القائمة الرئيسية

الصفحات

لعنة_الطاغي منى_أحمد_حافظ الموناليزا (2) خدعة أم خطأ جسيم. كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات

 



لعنة_الطاغي

منى_أحمد_حافظ

الموناليزا

(2) خدعة أم خطأ جسيم. 

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

----------------------------------


بعد مرور ساعة من بدء الحفل، تملك الدوار من ذكرى، فزمت شفتيها لنسيانها أمر علاجها، فتلفتت حولها تبحث عن سراج، وزفرت بحنق لاختفائه تمامًا من أمامها، لتنتبه إلى صوت إحدى الفتيات تخبرها:

- محتاجين اتنين قهوة مظبوط، وواحد فرابتشينو، وواحد دوبيو، ووديهم القاعة الخارجية، ياريت متتأخريش، علشان في اجتماع، هيبدأ بعد عشر دقايق.


أغمضت ذكرى عينيها، بمحاولة بائسة منها لتستعيد تركيزها، فدوارها أشتد وباتت تشعر بغثيان يتصاعد بداخلها، ازدردت لعابها وأومأت بوهن، واتجهت صوب المنصة الخاصة، ووقفت تُعد ما طُلب منها، ازداد خفقان قلبها، وأدركت بحبيبات العرق تنساب فوق جبهتها، تمسكت بحافة الطاولة بيدٍ مرتجفة، وبالأخرى سكبت القهوة، أراقت البعض منها فوق غِطاء الطاولة، فلعنت حظها والتفتت تبحث عمن ينجدها، فهي تحتاج لدقيقة واحدة فقط لتأخذ جرعتها، وبدا وكأنه سمع توسلها الخافت، وقف خلفها يراقب ترنحها الخفيف، عاقدٍ لحاجبيه لظنه أنها ثملة، فاقترب منها غاضبًا، لا يدر لِما ثار حنقه منها، حينها التفتت ذكرى، ليضيق داوود عينيه، ويمعن النظر إليها، وما أن لاحظ شحوبها وتعرقها، حتى سارع بسحب الإناء من يدها، وأشار إلى أخر ليتولى عنها مهتمها، بينما وقفت ذكرى بعيون غشاها ضباب الدوار، ورفعت يدها تتحسس جبهتها، وارتعدت فجأة، لتسقط تاليًا بين ذراعي داوود، الذي حملها واتجه بها وسط نظرات الفضول والتساؤل، نحو مكتبه، يتبعه أحد أفراد أمنه، فأدار داوود رأسه وقال بصوتٍ أمر:

- عايز دكتور حالًا.


لبى النداء بثوان، فمن لا يُلبي لداوود أمر، وجثى أمام ذكرى الفاقدة لوعيها، وبعد فحص استمر لخمس دقيقة، أدار الطبيب رأسه وقال:

- واضح أنها مريضة سكر، والظاهر أنها نسيت تاخد جرعة الأنسولين، لو ممكن حد يشوف فين شنطتها، أكيد هيلاقي الجرعة بتاعتها.


أسرع سفيان حارس داوود الخاص للخارج، وبحث بثوان عن إحدى زميلاتها، حتى وقع بصره على فتاة ترتدي ثوب مماثل، فاتجه صوبها وسألها عن حقيبة ذكرى، فعقدت إسراء حاجبيها وسألته بحيرة:

- وحضرتك عايز شنطة ذكرى ليه، هي سرقت حاجة.


زم شفتيه وأخبرها بما حدث، لتُسرع إسراء من أمامه صوب حجرة ملابسهم، والتقطت حقيبة ذكرى، والتفتت لتصطدم بالحارس، فحدقت به بضيق وقالت:

- مكنش هيحصل حاجة، لو كنت استنيت برا، على فكرة ميصحش أنك تدخل هنا.


مال صوبها بعدما جذب من يدها الحقيقة وقال:

- سفيان محدش يقوله ميصحش.


ابتعد عنها فرفعت حاجبها بسخط، وتذمرت بقولها:

- يا سلام على غروره، قال سفيان محدش يقوله ميصحش، لأ دا ميحصش بالثُلث.


سلم سفيان الحقيبة إلى داوود، الذي بدوره فتحها، فوجد أمامه عُلبة التقطها وسلمها إلى الطبيب، ليزفر الأخير بارتياح ويقول:

- تمام كويس أنها محضرة الجرعات، أنا هديها الحقنة، وياريت لما تفوق، تاكل أي حاجة خفيفة، علشان تستعيد نشاطها.


حقنها سريعًا، ووقف يتطلع إلى وجه داوود الذي تجهم، فسارع بقوله:

- هتحتاج مني أي حاجة يا داوود باشا.


صرفه داوود، واتجه إلى مقعده، وجلس يتأمل صحوها، لمست جبهتها، فابتسم لتلك اللزمة لديها، بدأت ذكرى تستعيد وعيها وفتحت عينيها واعتدلت وهي تجول ببصرها في المكان، لتنتبه رويدًا إلى المحيط بها، ليقع بصرها في النهاية عليه، يجلس واضعًا ساقً فوق الأخرى، فهبت على قدميها، ليداهمها الدوار، فرفع حاجبه بسخط وهز رأسه وأردف موبخًا إياها:

- أقعدي يا ذكرى علشان الدوخة تروح.


ازدردت لعابها ورحبت بدعوته، وعادت إلى مكانها، وزفرت بقوة لتُجلي أفكارها، لتعي ما حدث بالخارج، فظهر القلق على ملامحها، وحدقت بوجهه بمحاولة ضعيفة منها، لتبين موقفه إزاء ما حدث معها، بينما كانت عينا داوود تتفحصها مليًا، يتابع بتسلية توترها الواضح، وأدرك أنه يؤثر بها كثيرًا.


------------------------------------


وبالخارج أخبرها أحدهم بما حدث، فاستشاطت غضبًا، وأدركت أن عليها التصرف وأنقاذ الموقف، قبل أن تتمادى تلك الفتاة، وتسلبها حقها، عقدت كيندا حاجبيها، وأطرقت تُفكر سريعًا بما عليها فعله، لتتسع ابتسامتها، فأخفت ما أضمرته بنفسها، وهي تتجه إلى الداخل، وعند زاوية تحفظها جيدًا، سارعت بأتخاذ أول خطوة لها، وأكملت سيرها تبتسم، حتى توقفت أمام باب مكتبه، وطرقت بابه بهدوء، ليأتيها صوته الرخيم يسمح لها بالدخول، فولجت وبادرته بقولها بصوتٍ هادئ:

- داوود أنت قاعد هنا، والناس بتسأل عليك برا، إيه معقول نسيت أن في اجتماع بعد خمس دقايــ.


تعمدت أن تبتر حديثها، ما أن وقعت عينيها على الفتاة، وأومأت لها بوجه مُبتسم، وأدارت وجهها ونظرت إلى داوود بارتباك وأردفت:

- أنا أسفة مكنتش عارفة أنك معاك حد، عمومًا أنا هخرج هروح أقعد مع الناس، على ما تخلص كلامك مع الأنسة.


ادارت كيندا بوجهها نحو ذكرى، وهي تُكمل استرسالها:

- بجد أسفة أني أقتحمت القعدة بينكم، بس هو أنا شوفتك قبل كدا.


تلبكت ذكرى وازدردت لعابها، وقبل أن تُجيب أتى صوت داوود يقول:

- ذكرى يا كيندا، بتشتغل معايا هنا، بس هي تعبت شوية، تقريبًا نسيت تاخد جرعة الأنسولين، عمومًا أنا هسيبها تستريح زي ما الدكتور أمر، وهاجي معاكِ.


تركت كيندا حقيبتها فوق المَقْعَد بشكل عفوي، وغادرت برفقة داوود وهي تحدثه بشأن الصفقة الأخيرة، في حين تهاوت ذكرى فوق مَقْعَدها، بجسد يرتجف، فاحتضنته بقوة لتوقف رجفته، تُفكر بما حدث، زفرت بقوة واستجمعت شتاتها، ووقفت فلمحت حقيبتها، فانتشلتها من فوق المَقْعَد، وغادرت لتعود إلى عملها من جديد.


---------------------------


مر الوقت عليها وهي منهكة، لم تتوقف لثوان بعد أن استعادت نشاطها، إلى أن أتت إليها دنيا، رحبت بها وسألتها عما يدور بالخارج، فجلست دنيا وهي تُمسد ساقيها بتعب، وأردفت بأجابتها:

- حاليًا أحنا أخدنا بريك، تقريبًا كدا الأجتماع اللي داير له أكتر من ساعتين بقى مُشتعل الأطراف.


عقدت ذكرى حاجبيها وسألتها:

- يعني إيه مُشتعل الأطراف دي يا دنيا.


رفعت دنيا حاجبها بدهشة وأردفت:

- معقول مش عارفة يعني إيه، عمومًا أنا هكسب فيكِ ثواب وأفهمك، مُشتعل دي يعني، الصوت بينهم بقى عالي، تقريبًا كانوا بيتخانقوا، والشروط اللي بيتناقشوا فيها، مش عجباهم، وطبعًا بسبب صوتهم العالي، وخوفهم أن أسرارهم تبقى على المشاع، الأمن قال لنا ناخد راحة نص ساعة، فقولت استغلها وأجي أشوفك بتعملي إيه.


أومأت ذكرى بتفهم، ولم تدر أنها شردت بفكرها بعيدًا عن دنيا، ليقتحم مُخيلتها وجه داوود، فازدردت لعابها بارتباك، تتساءل لما لم تستطع إبعاد أفكارها عنه؟ فهو بالنسبة إليها يُعد لغزً، بل هو النموذج المحقق، لمقولة الرجل الغامض.


---------------------------


وبالقاعة الخارجية، جلس داوود على رأس الطاولة، يحدق بوجوه الجميع باستهزاء، يُدرك أنه صفعهم جميعًا، ووجه ضربة قاتلة لحساباتهم الخاصة، ابتسم بمكر وهو يرى من يجفف وجهه، ويستمع لمن يهدد ويُندد، وبعد أن بدت الوجوه حوله مُحتقنة، تكاد تتميز من الغيظ والغضب، وقف داوود وضرب بقوة فوق سطح الطاولة، ليعم الصمت عليهم، وتطلعت العيون إليه بتخوف، فعقد حاجبيه وجال ببصره فوقهم، ثم ترك مكانه ليزدرد البعض لعابه، ليحسم داوود الأمر بعدما أيقن أنه نال مبتغاه، وصارت أعناقهم بين قبضتيه فأردف:

- على فكرة أنا مجمعكم النهاردة هنا، مش علشان أراضيكم، لأ أنا مجمعكم علشان أكشف حقيقتكم قصاد بعض، وأخليكم تخلعو قناع الزيف اللي لبسينه، للعلم أنا فاهم وعارف إن كل واحد فيكم، أول ما استلم دعوة الحفلة، فكر أنه بالشكل دا هيقدر يواصل كذبه على الطاغي، وللأسف غبائكم وطمعكم خلاكم تيجوا لحد هنا، وكل واحد عايز تطلع مني بمنفعه، تمام أنا مستعد أدي كل واحد فيكم اللي هو عايزه، ويمكن أكتر كمان، بس ياترى كل واحد فيكم، جاهز يدفع اللي عليه ويسد دينه، ولا أنتم فاكرين إن داوود الطاغي، قلب الأمبراطورية بتاعته لمؤسسة خيرية.


ابتسم لشحوب وجوههم، فأردف مستكملًا حديثه، بصوت أكثر صرامة وقوة:

- أظن بعد اللي عملتوه سابق، وأنا تقبلته منكم ومعقبتش عليه، الكل دلوقتي فهم هو مين داوود الطاغي.


ران صمتٍ مُهيب، حتى الأنفاس حُبست داخل الصدور، فشخصت أبصارهم على وجهه الصارم، وهو يتجه ليقف بينهم، بهيئته القاسية وعيناه الجليدية، منتظرًا ردة فعل كلٌ منهم على قوله، وتحدى عقله أنهم سيركعون قبل العدة الثالثة، وبدأ يُعدد بسرية تامة، واحد اثنان، ويقف أول الرجال عن مَقْعَده، فاتسعت ابتسامة داوود وازداد زهوه بنفسه، وهو يراه متجهًا إليه، ليحني رأسه ويمد يده مُلتقطًا يد داوود مُقبلًا إياها، حينها ربت داوود رأس الرجل بأنامل يده الحُرة، ليعتدل الرجل ويهتف ووجه لأسفل:

- أنا على أتم الأستعداد، أنفذ كل اللي تحكم بيه يا داوود باشا.


وما كاد الرجل يُنهي قوله، حتى تدافعوا يتسابقون إليه لينالوا رضاه ومبتغاهم، في حين وقفت كيندا تحدق به بزهو وتهمس مُهنأة نفسها:

- مش ممكن كل مرة، بتعرف تثبت للكل، أنك الامبراطور بلا منازع، برغم أنك أصغر سنًا يا داوود.


بدا وكأن صوت همسها السري وصل إليه، فالتفت إليها وحدق بها، وأشار إليها برأسه لتقترب منه، واستجابت كيندا له واتجهت صوبه كالمغيبة، ووجدت يده ممدوده إليها، فاتسعت ابتسامتها، وتشبثت بها بتملك، والتصقت بجسده، لتعطي انطباعًا للجميع، أن داوود سليمان يخُصها هي كيندا كامل.


----------------------

 

سجل كل كلمة تقال، وما يدور بينهم باهتمام، وبدا وكأنه اندمج مع جهازه اللوحي، ينقر فوق أزراره بسرعة لا تلحظها العين، يحلل كل كلمة، وفجأة ووسط غيمة الحروف والنقاط، اقتحمت صورتها تفكيره، تجمدت أنامله فوق لوحة الحروف، وشرد وقد خُيل إليه، أنها تحدثت بصوتها وتعتذر:

- أسفة الظاهر أني كنت سرحانه، ومأخدتش بالي إن حضرتك واقف.


ازدرد لعابه وتنفس بقوة وأغمض عينيه، ليتسلل عبيرها إلى دواخله، أحسها تضمه بأناملها الرقيقة، وتُضيء عَتَمَة ليله بابتسامتها الوضاحة، فهمس بتيه:

- شجن.


انتبه مينا لصوت صفير حاد، فنزع عن أذنيه سماعته، ولعن شروده فيها، وهب عن مكانه مبتعدًا، يهز رأسه رفضًا لما يحدث معه، التقط عُلبه سجائره وأشعل إحداها، وأخذ يمتصها بقوة، وعاد من جديد إلى مَقْعَده، وثبت سماعته يُصغي السمع ، وأنامله تُجاري الصوت وتكتب.


ومن خلف زجاج مكتبه راقبه خاطر، وهز رأسه بأسف، فرؤيته لمينا وهو بتلك الحالة تؤلمه، يتمنى لو كان بإمكانه مساعدته ليتجاوز الأمر ولكن كيف؟ زفر وهو يُفكر أيمكن له أن يستعين بأحد ليساعدا مينا سويًا على تقبل ما حدث معه، أيذهب ليبحث عن تلك الفتاة ويرجوها مساندته، فـمينا هو بمنزلة ابنه الذي لم ينجبه، لا؛ بل جميعهم أبناءه، فهو من كافح لينجو بهم ومعهم.


-----------------------------------


وفي الحفل الذي أوشك أن ينتهي، ملت شجن من البحث عنه، فهي لم تعُد تراه منذ صباح اليوم، خفضت رأسها وعادت تجُر أذيال الخيبة، وما أن ولجت إلى داخل المطبخ، حتى صرخت كريمة مديرة المنزل بوجهها قائلة:

- ممكن أعرف البرنسيسة شجن، سابت شغلها وراحت فين؟ 


احمر وجهها حرجاً للهجوم المباغت لها، وخفضت رأسها لا تدر بما تُخبرها، لتُردف كريمة مستكملة كلماتها الناقمة:

- أنا بجد مش عارفة أنتِ وغيرك، لو قاصدين تجيبوا لي أزمة قلبية، مكنتوش تسيبوا مكانكم وتروحوا تتفرجوا على الحفلة، الحفلة اللي لو داوود بيه لمح طرف واحدة منكم برا، هيبقى أخر يوم لوجودها هنا، علشان هو حذر كل البنات هنا من أنهم يخرجوا برا المطبخ، طول ما الحفلة شغالة، تقومي أنتِ وبمنتهى البساطة واخدة حالك وخارجة، ممكن بقى تفهميني، كنتِ بتعملي إيه برا فوقت زي دا يا شجن.


باتت محاصرة لا تعرف كيف ستخرج من هذا المأزق، لينقذها صوت ذكرى التي ولجت ولم ينتبه إليها أحد:

- بعتذر من حضرتك، بس الأنسة شجن كانت واقفة معايا لأني كنت تعبانة، أنا عارفة أن ممنوع العاملات اللي فالقصر تختلط بأفراد الشركة المنظمة، بس بصراحة هي أنقذتني، فكان واجب عليا أني أجي وأعتذر ليها ولحضرتك.


التفتت شجن بوجه مرتبك نحو ذكرى، لتقابلها الأخيرة بابتسامة مطمئنة، فأومأت كريمة برغم ريبتها، وتطلعت نحو ذكرى وسألتها:

- على ما أظن إنك البنت، اللي أتسببت بطرد فرد الأمن النهاردة، اللي تطاول عليكِ وأتحرش مش كدا.

 

بوغتت ذكرى بما تقوله تلك المرأة، وتغضنت جبهتها، فسألتها التوضيح، فرفعت كريمة حاجبها باستنكار وهتفت:

- أظن كلامي واضح، ولومحتاجة توضيح أكتر، تقدري تروحي تسألي داوود بيه نفسه، لأنه هو اللي أمر بطرد محمود.


ما أن تسلل اسمه إلى سمعها، حتى شهقت شجن بذعر، ورفعت يدها ووضعتها فوق شفتيها، ووغزها قلبها لا تصدق أن يقوم هو بمثل هذا الفعل المُشين، التفت كريمة إليها، تحدق بها بشك واقتربت منها وهي تتفرس بملامح وجهها الشاحبة، لتقف أمامها وهي تعقد حاجبيها وسألتها بريبة:

- مالك وشك اتخطف مرة واحدة، إيه هو أنتِ كنتِ تعرفي اللي اسمه محمود دا، وزعلانة أنه أنطرد، ما تتكلمي يا أستاذة شجن، زعلتي أن المتحرش دا انطرد.


صمتت كريمة لتواصل تطلعها بوجه شجن، الذي ازداد شحوبًا، لتهتف بصوتٍ حانق قائلة:

- قولتيلي بقى، يعني محمود دا هو اللي كنتِ كل شوية، تسيبي مكانك وتخرجي برا علشانه، والله عال يا ست شجن، عمومًا أنا هوصل لداوود بيه كل اللي حصل، وهو بقى يتصرف بمعرفته.


واستدارت لترمي ذكرى بنظراتٍ نارية وتُردف:

- وأنتِ يا أنسة أتفضلي أطلعي من هنا، روحي شوفي اللي وراكِ، ولا أنتِ مش عارفة أن القصر هنا له قوانين، واللي أهمها أن ممنوع على أي حد غريب عن القصر أنه يدخل المطبخ.


لون الحرج وجه ذكرى، وتطلعت بحيرة إلى وجه كريمة، لترفع الاخيرة حاجبها بسخط وهي تُشير نحو الخارج، فلم يكن أمام ذكرى غير الاعتذار والمغادرة السريعة، تلعن تعجرف تلك المرأة وبغضها.


وتزامن مغادرتها للمطبخ، مع ولوج كيندا وهي تلتصق بجسد داوود، ولم تدر ذكرى لما تملكها الغضب، فأشاحت بوجهها وابتعدت عن طريقهما، تتبعها عينا كيندا سرًا، ويتفرس في ملامحها المحتقة داوود، ليغيبا عن الأنظار بولوجهما إلى المكتب، وبعد لحظات تعالت صيحة استنكار من داخل المكتب، وصل صداها إلى الجميع.


وفجأة تبدل الحال وبدا القصر وكأنه تحول إلى قاعة عسكرية، فأحاط الحرس بداوود الذي غادر مكتبه، بينما وقفت كيندا إلى جواره وبين يداها حقيبتها، تنظر باتجاه ذكرى بغل، ليصدح في المكان صوت داوود يقول:

- للمرة الأولى فحياة عيلة سليمان، تحصل حالة سرقة، أنتم عارفين يعني أيه حد يتسرق منه حاجة، وهو ضيف فقصر داوود الطاغي.


اكتست الوجوه بالذعر، وأدرك الجميع أنهم باتوا متهمين، وبلحظات وقف بمنتصف القصر كل العاملين به، صفًا واحدًا نظمه الأمن بصرامة، وأمام كل منهم وضعت اشياؤه الخاصة، حينها ابتعد داوود عن كيندا التي تصاعد غضبها وتسارعت أنفاسها، واقترب من ذكرى، فأطاحت حركته تلك بتعقل كيندا تمامًا، فاندفعت كالعاصفة الهوجاء، وقبضت على خُصلات شعر ذكرى، وجذبتها بعنف ودفعتها، لتسقط أرضًا أمام الجميع، باغتته تمام بفعلتها تلك فتجمد بمكانه، يشعر بأن كيندا صفعته أمام موظفيه بفعلتها، فهو وبعدما أصبحت ذكرى أسفل قدميه، لن يستطيع أبدًا الأنحاء ومساعدتها، خاصة بعدما صرخت كيندا بوجهها وقالت:

- فين الخاتم الألماظ والأسورة يا حرامية، أنتِ الوحيدة اللي كنتِ فالمكتب، وأكيد سرقتيه من شنطتي، بعدما خرجت أنا وداوود، طلعي المجوهرات بالذوق بدل ما أبهدلك.


شحب وجهها ذكرى وهزت رأسها بالنفي، لتركلها كيندا بمقدمة حذائها بقوة، فصرخت ذكرى متألمة، بينما ازداد شحوب الجميع، بعدما امرهم الأمن بالتراجع للخلف بضع خطوات، وقبل أن تنقض كيندا على ذكرى مرة أخرى، كان داوود واقفًا أمامها كالسد المنيع، فنظرات ذكرى أخبرته أنها لم تسرق شيء.


وليته لم يعترض مسارها، فكيندا صرخت ومالت صوب حقيبة ذكرى، وألقت بها أمام أحد أفراد الأمن وصرخت:

- خد فتش الكيسة القذرة دي، وطلع لي خاتمي وأسورتي منها، اللي سرقتهم الحرامية.


رفع الرجل وجهه ونظر إلى عينا داوود، فأومأ له بتنفيذ أمر كيندا، وتراجع بعدما أشار لسفيان برأسه، ليتقدم الأخير ويميل فوق جسد ذكرى، وأوقفها على قدميها أمام داوود، الذي ابتسم ساخرًا والتفت إلى كيندا وقال:

- اهدي يا كيندا، هي مش هتمشي من هنا، إلا لما اللي راح يرجع، وزي ما الكل بيتفتش، هي كمان هتتفتش.


وأعقب داوود كلماته، بتنفيذ قوله فمد يده نحو ذكرى، التي تراجعت بعيدًا عن يداه، وهي ترتجف فرفع حاجبه باستخفاف، وجذبها بقبضة واحدة من بين يدا سفيان، وبالأخرى جال فوق جسدها، يتحسس منُحنياته متعمدًا التمهل، تجمدت ذكرى بين يداه تشعر بالمهانة والذِلة، وسالت دموعها لأحساسها بالرُخص هكذا، بينما تفجر غضب كيندا، واتسعت عيناها بصدمة، لرؤيتها لداوود وهو يضم تلك الفتاة إلى جسده، وازداد الموقف تأزمًا، حين أعلن رجل الأمن خلو حقيبة ذكرى من المسروقات، فصرخت كيندا فاستنكار، أجفل داوود وسبها بسخط، لتبديدها حالة السعادة التي غمرته لقرب ذكرى منه، فابتعد مُكرهًا عنها واستدار عنها، وأولى اهتمامه بكيندا وأردف:

- على فكرة يا كيندا الحاجة مش معاها، لا فشنتطتها ولا فجيوبها، فأحتمال وارد أنها متكونش هي اللي سرقتهم.


صاحت كيندا بغل، وهي تتوعد لذكرى بالويل:

- لأ يا داوود هي اللي سرقتهم، أنا متأكدة لأني مسبتش الشنطة بتاعتي من أيدي، إلا لما نسيتها فالمكتب عندك، وهي الوحيدة اللي كانت موجودة، وبعدين لو الحاجة مش معاها، فدا أدعى أنك تشك فيها أكتر، لإن أكيد هي ليها شريك موجود هنا، وهو اللي أخد منها مجوهراتي اللي سرقتها وخباها، علشان تبان ادامنا أنها بريئة.


غام وجهه واستدار بحدة يرمق ذكرى، لتتراجع بخوف بسبب نظراته القاتمة، ولكنه سرعان ما نفض عنه ذاك الهاجس، فهي لم تبتعد عن عيناه للحظة طوال الوقت، حتى وهو في قمة انشغالة، زفر بضيق فللمرة الأولى يشعر داوود بالندم، لسماحه لأحدٍ غيره بتولي زمام الأمور، فضيق عينيه ثم أعتدل وأشار بيده، ليسرع رجال أمنه بأبعاد الجميع، وبثوان خلا المكان إلا من ذكرى وكيندا، ليظهر سفيان إلى جوارها مرة أخرى ويخبرها بأن تتبعه، وتابعت كيندا ما يدور بسقم، وحين استدار داوود نحو مكتبه، تبعته وهي تغلي غضبًا وأعترضت على صرفه للجميع، ليزم داوود شفتيه ويقول:

- ممكن تهدي وأنا هجيب لك مجوهراتك، وبعدين حتى لو مظهرتش، فأنا هعوضك عنها متقلقيش.


ضربت كيندا الأرض بقدميها أعتراضًا على تساهل داوود، وزفرت بحنق لابتعاده عنها، وأن شغاله بمراجعة بعض الأوراق، فغادرت مكتبه ووقفت للحظات أمام بابه، لتلمع عينيها بعدما حسمت أمرها، رغم ادراكها مغبة تصرفها هذا وعواقبه، واتجهت صوب المطبخ، وما أن ولجت حتى صرخت بوجه سفيان وقالت:

- روح خلي الأمن يدور لي على المجوهرات فالجنينة، أحتمال يكونوا وقعوا هنا ولا هنا.


تردد سفيان للحظات، ولكنه نفذ حين رمقته كيندا بغضب، وتابعته حتى أختفى من أمامها، والتفتت تحدق بوجه ذكرى بحقد، واقتربت منها وصفعتها قائلة:

- مافيش غيرك اللي سرقني، ولعلمك لو الخاتم والأسورة مظهروش، أنا هسجنك.


ازدردت ذكرى لعابها، وحاولت تبرئة ساحتها، أمام أنظار الأستنكار التي أحاطتها، فخفضت عينيها أرضًا وقالت:

- بس أنا مسرقتش حاجة، وربنا عالم وشاهد، وبعدين ما أنا أتفتشت و.


قاطعتها كيندا، التي جلست فوق أحد المقاعد، ووضعت ساقً فوق الأخرى:

- وهتقلعي هدومك كلها هنا، وأدام الكل يا حرامية، علشان أنا عارفة ومتأكدة أنك سرقتي الحاجة وخبتيهم.


شهقت ذكرى ورفضت كليًا تنفيذ، لتُشير كيندا إلى كريمة التي ابتسمت بشر، واقتربت من ذكرى تجذبها بقسوة من ثوبها، لتمزق مقدمته، فصرخت ذكرى بألم، لتعمد كريمة خدشها، وبلحظات امدت بعض الأيدي تُساعد كريمة بتمزيق ثوب ذكرى بحجة تفتيشها، ليخلفن بجسدها خُدوشًا وجراحًا عديدة. 


وبعد بعض الوقت، غادرت كيندا المطبخ، وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة رضى، وولجت إلى مكتب داوود الذي أنشغل تمامًا بما بيده، وظن أن كيندا غادرت وعدلت عن متابعة أمر المجوهرات، رفع وجهه ليضيق عينياه فنظرات كيندا أثارت ريبته وظنونة، وما أن جلست أمامه حتى ألقت أمامه بقولها:

- على فكرة يا داوود، أنا أديت أمر للأمن يسلم البنت الحرامية للشرطة.


---------------------------------


وبقسم الشرطة، تفاجأ فريد باتصال كيندا، تُبلغة بسرقة مصاغها الذي أهداها إياه داوود، وأنها أرسلت له الفتاة التي سرقتها، وتوسلته أن يستعمل معها، كافة اساليبه كي يُعيد إليها ما يخُصها، وبعد مرور ساعات من الأهانة، التي وصلت إلى الضرب، وقفت ذكرى ترتجف أمام فريد، تلملم اطراف ثوبها الممزق بيد، وبالأخرى تكفكف دموعها وتقول:

- يا حضرة الظابط، أنا معرفش حاجة عن المسروقات، اللي سعادة البيه بيتكلم عليها.


تابع داوود تحديقه بها بصمت، عيناه تسجل كافة تفاصيلها، واهمل كليًا متابعة سير التحقيق، في حين انهمرت دموعها، ما أن سبها فريد وصاح بها معنفًا إياها:

- ما تنطقي وتعترفي وتخلصينا، وديتي المجوهرات فين.


أجابته بتلعثم وخوف:

- يا باشا والله أنا بريئة ومسرقتش حاجة، أنا اتظلمت واتبهدلت من البيه، اللي وقف فتشني أدام الناس، ومرعاش أني بنت، والمدام اللي كانت معاه، اخدتني المطبخ وخلت الخدامين يقـ.


لم تقوى على إكمال ما فعلوه بها وانهارت باكية، فتراجع عنها فريد، واستدار وتلاقت عيناه بعينا داوود، فأومأ برأسه بهزة خفيه، برغم يقينه ببرائتها ولكن عليه أن يتأكد، فعاد فريد وعقد حاجبيه وتطلع إلى الفتاة وقال:

- طالما مش عايزة تعترفي، يبقى متلوميش غير نفسك.


وصاح فريد بصوتٍ جهوري، وناد إلى أحد أمناء الشرطة وهتف قائلًا:

- خد البنت دي، كمل ترويقها لحد ما تعترف.


وصرخت ذكرى بذعر، وعقلها يُذكرها بما فعله بها ذاك الأمين، فأرتمت أمام مقعد داوود لتصدمه، وتشبثت بساقه وقالت، بصوت تملكت منه الرهبة والخوف، متنازلة عن كبريائها وكرامتها:

- أبوس رجلك يا داوود باشا، تقولهم أني مسرقتش حاجة، أرجوك خليهم يسيبوني، أنا والله بريئة ومعملتش حاجة، وبعدين لو حضرتك مش مصدقني، أسألهم عني فالشركة هيشهدوا إن عمري ما مديت إيدي وأخدت حاجة، صدقني والله أنا مشفتش حتى شنطتها، ومش عارفة ليه المدام اتهمتني ظلم، ارجوك ساعدني وأنا مستعدة أعمل أي حاجة، قصاد أني أثبت لك وللكل برائتي. 


أجهشت ذكرى بموجة بكاء مريرة، حين لزم الصمت، فادار داوود وجهه نحو فريد، وأشار إليه ليغادر، وما أن أصبح بمفرده معها، حتى وضع كفيه فوق كتفيها، واوقفها أمامه وحدق بعينيها وقال:

- بس يا ذكرى، حتى لو أنا مقتنع أنك مسرقتيش، كيندا مصممة أنك اللي سرقتيها، ولو أنا أدخلت وحاولت اخرجك، هيبقى موقفي محرج، يعني لأسباب كتير، منها أنك اشتغلتي فالقصر جوا، يعني كان سهل عليكِ تدخلي المكتب فأي وقت، أو زي ما كيندا قالت، أنك أخدتيهم وقت ما كنتِ فالمكتب، صدقيني يا ذكرى أنا نفسي أساعدك وأخرجك من هنا، زي ما عملت مع محمود اللي أتحرش بيكِ، بس مش عارف، أنا حقيقي حاسس أني متكتف.


ازداد نحيبها خاصة، بعدما جال بمخيلتها، ما قد يحدث لها على يد الأمناء والسجينات، بعد قول أمين الشرطة الذي تطاول عليها بالضرب، أن كيندا أوصت الجميع ألا يترأف بها، وبين تيهها وألمها النفسي والجسدي، تسللت برودة غريبة إليها، وأحست أنها لا تقوى على الوقوف، فرحبت بدعمه لها الغير متوقع، واستسلمت لضعفها واغمضت عينيها تدعو أن ينتهي كابوسها. 

أما داوود فقد تجمدت قسمات وجهه، ولم يدر أنه ضمها إلى صدره بتملك، إلا حين تسلل دفء جسدها إليه، وأحس بارتجافها بين ضلوعه، ثم استكانتها وتراخي جسدها، إثر فقدانها الوعي، فزفر بقوة وضرب بكل شيء عرض الحائط، وانحنى فجأة وحملها بين ذراعيه، وغادر مكتب فريد، وسط نظرات الصدمة التي ارتسمت فوق الوجوه، تلاحقه عدسات الصحافة.. 

--------------------


تكملة الرواية من هنا

تعليقات

التنقل السريع
    close