القائمة الرئيسية

الصفحات

لعنة_الطاغي منى_أحمد_حافظ الموناليزا البارت التالت حتي البارت السابع كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات



لعنة_الطاغي

منى_أحمد_حافظ

الموناليزا

البارت التالت حتي البارت السابع

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

(3) خلف الوجوه وجوه.

---------------------------


تم إبلاغه بما حدث معها، فأراح ظهره إلى الخلف، وابتسم بظفر والتفت إلى مُساعده وقال:

- لقد فعلتها، لا أصدق أنها اجتازت أول خطوة بنجاح، باتت بالداخل الآن ونحن كذلك.


سأله مُساعده بريبة شابها القلق:

- سيدي هل تأمن عليها معه، أعني الا تظن أن من المبكر التفكير بأنها نجحت، واجتازت الخطوة الأولى.


حده بنظرات نارية، وبدا وجهه كالجمر الملتهب، فهو يرتب للأمر منذ شهور عِدة، فكيف له أن يفشل بعد وضع اللبنة الأولى؟

وكيف لذاك الطاغي أن يُدرك ما يحاك على بعد أميال منه؟ أميال شعر في بعض الأوقات أنها تبدو كسنواتٍ ضوئية، تبعده عن هدفه الذي لوهلة ظنه على بعد خطوة.


ثارت حفيظته وود لو يصرخ، ليخبر مُساعده، أنه نال مبتغاه ومُراده أخيرًا، ولكن كيف؟ كيف وهو يشكك بما حدث؟

لم يتحمل البقاء ساكنًا، فترك مكانه ووقف يسير بلا هوادة، ويراقبه مُساعده بقلق، فهو يعلم جيدًا من هو الطاغي، وكيف يُفكر؟ بل يعلم أنه دومًا يرد الصاع بالف، وإن أكتشف ما يُحاك ضده، حتمًا سيعلنها حربًا ضَرُوس على الجميع، ولن يرأف بأحدٍ منهم أبدًا.


------------------ 


هب خاطر عن مقعده وتطلع بعيون متسعة بشاشة حاسوبه، لا يصدق ما كُتب عنها، صرخ ساخطًا وقبضته تُطيح حاسوبه أرضًا، وهوى بقبضته فوق سطح مكتبه، يُفرغ شحنات غضبه بضرباته، وتعال صوت صياحه المستنكر، وبخارج المكتب وقف مينا وإلى جواره ميسي، يتبادلان النظرات الحائرة، ويتساءلان عما حدث، ليثور خاطر غضبًا هكذا، لكز ميسي مينا وأشار إليه بصمت، أن يتقدم هو بمهمة الاستطلاع تلك، ويلج ليرى ما الأمر، فتجلت ملامح الاضطراب على وجه مينا، وهز رأسه بالنفي وقال بصوتٍ خافت:

- أنا مقدرش أدخل له يا ميسي وهو بالحالة دي، خصوصًا بعد العك اللي عكيته، مأظنش أبدًا هيكون حابب يشوف وشي، أنا بقول أدخل له أنت، وشوف في أيه حصل وبعدها نشوف حل.


تملك الذعر من ميسي، وازدرد لعابه وتراجع خطوة إلى الخلفوأردف:

- أنا وخاطر دونت ميكس يا مينا، دا لو شافني مش بعيد يرميني من الشباك، هو مش بيطيق يسمع صوتي أساسًا، أقوالك أحنا نستنى الحلويات بتاعتنا تيجي، وهي تدخل تشوف ماله، هي الوحيدة اللي بتقدر عليه، وهو بيقلب بطة بلدي معاها، ومبيقدرش يزعلها، حتى لو بوظت الدنيا حواليه.


زفر مينا بضيق، واستدار بوجهه يحدق بباب المكتب الموصد، وعاد لميسي وقال:

- شكلي كدا هغامر وأدخل اشوف ماله، ما هو مش معقول هنسيبه بالشكل دا لحد ما ترجع، عمومًا أنت تخليك هنا، ولو سمعتني بنادي عليكِ أدخل وأنجدني ماشي.


ارتبك ميسي، فرفع مينا حاجبه بسخط وزجره بقوله:

- ميسي مش هروب، عارف لو ناديت عليك وأنت طنشت ولا عملت زي كل مرة وهربت، صدقني مش هتفلت من تحت أيدي، وأبقى وريني مين اللي هيسهلك خروجاتك بعد كدا.


أيقن ميسي من صوت مينا أنه يعني ما قاله، فزم شفتيه وأومأ ثم أردف بقوله:

- خلاص يا مينا أنا هفضل واقف ومش همشي، يلا أدخل شوف خاطر ماله، قبل ما يتوحش أكتر من كدا، ومحدش يعرف يصده.


استجمع مينا شجاعته، والتقط بضع أنفاس بقوة، ووضع يده فوق مِقْبَض الباب، وما أن حاول فتحه، حتى أتى صراخ خاطر المفزع يقول:

- يعني أيه الكلام دا، أنا عايز أفهم مين اللي عمل معاها كدا، دي أول مرة تحصل أن حد يقول عليها كلام زي دا، فهمني أزاي غفلتم عنها وسيبتوها، وأحنا مرتبين كل حاجة، وليه الكاميرات مجبتش اللي حصل، أنا مش عارف هو أنا مشغل معايا هواه، ولا عيال بتلعب، أنا عايز أعرف مين اللي أخدهم، وليه والأهم مين اللي عطل الكاميرات، وعايز تسجيل بكل اللي دار فالاجتماع وبرا الاجتماع، أنا مش صارف كل الفلوس دي علشان فالأخر أقعد أندب حظي.


تجمدت أصابع مينا حول المِقْبَض والتفت بوجهه نحو ميسي وازدرد لعابه بتخوف، ينتفض كلاهما حين فتح خاطر الباب فجأة، ووقف يحدق بهما للحظات، ليفاجأ كلاهما بقبضه على تلابيب ملابسهما، وسحبهما إلى داخل غرفة مكتبه، ودفع بهما أمامه ووقف يتطلع إليهما بغضبٍ عارم، تجمد كلاهما ووقفا أمام خاطر، يتساءلان عما أثاره هكذا، ومع تقدم خاطر منهما، تراجعا بقلق إلى الخلف، ليسقط كلاهما على الأريكة، ومال خاطر نحوهما وهو يحدق بهما بحدة وقال بنبرات صوتٍ جليدية:

- أقدر أعرف البهوات كانوا بيعملو أيه طول اليوم النهاردة، خصوصًا البيه اللي راح جازف بشغل وترتيب سنة وساب شغله قبل ما يتمم كل اللي عليه.


تجهم وجه مينا وفتح شفتيه ليخبره بما فعل، ليوقفه خاطر بنظرة عين واحدة، فأحس وكأنه عاد طفلًا صغيرًا مرة أخرى وجب عليه العقاب، فخفض رأسه هربًا من نظرات اللوم تلك، في حين تابع ميسي وكاد أن يزفر بارتياح، ليدفعه خاطر بسبابته في صدره وهو يُردف:

- وسعادة الباشا، اللي مش بشوف وشه إلا كل فين وفين، أقدر أعرف سيادتك، عملت إيه النهاردة فموضوع التسجيلات، تممت على كل الأجهزة، وعملت لها اختبار، ولا جنابك مكنش فتفكيرك غير أنك تخلص، علشان تلحق تجري تروح تشوف، ست الحُسن والدلال بتاعتك.


زم ميسي شفتيه، وحاول أن يوضح ما فعله، ليمنعه خاطر بإشارة من يده، وابتعد عنهما ووقف أمامهما يحدق بهما بأسف، لينكس كلاهما رأسه بحرج، ليصفعهم خاطر بقوله بصوتٍ متهالك:

- الكاميرات مسجلتش أي حاجة، لا عن الاجتماع، ولا اللي كان بيدور فالقصر، وكل أجهزة الصوت اللي مفروض بتسجل، مسجلتش حرف واحد، عارفين معنى دا إيه.


استدار وزجرهما بنظراته النارية، وحدق بهما ساخرًا من صدمتهما، وأضاف:

- لو مش عارفين معنى اللي حصل إيه، أحب أقوالكم إن معناه الوحيد، أن الطاغي كشف الليلة كلها، وبسبب فشلكم لعب لعبته ووقع ذكرى، يا بيه أنت وهو ياللي دخلتم قصر الطاغي علشان نعرف نراقبه، أحب أقوالكم إنكم سلمتم بأيديكم، ذكرى لداوود الطاغي على طبق من دهب، بعد ما كيندا كامل اتهمتها، أنها سرقت مجوهراتها من شنطتها، وخلت الناس اللي شغالة تبعها فقصر الطاغي، تهينها وتبهدلها، وفالنهاية سلمتها لقسم الشرطة، وطبعًا كيندا كمال مسكتفتش بكدا، لا دي وصتهم عليها احتفلوا بيها، وفالأخر جه داوود الطاغي وأخدها ومشى، ومحدش عارف راح بيها فين، لأنه مرجعش على القصر بتاعه.


كانا يستمعان إلى كلمات خاطر، وعلى ملامحهما ارتسمت الصدمة، لا يصدقان أن داوود قلب الأدوار، ليصبح هو سيد اللعبة بلا منازع، ويسلبهم ذكرى بتلك السهولة، ودون أن يمنعه أحد.


--------------------- 


ولا تزل على غفوتها منذ عاد بها، لا يصدق أنه حملها بين ذراعيه، وغادر بها مُتحديًا فريد، وعدسات الصحافة التي لاحقته، حتى توارى خلف زجاج سيارته العاتم، وانطلق إلى وجهته بعدما ضلل الجميع، وعلى الرغم من إبلاغه، بما طاله على لسان الصحف الصفراء، فهو لم يبال، بل اتسعت ابتسامته، فللمرة الأولى يشعر بالحياة، وعليه أن يتمسك بذاك الشعور لأطول وقت ممكن، استدار داوود وتطلع إليها مرة أخرى، ليراها على سكونها، فاقترب منها ووقف على بعد خطوة من الفراش، والتقط أنفاسه يشتم عبيرها، رأها تتململ بنومها، وترفع كفيها نحو وجهها تفركه كطفلة صغيرة، فجلس بالقرب منها، يراقب صحوها يُريد أن يرى ردة فعلها الأولى لوجودها معه، وأن يرى تلك الشعلة، التي أشعلت رغبته، بأن هناك أخيرًا من يستحق أن يلعب معه تلك المباراة.


نبأها عقلها إلى رائحة عطر حادة، فامتعضت منه وعبست، وعادت وفركت أنفها تمنع عنها تلك الرائحة القوية، التي ذكرتها به، حينها بدأ عقلها يتنبه ويستعيد ما مرت به، فانتفضت مذعورة من مكانها، لترتطم رأسها بأنفه، فسب داوود وابتعد عنها وهو يتحسس أنفه، ووقف أمام الفراش يرمقها بنظراتٍ حادة، يستعيد توازنه، بينما ارتجفت ذكرى، وتشبثت بدثار الفراش كطوق نجاتها، تتساءل بخوف عن سبب وجوده معها؟ ولما هي بغرفة نوم وليست بقسم الشرطة؟


بتلقائية ابتسم، فأفكارها وتساؤلاتها تصرخ بصمتها، وتطل عليه من نظراتها المذعورة، شجاعتها الواهية فرت بعيدًا عنها، تركتها دون درع، ليبدو ضعفها واضحًا كالشمس، لم يدر لما أحب ذاك الضعف الكامن بعينيها، والذي يُدرك جيدًا أنها تحارب لإخفائه، ولكنه يريده أن يدوم، فهو يلامس شغاف قلبه، ويتسلل إلى داخله ويشعره بالحياة، ومع تحركها ابتعد ليترك لها مساحتها، ووقف يترقب نظراتها إليه، ليأتيه صوتها المهتز يقول:

- ممكن أعرف أنا فين، وحضرتك بتعمل معايا أيه، أنا أنا بصراحة مش فاكرة غير أننا كنا فالقسم و.


رغمًا عنها تذكرت إهانة أمين الشرطة، وكلماته الخبيثة بحقها، فطفرة عينيها بالدموع، وأشاحت بوجهها عنه، أدرك داوود أن دموعها ردة فعل طبيعية، فاقترب منها وحط كفه فوق كتفها، ولكنها انتفضت وابتعدت ليسقط كفه عنها، ونظرت إليه بريبة، لتتبدل بثوان كفكفت دموعها، وحدقت به بتحد وأردفت:

- على فكرة أنا منستش كلامك ليا فالقسم، حضرتك قولت أنك مش هتقدر تساعدني، بس واضح من المكان اللي أنا وأنت فيه، أننا مش فالقسم، فممكن تجاوبني وتقولي حضرتك أخدتني معاك إزاي وليه؟


تركها تمضي بعيدًا بخطواتها، فهو يعلم أنها في النهاية ستعود إليه طواعية، واتخذ مقعده وجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وأشعل لفافة التبغ وأخذ يتنفسها بقوة، ويتابع إمارات غضبها، التي لاحت فوق صفحة وجهها، يتماسك عنها بصعوبة، فبداخله نمت رغبة عارمة بجذبه إياها لتسقط بين ذراعيه و.

انتبه داوود لسيل أفكاره، واستعاد رباطة جأشه، وسيطرته على زمام نفسه، وجموحه غير المبرر وزفر بقوة، حينها توقفت خطوات ذكرى أمامه، وعادت تساله بسخط لصمته:

- هو حضرتك مش بتجاوبني ليه، ممكن أفهم في أيه بيحصل؟


أشار إليها لتجلس، وأردف بعدما أطفأ سيجارته:

- هفهمك كل حاجة يا ذكرى، وهقولك إيه اللي حصل، وأنتِ معايا فين، بس الأول عايز أعرف، مجوهرات كيندا أنتِ اللي سرقتيها؟


بدا سؤاله كالصفعة لخذلانه لها، فهي ظنته صدق براءتها، فتجمدت نظراتها عليه، وثار غضبها من ظلمه البين لها بسؤاله، فأجابته بصوتٍ حاد ساخط:

- ولما حضرتك مش مصدقني، وفاكر أني سرقت كيندا هانم، قاعد معايا ليه، وجيت القسم ليه من الأساس، وليه مسبتش الحكومة تشوف شغلها معايا، طالما أنا حرامية من وجهة نظرك.


رفع حاجبه باستنكار للهجتها معه، فهتف بها بحدة:

- ذكرى خلي بالك من طريقة كلامك معايا، وجاوبيني أنا لأخر مرة هسالك، أنتِ اللي سرقتي مجوهرات كيندا؟


تراجعت خطوة إلى الخلف، حين ترك مقعده ووقف، فازداد وجهه تجهمًا وهو يتجه نحوها، ازدردت ذكرى لعابها بخوف من هيئته القاتمة، فأسرعت وأجابت بصوت متضرع:

- مسرقتش أنا مسرقتش حاجة، ومعرفش هي ليه اتهمتني أنا بالذات، وبعدين أنا والله خرجت من مكتب حضرتك على طول، وطول الوقت كنت واقفة فمكاني متحركتش منه، ومشفتش لا شنطتها ولا حتى قربت منها.


تهدج صوتها وتوسطت غصتها حلقها، ولكنها أبت البكاء، فأضافت بصوتٍ مستنكر، لتذكرها ما فعله معها:

- غير كل دا حضرتك أهنتني وفتشتني، والهانم كملت وخلت الخدامين عندك يقتعوا فستاني ويبهدلوني، فقولي لو أنا كنت سرقتهم، كنت هخبيهم فين، تحت جلدي مثلًا.


أرفقت كلماتها الأخيرة، بتحسسها لساعدها، فزم داوود شفتيه وهز رأسه، وأشاح ببصره عنها وأردف بخفوت:

- كنت أتمنى وقتها أكون لوحدي معاكِ، علشان أفتش براحتي و.


زجر نفسه للمرة الالف لانحرافه، وذكر نفسه بمكانته وبهويته، ووقفت ذكرى تتابع ملامح وجهه الممتعضة، وزمت شفتيها لصمته الغريب، ولنظراته الأغرب إليها، ولم تجد أمامها غير الابتعاد، فاتجهت صوب باب الغرفة وفتحته، وسط نظراته التي لم تتزحزح عنها، ومع أولى خطواتها للخارج أتاها صوته يقول:

- على فكرة يا ذكرى أحنا كلامنا لسه منتهاش، ولو تفتكري أني طلبت منك تراجعي عقد الشغل اللي مضيتي عليه، علشان تعرفي أنتِ بتشتغلي عند مين.


لعنته لإتقانه اختيار اللحظات، التي يستطع تجميدها فيها، فها هي تقف لا تعرف أتُكمل خطواتها للخارج، أم تبقى لتستمع له، ليبادر داوود ويسحب منها اَلْبِسَاط بقوله:

- لو خرجتي يا ذكرى هرفع أيدي عنك، ووقتها مش هتبقى واقفة لوحدك فقسم الشرطة لا، أنتِ هتبقي واقفة لوحدك، وأنتِ بتواجهي كل وكالات الصحافة، اللي بدأو يدوروا وراكِ، علشان يعرفوا مين هي ذكرى؟ اللي داوود الطاغي خرج من القسم وهو شايلها بين أيديه، وطبعًا واحدة زيك، مُطلعة على كافة وسائل السوشيال ميديا، أكيد هتبقى عارفة هما كتبوا إيه عني وعنك.


سدد لها طعنة لم تكن في الحسبان، وقفت تتطلع إليه بلا ملامح، لا شيء استقر بداخلها، فكلماته تدور حولها في الفراغ، لا يسمح لها عقلها بالولوج إليه، كادت تطالبه بإعادة قوله، ولكنها هزت رأسها بالنفي، فقسمات وجهه وقتامة نظراته، أجابتها عما تُريد معرفته، وتثبت لها أنه لا يمزح معها ولا يكذب، استندت بجسدها لقائمة الباب، وهي على يقين من اكتشافه للأمر كاملًا، وأنه هو من بات يُلاعبها ويتلاعب بها، وعلمت أن أي محاولة لتزييف الحقيقة، لن تكون أبدًا لصالحها، عليها أن تقبل مبادرته، وتلعب معه وجهًا لوجه، وإلا ستكون هي الخاسرة الوحيدة بتلك اَللُّعْبَة، وقفت وبدت كمن ينتظر أمرًا ما، وللوهلة الأولى تاه داوود، فتحديقها به جعله يُأْسر داخل عينيها، وحين هزت رأسها، بإشارة منها إليه ليُكمل استرساله، قطب جبهته وزوى حاجبيه، ووقف عن مقعده، واتجه نحوها بعصبية واضحة، فباغتته بقولها الصادم:

- وأواجه لوحدي كل دول ليه، وداوود سليمان الطاغي معايا، داوود إمبراطور الصناعة الحديثة، وملك الحديد وحوت التصدير، اللي مافيش ذرة رملة واحدة، بتتحرك من مكانها إلا بإذنه، داوود حاكم القبايل في...


تعمدت ترك جملتها الأخيرة غير مكتملة، لتخبره أن كليهما يلعب بوجهه الحقيقي دون قناع، وأن عليه إن كان يرغب، أن يخطو الخطوة الأولى إليها، ولكن.

لكل قاعدة شواذها، وداوود مختلف كُلِّيًّا عن غيره، فهو الإعصار الكامن خلف قناع الهدوء، والموت المترصد بين حبات الرمال المتحركة، والقاتل الصامت حين تظن أنك بمأمن، هو الشبح بعالم كُتب عليه أن يكون سيده، وعلى السيد دومًا أن يسبق الجميع بخطوة، لا بل بخطواتٍ عدة.


--------------------   


حاولت كيندا التوصل لمكان داوود، ولكن قوبلت محاولاتها بالفشل، بدا وكأنه أختفى تمامًا بلا أثر، حتى مصادرها الخاصة فشلت في إيجاده، منعت نفسها قبل أن تقذف بهاتفها بعصبية، بعدما أخبرها أحد رجاله، بأن سفيان أمرهم بالعودة إلى القصر، قبيل مغادرة داوود قسم الشرطة، وبالتالي لا يعلم وجهته، ضربت الأرض بقدمها، وجلست فوق الأريكة، تتساءل إلى أين ذهب بتلك الفتاة؟ 


وفي خضم شرودها، ارتفع رنين هاتفها لثوان، فالقت نظرة خاطفة عليه، وعبست ما وجدت أشعارًا برسالة، من رقم غير مدرج لديها، علمت مُرسلها فورًا، فمدت يدها، واستجابت لنداء الأشعار، واستقبلته لتقرأ ما أُرسل إليها:

- لم يكن عليكِ إتهام تلك الفتاة، خاصة في الوقت الحالي، فنحن لم نرد أن تطأ أرض الطاغي بقدمها الأن، وأنتِ بفعلتك فتحتي لها الأبواب على مصراعيها، لقد اضعتي من بين يدك فرصة مثالية لنيل ما تطمحين إليه، خاصة بعد نجاح خطواتك السابقة جميعها، عدا الأخيرة منها والتي حتمًا ستكلفك الكثير، وأعلمي أنك إن حاولتي أصلاح ما أفسدته، لن تزيدي الأمر إلا سوءً، لذا عليكِ البقاء بعيدة ودعي الأصلاح لصاحب شأنه.


زمت شفتيها متذمرة لتدخلهم بشأنها، فهي أبدًا لن تستطيع الأبتعاد، فتلك الفتاة تسعى لسلبها ما صبت إليه نفسها طويلًا، فكيف بعدما باتت الأقرب إليه أن تبتعد عنه وتترك لغريمتها الساحة، ضيقت كيندا عينيها، وتطلعت للرسالة ساخرة، وضغط لتضعها بسلة المهملات، وهمست بصوتٍ حانق:

- أبعد واسيب لها الساحة، علشان تاخد داوود، اللي حاربت الكل علشانه، داوود ملكي أنا وبس، ومش من حق أي واحدة تاخده مني، وهو نفسه مش من حقه أنه يفكر فأي واحدة، ويوم ما يفكر يلعب معايا، يبقى هو اللي سعى لنهايته.


تنفست وهي تُفكر بأمر داوود ومكانه، وزفرت بقوة وهمهمت:

- هسيبك بمزاجي يا داوود، علشان أنا عرفاك كويس، أنت شوفتها حاجة جديدة ممرتش عليك قبل كدا، فقولت تجرب وأنا هسيبك تجرب، ولما تاخد اللي أنت عايزه منها، وترميها برا حياتك زي ما عملت مع غيرها، وقتها هترجع تاني لكيندا، وساعتها هتلاقيني، بس المرة دي هترجع ومش هسيبك تبعد تاني يا داوود.

#لعنة_الطاغي

(4)  أولى خطوات داوود.

----------------------------------


خلال ساعات قليلة، سادت حالة من الصمت، لا أحد يعلم كيف أو متى أختفى الخبر، وأين ذهبت الكلمات، التي كُتبت عن داوود وذكرى!

وكيف تلاشت صورتهما وهو يحملها تمامًا؟ حتى محضر السرقة لم يعد له أي أثر! 

بدا الأمر وكأنه لم يكن ولم يحدث، حتى الهمسات وئدت في الصدور، خوف يتخفى في العيون مجهول المصدر، هو الوحيد المتحكم بكل شيء، هكذا هو داوود حين يضرب، تكون ضربته بغفلة من الجميع، وفي مقتل.


أما كيندا فكادت تصاب بأزمة قلبية، حين أخبرتها مدبرة منزلها، أن سفيان حارس داوود الشخصي، يُريدها بأمر هام، اسرعت بخطاها إليه، ورحبت به على غير عادتها، تعجب سفيان لترحيبها الحار به، كونها دومًا تتعامل معه، ومع أقرانه ومن هم أقل شأنًا منها، وفق وجهة نظرها بكِبر وترَفُع، كاد يسألها عن سبب تغيرها، ولكنه منع نفسه، وحين أشارت له بالجلوس، اعتذر منها بلباقة، وراقبته كيندا وهي تحاول تمالك تهورها، وتكبح رغبتها لسؤاله عن مكان داوود، وحين مد يده إلى جيب حُلته، ضيقت كيندا عينيها، وترقبت خطوته التالية، وما أن أخرج علبه مخملية وقدمها إليها، حتى وقفت بحدة، وحدقت بيده الممدودة بالعُلبة باشمئزاز، ورمقته بنظراتٍ مستنكرة، لظنها بأنه يسعى لمحابتها، وتخيله أنها ستقبل منه تلك الهدية، ابتسمت باستخفاف، وشمخت برأسها وأخبرته بصوتٍ فاتر:

- هو أنت مُتخيل إن كيندا هانم، ممكن تقبل هدية من حارس أمن يا سفيان، معقول عقلك صورلك، إني علشان وافقت أنك تقف أدامي وتكلمني، إن ممكن أنزل لمستوى واحد بيشتغل عند داوود، شيل العلبة اللي أنت ماسكها يا سفيان، بدل ما أعتبرك جاي بيتي تقلل مني و...


رمقها بنظراتٍ نارية، وود لو يصفعها لغرورها وتعجرفها، ولكنه تمالك زمام نفسه، وأجبر نفسه على تحمل تواجده معها، وزفر بقوة مُتغاضيًا عن إهانتها له، وتقليلها من شأنه، وأخبرها بلهجة رسمية باردة:

- واضح إن في سوء فهم، حصل عندك يا كيندا هانم، العلبة دي من الباشا، هو طلب مني أني أوصلها لهنا بنفسي، ومعاها رسالته الشفهية لحضرتك.


تعمد سفيان وضع العُلبة فوق الطاولة بأهمال، واعتدل وهو مقطب الوجه، واستكمل حديثه قائلًا:

- الباشا بيبلغلك، إن العلبة دي فيها مجوهراتك، اللي اتهمتي الأنسة ذكرى بسرقتهم بالخطأ، وأنها كانت واقعة فحاجز الكرسي، اللي حضرتك كنتِ قاعدة عليه فمكتبه، وإنه لقائها بعد ما حضرتك خرجتي من عنده.


لمعت عينا سفيان، وهو يرى حالة الغضب المستتر داخل عينيها، وود لو ينفجر ضاحكًا، فوجهها بدى له كــ بالون أحمر اللون، منتفخ على وشك الانفجار، ولكنه تروى وأومأ برأسه، وأردف قبل أن يستدير:

- عن إذن حضرتك، أنا لازم أرجع القصر، لإن الباشا مكلفني بمهام تانية.


لم يستطع سفيان كبح لسانه من أضافة:

- قبل ما يرجع، وأتمنى أكون وضحت سوء الفهم، وإن العلبة مكنتش هدية مني، أصل أنا مش مجنون، علشان أعمل حاجة زي دي.


--------------------- 


وبغرفتها تبكي منذ أنذرتها كريمة، وهي لا تصدق أن هناك أحدًا بتلك البشاعة، فـكريمة تتصنع الطيبة والود أمام الجميع، ولكن بداخل أعماقها تحمل نفسًا كريهة بغيضة، لا ترحم ولا تشفق على أحد، خفضت شجن رأسها بخزي، أمام أيقونة العذراء التي تحتفظ بها، وانحنت بجلستها وتمسكت بصليبها بأنامل مرتجفة، سالت دموعها بغزارة كأنها لم تبكِ يومًا، وأخذت تدعو الله أن يغفر لها خطيئتها، فهي وللمرة الأولى ترحل ببصرها لغريب، سكنت الغصة حلق شجن، ما أن تذكرت محمود، لم تتخيل قط أن تكون أخلاقة دونية هكذا، وأنه أخطأ بحق ذكرى بفعلته المُشِينة، ضغطت شجن بألم فوق قلبها، فهي للآن لا تصدق أن قلبها أخطأ وأجرم بالتعلق بمن لا يصلح، توقفت أفكارها بغته، ليذكرها عقلها بكلمات كريمة، فهي لم تكتفي بالتنمر عليها أمام باقِ الفتيات، بل جذبتها من خُصلاتها ومدت يدها وسحبت قلادتها، وسخرت منها بقولها:

- ألا يا قديسة شجن، هو يا ترى يحق للبنات اللي اتربت فالدير، واللي بتعتزل في الآحاد في ركنها الخاص علشان تصلي، أنها تحب وتعشق وتعمل غراميات، وهل تفتكري لو الكنيسة، ولا حتى أهلها عرفوا، أنها راحت حبت وعشقت هيعملوا فيها إيه.


شحب وجه شجن، وأحست أنها على وشك فقدان الوعي، لتُجهز عليها كريمة بابتسامتها المتهكمة، وهي تدفعها عنها، وتمسح كفيها باشمئزاز وتُضيف:

- وخصوصًا بقى لو عرفوا، أن اللي راحت تحبه دا، مينفعش أنها تكون على صلة بيه من الأساس.


فهمت شجن مغزى كلمات كريمة، وتهديدها لها، فخفضت رأسها تشعر بالقهر، واستدارت لتُغادر، وسط ضحكات كريمة ورفيقاتها الساخرة، تبكي بألم وندم ما فعلته بحق نفسها وحق أسرتها، وها هي منذ عادت تتوسل بدعائها، ألا تُنفذ كريمة تهديدها، فهي تعلم جيدًا أن أسرتها، لن تتوانى عن قتلها، إن سمعوا عنها شيئًا كهذا، وأن مُعلمتها بالدير ستستنكر فعلتها تلك، وسيخيب أملها بتلميذتها، بسبب سلوكها المُشِين ذاك.

التقطت شجن بضع أنفاس، بعدما أحست باختناقها، وحاولت التفكير بمخرج، يحفظ ماء وجهها أمام الجميع، فهي باتت لا تدر كيف ستغدو أيامها القادمة، فحتمًا كريمة ستستغل ما حدث، لتنال منها وستُلاعبها، كما تفعل عادةً، ما أن تقع إحداهن بين يدها، كفكفت شجن دموعها، وتسطحت فوق فراشها، وحاولت طرد عينا محمود التي طاردتها، لتصرخ في نهاية الأمر بقلب متألم:

- أبعد عني بقى حرام عليك، سبني فحالي، وكفايا عليا كريمة واللي هتعمله فيا، ياريتني ما شوفتك ولا دورت عليك، ياريتني.


------------------------  


وعلى الجانب الآخر، وضع مينا يده فوق قلبه، وشهق بقوة ليلتقط أنفاسه كمن أصابته أزمة قلبية مباغتة، فانتفض خاطر وأسرع نحوه، وقد تناسى أمر غضبه منه ومن ميسي، وسأله بخوف:

- مالك يا مينا ماسك قلبك كدا ليه؟ طمني عليك وقولي حاسس بأيه، طيب بلاش تتكلم، وقوم معايا أفرد جسمك، على ما أطلب لك الدكتور، يجي يكشف عليك ويطمنا.


قبض مينا على ساعد خاطر، وهز رأسه بالنفي، وحاول تمالك دموعه، ولكنها فرت منه رغمًا عنه، فشحب وجه ميسي، وأدرك أن صديقه به خطبٌ ما؟ فغادر الغرفة على عُجالة، وأختطف جهاز الاستنشاق الخاص بصديقه، من فوق مكتبه وعاد مُهرولًا إلى غرفة خاطر، ووضعه فوق أنفه وحثه على التنفس، التقط مينا أنفاسه بصعوبة، وبعد دقائق مرت عليهم بمشقة، هدأت أنفاس مينا، فأبعد ميسي الجهاز عنه، وربت خاطر كتفه بحنو وسأله:

- حاسس أنك بقت أحسن.


أومأ مينا وحاول أن يعتدل، فمنعه خاطر وأردف:

- خليك زي ما أنت متتحركش، أنا معنديش أستعداد أخسر أتنين من ولادي.


جلس ميسي لجوار صديقه، وأمعن النظر بوجهه، فأغمض مينا عينيه وقال بصوتٍ حزين:

- صدقني لو قولت أنا معرفش مالي، فجأة حسيت أني مش قادر أخد نفسي، وقلبي بيوجعني زي ما يكون في أيد مسكاه وبتعصره، أول مرة أحس...


ابتلع مينا كلماته التالية، وأتسعت عينيه، فرفع ميسي حاجبه وحدق به مستفهمٍا، يخشى التلفظ بما يجول بخُلده، أن يتسبب في أثارة غضب خاطر منهم مرة آخرى، وأختطف نظرة سريعة نحو خاطر، ليُدرك أنه يتابع ما يدور بينهما بصمت، فزم شفتيه وحرك كتفيه دليل كشف أمره، حينها ادار مينا وجهه وحدق بوجه خاطر وأردف:

- عارف أنك هتقول عليا مجنون، وإني متهور وأني السبب الأساسي، اللي بوظ العملية كلها، بس حقيقي أنا مش قادر أمنع نفسي يا خاطر، عايز أرجع لهناك، عايز أشوفها وأكلمها وأفهمها كل حاجة، عايز أصارحها باللي حاسس بيه، وأشوف ردة فعلها حتى لو هترفضني، أرجوك يا خاطر خليني أكلمها ولو لمرة واحدة، أنا عايز اطمن عليها، قلبي بيقولي أن فيها حاجة، وأني السبب.


امتعضت ملامح خاطر، وتجهم وجهه، لا يدر ما أصاب ابناءه ليحدث بهم ما حدث، وبينما يتبادل الثلاث النظرات، ولجت سمرا بأنفاس متهدجة وأردفت:

- خاطر كل حاجة كانت منشورة عنهم اتمسحت، كل المواقع حذفت الخبر، والصورة أختفت ومبقاش ليها أي أثر، والغريبة أني لما حاولت أرفعها على جوجل، علشان أعمل عليها بحث، أترفضت، فقولت ابعت لزمايلي اللي شغالين فالجرنال، قالوا إن جت لهم تعليمات مشددة من جهات عُليا، بأن أي حد هيفكر ينزل حرف أو كلمة، عن داوود والبنت اللي معاه، هيتعرض للملاحقة القضائية، وهيشطب اسمه من النقابة.


على الرغم من سعادته، لحجب الخبر ومنع نشره، إلا أن الخوف بداخله ازداد عليها، فهي الأن باتت بين يداه وبمفردها، بعدما عزلهم داوود عن قصره، وهدم كافة الممرات التي حُفِرت لتصلهم به، فزفر بحزن وعقب قائلًا:

- كلامك يا سمرا أكد لي، إن داوود كشف كل حاجة من قبل ما تبدأ.


أعتدل مينا بجلسته، وحدق به بقلق وسأله:

- طيب وذكرى هنسيبها تحت رحمته!


رفع خاطر كفيه باستسلام واسقطهما وأردف:

- للأسف معدش فأيدي أي حاجة، ولو حاولت أدخل، هيبقى أعتراف صريح، أننا كنا بنتجسس عليه، ووقتها مش هتبقى ذكرى بس اللي تحت رحمته؛ لأ، دي رقبينا كلنا هتبقى فايده، فتفكر أني ممكن أجازف بحد تاني من فريقي يا مينا، لأي سببٍ كان.

 

ختم خاطر متعمدا قوله بتلك الكلمات، ليُبلغ مينا برسالته السرية، فخفض الأخير رأسه بخزي، وهز رأسه بالنفي، لعلمه بصحة قول خاطر، فجميعهم اتفقوا على أن لا عودة لأصلاح فشل، ولضمان سلامة الأخرين التنصل من الأمر كله، ولكن تلك القاعدة الأن ومع أختفاء ذكرى، ليس لها أي معنى، فوقف مترنحًا في بادىء الأمر، ورفض دعم ميسي له، وأردف بقوله بصوتٍ جاد:

- خليك فاكر يا خاطر، إن لكل قانون ثغراته، ومافيش على وجه الأرض حد مُحصن مية فالمية، وداوود الطاغي زيه زي أي إنسان، له نقاط ضعفه، اللي هسعى أني أكشفها، مهما حاول أنه يخفيها، وزي ما هو كشف خطتنا، وحرص أنه يبلغنا رسالته، فأنا على يقين أنه أكيد غفل عن كشف خطوتي البديلة، اللي قبل ما أنسحب من موقعي فعلتها، بدون ما أفهم أنا بفعلها ليه.


-------------------------- 


جلست أماه بغرفة مكتبه، تتابع ما يفعله بترقب، فهو وخلال لحظات كان قد انهى كل شيء، الخبر والصور حتى ملاحقتها، وبالرغم من معرفتها بشخصه وأفعاله، إلا أنها لم تستطع إنكار أعجابها به، وأشادت بموقفه معها، مع علمه بسبب تواجدها بقصره، لم تدر أنها شردت وعينيها تلاحق وجهه، وتُفكر بأمر عينيه ونظراته الغامضة إليها، لتنتبه سريعًا حين تبدلت كلماته، وتحدث بالفرنسية إلى أحدهم، لم تفهم في بادئ الأمر ما ينوي فعله، ولكن حين تسلل إلى سمعها اسم كارلوس حتى تحفزت، وعلِمت أنه استعان بخدمات، أخطر رجال الهكر على الإطلاق، فازدردت لعابها وأيقنت أن مهمتها، أضحت شبه مستحيلة، فحتمًا كارلوس سيعرف بصمتها الإلكترونية، إن هي تدخلت، وأن عليها الانسحاب، والتنحي ليتقدم بديلها وينفذ المطلوب، تجلت على ملامحها الخيبة والضيق، فتركت مكانها لإحساسها المُر بالفشل، اتجهت صوب الشرفة، وغادرت مكتبه منها، وخطت بضع خطوات، ووقفت تحدق بمياه البحر الصافية، وبتهور جلست على الشاطيء الرملي، لتلامسها الأمواج، اشتمت عبيره وأحست بتيار يمر بجوارها ما أن جلس، جعلها ترتجف، فرفعت ساعديها واحتضنت جسدها، وشكرته سرًا لعدم استراقه النظر إليها، وشرد كلاهما للحظات بالموج الهادىء، ليقطع داوود الصمت بقوله:

- ها عرفت أصحح الوضع، ولا فشلت زي ما كنتِ بتتمني.


ضمت ركبتيها نحوها، واسندت رأسها فوقهما، وتابعت تحديقها بالموج، وأجابته بصوتٍ خافت، فبدت وكأنها تخشى أن تتسبب، بأزعاج الطبيعة حولها:

- كنت متأكدة أنك هتقدر تعملها، ولعلمك أنا متمنتش أنك تفشل، لسبب بسيط.


رفعت رأسها وادارتها، وحدقت بوجهه، وأردفت بصوت مهتز:

- عارف ليه، علشان داوود الطاغي، مهما مسح وحذف وحجب وهدد، عمره ما هيقدر يمنع الناس، أنها تفكر وتألف قصص بينها وبين نفسها، ولو حتى قدرت تخرس كل الألسنة، مش هتقدر تخرس ظنونهم السيئة اللي هتطولني، عارف ليه؟ علشان أنت مش أله، وربنا عز وجل الوحيد هو اللي بايده الأمر، للأسف يا داوود باشا الوضع الغلط، مهما حاولت أنك تصلحه هيفضل غلط، وأنت بدأتها معايا غلط، ومش هقول أنك محسبتهاش صح، لإني عارفة أنك مخطط لكل حاجة، من أول ما رفضت توضح الحقيقة للكل، وتقول لهم أني مسرقتش، وتكشف اللي سرق، لحد من شوية لما حجبت الخبر، اللي أنت سعيت أنه يكون حقيقة، لما خرجت بيا من القسم شايلني.


لا ينُكر أنها تمتلك عقلًا يُجيد التفكير، فهي لملمت أطراف الأُحْجِيَّة، وعلمت ما فعل، نعم هو سعى ليضعها بتلك الزاوية، منذ اللحظة التي رأها تبعد غُرتها عن عينيها، ما أن خطت لداخل قصره، فلازمها بعينيه وتتبع خطاها، وحين أدرك لُعبة كيندا سايرها، لأنها بدت له الخطوة المثالية لينال مأربه، فكيف يرفض أن تصبح ذكرى له دون جهد يُذكر، فترك لكيندا حُرية التصرف، كي لا تشك بأنه اكتشف الأمر، ولكنه لم يضع بحسبانه أبدًا، تطاول كيندا عليها، وهو ما لن يغفره داوود لها، وسيحاسبها عنه حسابًا عسيرًا، حين يأتي أوانها.


التفت إليها وحدق بوجهها، وبثوان كان قد أحاط وجهها بكفيه، واقترب بوجهه منها، فتجمدت، علم أنها كتمت أنفاسها ترقبًا له، وأمام اضطرابها تمالك داوود نفسه، وكبح مشاعره وهمس، بأنه لم يحن بعد أوان ما يُريد، ولكنه أحب ذعرها وهي بين ذراعيه، ولم يكن حال ذكرى مثله، فهي تواجه للمرة الأولى قربًا بأخر، تختبر مشاعر لم تتخيل أن تمر بها يومًا، أنفاسه الدافئة التي تُلامسها، عينيه التي تحاول سبر أغوارها، كفيه المُحيطين بوجهها، وينشران بداخلها رجفة تتمنى لو تدوم، أشتعل وجهها لافكارها نحوه، وازدردت لعابها وأنتفضت كمن مستها النار، حين مرر داوود ابهامه بجوار أذنها، تنهدت رغمًا عنها، لتتسع عينيها بصدمة، لإفصاحه عن سبب فعلته الأخيرة بقوله:

- هجيبهالك من أقصر الطرق، علشان أنا مش حابب لا ألف ولا أدور حواليكِ، وأساسًا مش حابب أطول فترة السكوت ما بينا، لإني اكتفيت من الصمت، ومن الأخر يا ذكرى، أنا قصدت فعلًا أتصرف بالشكل دا، علشان الكل يفهم ويعرف، إن اللي ملك داوود الطاغي، ممنوع على أي عين تبص عليه، وأنتِ من اللحظة اللي دخلتي برجلك قصري، وعيني لمحتك بقيتي ملكي، وللأسف أنا بعترف أني استهونت بكيندا، بس صدقيني اللي عملته معاكِ، مش هيمر بالساهل، وهتدفع تمنه غالي، هي وكل واحدة لمستك، وفكرت تأذيكِ، أما فريد فلولا أني عارف ومتأكد، أنه مكنش يعرف أنك تخصيني، فأكيد كان زمانه دلوقتي، مشرف مع أمين الشرطة، اللي لمسك ونفذ طلب كيندا، واللي لحد اللحظة، أنا مانع نفسي عنه، علشان عارف أني أول ما هشوفه هقتله، لأفكاره اللي كانت باينة من نظراته ليكِ.


شهقت بخوف وارتجفت، فوقف داوود وجذبها لتقف أمامها، وحاوطها بساعده ليوقف رجيفها، وربت براحة يده وجنتها وأردف:

- مش عايزك تقلقي من حاجة، ومتخافيش مني، أنا مش هضغط عليكِ، وهسيب لك الوقت الكافي، علشان تتعودي على وجودك معايا، وعارف أنك دلوقتي تايهة ومتلغبطة، ومش فاهمة اللي بيحصل، فأجابتي ليكِ أنك تحاولي تستوعبي الموضوع واحدة واحدة، سيبي نفسك يا ذكرى، وعيشي حياتك معايا زي ما أنا مرتب، صدقيني مش هتندمي، ويمكن فالنهاية تلاقي نفسك حققتي، اللي مافيش واحدة قبلك قدرت تحققه.


وكالمغيبة سألته، وعينيها تغوص بعينيه:

- وهو إيه اللي مافيش واحدة قبلي، قدرت تحققه معاك.


رمى تحفظه معها أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وضمها إليه بقوة، وحين ازداد ارتجافها، مال بلمح البصر، وحملها بين ذراعيه، وهمس وهو يعود إلى الداخل:

- أنك سرقتي قلبي يا ذكرى، والظاهر أنك هتبقي لعنتي وضعفي.


بغرفتها التي ودعها أمام بابها، جلست فوق فراشها، لا تصدق ما أخبرها إياه، حاولت أن تُعيد ترتيب أفكارها، وتُذكر نفسها بما جاءت لتحققه، لتعود وتشرد بكلماته، وضربات قلبه القوية أسفل راحة يدها، هزت ذكرى رأسها بقوة، وزجرت قلبها واتهمته بالمراهق، ليرجف فجأة مُذكرًا إياها، أن من حقه أن ينال فرصته، ويترك مشاعره على سجيتها، لتنعم بما حُرم منه سابقًا، تذمرت لعناد قلبها، وصاحت مُتناسية مكانها تقول:

- مافيش حاجة اسمها حب فعالم الطاغي، في بس رغبة وفترة مؤقتة ووداع، ولا سيادتك مش عارف تاريخ الباشا، عيب عليك تضعف وتسلم، زي قلب بنت مراهقة، وتضيعنا بعد العمر دا، مش معقول بعد تماسك ستة وعشرين سنة، تقع في فخ ساذج وتصدق كلامه، دا الطاغي اللي دخل فـ علاقات بعدد شعر راسه، الطاغي اللي مفروض دلوقتي، بدل ما أنا قاعدة أقنعك أنك متحبوش، أفكرك أنه كان بايده ينهي مهزلة كيندا، بس سكت علشان ينول غرضه، تبقى كدا خلصت يا ذكرى، أنتِ لازم تطرديه من تفكيرك، وتعرفي أنك مهما خيالك راح لبعيد، عمرك ما هتكوني ألا فترة مؤقته فحياته، وبعدها هينساكِ ويدور على غيرك، و... 


فرت دموعها بحزن، يؤلمها قلبها لما انتهت إليه أفكارها، فمدت يدها وكفكفتها، ووبخت عقلها لتساهله ذاك، لا تصدق أنه سمح لداوود، أن يتمادى معها إلى الحد، لتصبح رفيقته بمكان مجهول، تركت فراشها وهي تلوم تهورها، ووقفت تحدق بمحتويات الغربة بتيه، وزفرت لاستسلامها بضعف، فزجرت نفسها قائلة:

- فوقي يا ذكرى، فوقي بدل ما تلاقي نفسك، مجرد ذكرى في سجل الطاغي.


أنهت قولها وسارعت بخطواتها، إلى المرحاض وتوضأت، وهمست وهي ترتدي حجابها:

- يارب قدرني أبعده عن طريقي، وقويني على ضعفي وضعف قلبي.


-----------------------   


بعدما سلم تيسير لسفيان، جميع تسجيلات كاميرات المراقبة، داخل وخارج القصر، جلس سفيان بمكتبه، يشاهد كافة التسجيلات، ليعقد حاجبيه إزاء ملاحظته، حديث كريمة الحاد لشجن، واستماعه لكلماتها الساخرة لذكرى، ثم ما فعلته بها، حين أشارت كيندا لها، ولكن ما جعل غضبه يتفجر، سماعه بوضوح، لتهديد كريمة المتواري خلف تهكمها لشجن، فالتقط هاتفه وأجرى اتصالا بداوود، وحين أجابه بصوتٍ ناعس، أعتذر سفيان وقال:

- بعتذر يا داوود باشا، بس في كذا حاجة لحظتها في التسجيلات، كان لازم ابلغ حضرتك بيها.


استعاد داوود انتباهه كُليًا، واستفسر عن تلك الملاحظات، ليخبره سفيان:

- واضح يا باشا إن مدام كريمة، على صلة بكيندا هانم، لأنها بإشارة هاجمت الأنسة ذكرى، دا غير معاملتها للبنات اللي تحت ايديها، كلامها للبعض منهم في تهديد غير مباشر، واللي وصل للتهديد بالقتل.


أسهب سفيان بشرح كل ما شاهده بالتسجيلات، وأخبر داوود بظنونه وملاحظاته، ليزيد من تأجج غضب داوود، مما جعله يُنهي الحديث بقوله:

- أبعت لك نسخة من كل التسجيلات يا سفيان، والتسجيلات المُشفرة للاجتماع، وكلم تيسير بلغه أن كريمة وموبايلها، لازم يكونوا تحت عينه وسمعه هو، هو يا سفيان مش أي حد تاني، وبالنسبة للبنت اللي كريمة هددتها، حاول توفر لها حماية، من غير ما أي حد يلاحظ حاجة، وأنا لما أرجع هبقى أشوف بنفسي، موضوع اللي اسمه محمود، ومتنساش يا سفيان، بكرة عايزك تستقبل الوفد مع مستر بكر، وتوفر لهم كل سبل الراحة، ومتقلقش أنا طلبت من سراج، أنه يخلي الطاقم اللي كان موجود بالحفلة، هو اللي يشرف على القصر، طول فترة إقامة الوفد فيه، ومش هوصيك كيندا تفضل بعيدة عنهم، ومتقابلش أي حد منهم، لحد ما يسافروا.


لم يدر سفيان لما رجف قلبه، ما أن علم أن تلك الفتاة سيراها من جديد، اتسعت ابتسامته، وهو يتذكر حواره السابق معها، ومشاكستها لها، ولكنه قطب جبينه، ما أن أدرك أن سراج سيرافقها، زفر ساخطًا وتوعد له أن أمسك به متلبسًا بالنظر إليها، سيــــ...


هز سفيان رأسه ومسح عليه بكفه وأردف:

- والله وشكلك طبيت يا سيفو، وبينها مش هتسمي عليك، بس على مين، طالما هي اللي القلب شاور عليها، يبقى هتبقى من نصيبه بعون الله، دا أنا سفيان، اللي محدش يقدر يقوله ميصحش .


------------------------


ترك داوود هاتفه فوق الطاولة بجواره، يود لو بإمكانه الذَّهاب لغرفتها ليطمأن عليها، فاستدار ليصطدم بانعكاسه في المرآة، وقف يحدق بصورته، وبدا كمن يرى نفسه للمرة الأولى، اقترب أكثر ليتجهم وجهه لرؤيته تلك الخطوط البيضاء التي غزت جانبي رأسه، وزم شفتيه وهتف:

- أول مرة تبص لنفسك في المراية يا داوود، كنت دايما مش بتهتم، لا بشعر أبيض ولا تعب وأرهاق، معقول ما بين يوم وليلة، تتغير بالشكل دا، معقول تسمح لواحدة، أنت عارف هي دخلت حياتك ليه، أنها تأثر فيك بالشكل دا، معقول تكون حبيتها.


لم تنل تلك الفكرة عقله، ووجده نفسه ينفي سقوطه بغرامها، وتعلل أن ما يمر به، هو مجرد حالة من الأعجاب لا أكثر، وحتمًا ستكون النهاية بينهما، كـ نهاية أي علاقة يخوضها، سيتفق معها وسيُرضيها بأكثر مما تحلم و...


أجبر داوود عقله على التوقف، لإحساسه بالضيق، وأدك حجم كذبته الواضحة، فزم شفتيه وزفر بقوة، وأشاح بوجهه عن صورته، واتجه صوب الطاولة، والتقط هاتفه وسماعة أذنه الخاصة، وبنظرة خاطفة أدرك أن سفيان أرسل كامل التسجيلات، فغادر غرفته وهبط درجاته بشرود، وولج إلى مكتبه وأوصد بابه، وتنفس بقوة عدة مرات ليبعد شبح ذكرى عنه، ويعود بكامل تركيزه إلى عمله، وأردف:

-  "firewall action" 


وبغمضة عين، تحركت مكتبة المكتب الضخمة عن مكانها، وكشفت عن غرفة سرية، جوانبها الأربع من الزجاج العازل، ولج إليها وجلس بأريحية، يستمع إلى التسجيلات، غافلًا كُليًأ عن رؤية ذكرى، التي توارت خلف الأريكة بوجه شاحب.

#لعنة_الطاغي

(5) ..بلا أجابة!

----------------------


تجمدت لا تدر ماذا ستفعل، إن قَبض عليها بالجرم المشهود، حتمًا سيُلقيها بطول ذراعه، وسيُعيدها إلى قسم الشرطة بيده، وحينها سينتهي أمرها، زفرت ولكنها سرعان ما وضعت يدها فوق شفتيها، وبخت نفسها لنسيانها، وأخرجت رأسها بحذر، واختطفت نَّظْرَة سريعة باتجاهه، فرأته منهمك بتحديقه بشاشة هاتفه، ألقت نَّظْرَة نحو الباب، فوجدته مغلق، وعادت إلى وضعها الأول واستكانت، يخبرها عقلها أن عليها التريث، كي لا يُفضح أمرها.


في حين اندمج داوود كُليًا، بمتابعة التسجيلات، تجهم وجهه وتوعد كريمة، بعقاب شديد، لما فعلته بذكرى، والرد على فِعلة كيندا الغير مبررة، ولكنه سيتمهل ليكشف الأمر كامِلًا، أطرق قليلًا يُفكر بأمر ذكرى وذاك الحارس، يشعر بأن ملامحه تلك مألوفة لديه، عيناه يوقن أنه رأها سابقًا، ولكن أين؟.


رفع داوود رأسه بغتة، وعقد حاجبيه ووقف يدور حول نفسه، يعلم بقرارة نفسه أن هناك أمرًا ما خطأ بوجه محمود، فعيناه سبق ورأها ولكن بملامح غير تلك.


أنفجر فجأة ضاحكًا وعاد لمقعده، وأجرى أتصالًا بسفيان، أملاه بما عليه فعله وأنهى أتصاله وأتكأ على مقعده وابتسم قائلًا:

- خاطر رشوان؛ والله زمان يا خاطر، وأخيرًا جيت لي برجليك، ياه دا اللعب كدا هيبقى على تقيل، وحشتني أيامك وشقاوة زمان.


أنهى داوود قوله، وأعاد تركيزه كامِلًا لمراجعة باقي التسجيلات، فعليه أن ينهي مراجعتها ليضع تقريره، فموعد تسليم الشحنات أقترب وعليه أن يسد كافة الثغرات، التي يُمكن استغلالها، للتسلل منها إليه، وألا يغفل عن الصغائر، سجل داوود بعض الكلمات بهاتفه، وأرسل العديد من الرسائل، وأعتدل بعدما أرسل أخر أشعار، ليأتيه الرد فابتسم، وأستقبل الاتصال المرئي قائلًا:

- مرحبًا عزيزي، كيف حالك الآن.


أخبره الأخر عابسًا:

- دعك من حالي داوود، فأنت تعلمه جيدًا، والآن أخبرني بما لديك، فأنا مقيد حتى اللحظة بمكاني رُغمًا عني، وكل هذا بسببك أنت.


اتسعت ابتسامة داوود، وأجابه بجدية:

- أخبرتك سابقًا يا صديقي أن عليك التمهل، فخطواتك كانت مكشوفة، ولولا تحذيري إياك، لكنت سقطت حتمًا بفخهم كالغِر، والآن دعني أأمن لك خُطة بديلة، لضمان رجوعك سالمًا، قبل أن يأتيك أحدهم.


أطرق الأخر برأسه، لعِلمه أنه ما عاد يملك من أمره شيئًا، وأنه لولا تدخل داوود لبات في عداد الأموات، أومأ له وأردف معقبًا:

- حسنًا داوود سأنتظر كما تريد، ولكن عجل صديقي، فأنا على أحر من الجمر للعودة، كي أخذ ثأري.


--------------------  


في صباح اليوم التالي، وقف كالصقر يُشرف على كل شيء بنفسه، أومأ لتيسير فرفع الأخير حاجبه بضجر، والتقط هاتفه وكتب سريعًا شيئًا ما وأرسله، ليحدق سفيان بهاتفه، واستدار يحدق بالزواية التي أشار إليها تيسير برسالته، فأكفهر وجهه وأتجه بخطواتٍ سريعة نحوهم، نصب عيناه عليها، فرأها تتنفس بقوة بوجه عابس، وما أن أصبح قاب قوسين منها أخترق سمعه كلماتها الحادة تقول:

- بص بقى يا بشمهندس سراج، لو فاكر أنك تقدر تلوي دراعي، فتبقى بتحلم، علشان أنا ممكن اقطع دراعي دا خالص، ولعلمك أنا هنا بس علشان أنت اللي أتمسكت بموضوع شهر الأنذار، رغم أني شايفة أنه كان هيبقى عادي لو قبلت الأستقالة، وأخر كلام عندي ليك، أنك تبعد عني خالص، وياريت خلال الشهر دا، متخلنيش أشوف وشك، بدل ما أطلع على مُدير الشركة، وأقدم فيك شكوى، وعلى فكرة أنا مش هخاف من تهديدك ليا زي ما عملت مع اللي قبلي، لأ دا أنا ممكن أخليك واقف كدا وسط كل الناس، وأديك فوق دماغك ومش هيتهز لي شعرة، عارف ليه علشان أنا صاحبة حق، وصاحب الحق عمره ما بيخاف، إلا من اللي خلقه، تمام كدا، ودلوقتي أنا هروح أشوف اللي مطلوب مني، وصدقني لو لمحتك، بتعمل أي حركة من حركاتك السابقة، أنا هـــ.


أبتلعت أسراء كلماتها الآخيرة، حين توقف سفيان أمامها، فزفرت بحنق وهمهمت بغضب:

- كملت ما هي كانت ناقصة.


غادرتهم ولم تهتم بنظرات سراج المتوعدة، وغفلت كُليًا عن رؤية عينا سفيان التي قتم لونهما، وقسمات وجهه التي سودها الغضب، لم تُبالي بهما سويًا، فكامل تركيزها منصب، على تلك التي تركتها خلفها، تُعاني المرض بمفردها.

ارتبكت ملامح سراج، وحاول أن يلطف الأجواء أمام سفيان، ولكن نظرات الأخير بدت غامضة، لتتبدل بثوان فأصابت الحيرة سراج وكاد يسأله، ليأتيه صوت سفيان يقول:

- كنت محتاج لك فموضوع كدا يا أستاذ سراج، بخصوص حديقة الزهور، أصل الباشا بعت عايز يعمل شوية ديكور فيها، فلو مش هعطلك، ممكن تيجي معايا تشوفها.


أومأ سراج بزهو وتبع خطوات سفيان، بينما وقف تيسير يراقب الوضع، وحين أختفى سفيان وسراج عن عيناه، تساءل:

- يا ترى ناوي على أيه يا سفيان، ملامحك متبشرش بالخير أبدًا، وبعدين هو أزاي اللي اسمه سراج، ماشي وراه عادي، دا المفروض ينفد بجلده، يلا مش خسارة فيه اللي هيصيبه. 


-----------------------


ومن مكانها، أرسلت كريمة تقريرها الموجز إلى كيندا، أخبرتها بما يدور بالقصر، ووضعت هاتفها بجيب ثوبها، قبل أن ينتبه إليها أحد، وعادت تتابع عملها، فلمحت شجن تقف إلى جوار إحدى الفتيات، فاتجهت محوها، وهتفت بصوت مستنكر:

- ممكن أعرف أنتِ سايبة شغلك، وواقفة هنا ليه يا شجن، هو أنتِ مسمعتيش الكلام اللي قالة الأستاذ سفيان، أن كل واحد يلتزم بمكان شغله، طول ما الوفد موجود هنا، وأكد أن ممنوع الأختلاط، بين موظفين القصر وموظفين الشركة.


تلون وجه دنيا واعتذرت منهما لتغادر، فأوقفتها كريمة بحدة قائلة:

- على فكرة يا أنسة، دي مش أول مرة ألمحك سايبة شغلك، وواقفة تتكلمي مع اللي شغالين فالقصر هنا، ولعلمك أنا هقدم فيكِ شكوى، طالما مش شايفة شغلك مظبوط، وأنتِ يا شجن دي أخر مرة أنذرك فيها، لو شوفتك برا المطبخ تاني، أنا هبعت للمكتب، وأقولهم أننا استغنينا عن خدماتك، ولعلمك أنا مش هخبي عنهم الأسباب، وأنتِ طبعًا فاهمة أنا بتكلم عن أيه.


شحب وجه شجن، وهزت رأسها بتوسل، فرمقتها كريمة بسخط وقالت:

- أتفضلي على مكانك، وإياكِ اشوفك برا المطبخ تاني.

 

اسرعت شجن تهرول باتجاه المطبخ، ومن مكانه قطب تيسير جبهته، ولعن تلك المرأة المتجبرة، فهي لم تتوان عن زجر كل من تستشعر ضعفه، كمن يستلذ بألم غيره، زفر بقوة وهو يتطلع إلى ساعة يده، يتابع خطوات كريمة عن كثب، بعدما استطاع وضعها تحت مراقبته اللصيقة.


بينما اتسعت ابتسامة كريمة، تشعر بالرضى بعدما رأت، نظرات الأذعان بعينا شجن، وبخبرتها علمت أنها، لن ترفض لها أمرًا بعد الأن، وأنها باتت كالأخريات ينصعن لها دون أعتراض.


-------------------  


تركه يتأمل ما حوله، وحاول أن يتراجع عما يدور بخلده، ولكنه لم يستطع، فكلمات إسراء لازالت تتردد بأذنه، واضحة لا تحتاج لشرح، فهم منها ما يفعله سراج بالأخريات، مستغلًا وضعه ومركزه الوظيفي، وقف سراج ظاهره يتابع ما يتطلبه عمله، أما باطنه فهو كان يتوعدها، لرفضها إياه، زم شفتيه حنقًا منها، وبدأ برسم خطواته القادمة لينال منها، أمام ثلاثون يومًا سيستغلها كاملة، ليكسر أنفها ويذلها بالقدر الكافي الذي يجعل منها مثالًا لما يمكن أن يفعله بمن ترفض مرافقته، زفر مبتسمًا وغفل عن رؤية نظرات الغضب التي أعتلت وجه سفيان، حينها استدار سراج وقال:

- تحب أبدأ أحط تصور مبــــ...


لم يمهله سفيان الفرصة ليُكمل، فهو أعطاه الوقت الكافي ليتأمل ما حوله، وانقض عليه كالفهد، قبض على عنقه فبدا بين يداه كالذبيحة، وحاول سراج التحدث معه، فمنعه سفيان حين شدد من ضغطه على عنقه، وبعد نحو دقيقة دفعه سفيان أرضًا بقوة، ومال نحوه فتراجع سراج بخوف، قتمت عينا سفيان وأظلمت، هو يخبره بصوتٍ جليدي:

- استقالتك تكون متقدمة من امبارح، بيتك وتكون معزل منه ومسافر لأبعد مكان عني، علشان أنا لو لمحتك فأي مكان من قريب، أو من بعيد حولين أي موظفة فالشركة، صدقني ساعتها هعمل منك عبرة، لكل واحد يفكر أنه علشان له منصب فشركة محترمة، يقدر يتجبر على غيره، لعلمك أنا متابعك من فترة، وقولت يمكن الشكوى كيدية وأديلك فرصة، لكن بعد تصرفاتك البيئة اللي عملتها مع إسراء، أنت كدا جبت أخرك معايا، ومضيت على استمارة ستة، وخلي بالك لو فكرت بس أنك تقرب من إسراء، فأنا وقتها همضيك أستمارة ستة من الدنيا كلها، علشان إسراء دي تخصني، عارف تبقى لي أيه، خطيبتي اللي حظك الأسود، خلاك تقع فطريقي، وأسمعها وهي بتحذرك تقرب منها، وعلى فكرة أنا كدا كرمتك، علشان أنا لو بلغت الباشا، أظنك عارف هيتعامل معاك أزاي.


زحف بعيدًا عنه كالجرذ، عيناه تدور بمحجرها ذعرًا، وسريعًا ما استند ووقفت مهتزًا، وهتف بصوتٍ مضطرب:

- أنا أنا مكنتش أعرف أنها خطيبتك، صدقني يا أستاذ سفيان أنا.


تقدم منه سفيان بغضب، فأسرع سراج وهرول بعيدًا عنه، وهو يهتف بذعر:

- أنا خلاص قدمت أستقالتي من أسبوع، مش من أمبارح زي ما طلبت.


لمحته يهرول بوجه شاحب، فعقدت حاجبيها، وتساءلت كيف يتركهم دون أشراف؟ وهو يعلم طبيعة عملهم، زمت شفتيها واتجهت صوب سفيان، وتوقفت على بعد خطواتٍ منه، وحمحمت لتلفت نظره إليها، التفت إليها وحدق بوجهها للحظات، ليعبس من جديد، بهتت ملامحها للحظات، لتعود لحالتها الأولى بلا تعبير، وسألته بحيرة:

- لو سمحت يا أستاذ سفيان، كنت عايزة أعرف هو البشمهندس سراج مشى ليه، هو مش عارف أن الوفد على وصول وأنه مفروض.


ود لو يجذبها بعيدًا، ليعلمها ألا تلفظ اسم رجلٌا أخر، ولكنه مقيد؛ لولا ذاك الوفد، والمسئولية الملقاه على عاتقه، لكان أختطفها وعاقبها، لتساهلها مع سراج وغيره، نفذ صبره منها، فقاطعها قائلًا بحزم:

- سراج قدم استقالته، ومعدش له أي صفة، ولو على الأشراف فأنا موجود، وأي حاجة تخص الوفد هبلغك بيها، علشان تنسقيها مع زميلاتك، أه وحاجة أخيرة، ياريت لو هتباشري أي شغل، ميكونش له أي صلة بأفراد الوفد.


تجهم وجهها وسألته بحيرة:

- مش فاهمة حضرتك تقصد إيه.


رفع حاجبه بضيق وهتف يخبرها بحدة:

- كلامي واضح يا أنسة، شغلك يبقى بعيد عن أي راجل، مش محتاجة ذكاء، يعني تبعدي عن طريقهم، وشغلك بأكمله هيبقى مباشر معايا أنا، بمعنى أوضح أعتبري نفسك وسيط بين زمايلك وبيني، أظن كدا كلامي أتفهم.


شيئًا ما بصوته جعلها تومأ برأسها، وازدردت لعابها رغمًا عنها، علم من ملامحها أن حديثه لم يرق لها، ولكنه لا يهتم، عليها أن تتعود على الأنصات والتنفيذ دون أعتراض، أومأ لها هو الأخر وأضاف:

- بما أننا أتفقنا، يبقى تعالي معايا، علشان أراجع معاكِ شوية حاجات، قبل ما مستر بكر يوصل.


وقفت تحدق بظهره بدهشة، لا تصدق أنها وللمرة الأولى، تبتلع لسانها وتلزم الصمت، وبداخلها شيء يحثها على الأنصات إليه، وتعجبت كونها دومًا تتمرد ولا تنصاع، لذا عليها أن تخبره بأكثر طريقة عملية، منذ البداية أنها ستنصاع له فيما يخص العمل فقط، كي لا تسيطر عليه أفكار آخرى، كما سيطرت على سراج من قبله.


-------------------  


وقف يحدق بشاشة هاتفه، وعلى وجهه إمارات الريبة، لمحه ميسي فاقترب منه بحذر، وسأله بصوتٍ خافت:

- مالك وشك قلب مرة واحدة، كأنك شوفت حاجة، استغفر الله العظيم كدا.


رمقه مينا باستنكار، وأجابه بضيق:

- وأنت مالك بتكلمني وموطي صوتك، زي ما نكون بنسرق، وبعدين هو أنت مش هتبطل، العادة الزفت اللي فيك دي، يا أخي بطل تتسحب زي القطط كدا.


ابتعد ميسي عنه، وزم شفتيه وهتف بحنق:

- أنا مبقتش عارف أتصرف معاكم أزاي، لو مشيت وعملت صوت تقولوا خف، ولو اتسحبت تقولوا قط، عمومًا يا مينا، المرة الجاية هجيلك طاير، يعجبك كدا.


كاد يلكمه فأبعد ميسي وجهه سريعًا عن قبضته، ليأتي صوت خاطر الغاضب يقول:

- بدل ما أنتم قاعدين تهزروا وتضربوا بعض، قولولي عملتم إيه فموضوع ذكرى.


التفت ميسي وحدق بوجه مينا العابس، وغمزه مستفزًا إياه، وابتعد ليبدو للعيان رجلًا أخر، وأجاب بجدية وهو يمعن النظر إلى خاطر قائلًا:

- ذكرى مع داوود ففيلا العالمين، الحراسة هناك ثكنة عسكرية، بس متلمحش ضل واحد فيهم، تقدر تقول أنهم أشباح محاوطة المكان، موبايلها خارج نطاق الخدمة، وأشارة الطوارئ ملهاش أي أثر.


اتسعت عينا مينا، وهو يستمع إلى تقرير ميسي بدهشة، أعترف بمهارة ميسي في تقصي الخبر دومًا، ولكنه لا يعلم كيف يصل هو دونًا عن غيره إلى المعلومات!، انتبه مينا لصوت خاطر يقول:

- ولما سيادتك وصلت للمعلومات دي، مجتش بلغتني ليه يا صلاح.


لوى ميسي شفتيه، ما أن نداه خاطر باسمه، وزفر بضيق وأجابه:

- على فكرة يا عمي، أنا جيت لك الصبح المكتب، بس أنت مكنتش موجود، ولما عرفت أنك خرجت، سبت لك المعلومات فملف على مكتبك، وبعت لك رسالة مفصلة على الرقم المتأمن، بس أنت تقريبًا كنت مشغول فمشوارك، ومأخدتش بالك من الموبايل. 


تعمد ميسي أن يصوغ كلماته، بذاك القالب، ليصل إلى هدفه، وحين هم خاطر بلكمه، أبتعد ميسي عنه، وأحتمى بجسد مينا النحيل وقال:

- مالك بس يا أبو الخواطر، عايز تضربني ليه، يعني الحق عليا، أني بأمنك وسط الأشباح.


التقط مينا ما يدور حوله، فابتعد عن كلاهما وتطلع إليهم وقال:

- حلو الشغل العالي دا، يعني أنتو الاتنين، كنتم عارفين ذكرى فين من الأول، وبتلعبوا على بعض.


زفر مينا بضيق حين رماه خاطر بنظراتٍ حادة، وبدا وكأنه يخبره أنه تناسى من هم، فهز رأسه بحنق مما يفعلونه معه، وبتلقائية وضع هاتفه نصب عين خاطر وقال:

- على كدا أنت على علم بالرسالة اللي اتبعتت لي، أنهم محتاجين خبير شبكات بصرية وبرمجة، يستلم شغل مؤقت، فقصر داوود الطاغي.


ضيق خاطر عيناه، وسحب الهاتف من بين أصابع مينا، وقرأها عدة مرات ليغمغم بحيرة:

- أول مرة معرفش حل اللغز، طب لما هو كشف كل حاجة، عايز يرجعك أنت بالذات للقصر ليه.


أطرق خاطر برأسه يُفكر، وهز رأسه دليل يأسه، لعدم فهمه غرض داوود، وغادر وهو يقول:

- جهز نفسك يا مهندس مينا، علشان تروح تستلم شغلك فقصر الطاغي الصبح.


حينها وكز ميسي مينا وغمزه مازحًا وقال:

- مضيعش الفرصة بقى المرة دي، ما هو مش كل يوم، هتروح لهم بوشك الحلو دا يا بشمهندس.


-----------------------  


تمطت بتكاسل، وتأوهت لإحساسها بألم بكتفها، فتحت عينيها على مضض، لتنتبه لمكانها، فانتفضت واعتدلت بجلستها، ووضعت يدها فوق قلبها الذي خفق بسرعة، تسللت برأسها تبحث عنه بأرجاء المكتب، وزفرت بارتياح ما أن أدركت عدم وجوده، استندت إلى الأريكة ووقفت، وتمطت بألم بمحاولة بائسة منها، لفقك تقلص عنقها، لينهرها عقلها ويحذرها من استمرار بقاءها بمكتبه، فأسرعت نحو بابه وفتحته بحرص، تختلس النظر لكل مكان، خيفة رؤيته لها، هرولت بهلع لأعلى وولجت إلى غرفتها، تشعر بقلبها يرجف وبأنفاسها تكاد تتوقف ذعرًا، واستندت إلى باب غرفتها تلتقط أنفاسها المسلوبة منها.


ثوان فاصلة هي التي منعته من اكتشاف أمرها، فما أن اغلق باب غرفتها حتى غادر داوود غرفته وتوقف أمام بابها وطرقه بتروي، وبالداخل انتفضت ذكرى وكادت تطلق صرخة ذعر، ولكنها كممت شفتيها بكفيها، وابتعدت سريعًا عن الباب، وارتمت فوق الفراش، واختفت أسفل دثاره، وعينيها تترقب الباب، حاولت تمالك أنفاسها التي كادت تفضحها، وأغمضت عينيها ليظنها داوود نائمة، وعادت وفتحت عينيها وهي تهمس بسخط:

- غبية وهو هيعرف منين أنك نايمة، قومي يا ذكرى قومي وبطلي سذاجة، داوود لو كان عارف أنك فمكتبه، مكنش هيسمي عليكِ.


أوقفت همساتها، حين نادها من خلف الباب:

- ذكرى لو صحيتي أنا منتظرك تحت، ياريت متتأخريش علشان نفطر سوا.


تنفست الصعداء، ابتسمت لخوفها وحاولت دفع الدثار عنها، ولكنه كبلها فصرخت دون وعي، لا تدري كيف تهرب من حصار الدثار، وبالخارج استدار ليهبط، ولكنه تجمد ما أن وصلت إليه صرختها، استل سلاحه واندفع لغرفتها، يتوعد سبب صرختها بالموت، ليعلو صوت صراخ ذكرى، لرؤيتها داوود عابس الوجه، يدور بعيناه بحذر بأرجاء الغرفة، يبحث عن مقتحمها، وقبل أن تغادر حلقها صرختها التالية، كان داوود قد نزعها من فوق الفراش، وحماها بجسده، وقفت ترتجف خلفه، تحدق بظهره الصُّلْب، تتساءل كيف تمكن من تحريرها من أسر الدثار، ازدردت لعابها وربتت كتفه بأنامل مرتعشة، فاستدار إليها وحدق بها بلهفة، يبحث عن أثر أذى أصابها بخوف، تعجبت من فحصه الغريب لها، فابتعدت خطوة وهتفت بتلعثم:

- أنــ ـت قـ ـصدي أن أنا بخير، حضرتك الغطا شبك معايا وكعبلني، فــ فصرخت غصب عني، وو.


فغر فمه ولاحقها ببصره، يتهمها بالجنون، احمر وجهها وخفضت بصرها واعتذرت، زفر داوود بحنق وجذبها بقوة نحوه، فاحتبست أنفاس ذكرى، وعينيها تحدق بوجه، تاه تمامًا معها، خبراته السابقة بكل تعاملاته مع النساء تبخرت، لا يدر لما ارتجف قلبه، واضطربت نفسه، ارتعاشها ضعفها نظراتها إليه، أنفاسها المتقطعة، لامسه فهُزم، أقر بها بأعماقه، أن ذكرى عزب الوحيدة التي سقط بغرامها، لا يدر متى أو كيف، ولكنه على يقين أنها استحوذت على قلبه، بشخصيتها الغامضة تلك.


انتشلت كتفيها منه، وابتعدت وحمحمت بخجل، لتفر من نظراته، وسألته بما تبادر إلى ذهنها أولًا:

- هو أحنا مش هنفطر.


رمش لبضع مرات، وانفجر ضاحكًا وهز رأسه، لا يصدق ردة فعلها الغير متوقعة، فهتفت وهو يوليها ظهره:

- شخصية مش معقولة، ملكيش كتالوج فعلًا.


سارعت بخطواتها تتبعه، وغادرت الشرفة ووقفت تحدق بالطاولة، التي وضعت فوق الرمال، وفوقها انتشرت المظلات، لتحجبهم عن الشمس، أشار إليها لتنضم إليه، وجلست فوق المَقْعَد الذي جذبه لها، وجالت بعينيها فوق أنواع الطعام المختلفة، التي وضعت بحِرافية فوق الطاولة، رفعت عينيها ونظرت إليه، وقد تبدلت ملامحها كُليًا، وصعقته بقولها:

- اللي حضرتك عامله دا، يقع تحت مسمى، إفراط وإسراف وتبذير وشطط، علشان لا أنا ولا حضرتك، هنقدر ناكل كل الحاجات الموجودة دي، ولعلمك معظم الأكل دا مش هنلمسه حتى، بجد أنا مش فاهمة، أيه المتعة أن يبقى في كذا صنف، فوقت في ناس كتير، بتعاني أنها مش لاقية حق رغيف العيش، وعلى فكرة في اصناف موجودة، تمنها يعدي مرتبات ناس فاتحة بيوت.


وقفت مرة أخرى، وهزت رأسها بحزن وأردفت مضيفة:

- أنا لحد دلوقتي، مش عارفة أبطل تفكير، بالأسراف والغلو اللي شوفته فالحلفة، واللي كان مبالغ فيه بطريقة غريبة، حضرتك كلفت حفلة بمبلغ وهمي، مبلغ يحل أزمات لناس عفيفة النفس.


لزمت الصمت احتزاءً به، وخفضت عينيها حرجًا، همت بالانصراف، ولكنه أعترض طريقها، ومنعها من المغادرة بقوله:

- مش شايفة أنك لو مقعدتيش تاكلي معايا، هتبقي شريكة ليا فالإسراف اللي حصل.


تنفس بقوة وهو يرجوها بعينيه، لترافقه بالجلوس، واستجابت ذكرى، بعدما أيدت قوله، ولكنها لن تدع الأمر يمر هكذا، فباغته بقولها:

- أنا لو مكانك، أحسب تمن الأكل اللي على الترابيزة دي، وأخرج ضعفه صدقه لله، تكفيرًا عن التبذير دا.


بعد مضي ساعات، قضتها ذكرى تتمتع بالجو الهادئ، الشمس المحتجبة، والهواء الخفيف، وصوت الأمواج الباعث على النوم، جعلها تغرق في النوم، تعوض ما فاتها من نوم سابق، استيقظت وتمطت بتكاسل، وأدارت وجهها فوجدته ممدد فوق المَقْعَد المجاور لها، مررت نظراتها فوق ملامحه، لتُقر بأنه فاق حد الجاذبية بكثير، زفرت بضيق فـ أعجابها به خطأ عليها تجنبه، وتركت مكانها عادت غلى غرفتها، واغتسلت لتُنعش جسدها، وغادرت مرتدية عباءتها وأدت صلاتها، ما أن أنهتها حتى جلست تُفكر بخُطوتها المؤجلة، توبخ نفسها تارَة وتتعلل تارَة أخرى، بأن عليها تقبل انعزالها معه، والتغاضي عن قربهما الذي يُسئ إليها، لتُنجز ما عليها، ففرصة كتلك لن تحظى بها أبدًا مرة أخرى، وجودها معه بأحد أماكنه السرية، أمر مستحيل ولكنه حدث، لذا عليها أن تتغافل عن أي شيء أخر، حتى عن نظرته الخاصة بها، فليظن بها ما يشاء، لن تهتم كونها في النهاية، ستحظى بما سعت إليه.


-------------------  


بغرفتهم الخاصة التي اعتادوا التجمع بها، جلسوا يترقبون مبادرة خاطر بالحديث، فعليهم جميعًا فهم ما حدث، ولما لزم الصمت عن وجود ذكرى بمنزل داوود، وهو الذي لم يطق ابتعادها عنه للحظة واحدة، ومن مكانها كانت ترمق خاطر بنظرات غاضبة، وبداخلها ملايين التساؤلات، لا تصدق أن يصل الأمر بخاطر إلى ذاك الحد، اكتفت سمرا من الصمت، فعليها أن تعلم، هل حقًا فعلها خاطر؟ أم لا؟!

زفرت بضيق وهبت عن مكانها، فتعلقت بها الأبصار، وفشل ميسي بمحاولته لمنعها، ولكن سمرا أهملت تحذيره الخفي، وأشاحت برأسها عن هزة رأس مينا بالنهي، ووجهت عينيها نحو خاطر، وسألته بكلمات لونتها بشكوكها:

- معلش يعني لو كلامي هيضايق حضرتك، بس أنا مش فاهمة لحد دلوقتي، أنت ليه سبت ذكرى مع داوود، وأنت عارف تاريخه كله، وعارف أن مافيش واحدة بيسيبها تفلت من تحت إيده، أنا أسفة أني بدخل، بس يعني دي أول مرة حضرتك، تغمض عينك عن حاجة زي كدا، وبعدين دي مش أي حاجة، ولا أي حد، دي ذكرى اللي ياما اتخانقت معاها، لما كانت بتتأخر برا، فأزاي قاعد هادي، زي ما تكون ولا على بالك حاجة، وكأن ذكرى قاعدة فالأوضة اللي جنبنا، مش قاعدة فبيت واحد مع داوود، بصراحة أمرك غريب، أنا من وقت ما عرفت، وأنا حاسة بغضب جوايا، وبسأل نفسي ليه ذكرى قاعدة وراضية، وليه عمو خاطر ساكت.


وضع ميسي يده فوق رأسه، فحتما لن ينل حديثها استحسان خاطر، وكزة مينا فالتفت إليه ونهره بصمت، فأشار مينا نحو خاطر الذي لزم الصمت، فحدق به بحيرة هو الأخر، وازدادت دهشته لعدم أجابته تساؤل سمرا، ترقبوا صمته، صمته الذي طال لدقائق، قطعها بوقوفه وغمغمته بقوله:

- الأجابة اللي عندي مش هترضيكم، علشان كدا أنا مش عايز اسمع أي كلام فالموضوع دا تاني، ودلوقتي كل واحد فيكم يقوم يشوف اللي وراه.


غادر خاطر بملامح غامضة جامدة، وخلف وراءه وجوه سكنتها الصدمة، وسؤال بلا أجابة، وضع العديد من التصورات والتخيلات بداخل كلًا منهم، لتبتسم سمرا بطريقة ساخرة قبل مغادرتها، ووقفت أمام الباب وقالت لتصفعهم بقسوة:

- عمومًا أحب أقولكم أن عمو خاطر، عكس الأتفاق اللي كان بينا وبين المؤسسة البلجيكية، واتفق مع الطاغي، أنه يغمض عينه عن اقتحمنا لقصرة وتجسسنا عليه، نظير تمن، هسيبكم تعرفوا لوحدكم، التمن دا كان أيه.

#لعنة_الطاغي

(6) .. بيدق في يدك أم..!

---------------------------------


لم يكن أبدًا رجل لعوب هين العقل، هو يعترف بأنه جُبن وتراجع عن موقفه، بسبب قوة سفيان البدنية، ولعلمه بأنه كان سيفتك به من أجلها، انفعال سفيان بشأنها كشفه، وحتما إسراء لا تربطها أي صلة به، لذا عليه أن يتأكد من ذلك، ليرد الصفعة لكلاهما.


بات سراج ليله يفكر ويدبر لخطواته التالية، التي عليه أن يتخذ الحيطة والحذر فيها، عليه أن يجمع ما يريده من معلومات بترو كي لا يفتضح أمره.


وقد كان له ما أراد فسراج ليس برجل غر، هو سكن ولكن استغل ما حدث بينه وبين سفيان، سارع بالذهاب لمقر المؤسسة، وقدم استقالته وتعمد اظهار كدمته، تعمد أن يترك أنطباع يزرع داخل العقول الظنون، رمى بعض الكلمات بأحاديثه العرضية، وعلى الجانب الأخر، دفع سراج باثنين من رجاله بتقصي أثر إسراء فهي دومًا ما كانت تختفي في بعض الأيام بوقت راحتها وتعود لتظهر ويبدو على ملامحها الكثير من الحزن، حزن يجعلها تبدو بنظره شهية، وعليه الأن أن يُدرك وجهتها تلك لعله يصل إلى شيء يفيده بسعيه، أما سفيان فهو يعلم أن لا غبار عليه، ولكن لكل جواد كبوة، ولعل القدر يضع كبوة سفيان أمام عينيه.


تابع سراج خطته التي وضعها، لتتسع ابتسامته في نهاية الأمر، فإسراء سقطت بقبضته دون أن تدرك، باتت ملك يمينه وحتمًا هو لن يدعها تفلت منه أبدًا، وسيجعلها هي من ترد الصفعة لسفيان، ذاك المغرور بقوته وبعمله مع داوود، وقبيل فجر اليوم الثالث لاستقالته، أرسل سراج بضع رسائل لبعض أصدقائه بالمؤسسة، وأغمض عينيه بارتياح يُمني نفسه، بالتنعم بإسراء بين ذراعيه دون عناء.


في صباح اليوم التالي بالقصر، بات الجميع على علم بأن سفيان أجبر سراج على تقديم استقالته، وسلبه منصبة من أجل إسراء، التي وضح لهم خلال الأيام السابقة أنهما على علاقة ما؟

فحديثهما دومًا سويًا ما يكون إما بالمكتب، أو بالحديقة بعيدة عن السمع، وحرص سفيان على عدم أختلاط إسراء بأي رجلٌ آخر، واضح للعيون بأنه يُعلنها للجميع أنها تخصه، وعليهم الأبتعاد عنها، الكل يتحدث بعيدًا عن سمع سفيان وإسراء، سفيان الذي تولى على عاتقه مهام أعمال سراج، لم يعبأ بنظرات البعض تجاهه، أغمض الطرف عنها كي يستكمل مسئوليته المزدوجة، تأمين الوفد ورعايته على أكمل وجه، وحماية إسراء التي كانت تقف له كالند، تعترض على كل كلمة وقرار، لتنصاع في النهاية ما أن يوضح له مغزى أمره أو طلبه.


ومنذ استلمت إسراء عملها بذاك المكتب، وهي غافلة تمامًا عما يقال عنها همسً في الخفاء، وَرَغْم ارتيابها إلا أنها لم تضع الأمر بتفكيرها، وانهمكت بمتابعة أوامر سفيان، التي يتركها فوق مكتبها بدفتر المهام، وعلى الرغم من غروره وتعاليه في التعامل إلا أنه نال استحسانها، فهو كمدير منظم ودقيق، ومن يقرأ ملاحظاته، يظنها لرجل مخضرم بالعلاقات العامة، لم يترك أمر صغيرة أو كبيرة إلا ورتبها لتبدو مثالية، ووضح ذلك على وجوه أفراد الوفد، الذي على ما يبدو بأنهم رجال من أعتى رجال الصناعة بالعالم، والذي وضع سفيان على كل فرد منهم حراسة مشددة، لا تبدو للعين ظاهرة لتخدع الأخريين، زفرت إسراء بعد قضائها أكثر من تسع ساعات، تعمل بشكل متواصل، وأخيرًا وبعد أن أنهت أداء مهامها، لنصف اليوم كما يصفها سفيان، وقفت عن مكتبها وتمطت، تطرد عن جسدها الم تيبس عضلاتها، مسدت عنقها ودلكت جانبي جبهتها، وتنفست بقوة، ليقع بصرها على ساعة الحائط أمامها، عقدت حاجبيها حين أدركت أنها أمضت الكثير من الوقت، ولم تلحظ بأنها أضاعت فترة استراحتها، تذمرت فهي تأخرت كثيرًا عن موعدها، ولوت شفتاها بحنق، وهي تسب سفيان بمهامه المثالية التي سلبتها الوقت، وزاد من أمر حنقها ابتعاد زملائها الدائم عنها، فهم يعاملونها مؤخرًا وكأنها اختفت من المكان، مالت إسراء فوق شاشة حاسوبها، وضغطت فوق بضعة أزرار، وأرسلت ما أنهت من عمل إلى سفيان، وأغلقت جهازها وغادرت مكتبها، وعلى وجهها ارتسم عبوس طفيف، ليزداد عبوسها حين أشاحت زميلة لها لوجهها بعيدًا عن وجهها، حين ابتسمت لها إسراء، مطت شفتيها بحيرة واستأنفت سيرها نحو مكتب سفيان، طرقت بابه وما أن سمعت دعوته للدخول، حتى ولجت ووقفت بالقرب من الباب، أدرك بإحساسه أنها معه، فرفع سفيان وجهه ونظر إليها، وسالها بجدية فرضتها عليه ظروف العمل:

- خير يا آنسة إسراء سايبة مكتبك ليه؟


تجهم وجهها وهي تحدق به، وحين بادلها التحديق هز رأسه يحثها على الإجابة، تجهم وجهها لتجاهله الوقت، فلفتت نظره وقالت:

- حضرتك أنا شغالة النهاردة من الساعة سبعة الصبح، والساعة دلوقتي أربعة يا أستاذ سفيان، وللأسف موعد الراحة بتاعي ضاع مني، علشان كنت بخلص الورق والحاجة اللي حضرتك طلبتها، وأنا كنت بعت لحضرتك، أني محتاجة أخرج فوقت راحتي لبرا القصر، عندي ميعاد ضروري ومينفعش أتأخر عليه، وزي ما حضرتك شايف، الميعاد فعلًا أتأخرت عليه غصب عني، فلو سمحت ممكن تأذن لي أخرج، وأوعدك أني مش هتأخر، هي ساعة واحدة بس وهرجع على طول.


عبس بوجهها، وترك ما بيده وتحرك بعيدًا عن مكتبه، بثانية كان يقف أمامها وتأملها وأردف: 

- تفتكري هينفع تخرجي من القصر، وأنت عارفة أن ورانا شغل كتير.


ارتبكت لقربه منها، فتراجعت خطوة وأخبرته:

- أنا خلصت كل الشغل اللي حضرتك سبت لي ملاحظاته، كل حاجة أتظبطت فمكانها، وبعدين ما الكل قايم بشغله زي ما حضرتك أمرت، والوفد بأكمله طلع الرحلة اللي نظمناها، وهيرجع على الساعة عشرة بالليل، وأنا زي ما قولت لحضرتك خلصت كل المطلوب، وخروجي لمدة ساعة مش هيعطل الشغل و...


تملكته الغيرة لإصرارها على المغادرة، أخذ عقله يدور ويبحث عن سبب مغادرتها تلك، وتساءل أهي على موعد ما؟ زفر بقوة وأخفى بداخله ما يدور بخلده، ليضع كامل تركيزه فيما أمامه من أعمال، يجب أن تنجز وتنتهي قبل أن يعود داوود، ولكنه رأى أن عليه معرفة وجهتها، فقاطعها بقوله:

- هتروحي فين، قصدي يعني الساعة دي هـــ.


لما عليها أن تستمع لسؤاله المضجر، والذي لاحقها سراج به طويلًا من قبل، حسنا ستفعل معه كما كانت تفعل مع سراج، بعدم إتاحة المزيد من الوقت ليسأل، فقاطعته بدورها وهي ترمقه بسخط وقالت:

- من حقي أحتفظ لنفسي باللي هعمله فوقت راحتي، اللي بدأ بالنسبة لي من خمس دقايق، وحضرتك بالوقفة اللي من غير معنى دي بتضيعه مني، عمومًا أنا خلصت شغلي وهمشي، وهرجع زي ما قولت لحضرتك بعد ساعة عن أذنك.


غادرت مكتبه ووقف يتطلع إليها وهي تسير بغضب، وأقسم لنفسه أنها من المؤكد تسبه وتلعنه، اتسعت ابتسامته وأخرج هاتفه من جيب بنطاله، وأخبر أحدهم أن يتبعها، ليوفر لها الحماية اللازمة، ويذلل من أمامها أي عقبة، وعاد لمتابعة عمله، يُمني نفسه بعطلة طويلة يقضيها برفقتها ما أن يقنعها بما يريد وبما خطط لكليهما.


--------------------- 


وبمكتبه المُأمن جلس كارلوس يحلل ما أرسله داوود إليه من فيديوهات وبيانات، وتبرم من كثافة العمل المطلوب إنجازه بأقل وقت، ولكنه نسى كل ذاك ما أن لاحظ أحد الوجوه، اقترب من شاشة حاسوبه، وعقد حاجبيه ثم أنفجر ضاحكًا، والتقط هاتفه وأجرى اتصالًا يدرك أنه سيغير الكثير. 


وعلى الجهة المقابلة، كان داوود يحدق بوجه ذكرى المتبرم، يعلم أنها سئمت الوضع برمته، ولكن ماذا عليه أن يفعل، هي تغلغلت بصمتها ذاك داخله، باتت جزاءًا لا يتجزأ من نفسه، يعلم أنه يضعها بمأزق شديد الخطورة، ولكن للمرة الأولى عليه أن يتمسك بالفرصة التي أتيحت له، لن يدعها تفلت منه أبدًا، وعليه أفهامها الأمر بالتدريج، رفع عينيه ولاحقها ببصره، فوجدها تتجه صوبه وعلى ملامحها إمارات لا تبشر بالخير، فقابلها بابتسامة هادئة وقال:

- في حد يبقى قاعد فمكان جميل كدا، ويكشر بالشكل دا، استمتعي بوقتك يا ذكرى وأنسى كل حاجة تانية.


لم يعد بإمكانها التحمل، زفرت بضيق وهي تحدق بملامحه الهادئة، وتساءلت من أين يأتي بهدوئه ذاك، ولما دومًا تشعر معه وأنها فريسة، سقطت طواعية بشباك صياد، يتلاعب بها ببراعة، يوهمها بأنها حرة لتتحرك، وكلما تحركت توغلت أكثر في الأسر، زفرت ساخطة وحدقت به وهمت بالصراخ بوجهه، ولكنها كبحت صرختها، وكورت كفيها أغمضت عينيها لثوان، تدفع نفسها لتتمالك ثوران أعصابها، وفتحت عينيها ولم تدر لما بهتت هكذا، أحست بثقل يجثم فوق كاهلها، ورأت أن عليها رفع ذاك الثقل عنها، فالوضع بينهما أصبح غريب، استقرت على مصارحته لتضع النِّقَاط فوق الحروف وتوضح كل شيء وترحل، فوقفت تحدق به بترقب حذر وأردفت:

- ممكن أتكلم مع حضرتك، أولًا أنا عايزة أعرف أنا هنا ليه، يعني حاسة أن وضعي مالوش أي ملامح، والأهم أنه من غير سبب، أنا حاسة أني بقضي فترة حبس فسجن شكله شيك، فلو الموضوع كدا فهمني وقولي أن أنا لسه فنظركم متهمة، ثانيًا أنا محتاجة موبايلي وشنطتي، اللي اختفوا من وقت ما لقيت نفسي هنا، محتاجة أتواصل مع الناس، مع أصحابي وأشوف حياتي، عايزة أرجع شغلي و...


ابتلعت كلماتها حين هز رأسه بــ لا، فشخصت بعينيها بوجهه، تتساءل عما يعنيه بـــ لا، لزم الصمت ليزيد من توترها، فأجبرت صوتها على الخروج منها وسالته بحدة:

- على فكرة أنا مفهمتش حاجة، يعني أيه معنى لأ دي، لأ للموبايل ولا لأ للشغل، طيب لو لأ للاثنين ما تسيبني أروح، طالما عارف أني بريئة ومسرقتش.


رفع حاجبه بضيق، والقى عليها نظرة استنكار وقال:

- ذكرى لو سمحتي، أنا مش عايز أسمعك بتقولي كلمة أروح، وعلشان أريحك مافيش شغل، إنما ممكن أفكر فموضوع الموبايل، وأديلك واحد مأمن من عندي تمسكيه.


أخبرتها غريزتها أنه حتمًا سلم هاتفها إلى كارلوس، فرجل كــ داوود يتعامل بهذا الحذر وعلى أعلى درجة من الحيطة، حتمًا سيجعل من كارلوس درعه الواقي من أي هجمة، ورغم أعترافها أن كارلوس يسبقها بخطوة، إلا أنها ليست بالساذجة التي تأخذ منه هاتف وقع عليه كارلوس، لذا انفجرت ضاحكة وابتعدت عن مكانه لخطوات، واستدارت لتواجهه على الرغم من عبوسه المفاجئ وعقبت قائلة:

- تهديني موبايل من عندك، واللي طبعًا مأمنه الهكر بتوعك، علشان تتجسس عليا وتعرف بكلم مين وبعمل إيه، لأ أنا مش عايزة حاجة من حضرتك، أنا عايزة أمشي من هنا وأرجع بيتي، ما هو مش معقول هفضل قاعدة هنا، لا شغلة ولا مشغلة ومع واحد غريب عني، أنا كدا الناس هتتكلم عليا، وهيسألوا كنت فين الفترة دي.


ترك مقعده وأشاح بوجهه عنها، ووضع يده بجيب بنطاله، وأجابها وهو يوليها ظهره:

- محدش هيسأل يا ذكرى، لأنهم عارفين أنك شغالة تبع شركة سياحة وبتسافري كتير، وبيشوفوا عربية الشركة وهي بتيجي تاخدك، فبلاش نلف على بعض، لأني عارف أن مافيش حد هيفتقدك، ولا حتى هيتكلم عليكِ، فياريت تشوفي حجة غير دي.


زفرت بحنق بعدما أدركت أنها تتعامل مع داوود، وتذكرت ملاحظة ذاك الرجل وهو يخبرها:

- عليكِ دومًا أن تزعزعي ثقته بكِ، لا تدعيه يعلم على أي شيء يستقر أمرك، إياكِ والغرور والظن بأنك ملكتِ أمره، فداوود لا محل له من الأعراب، ودومًا ما يقضي على من يعترض طريقة، وهو يبتسم بهدوء، انتقامه غادر وقاتل، لذا لا تأمني له أبدًا، ولا تنسى الأفعى تسعى وداوود هو طاغي الأفاعي.


هزت رأسها بشرود، وبداخلها تشعر أنها منقسمة، جزء منها يريد الاستسلام، لتلك الشعلة التي تراه بعيناه ما أن يحدق بها، وجزء يريد أن يُنهي كل شيء، كي تعود لتباشر عملها مع خاطر، والأخير منها يريد أن يرحل بعيدًا عن الجميع، فهي لم تعد تثق حتى بنفسها، بعد الزَّيف المحيط بها من كل صوب.


انتبهت لصوته فاستدارت، لظنها أنه يحدثها، ولكنها رأته يبتعد عنها بضع خطوات، وهو يقول بالفرنسية:

- أخبرني أوصلت لشيء؟


أجابه كارلوس بما لديه من معلومات، وأنهي حديثه بقوله:

- ليست سهلة كما ظننت، فالملف موصد ببصمة ثلاثية، إبهامها وقرنيتها وصوتها، وإن استطعت أن توفر تلك البصمات لها، حتما سأفتح المِلَفّ وأعرف ما بداخله، لذا حاول الا تتأخر، كي لا يطول انتظارك لحقيقتها.


لمحها تتجه نحوه، فأنهى الاتصال واعتدل بوقفته وقال:

- ممكن تخرجي تقعدي على الشط لو زهقتي، على فكرة الجو هيعجبك.


عقدت حاجبيها وسألته بصوتٍ حاد:

- بس أنا مش عايزة اقعد على البحر، أنا عايزة أرجع بيتي و...


اكفهر وجهه لتشبثها بطلبها، فرفع حاجبه بتحدٍ واضح، وأخبرها بصرامة:

- لأ يا ذكرى، أنسي أرجعك لبيتك فالوقت الحاضر، وأنتِ هتقعدي هنا لحد ما أنا اطمن إن كيندا اتنازلت عن المحضر، وأن مافيش حد بيدور عليكِ، دا غير أني قررت أنقلك من الفرع اللي أنتِ شغالة فيه، لمكتبي الشخصي، ودا قرار مالوش رجعة، وقبل ما تتعصبي أحب أفكرك بالعقد اللي أنتِ مضيتي عليه، من حق المؤسس الرئيسي نقل أي موظف لأي مكان دون إبداء أي أسباب، وأنا بصفتي المالك والمؤسس نقلتك.


ضاقت ذراعً به ولفرضه سيطرته عليها، هو يكبلها وعليها التحرر منه، فرمقته بنظراتٍ نارية وأردفت:

- وأنا من حقي أقدم استقالتي، فاعتبرني مستقيلة وسبني أمشي.


القت كلماتها وابتعدت عنه، فأغضبته بفعلتها، فلا أحد يُدير ظهره لداوود أبدًا، أويمليه ما عليه فعله، أوقفها صوته الهادر بندائه لها:

- ذكرى.


تجمدت وأحست بأنها أثارت الوحش بعرينه، اضطربت بوقفتها، ولم تستطع الالتفاف له، ليستكمل داوود كلماته بصوتٍ حانق:

- أول وآخر مرة تديري وشك وتمشي وأنتِ بتتكلمي معايا، صدقيني لو أتكررت منك تاني، أنا مش هبقى مسئول عن ردة فعلي، ودلوقتي أنا عايز أسمع كلامك الأخير تاني، سمعيني قولتي إيه.


ازدردت لعابها بتخوف، ولكنه لم يترك لها الفرصة حين التف وواجهها بنظراته القاتمة، فأجابته بانهزام:

- قولت اعتبرني مستقيلـــ...


باغتها بوضعه إبهامه فوق شفتيها، ليوقف كلماتها ورأسه يومأ بالرفض، وأردف:

- مينفعش تستقيلي لأن في بند صغير فالعقد مأظنش أنك أخدتي بالك منه، وهو أن استقالة أي فرد يعمل بالمؤسسة، ويرى المؤسس أنه يعمل بموقع حساس مرفوضة، وعليه إثبات حسن نيته أولًا، قبل الاستجابة لاستقالته، وأنت من اللحظة اللي دخلتي قصري بقيتي من الفئة دي، وعليه استقالتك لا تصح، وأمر أنك تسيبي الشركة وتمشي بأيدي وبس، دا أولًا، ثانيًا ودا اللي مكنتش حابب أتكلم فيه، بس أنتِ أجبرتيني عليه، وهو إن حضرتك الكاميرات مصوراكي وأنتِ بتفتشي فمكتبي، يعني تهمة السرقة التافهة، اللي روحتي القسم عليها، هتتحول لتهمة تجسس، وسرقة أسرار مؤسسية، دا غير طبعًا أني هقدر بسهولة أثبت، أنك مش مجرد موظفة عادية قدمتي فشركة من شركاتي، علشان تشرفي على الحفلات وتنظميها، لأ أنت قاصدة تتعاملي معايا لأنك فالأساس، مبرمجة من الدرجة الأولى، وتتساوي مع هكرز كتير فالبلد، ووجودك فقصر داوود الطاغي مالوش الا معني واحد، وهو أنك عميلة لصالح مؤسسة تانية.


تدافعت الكلمات منه كطلقات رَصاص بطيئة، جعلتها تبدو كالبلهاء، وأيقنت أنها سقطت بفخه بسهولة ويسر، ولم تكتفِ ذكرى بذلك وإنما زادت الأمر سوءً عليها حين أردفت بعفوية:

- بس المكتب بتاعك مكنش فيه أي كاميرات أنا أتأكدت بنفســـ...


اتسعت ابتسامته وغمز إليها بمغزى أعلم، وابتعد خطوة وجلس أمامها ووضع ساقًا فوق الأخرى، وعقب بهدوء:

- وأي حد هيدور مش هيلاقي يا ذكرى، لا أنتِ ولا محمود ولا...


تعمد داوود بتر كلمته وأمال رأسه، ليبلغها بصمته بمعرفته بهوية المُحرك الرئيسي لهم، فزفرت بضيق لتعاليه، وضربت الأرض بقدمها كطفلة صغيرة، وصاحت بوجهه قائلة:

- أنا كنت عارفة أنك عارف أني كنت بتجسس عليك، وأنك كشفت المخطط كله، وكشفت لعبة محمود من البداية، ممكن أفهم ليه مخليني معاك، إيه مش خايف يكون وجودي هنا معاك هو المخطط الأساسي و...


انفجر ضاحكًا على سذاجتها، ووقف لتتبدل هيئته تمامًا، قتمت ملامحه واسودت عيناه، وأخبرها بصوته الجليدي:

- ذكرى واضح أنك متعرفيش مين هو داوود، على فكرة أنا عارف أنتِ هنا بتعملي إيه وبتلعبي لصالح مين، وعارف أنتِ كذكرى عايزة توصلي لإيه، وأنا لو كنت مخليكِ هنا، فأنتِ هنا بمزاجي وسيبك لغرض ما فعقلي.


أشار داوود لرأسه بثبات، وعيناه تجول فوق ملامحها الباهتة، وأفاض بحديثه:

- وعقلي دا، هو المكان الوحيد اللي مستحيل حد يدخله، إلا لو أنا سمحت له شخصيًا، وأنا مسمحتش لحد اللحظة دي لبني آدم واحد أنه يقرب من عقلي، ولازم تعرفي أن رحلتك لعقلي، مختلفة تمامًا عن رحلتك لقلبي، ودا الفرق اللي لازم أنتِ تحطيه فدماغك، إعجابي بِيكِ وانشغالي بالتفكير بِيكِ، مش الطريق لعقلي أبدًا، ولو حاولتِ تغامري معايا هتخسري، مش حياتك لا هتخسري نفسك ومش هتعرفي ترجعيها تاني.


ملأتها كلماته بالخوف، والأكثر حدة نظراته تخبرها بأنه اكتشف وجودها بمكتبه هنا أيضًا، ازدردت لعابها وجلست أمامه بعدما تراخت ساقاها، وتابعت النظر إليه وسألته بريبة:

- ممكن تخليك صريح معايا وتقولي أنت عايز مني إيه؟


لن يداهن بالحديث، ولن يبتعد عن الحقيقة هو واضح، دومًا واضح، ومعها خاصة لا يريد أن يدع للعقل الفرصة بالتفكير إلا في المضمون، يريدها أن تفكر به كرجل لحياتها، لن ينكر رغبته بها، ولكنها ليست أبدًا رغبة عابرة، وعليه أن يمهد لما بأعماقه شيئًا فشيء، كي لا يسبب لها الذعر فتفر بعيدًا عنه، لذا وعلى غير عادته أجابها بتلقائية بصوت صادق ودون مواربة:

- عايزك يا ذكرى، عايزك بكل معاني الكلمة زي ما يفهمها عقلك.


لم يهتم بوجهها المشتعل، ولا نظرات الحرج التي تحاول أن تُخفيها عنه، ولم يراعي أي آداب حديث معها، أبلغها بما يُريده ببساطة ويسر، ووقف ليُنهي الحوار بقوله:

- فكري يا ذكرى بالكلمة، وحطي كل تصور يجي على بالك، وحطي شروط لكل حاجة، اعتبريها صفقة العمر ليكِ، بقدم لك داوود سليمان أنه يكون ملك يمينك، وبموافقة مسبقة على كل شروطك، أظن مش هتلاقي إنسان واضح وصريح، يتكلم معاكِ عن اللي جواه زي ما عملت، عمومًا أنا هسيب لك الوقت الكافي تفكري من غير أي ضغوط، والوقت دا هستغله بأني أنهي موضوع كيندا، علشان أرفع عنك أي ضرر مسك بسبب سكوتي على اللي عملته، عن إذنك.


-----------------------


وفي أحد النوادي الليلية، تجلس بأريحية برفقة أحدهم تشاركه الشراب، وصوت ضحكاتها يعلو ويعلو، تتجرع كؤوسها وكأنها تتحدى أحدًا ما!، ولكن هل ما يبدو للعيان صحيح؟، لا فالظاهر من كيندا مخالف تمامًا لما بباطنها، ففي داخلها تأججت كراهيتها لتلك الفتاة ذكرى التي نصفها داوود عليها، ويزداد حنقها عليه لمنعه نفسه عنها، ومعاقبته الواضحة لها، لأنها تخطته وفاجأته بفعلتها، حسنًا ها هي ترد عقابه إليه، وذاك الوفد الذي حجبه عنها، وأحاطه بحراسة مشددة من كل صوب، نجحت هي بالوصول إليهم، وها هي تجلس مع أحد المؤسسين، هي لا تنكر أن خطوتها تلك بمثابة إعلان بنشوب حرب بينها وبين داوود، ولكنه يستحق، فهو لم يستمع إليها ولم يضع بحسبانه أنها ليست بالمرأة العادية التي تترك ما لها لأخرى، عليها أن تثب له وللجميع أنها صاحبة قرار وكلمة، وليست بالتابع الخاضع أبدًا، ووسط خضم جلستها أتتها رسالة نصية من داوود كتب لها فيها:

- بلاش تتحديني أكتر من كدا، لإنك هتخسري يا كيندا، فريدو مش سهل وكل حاجة عنده بحساب، وبياخد قبل ما بيدي، وأنتِ مش زي فريدو ولا زي اللي بيرافقهم، فبلاش تنزلي بمستواكِ وتقللي من نفسك بعلاقة معاه، أرجوكِ أرجعي عن اللي فدماغك، واستني مني لقاء قريب، دا لو أنتِ لسه عايزة تفضلي على علاقة معايا، وبلاش تزودي أخطائك معايا لشيء عمري ما هعرف أسامحك عليه، ولو عايزة الصفقة ليكِ، خليها تتم عن طريقي أنا، وليكِ وعدي أنها تكون هدية مني، إنما بلاش تبيعي نفسك لفريدو.


لم تهتم لكلماته وحذفت رسالته، تظنه يخبرها تلك الكلمات ليُثنيها عما تريد، وكما بدأت جلستها أنهتها، وتعمدت أن تلتقط لها العديد من الصور، لتصل إليه، خاصة حين قبلها فريدو، فهو الرجل المنشود وصاحب النفوذ والقوة والكلمة الأولى والأخيرة التي ينصاع لها حتى داوود، ووصولها إليه بتلك السهولة سيقلب حتمًا مقاليد اللُعبة بين الجميع، وهي وإن سمحت بخسارتها لداوود، لن تسمح أبدًا بأن تخسر صفقة هامة كتلك، وعليها أن تستغل كل الفرص الممكنة لتنال جائزتها، وما أن جلست بجواره بسيارته، فاجأها فريدو بسؤاله:

- أسنذهب إلى منزلك، أم نقصد أحد الفنادق لنُكمل سهرتنا الخاصة كيندا!.


صفعة موجهه سددها فريدو إليها، وعلى أثرها بذلت كيندا مجهودًا خرافيًا لتُخفي صدمتها، فهي لم تضع بحسبانها أبدًا أن يطالبها بشيء هكذا، ابتسمت باقتضاب وازدردت لعابها ولزمت الصمت، ليميل نحوها بعدما أمر سائقة بأنزال الحاجب بينهما، ولمس ساعدها بحزم وقال:

- لما لا تُجيبي سؤالي، إلى أين ستكون وجهتنا سويًا كيندا، فندق أم منزلك، أم أعود لقصر داوود وأنسى أمر حديثنا عن الصفقة الليلة.


يلاعبها ببراعة، فهو منذ أقتحمت خصوصية وجوده برفقة إحدى الفتيات بجلسة التدليك الخاصة به، أدرك أنها على أستعداد لفعل أي شيء لتنال مبتغاها، وصيد ككيندا عليه أن يستغله لأقصى درجة، وبدايتهما سويًا يجب أن تكون ملكًا له، لتفعل ما تؤمر به دون أعتراض، ابتسم بدهاء أمام عبوسها وشحوبها الواضح، ليبتعد بثوانٍ عنها ويطرق الفاصل ويقول:

- أعدني أني قصر داوود.


كلمات قيلت من جانبه، لم تستطع كيندا أبداء أي أعتراضٍ عليها، فرفضها وضح وفرصتها التي كانت بين يديها فلتت منها، زفرت بحنق ونعتت نفسها بالغباء، وغابت عن فريدو بأفكارها، تلعن داوود الذي وضعها بذاك المأزق، فبدت وكأنها أستحضرته من جديد، حين أعلن هاتفها عن استلامه لإشعار، فتحته بارتباك وعينيها تراقب وجه فريدو الغامض، لتقرأ عينيها كلمات داوود إليها والتي كتب فيها:

- أفتكري إني قولت لك بلاش، وأنك أنتِ اللي صممتي أنك تمشي فالطريق دا وتغلطي، لعلمك أنتِ دلوقتي، غرورك مصور لك أنك هتفوزي على داوود، وأنك هتجبريه على حاجة هو مش عيزها، بس خليني أفكرك داوود مش بيتجبر، والخسارة اللي هتحصل، هتكون من نصيبك أنتِ.


اغضبتها كلماته وأحستها تدفعها لترد عليه تحديه، حينها انتبهت لصوت زمور السيارة، تلاه صوت فريدو يقول:

- ها قد وصلنا لقصر داوود.


انهى قوله والتفت إليها، وابتسم ابتسامة صفراء وقال:

- اسعدتني رؤيتك كيندا، دعينا نجدد اللقاء بمرة لاحقة، ولكن عليكِ أولًا تحديد موعد مسبق معي، فأنا لن أقبل أبدًا أن تقتحمي خلوتي مرة أخرى.


وما أن هم بمغادرة السيارة حتى منعته كيندا وقبضت على ساعده وقالت:

- دعنا نكمل سهرتنا بمنزلي فريدو رجاءً، فنحن لم ننتهي من حديثنا بعد.

#لعنة_الطاغي

(7) ..أخر الألغاز..

---------------------------


غارق في الغضب، حين أكد له مراقبها أنها اصطحبت فريدو إلى منزلها، يشعر بأنه نال صفعة قاسية رَغْمًا عنه، فتلك المتعجرفة المغرورة المتعالية، بلحظة أضاعت كافة محاولاته للحِفاظ عليها، تشبثها بعنادها وظنها أنها إن باتت على عَلَاقَة مع فريدو ستنال مبتغاها، اثبت حُمقها فأجرت عمليتها الحسابية الأخيرة بطريقة خاطئة تمامًا، فداوود لا يخسر أي شيء، إنما هي الخاسرة الوحيدة بتلك اَللُّعْبَة، ففريدو ليس برجلٌ هاوٍ ساذج، هو يقرأ ما في العيون جيدًا، وحتمًا قرأ طمعها به، وبما سيعود إليها من منفعة بوجودها إلى جواره، دفع داوود المنضدة من أمامه بدوي، وصل إلى سمعها، فانتفضت بجلستها وهرولت للخارج، لتراه يطيح بما يحيط به، تجمدت بمكانها وأخافها بحالته تلك، فهي لم تر غضبه الهادر ذاك من قبل، اِرتأى إلى عقلها أن عليها الفِرَار بعيدًا قبل أن يراها، ولكن لم يسعفها الحظ، فقد التفت داوود ورآها تحدق به بخوف، تاهت نظراته عليها وبلحظة دوى إنذار ما داخل نفس داوود، ولمعت عينيه ببريق مخيف، واتسعت على نحو زاد من ذعر ذكرى، اقترب منها بخطواتٍ رتيبة، وعقله يُفكر بكافة الاحتمالات، ضاقت عيناه واحتدت ملامحه وقتمت، فتراجعت ذكرى خطوة باضطراب، كادت تسقط أرضًا فسارع إليها واحتواها ليمنع سقوطها، لتصبح بين ذراعيه، أسندت كفيها إلى صدره، واستشعرت نبضاته المتسارعة أسفلهما، سكن المحيط حولهما وبات الصمت لغة بينهما، العين فالعين وشفتاها ترتعش ببطء، مال أنشًا نحو ثغرها وقبل أن يلثمه توقف، حين حركت رأسها يَمِينًا ويسارًا، زفر بقوة وأعتدل وثبتها بمكانها وأبتعد، فتنفست الصعداء وهرولت إلى غرفتها، تحتمي بداخلها من نفسها وليس منه، فهي لوهلة تمنت لو تمم داوود نيته، وبخت ذكرى حُمقها وتهورها وذكرت نفسها بمن هو ومن هي، وتنهدت بقوة وارتمت فوق الفراش تتمنى لو تختفي بعيدًا عن العالم، لتعاكسها رغبتها وتهمس بخفوت بداخلها:

- أتمنى أن الجأ إليه هو فقط دومًا.


----------------------   


وقف بخارج مكتب خاطر، لا يدر أيذهب دون وداعه كي يجنبه الأحراج، أم يلج للداخل ويسأله عن ريبته التي زرعتها كلمات سمرا بداخله، حسم مينا قراره وولج مقتحمًا مكتب خاطر، ليتطلع إليه الأخير بتساءل، فزم مينا شفتيه وقال:

- أنا خلاص رتبت كل حاجة وماشي، هروح على قصر داوود، وهنفذ المطلوب مني، ياترى في أي أوامر بخصوص شغلي هناك.


أشاح خاطر بوجهه وأعاد بصره إلى الأوراق بين يديه وقال:

- عيزك تخفي أي أثر ليك سابق فالمكان كله، مش عايز أي حد يقول كان في هنا هكر، كل اللي عايزه أنه يتقال، إن مينا بيشوي المبرمج العظيم كان موجود فشغل لداوود سليمان، تمام يا مينا.


زفر مينا بضيق ووافقه قائلًا:

- تمام همسح البوابة الخلفية اللي سبتها، وهمحي أي أثر يدل على وجود أي أقتحام الكتروني، وهعمل شغل على أعلى مستوى، زي ما أنت عايز وأحسن كمان، ودلوقتي لو تسمح تفهمني ليه سبت ذكرى، وليه بتتعامل مع الموضوع كأنه ميخصكش، والأهم ليه لاغيت الأتفاق القديم، واتفقت على واحد تاني عكسه تمامًا.


وضع خاطر الأوراق من يده فوق سطح المكتب، ورفع رأسه وحدق بوجه مينا الحانق، ولوى شفتيه وهو يتطلع نحوه باستنكار لسؤاله، ليرمقه مينا بنظرات نارية أخبره من خلالها، بأنه لن يدع الأمر يمر دون تفسير مقنع، فرفع خاطر حاجبه وقال:

- ذكرى هناك بمزاجها يا مينا، يعني لا أنا بعتها لداوود، ولا داوود خطفها، هي قاعدة هناك علشان وراها مهمة تانية بتعملها، مهمة نسيت تبلغنا بيها، ولولا أن داوود كشف كل حاجة، كان زمنا كلنا فنفس الخانة مع داوود، يعني يا مينا بالبلدي كدا، ذكرى هي اللي باعتنا كلنا، علشان خاطر مصلحتها هي وبس.


ضيق مينا عينيه، وحدق مصدومًا بوجه خاطر وهز رأسه يمينًا ويسارًأ وقال:

- أنا مستحيل أصدق أن ذكرى تبيع أي حد فينا يا خاطر، طيب أزاي وأحنا كلنا أهل عايشين سوا، دا أحنا بناكل مع بعض وبنام فمكان واحد، فأزاي هتبيعنا وتبيع عشرتنا وعلشان مين وليه، ما تجاوبني يا خاطر إيه المصلحة اللي تخلي ذكرى تبيع أهلها علشانها.


زم خاطر شفتيه وسحب بضع ورقات من أمامه ومد يده بها إلى مينا وقال:

- أقرا بنفسك وأنت تعرف يا مينا، على الأقل لما تفهم وتعرف تخرج تفهم سمرا وميسي أن مش خاطر اللي يخون العيش والملح ولا اللي يتاجر بعرض اللي منه، وعرفهم أني لما بدلت الصفقة والأتفاق مع داوود، دا كان علشان أحمي الكل من الضربة اللي ضربتهالنا ذكرى، ودلوقتي أتفضل روح استلم شغلك، ومتنساش نضف أي أثر يدل على وجودنا فأي سجل خفي.


ترك مينا الأوراق من يده فوق مكتب خاطر، وغادر وعقله يفكر بكل ما قرأه، لا يصدق أن تأتي الخيانة من ذكرى، زفر مينا بضيق وهمس قائلًا:

- بردوا مش مصدق، حتى لو سمعتها بنفسي، مش هصدق أنها تخون أبدًا.

----------------------


كفكفت دموعها تارَة، ومسحت الغبار عن الآنية الفضية تارَة أخرى، زفرت مراتٍ ومرات على ما آل إليه أمرها، تسمح الغبار وتنظف مراحيض الأمن، بعدما كانت تساعد شيف المطبخ بأعداد الوجبات وتتعلم منه، لقد نالت منها كريمة وأهانتها بقسوة، لم تقو على الاعتراض ونفذت بخزي، بعدما أخبرتها بمحادثتها الأخيرة مع مربيتها بالدير، وتلميحها بأنها امتنعت عن أخبارها بأفعالها المشينة الأخيرة، تنهدت شجن وهي تبتعد عن المكان، ووقفت تحقق بكل زواياه، لتغادره نحو الاستراحة اَلشَّمَالِيَّة، التي أرسلت كريمة إليها لتهتم بنظافتها جيدًا، فهي ستخصص ليقيم بها أحد المبرمجين، انهمكت شجن بعملها ولم تلحظ وجود أحدٍ معها بالغرفة، إلا حين استدارت فتجمدت بمكانها، وقد سقطت المِنْشَفَة من يدها، وشهقت بذعر وتراجعت إلى الخلف خوفًا من ذاك الغريب، تحاول السيطرة على ضربات قلبها المتسارعة.


بينما وقف مينا عاقد الحاجبين يحدق بها بوجوم، مُسْتَنِدًا إلى إطار الباب ويديه معقودة أمامه، تابع وجهها وذعرها الواضح بملامحه، وازداد تجهمه لخوفها منه، زفر بضيق واعتدل بوقفته، ومال ملتقطً حقيبته من جواره، وقال بصوتٍ كافح ليصبغه بالهدوء:

- بعتذر لو كنت سببت لك أي إزعاج، يعني لما وصلت بلغوني أن دي هتبقى أوضتي، ومكنتش أعرف إن فيها حد.


حمحمت شجن باعتذارها، وتهربت من النظر إليه، ومالت سريعًا والتقطت المِنْشَفَة واعتدلت قائلة:

- آسفة إني اتأخرت في ترتيب الأوضة، بس هما بلغوني متأخر، عمومًا أنا أدامي نص ساعة وأخلص، لو ممكن بس حضرتك تستنى برا، يعني لحد ما أخلص شغلي هنا أكون شاكرة ليك.


غامت عينيه فقد استبد ضيقه لرؤيته لها بتلك الهيئة، عقد حاجبيه وهو يُشح ببصره عنها وهمهم قائلًا:

- خدي وقتك كله أنا مش مستعجل، ولو في حاجة تقيله ياريت تسيبيها مكانها، أنا مش حابب أنك تتعبي بسببي.


وقفت تنصت إلى قوله بدهشة، ومطت شفتيها وتنهدت وهي تمسح عن جبهتها حبات العرق، وعادت تستأنف عملها لتتوقف بغتة وهزت رأسها بقوة، وقالت تنهر نفسها:

- بطلي بقى وبعدين إيه اللي هيرجع محمود تاني بعد اللي عمله، دا غير إنه كان مجرد أمن، إنما دا مهندس برمجيات، يعني واحد تاني خالص، أنتِ بس اللي دماغك مش عايزة تبطل تفكير فيه، وشكلك كدا مش ناوية تجيبها لبر يا شجن.


تنهدت بضيق وهي تمسح إطار الشرفة بعصبية، لتتوقف يدها عن العمل، حين لاحظت نظراته الموجهة إليها، ازدردت لعابها وعينيها تجوب المكان بحثًا عن مترصد لحركاتها، وخفضت بصرها عنه وأتمت عملها وابتعدت عن الشرفة، وهي تتمتم بالحمد أن لا أحد رأها من أتباع كريمة، في حين اغتاظ مينا كثيرًا لما آل إليه حالها، وتساءل لما تقوم هي بهذا العمل، ومن أبعدها عن المطبخ؟


زفر بضيق واستدار لتصطدم عيناه بعينا سفيان، فزم شفتيه ومسح رأسه بكفه وقال:

- عايز أعرف أنا هشتغل فـ أوضتي، ولا هيكون في مكتب خاص، لأني محتاج أأمن المكان اللي هشتغل فيه بمعرفتي، دا بعد اذن حضرتك طبعًا، أذن داوود بيه.


أومأ سفيان وأشار إليه ليتبعه وهو يقول:

- هيكون لك مكتب لو حابب، وهو متأمن على أعلى مستوى بمعرفتنا أحنا، أما أوضتك فلك الحرية الكاملة في تأمينها بمعرفتك، أظن كدا أنا وضحت لك اللي بتفكر فيه، ودلوقتي أتفضل استلم مكتبك، وراجع الأجهزة الموجودة لو في أي جهاز محتاج له، بلغني ويكون عندك على طول.


غادر سفيان وترك لمينا حرية تفحص المكان، وتساءل لما صمم داوود أن تبقى شجن بالقرب من هذا الرجل بالأخص، وهو الحريص دومًا على إبعاد أي فتاة تعمل لديه عن العاملين بالقصر من الرجال، زم سفيان شفتيه وعقله يراجع كافة التفاصيل، ليعقد حاجبيه حين وصلت إليه همهمة منخفضة من أحدهم يقول:

- صدقني زي ما بقولك، الكل ملهوش كلام إلا عنهم، كأنهم مأكلوش عيش وملح معاها، بيقطعوا فيها زي ما يكونوا شافوها بعينهم، وبصراحة أنا صعبانة عليا أنها متبقاش على علم باللي بيتقال عليها، وعايز أقولها بس محرج وخايف لتفتكر أني بخوض فسيرتها زيهم.


اكفهر وجه سفيان واسودت عيناه وهو يستمع إلى صوت أخر يقول:

- يا عم تقول إيه خليك فحالك وأسكت، ولا أنت عايز الكلام يطولك أنت كمان، وبعدين ما هو مافيش دخان من غير نار، وأكيد في حد شافهم علشان كدا أتكلم، بص يا صاحبي أحنا لينا سنتين بنشتغل فالشركة، فخلينا فحالنا لا نتكلم ولا ننقل كلام، وأكيد الكلام فالأخر هيوصل لإسراء، وهتعرف أن الكل هنا وفالشركة بيتكلم عنها وعن علاقتها بسفيان.


إلى هنا ولم يتحمل سفيان المزيد، فكشف عن نفسه لهما، ليرى وجهيهما مشتعلًا حرجًا منه، فازداد تجهم وجهه وأشار إليهما ليتبعاه إلى مكتبه في صمت، وما أن ولجا خلفه حتى أرتد إليهما وصاح يقول بصوتٍ جليدي:

- من غير لف ولا دوران أنا عايز أعرف معنى الكلام اللي سمعته منكم، بمنتهى الصدق ومن غير أي خوف أو تردد، ودا لمصلحتكم أنتم قبل أي حد تاني، علشان لما يجي وقت الحساب متقفوش فالصف مع كل واحد قال حرف عني وعن خطيبتي.


تجمدا بشحوب، وتطلعا إليه برهبه فأمامها وقف سفيان وكأنه قُد من حجر أسود، تنذرهم عيناه بأنه على وشك الأطاحة بالجميع، فازداد الأول لعابه باضطراب وقال:

- أنا والله يا أستاذ سفيان ما اتكلمت ولا قولت حاجة أنا...


هوى سفيان على سطح مكتبه بقوة افزعتهما سويًا، ليبتلع الرجل كلماته وسمعه يخبره بصوتٍ كالفحيح:

- أنا مش عايزك تبرأ نفسك ولا تبرر لي أي حاجة، لإني سمعت كلامك أنت وزميلك وأظن أنا كلامي ليكم كان واضح، أختاروا الجهة اللي عايزين تقفوا فيها قصادي وأنا برجع حقي وحق إسراء، ودلوقتي عايز أعرف الكلام اللي بيتقال إيه، ومين أول واحد قاله؟.


قصا عليه كل ما يقال عنهما، فـ تفجر غضبه وسب بصوتٍ عال، جعلهما ينتفضا سويًا، ليصلهما صوته يقول بحدة:

- بقى كل دا بيحصل من ورا ضهري، بتقطعوا فيا وفخطيبتي بدون وجه حق، تمام أنا بقى هعرفكم مين هو سفيان الوزير، وهعلمكم أزاي تتكلموا عن عرضه من ورا ضهره، يا شوية رجالة.


ضغط سفيان على أخر كلماته، فبدت هنذير أسود عليهم وعلى الجميع وقبل أن يصرفهما من أمامه قال:

- لو حد خد خبر بالكلام اللي دار هنا، هعرف ووقتها متلموش إلا نفسكم وبس فاللي هيجرا، أظن كلامي معناه واضح، ودلوقتي كل واحد فيكم يروح يشوف شغله اتفضلوا.


غادرا مهرولين إلى الخارج بخوف، بينما وقف سفيان يغلي غضبًا لما يقال عنهما، وضاقت عيناه بوعيد، بعدما أدرك أن المتسبب الأساسي بتلك الإشاعات هو سراج، فلا أحد غيره له مصلحة بتشويه سمعته وسمعة إسراء.


----------------------- 


وبمخبأه حاول مدحت أن يفكر بطريقه، تمكنه من مغادرة تلك البلدة دون أن يمسه ضرر، خاصة وأن معه تلك الأمانة التي أمنته إياها ديما، التفت ليرى الفتاة نائمة وعلى وجهها دموع متحجرة، فهي لم تكف عن بكاؤها منذ فر بها بعيدًا، مخلفًا وراءه ديما تتحمل بمفردها وزر خطأها، زفر مدحت بغضب ولعن غفلته التي جعلته يهمل تحذير داوود له ويغض بصره عنه، فوقع بيد تلك العُصبة ليصبح أسيرًهم، هو مدحت الشامي أحد العقول المفكرة بجهاز المخابرات والذي أمن الكثير من الرجال، وحافظ على حياة كل عميل بخارج مصر وداخلها، يُأسر لأشهر بسبب أختفاء ديما، زفر مدحت وطرد عنه تلك الذكرى التي كادت تشغله عن مهمته، فترك مكانه واتجه صوب الفتاة الصغيرة، وهز رأسه بأسف لما عانته مؤخرًا، وتساءل كيف له أن يعود إلى مصر بها، وكيف سيتمم مهمته ويرسلها إلى والدها، غامت عيناه بضباب الغضب، ولعن تهور ديما الذي كاد يُذهب بحياة ابنتها الصغيرة ديما دون ذنب، أعاده من حرب أفكاره رنين هاتفه، التقطه سريعًا قبل أن يوقظ صوته الصغيرة، وأجاب على مُحدثه وقال:

- أخبرني بأنك أعددت كل شيء لعودتي، حقًا داوود لم أعد أحتمل بقائي هنا، وبحوذتي تلك الأمانة، أعدني للوطن بأسرع وقت أرجوك.


سارع داوود وأجابه:

- أهدأ فلا داع أبدًا لغضبك المستتر ذاك، لقد أتممت كل شيء من أجل عودتك، وغدًا فجرًا ستكون بالوطن، فقط كل ما عليك فعله هو أن تُسلم تلك الفتاة لعميل أخر وتعود.


قطب مدحت حاجبيه والتفت يحدق بوجه الفتاة وقطب جبينه وأردف متساءلًا:

- ماذا تعني داوود؟ أحقًا تُريد مني تسليم ديما؟ حسنًا أنا أرفض كُليًا تنفيذ تلك الخطة، وسأعود برفقتها بنفسي، لأعيدها إلى والدها كما أمنتني والدتها.


زفر داوود وعقد حاجبيه وهو يحدق بوجه صديقه، فهو من البدء على علم برفضه قبل أن يتفوه به، لإنه هو نفسه رفض الاتفاق والمخطط برمته، ولكن ما أن علم بما وضع بداخل الفتاة، حتى سارع بالأتصال به ليحذره، محاولًا أقناعه بتسليم الفتاة إلى آخر، فهو الأهم حاليًا بنظر القيادة ليأمنوا عودته بسلام، ازداد غضب داوود ما أن وجه مدحت هاتفه صوب وجه الفتاة الباكِ، ليسب داوود بقوة ويلقي بكافة قرارته خلف ظهره، فهو الأخر لن يترك تلك الصغيرة عُرضة للخطر حتى وإن كان الثمن حياة صديقه، فقال بصوتٍ حاد بعدما ضغط زرًا خاصًا بهاتفه:

- مدحت اسمعني كويس علشان مافيش وقت، البنت اللي معاك وجودها فيه خطر على حياتك، لأنها بقت ورقة ضغط عليك، واللي فهمته من الحوار اللي وصل لي، أن في جهاز تتبع مزروع فيها، والجهاز دا كشف مكانك اللي أنت فيه، واظن أنك عارف كويس، إن الأدراة هنا يهمها أولًا سلامتك أنت، علشان كدا أخدوا القرار بأنهم يضمنوا سلامتك الأول، وبعدين يأمنوا البنت مع مندوب غيرك.


احتدت ملامح مدحت، ونفى بهز رأسه يمينًا ويسارًا وقال بعدما أستقر على قراره:

- داوود أنا هطلب منك طلب، عارف أنه هيبقى فيه مجازفة كبيرة، بس أنا حقيقي مش قادر أمنع نفسي، اللي حصل كان صعب على ديما الصغيرة، البنت اتعرضت لأذى نفسي كبير، وأنا مقدرش بأي حال أسيبها مع غيري، مش هبقى مطمن علشان كدا أنا هحاول أشوف طريقة أعرف بيها الجهاز دا مزروع فين بالظبط فجسمها، وهحاول أخرجه منها، وأنت كل اللي عليك أنك ترتب لي خروج من هنا بأي وسيلة ممكنة، من غير حتى الأدارة ما تعرف أي حاجة، أنا عايز بعد ساعتين تلاتة بالكتير أكون فمصر يا داوود أرجوك.


وعده بأنه سيجد حلًا سريعًا وأنهى المحادثة، وهو على يقين بأن ما طُلب منه هو الخطر عينه، ولكن عليه أن ينفذ لصديقه ما طلب، عليه أخراجه من مكانه دون أن يكتشف أيًا كان أمره، ولكن كيف؟ كيف سيفعلها ويخرج الفتاة و...


بتر داوود أفكاره ما أن أتت إلى عقله ذكرى واستحوذت عليه، غام بصره وزفر بقوة وصاح مؤبخًا نفسه:

- أبعدها عن الخطر دا بالذات يا داوود، وكفايا اللي كيندا بتفكر تعمله، ولا أنت مش عارف أن تقربها من فريدو الغرض منه أنها تستغل سلطته ونفوذه علشان تبعد ذكرى عن طريقك، فمش معقول تبقى أنت حاجزها هنا علشان تحميها من غدر كيندا، تقوم تفكر تبعتها للجحيم بأيدك.


ازداد عقله يقينًا أنها هي الوحيدة القادرة على أعادة الفتاة، ليطمئن قلب مدحت ويقبل بالعودة، ولكن كيف سيأمنها ويأمن عليها، وهي ستضع قدمها بعرين أرض فريدو، إن وافقت على تنفيذ تلك المهمة، بات في صراع مُهيب، خوفه عليها من أفكار كيندا الشيطانية، وقلقه على صديقه، الذى رأى بعيناه ندم لم يسبق له أن رأه.


لاح كارلوس مرة أخرى أمامه فضغط على رقمه وأنتظر إجابته وما أن استجاب كارلوس لاتصاله بادره داوود وقال:

- كارلوس أريد منك خدمة، إن فعلتها من أجلي دون سؤال، سأعطيك ما لم يخطر على ذهنك يومًا، فما قولك؟!


لمعت عينا كارلوس بسعادة وسارع بموافقته وأردف:

- حسنًا داوود سأنفذ ما تُريد مني، ولكن عليك أن تفي بكلمتك لي، وتنفذ وعدك بأعطائي ما أريد.


زفر داوود بقوة وقال بلهجة حاسمة:

- لك ما تُريد كارلوس.


اتسعت ابتسامة كارلوس وقال:

- تلك الفتاة التي أخبرتك سابقًا عنها، التي تسعى لمنافستي، أريد أن أحظى بمقابلة معها، وأباريها بمهمة أنا فقط أكون المتحكم فيها، فهل ستُلبي طلبي؟.


امتقع وجه داوود، ولعن كارلوس وشرطه ذاك، وحاول أن يحيده عنه، ولكن الأخير تمسك بطلبه وتشبثت به وقال:

- أما أن تنفذ طلبي؟ أو تنسى طلبك داوود!، فكر وأعطني أجابتك.


انهى كارلوس الأتصال، وهو على يقين بأن داوود سيلبي طلبه حتمًا، في حين دار داوود حول نفسه، كليث حبيس قفص فلاذي يطبق فوق صدره، ويمنع أنفاسه عنه، أحس داوود أنه لم يعد يقوى على الوقوف ساكنًا بمكانه، وشعر بطوق شديد ليكون برفقتها، فهرع إلى غرفتها وطرق الباب، استجابت ذكرى على مضض لطرقاته وفتحت الباب ووقفت أمامه وسألته بفتور:

- افندم.


تنهد وأشار إليها لتدعه يدخل إلى غرفتها، ولكنها تمسكت بباب الغرفة وقطبت بوجهه وأردفت:

- على فكرة مش معنى أني ضيفة عندك، أنك تدخل أوضتي على هواك، فلو حضرت عيزاني فحاجة، أنا هطلع ونتكلم برا، إنما أوضتي ممنوع تدخلها يا داوود باشا.


تفرس بملامحها، وأدرك أنها كانت تبكي، فزم شفتيه بضيق، وانسحب من أمامها وهو يقول:

- مستنيكِ فالمكتب، أظن أنتِ عارفة طريقه كويس.


شهقت بتخوف لذكره مكتبه، وارتعدت رغُمًا عنها وأغلقت بابها واستندت إليه، تفكر بشأن طلبه ذاك، استسلمت ذكرى لخوفها وغادرت غرفتها تدعو الله أن يتطلف بها، وقفت أمام مكتبه وطرقته ليأتيها صوته الأجش يخبرها بالولوج، ولجت باضطراب ووقفت تحدق بوجه المتصلب، واتخذت خطواتها نحو مكتبه وجلست أمامه تتطلع إليه بحذر، زفر داوود فالوقت يمر وكلما مر ازداد الخطر على صديقه والفتاة الصغيرة، لذا نزع داوود قناعه عنه وترك مكانه ودار حول مكتبه وجلس على المقعد المقابل له، وأردف بصوتٍ حازم:

- ذكرى أنا محتاجك فـ مهمة، محدش هيعرف يعملها أو يتممها غيرك، مهمة حياة أو موت.


بهتت ملامحها لتغيره الكامل، وتعجبت منه وتساءلت، أمريض نفسي هو، أم ماذا، فهو منذ ساعات قليلة كان كالمجنون، يحطم كل ما تطاله يده، والأن يجلس أمامها بصورة لم تراه عليها من قبل، يخبرها بأنه يريدها أن تنفذ له مهمة، عن أي مهمة يتحدث، تساءلت أيعقل أن تكون إحدى صفقاته السلاح خاصته، حقًا داوود سليمان جُن تمامًا، لظنه أنها هي دونًا عن الجميع، ستقدم على مساعدته، حسنًا فلتصفعه لتوقظه من غفلته تلك، فهي أبدًا لن تلوث يداها بصفقة دنيئة ومشبوهة مهما فعل، لن تسقط للقاع من أجله.


قرأها بسهولة، فأفكارها تتضح كالشمس فوق صفحة وجهها، كاد يبتسم لجنوح أفكارها، وهاجمته رغبة بتركها على ظنها ذاك، ولكنه عاد وزجر نفسه ليعود بأفكاره إلى مدحت والصغيرة، وتنفس بقوة وهو يستند إلى حافة مقعده ويقول:

- مش اللي فدماغك يا ذكرى، متخافيش أنا مش عايزك فأي حاجة تبع شغلي المشبوه، أنا محتاج لك فــ مهمة أنسانية، هتنقذي بيها حياة شخصين، فأيه رأيك حابة تسمعي، ولا أشوف حد غيرك ينفذ لي عايزه.


لون الحرج وجهها بحمرة طفيفة، وخفضت بصرها عنه وهي تهمهم بموافقتها سماعه، ليخبرها داوود بمختصر طلبه، وتفرس بملامحها يراقب ردة فعلها، ليرى حيرتها وخوفها منه، فقطب جبينه وكاد يترك مقعده لتُجيبه ذكرى باضطراب:

- أنا موافقة أسافر وأجيب البنت، بس أنا عايزك الأول تأكد لي كلامك، يعني من حقي تخليني أكلم البنت وصاحبك دا بنفسي، وأتفق معاه على كل حاجة، من غير ما تراقبني أو تتجسس عليا، قولت إيه؟.


أومأ ومد يده، والتقط هاتفه من جيب بنطاله، وقدمه إليها وقال:

- خدي الموبايل هتلاقي رقمه الأخير فـ قايم الاتصال، أنا أساسًا لسه قافل معاه من ربع ساعة.


جلست ذكرى بعيدًا عن سمعه، وأجرت اتصالها مع صديقه، ليسألها مدحت بريبة ما أن رأها عن هويتها قائلًا:

- من أنتِ؟ ومن أين أتيتي بهذا الهاتف؟


ازدردت ذكرى لعابها، وهي تتطلع إليه بريبة وقالت:

- أتيت به من صديقك داوود، بعدما قص عليا ما حدث معك، والأن اسمعني جيدًا، أنا لا أصدق حقًا كونك أحد رجال المخابرات، فهم ليسوا سذج هكذا، وأظنك شريك لداوود بأعماله المشبوهة، فاصدقني القول، أأنت متورط بشيء ما وتُريد التنصل منه، أم...


زفر مدحت بحدة وصاح موبخًا إياها:

- بقولك إيه أنا مش ناقس لعب عيال، والموبايل دا ترجعيه لصاحبه، وتبلغيه أني مش عايز أي مساعدة منه، وأني هعرف أتصرف لوحدي و...


ابتسمت ذكرى وسارعت بأعتذارها، فتعجب مدحت ليلاحظ نظراتها التي تشبثت بأحدهم، فألتف ليجد ديما تقف خلفه، وتبادل الفتاة الابتسام، فعاد إليها بوجه عابس وقبل أن يتفوه بحرف، منعته ذكرى بقولها:

- اطمن أنا هكون عندك بعد ساعتين بالكتير، متقلقش أنا ليا اللي هيدخلني البلد من غير ما حد يعرف، وهعرف أوصل لك، دا غير أني هبعتلك دكتور على ضمانتي الشخصية، هيعرف يخرج الجاهز من القمر اللي وراك دي، المهم دلوقتي تطمنها لإن واضح عليها أنها خايفة.


تعجب مدحت من قدرة تلك الفتاة، على وقف اندفاع كلماته نحوها، وانصاته باهتمام إلى حديثها، ليومأ في نهاية الأمر لها ويقول:

- وأنا هعرف الدكتور أزاي، وبعدين أنا عايز أفهم، أنتِ منين جايبة الثقة أني هسلم لك ديما، و أزاي واثقة كدا أنك هتقدري ترجعي بيها مصر من غير أي مشاكل، إيه معقول يكون نفوذك واصل أكتر من نفوذ داوود نفسه.


قطبت ذكرى جبهتها، وزفرت بحنق لسخريته منها، وأردفت بصوتها المنزعج منه قائلة:

- على فكرة أنا لو رفعت أيدي عن السفر ليك، محدش هيقدر ينقذك من اللي مستنيك، وبعدين أنت ليك أني أجيلك وأخد ديما منك، ولعلمك لو أنت شخصيًا حابب أنك ترجع معايا، أنا معنديش مانع، بس أديني خبر وأنا هتصرف.


تعاملت معه بندية لتجبره على احترامها، فهو يظنها غرة صغيرة لا تفقه شيء بعالم الرجال، وكبريائه كرجل مخابرات هو المتسبب له بكل ما هو فيه، عليه أن يستمع لها ويترك الأمر لها كي يمر على خير، ودون أية خسائر.


----------------------- 


أتاها اتصال من أحدهم يخبرها بأن الصغير عاد لعزلته من جديد، وأنه يعاني بقوة من تبعيات المرض، زفرت بضيق وهي تتلفت حولها لعلها تجد من يحل محلها لتغادر، ولكنها لم تجد أحدهم إلى جوارها، غادرت مكتبها وولجت لداخل القصر، غافلة عن عيون متتبعها، أخيراً رأت إسراء إحدى الفتيات فاتجهت إليها بخطى متسارعة وقالت:

- كويس أني لاقيتك، بقولك أنتِ مشفتيش الأستاذ سفيان النهاردة، أحسن أنا جالي أتصال مهم ولازم أمشي و..


زمت الأخيرة شفتيها ورمقت إسراء باشمئزاز وقالت:

- وأنا هعرف مكان ولا طريق سفيان دا ليه، عمومًا دلوقتي يظهر من تحت الأرض، أصله شكله واصل ومكشوف عنه الحجاب، لما تحتاجي له ولا تسألي عنه، بيظهر يا سبحان الله من غير ما ...


بترت الفتاة كلماتها ولمعت عينيها ببريق ماكر وأشارت برأسها للخلف وأردفت:

- مش بقولك مكشوف عنه الحجاب، أهو يا ستي متحملش تغيبي عنه ولا تدوري عليه فجالك يجري.


لم تنل استحسانها كلمات زميلتها، فعقدت إسراء حاجبيها وسألتها بصوتٍ حاد:

- على فكرة أنا مش فاهمة أنتِ تقصدي إيه، يعني كلامك حساه ملون و...


قاطعتها الفتاة بسخط قائلة:

- بقولك إيه أنا لا بلون كلامي ولا بعرف أتمسكن لحد ما أتمكن، وياريت يعني بعد كدا متتكلميش معايا تاني، ما أنا مش هقدر اتحمل أي خصم يطولني لو زعلتك، ولا حمل أني أطرد من شغلي علشان خاطرك، زي ما حصل للأستاذ سراج.


ابتعدت عنها الفتاة، وهي ترميها بنظرات اشمئزاز، ووقفت إسراء تحدق بأثرها، لا تدر عن أي شيء تحدثها، ولما تتخذ منها هذا الموقف، وهي لم تضر أي منهم، لتعود ادراجها بحثًا عن سفيان لتستأذنه المغادرة، ليوقفها صوت أحدهم يقول:

- أنا أول مرة أشوفك مع المجموعة، ياترى أنتِ هما مع مين من المناديب، عمومًا واضح أنك بتدوري على حد معين.


أومأت إسراء وأجابته بصوتٍ مرتبك:

- بدور على مديري الأستاذ سفيان.


زم الرجل شفتيه وقال وهو يجوب المكان بعينيه:

- سفيان المدير التنفيذي للاجتماع، بصراحة مش عارف اقولك إيه بس هو تقريبًا خرج، فلو وراكِ مشوار أنا مش غريب أنا مدير شركة بتصنع العطور، وحاليًا فاضي ويكون لي الشرف أني اوصلك وارجعك كمان.


وقفت تحدق بملامح وجهه الشرقية، وزفرت بقوة، وأومأت بموافقتها لتتسع إبتسامة الرجل و.... 



تعليقات

التنقل السريع
    close