![]() |
لا يليق بك إلا العشق
الفصل الثاني والتالت
بقلم سماح نجيب
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات
٢– { لا يعتذر أبداً }
محاولة الممرضة المستميتة فى سحب يده من حول عنق تلك الفتاة التى كانت تُقن أنها ربما لقت حتفها ، بسبب كفه القابض على عنقها ، أتت بالنتيجة المرجوة بدفعه عن جسد الفتاة التى سقطت على الأرض مغشياً عليها بمجرد إبتعاده عنها
فبأثناء مرورها بمحض الصدفة من أمام غرفة مكتب صاحب المشفى ، ورؤيتها له يحاصر فتاة بين جسده و الحائط يحاول أن يدق عنقها ، سارعت هى بإبعاده عنها قبل أن يتفاقم الأمر أكثر من ذلك ، فما الذى دهاه اليوم ؟
صوت إرتطام جسدها بالأرض ، هو ما جعله يفيق من تلك الحالة اللعينة ،التى أصابته بسبب كابوسه الذى لا يفارقه ، فالرؤية لديه مشوشة وضبابية ، فكل ما كان يريده أن يدق عنق تلك التى لا تفارقه بأحلامه ، تجعلها كابوس مزعج، كأنه يعايشها بواقعه
خرج من تلك البلادة التى تلبسته ، بصراخ الممرضة به وهى تقول:
– دكتور راسل ألحقنى دى قربت تقطع النفس
ما كان منه إلا أن حملها عن الأرض ، يضعها على الاريكة التى كان يحتلها بجسده منذ قليل ، حاول أن يجعلها تفيق من حالة الاغماء التى إنتابتها ،نتيجة نقصان الأكسجين من رئتيها
ساعدته الممرضة بإنعاشها ،حتى فتحت حياء عينيها ببطئ ، وهى تهمس بصوت خافت:
– ماما
أطلت عليها الممرضة بإبتسامة هادئة ، وساندتها حتى جلست ،ووضعت قدميها أرضاً ، كمن فقدت الذاكرة فجأة ، تحاول أن تتذكر ما الذى حدث
ولكن عينيها التى إصتطدمت بوجه راسل الجالس على مقعده خلف المكتب ، يرمقها بهدوء كأنه لم يكن ليتسبب بقتلها منذ قليل
فأنتفضت صارخة بصوت جهورى:
–آااااه دا كان هيقتلنى كان بيخنقنى دا مجنون مجنون هو يبقى مين ده
ربتت عليها الممرضة ، لتجعلها تكف عن الارتجاف ، ولكن عندما تطلعت لوجه بنظراته الباردة والحادة ، كأنه ممتعض أنه لم يقضى على أنفاسها ، فهو لا يبدو عليه الندم على ما فعله
سعلت بشدة عندما ظلت تصرخ محتدة على ما كان سيؤل إليه أمرها ، فما كان منه سوى أنه أنحنى قليلاً للامام يستند بمرفقيه على طرف المكتب يعبث بقلم بين أصابعه
فرمقها بنظرة باردة قائلاً بنبرة صوت أشد برودة:
– لو فضلتى تصرخى كده مممكن يغمى عليكى تانى أو ينقطع نفسك هدى نفسك وأسكتى وبطلى زعيق علشان أنا مصدع ومش عايز وجع دماغ أكتر من اللى أنا فيه
نظرت حياء للممرضة التى أومأت لها برأسها أسفاً ، فإن كانت تنتظر أن يبدى ندمه على ما فعله ، فربما ستنتظر لما تبقى من عمرها
إستقامت حياء بوقفتها وهى تستند على يد الممرضة ،التى همست قريباً من أذنها :
– لو مفكرة أنه هيعتذرلك تبقى غلطانة دكتور راسل مبيعتذرش لحد ، وإحتمال كمان تلاقيه طردنى وطردك من الأوضة علشان يكمل نومه
إذا فهو ذلك الطبيب المتعجرف ، الذى سمعت عنه قبل أن تراه ،وياليتها لم تراه ، فهى كانت ستلقى حتفها على يده
ولكن شئ ما بداخلها جعلها رافضة ،أن تصمت على ما فعله ،فهى لن تنصرف من هنا قبل أن تراه يقدم لها أسفه ،على رعونة تصرفه معها
فأقتربت من المكتب تمشى بخطوات متأنية ،تخشى أن تترنح بوقفتها أو أن تسقط أرضاً ثانية ،كأن الدماء مازالت سريانها بعروقها بطئ
حدقت به بنظرة نارية، تصك على أسنانها بغيظ عظيم:
– أظن أنت مدين ليا بإعتذار عن اللى عملته وكان ممكن أوى أروح فيها لولا أن هى خلصتنى من إيدك ، فعلى الأقل تقول أنك أسف ومتقصدش اللى عملته ده ، ومش همشى إلا لما تعتذر
شبكت ذراعيها أمام صدرها ،دليلاً على تصميمها أنها لن تتركه قبل أن تحصل منه على ماتريده
نقر بالقلم على المكتب عدة نقرات ، ربما أثارت غيظها أكثر ، فما كان منه سوى أنه هتف بها بعدم إكتراث:
– أتفضلى يا أنسة مع السلامة وإن كان على الاعتذار أنتى اللى مفروض تعتذرى أنك دخلتى الأوضة بالرغم من أن حاطط ممنوع الدخول على الباب ولا أنتى مبتعرفيش تقرى لقيتى العلامة محطوطة على الباب يبقى فى عقل تفكرى بيه وتعرفى أنك مش لازم تدخلى
فحدق بالممرضة يشير إلى حياء معقباً:
– خديها من هنا ولو لسه تعبانة خلى حد من الدكاترة الموجودين يكشف عليها وخلى فاتورة الكشف على حسابى أتفضلى يا أنسة
فمها الذى فغرته بإندهاش ، لم تخرج منه كلمة أخرى ، فمن يكون هذا الإنسان الذي لم تقابل مثله من قبل ، كأنه أنتزعت منه صفة الأدمية المتعارف عليها بأبداء الأسف او الندم على فعل الخطأ
نظراته المتصاعدة ببرود ، جعلت الممرضة تفضل الخروج من الغرفة ، قبل أن تجده يخرجها من المشفى بأكمله
فأمسكت بيد حياء تجرها خلفها :
– يلا أبوس أيدك لكمان شوية ألاقيه رفدنى من المستشفى
إلتفتت حياء خلفها تلقى عليه نظرة أخيرة ، قبل إغلاف الممرضة لباب الغرفة ، وربما لو النظرات قادرة على القتل ، فمن المؤكد أنه كان خر صريعاً من نظراتها الكارهة
اعتاد هو على رؤية تلك النظرات بأعين المحيطين به ، فإن لم تكن نظرات تملق ، فهو يرى نظرات الخوف والكره ، وربما هذا أفضل ، فكلما زاد خوف الآخرين منه ،زاد إطمئنانه من أنه بأمان تام
______________
تلمست باقة الزهور التى تحملها على ذراعها ، لتضعها بعد ذلك أمام ذلك القبر ، فتلمست الشاهد الرخامى الذى خط عليه إسم تلك الراحلة ، التى تركتها تعانى منذ أن فقدتها فهى ليست شقيقتها فقط بل كانت أم ثانية لها
جثت على ركبتيها ودموعها تغرق جفونها وسرعان ما رطبت وجنتيها
فمسحت وجهها بيدها وهى تقول بحنين :
– وحشتينى أوى وحشتينى يا حبيبتى من يوم ما سبتينى وأنا حاسة أن أنا فى عذاب مبقتش طايقة الدنيا دى أكتر من كده بقيت أحلم كل يوم أنك جاية علشان تخدينى معاكى
ظلت وقتها تناجى الله وتحدث تلك التى وراها الثرى منذ أعوام ، ولكن مازال حزنها رابضاً بقلبها ،كأنها تركتها بالأمس القريب ، وليس منذ سنوات طوال لم تحسن عدها الآن ولا تريد تذكرها
بعد أن بثت شكوى الفراق ، نهضت من مكانها ، نفضت التراب الذى علق بثايبها وتأهبت للرحيل
وصلت لشارع يسبق طريق المقابر ، فسمعت صوت هاتفها ، أخرجته من جيبها ورأت إسم والداتها
ففتحت الهاتف تجيبها بهدوء:
– أيوة يا ماما
خرج صوت إسعاد متلهفاً وهى تقول:
– ولاء أنتى فين ، النهاردة أجازتك من الشغل وقولتى انك جاية على المحل ، أتأخرتى ليه ده كله
زفرت ولاء بخفوت تحاول كبح دموعها :
– كنت فى المقابر يا ماما وجاية دلوقتى مش هتأخر
أنهت المكالمة وأحنت رأسها تضع الهاتف بجيبها ثانية ، فلم تنتبه لذلك الشاب الذى إصطدمت به لتوها ، فرفعت رأسها وعقدت حاجبيها بغرابة من تحديقه بها الذى وصل إلى حد الوقاحة
فرأت أن تكمل طريقها أفضل من أن تعاتب ذلك السمج ، الذى يبدو عليه أنه أصتطدم بها متعمداً
ولكن كلما اتخذت طريق تجده يقف أمامها ، حتى أثار الأمر إستياءها فصاحت به بجماع صوتها الحانق:
– فى إيه يا أخ أنت ما تبعد عن طريقى
تبسم الشاب قائلاً بسماجة:
– طريقى وطريقك واحد يا جميل بس أول مرة أشوف جنية من جنيات المقابر وأعرف أنهم حلوين كده ، انا عندى إستعداد أتلبس لو أنتى جنية
انكمشت ملامح وجهها الجميلة بتفكير ، فما لبثت أن إزداد بريق عينيها السوداوتين ببريق الغيظ وربما الانتقام ممن يحمل كل صفة مذكر ، فربما اليوم يوم حظه السيئ لمقابلته لها ، فهى تكره صنف الرجال ولا تستثنى أحد من تلك القائمة سوى رجل واحد فقط
ظن أن إبتسامتها التى زينت ثغرها الفاتن ، علامة على قبول إطراءه وغزله لها ، ولا يعلم بما تنتوى فعله به
لم يدم الأمر سوى ثوانى معدودة ، حتى خر راكعاً على ركبتيه أمامها ، وصوت صراخه يطرب أذانها ، فتلك الضربة التى سددتها له بين ساقيه أتت بالنتائج المرغوبة ، فهى متمرسة بفنون الدفاع عن النفس ، ولم تبرع بها إلا لرغبتها فى أن ترى كل من يعترض طريقها من الرجال ينال نصيبه
فتركته ذاهبة ولكن قبل أن تبتعد أكثر ، إلتفتت إليه قائلة بشماتة:
– عرفت الجنيات بيدافعوا عن نفسهم إزاى يا سبع البرومبة ، وأظن الضربة دى هتعرفك مقامك كويس
وصلت للطريق الرئيسى ، فأشارت لإحدى عربات الأجرة ، فإستقلتها تخبره بذلك المكان الذى تريد الذهاب إليه ، ولم يكن سوى ذلك الحى الذى يقع به متجر العطور الخاص بوالداتها
عادت وفاء إلى متجرها برفقة الصغيرة ، بعد قضاء عدة ساعات فى البحث عن روضة للأطفال من أجل سجود ، فيومها أنقضى بالبحث ، حتى عثرت على مبتغاها
فسجود التى ما أن رأت تلك الفتاة إبنة إسعاد ،حتى ركضت إليها تناديها بحماس ، ففتحت ولاء ذراعيها تستقبل الصغيرة بينهما تدور بها تقبلها على وجنتيها
فداعبت طرف أنفها قائلة بمشاكسة:
– وحشتينى أوى يا سيجو
قبلتها سجود قبلة طويلة على وجنتيها وهى تقول:
– وأنتى يا ولاء وحشتينى أوى مش بتيجى عندنا ليه
زفرت ولاء تدعى الجدية :
– بجرى على أكل عيشى يا سيجو لحد ما أنقطع نفسى
رمقت سجود جدتها قائلة برجاء:
– آنا وفاء خلى ولاء تودينى الملاهى بليز
نظرت لها وفاء بغضب طفيف قائلة برفض قاطع:
– لاء مفيش ملاهى عقاباً على اللى عملتيه دا أنتى لسه مرفودة من الحضانة ليكى نفس كمان أنك تروحى الملاهى وكفاية اليوم اللى ضاع علشان الاقى حضانة جديدة لسيادتك
قهقهت ولاء من حديث وفاء ،حتى دمعت عيناها ، فغالباً ما ترى تلك المشاجرة بين الجدة والصغيرة ،فأقتربت منها قائلة بتفكه:
– الله هى سجود أترفدت المرة دى كمان دا أبيه راسل هيعلقك يا سجود
خرجت إسعاد من متجرها ،لترى ما يحدث بالخارج ، فتبسمت هى الاخرى على ما رأته والصغيرة التى عادت كعادتها دائماً ،عندما تصر المعلمة على تركها الروضة ، بعد شجاراتها المتكررة
إمتعضت وفاء من إبتسامتها :
– بتضحكى على إيه أنتى وبنتك دلوقتى يا إسعاد
ربتت إسعاد على كتفها بمواساة :
– الله يكون فى عونك يا وفاء عليها
رأت وفاء قدوم بعض الزبائن فإلتفتت إليهم قائلة بجدية:
– خلوها معاكم على ما أشوف الزباين دى
أخذت إسعاد الصغيرة تسير خلفها ولاء ، وماكادت تجلس بمقعدها حتى إلتفتت لإبنتها تخشى أن تخبرها بما لديها ،فهى تعلم عندما تسمع ولاء ما ستقوله ستثور كبركان ،ولكن لابد من إعلامها بما سيحدث وليكن ما يكن
فإبتلعت ريقها قائلة بحذر:
– ولاء باباكى جاى البيت النهاردة
كفت ولاء عن مداعبة الصغيرة ،عندما سمعت ما تفوهت به والداتها ، وتبدلت ملامح وجهها الجميلة من الهدوء ، لغضب عارم وسخط ليس له مثيل
فعلا صوتها وهى تجيبها:
– وهو جاى ليه وعايز مننا إيه جايبلنا مصيبة جديدة ولا خير هو مش مكفية اللى عمله فينا واللى كان بسببه أختى الكبيرة أشجان أنتحرت عايز إيه تانى عايز إييييه
إجتاح إسعاد الندم على إخبار إبنتها، وإثارة سخطها ومقتها لسماع إسم أبيها، وأثارت بنفسها ذكريات مريرة ،تعانى هى الأخرى منها
فحاولت أن تهدأ من روعها:
– إهدى يا ولاء مينفعش اللى بتعمليه ده
أنهالت دموعها على وجنتيها ، فمدت سجود يدها تمسح دموعها بطفولية وهى تقول:
– بتعيطى ليه يا ولاء سيجو هتزعل علشان ولاء بتعيط
تبسمت ولاء من بين دموعها :
– حبيبة قلب ولاء أنتى يا سيجو
فحولت بصرها لوجه والداتها قائلة بجفاء:
– أتصلى عليه قوليله ميجيش يا إما النهاردة أنا هروح أبات عند طنط وفاء كده كده أبيه راسل مش غريب وهو أصلا بيقضى معظم وقته فى المستشفى أقولك خليه ييجى ويشبع بالقعدة معاكى بس انا مش عايزة أشوفه أنا راحة لطنط وفاء يلا يا سجود
أخذت ولاء الصغيرة وخرجت من متجر والداتها ، وهى تمسح دموعها بظاهر يدها ، وذهبت لمتجر وفاء تخبرها بنيتها فى المبيت عندها الليلة ، فرحبت وفاء بمجيئها ، فهى من ربتها منذ صغرها حتى شقيقتها الراحلة تربت برفقة راسل وكن أخوة بالرضاعة
_____________
وهى بطريقها للعودة للمنزل ، لم تكف عيناها عن ذرف الدموع ،على ما حدث اليوم ، فهى لم تشأ البقاء بالمشفى لمقابلة نادر ، بعدما كانت ستلقى حتفها على يد ذلك الرجل المدعو راسل ، قادت سيارتها بحذر ، حتى يأست من عدم رؤية الطريق أمامها بسبب تلك الدموع التى حجبت عنها الرؤية ، فصفت السيارة بجانب الطريق
سمعت صوت الهاتف ،فأخذته من الحقيبة ، فوجدت إسم نادر ينير الشاشة ،فلم تجد مفر من الرد:
– ألو أيوة يا نادر
جاءها صوت نادر متلهفاً:
– حياء أنتى فين أنا مستنيكى من بدرى دا كله فى السكة
أجابته حياء بصوت جاهدت أن يخرج طبيعياً:
– معلش يا نادر أبقى خلى المشوار باليل علشان حاليا مش قادرة سلام
أنهت المكالمة ولم تزد كلمة أخرى ، بعد أن رأت أنها نالت كفايتها من الراحة التى منحتها لنفسها ، أدارت محرك السيارة لتعود للمنزل
سمعت صوت صياح والداها ولا تعلم لما عاد اليوم من عمله باكراً ، ركضت للداخل ،فوجدته يصيح بإمرأة علمت أنها شقيقته الوحيدة وتدعى قسمت ،فعلمت علام يصيح والداها ، فربما تشاجرت معه شقيقته كالعادة ولا تعلم لما تفعل ذلك وهو شقيقها الوحيد
فإنتفضت قسمت من مكانها بعد صراخ شقيقها تصيح هى الاخرى:
– أنت بتعلى صوتك عليا ليه هو أنا قولت حاجة غلط أنا بقولك عايزة فلوس ورثى بتاعت أبويا ولا هتكوش على كل حاجة يا عرفان علشان خاطر الننوسة الصغيرة بتاعتك
أنتفخت أوداج عرفان من إصرار شقيقته ، على أنه أقتطع من ميراثها ، على العلم أنه أعطى لها كل ما أورثه إياها والداهما ، ولكنها لم تكتفى ، تضع ببالها معتقداً أن ما يمتلكه عرفان لها حق به
يأس عرفان من أفعال شقيقته ، فأرتمى على مقعد يزفر أنفاسه بغضب متلاحق ، وخاصة وهو يرى ذلك الرجل الجالس بجانبها يدعى البراءة ، يوهمه أنه ليس لديه يد بتحريضها عليه ككل مرة ، فزوجها ذئب ماكر بثوب حمل وديع
فأنحنى قليلاً للأمام قائلاً بتحفز :
– إيه مش ناوى تقول حاجة أنت كمان يا شكرى
رفع شكرى رأسه بعد سماع مناداة شقيق زوجته ، يحرك حبات مسبحته بين أصابعه يتمتم بخفوت:
– دى حاجة بين الاخ وأخته مليش أدخل فيها
أهة السخرية التى أطلقها عرفان ، أنبأته صراحة أنه ربما يعلم أن ما تفعله قسمت بأمره هو أولاً وأخيراً
حل الصمت عليهم بعد أن ولجت حياء تتفرس بوجوههم ، لتعلم علام الشجار تلك المرة ، فهى أعتادت عليه من شقيقة والداها ، ولم يقدم عرفان بيوم على أن يجور على حقها أو أن يثير عداءها
– السلام عليكم أزيك يا عمتو
نطقت بها حياء وهى تتقدم تأخذ مكانها بجوار والدها ، ولكنها لاحظت عدم وجود والدتها ، فهذا أفضل فربما الأمر سيتفاقم أكثر إذا كانت مديحة جالسة معهم ،فهى لا تحب أحد أن يتجرأ بالحديث مع زوجها حتى وإن كانت شقيقته ، التى تثير عداء كل من حولها
لوت قسمت شفتيها قائلة بلامبالاة:
– أهلا يا روح عمتو
ربت عرفان على يد حياء قائلا بحنان بالغ:
– حبيبتى حجزتوا القاعة خلاص ماما قالتلى انك خرجتى علشان تحجزوها
أماءت حياء برأسها سلباً ، فوضعت رأسها بين يديها قائلة بوهن:
– لاء يا بابا تعبت شوية ورجعت هروح باليل عن اذنكم علشان عايزة أرتاح شوية
تركت مكانها تفضل الذهاب لغرفتها ، فضلا ً عن الجلوس وسماع بقية المشادة الكلامية ، التى أتت بغير محلها ،وخاصة اليوم وبعدما حدث لها ما حدث
حدقت قسمت بأثر حياء ،وبعد سماعها لها تغلف باب غرفتها ، حولت بصرها لشقيقها قائلة ببسمة سمجة:
– حياء كبرت وبقت عروسة يا عرفان وهتتخطب وهتتجوز وانت مش عارف تعمل ليها إيه ولا إيه ولما أجيلك أطلب حقى علشان عايزة أجهز بنتى بتعلى صوتك وتزعقلى
ضرب عرفان بيده على طرف مقعده قائلاً من بين أسنانه بغيظ:
– على أساس أن جهاز بنتك مش انا اللى اشتريتهولها كله من الالف للياء وقولت وماله بيقولوا الخال والد وزيها زى حياء لكن الظاهر طمعتى بزيادة يا قسمت وعايزة تنهبى منى اللى تقدرى عليه بس لاء يا بنت أبويا وأمى مش أنا اللى اضرب على قفايا وأسكت أن كنت بسكتلك فده علشان خاطر الدم اللى بينا وعلشان أنتى أختى الوحيدة واللى أصغر منى ومن حقك اراعيكى وأكون سندك لكن أنك تسوقى فيها لاء طبعا مش هسمحلك يا قسمت وحطى ده فى دماغك مفهوم
أنتفضت قسمت من مكانها ، تشير لزوجها بالنهوض وهى تقول:
– يلا بينا يا شكرى كفاية علينا كده وتشكر يا أخويا على الحسنة اللى بتديهالنا وبترجع تذلنا بيها ربنا يباركلك فى الحلوة وتعيش وتشوف عيالها
بعد أن ألقت بحديثها فى وجه شقيقها ، خرجت تحث الخطى على الإسراع من المنزل ،يسير خلفها زوجها حتى وصلا للخارج
فألقت قسمت نظرة على منزل شقيقها مغمغمة :
– أعمل يا عرفان وتقل فى عمايلك بقى مش عايز تدينى حقى بس أنا هاخده بس أصبر عليا
لملم شكرى مسبحته بكف يده ، كمن يستشعر بوزنها ، وهو يلقيها من يده لتعود وتسقط بكفه فألتوى ثغره قائلاً:
– أخوكى شكله كل ما يزيد غنى يزيد بخله يلا بينا يا قسمت
صعدت قسمت للسيارة ذات الطراز القديم بجوار زوجها ،الذى أدار محرك السيارة ، ومازالت عيناه ترصد منزل عرفان ، فهو سيحاول بدون كلل أو ملل ، أن يحصل على ما يريد ، فهو مطمئن البال أن زوجته ستكون أداته بتلك الحرب الخفية التى يشنها على عرفان ، لينال منه ومن ماله
_____________
أتجه صوب غرفته بعدما عاد من المشفى ، وربما عاد باكراً اليوم لأنه لم يشأ البقاء هناك اكثر من ذلك ، خاصة وأنه اليوم كان سيقدم على إرتكاب فعلة حمقاء ، ففراشه الآن سيكون مأواه للكف عن التفكير بما حدث اليوم وبتلك الفتاة ،التى رأى عينيها الكبيرتين تزداد أتساعاً أثر ذعرها مما فعله
والدته وطفلته لم يجدهما بعد عودته ، فأخرج هاتفه ولكن قبل أن يهاتف والدته ،وجد سجود تقتحم الغرفة تصيح بصوتها :
– باااااااااابى
قفزت على الفراش وجلست على بطنه تحيط وجهه بكفيها الصغيرين تقبله على وجنتيه وهى تدمدم:
– بابى وحشتنى أوى كنت فين
طوقها بذراعيه فجعلها تتوسد صدره يقبلها على رأسها قائلاً بحنان:
– حبيبة قلبى وأنتى كمان وحشتينى معلش كان عندى عمليات كتير معرفتش أجى أمبارح هى فين تيتة
غمغمت الصغيرة وهى تدفن وجهها بعنق أبيها:
– آنا وفاء تحت ومعاها ولاء علشان هتنام هنا النهاردة وهتنام جمبى على سريرى فى أوضتى
صمتت الصغيرة فشعر بوجود خطب ما بها ، فتلك ليست عادتها ، فهى دائما عندما تراه تظل تثرثر بما فعلته بيومها كاملاً
فرفع شعرها عن وجهها قائلاً بغرابة:
– مالك يا سيجو أنتى زعلانة فى حاجة
تنهدت الصغيرة كمن تحمل من الهموم أثقلها فأجابته:
– بابى الميس خلت آنا وفاء تيجى تاخدنى من الحضانة وقالتلى مجيش تانى وآنا وفاء هتودينى حضانة تانية
أعتدل راسل بجلسته ،فأجلسها على ساقه ،يتفرس بوجهها بصمت ، فزاغت الصغيرة بعينيها عنه كأنها على علم بما سيقوله ، ولكن أسرعت هى معقبة:
– بابى هو ليه معنديش ماما وليه الاولاد بيقولوا أن أنا شبه العروسة اللعبة ، وأنا سمعت الميس بتقول عليا أنى شيطانة أنا شيطانة يا بابى
– لاء يا قلب بابى أنت جميلة وعسولة بس شقية شوية يا سجود
قالها راسل وهو يحتضن جسدها الصغير يضمها إليه ،يربت عليها بحب وحنان
أبتعدت الصغيرة عنه ترمقه بوداعة وهو تقول:
– بابى هى ماما هترجع أمتى بقى هى مش هتيجى زى ما قولتلى هتفضل مسافرة كتير حتى أنا معرفش شكلها ولا شوفت ليها صورة أنا عايزة أشوفها يا بابى
هذا ما كان يخشاه ، أن يأتى اليوم وتلح بمطلبها برؤية والداتها ، ولكن ماذا يقول لها ؟ فما حدث بعد مولدها بثلاثة أشهر ، يجب أن يظل طى الكتمان ،فهذا أفضل للجميع
حاول راسل أن يبتسم لها ممازحاً:
– ماما هتيجى يا روحى بس علشان هى بتجيب هدية كبيرة ليكى فهتتأخر شوية ماشى
أماءت الصغيرة برأسها عدة مرات كأنها أقتنعت بحديث أبيها ، الذى ربما يتلوه عليها ،منذ أن أدركت حاجتها لوجود والداتها ،وسؤالها المستمر عنها
صوت طرق باب الغرفة ،هو ما أخرجه من شروده ، فرفع رأسه وجد الخادمة ،تعلن عن تحضير العشاء وانتظار والداته له بالأسفل
حمل الصغيرة وهبط الدرج ، حتى وصل للمائدة وضع إبنته على مقعدها ،وأقترب من والدته يقبل رأسها ويدها ،وألقى التحية على ولاء
حاول كسر الصمت المحيط على جلستهم فوجه حديثه لولاء:
– عاملة إيه فى شغلك يا ولاء مرتاحة فيه
إبتلعت ولاء ما بجوفها قائلة بفتور:
– الحمد لله يا أبيه بس الصراحة شغلانة أن أنا أقعد على مكتب وأشتغل فى بنك دى خنيقة أوى وأنا مش واخدة على كده عايزة أتنطط هنا وهناك يكون فى حركة كده بدل ما الواحد قاعد يقول يا افندم طول النهار
ضحكت وفاء وهى تقول:
–أنتى بتحبى الفرهدة يا ولاء بس البنك اللى أنتى شغالة فيه كويس وكمان أنتى لسه يادوب متخرجة السنة اللى فاتت دا كتير يحسدوكى على أنك لقيتى شغل بسرعة كده
تبسمت ولاء على ما قالته فرمقت راسل بإمتنان :
– ماهو البركة في أبيه راسل هو اللى جابلى الوظيفة دى
ولكن لاحظت وفاء شرود راسل ، ولكن هذا ليس بجديد فدائما ما يكون الحاضر الغائب ، فإن كان حاضراً بالجسد ، فدائماً عقله يكون بمكان أخر أو ربما مازال عالقاً بما حدث سابقاً
– راسل مش أنا شوفتلك عروسة
قالتها وفاء لترى رد فعل ولدها على ما قالته ، فما كان منه سوى أنه ظل يسعل بشدة حتى دمعت عيناه بعدما علق الطعام بحلقه ،بعدما سمع ما تفوهت به ، فاللقيمات كانت كالخناجر تشق جوفه وهو يحاول إبتلاعها حتى لا يختنق
كوب الماء الموضوع أمامه ، كان حبل نجاته فأرتشفه حتى أنهاه
فحمحم ينظف حلقه وهو يقول:
– عروسة إيه يا ماما دى كمان حد قالك أن عايز أتجوز تانى مش كفاية اللى حصلى قبل كده
ألقى الملعقة من يده بغضب ،تصدر صوت قرقعة على طرف الطبق الخزفى ، فنهض تاركاً المائدة ،بعدما إمتلأ صدره بغضب شديد
فظلت وفاء توزع نظراتها بين ولاء وسجود الجالسات بصمت تحدق كل منهما بوجه الآخرى، متناسية هى أن الصغيرة لابد لها أن تتعجب ولو قليلاً وهى من تنتظر عودة والداتها
لم تكن العودة لغرفته محل طلبه الآن ، فوجد نفسه ذاهباً للحديقة ، يقترب من ذلك المبنى الملحق بالمنزل ، والذى كان عبارة عن غرفتين فسيحتين يشبهان " الاستراحة "
فإحدى هاتان الغرفتان مغلقة منذ سنوات ، ولا يريد دخولها ولا يسمح لأحد بالاقتراب منها
أما الغرفة الأخرى فكانت مجهزة بشكل كامل كملعب لتلك اللعبة التى يهوى ممارستها ويبرع بها ألا وهى لعبة " الاسكواش "
و ُُتمارس لعبة الإسكواش في ملعب مغلق من أربع حوائط ، و تستلزم جهدا عنيفا و مهارة فائقة لصد الكرة المندفعة بقوة، ويستخدم كل لاعب مضربا مشدودا مصنوعا من نسيج خاص أو من الكربون الأسود المستخدم في صناعة أقلام الرصاص ، أما الكرة فتصنع من المطاط ، و هي مجوفة من الداخل. على كل لاعب أن يحلق بالكرة المقذوفة بعد ارتدادها عن أي حائط من الأربع بشرط عدم ارتدادها مرتين.
أخذ المضرب والكرة ،وبدأ اللعب بهدوء فى البداية ، ولكن كلما يتذكر أحداث يومه ، يزداد عنفه فى تسديد الضربات ، تتحرك قدماه بإحترافية على الأرضية الخشبية ، وصوت الكرة يتردد صداه بأذنيه
بدون كلل أو ملل ظل وقتاً طويلاً ينفث غضبه بتلك اللعبة ، فأصبح وجهه وجسده متعرقاً للغاية ، من جهده المبذول أو ربما فاق كل مرة يمارس بها تلك اللعبة ، ولكن هذا لم يجعله يكف عن اللعب ، بل جل ما فعله خلع عنه كنزته الصوفية ، يكمل ما كان يفعله
فدمدم ساخطاً على نفسه :
– كفاية بقى وأطلعى من دماغى
فكلما ألقى الكرة على الحائط ، يرى وجهها كأنها تنظر له ساخرة من محاولته البائسة فى نفضها عن ذهنه ، ولكن بتذكره تلك الفتاة التى قابلها اليوم ، أخطأ فى تسديد الكرة ،فإرتدت إليه تضرب صدره بموضع قلبه ، بديهياً وضع يده مكان الألم ، فتلمست يده إحدى تلك الجروح التى مازال أثرها واضحاً بجسده
فألقى المضرب من يده وجلس على الأرضية يستند على الحائط ، يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثة من كثرة اللعب والتفكير وبالأخص بتلك الفتاة التى رآها اليوم وربما كان سيتسبب فى قتلها ، ولكن عندما أفاق لنفسه لم يسعه سوى تصنع الهدوء ، وخاصة وهى تحمل ذلك الشبه بينها وبين وجه أخر بماضيه الذى لم يخلو من الندبات التى ملأت فؤاده
_____________
بعد أن تم إختيار القاعة المناسبة لحفل الخطبة ، مر ما تبقى من الوقت ،حتى حل مساء ذلك اليوم الذى انتظرته حياء بترقب ، فهى إستطاعت تجاوز ماحدث لها ، تفكر الآن فى ذلك الحدث السعيد
إمتلأت القاعة بالمدعويين ، مهنئين لها بخطبتها ، لا يخفى عليها همس الفتيات الدائر بينهن على وسامة نادر ، فهو حقاً وسيماً ، رجل تتمناه الكثيرات مثلما هى تراه ، فهو فارس أحلامها والأمثل بعينيها
تبسم نادر قائلاً بلطافة:
– بس إيه الجمال ده عروسة قمر
تخضبت وجنتاها بدماء الخجل هامسة:
– نادر بس بقى احنا من ساعة ما حفلة الخطوبة إبتدت وأنت مش ساكت وبتكسفنى
زادت إبتسامته ،وقبل أن يجيبها ،رأى ذلك الذى ولج القاعة للتو فقال بصوت خفيض ودهشة أيضاً:
– دكتور راسل جه الخطوبة معقولة انا فاكر انه مش هييجى
ظن أنه يخاطب نفسه ، ولكن تسللت جملته لمسامعها ، فأتسع بؤبؤ عينيها وهى تستمع للإسم ، فإستدارت برأسها وهى مازالت جاحظة العينين ، فرأت ما كانت تخشاه ، فها هو ذلك الطبيب المتعجرف يلج القاعة بشموخ وكبرياء لعين
أقترب منه نادر مصافحاً بحرارة ،معرباً عن سعادته بحضوره ، فما كان من راسل سوى أن ابتسم إبتسامة متكلفة كعادته دائماً:
– ألف مبروك يا نادر
رد نادر قائلاً وهو يبتسم إبتسامة عريضة:
– الله يبارك فيك يا دكتور راسل دا شرف ليا حضورك النهاردة حفلة خطوبتى
فأشار لها نادر بيده أن تتقدم منهما ، فبالبداية تسمرت قدميها ، ترفض الحركة ، ولكن تحديقه المستمر بها ،جعلها تنهى صراعها بين الإقدام والتراجع
وقفت على مقربة منهما تبتسم بإقتضاب ، ولكن ملامحه صلدة باردة ،كأنه لم يتذكرها ، أو يتذكر ما فعله بها
– أقدملك يا دكتور راسل حياء خطيبتى
قالها نادر بلطف وهو يبتسم لها ،فعاود النظر لراسل معقباً:
–دا يا حياء دكتور راسل صاحب المستشفى اللى بشتغل فيها
لم تخرج من فمها سوى كلمة مقتضبة:
– أهلا
لم يكترث بشأن إقتضابها ، أو بنظراتها التى ترمقه بإستياء ، كأنها تريده أن يسرع فى الذهاب من هنا ، لتعود لحفل خطبتها ،فهى ترى وجوده يفسد سعادتها
ولكن تلك الفتاة التى رأتها تقترب منهما وهى مبتسمة الشفاه التى تطليها بحمرة قانية تصيح بسعادة غامرة:
– راسل معقول أنا مصدقتش عينى لما شوفتك
إبتهجت هند برؤيته ، فهى لم تعلم بشأن مجيئه ، وإلا كانت أبدت رغبتها فى مرافقته التى تهواها ، ولكن يصدها هو دائماً ،وهذا ما يزيد بروح التحدى لديها
فرمق هند بلمحة خاطفة ، وسرعان ما حول بصره لحياء وهو يقول :
– وأنا مصدقتش نفسى لما شوفتك صدفة عجيبة
بعد الابتهاج الذى رأته حياء من تلك الفتاة التى لا تعلم سوى إنها إبنة أحد رجال الاعمال وتمت دعوتها هى ووالدايها لحفل الخطبة من طرف أبيها
سحبت هند راسل من ذراعه قائلة بحماس:
– دا بابى ومامى هيفرحوا اوى لما يشوفوك
زفرت حياء براحة بعد إبتعادهما ، ولكن سمعت صوت ضحكة نادر الخافتة ،فأثار غرابتها فعلام هو يضحك ؟
فسألته قائلة بغرابة :
– أنت بتضحك على إيه يا نادر
إلتفت نادر حوله ،كأنه يطمأن أن لا أحد يسمعه ، فرد قائلاً :
– أصل الظاهر كده الآنسة هند دى عينها من دكتور راسل وبتجيله المستشفى كتير بس الظاهر كده هو مطنشها ومش عايز يتجوز تانى بعد مراته وعايش لبنته وأمه وبس
قطبت حياء حاجبيها قائلة بغرابة:
– ليه هى فين مراته دى هو مطلقها ولا إيه
فدمدمت لنفسها هامسة :
– دى يبقى معاها حق لو طلبت منه الطلاق دا واحد مفيش واحدة تستحمله ولا تطيق تقعد معاه ثانيتين على بعض مش عمر بحاله
كثر همسها لنفسها فأدنى نادر برأسه منها قليلاً ،كأن ما سيتفوه به لايجب أن يسمعه احد غيرها فهمس لها قائلاً بحذر:
– لاء هو مش مطلقها أنا سمعت فى المستشفى لما أشتغلت فيها بيقولوا أنها ماتت مقتولة وأن هو اللى قتلها
____________
٣–{ صدق ظنى بك }
تصنمت ملامحها وأنعقد لسانها بعد سماع ما تفوه به نادر ، فهل حدث هذا حقاً ؟ وجدت عيناها تلقائياً ترمقه من وسط الجمع المحتشد بالقاعة
بتلك اللحظة التى تلاقت بها أعينهما سوياً ، كأنها على موعد مسبق ، أزدردت لعابها بخوف وهى ترسم بمخيلتها إقدامه على قتل زوجته ، فربما نادر محق بما قاله ، فهى تذكرت قسوة وصلابة أصابعه حول عنقها ، فهل من الممكن أن يكون قاتلاً ؟ هل ما زال لديها شك ؟ فهى كانت ستكون ضحيته ، فهى الأحق بأن تصدق ما سمعته
فكت عقدة لسانها فسألته هامسة:
– نادر أنت بتتكلم جد قتل مراته طب إزاى هو هنا دلوقتى ومش محبوس أو ازاى لسه شغال فى مهنته دى أنا مش فاهمة حاجة
حرك نادر كتفيه دليلاً على أنه لا يعلم أكثر من تلك المعلومة القصيرة ،التى أدلى بها لتوه :
– ولا أنا يا حياء أنا قولتلك سمعت كده فى المستشفى حتى كمان بيقولوا أنها أتقتلت فى إيطاليا أصل مراته كانت إيطالية مش مصرية ، وأن كل حاجة حصلت هناك بس ازاى هو رجع مصر أو فعلاً هو اللى قتلها زى ما بيقولوا وطلع منها زى الشعرة من العجين برضه معرفش ، ثم ده شئ ميخصنيش وأنا مالى
فحاول صرف تفكيرها عن الأمر ،فعاد لإستكمال إطراءه لها قائلاً:
– سيبك أنتى من الكلام ده كله قوليلى بقى ايه الجمال ده كله والشياكة والأناقة
تبسمت حياء تلك المرة على غير عادتها ،عندما يخبرها بإطراء لجمالها أو ملبسها ، تشعر بأن الجو بالقاعة أصبح خانقاً ، من الدخان الذى ملأ المكان والضجيج الناجم عن تحدث المدعوين وضحكاتهم العالية ، رأت من ينادى نادر فأبتعد هو ليرى ماذا يريد منه ذلك المنادى؟ الذى لم يكن سوى صديق له
تجولت حياء بعينيها بين الحضور ، رأت أبويها جالسان على طاولة برفقة عمتها وزوجها ، ولكن ملامح وجهيهما تدل على أن هناك خطب ما كالعادة ، فلم تشأ أن تقترب لتعرف ماذا يحدث بينهم ؟
ساقتها قدميها خلسة لخارج القاعة ،حتى وصلت للحديقة بالخارج ، رأت صغاراً يلعبون ،فجلست على أريكة خشبية تشاهد ما يفعلون ، كأنها تناست أن اليوم خطبتها ، وأنها لابد لها من أن تظل بالداخل ، ولكن هى هكذا ،إذا لم تفعل ما يطرأ على عقلها لن يكون مسماها حياء
– فى عروسة تسيب حفلة خطوبتها وتقعد تتفرج على الأولاد وهم بيلعبوا
وصلت تلك الجملة لأذنيها ، فأستدارت برأسها لترى من يحدثها ، فرأته يقف على مقربة منها يضع إحدى يديه بجيب بنطاله الأسود الملتصق به يبرز ساقيه الطويلتين
رمقته بهدوء ،فعادت تنظر أمامها تصفق بتشجيع لطفلة تحاول النيل من رفيقها بلعبة الغميضة :
– وأنت مالك أصلاً بالموضوع
أرتفع حاجباه تزامناً مع زم شفتيه ،سرعان ما إرتسمت إبتسامة متهكمة على جانب ثغره:
– على رأيك وأنا مالى ، بس كويس انك عملتى نفسك انك متعرفنيش قدام خطيبك علشان ميحصلش بينكم مشاكل أحسن نادر يفهم الموضوع غلط
قلبت عيناها بملل وزفرت من أنفها بضيق :
– وهو أنا أعرفك أصلاً ولا فى سابق معرفة يا دكتور راسل
على مقربة منها ،كان هو جالساً على الطرف الآخر من الأريكة الخشبية ، فوضع ساق على الأخرى ، فأحنى رأسه للخلف ، يغمض عينيه مغمغماً:
– أحسن ليكى أنك ميكونش فى بينى وبينك سابق معرفة أحسن تحبينى زى اللى قبلك وتبقى نهايتك زيهم
هذا أكثر ما تحتمله أعصابها الثائرة منذ رؤيته ، فأنتفضت من مجلسها صارخة به:
– إيه الغرور اللى أنت فيه ده أصحى لنفسك وأحترم نفسك وأنت بتتكلم معايا أنت متعرفش أنا مين وأبقى بنت مين ، أو ممكن أعمل فيك إيه ، لو كنت سكت عن اللى عملته فده علشان أعتبرت الموضوع سوء تفاهم ، لكن غير كده أنا كنت سجنتك بتهمة الشروع فى قتلى
رفعت يدها تشير بها أمام وجه محذرة إياه من مغبة الاستمرار في مخاطبتها بترفع وغرور لعين ، فأعاد رأسه المائل إلى وضعه الطبيعي ، فحدجها بنظرة متكاسلة من عيناه الشبه ناعسة ، وكفه يدلك مؤخرة عنقه كأنه يشعر بإرهاق
فغمغم قائلاً بتسلية :
– باين عليكى طيبة أوى يا أنسة حياء أو ساذجة
قبل أن تفه بكلمة أخرى ، أخرج هاتفه من جيبه ، بعد سماعه رنين وصول رسائل له ، ففتح الهاتف يقرأ الرسائل بإبتسامة تزداد إتساعاً مع كل كلمة يقرأها
ولا تعرف هى لما ظلت واقفة مكانها ،ولم تعود أدراجها للداخل
الضوء الصادر من الهاتف أنعكس على وجهه ، و أضفى عليه مظهراً شيطانياً ، وخاصة أن ذلك المكان المتواجدان به ، كانت مصابيح الإنارة غير مضاءة ، ولا يضيء المكان سوى ضوء خافت يأتى من بعيد
كأنه علم بتحديقها به ، فرفع وجهه عن الهاتف وهو يقول:
– إيه اللى مخليكى لسه واقفة هنا إلا إذا كنت عاجبك يا حياء حتى رجليكى مش مطوعاكى أنك ترجعى القاعة تانى ، القعدة معايا مسلية مش كده
– هو المكان ده مكتوب بإسمك وأنا معرفش دا أنت عديم الأدب والأخلاق فعلاً
نطقت بها حياء بإستياء واضح ، فهمت بالمغادرة ولكن سمعته يقول ببرود:
– وهو ده النوع اللى بيعجبكم لولا بس انك خطيبة دكتور شغال عندى كنت عرفت أرد عليكى بس ...بطريقتى
فكم تتمنى هى الآن أن لو بيدها خنجر مسموم ، تطعن به قلب ذلك المتعجرف ، الذى أفسد عليها ذلك اليوم الذى أنتظرته بشوق ، فليس مجيئه فقط هو من جعلها تشعر بالسوء ، ولكن أيضاً غلظته ،و غطرسته ، فهى صدق ظنها به من أنه ليس بشراً مثل باقى البشر ، بل طاووس مغرور ،مصاب بداء العظمة والكبرياء ، الذى أوحى لها بأفكار إجرامية ، لم تكن تظن أن تفكر بها قبل رؤيته
تصنعت الهدوء وهى تجيبه:
– صدقنى لا أنت ولا عشرة من عينتك يقدر بس يفكر يلمس شعرة منى عارف ليه علشان الإيد اللى بتتمد عليا بكسرها ، ولولا أن يوم المستشفى كنت تعبانة صدقنى كنت عرفتك مقامك كويس
– وهو نادر ممدش إيده عليكى بأى شكل من الأشكال
قالها مستمتعاً بجعل مخزون صبرها ينفذ ، وخاصة من تلك الملاحظة المهينة التى أبداها لتوه
– أنت واحد حقير وسافل وحيوان كمان أتفضل يلا أمشى من هنا مش عايزة أشوف وشك
قالتها حياء وهى تشير بذراعها ناحية الباب الخارجى للفندق ، فزادت حرارة إنفعالها عندما وجدته يسترخى أكتر بجلسته فأستطردت بغضب:
– بقولك قوم أمشى من هنا يلا
قبل أن يفه بكلمة ، رأى نادر يحث الخطى على الإقتراب منهما ، وربما أصابه التعجب من رؤية حياء برفقة راسل بالحديقة ، وهو من كان يبحث عنها بالداخل
أقترب نادر منها قائلاً بتساؤل:
– حياء أنتى بتعملى إيه هنا عمال ادور عليكى علشان نلبس الدبل
فإلتفت لراسل معقباً:
– دكتور راسل حضرتك هنا فى حاجة ولا إيه
أكمل راسل تصفح هاتفه بغضب طفيف ، ولكنه إستطاع رسم إبتسامة باهتة قائلاً بصوت لامبالى:
– لاء مفيش حاجة بس جالى مكالمة والصوت فى القاعة عالى فخرجت ولقيت العروسة قاعدة هنا فكنا بندردش مع بعض شوية وبقولها أنها عرفت تختار واحد زيك يا نادر
رأت حياء سيمات السعادة على وجه نادر ، من إستماعه لإطراء راسل به ، فشفتيه أنفرجت بإتساع يسرع فى إبداء شكره وتقديره لمديره:
– متشكر جدا يا دكتور راسل على ذوقك وأنك شرفتنى النهاردة وحضرت حفلة الخطوبة
لايعلم هو أى سبب دفعه للمجئ اليوم ، فهو دائماً ما كان يبدى أسفه واعتذاره عن حضور مختلف المناسبات التى تخص أى شخص يعرفه ، معللاً ذلك بإنهماكه بالعمل
ولكن اليوم.. بعد ما كان أتخذ قراره بعدم الحضور ، وجد نفسه يرتدى ثيابه يلبى دعوة نادر له ، كأن قوى خفية دفعته للمجئ على غير عادته
فوجد مفاجأة أخرى بإنتظاره ، وهى أن تلك الفتاة التى كان على وشك قتلها بمشفاه ، متواجدة هنا وليس هذا فقط ، بل هى عروس تلك الليلة
قبل أن يسهب نادر فى مدح راسل كانت حياء معربة عن مقتها لما يحدث بكلماتها التى لا يعلم أحد ما تنطوى عليه ، سوى ذلك الرجل الجالس غير مبالياً بما يقوله نادر
– هو إحنا مش هنلبس الدبل يا نادر ولا هنقضيها شكر وإمتنان طول الليل يلا بينا
سبقته حياء بمشيتها ،لعله يتبعها ولكنه ظل مكانه ،كمن ينتظر الأذن بالانصراف فأغتاظت منه أكثر ، إستدارت برأسها فعلا صوتها بتبرم :
– إيه يا نادر ناوى تفضل عندك طول الليل
رفع راسل يده يشير لنادر بالانصراف قائلاً:
– روح يا نادر شكل خطيبتك متنرفزة وفى حاجة مضيقاها متخليهاش تتعصب أكتر من كده والنهاردة خطوبتها ومش لازم تتعصب فى يوم حلو زى ده
تبسمت حياء بسماجة وهى تستدير بكامل جسدها لهما :
– وهىيبقى اليوم أحلى لو كل واحد معندوش ريحة الدم يحترم نفسه ويعرف أنه مش مرحب بيه وياريت يمشى علشان اليوم يحلو أكتر لأن فى معازيم كتير رخمين ومش عايزة أشوف وشهم
أعتلت ملامح وجه راسل جدية مصطنعة ، وإبتسامة أشد سماجة من تلك التى ترسمها على وجهها ،فحمحم قائلاً بصوت رصين :
– عندك حق فعلاً ولو حد ضايقك قولى لنادر مش بقى خطيبك والحارس الأمين عليكى
وقف نادر بالمنتصف لا يفقه شئ مما يقولونه ، ولكن شعر بوجود شئ مبهم ، فمن يستمع إليهما يظن أنهما خصمان يحاول كل منهما النيل من الآخر
ولكنه يعلم أن حياء لم تقابل راسل من قبل ، فعلام كل هذا العداء بينهما ؟ وخاصة أن تلك هى المرة الأولى التى يستمع لحياء ويبدو عليها إمارات الغضب وهى بالعادة فتاة هادئة ومهذبة
حاول أن يفهم ما يجرى بينهما وهو لا يعلم فتساءل موجهاً حديثه لحياء:
– حياء هو فى إيه هو انتوا تعرفوا بعض من قبل كده
نهض راسل عن الأريكة الخشبية ، يستقيم بوقفته قائلاً بهدوء وبرود:
– لاء منعرفش بعض ومكنش ليا الشرف قبل كده أن أعرف الآنسة و...
بتر جملته بعد إستماعه لرنين هاتفه ، فأخرجه من جيبه مبتسماً ،ووضع على أذنه:
– حبيبتى..أيوة يا روحى هجيلك دلوقتى مش هتأخر عليكى سلام
أنهى المكالمة ،ووضع الهاتف بجيبه ، قائلاً وهو يهم بغلق أزرار سترته :
– مبروك يا نادر أنا لازم أمشى دلوقتى كان نفسى أكمل حفلة الخطوبة بس عندى مشاغل كتير تتعوض إن شاء الله يوم الفرح سلام واه مبروك مرة تانية يا عروسة خطوبة سعيدة إن شاء الله يا أنسة حياء
رحل راسل بعدما عكر صفو مزاجها ،فغمغمت حياء هامسة وهى تراه يعبر من البوابة للخارج :
– فى ستين داهية تاخدك يا دكتور راسل إن شاء الله
جرت ساقيها للداخل ،قبل أن يقدم نادر على سؤالها عما يحدث ، فلحق بها وبدأت مراسم الخطبة ، وضعت خاتماً ذهبياً بإصبعها ،تحدق ببريقه الذى كان يشبه بريق سعادتها عندما أفاقت من نومها اليوم ، تسبح بمخيلتها أنها ستقضى يوماً لن يضاهيه يوم آخر سوى يوم الزفاف
ولكن تبدل حالها منذ رؤية ذلك الرجل المغرور ، والذى هدم أمانيها اليوم ، فشعورها كمن أصيبت بالسقم فى يوم العيد
______________
بصباح يوم جديد ، وبذلك القصر المنيف ، كأنه لأحد الأسرات الملكية ، ولما لا ومن يمتلك هذا القصر هو " رياض النعمانى " أحد كبار رجال الأعمال بالمجتمع السكندرى ، وليس هذا وحسب بل يمتد نفوذه وثراء داخل وخارج مصر أيضاً
رجل يهابه الجميع له نفوذ ربما يفوق نفوذ السلطات الحكومية ، بل أحياناً كثيرة يحل محل القانون بفض الاشتباكات التى تحدث بين رجال الأعمال بمختلف مصالحهم ، فيقصده كل من له شكوى من جور أو ظلم أحد بحقه ، فيشهد له الجميع بالحكمة والعدل
جلس بالحديقة يستند على عصاه ، ينحنى قليلاً يستند بذقنه على يديه المضمومتين على رأس العصا المتخذة شكل ليث يزأر ، يتفحص بعيناه التى مازالت حادة البصر ، بالرغم من سنوات عمره الثمانون ، مجموعة من الجياد التى تعدو على أرضية الحظيرة التى خصصها للفصائل النادرة من الخيول ، فما زالت تلك هوايته منذ أن كان شاباً صغيراً
يبتسم كلما رأى جواد يصهل بصوته القوى ، يعلن عن جموحه وقدرته فى العدو ، كأنه يدعوه ليمتطيه ، ولكن تلك الأيام قد ولت ، فقد نال منه الكبر والمشيب
– صباح الخير يا جدو
سمع تلك التحية الصباحية فإلتفت خلفه ، وجد تلك الشقراء ذات الرابعة والعشرون ربيعاً ، تهرول إليه بخطوات سريعة ، حتى أقتربت منه وأنحنت إليه تطوقه من الخلف تقبله على وجنته
فرفع يده يربت على وجهها بحب وهو يقول :
– صباح الورد على ست البنات واجمل بنت فى إسكندرية ومصر كلها وهتبقى أشطر دكتورة كمان
تعالت صوت ضحكتها وهى تجلس بمقعد مجاور له فهو دائم الإطراء لها ، وخاصة أنه دائماً ما يخبرها بشأن جمالها الذى ورثته كاملاً عن جدتها الراحلة والتى كانت زوجته حتى أنقضى أجلها منذ سنوات طوال ، ربما قبل مولد تلك الفتاة بعدة أعوام
وضعت إحدى كفيها أسفل فكها قائلة بمكر :
– أممم أيوة أنت بس بتحبنى علشان شبه تيتة يا جدو يعنى بفكرك بالمزة بتاعتك الله يرحمها
تبسم على قولها وهو يقول بحنين :
– الله يرحمها مقولتليش بقى يا أنسة ميس عايزة إيه فى عيد ميلادك السنة دى كل سنة وأنتى طيبة يا حبيبتى
حكت جبهتها بتفكير :
– وأنت بألف خير مش عارفة يا جدو أنا تقريباً مفيش حاجة عيزاها غير أن أشوفك بخير ومالى علينا حياتنا
مد يده يقرص وجنتها :
– اه يا بكاشة أضحكى عليا بكلامك زى عوايدك المهم أى حاجة عيزاها قوليلى عليها و هى تبقى رهن إشارتك
– أيوة أفضل دلع فيها كده يا عمى ومحدش يعرف يمشى عليها كلمة
قالتها تلك المرأة التى أقتربت منهما ، وهى تحمل قدح القهوة الخاص به ، فوضعته على المنضدة الصغيرة أمامه ، وجلست هى الاخرى
نقر رياض بعصاه الأرض وهو يقول بحنان :
– ولو أنا مدلعتهاش يا سوزانا مين هيدلعها دى حبيبة قلبى
أخذت ميس يد جدها تقبلها وهى تقول :
– ربنا يباركلى فيك يا جدو سمعتى بقى يا ست ماما دا تصريح مش من أى حد دا من رياض النعمانى بذات نفسه
أثناء جلستهم الودية ، والتى لم تخلو من الفكاهة من ميس ، حضر " عاصم " شقيق سوزانا وأيضاً إبن شقيق رياض الوحيد ، الذى توفى بالماضى وترك " عاصم وسوزانا " بعهدته ونشئوا سوياً برفقة إبنه " وجدى " الذى توفى أيضاً بعد مولد ميس بثلاث سنوات
فهناك جانب مظلم حزين وبائس بحياة ذلك الرجل فاحش الثراء ، وهو أنه خسر كل أحباءه الواحد تلو الآخر وبدأ الأمر بشقيقه تليه زوجته ويليها ولده ، ولكن وجد سلواه بأبناء شقيقه وبحفيدته
تقدم عاصم يقبل يد عمه مثلما هو معتاد أن يفعل عندما يراه ، وقبل شقيقته وإبنتها التى أبتهجت برؤية خالها وتلك الهدية التى يحملها معه من أجلها
فصاحت ميس بسعادة :
– ميرسى أوى يا خالو على الهدية
وضعت القرطين الماسين بأذنيها وهى تبتسم ، فأدنت برأسها من والدتها وهى تقول مستطردة :
– شوفتى يا ماما الحلق جميل أوى ذوق خالو تحفة أنا عارفة ما أتجوزش ليه لدلوقتى دى مراته كانت هتفرح أوى بذوقه
وكزت سوزانا كتف عاصم قائلة :
– شوفت حتى ميس قالت رأيها فى إضرابك عن الجواز لحد دلوقتى دا أنت عديت الأربعة وخمسين سنة يا عاصم
جحظت عين عاصم من ملاحظة شقيقته بإقدامها على ذكر عمره ، وهو من يراه ربما لن يصدق ذلك ، فجسده المتناسق كشاب مازال ببداية الثلاثينات ، ووسامته الظاهرة للعيان ، لا تجعل أحد يستطيع التكهن بسنوات عمره
فرمقها عاصم بغيظ :
– الملافظ سعد يا سوزانا ويا حبيبتى السن ده رقم فى البطاقة لكن الشباب شباب القلب ثم متقوليش كده أنتى ناسية ان أنا أكبر منك بسنتين بس يعنى أنتى ....
– خلاص أسكت يا عاصم ياريتنى ما قولت
قالتها سوزانا ، لتنفجر ميس ضاحكة من تلك المشاجرة اللطيفة التى ربما تحدث عندما تجتمع والداتها بشقيقها
تبسم رياض بوقار :
– طب يلا بقى يا سوزانا أنتى وميس علشان عايز عاصم نشوف شغلنا
إمتثلت سوزانا وميس لأمره ، تاركين إياه فى الشروع بالاستماع لعاصم الذى مد يده له بعدة أوراق خاصة بالعمل وبتلك الصفقات التى من المفترض عقدها ، فعاصم هو من يتولى زمام الأمور الآن بإدارة الأعمال بعد إصابة رياض بوعكة صحية مؤخراً ، فهو يدير الشركات بقبضة من حديد ، مثلما كان يفعل عمه بسابق عهده ، وأزدهرت الأحوال المادية نتيجة جهده وخبرته التى إكتسبها من رياض منذ أن كان يعمل برفقته وهو بعمر الخامسة عشر بجانب تحصيله الدراسي
______________
وضعت إسعاد يدها على وجنتها ،وهى جالسة أمام شرفتها المطلة على الشارع ، تنتظر عودة إبنتها بعدما أخبرتها بشأن ذهابها لقضاء بعض شئونها من شراء ثياب جديدة ، سمعت صوت جرس الباب ، فتركت مكانها لترى من القادم
فتحت الباب فأرتجف جسدها عندما رأت زوجها على الباب ، كمن رأت شبحاً مخيفاً ،فهى مازالت ترهبه كعادتها دائماً
فتلعثمت حروفها تلعثماً ظاهراً:
– ححسان ههو أنت
قطب حسان حاجبيه ،فأرتسمت تجعيدات بجبينه ، فرفع يده يتلمس شاربه الكث قائلاً بصوت غليظ:
– فى إيه يا ولية مالك شوفتى عفريت يعنى ومالك بتتلجلجى فى الكلام كده ليه
أبتلعت ريقها كأنه جمر الجحيم ، فحاولت رسم إبتسامة واهية على شفتيها التى أصابها الارتجاف كعادتها دائماً عندما تراه :
– لا أبدا يا حسان مفيش حاجة
ازاحها من أمامه يكمل طريقه للداخل ، فجلس على أحد الأرائك ، ورفع قدميه أمامه على الطاولة الصغيرة ، يشير لها بالتقدم منه ،كإنها إحدى جواريه
– تعالى يا إسعاد
بخزى وعار كانت قدميها تلبى نداءه لها بالاقتراب ، فوقفت على مقربة منه ، فتحسس بيده مكان بجواره قائلاً:
– تعالى أقعدى جمبى
جلست إسعاد حيث أشار لها بالجلوس ، تضم يديها تفركهما بتوتر وخوف من مجيئ ولاء ، وينشب بينها وبين أبيها مشادة كلامية ،ستتلقى على أثرها ضرباً مبرحاً منه
بإقدامه على جذبها إليه ، كان باب الشقة يُفتح تلج منه ولاء وهى تصيح باسمة:
– ماما أنا جيت
قبل أن تفه بكلمة أخرى ، كانت عيناها ترصد أبيها الجالس بإرتياح وليس هذا فقط بل ربما كان سيبدأ وصلة جديدة من وصلات الود المهين بينه وبين والداتها
سقطت الحقيبة من يدها ، فدمعت عين إسعاد متأسفة على ما سيؤل إليه أمرها بعد قليل ، عندما تبدأ بهجومها الضارى على والدها ، وربما ستلقى نصيبها هى الأخرى
– أنت بتعمل إيه هنا مش كنت هنا من كام يوم مش عوايدك رجلك تجيبك هنا على طول
لم تكن تتخيل أن تتحدث هكذا بهدوء ، وهى من ترى شياطين العالم تتراقص أمام عينيها عندما تراه
بتحدى سافر كان يضم إسعاد إليه ، كمن يثبت لها أنه مازال الحاكم الأمر بهذا المنزل ، وأن والداتها ستظل خانعة وخاضعة له ، ذلك الخضوع الذى لم تتقبله ولاء منها أبداً ،فكم من مرة حثت والداتها على طلب الطلاق منه أفضل من أن تظل زوجة له لا يأتى إليها إلا وقت الحاجة
داعب شاربه كمن يحمل صكاً للرجولة قائلاً :
– هو مش ده بيتى برضه ودى مراتى وأنتى بنتى بلاش يعنى أجى أطمن عليكم
ركلت ولاء الحقيبة تزيحها من طريقها ، كأنها هى التى تحول بينها وبينه ،فهدرت بنزق:
– أنت مش هتخلصنا من الاسطوانة المشروخة بتاعتك دى هات من الأخر إيه سبب الزيارة السعيدة ده يا والدى العزيز
بدفعة جافة كان يبعد جسد إسعاد الملتصق به ، يعتدل بجلسته يرمق إبنته بإبتسامة جانبية:
– ماهى دى أخرة تربية النسوان طالعة لسانك طويل وقليلة الأدب وأنتى بتردى على أبوكى هو ده اللى أتعلمتيه فى المدارس والجامعة يا مؤدبة
عقدت ولاء ذراعيها أمام صدرها ، تنفخ بضيق شديد وهى تتمتم:
– إستغفر الله العظيم ، ماهو لو كنت فاضى كنت ربتنى بس نعمل إيه جريك ورا النسوان وماشيك العوج ومش بتتقى ربنا فى عمايلك هو اللى خلانى قرفت أنك أنت أبويا....
بصفعة مدوية كان يخرسها كالعادة قبل أن تكمل قولها ، صرخت إسعادة صرخة عالية ، سرعان ما كممت فمها بيدها عندما إلتفت إليها محذراً إياها بعيناه من أن تنبت ببنت شفة
فتبسمت ولاء من بين دموعها ،تمسح بظاهر يدها الدماء التى طفرت من شفتها السفلى بإحتكاك خاتم والداها بها من صفعه لها:
– أضرب كمان ماهو ده اللى أنت شاطر فيه أنك تستقوى عليا أنا وأمى
جذبتها إسعاد إليها ، بعدما رأته يرفع يده يتأهب لصفعها ثانية ، فضمتها لصدرها تستجديه وهى باكية :
– خلاص كفاية أبوس إيدك متضربهاش تانى هى متقصدش حاجة من اللى قالته كفاية يا حسان
ظلت ترمقه بمقت ، وهى دافنة نصف وجها بصدر أمها ، فهو لم يدع لها شئ حسن يجعلها حتى تتقبل كونه أبيها ، فمنذ أن أبصرت النور ، لم ترى منه سوى قسوة وجفاء بحقها وحق والداتها وشقيقتها الراحلة التى لم تتحمل قسوته وغلظته ، فأسرعت بإنهاء حياتها بيدها قبل أن يفعل هو
إرتسمت صورة شقيقتها التى كانت كالزهرة الجميلة ، فهى كانت بعمر العاشرة عندما اقتحمت على شقيقتها غرفتها كالعادة عندما كانت تريد منها أن تبدى رأيها بإحدى رسوماتها الطفولية ، فوجدتها تتوسط فراشها الصغير ،يتدلى ذراعها من طرف السرير ،والدماء تقطر منه على الأرض ،فكانت الأرض كبركة من الدماء ، ولكن كل ما تتذكره أنها أقدمت على فعل ذلك بسبب شئ كان يريده هو منها ولكن لم تعلم هذا الشئ حتى الآن
فتلك الذكرى طمست على عقلها وقلبها ، تجعلها لا تتذكر سوى أنه كان المتسبب بموت شقيقتها ، فإن علمت أو لاء لن يفيد ذلك بشئ ، فشقيقتها أنتحرت وقضى الأمر
أخذتها إسعاد معها إلى غرفتها وهى مازالت تضمها تحت جناحها المهيض ، فأبعدتها عنها قليلاً ودموعها تتسابق فى إبداء أسفها:
– معلش يا حبيبتى والله ما كنت أعرف أنه جاى النهاردة خليكى هنا لحد ما يمشى متخرجيش من الأوضة علشان ميعملش فيكى حاجة تانى أو يضربك
أبتعدت عنها ولاء وجلست على طرف الفراش ، فأطرقت برأسها أرضاً تندب حظها بأن جعل رجلاً كهذا والداها
فعلا صوتها قائلة بنحيب :
– أنتى ليه مستحملاه أطلبى منه الطلاق وخلصى نفسك وخلصينى معاكى أنا بكرهه بكرهه
أنسابت دموع إسعاد على وجنتيها فدمدمت بقهر :
– ياريت كنت أقدر يا ولاء بس أنتى مش عارفة حاجة ولا فاهمة حاجة
خرجت إسعاد من الغرفة تغلق الباب خلفها ، قبل أن تسألها ولاء عن مغزى قولها ،نظرت بالصالة فوجدتها خالية ،فظنت أن زوجها قد رحل مثلما أتى ، ولكن وجدت باب غرفتها مفتوح ، فأقتربت من الباب فنظرت بالداخل وجدته مستلقياً براحة على الفراش ،كأنه بإنتظارها أن تأتى بعد أن تأدى مهمتها بإسكات إبنتها كحال كل مرة يأتى إليها
دفعت الباب بيدها ، وظلت واقفة على عتبة الباب تنظر إليه بصمت قاتل ، فإشارة من يده أو بالأحرى من إصبعه ، جعلتها تلج بخطى مرتجفة تغلق الباب خلفها ، كمن حانت لها لحظة إلقاءها بنيران مستعرة ، بجحيم ستظل تتلظى بنيرانه ربما لما تبقى من عمرها
فما أن تنتهى زيارته لها كأنها محطة للراحة يلجأ إليها بمنتصف الطريق ، يذهب وربما تمر أيام وأشهر ولا ترى له وجه ،حتى يحين موعد زيارته التالية لها
______________
منذ ذلك اليوم الذى حضر به الخطبة ، وهوكلما يتذكر تلك المشادة الكلامية بينهما يجد شفتيه تنفرج بإبتسامة ، لا يعلم ما الداعى لها وهو من المفترض أن يتأكله الغيظ والغضب ،على أن تلك الفتاة أسهبت فى إزدراءه ، ولكن ما يشفع لها عنده ، ذلك الوجه الذى تملكه ، فهو يشبه وجه تلك التى فقدها بماضيه ، ففتح أحد أدراج مكتبه ، وأخرج منه تلك الصورة ، وظل يتأملها عدة لحظات ، قبل أن يعرب عن دهشته فى أن كيف تحمل حياء ذلك الشبه بينها وبين تلك التى بالصورة ؟
أغمض عينيه وأستند برأسه على حافة مقعده ، واضعاً طرف الصور بين شفتيه ، ولكن شعر بملمس يدين ناعمتين على عينيه تحجب عنه الرؤية
فسمع صوت أنثوى يهمس بأذنه :
– أنا مين
إبتسم راسل على فعلتها يتصنع الجهل :
– أممم يا ترى أنتى مين يا ميس
سحبت ميس يديها من على وجهه ، فإستدار إليها بمقعده ، فدمدمت بغيظ :
– أنا نفسى أعرف بتعرفنى إزاى يا راسل دا انا دخلت مكتبك من غير صوت وأنت شكلك كنت نايم بتعرفنى إزاى بقى
ضحك ملأ فاه قائلاً بصوت رخيم :
– لأن مفيش حد يقدر يعمل الحركة دى غيرك يا حبيبتى أنتى وسجود بنتى وطبعاً سجود صوتها لسه مبقاش بالحلاوة دى فعلشان كده بعرفك على طول
جلست على حافة المكتب مقابل له تهز ساقيها :
– يا سلام
لمح ثوبها القصير وخاصة وهى تهز ساقيها البيضاوين فرمقها بغضب :
– إيه الفستان اللى أنتى لبساه ده مش قولت متلبسيش قصير كده تانى يا ميس هو كلامى مبيتسمعش
كفت ميس عن هز ساقيها تنظر إليه بوجل :
– ماهو أصل يعنى النهاردة بقى عيد ميلادى وهربت من البيت ولبست أول حاجة لقتها فى الدريسنج علشان أجى أشوفك قبل الحفلة بتاعت بالليل وعلشان أشوف جبتلى إيه السنة دى وخصوصاً انك مش بترضى تيجى تحضر عيد ميلادى
إرتكز بمرفقيه على طرف المكتب قائلاً بجدية :
– أنتى عارفة مليش فى جو الحفلات ده وعلى العموم هديتك أهى يا ستى كنت عارف أنك أكيد هتيجى النهاردة علشان كده جبتها معايا من البيت
ترك مكانه وأخرج من تلك الخزانة الصغيرة علبة كرتونية كبيرة ، فناولها إياها ، فأخذتها منه باسمة ، تسرع فى فتحها لترى هديته لها ، فأخرجت ثوب رائع باللون الأخضر متناسقاً مع لون عينيها التى يشتد لونها أكثر إخضراراً عن لون الثوب
فصاحت بإعجاب ظاهر :
– واوووو الفستان جميل أوى يا راسل أنا هلبسه النهاردة فى الحفلة ميرسى يا حبيبى
تركت الفستان وأقتربت منه تقبله على وجنته ، فما كان منه سوى أن أحتواها بين ذراعيه يربت عليها وهى متشبثة به
أبتعدت قليلاً عنه قائلة بإهتمام :
– راسل أنا عايزة أجى أدرب عندك هنا فى المستشفى قولت إيه
داعب طرف أنفها ممازحاً :
– بس كده الجميل يؤمر وأنا اللى هدربك بنفسى مع أن مبعملهاش بس علشان خاطرك أنتى أنا عندى كام ميس يعنى علشان لما تتخرجى السنة دى تقولى أنك خارجة من تحت إيد دكتور راسل
– والله أحلى دكتور ده ولا إيه يا ناس يتاكل أكل من كتر حلاوته
قالتها ميس وهى تلملم الثوب بالعلبة تتأهب للذهاب إلى منزلها
فلوحت له بيدها قائلة قبل أن تخرج :
– سلام يا راسل أنا همشى لأن زمان ماما بتدور عليا دلوقتى ومن بكرة هجيلك علشان التدريب وعلشان فى حاجات تشرحهالى علشان عايزة أكون جراحة شاطرة زيك يا حبيبى
أماء راسل برأسه إيجاباً على ما قالته ، فخرجت تغلق الباب خلفها ، فعاد ووضع الصورة بمكانها ، وخرج من غرفة مكتبه ، للمرور بين المرضى ويستأنف عمله ، بعد تلك الراحة القصيرة التى أتخذها بعد خروجه من غرفة الجراحة ، التى يقضى بها وقتاً طويلاً من ساعات تواجده بالمشفى
______________
بيوم مشمس على خلاف العادة بأيام الشتاء قارصة البرودة ، كانت تجلس حياء على الشاطئ القريب من المنزل ، ترى الزوارق التى تتمايل على سطح الماء ،كأنها راقصات تتمايل بغنج ودلال ،تحث الطيور على التحليق فوقها ،كأنها جمهور حاضراً من أجل حفل راقص
فتحت حياء الكتاب الذى حملته معها من البيت لقراءته ، بتلك الخلوة التى صنعتها لنفسها للهروب من ضجيج العاملين بالمنزل من أجل تجهيز عش الغرام الذى سيجمعها بنادر قريباً
أنهمكت بقراءة الكتاب ،حتى أنها لم تستمع لتلك الخطى التى تقترب منها ، فأجفلت عندما سمعت ذلك الصوت يناديها :
– أزيك يا حياء أخبارك إيه
____________
يتبع ....!!!!!!!
تكملة الرواية من هنا 👇👇👇
تعليقات
إرسال تعليق