااء أنتوا مش هتسيبونى لوحدى لاااااء 


حاول نادر سحبها من تعلقها بجثمان مديحة تكاد تسقطه معها أرضاً وهى تنتحب ملأ فاها فحاول ثنيها عما تفعل :

– إهدى يا حياء دا أمر الله حرام عليكى اللى بتعمليه ده


جثت على ركبتيها ، فظلت تضرب ساقيها وهى تندب ما حدث :

– أاااهدى إزاى دول خلاص راحوا ، بابا وماما سابونى فى الدنيا لوحدى أعيش إزاى من غيرهم إزااااى ياااااااارب 


كانت تلك أخر كلمة تقولها ، قبل أن يبتلعها الظلام ، الذى زحف إليها بعدما بدأ جسدها بالإرتخاء ، تشعر ببرودة أطرافها ، فأغشى عليها فى الحال ،فأنحنى إليها نادر ليجعلها تستعيد وعيها ، ولم ترى مجئ قسمت وزوجها بعدما علما بما حدث لعرفان وزوجته 


فأقتربت قسمت من جثمان شقيقها وهى تلطم خديها وتنتحب :

– يا خراب بيتك يا قسمت أخوكى اللى كان باقيلك راح يامصيبتى يا مصيبتى 


ظلت تلطم خديها تارة وتضرب صدرها تارة أخرى ، لتعود وتضرب بيدها على رأسها ، لتصرخ بعد ذلك صرخة مدوية هزت أرجاء الغرفة وهى تستمع للطبيب يقول :

– ياريت تخلصوا إلإجراءات بسرعة علشان الدفن ، البوليس جه وعمل معاينة ، فإكرام الميت دفنه ، وأنتوا تتابعوا سبب الحادث 


تقدم شكرى من الطبيب يسأله عن الخطوات اللازمة لإنهاء الإجراءات :

– طب ممكن حضرتك تيجى معايا تقولى ايه الاجراءات المطلوبة 


خرج شكرى برفقة الطبيب ، يعمل مسرعاً على إنهاء الاجراءات اللازمة ، ليتم دفن عرفان ومديحة 


 فباليوم التالى... بعد أداء صلاة الجنازة ، تم حمل الجثمانين إلى مقابر عائلة الطيب 

أستندت حياء على جسد هبة التى شاركتها البكاء على وفاة خالها وزوجته ، ظلت تربت عليها تواسيها ، فلم تمنع حياء صراخها برؤيتهما وهما يتم إيداعهما بالقبر 


فصرخت بجماع صوتها وهى تنحوح :

– بااااابا ماماااا سبتونى لمين 


حاولت حياء الفكاك من بين ذراعى هبة التى شدت عليها بعدم التحرك وهى ترى المراسم الأخيرة لتشييع الجثمانين ، فرمقتها حياء بعينان حمراوتان من كثرة البكاء 


فخرج صوتها تلك المرة يحمل وجع العالم أجمع :

– سبينى أشوفهم للمرة الأخيرة يا هبة عايزة أشوفهم 


أبتلعت هبة تلك الغصة الباكية وهى تجيبها :

– بلاش يا حياء أنتى شوفتيهم قبل الدفن ودلوقتى خلاص القبر هيتقفل عليهم


– لااااااء سبونى أشوفهم أنا عايزة بابا وماما أنا عايزة أشوووفهم

صرخت حياء بعبارتها ، فلم تحتمل ما يحدث ، فسقطت مغشياً عليها ربما للمرة الثالثة منذ سماع خبر الوفاة ، فمرتها الأولى ، كانت بسماع الخبر من صالحة


أقتربت صالحة منها ، تساعد هبة فى إفاقتها ، فتجمع حولها النسوة ، حتى إستعادت وعيها وعادت لبكاءها ونحيبها مرة أخرى ، فضمتها صالحة إليها ، وحالها لا يفرق عنها ، فهى لو بكت عمرها بأكمله ، لن يكون كافياً للتعبير عن حزنها بفقدانها مديحة وعرفان ، ألتف حولهما النسوة كأنهما دائرة مغلقة ، يشعرن بالحسرة على تلك الفتاة التى صارت عيناها ذابلتان من كثرة الدموع والحزن ، ووجهها شاحب أقرب لوجوه الموتى ، وجسدها متشنجاً كمن أصيبت أطرافها بشلل مفاجئ 


 فبعد إنصراف المشيعين ، لم يتبقى سوى نادر وقسمت وزوجها وإبنتها وصالحة ، فجلست حياء أمام القبر ، تتلمس بيدها التربة الرطبة بالماء ، بعد إنتهاء الدفن ، كمن أصبح العالم حولها مختفياً لا ترى سوى القبر فقط ،وكأن كل شئ صار باللون الأسود ، لاترى شيئاً ولا تسمع أحداً 

_____________

بالمساء.....

ارتدى راسل ثيابه المكونة من بنطال أسود وقميص بلون مماثل، وظل يحدق بالمرآة وقت لابأس به ، كأنه يبحث عن إجابة لشئ يؤرقه ، وما كان هذا الشئ ، سوى إقدامه على الذهاب لمنزل " عرفان الطيب " لتقديم تعازيه، ولكن حسم الأمر قبل أن يتفاقم تفكيره المشتت أكثر من ذلك ، فخرج من غرفته ، وهبط الدرج حتى وصل للصالة 

 رأته سجود فركضت إليه تتعلق بساقيه وهى ترمقه بطفولية ، فما كان منه إلا أنه جلس القرفصاء أمامها وهو يمسد على ذراعيها بلطف ، فهى إذا رأته خارجاً الآن ستصر على الذهاب معه 


فتبسم لها بتشجيع :

– سيجو أنتى هقعدى مع تيتة على ما أرجع ماشى يا روحى


تعلقت الصغيرة بعنقه وهى تقول برفض :

– لاء يا بابى هاجى معاك 


ربت على ظهرها بحنان وهو يجيبها :

– مش هينفع يا روح بابى تيجى معايا دلوقتى أنا رايح مشوار بسرعة وهرجع ماشى


بكت الصغيرة وخاصة وهى تعلم أن إذا عاد أبيها من مشفاه ، لا يذهب لمكان أخر إلا إذا كانت هى برفقته ، فهى تظن أنه يريد أن يتملص من وعده لها بأخذها لمدينة الألعاب مثلما أعطاها وعده بذلك 


فتعلقت أكثر بعنقه وهى ترفض تركه :

– لاء هاجى معاك أنت قولتلى هتودينى الملاهى 


لا يعرف كيف يستطيع إفهامها ، أنه طرأ أمر أخر الآن ويجب عليه الذهاب فلم يكن منه سوى أن نادى وفاء:

– ماما ماما تعالى خدى سجود 


خرجت وفاء من المطبخ على صوت مناداة راسل لها ، فهى تعلم بشأن ذهابه لتقديم تعازيه لطبيب يعمل بمشفاه ، بعد علمه بوفاة والداى عروسه 


فأقتربت وفاء من سجود تحملها وهى تحاول إسكاتها :

– حبيبة تيتة تعالى يلا هجبلك حاجة حلوة وبابا مش هيتأخر هو رايح عزا يا سجود مش هينفع يأخدك معاه 


بعد عدة محاولات إستطاع راسل الخروج من المنزل ، فأستقل سيارته وذهب لمنزل عرفان المقام به مراسم العزاء ، صف سيارته بالخارج ، فتقدم من نادر وشكرى ووحيد الذى أتى إكراماً و مواساة لهبة ، لعلمه بأنها كانت تحب خالها وزوجته ، صافح راسل ثلاثتهم يردد عبارات المواساة ، وجلس على أحد المقاعد ، فالعزاء مقام بالحديقة ، وتجلس النسوة بالداخل 


تردد صوت المقرئ بأيات القرآن الكريم ، ولم يقطع هذا الصوت إلا صوت صراخ قادم من الداخل ، ليرى جميع الحاضرين حياء تخرج إليهم وهى صارخة :

– أنتوا جايين تعزوا فى مين بابا وماما مماتوش مماتوش فاااااهمين


شعر الجالسين بالحرج والشفقة أيضاً على تلك الفتاة التى يبدو عليها أن وقع الخبر عليها ، أصابها بنوع من الجنون ، فأنصرف الحاضرين تباعها ، وعندما هم راسل بالمغادرة 


أقترب منها نادر قائلا بصوت هامس :

– حياء مينفعش كده إهدى وأدخلى جوا خلاص يا حياء أتقبلى الموضوع وأدعيلهم بالرحمة ، عمايلك دى مش هترجعهم تانى


فقدت أخر ذرة تعقل لديها ، فدفعته بصدره يكاد يترنح بوقفته من مباغتتها له بفعلتها ، فصرخت بوجهه :

– أسكت فاهم أسكت خالص ومتقلش عليهم أنهم ماتوا ماشى سامعنى 


بعد قولها خذلتها قدميها ، فسقطت جالسة على الأرض ، تضع وجهها بين راحتيها وأجهشت بالبكاء ، ساقته قدميه إليها ، ولا يعلم لما فعل ذلك ، فالأمور بينهما لم تكن على وفاق منذ البداية 


وقف على مقربة منها وهو يقول :

– البقاء لله يا أنسة حياء 


رفعت وجهها بعد سماع صوته ، فما كان منها إلا أنها أستقامت بوقفتها وهى تجيبه بصوت هادر بإندفاع :

– جاى علشان تتشمت فيا مش كده يا دكتور راسل ، فرحان فيا صح 


أيقن الواقفين أنها حقاً أصيبت بالجنون ، فلم يرد راسل جواباً على ما قالته ، فما كان منه سوى أنه ترك المكان مغادراً ، تاركاً مهمة إسكاتها  عن التفوه بتلك الترهات لنادر ، فأخذ سيارته يقودها ليعود لبيته ، فهو فعل ما أملاه عليه الواجب الإجتماعى ، ولكنه لا يلومها على ما قالت فألتمس لها العذر ، فهى لا تعى ما تتفوه به من كثرة حزنها 

____________

تلك الفرصة المتاحة لديها الآن ، ستكون فرصتها الذهبية فى البحث والتنقيب بغرفة والداتها ، فهى حرصت على العودة للشقة بعد عودتها من عملها ، ولم تذهب لمتجر والداتها مثلما تفعل يومياً ، ولا تعلم لما صار عقلها يصرخ بها بأن تبحث بالشقة ، لعلها تجد ما يجعل أفكارها الثائرة تهدأ قليلاً ، بدأت بالتفتيش بكل مكان بالغرفة ، حتى أصابها اليأس من عدم وجود شئ غير مألوف ، جلست على الفراش المبعثر ، تلتقط أنفاسها بغيظ ، من أن محاولاتها باءت بالفشل 


فراحت تدمدم بغيظ :

– يعنى قلبت الأوضة كلها ومش لاقية حاجة خالص ، طب وبعدين هفضل كده مش فاهمة حاجة 


بعد أن أطلقت زفراتها المرهقة ، تركت مكانها لتعيد كل شئ لما كان عليه ، قبل أن تبدأ رحلة البحث خاصتها ، فبدأت بالفراش تعيد ترتيبه ، وبدأت بلم بعض الدفاتر التجارية الخاصة بالمتجر ، التى كانت تقذفها لترى ما خلفها ، فبدأت بإلتقاطها الواحد تلو الآخر ، ولكن وجدت وسط تلك الدفاتر ، دفتر شخصى صغير ، أخذته بين يديها لترى من يخص ذلك الدفتر 


فبالصفحة الأولى وجدت إسم من كانت تخط ذكرياتها بذلك الدفتر ، ولم تكن سوى شقيقتها الراحلة ، أخذت الدفتر وجلست على الفراش ثانية ، وبدأت بقراءة كل ما خطته يداها ، فعند كل كلمة تقرأها دمعة تذرفها بحنين إليها ، وعبرات حارة بوصفها معاناتها من قسوة أبيهما ، حتى وصلت لأخر ورقة بذلك الدفتر ، فقرأت أخر كلمات تركتها شقيقتها أشجان 


قرأت ولاء ما كُتب بصوت شابه الحزن والقهر والذهول أيضاً :

– أنا بابا جايبلى عريس كبير فى السن وكمان مش مصرى عايزنى أتجوزه وهو فى إجازته فى مصر ويأخد فلوس على الجواز وبعد كده يسافر ويطلقنى ، هو قالى كده أن دى جوازة مؤقتة ، عايز يتاجر فيا زى البضاعة ، بس أنا مش هسيبه يعمل فيا كده ، كفاية القسوة اللى من وأنا صغيرة بشوفها منه ، أنا قررت أنتحر ، عارفة أن ده حرام وربنا هيغضب عليا ، بس مش هقدر أكون زى حتة اللحمة اللى بابا عايز يكسب من وراها لما كل واحد ينهش منها حتة ، سامحنى يارب 


بعد أن أنتهت من القراءة ، أخذت ولاء الدفتر تضمه لصدرها وهى تنتحب وتنادى شقيقتها بقهر :

– أشجان أشجان 


كمن بإنتظار أن تجيبها على مناداتها ، فهى علمت الآن سبب إقدام شقيقتها على الانتحار ، ولم يكن ذلك سوى نتاج لقسوة أبيهما ، أرادها كاللعبة التى يتربح من أوجاعها وبيعها ، لكل من سيدفع ثمناً لها ، فعوضاً عن أن يكون الحامى والسند ، صار البائع وبأرخص الأثمان 


أستلقت على الفراش وهى مازالت تنتحب وتضم مآسى وقهر شقيقتها المتمثل بدفتر خطت به أوجاع سنوات عمرها ، حتى قررت هى إنهاءها وبتلك الطريقة الآثمة ، بعد إسترسالها فى البكاء ، غلبها النعاس كنتيجة طبيعية لأوجاع رأسها ، وتخدر حواسها من كثرة بكاءها ، لعل الأحلام تجمعها بها ، وتراها تعاتبها على ما فعلته ، ولكن من تعاتب فمن الأحق أن يعاتب وليس بأى طريقة سوى القسوة هو والدها 


فتحت إسعاد باب الشقة ، وهى واضعة الهاتف على أذنها ، فهى تهاتف ولاء ولكن لا مجيب ، فأصابها القلق من أن يكون حدث لها مكروه ، ولكن سمعت صوت هاتف ولاء يأتى من غرفتها هى 


ولجت الغرفة بسرعة ، رأت ولاء نائمة بأعين باكية ووجه رطب من أثر دموعها ، فشعرت بالقلق والخوف ، أكثر من ذى قبل 


فأقتربت من الفراش توكزها بلطف وهى تقول :

– ولاء ولاء 


فتحت ولاء جفنيها بصعوبة ، لترى أمها ماكثة بجوار الفراش تنحنى إليها بقلق ، فما لبثت أن عادت للبكاء ثانية ، توليها ظهرها ، كأنها غير راغبة فى رؤية أحد


بتنحنى ولاء عن طرف الفراش ، أتاحت الفرصة لإسعاد بالجلوس جانبها ، فسحبتها من مرفقها ، لتجعلها تنظر إليها ، فالقلق يساورها بأن خطب عظيم قد وقع 


– فى إيه يا بنتى ردى عليا مالك إيه اللى حصل

قالتها إسعاد بما يشبه الاستعطاف لها بأن تجيبها 


فأنتفضت ولاء وهبت جالسة بالفراش وهى تمد يدها بالدفتر أمام وجه إسعاد وهى تنوح :

– اللى حصل إن عرفت أشجان أختى أنتحرت ليه وعلشان إيه عملت فى نفسها كده بسببه هو بسببه


اصفر وجه إسعاد بعد سماع حديث ولاء ، فأزدردت ريقها للمرة التى لا تعلمها ، فبما تجيبها هى الآن ، حاولت ضمها إليها ، فظلت ولاء تتخبط بين ذراعيها إحتجاجاً كأنها تحمل لها إتهاماً هى الاخرى بما حدث لشقيقتها ، ولكن بإحكام إسعاد ذراعيها حولها ، جعلها تستكين بالنهاية ولكن مازالت تنتحب بمرارة 


فأنسكبت دموع إسعاد هى الأخرى ، بعدما تذكرت إبنتها الراحلة ، وإنها هى بسبب خوفها وجبنها ساهمت بدون أن تدرى بإنتحار إبنتها 


– دا أمر ربنا يا ولاء 

نطقت بها إسعاد ، ظناً منها بأنها بذلك ستخمد نيران غضب وحزن إبنتها 


فما كان من ولاء سوى أنها ابتعدت عنها فتعالت صيحتها المحتجة :

– ربنا مبيرضاش بالظلم ، أنتوا ظلمتوها وظلمتونى أنا كمان وأنتى السبب بسكوتك على عمايله أنتى السبببب


كنسمة من رياح عاتية ، كانت ولاء تترك الفراش تاركة إسعاد تأخذ دورها بالبكاء والنوح ، فحتى إبنتها المتبقية لها ، صارت تراها الآن من منظور أخر ، وهو أنها شاركت فى إنهاء حياة أبنتها الكبرى 


ولكن قبل أن تصل ولاء لعتبة الباب ، إستدارت لأمها ومسحت عيناها وهى تقول بإصرار :

– بعد اللى عرفته النهاردة مش هرتاح يا ماما إلا ما أعرف سبب سكوتك ده إيه وإنك إزاى كنتى عايزة تسبيه يعمل فى أشجان اللى كان عايز يعمله ويتاجر فيها ، لأن حجتك بتاعت ضل راجل ولا ضل حيطة دى مبقتش تاكل معايا وهعرف برضه ايه اللى مخبياه عنى 


خرجت ولاء من الغرفة ، تصفق الباب خلفها ، فكفت إسعاد عن البكاء وتحجرت عيناها بعدما سمعت إصرار إبنتها ، وجدت ذاكراتها تأخذها لذلك اليوم الذى جعل حياتها رأساً على عقب تعيش بهوية مزيفة ، ترتجف من إفتضاح أمرها 


عودة لوقت سابق 

 بأحد جلسات رفقاء السوء من إحتساء الخمور والمخدرات ، التى أعتاد زوجها على إقامتها بشقتهما حديثة العهد بها وهى مازالت فتاة يافعة لم تكمل عامها التاسع عشر بعد ، فهى مازالت عروس منذ ما يقرب الثلاثة أشهر ، فهى فضلت الزواج عن إكمال دراستها هرباً من أقاربها ، تبدى موافقتها على أول عريس طرق بابها ، ولم يكن سوى حسان ، الذى كان بتلك الآونة يعمل سائق لإحدى شاحنات النقل ، فهى ظنت بزواجها منه ، ستهنأ بعيشها وتجد راحتها التى كانت لا تجدها بين جدران منزل أقاربها ، فهى يتيمة الأبوين ، ولم يأويها بمنزله سوى رجل كان أحد اقارب والدها الراحل 


همست من شق الباب المفتوح تحاول تنادى زوجها :

– حسان حسان


لم ينتبه حسان على ندائها إلا بعد وكز الراجل الجالس بجانبه له بكتفه ، فاليوم لم تكن الجلسة على نطاق واسع مثلما أعتاد أن يفعل ، بل أكتفى بمجئ صديق واحد 

– قوم ياعم الجماعة بتوعك بينادوا عليك 


رفع رأسه الثقيل من كثرة إحتساءه الخمر ، يحاول أن يزيل الرؤية الصبابية التى تغيم على عيناه ، قام من مكانه وساقيه يلتفان ببعضهما البعض ، وهو يبتسم ببلاهة 


وصل للغرفة فتنحت للداخل تختفى عن أعين ذلك الرجل الجالس بالخارج وعيناه لم تفارقها ، ولج حسان الباب فأغلقت هى الباب خلفه ، لتتوارى عن أنظار صديق زوجها 


بدفعة خفيفة كانت تسقط زوجها على الفراش وهى تصيح به:

– حسان أصحى وفوق بقى وكفاية القرف ده حرام عليك عامل الشقة زى الخمارة ، دا حتى عيب تدخل حد غريب ومراتك موجودة معندكش نخوة ولا رجولة


لم يكن إجابته سوى صفعة تلقتها وجنتها تكاد تسقطها أرضاً ، فخرجت كلماته تفوح منها رائحة الخمر وهو يقول :

– أتلمى يابت أنتى ولمى لسانك دا أنا أرجل من ١٠٠ راجل مش كفاية لميتك وأنتى لا أهل ولا أب ولا أم مقطوعة من شجرة إحمدى ربنا أن أتجوزتك يا نبيلة 


أنهمرت دموعها بسخاء على وجهها وهى تقول :

– وأنا أفتكرت أنك هتكون سند وأمان وتحمينى بس فاتحلى البيت لكل من هب ودب أنت مش خايف عليا يا أخى من أصحابك دول اللى كل واحد فيهم عينيه يندب فيها رصاصة


– هششش بطلى نواح وأسكتى وروحى أعمليلى لقمة أكلها و فنجان قهوة علشان اصحصح 

تتابعت حركة يده على فمه كمن يتثأب ، فأصابها اليأس والسأم من أقواله وأفعاله 


أرتدت حجابها الفضفاض ، وذهبت للمطبخ لتعد له الطعام و قدح القهوة الذى أوصى به ، ولكنها شعرت بأقدام خلفها وأنفاس تقترب منها ، فظنت أنه زوجها ، فدمدمت بغيظ بدون أن تلتفت إليه :

– القهوة والأكل لسه مخلصوش يا حسان


ولكن لم يأتيها رد سوى شعورها بحرارة أنفاس تضرب عنقها من الخلف ، ويدان تتسللان لتقبض على خصرها ، شهقت برعب من تلك الفعلة التى باغتها بها صديق زوجها ، فأنسكبت القهوة بأكملها على الموقد ، زاد رعبها أكثر بإحكام الرجل قبضته عليها 


فنادت بأعلى صوتها ليغيثها زوجها :

– حسان ألحقنى حسان 


تحاول بكل ما أوتيت من قوة دفع ذلك الرجل عنها ، وهى تهتف به بذعر :

– أبعد عنى أنت بتعمل ايه انت اتجننت أبعد يا حسان


كمن تنادى بوادى فسيح ، لا تسمع به سوى صدى صوتها ، فتبسم الرجل بشر وهو مازال يحاول عناقها :

– حسان نايم زى القتيل برا ومش دارى بالدنيا خليكى معايا بس يا نبيلة أنا من ساعة ما شوفتك فى الفرح وأنا هموت عليكى ، حسان ميستاهلكيش ، أنتى عايزة واحد يقدرك ويقدر جمالك زيى كده 


حاول إستمالتها بشتى الطرق ، ولكنها مازالت كالفريسة التى تحاول الفرار من صيادها الغادر ، ولوهلة أستطاعت إبعاده عنها ، وهو ملتصق بها كالعلكة التى لا تستطيع التخلص منها ، فحاولت أن تبحث عن شئ ترهبه به ، لعله يكف عن أفعاله ، ولكنها لم تجد سوى سكين حاد 


فأشهرته بوجهه مهددة :

– لو مبعدتش عنى هضربك بالسكينة دى 


ألتوى ثغره وهو يقول هازئاً:

– نزلى اللعبة دى من إيدك يا حلوة أحسن تعورك


لم يأخذ حديثها على محمل الجد ، بل أنه عاد للأقتراب منها ثانية ، ولكن تلك المرة كانت تسبقه بغرز السكين فى صدره بموضع قلبه ، كمن تبلد إحساسها بتلك اللحظة ، فظلت ترمقه بعينان متسعتان ، يكاد بؤبؤ عينيها يترك مكانه 

صوت إرتطام جسده بالأرض بعد وقوعه ساكناً لا يأتى بأى حركة ، هو من جعل جسدها ينتفض فجأة يخلع عنها رداء الذهول ويلبسها ثوب الخوف والرعب ، وهى تراه مسجياً بدماءه بجوار قدميها 


أرتجاف جسدها بتذكرها ماحدث ماضياً ، جعلها تعود لواقعها الحالى ، وتغلق باب تلك الذكرى ، كمن شاهدت فيلماً سينمائياً ولم تستطيع إكمال مشاهدته للأخير مكتفية بجزء منه كفيل بجعل الأرق والخوف لديها يتزايد أضعافاً كثيرة ، وخاصة الآن بعد أن أخبرتها ولاء صراحة ، أنها لن تهدأ قبل أن تعلم ما تخفيه عنها 

______________

تأخذها بين ذراعيها تهدهدها ، لتجعلها تكف عن البكاء والارتجاف ، فمنذ يوم الوفاة وحتى الآن ، وهى مازالت تبكى فاليوم مر شهراً على رحيل عرفان ومديحة ، أصاب جسدها النحول بسبب إمتناعها عن تناول الطعام ، فهى لاتضع بفمها من الزاد إلا قليلاً ، لكى تظل على قيد الحياة ، ولا تترك غرفتها ، فالطبيبة تزورها يومياً للإطمئنان عليها ، بعدما اوصى نادر لها بذلك 


أبتعدت حياء عن صالحة ، ترغب فى شرب الماء ، فهى تشعر بجفاف مفاجئ بحلقها ، من كثرة تذوقها لملوحة دموعها 


ناولتها صالحة كوب الماء ، وبعد أن أخذت كفايتها منه أعادته إليها ، فربتت صالحة على ظهرها وهى تحاول الابتسام :

– بالهنا يارب أجبلك حاجة تاكليها يا حبيبتى


هزت حياء رأسها رفضاً وهى تجيبها بصوت خافت :

– مش جعانة يا دادة 


مدت صالحة يدها أسفل ذقنها لترفع وجهها ، فتفرست بملامحها الشاحبة وهى تقول بأسى :

– أنا عارفة أن اللى راحوا ما يتعوضوش ، بس دى إرادة ربنا ، والحزن بيفضل فى القلب العمر كله ، بس برضه لازم تاخدى بالك من نفسك ، أنتى كده بتموتى نفسك بالبطئ ، لما ترفضى الأكل والشرب وعايشة حابسة نفسك فى أوضتك ليل ونهار ، أخرجى حتى أقعدى فى الجنينة شمى شوية هوا غيرى هوا الاوضة اللى بقى كله أدوية و المحاليل اللى مبقتش تتقطع دى بسبب قلة أكلك ، أنا مش بقولك متحزنيش عليهم ، دول لو الواحد عاش عمره كله حزين عليهم مش هيبقى كفاية ، بس أنتى لسه صغيرة متخليش الحزن والهم يكسرك بدرى يا حبيبتى ، وسبحان الله كل شئ فى الدنيا بيبدأ صغير وبيكبر إلا الحزن بيتولد كبير وبيصغر مع الوقت ، وأنتى ان شاء بكرة تتجوزى وتخلفى وتعيشى حياتك أينعم مش هتنسى اللى حصل ، بس هيبقى عندك اللى يشغلك ، فلو ليا معزة عندك قومى من سريرك خديلك شاور كده وتعالى أقعدى فى الجنينة شوية ماشى يا حبيبتى


إستمعت حياء لحديثها للنهاية ، وبعد إلحاح منها أطاعتها وذهبت للمرحاض ، أغتسلت وأرتدت ثيابها وخرجت منه ، يلتصق شعرها المبتل بخديها ، فكأنها نسيت تجفيف شعرها ، فظل يقطر ماء على ثيابها ووجهها ، فسحبت المنشفة تجففه ، ووقفت أمام المرآة تطالع شبحها المخيف ، جفنيها حمراوين ، ووجهها أصابه الشحوب ، وخسرت بعض من وزنها جعلها تبدو أكثر نحافة عن ذى قبل ، فتلك التى تراها أمامها لاتمت بصلة لتلك الفتاة بذلك اليوم الذى كانت تنتظره لعقد قرانها 


بعد أنتهاءها خرجت للحديقة ، فالطقس مشمس يشوبه نسمات رقيقة ، تهتز لها أوراق الأشجار ، جلست بجوار تلك الرقعة من الورود الحمراء ، تتذكر أنها كانت بصغرها تقطفها يومياً لتقديمها لوالديها ، كأنها ترى تلك الفتاة الصغيرة التى تركض بالحديقة تلهو وتركض خلفها مديحة تحاول إمساكها 


فأنسكبت دموعها رغماً عنها ، ولكن وقع الأقدام القادمة ، جعلتها تسرع بمحوها عن وجنتها ، إستدارت برأسها لترى من القادم ، فوجدت قسمت وزوجها شكرى


اقتربا منها يتخذ كل منهما مقعد حول تلك الطاولة التى تجلس حياء على أحد مقاعدها ، عقدت ذراعيها كمن تحاول إستجلاب الدفء لجسدها الذى إجتاحه برودة مفاجئة ،وخاصة بمجئ شقيقة والدها وزوجها ، فهى لم ترى أحد منهما منذ أنتهاء أيام العزاء ، ولكنها كانت تتيقن من أسباب مجيئهما الآن ، فعرفان ترك إرثاً كبيراً ، ولابد أن تتشاركها قسمت به ، فهى لن يكون لديها إعتراض على شئ ، طالما كل منهما ستأخذ حقوقها طبقاً للشرع والقانون


فبدأ شكرى حديثه متنحنحاً بلطافة :

– أزيك يا حياء عاملة إيه دلوقتى معلش كنا أنشغلنا عنك اليومين اللى فاتوا غصب عننا أنتى عارفة غلاوتك عندنا 


كتم شكرى صيحة متألمة بعد أن أصابته قسمت بقدمها بمنتصف ساقه من أسفل الطاولة ، فألتصق حاجبى حياء ببعضهما البعض ، وهى تراقب وجهه الذى شابه حمرة خفيفة 


فأجابته بهدوء :

– الحمد لله نحمد ربنا على كل حال


– الحمد لله المهم كنا جايين نقول أن خلاص الأربعين بعد عشر أيام وهييجى المحامى علشان كل حى يعرف اللى له 

قالتها قسمت ببرودها المعتاد ، فلم يكن من حياء سوى أن أماءت برأسها موافقة 


ولكن لا تعلم لما شعرت بعدم الراحة بعدما رأت إبتسامة عريضة تزين ثغر قسمت ، فمن بمكانها لابد لها أن تشعر بالحزن لرحيل شقيقها الوحيد ، ولكن ربما قسمت إستطاعت تجاوز تلك المحنة بسهولة ، حسدتها عليها حياء بتلك اللحظة 


وضعت قسمت حقيبتها على الطاولة ، ونهضت من مكانها وهى تقول :

– أنا هروح الحمام وجاية 


تركت قسمت الحديقة ، وعبرت من الباب الفاصل بينها وبين المنزل ، ظلت تتأمل المنزل ملياً ، كأنها تراه لأول مرة ، أخذتها قدميها حتى صعدت للطابق الثانى ، فتحت الغرف كلها تنظر بداخلها ، فالطابق بأكمله تم تجهيزه لحياء و نادر ، فظلت تبتسم على ما تراه 


ولم تقول سوى جملة واحدة وهى مبتسمة :

– خلاص هانت مش فاضل غير ١٠ أيام 


هبطت الدرج وذهبت للمرحاض بالطابق الأول ، وهى تفكر فيما سيحدث قريباً 

فبالحديقة .. لم يحيد شكرى بناظريه عن وجه حياء ، التى عملت على صرف بصرها عنه ، تتأمل المكان من حولها ، وهى تتمنى أن تسرع قسمت بالعودة ، وتلك هى المرة الأولى التى تتمنى وجودها بمكان ، فالانزعاج بداخلها بدأ يأخذ منها كل مأخذ ، فلم هو يحدق بها هكذا 

_____________

بإنغماسه فى مطالعة تلك الأوراق الموضوعة أمامه ، الخاصة بالمعدات الطبية الجديدة التى إستقدمها من أجل المشفى ، لم يستمع لصوت طرقات الباب ، إلا بعدما ألح الطارق بدق الباب ، فأذن له بالدخول ،ومازالت عيناه تجول بين السطور ، سمع صوت حمحمة خفيفة ، جعلته يترك ما بيده وينظر للقادم 


رآى راسل نادر يقف على عتبة الباب بيده ورقة ، فأشار إليه بالجلوس ، فتقدم نادر وأتخذ مقعده أمام المكتب ، فشبك راسل كفيه ببعضهما وهو يقول بهدوءه المعتاد :

– خير يا نادر فى إيه


وضع نادر الورقة التى يحملها معه أمام راسل قائلاً بإبتسامة خفيفة :

– حضرتك دى إستقالتى من الشغل فى المستشفى أنت عارف أن خطيبتى أهلها أتوفوا وأحنا خلاص هنتجوز قريب فطبعاً محتجانى أساعدها بخصوص شغل باباها ومينفعش أسيبها لوحدها


أخذ راسل الورقة يطالعها بصمت ، ولكن سرعان ماخط توقيعه عليها وهو يقول :

– تمام يا نادر ربنا يوفقك أنا مضيتلك على الإستقالة ولو ليك أى مستلزمات أو مستحقات هنا فى المستشفى اتفضل خدها قبل ما تمشى 


قام نادر من مكانه وهو يمد يده يصافحه :

– متشكر جدا يا دكتور راسل أشوف وشك بخير سلام 


– مع ألف سلامة

قالها راسل وهو يرى نادر يغادر غرفة مكتبه ، فعاد لمطالعة أوراقه ثانية ، حتى أنتهى منها بصورة نهائية ، وبإستدعاءه له لإجراء جراحة عاجلة ، ترك مكتبه يتهيأ لدخوله غرفة الجراحة 

وبعد أنتهاء دوامه بالعمل ، عاد لبيته ولصغيرته ، وطوال طريقه للمنزل ، يتذكر ما قالته له حياء بأخر مرة ألتقاها بها ، وإتهامها له بأنه سعيد بفقدانها لأبويها ، كمن كانت بإنتظاره لصب جام حزنها ويأسها عليه 

_______________

 قبل إنتهاء العشرة أيام المتبقية على إتمام أربعون يوماً على وفاة عرفان ومديحة ، حضرت قسمت وزوجها كالمعتاد بالأيام المنصرمة ، أصر نادر على حضور تلك الجلسة ، بحكم خطبته لحياء وبأنه سيكون الزوج المستقبلى لها بالقريب العاجل 


فهو فكر بأن يتمم تلك الزيجة قريباً ، فلا داعى للإنتظار ، حتى وإن كان سيجعلها تتخلى عن إقامة حفل زفاف مثلما كانت تريد ، فالأن لن يجد منها إعتراضاً على أن يعقدا قرانهما وينتقل للعيش معها هنا بالمنزل 


وضعت صالحة صينية المشروبات ، وأنصرفت سريعاً عائدة للمطبخ ، ولكنها تشعر بالشفقة على حياء ، فتلك الأمور الخاصة بالإرث ربما تجلب العديد من المشكلات ، فدعت الله أن يجعل الأمور تسير بخير 


ولكن قبل أن تصل للمطبخ وجدت قسمت خلفها ، تقبض على ذراعها بشئ من القسوة ، فألتفتت لها صالحة وهى تقول:

– فى حاجة يا ست قسمت أنتى مسكانى ليه كده


تنحت بها قسمت جانباً وهى تهتف بها :

– صالحة لمى هدومك وخلاص عيشك هنا خلص لحد كده


حاولت صالحة إستعاب ما قالته ، ولكن قبل أن تفه بكلمة ،وجدت حياء تقترب منها بعدما سمعت ما قالته قسمت عن طريق الخطأ أثناء ذهابها للمرحاض 


– أنتى عيزاها تمشى ليه يا عمتو هى عملت إيه دادة هنا من وأنا صغيرة وأنتى بتطرديها ليه

قالتها وهى تقترب من صالحة تمسد على ذراعها ، فما كان من قسمت سوى أنها صاحت بهما :

– الكلمة اللى أقولها تتسمع أنتى فاهمة يا حياء ، وأتعودى من هنا ورايح تسمعى كلامى أنتى فاهمة وصالحة هتمشى دلوقتى وإلا مش هيحصل طيب وأنتى عرفانى


خشيت صالحة من هجوم تلك المرأة ، أو أن تتاذى حياء بسبب دفاعها عنها ، فما كان منها سوى الطاعة وهى تقول :

– خلاص يا ست قسمت همشى بس وحياة ولادك ما تزعلى الست حياء إكراماً للمرحوم أخوكى 


طالعتها قسمت وهى ترفع حاجبها الأيسر ببرود ، فأسرعت صالحة بلم أغراضها لتذهب من المنزل ، وكل هذا وحياء تقف متصنمة بوقفتها ، لا تصدق أن قسمت بدأت هجومها هكذا بوقت مبكر


أثناء خروج صالحة من المنزل ، ركضت إليها حياء وهى تبكى بأن كل عزيز لديها يتركها بهذا الوقت ، بكت حياء على كتف صالحة تحاول هى تهدأتها ، ولكن عيناها خانتها هى الأخرى ، فشاركتها البكاء


رفعت حياء وجهها لها وهى تقول بنهنهة :

– دادة خليكى متمشيش ، خليكى معايا أنا كل اللى بحبه بيسبونى لوحدى ليييه


حاولت صالحة الابتسام :

– متخافيش يا ست حياء أنا هاجى أزورك على طول وأطمن عليكى ، وأنا مش عايزة أعملك مشاكل مع عمتك يا حبيبتى 


سحبت صالحة يدها بصعوبة من بين كفى حياء المتشبثان بها ، أرادت حياء الصراخ بملأ فاها ، فليس من المنصف ما تفعله معها قسمت ، فبأى حق هى تفعل ذلك ، فهى ستنتظر تقسيم الإرث وتجعل صالحة تعود للمنزل مرة أخرى فلم يتبقى سوى يومان فقط 


مر اليومان كأنهما دهراً بأكمله ، وخاصة بعد رفض قسمت العودة لشقتها باليومين الماضيين ، وسكنت غرفة شقيقها وزوجته برغم إحتجاج حياء على ذلك ، ولكنها غضت الطرف عن مناشدة حياء لها بأن تترك الغرفة مغلقة لتنعم برائحتهما كلما اشتد بها الشوق إليهما ، ولكن لم ترأف قسمت بمطلبها البسيط ، مفضلة الإقامة فى غرفة شقيقها وزوجته 


جلست حياء على مقربة من نادر ، الذى ربما أمتنت لحضوره حتى لايتركها بمفردها مع قسمت أو زوجها ، الذى لم تعد تشعر بالراحة من نظراته لها ، على الرغم من أنه لم يقدم على فعل شئ يجعل الخوف يسكنها 


وضع ذلك المحامى الكهل ، حقيبته الجلدية على الطاولة أمامه ، وأخذ نظارته من جيب سترته يضعها على عينيه ، تضيف له وقاراً ، عمل بعد ذلك على إخراج عدة أوراق من حقيبته 


تهلل وجه نادر وسبقه لسانه فى الإعراب عن سعادته المتوارية خلف هدوءه وهو يقول :

– أظن يا أستاذ الآنسة حياء خطيبتى لها النصيب الأكبر فى الورث بحكم أنها البنت الوحيدة لعرفان بيه الله يرحمه مش كده


بتلك اللحظة ، تعالت صوت ضحكة قوية من فم قسمت على ما سمعته من نادر فتمتمت :

– بنت عرفان الوحيدة شكلك واثق من نفسك أوى يا دكتور نادر 


تجهمت ملامح وجه حياء بعد سماع قول قسمت ، فألقت نظرة على وجه نادر الممتقع بغيظ ، فعادت وحولت بصرها لوجه قسمت وهى تقول بجفاء :

– بتضحكى على إيه يا عمتو هو قال حاجة غلط ، نادر معاه حق فى كل اللى قاله ومتنسيش أنه خطيبى وقريب هنتجوز


أفتر ثغر شكرى عن إبتسامة هازئة وهو يعبث بمسبحته :

– متستعجليش أوى كده يا حياء فى الرد ، دلوقتى هتشوفى رد فعل دكتور نادر على اللى هيسمعه من المحامى


إحساسها بوجود شئ مبهم يكتنف حديثهما ، جعل الريبة تسكنها ، فماذا يقصدان بقولهما أو تلك التلميحات ، فأرادت هى أن يسرع المحامى بقول ما لديه ، حتى تنتهى تلك الجلسة سريعاً


فرفعت يدها تشير للمحامى للبدأ :

– أتفضل حضرتك قول اللى عندك


رآت حياء نظرة مقلقة بعينى المحامى أو ربما نظرة شفقة ، فتململت بجلستها لا تشعر بالراحة ، فقبضت بيديها على طرفى مقعدها حتى أبيضت مفاصل يدها 


حمحم المحامى يجلى صوته ليقول وعيناه منصبة على الورق الممسك به :

– المرحوم عرفان الطيب ، كان بيملك الفيلا دى وكمان فيلتين فى الساحل و المصنع والشركة وخمس محلات لبيع القماش وبعض العقارات السكنية ومبالغ نقدية بالبنك تقدر بس بحوالى ٢٠٠ مليون جنية 


ساد الصمت أثناء إخبار المحامى لهم بما كان يملكه عرفان بحياته ، تهلل وجه قسمت بسماع ذلك ، فهى لم تكن تضع ببالها أن شقيقها يملك كل هذا ، فبأقصى طوحها قدرت ما يملكه لم يكن سوى المنزل والمصنع ، ولكن بالمصرف فقط ثروة أخرى بالعملات النقدية 


تراقصت السعادة بعينى نادر ، وهو يستمع لكل ما يقال ، ولكن أدعى الجدية وعدم الاكتراث ، عندما رآى حياء تنظر إليه 


خرجت حياء عن صمتها وهى تقول بهدوء :

– طب حضرتك عمتو هتاخد نصيبها و انا هاخد نصيبى بس ده كله هيتوزع إزاى او هيتقسم إزاى بنا 


خلع المحامى نظارته يرمقها قائلاً بأسف :

– للأسف يا أنسة حياء أنتى مش هتورثى فى عرفان بيه 


لوهلة ظنت أنها لم تسمع جيداً ما قاله ، إلا أنها رفرفت بأهدابها عدة مرات قبل أن تقول بتساؤل :

– مش هورث إزاى يعنى مش فاهمة هو مش أنا بنته الوحيدة وليا حق فى الورث 


أجابها المحامى وهو يضع الأوراق من يده :

– الورث ده كله هيبقى من حق الست قسمت أخت عرفان  بيه الله يرحمه لأنها أخته الوحيدة وأنتى ملكيش حق فالورث علشان أنتى يا أنسة حياء مش بنت عرفان بيه ومديحة هانم أصلاً أنتى بنتهم بالتبنى 

________________

يتبع...!!!!!

أنار الله دروبكم وأسعد قلوبكم وفرج كروبكم ورزقكم سعادة الدارين ❤️♥️❤️

تكملة الرواية من هنا 👇👇👇👇👇👇


من هنا


تعليقات

التنقل السريع
    close