القائمة الرئيسية

الصفحات

لعنة_الطاغي بقلم منى_أحمد_حافظ الفصل الاول كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات



لعنة_الطاغي

بقلم منى_أحمد_حافظ

الفصل الاول

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

 غادري أفكاري، فلا مكان لكِ بين أضلعي، ولا مبيت لكِ بقلبي، اتركيني وارحلي، وخُذي معكِ كل أثر لكِ ألتصق بي، فأنا ومنذ دهرٍ مر، ما عُدت ءُأمن بالحب.

لعنة_الطاغي

(1) غادري أفكاري.

-------------------------


بدت حديقة القصر كخلية نحل، حركة دؤوب في كل مكان، لا راحة لا سكون، يسودهم جو من التوتر، خاصة بعد خضوعهم لتفتيش دقيق، من قِبل رجال الأمن، والتحقيق مع كل فرد منهم على حدا، ليبدوا الأمر من الوهلة الأولى، وكأنه حفل رئاسي ضخم، وكيف لا! وذاك الحفل يُعد من أهم حفلات العام، بل هي الأهم على الإطلاق.


وفي مكانه الذي رُتب ليكون به، وقف يُلاحقها ببصره وهي تؤدي عملها، لا يدر لما استحوذت على عينيه، فأحس وكأنه سقط في شباكها، كطير مجهول الهوية تمتصه خيوط العنكبوت، لا يعلم لما منذ أصطدم بها وكاد يُسقطها أرضًا، وتشبثت به أحسها لصقت به، لا بل هي تسربت لداخله، لتُلهِيه عن نفسه، نهر نفسه بقوة وكاد يصفع وجهه لخطئه ذاك، الذي قد يعرض الجميع للخطر، فلم يجد أمامه غير تصرفه الغريب الذي فعله، ليبتعد عن خطرها الذي يهدد أمنه وسلامه وسلامة الجميع.


--------------------------


زفرت بحنق لإحساسها بالإهانة، بسبب تفتيش ذاك الرجل لها، لعنته ببعض الكلمات النابية، وهي تُبدل ثوبها وترتدي زي العمل الخاص، وغادرت الغرفة المُعدة لهم، لتصطدم بإحدى الفتيات التي بادلتها الابتسامة، وعقبت على عبوسها قائلة:

- أول مرة ليكِ هنا، ولا جيتي اشتغلتي قبل كدا.


زمت ذكرى شفتيها وأجابت بصوتٍ حانق:

- مش أول مرة بس هتبقى آخر مرة، بصراحة الوضع بقى لا يطاق ولا يُحتمل، أنا مش فاهمة على إيه كل دا، تفتيش وتحقيق كأني داخلة القصر الرئاسي، وكله كوم والراجل السمج اللي واقف على البوابة الإلكترونية كوم، قال لازم يفتشني بالجهاز اليدوي، علشان يتأكد أن مش معايا أي حاجة مخالفة، كأني مثلًا هاجي شغلي لفة حولين وسطي حزام ناسف.


ربتت الفتاة فوق كتفها وأردفت:

- متزعليش هما عملوا معانا كلنا كدا، بس بصراحة حركة الأمن دي لأ، كان في بنت هي اللي كملت تفتيش البنات، بصي أنتِ شوفي أي حد من الإدارة، وبلغيه على اللي عمله بتاع الأمن، علشان ميطاولش عليكِ أكتر من كده.


شكرتها ذكرى وقبل مغادرتها، مدت يدها وصافحت الفتاة وأردفت:

- على فكرة أنا متعرفتش بيكِ، أنا ذكرى من ضمن فريق الفندق، وأنتِ؟


صافحتها الفتاة وأجابتها:

- أنا دنيا من ضمن الفريق اللي خطط لتنظيم الحفلة، بس تقدري تقولي كدا الفريق التاني، اللي مكتوب عليه يشتغل، وغيره اللي يقف فالصدارة.


لوت ذكرى شفتيها، وهمست ببعض الكلمات الساخطة، ثم هتفت بصوتٍ عال نِسْبِيًّا: -

والله يا دنيا كلنا فالهوا سوا، بنشتغل وبنبذل أقصى ما في وسعنا، وبنراعي ربنا وللآسف فالأخر حقنا مهضوم، يعني أنا مَثَلًا مفروض ضمن الأشراف زي البشمهندس سراج، لكن من أسبوع جت واحدة كدا ومعاها توصية، وعلشان ميزعلوش الاسم المكتوب فالكارت، قالوا يزعلوني أنا مش مهم، وأخدوا مني مكاني للهانم التانية، ونزلت أنا من الأشراف للتقديم، يلا الحمد لله على كل حال.


ابتسمت دنيا بتهكم وعقبت بقولها:

- هو تقريبًا محدش بيشتغل بشهادته حَالِيًّا، وبما أن في كساد وبطالة، فأنا وأنتِ وغيرنا ملايين، علينا نرضى بالشغل المتاح لحد ما تظهر حاجة مناسبة.


أومأت ذكرى وتطلعت لملامحها بالمرآة:

- على ما أظن أن مظهري كدا مناسب، أقوالك سر أصل أنا غيرت شوية فالموديل، يعني طولت الفستان شوية، وقفلت فتحة الصدر بتاعته، وعملت الاسكرف بالشكل دا علشان يداري ومحدش يلاحظ.


أمعنت دنيا النظر بمظهر ذكرى، وأفصحت عن رأيها قائلة:

- بصراحة التتش اللي زودتيه، أدى المظهر احترام وجمال، ومأظنش أن حد هيعقب عليه، علشان في واحدة قصرت الطول ومحدش أتكلم معاها.


أرسلت ذكرى قبلة عبر الهواء لدنيا، وقالت وهي تتحرك لتغادر:

- هروح أشوف البشمهندس سراج، علشان أبلغه باللي عمله الأمن معايا، وبعدها هشوف هستلم شغلي فأنهي قسم، سلام يا دودو.


---------------------------


هرولت ذكرى وغادرت المكان، وما أن خطت إلى الحديقة، حتى سمعت صوت أحدهم يقول:

- ما لسه بدري يا آنسة ذكرى، ممكن أعرف سيادتك جاية متأخر ساعة ونص ليه.


عقدت ذكرى حاجبيها وزفرت بضيق وأجابته:

- على فكرة أنا متأخرتش يا بشمهندس سراج، أنا جيت فميعادي، والأستاذ اللي واقف على البوابة هو اللي عطلني، بعدما صمم أنه يفتشني بالجهاز مرة وبايده مرة، ولما اعترضت قالي دي أوامر ماشية على الكل، ومكنش عايز يدخلني.


لم ترى ذكرى ذاك الذي وقف بشرفة غرفته، المحاطة بزجاج مصفح قاتم اللون، يتابع مهندسي الديكور، يشرفون على أدق التفاصيل، وتابعيهم ينفذون كل أمر بنظرة عين، يحول نظراته إليها ما أن سمع صوتها الغاضب، فأمعن النظر نحوها وأصغى إلى كلماتها، وراقب حركات يدها، وهي تُشير نحو أحد رجال الأمن خاصته، فعقد حاجبيه ومد يده إلى جيب بنطاله وسحب هاتفه، وضغط على أحد أزراره، وقال فور سماعه صوت مُحدثه بلهجة جليدية حازمة:

- عايز كل تسجيلات كاميرات المراقبة للبوابة حالًا.


انتفض تيسير وازدرد لعابه وتلفت حوله، وسارع إلى جهاز الكمبيوتر اللوحي، وضغط بضعة أزرار وقال بصوت متردد:

- وصلت لحضرتك يا داوود باشا، حضرتك تأمر بحاجة تانية.


لم يهتم بالرد عليه، فعيناه تابعت تسجيلات الكاميرا بدقة، وازداد وجهه تجهمًا ما أن رأها تُجادل أحد أفراد الأمن، وأكمل مشاهدة التسجيل، ليرى بنفسه تجاوزات رجل الأمن خاصته، فغادر غرفته على عُجالة، مقطب الجبين مكفهر الوجه متجهًا صوبه.

بينما تابعت ذكرى سيل كلماتها وشكواها، وكتمت غيظها حين صرفها سراج بوقاحة، فابتعدت عنه واتخذت خطواتها نحو القسم الخاص بها داخل القصر.


بحث داوود عنها سريعًا بعيناه، فلم يجد لها أثر فازدادت تقطيبته حدة، وقبيل وصوله لبوابة قصره توقفت قدماه بغته، وأرتد إلى الخلفمجفلًا من نفسه، فأغمض عيناه لبُرهة وتساءل، لما هو هنا؟ ومن أجل من؟ أيعقل أن يقلل من مكانته، ويذهب بنفسه إلى ذاك الرجل!


صعق داوود من تصرفه، وهاجمه عقله بلا هوادة، يعنفه لسهوه الغير مغفور ذاك، فتلك هي المرة الأولى التي يتناسى فيها مكانته، ويسمح لعواطفه بالتحكم به، فاستدار وهو يأمر ذهنه بصرف تلك الفتاة عن تفكيره، وولج لداخل قصره لتصطدم عيناه برؤيته لها، تقف بإحدى الزوايا تكفكف دموعها، فضغط بقوة على فكه وكور قبضته، وصاح بصوتٍ زلزل أرجاء المكان:

- تيسير.


جعلها ندائه تنتفض من مكانها برعب، فتجمدت بمكانها، وحبست أنفاسها خوفًا منه، وبدت عينيها المتسعة، تحدق به تارة وتتهرب منه تارة أخرى، وخلال ثوان تبدل الحال حولها، فقد ظهر من العدم حارسان نبتا بجواره، ولمحت أحدهم يهرول ويتوقف أمامه، فازدردت لعابها وأدركت أنها كتمت أنفاسها لثوانٍ عديدة، فتلقفتها بشهيق رهبة، ليختلس إليها نظرة واحدة، كانت كفيلة بجعلها ترتعب وابيض وجهها، فتراجعت ذكرى إلى الخلفبضع خطوات، وخفضت رأسها أرضًا، فلم ترى أشار داوود إليها ولا التفاته الحارسان نحوها، وبصوتٍ خفيض هم تيسير:

- حالًا يا داوود باشا هنتصرف الموضوع دا، وهنحاسب كل واحد قصر فشغله.


وكما ظهروا تبخروا، فرفعت ذكرى عينيها لتلتقي بنظراته الواجمة، وقبل أن يُشيح داوود بصره عنها، أخبرها بترفع قائلًا: -

أنتِ يا، أعمليلي فنجان قهوة مظبوط، وهاتيه على مكتبي.


القى أمره واختفى داخل مكتبه، وتابعته ذكرى بعينيها وعقدت حاجبيها وزفرت بحنق قائلة:

- والله عال من مُهندسة كمبيوتر، لمُشرفة حفلات، لخدامه وعاملة قهوة، يا فرحة كارلوس فيكِ يا ذكرى.


عثرت ذكرى على المطبخ بسهولة، وتوقفت أمام بابه تحدق في اتساعه، لتنتبه إحدى الفتيات إليها، فاستدارت نحوها وحدجتها بنظرة شاملة متفحصة، واقتربت منها وسالتها:

- أفندم حضرتك عايزة حاجة من المطبخ.


ارتبكت ذكرى واستدارت بعينيها للخلف، وأشارت باتجاه المكتب وقالت باضطراب:

- عايزة فنجان قهوة مظبوط لو سمحتِ.


اعتذرت منها الفتاة وأجابتها قائلة:

- بصي في برا ركن زي الكانتين كدا متخصص ليكم، أنا بعتذر منك مش هقدر أعمالك قهوة و.


قاطعتها ذكرى بهزة ذعر برأسها وأعقبتها بقولها:

- لأ دي دي مش ليا، أنا أنا مش بشربها أساسًا، بس هو قصدي الأستاذ اللي كان واقف من شوية برا، هو اللي طلبها قبل ما يدخل المكتب اللي هناك دا.


اعتدلت الفتاة فورًا، ورفعت عينيها بتلقائية تحدق بكاميرا المراقبة فوقها، وقالت مُسرعة:

- تمام دقيقة وتكون القهوة معاكِ، بصي تعالي اقعدي جوا لحد ما القهوة تجهز، وخديها وديها لداوود بيه.


حاولت ذكرى الاعتراض والتهرب بقولها:

- بس أنا مش بشتغل هنا، أنا من ضمن الفريق اللي هيقدم بالليل فالحفلة و.


قاطعتها الفتاة دون أن تستدير إليها، وقالت بصوت فاتر:

- طالما الباشا طلبها منك، يبقى كان عليكِ من الأساس أنك تعمليها، وأنا علشان عارفة أنك ممكن تبوظيها، عملتها مكانك بس أنتِ اللي هتوديها.


زمت ذكرى شفتيها بضيق، وجلست فوق أحد المقاعد، وجالت بعينيها في أرجاء المكان، لتلتقط عينيها إحدى الكاميرات، ففركت كفيها وخفضت بصرها، وما هي إلا دقائق وتوقفت الفتاة أمامها وقالت:

- خدي القهوة أنا جهزتها، يلا روحي وصليها لداوود باشا، وخلي بالك وأنتِ ماشية أحسن الوش يروح، وقتها متلوميش إلا نفسك.


-----------------------------


ليتها لم تحذرها، فها هي تسير باتجاه المكتب، تشعر بأنها ستتعثر حتمًا وستثكبها فوقه، كتمت ذكرى أنفاسها ووقفت حائرة أمام الباب الموصد، وتلفتت حولها تبحث عمن يفتح لها الباب، لتتفاجأ به يُفتح من الداخل، وسمعت صوته الرخيم يقول:

- واقفة عندك ليه، هاتي القهوة اللي بردت دي.


اضطرب جسدها أكثر مع كل خطوة تُدنيها من مكانه، بينما كان داوود يتطلع إليها دون أن تُدرك ذكرى، وأخيرًا وضعت فنجان القهوة أمامه بسلام، فسمحت لأنفاسها بالتحرر من داخلها، حينها رفع داوود بصره نحوها يحدق بها بتمعن، وما أن استدارت لتغادر حتى أوقفها صوته يقول:

- على فكرة أنا مش بدي فرصة تانية لأي حد، بس علشان اللي حصل معاكِ من ساعة، مش هعلق على أن القهوة عملتها أماني، أتمنى المرة الجاية لما أطلب منك حاجة، تعمليها بنفسك وتجيبيها بنفسك.


تصلب جسدها وتسلل تمردها إليها، ليزداد ثورانه بداخلها، وهي تستمع إلى كلماته، فالتفتت تحدق به بحدة، وضيقت عينيها وتناست مكانها ومع من تقف، وأطلقت العنان للسانها يُفصح عما أَحْتَبِس بداخلها قائلة:

- أنا لا هعمل ولا هجيب ولا عايزة فرصة تانية، أنا أساسًا مش بشتغل عندك، أنا هنا ضمن فريق الشركة المنظمة، اللي لولا الكوسة والوسايط، كان زماني واقفة زي بشمهندس سراج، بنظم وبشرف على غيري، مش بخدم وبجيب قهوة.


ارتشف داوود القليل من قهوته، ثم قال بصوتٍ فاتر:

- Close. 


لم تهتم ذكرى في الوهلة الأولى لكلماته، ولكن حين فشلت بفتح باب المكتب، التفتت تحدق به بعصبية واضحة، في حين تابع داوود بهدوء ارتشاف قهوته، فزفرت بحنق وقالت:

- لو سمحت افتح الباب خليني أروح اشوف شغلي.


نظر إليها ووضع الفنجان من يده، وترك مقعده مُلْتَفًّا حول مكتبه، واستند إلى حافته وهو يواصل النظر إليها، فاشتعل غضب ذكرى بتجاهله إياها، فاقتربت منه وأردفت:

- ممكن أفهم حضرتك مخليني هنا أعمل إيه.


أشار إليها أن تجلس على المقعد أمامه، فانصاعت بتلقائية وجلست، واتجه داوود وجلس بمواجهتها، وأردف بصوت هادئ رغم غضبه من نفسه، لخضوعه لتهوره ذاك:

- قبل أي حاجة، أولًا أنا هعتبر نفسي مسمعتش الكلام الفارغ اللي قولتيه، ودا لمصلحتك، ثانيًا لازم تفهمي إنك طالما دخلتي مملكة داوود سليمان، بقيتي ضمن اللي شغالين عندي، وأي أمر أو طلب عليكِ أنك تنفذيه.


تبدل صوت داوود فجأة ليصل إلى سمعها قاس وصارم وهو يُضيف:

- ومش من حقك أبدًا أنك تعترضي أو ترفضي، زي ما قولت تنفذي من سُكات.


انتفخت اوادجها وثار غضبها بسبب لهجته الآمرة، فعقدت حاجبيها وهبت واقفة وقالت باعتراض: -

ليه يعني مش من حقي أعترض أو أرفض، تكونش فاكر أنك اشتريتني وأنا مش عارفة، قال أنفذ الأوامر من سُكات ومعترضش، لأ أنا هعترض وهقول لأ.


أثارها بنظراته الحادة وحاجبه المرتفع، فعاندت صوت التحذير بداخلها وأضافت:

- دا أنا مش هقول لأ بس، دا أنا أساسًا مش هكمل شغل هنا وهمشي، ودلوقتي لو سمحت أفتح لي الباب خليني أخرج.


وقف على مضض، ولم تدر ذكرى لما ارتجفت وتملكها الخوف منه، فعلى الرغم من هدوءه، إلا أن خلف نظراته الباردة التي حدجها بها، رأت نارًا تسيل جعلتها تزدرد لعابها، وتتحرك بعيدًا عنه، لتزفر بارتياح حين سمعت صوته يقول بأمر:

- Open.


أسرعت باتجاه الباب ليجمدها صوته مردفًا:

- ياريت تبقي تكلفي نفسك، وتقري العقد اللي وقعتيه مع الشركة، لأني هلزمكبكل حرف فيه، وهحاسبك على كل كلمة قولتيها، خصوصًا ضربك لكلامي بعرض الحائط، ودلوقتي أتفضلي يا آنسة شوفي نفسك ناوية تعملي إيه.


توتر حاد أصابها وهي تُسرع بخطواتها نحو الخارج، عينيها تبحث عن سراج، في حين وقف داوود خلف زجاج نافذة مكتبه المعتم، يتابع سيرها المُتعثر فزفر بحنق وأردف:

- وبعدين يا داوود، من أمته وفي واحدة بتشغل تفكيرك؟


استدار مُشيحًا ببصره عنها وقطب جبينه وأضاف:

- خرجها من تفكيرك، وصفي ذهنك للي جاي، ولا أنت ناسي الجحيم اللي هتفتح أبوابه على الكل.


------------------------- 


وبمكتب الأمن الخاص، وقف محمود بوجه شاحب يكسيه التوتر، يستمع إلى تقريظ تيسير ويزدرد لعابه بين الحين والآخر، يلوم تلك الفتاة على ما يحدث معه، فها هو عمله سيودعه وهو لم يُكمل فيه الشهر، انتفض محمود حين ضرب تيسير بقوة فوق سطح مكتبه وارتفع صوته نَاهِرًا إياه بقوله:

- أنا عايز أفهم أنت إزاي تسمح لنفسك تعمل حاجة زي دي، عارف لو صحفي واحد شم خبر عن تحرشك بالبنت، هيحصل إيه لأسهم إمبراطورية سليمان الحاج، عارف أساسًا داوود باشا ممكن يعمل فيك إيه، أنت خلاص يا أفندي ودعت الشغل فأي مكان محترم، من اللحظة اللي شيطانك وزك تلمس البنت دي، ودلوقتي أتفضل سلم كل العهدة اللي عندك، وسلاحك والشارة الخاصة بأمن المكان وأمشي، وأحمد ربنا إن داوود باشا مجاش ليك بنفسه، لأن وقتها مكنتش هتخرج من هنا، إلا على قسم الشرطة.


اكفهر وجه محمود وأطرق برأسه هربًا من نظرات تيسير الحانقة وقال:

- أنا آسف على اللي حصل مني، بس أرجوك بلاش يتكتب عني حاجة فالتقرير، علشان أقدر الأقي شغل تاني، حضرتك عارف أي نقطة سودا فسجل الخدمة، مافيش أي شركة أمن هتقبل بيا.


زفر تيسير وعاد إلى مكانه ورمق محمود بنظرات آسفة وأردف:

- بص يا محمود أنا هكون صريح معاك، للأسف أنت مش هتقدر تكسب تعاطف أي حد، ودا مش بسبب كلام البنت لأنها أساسًا متكلمتش، إنما دا بسبب التسجيلات اللي وضحت الحقيقة، وأظن أنت أكتر واحد عارف هو عمل إيه كويس، وعلشان مظلمكش رغم أن أقل عقاب ليك، أني أحذر الكل منك، إلا أني هسيبلك الفرصة أنك تلاقي شغل فأي مكان تاني، لكن خلي بالك عيني هتبقى عليكِ، ومع أي تفكير فالغلط، صدقني وقتها هتتمنى إنك كنت تتسجن بدل اللي هيحصل لك، ودلوقتي أتفضل سلم الكارنيه والسلاح وأتفضل.


أومأ محمود وغادر سريعًا، وما أن تأكد تيسير من مغادرته حتى التقط هاتفه وأجرى اتصاله، وحين أجابه داوود سارع بقوله:

- كل حاجة مشيت زي ما حضرتك أمرت، محمود سلم العهدة ومشى.


أجابه داوود بصوتٍ حانق قائلًا:

- تمام أجمع لي كل أفراد الأمن، وهاتهم وتعالى مكتبي حالًا.


-------------------- 


وعلى صعيدٍ آخر بأحد الأماكن، جلس خلف شاشة حاسوبه يسجل البيانات ويحلل معظمها، ويبعد عينيه تارة عن الحاسوب، ويدون بعض الكلمات بأحد الدفاتر، صب اهتمامه الكامل على ما يدونه، وغفل عن ذاك الذي ولج إلى مكانه واتجه صوبه، وقبل أن يلمس كتفه، استدار وحدجه بنظراتٍ نارية وقال:

- ممكن أفهم إيه اللي أنت عملته النهاردة دا يا مينا، عايز أعرف من أمته سيادتك بتجود فشغلك، من أمته بتسمح لأي حاجة تخرجك عن تركيزك، أنت واعي إن اللي عملته النهاردة كان ممكن يخسرنا ملايين، وأنه مش هيعدي بالتساهل وهيبقى له عواقب، عمومًا دا مش وقت حساب، أنا مضطر أأجل أي حاجة لحد ما أشوف توابع اللي عملته النهاردة هيكون إيه، ولعلمك لو الشغل دا أتأثر أنا مش هعديهالك، ما هو يا مينا غلطة الشاطر بتبقى بالف، ودلوقتي أتفضل روح شوف وراك إيه هتعمله، وأنا هنتظر منك تقرير بكل شغلك.


زفر مينا أنفاسه بضيق، وعيناه تترقب نظرات خاطر، وحين ازداد وجهه عبوسًا، أدرك مينا أن عليه الانصياع التام، حتى لا يتعرض لتعنيف أكبر، فاستدار مغادرًا وهو يهمهم:

- هبعتلك التقرير أول ما أخلصه.


ولج مينا إلى غرفته، وارتمى بجسده فوق فراشه مُغْمِضًا عيناه، يُفكر بأمر تلك الفتاة التي رأها، لا يدر لما تشبث بها عقله، على الرغم من قراره بعدم الانخراط في أمور الحب، كي لا يظلم أخرى معه، كما فعل سابقًا، زفر بحنق وهب واقفًا وغادر غرفته متجهًا إلى غرفة خاطر، وولج وعلى وجهه إمارات السخط، فرمقه خاطر بنظرة خاوية أردف بعدها بقوله:

- قول اللي جواك وبعدها تروح تشوف وراك إيه، أحنا معندناش أي وقت نضيعه.


بادله مينا النظرات وأطرق برأسه بعد ثوان، فأدرك خاطر أن هناك خطب ما، فترك ما بيده واتجه صوبه وجلس إلى جواره، وربت فوق ظهره بهدوء وقال:


- مالك يا مينا إيه اللي حصل معاك وخلاك بالحالة دي، أنا ليا كتير مشوفتش نظرة التيه اللي فعينيك دي، يا ترى في حاجة جدت ولا.


قاطعه مينا بنفيه، فتطلع إليه خاطر بصمت، فزفر مينا بقوة وأرجف بصوت مهتز:

- أنا مش عارف إيه اللي جرى معايا، أنا كنت عادي ومش مهتم بأي حد، بس كل دا أتغير من أول ما بدأت الشغل الجديد، شوفتها مرتين وبقت مُحتلة تفكيري، مش عارف أنساها يا خاطر، ودا معصبني ومخليني حاسس بالخنقة، كاره نفسي أن في واحدة فرضت نفسها عليا وشغلت تفكيري، رغم إن مدرش بيني وبينها أي حوار، مجرد نظرة منها، عملت فيا كل دا.


ثار غضب مينا حين تجسدت أمام ناظريه، بابتسامتها الهادئة وعينيها اللامعة، فانتفض من مكانه وصاح بصوتٍ عال:

- أنا أتعمدت أجود النهاردة فالشغل، علشان اسيبه وأمشي، أنت مُتخيل يا خاطر معنى إن مينا بيشوي، اللي محدش قادر يمسك عليه غلطة يجود، ويعرض مجهود شهور يروح هدر، أنا مش قادر أسامح نفسي على الهفوة دي، ومش قابل أن عقلي يفكر فيها.


زم خاطر شفتيه، وهو يحدق بمينا، الذي أخذ يسير بلا هوادة أمامه، لا يدر من تلك الفتاة، التي استطاعت بمجرد نظرات، أن تُبدل حال مينا، وتجعله يترك مهمة كتلك دون أن يهتم للعواقب.


------------------- 


انهمكت ذكرى في ترتيب الطاولة أمامها، وابتعدت عنها بعد مرور بعض الوقت، وتطلعت إلى ما أنجزته وزفرت بارتياح، استدارت تجول بعينيها في المكان وهزت رأسها برضى، وغادرت غرفة الطعام الرئيسية، ووقفت تتأمل البهو بعدما أطلقت يديها في المكان، وغادرت إلى غرفة الملابس ووقفت تهندم هيئتها، وتنفست بقوة وهي تُفكر في كلمات سراج التي صفعها بها، رافضًا اعتذارها عن إكمال العمل، وأمرها بالعودة ونسيان أمر تلك الاستقالة، حتى تنتهي تلك الليلة على خير.


وفي تمام السادسة، صف سائق الليموزين سيارته، أمام بوابة القصر، وغادرتها كيندا كامل بِتَكَبُّر، والقت ببصرها إلى رجال الأمن الذين تأهبوا لاستقبالها، فرمقتهم بغرور وتجاوزتهم إلى الداخل، وقبل ولوجوها للبهو أوقفها رنين هاتفها، فزمت شفتيها وزفرت بسخط، وسحبته من حقيبتها واستقبلت الاتصال، واستمعت إلى صوت مُحدثها بجبين مقطب ووجه ازداد تجهمًا، وأنهت كيندا الاتصال دون أن تنبث بكلمة، واستكملت ولوجها إلى البهو بأعين متحفزة تبحث عن ضالتها بترقب، وأخيرًا لمحتها تتلمس حافة مقعد داوود، فعقدت حاجبيها وزفرت بقوة وأشاحت بوجهها عنها، وخطت باتجاه المكتب وطرقت بهدوء مُزيف، ليُجيبها صوت داوود الرخيم، فولجت كيندا وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة ثلجية، تبدلت لأخرى دافئة ما أن ضمها داوود بين ذراعيه وقبل وجنتيها، بعدها بدقائق كانت كيندا تتلمس جبينها وهي تغمض عينيها وهمست بصوت خافت:

- داوود ممكن تطلب لي فنجان قهوة، أحسن أنا حاسة بصداع رهيب، وياريت لو مع القهوة أي مُسكن.


أومأ داوود وابتعد عن مكتبه، وهو يبتسم بمرح، وما أن فتح باب مكتبه حتى طالعته هيئة ذكرى، بخصلات شعرها الأسود الغجري، وقد جمعته بذيل طويل خلف ظهرها، تاركة بعض الخُصل الشاردة فوق وجهها، فازدرد لعابه وهو يتقدم منها كفهد متحفز، وفاجأها داوود بصوتٍ خافت يقول:

- اعملي اتنين قهوة مظبوط يا ذكرى بنفسك، وهاتيهم المكتب ومعاهم أي مُسكن، وياريت متتأخريش زي المرة اللي فاتت.


انتفضت بعيدًا عنه، ورفعت كفها ووضعته فوق صدرها، بعدما أحست به يرجف بقوة، وأومأت بالموافقة مُتناسية قرارها بالتمرد، وسارعت بخطواتٍ مُتعثرة نحو المطبخ، تلوذ بالفرار بعيدًا عنه، في حين اتسعت ابتسامة داوود، لتأكده من تأثيره القوي بي، غافلًا عن عينا كيندا التي اشتعلت بلهيب حاقد.


وبعد أقل من عشر دقائق، ولجت ذكرى إلى مكتب داوود، ووضعت القهوة أمامه وغادرت سريعًا، لتبدأ بتولي مهام وظيفتها اَلْمَقِيتَة للنفس، بعدما توال توافد ضيوف الحفل، وبات الجميع يسعى لاتمام عمله، وتناست ذكرى أمر مخاوفها وضيقها، وصبت كامل اهتمامها بعملها ذاك.


في حين انشغل داوود كُلِّيًّا بضيوفه، ورافقته كيندا ملتصقة به كَظِلّ آخر له، تترقب بعينين كالحدأة تلك الفتاة وتتوعدها سرًا بالويل.


تكملة الرواية من هنا


تعليقات

التنقل السريع
    close