![]() |
بيت القاسم
الفصل الرابع والعشرون والخامس والعشرون والسادس والعشرون
بقلم ريهام محمود
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات
.."بيت نورهان"
.. فتحت باب بيتها والصغيرة على كتفها، تحمل بيدها الحرة عدة أكياس بلاستيكية بها طعام وأغراض للمنزل قد أتت بها بطريق عودتها..
كان البيت فارغًا فـ مجد شقيقها بالمكتبة مع العم حسين جارهم، جلست معهما بعض الوقت قبل أن تتركهما وتصعد للبيت،
دلفت غرفة نومها تضع ملك على فراشها برفق وقد غفت، فمالت تطبع على وجنتها قبلة ناعمة، تمسح على شعرها الخفيف بحنان وقد اشتاقت لرؤيتها تغفو بين أحضانها وتحت عينيها..
ابتعدت عنها قليلاً، تجلس على الفراش بأرهاق وقد استنزفت طاقتها اليوم،
كلما رأته تعود مئات الخطوات للوراء.. تفشل محاولاتها العتيدة بنسيانه..
.. من قال أن الفراق سهل لم يعرف قلبه يومًا مذاق الحنين..!
.. هربت من أمامه بالتأكيد لن تمكث بمكان هو فيه، تتحاشاه.. تتجنب وجوده ونظراته، نظراته التي تُعريها بحقيقة أنها أضعف من أن تجابه أو تقف أمامه..
.. في عمق عينيه ترى انكسارها مرسوم بدقة.. وما تبقى من كبريائها يصرخ بها بأن يكفي إلى هذا الحد..!
زفرة متعبة اخرجتها وهي تلتفت وتمسك بهاتفها الموضوع على طاولة صغيرة بجانبها، هاتف ذو طراز قديم ولكنه يفي بالغرض، ولذلك تستعمله فقط بالمنزل أو المكتبة، بالتأكيد أكرم لو رآه سيصعق، بالتأكيد لايعرف تلك النوعية من الهواتف..
تضغط على أزراره عدة ضغطات بلا مبالاه.. إلى أن اعتدلت تحدق بالشاشة ورسالة نصية من رقمه..
"لما توصلي كلميني"..
والعديد من الاتصالات التي تَلَت رسالته، يبدو أنه أصابه القلق..
شعور بالخوف مس قلبها وهي ترى إلحاحه بالإتصال.. بالتأكيد والدته أخبرته بما طلبت...
ضغطت عدة ضغطات على الأزرار.. ترفع الهاتف على أذنها بانتظار رده وعتابه بالتأكيد..
بدأ قلبها يدق مع رنين هاتفه حتى جائها صوته اللاهث..
-بعتلك رسالة من مدة.. كنتي فين؟!
بللت شفتيها بتوتر من حدة سؤاله.. أجابت بهدوء تصنعته بعد أن أجلت حنجرتها..
-كنت ف المكتبة.. ولما طلعت شوفتها..
كتم زفرة غاضبة بسيرة المكتبة، كم يود احراقها أو تكسيرها على رأسها..
أغلق قبضته بعنف.. يسحب نفسًا عميقًا لداخله.. قبل أن يسأل بضيق..
-ماما كلمتني.....إنتِ شايفة إني ظالمك معايا؟!
لترد بصوت جامد به نبرة اختناق..
-أنت شايف إيه؟..
كان بغرفته يجلس على كنبة صغيرة، نهض وقت أن سألته يتحرك بقدمين متعبتين،ليقف أمام مرآته.. يُدقق النظر لوجهه، لحيته، جزعه العارِ وقد اشتاق لعناق منها تعطيه له باحتواء ويقابله بترفع..
لاينكر أنه بالفترة الماضية كان يضغط عليها.. يتلمس حنانها المعتاد وتنازلاتها الغير متناهية معه..
قلبها الذي يغفر له كل شيء بسهولة... وحبها.... حبها الغير موجود حاليًا..
تمتم بصوت محترق خافت وهو يمد كفه يحجب رؤية وجهه بالمرآه..
-أنا مش شايف غير واحد متمسك وإنتِ رافضة.... بتعززي نفسك وترخصيني..!!
هتفت بصوت مرتعش..
-أنا مش حسباها كدة.. زي ما أنت هتشوف حياتك أنا كمان عايزة ابدأ من جديد وأشوف حياتي...
هكذا ببساطة.. رغم ارتعاد صوتها الواضح لأذنه، إلا إنها استطاعت..
مازال على وقفته وقد تسارعت أنفاسه..
-حقك..حقك طبعاً تبدأي من جديد.. وأنا مش هفرض نفسي أكتر من كدة..
ثم تابع بصوت مختنق..
-زي مابدأنا هننهيها.. هكلم جدي وننفصل وتاخدي حقوقك...
دمعت عيناها وهي ترى اقتراب النهاية.. غمغمت بسخرية مريرة..
-أنا مليش حقوق.. أنت ناسي الجواز كان غرضه إيه!!
صوته قوي وثابت يسألها مباشرة..
-كان غرضه إيه؟ .. أصلي نسيت يوم ماشوفت ملك..!
فكريني الجواز كان غرضه ايه يانور..!
يتلاعب بها بعدم نزاهة.. هي ادري بتلك النبرة.. وقت ان يكون واثقًا بأن من أمامه لا يستطيع منافسته..
همست بخفوت حزين..
-أكرم.. أنا متنزلالك عن حقوقي..
ارتفعا حاجبيه باستنكار.. يسأل بنبرة مجروحة..
-يااه للدرجادي أنا عشرتي كانت وحشة!
هزت رأسها تنفي.. تغمض عيناها لتجيبه بصوت متهدج..
-لأ.. أنت عارف إنه لأ.. بس أنا مش هقدر أظلم نفسي معاك أكتر من كدة...
مش هقدر استنى لليوم اللي هتقولي فيه كفايه كدة عليا..
مش هستني لما جيلان تقولك سيبني فتسيبني وتختارها..
.. وصمتت وهو الآخر صمت.. صمت ثقيل بينهما، كانت تود إنهائه.. تشعر بأنها خائرة القوى.. تلك المكالمة أصعب من مواجهته وجهًا لوجه..
تنهد بعد صمته.. يهز رأسه بيأس منها..
- أنا سيبت جيلان...
رفعت رأسها المتعبة بسرعة ليقابلها انعكاسها بالمرآه المشوشة أمامها..
حدقتيها متسعة بذهول.. تشير بسبابتها على صدرها..
- عشاني!
نفى..
- عشانها...
وكان صادقًا..
استكمل بنبرة مبحوحة وكأنه عاد من معركة خاسرة.. يعيد على مسامعها ما قالته..
- عشان مش هقدر أظلمها معايا.. مش هستني لما تيجي في يوم تخيرني بينها وبينك فاسيبها واختارك .....
....................
"بالمساء"..
على العشاء كان كمال يجلس على المائدة يمين والدته وأمامه قاسم وأكرم..
كانت جلسة فاترة.. كلًا في عالمه شاردًا بما يخصه، وقد انسحبت نيرة وأخذت معها الصغار اولاد كمال ليشاهدوا فيلم عائلي..
ران صمت ثقيل قطعته فاطمة بنفاذ صبر وهي تنتزع كمال من شروده تسأله بحنانها الذي تخصه هو به فقط..
- قولي ياكمال.. سبب المشكلة بينك وبين مراتك ايه يابني يمكن اقدر احلها..
زفر بقوة وهو يحذرها بعينيه يشير على إخوته..
-وأنا من أمته ياأمي.. كنت بخلي حد يحللي مشاكلي!!
أردفت بصدق حانٍ..
-يابني ده اناماصدقت أن ربنا صلح حالك وارتحت في بيتك..
غمم كمال بحدة مستنكرًا
-للدرجادي يا أمي وجودي هيضايقك..!
رد عليه أكرم يدافع عن والدته..
ماما مش قصدها كدة ياكمال...
ثم اتجه بحديثه لوالدته..
- سيبيه ع راحته ياماما..
وبخته أمه بملامح ممتعضة..
-والنبي إنت بالذات تتلهي ع خيبتك التقيلة بدل منتا زي اللي راح وجه عل الفاضي لاطولت بلح الشام ولا عنب اليمن..
احمر وجه أكرم غضبا.. هدر بها بخفوت من بين شفتيه
- ماما..
لم يستطع قاسم كتم ضحكته، فصدحت ضحكاته مجلجلة.. لتنهره والدته بتوبيخ هو الآخر..
-وانت كمان أخيب منه ياللي حتة عيلة ضحكت عليك..
.. صاح قاسم معترضًا
-الله.. وانا كلمتك ياست إنتِ..
اشاحت بذراعها تتجاهلهما.. ثم تعود بنظراتها وحنو نبرتها تسأل كمال..
-كمال.. بطلت أكل ليه.. كل ياحبيبي..
ارتفع حاجب أكرم ليرمق قاسم بجانب عينيه، يتبادلان النظرات المغتاظة بينهما بصمت..وملل..
وضع كمال شوكته بجانب طبقه .. ثم قال لها بهدوء شديد
-ماما.. لما خديجة الله يرحمها ماتت أنا مشيلتش حد همي.. ولادي كانو معايا فوق.. أنا اللي كنت برعاهم و بقوم بكل حاجة معاهم..
ارتسمت ملامح الحزن على وجهها.. وهي تسمع اتهامه المبطن لها.. تعاتبه
-اخس عليك ياكمال.. هو أنا لما أكون عايزة اطمن عليك يبقى ده ردك..
أغمض عيناه يطبق عليهما بشدة.. قبل أن يتمتم بهدوء كاذب تفضحه نظراته الحزينة..
-اطمني يا أمي .. أنا كويس.. ربنا مبيجيبش حاجة وحشة أكيد ..
رفعت فاطمة كفيها تدعو له بصدق..
-ربنا يكتبلك الخير كله ياكمال يارب.. ويهديلك العاصي..
هتف قاسم سريعًاوفمه ملئ بالطعام..
-وانا كمان يافاطمة.. ادعيلي..
رمقته بنظرة حانقة.. قالت قاصدة إثارة سخطه
-ربنا يردلك عقلك..
رمقها قاسم بغيظ.. يعض على نواجزه ليستكمل طعامه متجاهلًا نظرات كمال المبهمة له اليوم....!
.................
.. كان عاصم يجلس على طاولة جانبية بالنادي المشترك به.. مكان اعتاد الجلوس فيه بعيد عن أعين أعضاء وعضوات النادي المتطفلة.. والهائمة به!
أمامه عصير برتقال طازج وبجواره فنجان قهوة قد انتهى من ارتشافه منذ قليل وهو ينتظرها..
يريد رؤية وجهها الحلو صباحًا قبل أن يبدأ عمله.. يرفع ساعة معصمه كل دقيقة وأخرى، تأخرت وقد مل من الانتظار..
ينتظرها منذ ساعة، وسينتظر أكثر..
هو لايعرف أن كان أحبها ام لا.. هو جرب الحب مرة واحدة منذ زمن وقد فشل..!
ولكنه يحب رؤيتها، وسماع صوتها.. لون العشب الصافي بمقلتيها واللمعة الصادقة بهما وقت رؤيته والتي اختفت آخر مرة رآها بحفلتها..
كان لاينوي التلاعب بها.. رغم أنها تلاعبت به واستغلته من أجل تسلية وقتية..
ولكن رفضها له وانكارها، جعل شيطانه يصحو من غفوته..
أخذ رشفة من العصير أمامه وقبل أن يعيده شاهدها تأتي نحوه..
كانت صغيرة وجسدها زاد نحولًا ترتدي سروالًا أبيض شديد الضيق يعلوه كنزة زرقاء صيفية، تعقص شعرها بشدة للخلف وتركت الغُرة على جبينها كعادتها تُخفي نظراتها التائهة..
التمعت عيناه بلمعة خاطفة، ويبدو أنه اشتاق لاعتياد مرآها، تجهم ملامحها الحالي يجذبه أكثر. يعلم جيدًا بأنه السبب بتبدل ملامحها..
اقتربت من طاولته وضعت حقيبتها الانثوية الصغيرة أمامها .. دون كلام تسحب كرسي كان ملتصق بكرسيه بعيدًا عنه حتى صارت بمقابله..
رفع حاجبه من حركتها البلهاء تلك.. لو أراد شئ سيأخذه حتى وإن أشادت بينهما ألف حائط..
-اتأخرتي..!
ألقاها بتهكم، استقبلته هي بازدياد تجهم قسماتها.. ورفض نبرتها..
- مكنتش هاجي أصلاً..
ارتفعا حاجبيه يدّعي الذهول.. يثني شفتيه بسخرية لاذعة..
-أووه إنتِ واخدة حبوب شجاعة قبل ماتيجي بقى..!
تسارعت انفاسها قليلاً.. هتفت به ونظرتها كانت مرتعشة كنبرتها..
-انت مش هتهددني بزياد.. أنا ممكن أقوله علفكرة..
اعتدل بكرسيه وهو يميل على الطاولة.. يقول ببساطة
-طب ماتقوليله..!!
الخوف المتراقص بعينيها وُخز قلبه بضيق لايعلم سببه.. أو يعلم لايهم!
يتذكر جيدًا زياد وهو يحكي ويتحاكي بشقيقته الرقيقة البريئة بالتأكيد ستكون صدمة حين يعلم بأخلاقه ويرى صورهما معًا..
هو لن يُري الصور لزياد بالطبع ولن يخبره حتى.. هو يهددها فقط..
ازداد شحوب وجهها ووهج قوتها يتراجع من جديد، فقالت تحاول أن تُنهي حوارهما بأقل الخسائر..
- طب مانفضها سيرة... وننسى أن أنا وانت شوفنا بعض أحسن ..
-أنا مستحيل انساكي..
قالها بصدق مسرعًا.. ولكنه اكمل باستهزاء محافظًا على ماء وجهه..
-معقول هنسى البنت الوحيدة اللي اشتغلتني!
قالت..
-دلوقتي ورقي كله بقى مكشوف أودامك.. هتكمل بعدماعرفت أني أخت زياد..!
التمعت عيناه ببريق عابث.. يغمغم بحرارة أنفاسه يشدد بتأكيد..
-هكمل... أنا عايزك بأي شكل سواء كنتي أمنية أو يارا... هكمل...
وبأقل من ثانية كان يقترب بكرسيه منها، يلمس الجزء الظاهر من بشرة ذراعها بإشارة واضحة منه على تأكيد كلامه، فشهقت بعنف وهي تبتعد.. تصيح بخفوت متوتر..
-ابعد ايدك...
-ولو مبعدتش..
يهدد بعيناه.. ويعيد اللمسة وتلك المرة أكثر خشونة وتملك.. فلم تستطع فعل شئ غير أنها جذبت حقيبتها ونهضت بتوتر وارتباك ممتزجان بخوف.. تبتعد من أمامه وتتركه بمفرده...
شقت شفتاه ابتسامة شيطانيةوهو يرى ابتعاده وتعثر خطواتها .. وفسر هروبها بشكل خاطئ كعادته.....!
..................
... تقف هنا من مدة.. مترددة وخائفة.. تتلاعب بالكارت في يدها..
توزع نظراتها بين الكارت واللوحة العريضة المعلقة على المبنى الحديث أمامها.. " Gold's Gym " وذيلت تحتها بخط رفيع "تحت إدارة ك/أحمد عادل"
.. تحسست ذراعها وقد عاد شعور النفور والخوف إليها.. فحسمت قرارها وتوجهت صوب المبنى.. تصعد درجاته القليلة وتدخله..
تقف بمنتصف الصالة حائرة لا تدري ماذا تفعل.. حتى اقتربت إحدى العاملات بالجيم منها تسألها بتهذيب..
- أي خدمة اقدر اساعدك بيها..!
التفتت يارا لها بإبتسامة خفيفة.. تقول بتردد..
- ممكن أعرف كابتن أحمد هنا ولا لأ..؟
كانت تشد على الكارت بأصابعها تُخفي توترها..
كانت الفتاه أمامها ترمقها باستغراب وضيق من ملابسها الضيقة المُلفتة وحقيبتها الصغيرة أي أنها لم تأت من أجل تدريب أو اشتراك..
-الكابتن مش فاضي دلوقتي..
كادت تشكرها وتغادر.. ولن تعود ثانيةً..
ولكن صوت رجولي خشن النبرة هتف باسمها باندهاش..
-انسة يارا... بتعملي ايه هنا؟!
واقترب منها يقف أمامها يسد عنها الرؤية بجسده الضخم.. كانت أمامه تبدو كعصفورة وقفت أمام حائط..
غمغمت بارتباك..
-حضرتك نسيت انك قولتلي اني لو محتاجة Self-defense .. اجي هنا؟!
هتفت الفتاة الوقفة بينهما بضيق بان جليًا بنبرتها..
-بس احنا هنا مبنديش Self-defense!
انتبه أحمد على وجودها.. فقال لها..
-شكراً ياسلمي.. انسة يارا تبعي.. تقدري ترجعي تشوفي شغلك..
أُحرجت.. فاستدارت بـ آلية تُخفي احتقان ملامحها..
-عنئذنك ياكابتن...
وولاها اهتمامه ثانيةً.. يسأل بإبتسامة..
-ها تحبي تيجي أمته عشان نبدأ..
وتذكرت تهديده.. لمسته... خوفها الزائد...ليلة أن حاول يغتصبها.. وتحرشه بها.... وزياد...!
هتفت دون أن تعي أن الآخر يراقبها..
-حالًا .. عايزة ابدأ دلوقتي.!
اتسعت ابتسامته، فظهرت أسنانه المصطفة.. يقول بنبرة مرحة..
- مممممـ اتمنى ميكونش ده حماس البدايات وبعد كدة متجيش؟!
سألته بلهفة..
- يعني ينفع نبدأ دلوقتي؟!
أجاب وهو يفسح لها الطريق أمامه يرد بشكل عملي ..
- عشان خاطرك ينفع..!
........
.. تبعته لغرفة واسعة، منفصلة عن الصالة تقريبًا، وكأنها تخصه هو فقط، وترك بابها مفتوحًا..
جزء واسعًا منها مغطى بالمرايا والباقي زجاج لامع.. فارغة من أي شئ عدا جهاز للسير السريع وبالمنتصف كيس ملاكمة أسود كبير الحجم..
جالت بعينيها المكان كله.. ثم استدارت تسأله..
- هندرب هنا..؟
صحح سؤالها.. يعطيها ظهره منشغلًا بتهيأة الجو..
- قصدك هدربك هناا..
ثم استدار لها يتحدث بعملية وهو يدور حولها..
- الموضوع مش صعب ولا كبير.. ولا محتاج أن جسم اللي أودامك يكون ف مستوى جسمك وطولك...
الدفاع عن نفسك نابع من جوة..
"يُشير بسبابته عليها"
من جواكي إنتِ.. لازم تكوني واثقة في قدرتك انك تقدري تجابهي اللي أودامك.. تتحديه.. وقتها هيعمل ألف حساب قبل مايلمسك...
كان صوته عالي.. ثابت.. كانت تلتفت له برأسها.. نصف كلامه كانت لاتفهم لولا إشارة يديه..
ولكنه جذبها، هيئته كانت كرجلٌ حقيقي ليس ذكر أو شبه رجل..
فاجئها بوقوفه أمامها مرة واحدة يلمس دون ملامسة حقيقية كتفها.. فشهقت تبتعد بكتفها عنه..
- انت بتعمل ايه؟
-اللي أودامك مش هيستني سؤالك ده.. أول ماتحسي أن ايده قربت تلمسك...
تمسكيها كده..
.. وأمسك بكفها الطري بخشونة كفه يلويه بخفة ولكنها أوجعتها.. فهز رأسه بلا معنى واستنكر من "دلع البنات وميوعتهن"
-هعيد الحركة تاني.. ومطلوب منك ترديهالي بنفس الطريقة..!
وبالفعل اعادها رغم بطء تحركاتها إلا أنها حاولت.. وأول محاولة كانت فاشلة وبجدارة..
ولم ييأس..
-لو مش هتقدري تلوي ايده... ارفعي ايدك واضربيه ف رقبته..
.. وأشار بمنتصف حلقه على تفاحة آدم خاصته..تراقب حركاته وانفعالاته بعيني متسعتين بشدة.. فيخطفة البريق المنبهر فيهما فيبتعد ويوليها ظهره مرة أخرى..
اقترب وألقى سؤال مباشر..
- يبقى مين؟!
تلقت سؤاله كصفعة.. ولا تعلم لما انزعجت أن تكون بها عيب أمامه..
ردت بخفوت بالكاد سمعه وقد فهمت من يقصد ..
-صاحب زياد اخويا..
أمسك بكفها يفردها أمامه.. ثم يثنيها.. كررها أكثر من مرة وكل مرة تزيد شدة قبضته..
- ومقولتيش لزياد ليه..؟
سؤاله أشبه بتقرير، تغضنت قسماتها الناعمة من شدة قبضته، لتزدرد ريقها الجاف،ورفعت رأسها تجيبه
- محبتش أكبر الموضوع..
.. تشنجت حركاته.. يشعر بأنها تخفي شئ أو ربما يتوهم،
استغل ارتباكها وسريعًا حاصرها بوقوفه أمامها وذراعيه مقتربان من أعلى ذراعيها.. تخشب جسدها وساقيها لم تقوى على الحركة..
- في إيه؟
قالتها بصوت مرتجف واعين متسعة.. خطواته وحركاته غريبتان عليها..
عطره الخفيف يسيطر على حواسها.. ينتزع خلايا دماغها انتزاعاً من تأثيره بعطر آخر ثقيل كانت أدمنته..
ورغم عدم انحراف نظراته إلا أن بها لمحة إعجاب لاتخفي على فتاه مثلها..
- عنيكي بتتهز..
يتجاهل سؤالها.. ويكمل بحرفية
- لما تكوني بنفس الوضع ده.. لازم تعرفي نقاط ضعف اللي أودامك عشان تدافعي عن نفسك..
أسهل طريقة ليكي.. انك تضربيه براسك ف مناخيره أو دقنه..
.. وفك محاصرتها يبتعد..أطلقت تنهيدة طويلة مرتاحة، ببالها أن خرجت من هنا ستركض ولن تعود..
ولكنها تذكرت شيئًا فضحكت بخفوت بعد أن التقطت أنفاسها، واستغرب هو..
عقد حاجبيه وسأل بتعجب..
-بتضحكي ع إيه؟
ارتفعت ضحكتها تُخفي ثغرها بباطن كفها... وعيناها تمنحانه سحر جميل يسحبه للأعماق بكل رضاه..
وقد أجل العواطف والمشاعر لبعد الميدالية الذهبية والبرونزية والمزيد من البطولات..
- أصل إنت بتضرب براسك..!
عض على شفته يخفى احراجه ومنحنى أفكاره ، ضحك هو الآخر ضحكة صافية..
-أسهل وأسرع..
ثم استطرد وقد عاد للهجته العملية..
- كفاية عليكي كدة انهاردة..
.. اتجهت للمرآه تعدل من هيئتها وغرتها وكأنه هواء ولا وجود له.. وعلى الرغم من ضئالة جسدها إلا أنها جذبته كأنثى..
زاغت نظراته بالمكان كله، يحاول تجاهل اعجابه بها ومراقبتها هكذا..
وقرر بأن المرة القادمة لها ستكون مع مدربة أنثى مثلها.. فتلك المهمة شاقة على رجل مثله معها ....
.......................
..."بـ شرفة قاسم"
.. كان قاسم يجلس على حافة السور.. يستند بظهره إلى الجدار وراؤه،
وقد جفاه النوم تلك الليلة رغم اهاق بدنه وعقله، إلا أن تلك الفترة أصابه الأرق على مايبدو..
عقله شارد في البعيد، أو ربما في القريب بالغرفة المجاورة..
يمسك بورقة بيضاء وقلمًا من الرصاص يرسم به عليها.. موهبةكانت لديه منذ صغره ونماها جده مع الوقت ولذلك أحب الأخشاب والنجارة والنحت عليهما..
في البداية كانت نيته منظر طبيعي لـ الليل، سماء بدكنة الدُجى ونجوم متلألأة تُزينها، والجو المحيط به.. رسمة ببساطة تعبر عن السكون المحيط به..
ولكن انامله توقفت عن الرسم وهو يستمع لباب الشرفة المجاورة يُفتح بهدوء..
من وقت ان عادت لم يراها غير مرتان وبكل مرة كان يترك الجلسة ويرحل
رغم رفض قلبه..
بالتأكيد بتجاهله هذا سينساها مع الوقت.. ولكن كيف وهي أمامه!!
تقف مستندة على السور بمنامتها الصيفية الخفيفة ، تستنشق هواء الليل النقي بإبتسامة..
وكأنها تقصده هو بابتسامتها، أو لا تقصده، عمومًا لن يعيد بناء بيوتًا من أوهام برأسه..
لم ينطق، يستكمل مع يفعله دون تركيز..
- مش جايلك نوم زيي..!
تسأله بخفوت ناعم وقد اقتربت من حافة السور خاصته.. يشعر بنظراتها المخترفة.. آه من الاشتياق وكرامته البائسة..
رد كاذبًا دون أن ينظر إليها..
-نمت العصر.. فمش عارف انام دلوقتي..
رده احبطها لا تعلم لم! ارتفعت بطولها قليلاً تحاول أن ترى مايفعله..
- بترسم... وريني كدة..!
سابقًا كان يُريها معظم رسوماته عدا رسمها لوجهها طبعًا.. كانت صغيرة تركض وراؤه في كل زاوية من زوايا منزلهم.. تُلح عليه أن تشاهد رسوماته..
وكبرت قليلا وقل الحاحها، إلا أن بلغت الثامنة عشر وتوقفت عن الطلب حتى..
ولكنه كان يُريها دون أن تطلب ..
زفر بضيق، ليرفض بهدوء..
-مش برسم.. دي مجرد شخبطة..
ابتلعت ريقها برعشة وهي تشعر بنبذه لها.. همست بصوت خفيض ولكنه التقطه.
-انت لسة زعلان مني!
التفت لها وزاد تجهمًا، منحها نظرة خاصة تحمل بين طياتها لوم وغضب..
نظر إلى عمق عينيها اللامعتين قبل أن يجيب بحدة أثارت حزنها..
-وهزعل منك ليه يابنت عمي.!! ، هو إنتِ عملتي حاجة تزعل ..
استقامت بوقفتها تزم شفتيها وقد التمعت حدقتاها ببريق دمعٍ.. طأطأت برأسها تبتعد عنه بعد أن وصلتها رسالته..
- انا هدخل.. تصبح ع خير..
.. تنفس بقوة وهو يسمع باب شُرفتها تغلقه بهدوء كما فتحته،
بالله كيف سيستطيع النسيان!
تنهد مطولاً قبل أن يسحب نفسًا عميقاً لصدره أخرجه على دفعات متتالية..
يعود بانظاره للورقة أمامه.. تتسع عيناه بمفاجأة وتبدلت رسمته لتصبح عبارة عن وجهها وخصلاتها القصيرة.. وكأن أصابعه تتحداه كـ كل شئ حوله..
............................
.. "بعد عدة أيام"..
.. كانت نورهان تقف أمام المكتبة بالخارج.. تتطلع إليها بانبهار وفرحة..
وقد تبدل حالها ومنظرها بعد أن قامت بطلائها هي ومجد شقيقها ليلًا،
الجدار بلون النسكافيه والأرفف بتدرجات اللون البني.. هيئة وقورة تُليق بمكتبة حُلمت بها سابقًا..
تحمد الله بداخلها فالعمل أصبح رائعًا ومريحًا.. وبالطبع مُربحًا وخاصةً بعد أن افتتح سنتر للدروس قريب من المكتبة..
نظراتها السعيدة المنبهرة بمكتبتها.. جعل الجار يهنئها بمباركة..
- مبروك يانور يابنتي... بقيتي بسبس وومان كبيرة..
ضحكت باتساع.. ملامحها اليوم مُشرقة، تهز رأسها وهي تحدثه..
- مسمعش أكرم وانت بتقول بسبس دي.. اسمها بيزنز وومان ياعم حسين..
تهكم من التصحيح..
- طب وانا قولت ايه يعني!
ثم تابع بملامح ممتعضة..
- ثم إن جوزك ده مبيعجبنيش متكبر كدة وشايف نفسه..وكأن نوعيته انقرضت..
ضحكت ضحكة حلوة وعيناها تشرد رغماً عنها بأول ليلة معهما سويًا بمنزله.. وقت أن دخلته عروس..
كان وسيم ببذلة سوداء وقميص زهري دون ربطة عنق، وسامة ملامحه خبأت وقللت من تجهم ملامحه وعقدة حاجبيه الدائمين..
هتف بها بنبرة خشنة.. يشير بكفه..
-اتفضلي..
أجفلت من خشونة نبرته وقد هدم سقف توقعاتها فوق رأسها..
كانت ترتدي ثوبًا أبيض ضيق من الأعلى ينزل باتساع ذو اكمامَا واسعة منحتها زيادة خادعة ، ناعم على جسدها يُعطيها أنوثة كانت على أعتابها باستحياء..
دلفت بهدوء ونطراتٍ خجلة.. تحني رأسها، ثم توقفت.. وكان هو مازال يقف على الباب وراؤها..
أغلق الباب بشدة، يزفر بصوت مرتفع،
- متتوقعيش مني اني اشيلك والجو ده..!
عضت على شفتها، وارتسم الحزن على ملامحها.. همست بخفوت..
-لا مش متوقعة...
صوت جارها جذبها من الذكرى البائسة، لتتبدل ضحكتها لوجوم وصمت.. تمتمت بشرود..
-هو فعلًا متكبر.. بس قلبه طيب..!
وكانت تقصد معاملته لأهلها.. وبعض زلاتٍ له كان هو يعتبرها أخطاء وتعتبرها هي تسامح منه وكرم من أجل استمرار الحياة بينهما..
تذكر أنها فعلت المستحيل له.. كي تنال رضاه وإعجابه.. فرجل كـ أكرم برجولته العاصفة ومستواه العالي بالنسبة لها يستحق أن تفعل أي شئ من أجل أن تكون معه..
.. دخلت المكتبة تقف أمام مكتب خشبي صغير مازالت رائحة طلاوؤه موجودة.. والعم حسين أعطاها ظهره يُرتب بعض الكراريس والأوراق على الأرفف..
فتحت الجارور الصغير بالمكتب تأخذ منه علبة مخملية رفيعة بلون كحلي
وفتحتها.. لتخرج منها قلم لو بريق ذهبي تتأمله بإبتسامة زادت من وهج عينيها..
التفت العم لها يشاهد وقفتها الصامتة.. وامساكها بالقلم..
ليهتف بمكر لا يناسب سنه..
- مممممـ هدية صلح..
همست بصوت ناعم ومازالت تتأمل القلم بأصابع رقيقة ..
- هدية معروف..
انتفضت بوقفتها على صياح شقيقها يركض نحوها يقول بانفاسٍ لاهثة..
-ابن خالك علي مات..
غامت عيناها وقد شُحبت ملامحها وكأن الدم سُحب من وجهها، ارتجف يداها فنظرت أرضًا للقلم تحت قدميها ولا تدري متى أو كيف سقط منها..
.......................
.. خرجت نيرة من المصعد يتبعها زياد وهو يحاوط خصرها بذراعه.. كانا معًا بزيارتها الشهرية للطبيبة تطمئن على حملها....
تتراقص البهجة والسعادة على وجهه وقت أن علم بأنها تحمل بأحشائها صبي.. صبي منه هو، الفكرة بحد ذاتها تعزز شعور الأبوة لديه بعد تأجيل ونكران..
كانت تسير أمامه بملامح عابسة وحاجبان معقودان برقة.. كانت تريد فتاة من أجل اغاظته...
عند خروجهم من المبنى.. سبقها بخطوات بسيطة يفتح لها باب سيارته، لتتجاوزه هي وتنحني قليلًا لتركب بسيارته بإصرار منه..
يستدير سريعا بعدما أغلق بابها يدلف للداخل بدوره عائدًا بها لبيت جدها..
كان يقود سيارته بهدوء.. هو يعز سيارته جدًا أكثر من أي شئ..
لطالما حلم باشترائها، ووقت أن اشتراها العام الماضي كانت سعادته تكاد تبلغ العنان وكأنه بابتياعها نال أقصى أحلامه..
هتف بحبور يوزع نظراته على الطريق وعليها..
-الحمدلله..
قلبت ملامحها.. تحدجه بغيظ..
-الحمدلله أنه ولد..!
أوضح باهتمام صادق..
- الحمدلله انك كويسة.. والبيبي كمان..
سحب نفسًا عميقًا وهو يرمقها بطرف عينيه.. تسترخي بالكرسي ولازالت على عبوسها الخفيف.. فستانها الأزرق الرقيق المنكمشة به رغم استراحتها بجواره..
هتف متنهدَا..
- أظن كفاية عليا كدة.. وترجعي بيتك بقى..
نال منها نظرة حزينة حين التفتت اليه.. رغم صدق نيته ونبرته إلا أنها تشكك به..
- مبقاش بيتي يازياد... ده بيتك انت..!
بساطتها بالرفض أزعجته، لهث بعنف وهو يتمتم..
-إنتِ ليه يانيرة مكبرة الموضوع!!
نظرت له بحدة وحاجب مرفوع.. فتدارك كلامه سريعًا..
- ماشي تمام الموضوع كبير.. بس والله توبت وندمت جدًا والله حتى اسألي جدي...
.. أغمضت عيناها لحظة قبل أن تردف بمرارة أستحكمت بحلقها..
- هتندم لنفسك وهتوب لنفسك.. أنا بقى هتعرف تنسيني اللي شوفته
، بلاش تنسيني.. هتقلل شوية من وجعي ساعتها..!!
.. ابتلعت غصة حلقها تقاوم دموع تجمعت بمقلتيها وقد تسقط بأي لحظة..
- الجرح اللي لسه متقفلش انت هتعرف تعالجه..؟!
واخفت وجهها عنه.. ترمق الطريق السريع أمامها دون اهتمام،
وهيئته بذلك اليوم تخترق ذكراها كل ليلة بشهبٍ من نار..
تُعيد خيانته، استرخاؤه.. اغواء أخرى... وقبلة آثارها طبعت على قلبها كـ صفعة قبل أن تطبع على خده..
هي محقة.. لها كل الحق، يعلم جيدًا جُرم مافعله بأنثي هشة ورقيقة مثلها..
تنهد بحرارة.. يقول بثبات صادق..
-اديني فرصة.. إنتِ مش مدياني فرصة اتكلم حتى..
كل محاولاتي معاكي بتقابليها بالرفض والتريقة.. أنا من حقي فرصة تانية...!!
وصمتها جعله يتابع بإلحاح يتوسل.
-والنبي يانون والنبي عشان خاطري.. عشان خاطر ابننا..
ابتلعت غصة دموعها بصعوبة، تأخذ نفسًا قبل أن تستدير توليه وجهها ونظرتها اللامعة..
-لو طلبت أي حاجة هتنفذها..
رد سريعًا غير مصدقًا بأنها توارب بابها..
-ع رقبتي..
أعادت كلامها بتحدي وبطء ..ونظرة خبيثة..
- أي حاجة أي حاجة..!
التواء ثغرها المُريب ونظراتها الماكرة أثارت ريبته.. هتف بتردد..
- أي حاجة... ع حسب بردو يعني..
عدّت بداخلها "واحد إثنان ثلاث" قبل أن تلقي قنبلتها بوجهه..
-هاخد عربيتك أسبوع... وخلال الأسبوع ده هتروح تشتغل عند قاسم..
التفت يسألها بوجه مشدود ونظرات خطرة..
-عيدي تاني كدة اللي قولتيه..
كتمت ضحكة بداخلها تهمس بخفوت..
-هاخد عربيتك.........
وقاطعها صارخاً يشوح بذراعيه..
- دي بتعيدها تاني... ده انتِ اتجننتي.. تاخدي عربية مين!!.. ومين ده اللي يشتغل عند قاسم. أنا زياد الدالي .....
قاطعت صراخه تنهره..
-زياد..
وقف بسيارته أمام بيت جدها.. يفتح الباب المجاور لها بعنف..
شششش انزلي. انزلي أحسنلك..
وزعت نظراتها بينه وبين الباب وذراعه الممدود لها بإشارة بالخروج.. تهتف بتوعد رغم ضحكتها بالداخل..
- هتندم علفكرة..
انفجر بها..
- هندم... دانا ندمان اني عرفتكو ياكلاب... قال اشتغل عندكو قال ...
يعلو صوته الساخط بغيظ بعدما صفعت الباب خلفها بقوة..
- عنك ماسمحتيني..
- قال تاخد عربيتي الغالية قال...
أخرج رأسه من شباك سيارته يهدر بها..
- وسعى يابت بدل مااشوطك بالعربية..
-قال اشتغل عند قاسم قال... ده ع جثتي.......!
سمعااااااني على جثتي.....
..................
"اليوم التالي"
- الساعة العاشرة صباحًا-
يترجل من سيارة أجرة متأففًا.. يرتدي ثياب عملية لا تُليق به قميص رمادي يثني عن اكمامه لكوعه وسروال من الجينز الباهت..
يقف أمام دكان كبير تعلوه لوحة خشبية كبيرة مكتوب عليها بألوان زرقاء،
"ورشة القاسم لتجارة الأخشاب وبيع الأثاث"
وحين انحني بنظره للباب الواسع.. وجد قاسم يقف أمامه فاردًا ذراعيه
يرمقه بنظرات غريبة وكأنه كان متاكدًا من مجيئه ...
- يامرحب بالغالي....
... انتهى الفصل ❤️🌹
**"الفصل الخامس والعشرون" **
" لا تقلب الصفحة، أحرقها"..
..الذكرى فوهة تبتلعك بداخلها حد الألم، وذكراها كانت سوداء اللون.. بمرارة العلقم.. ورائحة وجع الرفض وانتهاك الجسد..
وهي تركت نفسها لألم الذكرى تبتلعها فتشعر بالاختناق..
شعور مؤذي أن تكون مُدان وأنت ضحية..!
يرتجف جسدها بشدة وخبر وفاة ابن خالها يعيد لها ماعانته بذاك اليوم.. وما تبعه.. وفاة والدها من شدة قهره وانعدام حيلته، ومرض والدتها والذي إزداد بقهر ما رأته..
غامت عيناها بسيل الذكريات.. وجود أكرم ومعرفته، معاملته الجافة ، واهاناته المبطنة، جلده المستمر لها بسوط كلماته..
نظرات الندم التي كانت تلاحقه كلما اقترب منها.. ذكرى اول مرة لهما بذات الفراش ولم يستطع مقاومة أن تكون أنثى بحيزه ويتجاهل شعوره كـ رجل..
قبلاته واحتضانه.. همساته ..... حتى اتساع حدقتيه وقتها
تتذكره.... "أكان ينتظر دماء شرف"!!
وكأنه للحظة قد نسا... ومن وقتها يعاملها كزوجة
فقط لرغبته ومن ثم يعود لسوء طبعه.. يأخذ مايريد ويتبعها بمنّ وأذي.. وندم يتفاقم بعينيه...
والتهمة أنها وبسببها حُرم من حبيبته.. وما ذنبه بأن يحمل حمولة غيره
كما كان يخبرها كلما اختنقت واشتكت..
تتساقط دموعها على وجنتيها كأنهار تحرقها بحرقة ذلك اليوم والذي بسببه لم تعد هي..
تجلس على فراشها تثني ساقيها أسفلها.. لا تعلم مايجب عليها فعله كي تتجاوز ألمها.. لو كانت أمها موجودة لأخبرتها.. طمأنتها بضمة من صدرها الطيب.. ولكنها وحيدة....
دون شعور أمسكت بهاتفها القديم تضغط على ازراره بتيهٍ وقسوة، ثم ترفعه على أذنها بشرود مقلتيها.. وأتى الرنين فانتبهت لما تفعله..
وقبل أن تنهي الاتصال نادمة انها اتخذت تلك الخطوة بغباء ودون وعي كان صوته القلِق يجيب..
-ألو...
كان نائم.. وانتفض على رنين هاتفه مذعورًا، لم يمهل نفسه فرصة الاستفاقة وهو يرى رقمها...
لم تجب كان الصمت حليفها.. وشعر هو فسأل بقلق صادق النبرة..
- نورهان.... في إيه انتِ كويسة..!
-لأ..
قالتها بنبرة متحشرجة من أثر البكاء. ثم عادت للصمت ثانيةً، وتركته يغلي من قلقه الزائد..
- في إيه؟!
لم تترفق به.. تريد أن يشعر بالنيران التي تتأجج بداخلها.. عادت صورة ابن خالها لعقلها وخالها وبعض الجيران يحملون جثته المليئة بدماءه بعد أن صدمته إحدى الشاحنات على الطريق السريع...
-ابن خالي مات....
واحتبست الكلمات بحلقها.. يزداد نحيبها، وتركت له حيرته..
يعقد حاجبيه بحيرة يحاول تذكر من ابن خالها هذا... سرعان ماتذكره لتتجهم قسماته.. أنفاسه تتسارع بهياج قبل أن يهتف بحدة..
- في داهية...
نحيبها الرقيق يثير حفيظته، وصمتها المغيظ.. ولا يجد تفسير
يسألها ونبرته تشتعل بها الغضب ولا يبذل مجهود ليخفيه..
-بتعيطي ليه..!
تجيبه بصوت مكتوم بسبب اختناق أصابها..
-كان نفسي اخد حقي منه.... أنا اتظلمت وهعيش بظلمي وهو مات وارتاح...
أطلق تنهيدة طويلة، اخرج بها غضبه وثورته.. يود تحطيم اي شئ بتلك اللحظة..
تكلم بهدوء اللحظة..
-إنتِ اتظلمتي وخدتي حقك.... وهو بين ايدين ربنا بيتسأل ع اللي عمله...
ثم يتابع بثبات النبرة..
-المفروض بموته تكوني مرتاحة وتعرفي إن آخرة الظلم هلاك...
أغمضت عينيها بشدة.. وداهمتها ذكرى معاشرتها له..
تصرخ به بضيق ونبرة مرتجفة..
- انت كمان ظلمتني.. كنت بتعاملني وحش..
هو لن يضع نفسه بخانة الدفاع.. كان حقير معها ويعترف بداخله..
رد بضعف وانهزام..
-كان غصب عني... كنت غبي..
يعترف ولن يخجل، يرمي الكرة بملعبها علها بيومٍ ما تسامحه، تعطيه فرصة يرى أنه يستحقها.... وبالفعل يستحقها
ثم استكمل باستطراده يشير بعينيه على الفراش الواسع، وجهة نومها الباردة منذ أن تركته وغادرت وكأنها تراه ..
- واديني بتعاقب أنا كمان..
يبتسم بسخرية مريرة، ويبدو أن كلامه هدأ من حالتها فلم يسمع صوت بكائها ولا حشرجة صوتها..
يتبادلان الصمت.. عدا عن نبضة قلب حائرة تصيبه وتصيبها بالمقابل..
احس بتشتتها، ضياع نبرتها.. فقرر قطع الصمت بينهما..
يغمغم بصوت ثابت رغم اهتزاز قلبه ودواخله..
-عيزاني........ أجيلك..؟!
ينتظر ردها، يعتدل بجلسته بتحفز.. لو طلبت مجيئه فورًا سيكون أمام بابها..
يفسر سكوتها كتفكير بعرضه.. ولكنها لا تعرف بما تجيب..
ترعبها فكرة ان تتعلق به مرة أخرى وتعود خائبة الرجاء
أن تتعشم بكرمه الزاخر ووقت أن يزهدها يحرقها بمعايرته..
كفى.. ستفيق، هي قررت الافاقة والعودة لذاتها القديمة..
- لأ.. أنا هنام.. تصبح على خير...
.. لم تغلق وهو أيضًا.. مر وقت عليهما لم تحسبه..
نداها بدفئ نبرته..
- نور...
يأسرها نطقه لاسمها بتلك الطريقة، - نور- لفظ تحببي،
على يقين بأنه طالما نطق باسمها هكذا، سيقول مايعجبها من حديث..
ترد بعذوبة متنهدة.. بقلبٍ سيرتوي بعد صيام دهر..
- نعم..
همهمتها الناعمة والوقت المتأخر يثير شعور داخلي بأنه يريد عناقها بتلك اللحظة.. يهمس بخفوت صادق.. ينقر بكلماته على مسامعها..
-أنا فخور انك أم ملك... ولو رجع بيا الزمن بين إني أختارك أو أختار جيلان........ كنت هختارك إنتِ.... تصبحي على خير...
.................................
"آخرة العبث... مرمطة "
ولفظ " مرمطة" لما يعانيه منذ الأمس بسيط..
"آخرة الفاسد.. قندلة"..
"نهاية الشمال..إذلال"
.. يقف بجوار ماكينة قطع الأخشاب يتغنى بـ "ظلموه"... ويتبع " بهدلوه"
ويسترسل ببداية بكاء مصطنع " مرمطوه"..
يقطع الأخشاب بحذرٍ بالغ، يعاني.. جبينه يتصبب عرقًا، ولكنه يقاوم
بالأمس أعطاه قاسم مكنسة خشبيه وجاروف كبير وأمره بكنس الدكان و "ترويقه"..
حينها صرخ به
-أنا زياد الدالي عايزني اكنسلك الدكان.... انت اتجننت!!
فيهز قاسم رأسه بلا مبالاة.. يمسك بهاتفه وعدة ضغطات وهو يحدثه ببرود..
- براحتك.... عمومًا نيرة هتفرح أوي برفضك ده...
ليختطف هاتف قاسم من يده.. ويغلق الاتصال.. يرجوه..
- أي حاجة ياقاسم الا أني اكنس واعمل الكلام ده..!
فيصحح قاسم برفعة حاجب مستفزة..
- اسمي الريس قاسم... طول ما أنت هنا.. تقولي ياريس.. مفهوم..!
تمتعض ملامحه.. يمسح على وجهه بـ غل وضيق، وقد ندم أشد الندم أنه
استمع لعقابها وجاء هنا..
-مفهوم...
-خلاص هعفيك من الكنيس... روح أملي كام جردل مية وادلقهم اودام الدكان يللا...
يحدثه بسماجة، كان الله بعون من ستتزوجه، يستشيط غضبًا يهدر به..
- إنت اتجننت والله العظيم.. انا مستحيل أعمل اللي بتقول عليه ده.!
ليسحب قاسم هاتفه مرة أخرى.. ينوي الاتصال..
-أحسن بردو... أما أعرف نيرة بقى..
.. بعدها.. كان يمسك بدلو ملئ بالمياه يسكبه أمام باب الدكان بعشوائية..
والدلو يتبعه بآخر.. حتى تعب.. جلس يلتقط أنفاسه ليأتي قاسم، يقف فوق رأسه يطلب، أو يأمر بالمعنى الأصح..
قوم حمّل الخشب ده كله ع العربية مع الصبيان...
.. واليوم ظهره يتعبه.. جسده يصرخ يريد الراحة.. كان بسابق عهده أقصى مجهود يفعله أن يفتح نافذة غرفته..
.. مر يومان ولازال الأسبوع بأوله، "المفترية" ألم تجد عقابًا آخر له..
جاء قاسم بجواره.. يمسك إحدى الأخشاب التي قام بتقطيعها ونشرها..
يوزع نظرات حانقة بينه وبين الخشب بيده.. يهدر به قاسم
-ولا خشبة واحدة قاطعها صح.. ايش حال لو مكنتش معلملك عليه..
عشان متنيلش الدنيا..
يرد عليه بصوت أعلى..
-والله ده اللي عندي... لو مش عاجبك مشيني..
- لا والله عايزني امشيك.. عشان تقول لنيرة إن العيب مني... ده بعينك..
يتوسله بعينيه.. بطريقة مضحكة..
- اعتقني لوجه الله ياقاسم.. وانا والله هظبطك..
يقف قاسم أمامه، يتفحص هيئته، واليوم أيضًا أتى بثياب بسيطة عملية،
عقد ذراعيه أسفل صدره العريض.. يتلاعب بحاجبيه..
- وهو دخول الحمام زي خروجه..
قالها ثم دفعه من كتفه بخشونة..
-يللا روح أعملي كوباية شاي..
يرد زياد ببلاهة..
-مين اللي هيعمل الشاي..
يجيبه قاسم ببساطة
- هو فيه غيرك هنا.. يللا بسرعة.. وعايزه شاي تقيل..
يشير بسبابته لجانب به رخامة متوسطة يعلوها أشياء لم يتبينها من وقفته واسطوانة غاز صغيرة..
يعود بأنظاره لقاسم.. يسأله بتوجس ..
- أنا هعمل الشاي فين..؟
يفهم مقصده.. فيستفزه، يكتم بداخل صدره ضحكة شامته
- هناك... ع الامبوبة اللي هناك دي، البراد والكوبايات عندك..
حينها رفع زياد حاجبيه.. يسأله من بين أسنانه..
- قاسم.. انت مسمعتش عن الكاتيل؟!!..
.................
.. يقف عاصم أمام المدخل بانتظارها ويديه في جيبي سرواله الضيق، وقد قرر اليوم أن يرتدي بذلة كلاسيكية بلون العسل الغامق وقميص بدرجة أفتح ولم يكلف نفسه عناء غلق أزاراره العلوية..
يعلم أنها ستأتي، لا مجال للهرب، وقد أرسل لها اسم المكان وحدده جغرافيًا في رسالة نصية مع تهديد مبطن بإن لم تأتِ... سينزعج وبشدة، وبالتأكيد هي في غنى عن إزعاجه..!
لم ينتظر كثيراً.. كانت أمامه كالبدر وقت تمامه، هكذا يراها..
ملابسها خفيفة سراول من القماش الأسود وكنزة بلون القهوة ذات اكمام واسعة.. ملابسها كانت لاتليق بكلاسيكيته ولا بالمكان... ولكن العيب منه هو لم يخبرها...
ملامحها مشدودة وحاحبيها معقودان.. صوت زفراتها القوية يصله..
اقتربت منه.. فمد يده يصافحها.. توزع نظراتها الحانقة بين كفه وبين وجهه
ثوان معدودة ومدت يدها تصافح.. مجرد تلامس للأنامل وكان هو يريد احتضان الكفوف..
سحبت يدها سريعًا.. تضعها بجوارها.. واعتلى ثغره ابتسامة بلا معنى
همس وهويشير إليها بأن تتقدمه..
- اتفضلي..
بتردد كبير تقدمت خطوة تبعتها بخطوة أخرى، وكان هو خلفها ورائحة عطره المخصص له تسبقه، رائحته أصبحت ثقيلة جدًا كرؤيته..
تزكم أنفها، وتعطل باقي حواسها عن العمل..
تكتم غضب بداخلها منه ومن تصرفاته.. رسائله العديدة، إلحاحه بمقابلتها
وكأن رفضها لا يعني شيئًا..
انتهى المدخل وكانت تتوسط بوقفتها الذاهلة منتصف المكان..
مكان مفتوح آخره البحر.. تراه بوضوح
أضواء المكان خافتة تبرز حُمرة السماء وقت الغروب وتواري الشمس خلف غيوم المساء...
طاولة مستديرة مزينه بورود حمراء متناثرة .. وشموع صفراء باهتة لها رائحة عطرية خفيفة.. وبالخلفية أغنية أجنبية هادئة.. هدأت ملامحها بفضل سماعها..
يفاجأها... هو رجل المفاجأت بلا منازع..
جذبها من تأملها وشرودها وهو يسحب كرسي لها..
جلست على مضض، واستدار يجلس على الكرسي المقابل..
ابتسامته كانت واسعة حقيقيه.. لا يدّعي السعادة بتلك اللحظة..
هي لحظة انتظرها.. ونالها، ولن يفرط بها...
يفتح زر بذلته.. يرتاح بجلسته، ونظرته مثبته عليها.. رغم اعتراض واهن بداخله على ثيابها.. وكان يريد كمال اللحظة بفستان يبرز نعومتها..
ولكن لابأس بالمرة القادمة..
..يتنهد قبل أن يتحدث بإبتسامة مشتعلة..
- أول Date لينا .. وإنتِ يارا... وأنا عاصم كالعادة يعني..
رفعت حاجب بالمقابل.. ثقته وملامح وجهه الشامخة تستفزها،
ردت بما ينافي كلامه..
-إنت ليه مش قادر تفهم إني كرهتك!!
زفر بضيق.. اخفاه سريعًا ودفنه.. يسأل وكأنه لم يسمع منها شئ..
-إيه رأيك ف المكان؟!
يشير بكفيه على ماحوله.. خلو المكان وهدوئه
لا تُجيب.. واكتفت بنظرات جليدية يفهمها ويتجاهلها..
استرسل بحديثه..
-أنا بقول بردو إن المكان أكيد هيعجبك.. ولسه لما تشوفي الاكل اللي مختاره هيعحبك أكتر...
-بكرهك..
نطقتها بـ غل أصاب غروره بمقتل.. ليعتدل بجزعه وقد تجهمت قسماته
يسأل بغضب..
-بتكرهيني عشان إيه .. المفروض أنا إللي أكرهك مش إنت ِ..
تُسارع بالقول..
-طب ماتكرهني ياريت تكرهني..
يمرر كفه على وجهه مرورًا بلحيته الشقراء الخفيفة، سحب نفس عميق يحاول الهدوء..
-أنا عاصم نفسه اللي إنتِ حبتيه.. وعملتي إللي عملتيه عشان تكوني معاه
إيه أتغير دلوقتي؟!
تهكمت..
-إيه اتغير.... لأ مفيش حاجة بسيطة أوي اتغيرت ياعاصم.. انت حاولت تغتصبني..!!
يبرر.. يُفند الأسباب، والوضع خرج عن سيطرته..
-وقتها كنت مضايق و.....
تقاطعه بحدة..
-وانت كل ماتتضايق بتتهجم ع للي أودامك..
ثم تابعت بسخرية..
- بداية مش مبشرة خالص بالنسبة لأول Date وكدة ياعاصم كالعادة ..!
أسبل أهدابه قبل أن يرفع عيناه يتوسلها بنظراته..
-أنا عايز نبدأ من جديد.. يارا وعاصم....
تعدّل الرد..
-قصدك يارا أخت زياد!! وياتري هتقول لزياد ايه؟
-مش لازم زياد يعرف.. ده سر هيفضل بينا..
-أنا مش موافقة..
يضرب على الطاوله بكفه فأجفلت..
-مش بمزاجك..
استقامت تتحرك..
-أنا عايزة أمشي ..
ألحق بها.. يمسك مرفقها بعنف.. يغمغم بانفعال..
-قولتلك مش بمزاجك..
-لأ همشي..
وبحركة سريعة جذبت يدها من قبضته.. تنسحب من أمامه بخطى أشبه بالهرولة... تركته بجوار الطاولة يرمقها بغضب وثورة تأججت بداخله...
.....................
.. يصعد درجات السلم بتعب.. ملامح وجهه متغضنة من ألم بجانبه الأيمن .. يمسك أعلى خاصرته يضغط بشدة عله يخفف الوجع ولو قليلًا..
ببطئ الخطوات يتأني عند كل درجة يصعدها، وكأنه يأبى الوصول.
يصله صوت شجار .. يركز بأذنيه ليتبين أنه صوت أبناؤه.
وصل إليهما وحينها كانت مقدمة قميص مراد - ابنه الأكبر - في قبضة حاتم
-الأوسط-
يزعق به بنبرة طفولية ساخطة دون أن ينتبه لوصول أبيه..
ابيه الذي هدر به بقوة أرعبته فابتعد بعد أن ترك قميص أخيه..
-في إيه.. بتتخانقو مع بعض ليه..!
ليجيبه مراد ببراءة..
- أنا مش بتخانق يابابا.. هو اللي بيخانقني..
التفت بجسده لحاتم يسأله بحدة ونظرات غاضبة
- بتخانق أخوك ليه..!
صمت الصغير لحظات وهو يبتلع ريقه.. وزحف الخوف لوجهه.. يهمس بتلعثم بسيط..
- عشان بيشيل ملك كتير وعمتو بتزعق..
فيصيح مراد مستنكرًا..
- انت اللي بتتضايق لما بشيلها وبتفضل تزعق..
فصل كمال بينهما. يفض النزاع.. بحدة نبرته الموجهه لحاتم..
- حاتم إنت مش صغير ع الحركات دي..
-بابا أنا...
كاد حاتم أن يتحدث ليقاطعه كمال بصرامة وملامح حازمة..
-حاتم إنت معاقب.. هات موبايلك..
وكمان مفيش فُرجة ع التي في لمدة يومين... هديلك قصة هتقراها وهسألك عنها...
قُطب حاتم بضيق..
-اشمعني أنا إللي دايمًا بتعاقب ومراد لأ..!
هدر كمال يحذره..
- حاتم...
طأطأ رأسه برهة.. ثم عاود رفعها وقد تغيرت نظراته لأخرى راكدة ..
واغتصب إبتسامة غريبة على طفل في السابعة من عمره.. يتمتم مطيعًا..
- اللي تشوفه يابابا..
.. وتركهما مع نظرة تحذير مشددة لكليهما، يدلف منزل والدته بعد أن رأى الباب مفتوح..
أمه بالمطبخ ونيرة تجلس أمامه على الأريكة وأمامها طبق كبير من حبوب الذرة.. تتناول منه وهي تركز مع الفيلم..
يقترب ويجلس دون أن تلتفت له حتى.. فيلتفت للتلفاز يرى ماتشاهد وقد كان فيلمها الأفضل والمفضل - الشموع السوداء - فيهز راسه بيأس منها
حتى وإن شاهدت ذلك الفيلم للمرة المليون فالمرة المليون وواحد ستتابع بنفس التركيز والانشداه...
آهة حارقة خرجت من بين شفتيه رغمًا عنه.. ليجذب انتباه المنسجمة بجانبه..
تسأله باهتمام وقلق وقد رأت تغضن ملامحه..
- مالك ياكمال.. فيك إيه؟!
ليجيب بنبرة متهدجة وهو يضغط على شفتيه..
- الألم اللي كان بيجي ف جمبي اليمين رجع تاني بس أقوى المرادي ..
أمسكت لجهاز التحكم تغلق التلفاز ثم اقتربت منه تتحسس جبهته وخصلاته..
- ممكن تكون لبخت في الأكل؟!
-مكلتش حاجة انهاردة أصلا..
وحضرت فاطمة تحمل كوب من الليمون بالنعناع المثلج تناوله لنيرة، تقول لكمال..
- استنى ياكمال. أما اعملك لمون بالنعناع انت كمان..
-لأ ياماما بلاش ساقع.. كمال جمبه وجعه..
عندها اقتربت فاطمة منه تجلس بالأريكة الملتصقة به.. تخبره بنبرة طبيب..
- عشان بتنام في التكييف وانت لابس خفيف..
يضحك بخفة رغم تعبه..
-خلاص شخّصتي حالتي.. ناقص تديني العلاج..!
ترفع ذقنها وتجيبه بتأكيد..
-علاجك عندي.. هقوم اغليلك شوية لبان دكر ومعاهم....
وقبل أن تستكمل وصفتها الخزعبلية هتفت نيرة باستياء رقيق..
- ماما أرجوكي بلاش وصفاتك اللي مش عارفة بتجيبيها منين دي..
لم يتمالك كمال نفسه ليضحك رغمًا عنه.. يتناقل ببصره بين جلسة أمه المتحفزة لتنتيف شعر نيرة على مقاطعتها والتقليل من دهاء وصفاتها..
ونيرة المسترخية بجلستها ولم تعيرها انتباه..
خفتت ضحكته شيئًا ف شيئًا.. ليخبر نيرة..
-زياد كلمني انهاردة.. بيقول ان قاسم مزهقه وبيضغط عليه..
أخفت وجهها عن أخيها تضحك خِلسةً.. تحاول أن تكتمها فتفشل.. فينهرها..
-حرام عليكي انتِ عارفة ان قاسم بيكره زياد.. ده هيبهدله..
زمت شفتيها تدعي الجدية..
-الله... وانا مالي هو اللي عمل فيها سبع رجالة في بعض يستحمل بقى..
-عمومًا أنا هكلم قاسم يخف عليه شويه.. زين خليه ينام هنا انهاردة..
قالها وهو ينهض من مكانه ينوي الصعود لشقته، فتبعته شقيقته تسير خلفه،..
استوقفته عند الباب..
-مش عايز تحكيلي اللي مضايقك..!؟
يحضتن وجهها الصغير براحتيه، يقول بصدق وابتسامة مجهدة
-لو حسيت إني عايز أحكي هجيلك...
.. وخرج ، تقف على الباب ترمقه بحزن من تبدل حاله..
صعد عدة درجات ثم توقف بالمنتصف يستدير بجزئه العلوي يسألها بشرود نظراته..
- نيرة لو إنتِ واحدة غريبة... وشوفتيني واتعاملتي معايا... ممكن تحبيني!!
سؤاله آثار استغرابها وزاد حزنها من أجله .. ولكنها لم تمهله وقت لتقول باندفاع صادق ونظرات مُحبة..
- هحبك... ده أنا هموووت فيك...
لم يزد اكتفي بإبتسامة وايماءة بسيطة، يعلم بأن ردها يأتي بـ عين الشقيقة المحبة.. ليس أكثر...
....................
-خُد..
يزعق بها زياد بنزق بينما يضع كوب الشاي بعنف على الطاولة الخشبية الصغيرة بجوار قاسم..
فيلتقطها الآخر بأطراف أصابعه.. وامتعاض ملامحه..
يرتشف ببطء وتأني.. وحذر، وزياد يقف فوق رأسه منتظرًا رأيه..
فيومأ قاسم برأسه دليل ان الشاي نال استحسانه..
- ممممممـ مش بطّال... احسن ١٠٠ مرة من بتاع امبارح.
وشاي الأمس كان كارثة بكل المقاييس.. كوب يحتوي ماء ساخن حد الغليان بسكر، وحبوب الشاي قليلة بدرجة اصفرار الكوب الشفاف..
كاد قاسم أن يسكبه فوق رأسه، ولكنه اكتفى بزعيق وعقاب مكثف كمشاوير للفرع الآخر وحضور بعض طلبات وكل ذلك سيرًا على الأقدام..
يسب نفسه بداخله.. تبًا لطيبة قلبه..
-عملتلك الشاي اهو... وطلع تمام سيبني أروح بقى..
هتف بها بسخط وهو يمسد عنقه المتعب.. يحرك جزعه قليلا يحاول فك فقرات ظهره..
-لسه بدري.. هتروح ازاي وانت منقلتش الخشب زي ماقولتلك..
اتسعت فتحتي أنفه من الغيظ.. يهدر متذمرًا
-وهو الخشب وهو محطوط هنا مضايقك في ايه؟
يشير بذراعه على صف طويل من الأخشاب المتصافة فوق بعضها ملتصق بالحائط،
فيلوح قاسم بيده.. وكوب الشاي باليد الأخرى.. يقلب ثغره
-مش مرتاح والخشب محطوط هنا.. شيله دخله المخزن جوة..
ينهي أوامره ويعطيه ظهره، تملؤه الشماتة، والنية إغاظة الآخر ووصوله للانتحار..
يقترب زياد من الأخشاب، يمسك باحداها.. يتلمسها.. يتحسسها وقد اغمض عيناه، يجز على ضروسه بعصبية.. وقد أتى بخياله هيئته وهو يضرب قاسم بتلك الخشبة على رأسه.. ورؤية دماؤه جلبت السكينة قليلا إليه..
يضع الخشبة مكانها فوق الصف بتساوٍ مع الأخريات..
ثم يقترب من قاسم.. يهتف بانفعال لم يستطع كبته..
-بدل ماتعمل راجل عليا أنا.. روح شوف الهانم أختك...
يعقد قاسم حاجبيه، يهدر بقوة..
-أنا راجل ع أي حد يالا..
قال زياد متهكمًا بسخرية حانقة..
-لأ واضح... راجل ازاي وأختك سايبها تروح جيم مختلط..!
ضاقت عينا قاسم باستفهام.. يسأل
-يعني إيه جيم مختلط..؟
وجهل قاسم بتلك الأمور جعل العابث بداخله يستيقظ.. يضرب على الحديد وهو ساخن يعلم بأن قاسم هو من سيمنعها..
-مختلط.. يعني بتتمرن أودام الرجالة.. بتوطي وتقوم وتقف...
إيه أوضحلك أكتر من كدة..؟
يزوي مابين حاجبيه بتجهم الملامح.. وعرق الرجولة لديه قد انتفخ..
- وأنا إزاي معرفش حاجة زي كدة..!
يربت زياد على كتفه بقوة.. يُحرضه..
- اديك عرفت وريني هتعمل إيه..؟
وضع قاسم الكوب بحدة أصدرت صوتًا مزعجًا، يتحرك للخارج بخطى ثائرة، هائجة وقد تلبسه قرينه من العصر الجاهلي..
يصعد على دراجته الناريه بعد أن أدارها.. يسأل الآخر المُراقِب..
-انت عارف مكان البتاع ده فين..!
فيومأ برأسه يركب خلفه وتلك المرة الأولى له لركوب دراجة نارية وخلف من.. خلف قاسم...
.... وعند وصولهم للمكان بعد وقتٍ ليس بقصير.. يترجل قاسم ويتبعه زياد..
يشير له على المكان.. فيأمره قاسم..
- خليك واقف هنا جمب الموتوسيكل..
يطمأنه.. ويهتف بخفوت له يحذره .
- بص لو لقيت نيرة جوة متكلمهااش... سيبني انا هعاقبها بطريقتي..
والماجن تخيل العقاب.. سيسحبها من خصلاتها سحبًا لغرفة نومه ثم إلى فراشه إلى أمد الآمدين..
وسار قاسم بعد أن تركه مسرعًا يدخل النادي.. ينوي افتعال شِجار
استند زياد على الموتور خلفه.. منتشيَا بمافعل وسيفعل..
يضيق عينيه.. يتذكر شئ قد نساه أو تجاهله..
يضرب بكفه أعلى جبهته شاهقًا..
-نسيت أقوله انه بيضرب بالدماغ...
ضحك بداخله شامتًا يتخيل ضربة الآخر بمنتصف أنف قاسم.. فتبتهج قسماته.. وبداخله قد ضرب عصفوران بحجر واحد...
.... وطال انتظاره.. من وقت لآخر يرمق الساعة بهاتفه، تأخر قاسم بالداخل..
تحرك ينوي اللحاق به.. ولكنه توقف حين شاهد قاسم يخرج ويسير نحوه بهدوء عكس مادخل... هدوء آثار ريبته، وضيقه..
يهتف بقاسم تزامنًا مع اقترابه بنفاذ صبر..
-ها عملت إيه..
يقابله قاسم بوجهٍ ضاحك ونبرة هادئة..
-تخيل الكابتن جوة بيقولي أن جسمي كويس جدا.. مع التمارين والممارسة هبقي رياضي أكتر...
وامتعاض ملامح زياد واتساع حدقتاه ولسانه الذي تحرك دون إذن منه..
- يافرحة أمك بيك..
هتف قاسم يوضح له ..
- علفكرة بقى.. مش زي ما انت قولتلي.. البنات بتدرب بمكان والرجالة في مكان... اهدي شوية يابوتوجاز..
.. يركب والآخر يركب خلفه على مضض، يتلبسه الغيظ والغضب
وللتو تذكر قاسم شيء فهتف بصوت مستفز ..
-آه م الحق يارا بتروح الجيم ده..
عقد زياد حاجبيه، يسأل
-يارا مين؟!
-يارا أختك...
قالها وانفجر ضاحكًا.. يقطع الطريق بدراجته وترك للأخر خلفه ندب حظه
- أختي ومراتي... ناقص المرة الجاية أخرج أمي من هناك.!!
....................
.. قررت الخروج مبكرًا.. استنشاق هواء الصباح النقي سيساعد على تحسين نفسيتها..
ملّت من الاضطهاد وكون أنها باتت منبوذة.. الوحيد الذي يعاملها بالحُسنى هو جدها... والآخرون يتجاهلو عودتها.. وجودها.. كأنها عدم..
ليتها ماعادت... معاملة قاسم الجافة لها تجلب الدموع لعينيها
تسير على غير هدى.. أي طريق والغرض الابتعاد عن البيت
الابتعاد عن مكان بات يخنقها كالسابق..
ماذا يفعل المرء وقت ان تضيق به الأماكن.. وينبذه الجميع..!
تسير بطرق لا تعرفها.. تسلك طريق آخر ظنت أنه مختصرًا للعودة..
ملابسها الرياضية تساعدها على السير بحرية مع خلو الطرقات من المارة..
توزع نظراتها بالشارع أمامها بشرود.. أحست بالتيه فالتفتت يمنةً ويسرةً،
وللخلف....
تصطدم بآخر.. تدقق.. تتسع عيناها، وتعود خطوتان للوراء..
ولسانها ينطق بصدمة..
- رامي..!
.. وبوقاحة متأصلة، عينان تشعان جرأة.. يهمس بفحيح..
- ووحشتيني
انتهى الفصل 🌹❤️
**"الفصل السادس
والعشرون" **
"التزموا الصمت.. فأنتم في حضرة الخذلان"
.................
- وحشتيني....
همسته كانت ثقيلة أشبه بفحيح شيطان وجد ضالته.. أجفلت وقتما رأته أمامها يظهر من اللاشئ.. فتراجعت خطوتان للوراء
صدمتها لم تدم طويلًا، لتهتف بازدراء .. تدّعي القوة..
-ليك عين توريني وشك..!
تتسع إبتسامة أعلى وجهه.. إبتسامة تناسبه كشرير حبكتها
لتهاجمها نوبة ضيق تغزو قسماته، وذكرى الخديعة مسطرة أعلى جبينه
تجاهل الضيق البادي على وجهها، ليتشدق بتصحيح مستفز..
-تؤتو اسمها وانت كمان وحشتني..
يشدّد على الحروف بوقاحة، بنبرة متحدية
نبرته هزت ثباتها الزائف، تحركت تنوي الابتعاد..
فتابع يحاول جذب انتباهها..
-في كلمتين هنقولهم في العربية..
-مفيش بينا كلام..
تهز رأسها بنفي صريح.. ختمته باستدارة سريعة سيتبعها ركض ..
- بالعكس ياعسل... داحنا الكلام بينا هيبتدي لسه..!
ولم يترك لها الفرصة لتفسير كلامه.. كاد لسانها أن ينطق بتساؤل
بتره وهو يجذبها من كفها بعنف..
يسير بها رغم محاولاتها العتيدة لسحب يدها من قبضته ولكنه كان متحكم بها.. تستغيث بنظراتها هنا وهناك ولكن الطريق كان خالٍ تمامًا،وانتهز هو الفرصة
تشبثت بساقيها أرضًا.. تحاول الثبات بخطواتها ولكن الغلبة كانت له.. وهو يسحبها لسيارته.. يحني رأسها كي تركب بالأمام بسيارته ويغلق بابها
لحظات وكان يستقل المقعد المجاور لها.. ساكنًا دون قيادة
أنفاسها كانت ثائرة، وخفقات نابضها تجاوزت المسموح..
صاحت بنفاذ صبر..
-اخلص وقول عايز ايه.. التمثيلية السخيفة اللي كنت عاملها انكشفت يااستاذ..
ضحك باستهزاء..
-آه ما أنا عرفت إن الـ... قلتلك..
ينطق بسبّة بمنتهى البساطة ولم يهتم باتساع حدقتيها حرجًا.. وخجلًا
.. ثم تابع بتهكم.. استهجان حاد..
- بس وحياتك عندي يانونو مسكتلهاش عاقبتها.. عاقبتها جامد أوي..
بهتت ملامحها.. تسأله بذهول شابه خوف
-عملت فيها ايه..؟
أمسك بعُلبة سجائر كان يضعها على مقدمة سيارته، ليخرج واحدة يشعلها على مهل، ولم يكترث باحتراق الأخرى بجانبه..
سحب نفس ثم نفثه أمامه بأريحية.. يميل بعينيه نحوها بمكر..
-هقولك..
يخبرها باستمتاع بينما يتأمل ملامح وجهها الشاحبة..
-جواب صغنن أد كدة.. وشوية صور لينا سوا بعتهم لاخوها الكبير..
وهو قام بالواجب....
شرد بذهنه بالفراغ.. تتسع ابتسامته تدريجيًا لتتحول لقهقهة وهو يخبرها..
- تقرير المستشفى بيقول ان الكسور اللي ف جسمها هتاخد سنين عشان تتعافى منها....
جمدت نظراتها ذاهلة، دون وعي همست..
-إنت مش طبيعي.. إنت شيطان..
ضحك بينما يثبت صحة كلامها بغرور..
-yes I'm devil ...
وكان محق. حقيقة مؤكدة يقولها بفخر، زهو وريث ابليس
وحالًا تفحصته، وهاته اللحظة تغيرت نظرتها.. هيأته، ضحكته.. البريق المخيف بسواد عينيه يخبرها بحقيقة كونه الجحيم فعلًا وشكلًا..
بأي ورطة أوقعت بنفسها، أكان ينقصها مصائب فوق مصائبها..
التقطت أنفاسها تحاول التهدئة.. تتشبث بثبات واهي لتردف..
-طب وإنت فاكر إنك هتهددني زيها.. ماخلااص أنا اتفضحت ف البيت واللي كان كان...!
ارتجاف كفيها، واهتزاز حدقتيها بخوف يراه جليًا بهما جعله يفرض سيطرته..
- إنتِ غيرها يانونو.... كل بنت وليها نقطة ضعف..
يكمل باستطراد خبيث..
- وكل بنت وليها لوية دراع..
يراها تبتلع ريقها ببطء فيعلم انه أصاب الهدف.. والهدف إثارة خوفها
هو يريدها كغيرها..
ورغم محاولات الثبات أمامه الا انها كانت مرتعبة..
- أنا مش هفيدك.. أنا مش شبهك ولا شبه هنا..
بتصميم يبصق حقيقة الأمر بوجهها
-هتبقى شبهها متقلقيش.. .
يتأنّي.. ينفخ المزيد من دخان تبغه بأريحيه.. ليتابع
-أنا و إنتِ هنعمل زي مابيقولو كدة صفقة متبادلة..
يقترب بجزعه من جلستها، يحاصرها، والخطر واضح بمقلتيه
-هديكي إللي ناقصك الحب والاهتمام والحنية..... ولو عايزة فلوس هديكي!
.. يثبت نظرته، ونبرته
- وف المقابل هتديني اللي انا عايزو ...
يرى انقباض ملامحها بصدمة، فيستكمل بوقاحة، يتلاعب بأنامله بالهواء
- هعلمك ازاي تعدلي مزاجي ، وتعمليلي الدماغ اللي عايزها..
وزاد قربه ليزداد ارتعابها.. ينفخ بوجهها ماتبقى من دخان... والرؤية صارت ضباب بعينيها.. ببطء يميل عليها..
- م الآخر كله بالمزاج... وللمزاج...
............ وبعد أقل من ساعة كانت بالقرب من بيتها.. ترى بوابته الكبيرة فـ أحست بالأمان..
تركها بعد أن أفرغ بعقلها كل سمومه.. حقيقته المُرة، شيطنة أفكاره، وقيمتها بنظره.. هي كـ غيرها..
تلك المرة كيف ستنجو..!! من أين ستأتي بالخلاص؟!..
كانت لحظة خطيئة... ذاقت لذة البداية، وأفاقت على صفعة الحقيقة..
هي لازالت صغيرة على كل مايحدث لها.. تبكي بداخلها على حالها
هي لاتستحق كل ذالك..
تقترب من البوابة الحديدية.. فتدفعها بكفها بإحباط ، تفتحها على مصرعها دون عناء غلقها، تصعد درجات السلم ببطء وتثاقل.. أصابها التيه واليأس..
درجة تتبعها درجة أخرى، حتى أتى هو بطولهِ الفاره
ينزل أمامها دون أن يراها كان لازال بأعلى السلم، مشغول بثني كُمي قميصه
خصلاته كانت مبتلة وقد استطالت قليلًا لتغطي أعلى جبهته بعشوائية لطيفة ، رفع رأسه بغته فوجدها أمامه، فغض بصره سريعًا
نظرته بل لمحته لم تتجاوز الثانية وهذا ما زاد من احباطها وخيبة أملها..
وحين وصل لدرجتها ألقت التحية بخفوت وصله..
-صباح الخير..
لم يرد التحية.. اكتفي بايماءة بسيطة من رأسه.. وحركة شفتيه دون صوت كأنه يجيب بداخله..
تسارعت خطواته للخروج،كأنه لايريد أن يجمعهما مكان!
يصفق الباب خلفه بعنف أجفلها.. ظلت واقفة مكانها متهدلة الأكتاف ، ترمق الباب بعين مغيبة وكأنها تراه خلفه.. ترى كسر قلبها
ومن قبلها بذات المكان إنكسار قلبه، وكأن التاريخ يُعاد من جديد
بأي غباء كانت تنوي الاستنجاد به..!!
..............
- أنا أستاهل فرصة..
قالها زياد بسخط ، يقين بأن الفرص خلقت من أجل استغلالها
هزت نيرة رأسها وهي تنظر إليه، تبسط كفيها أمامه
-طب ما أنا اديتك يازياد..!
وشاب نبرتها أسى، تتسائل
-هو انا عملت حاجة في حياتي غير إني بديك فرص..؟!
تجاهل مُرغمًا ضيقها الواضح، ألمها الذي ظهر بحدقتيها، ف أردف بنبرة مرحة..
-مروان محسن مش أحسن مني ف حاجة جاب شلل لإدارة النادي قبل الجماهير ولسه بردو بياخد فرص..
يشاهد انعقاد حاجبيها بعدم فهم.. فيشيح بكفه متابعًا..
-بلاش مروان... كريم بنزيما يااما ضيع فرص ودلوقتي ماشاء الله عليه
بقى هدااااف...
و"هداف" قالها بفخر.. يشير بيده على صدره العريض..
عبست بملامحها، تزيح خصلة شاردة خلف اذنها بحدة، واستائت من مزاحه، وتباسطه هكذا وكأنه ينتظر تمجيد..!
استقام بوقفته، يبتعد خطوة.. ومخطط بذهنه جاء من أجل تنفيذه
اختفت ابتسامته ليحل محلها انفعال خانق ..
-عمومًا أنا مش جاي اتلح عليكي ولا اتذلل خلاص يانيرة انتي حرة..
ثم اكمل مستطردًا بعد برهة صمت يرى تسائل على وجهها
- بس أنا بعرفك إني مش هروح تاني لقاسم خلاص..
الشو السخيف اللي إنتِ وهو بتعملوه عليا.... إنتهى لحد كدة...
كانت تعلم أنه لن يستطيع صبرًا.. خاصًة وأن قاسم حاد التعامل معه
فحديثه هذا لم تتفاجأ به، ورغم ذلك ارتدت قناع عابس مصطنع..
تحشر يدها بجيب بنطالها الضيق لتخرج منه مفتاح وتعطيه له..
-كنت عارفة إنك مش هتعمل عشان خاطري حاجه بسيطة زي دي..
اتفضل مفتاحك..
أمسك بكفها الممدود بكفه برفق، يطبق على مفتاحه ويعيد كفها ثانيًة إليها بالقرب من صدرها.. يستفهم بحزن
-وأنا مليش خاطر عندك وإنتِ بتهنيني بالشكل ده..!
العربية بقت ليكي خلاص يانيرة، إنتِ عارفة إني كنت ناوي اجيبلك عربية وليارا كمان لما تنجح..
لمعت عيناها ببريق خاطف، وقد انفرجت شفتاها بغير تصديق
توزع نظراتها المنبهرة بالسيارة الحمراء خاصته، أو التي كانت وبينه..
ولكنها تذكرت شيئًا.. فتماسكت وسألته بشك مضيقة أعينها..
-العربية دي كارت ضغط عليا؟!
تنهد بحرارة ليطرق برأسه أرضا بندم..
-أنا عمري ماهضغط عليكي تاني يانيرة، وبالنسبة للرجوع دي حاجة ف ايدك..
رمقها بنظرة جانبية مختلسة يرى تأثرها بكلامه، للتو انطفأت اللمعة بعينيها
وشحبت بشرة وجهها فجأة، يتفحصها بعين رجل خبير دون أن تلاحظ اكتناز ملحوظ بثغرها جعل جمالها مضاعف، وزيادة بنسبة معقوله بخصرها الذي تبدل كليًا بفضل الحمل، ليس اكتناز وإنما هو مايسمى ب " ورم الحمل"..
ماعليه من المسميات، سيحافظ هو بشكلٍ جدي على هذا بعد أن أعجبته هيئتها تلك..
ولا فائدة منه ولا رجاء.. سيظل الماجن ماجن حتى وإن كان بالفردوس..
عض على شفته، يُحجم أفكاره العابثة نحوها
عاد لاطراقه مقرًا بالندم والخجل.. يغمغم بأسف..
- خلاص انا معترف بغلطي.. الموضوع فعلا مش سهل
وامتلئت عيناه بدموع الحسرة..
- لا هيرجعه ندم أو أسف .. ربنا يوفقك في حياتك..
ودعها بعينيه، يعطيها ظهره.. يسير للأمام هكذا ببساطة ويتركها
وكانت تتوقع سيل من الاعتذارات ووابل من الوعود..
نبرته وحزنه هكذا أزعج قلبها الرقيق .. تبعته عدة خطوات ثم توقفت هامسه باسمه بصوت متحشرج..
- زياد..
توقف عن السير، يكتم ضحكة بداخله ود لو أخرجها.. استدار ببطء
-نعم..!
سألته بملامح شاحبة
- مش هتطلع لجدو..!
أخرج زفيرًا حادًا قبل أن يغمغم بحزن..
-لأ هتمشي شوية.. حاسس إني مخنوق...
.. والتفت يوليها ظهره، يبتعد شيئًا ف شيئًا عن مجال رؤيتها..
وأخيرا حرر ضحكة ماكرة، ينزع عن وجهه قناع الحزن ليعود العابث كما كان.... ليثبت نظريًا وعمليًا أن الطبع غلّاب.. يهمس بوعيد من بين ضحكاته
-ياانا ياانتو ياولاد الجزمة...
....................... ......
.. يقف أمام باب شقة زياد بتجهم، وقد عرف أنها اليوم ستبيت معه من خلال مراقبته لها، يزفر ضيقه في الهواء وينتشر في الأجواء..
يرفع يده ليضغط زر الجرس ولكنه يتراجع.. يعلم أن تلك الخطوة سيندم عليها كثيرا فيما بعد..
هي السبب.. ماسيفعله يرجع لرفضها له..
ماكان يجب من البداية أن تتلاعب به.. منذ متى والفتاه النائمة فازت على الذئب في روايته ..!
يقبض على كفه يستجلب الهدوء لاعصابه المشدودة.. بيده الأخرى زحاجتان من النبيذ الأحمر له سُكرة الخمر كي تنطلي خدعته على زياد..
سحب نفساً عميقًا لصدره، يتحكم بغضبه فيفشل واصابعه تلك المرة عاندته وضغطت على الجرس..
استند على الباب بعبثية مدروسة.. ينتظر، حتى فتح زياد الباب وتفاجأ
-عاصم..!
يبتسم عاصم بمكر.. يبرر وجوده
- اتخنقت م القعدة لوحدي قولت نسهر سوا..
مازال حاجباه مرفوعان يسأل بتوبيخ..
-طب مااتصلتش ليه؟ .. أختي هنا..
يجاهد بإخفاء انفعاله، ودقات قلبه صارت كطبل يدوي بصدره
يغمز..
-يعني أرجع؟
-يعني تيجي لعند الباب وتمشي.!!
ثم افسح له الطريق يشير للدخول..
- اتفضل طبعًا..
ثم ركز بما يحمله يستفسر ويعرف الإجابة..
-إيه اللي ف إيدك دول؟
- لزوم السهرة وكدة..
يهز رأسه مستنكرًا..
-سيبهم ع الباب أختي جوا..
يوافق دون مزيد.. يضعهم بالجوار وهو يغمغم بشقاوة
- ومالو نسيبهم ع الباب..
يزيد الآخر من أوامره..
-وأقعد بأدبك..
حينها تتسع ابتسامته بغرابة، يهاوده..
-حاضر هقعد بأدبي..
....يتبطأ بخطواته وزياد يسبقه للداخل.. على أتم الاستعداد للمواجهة..
وحين وصل للصالة بعد نداء زياد له ودعوته للدخول بعد أن أخبرها بالتأكيد..
وجدها تقف خلف زياد كالصنم، اصفر وجهها من الخوف وكأن الدم سُحب منها فصارت تشبه الأموات بهيئتها تلك..
يتحدى، يرمقها بعبث وخبث. يمشطها بنظراته.. ترتدي منامة قطنية بنطال كحلي برسومات نجوم لامعة يعلوه بلوزة صيفية بلون زهري وأكمام بلون ورسوم بنطالها..
-تعالى ياعاصم انت مش غريب..
قالها زياد ليقترب عاصم.. يجلس على الأريكة المقابلة لها..
ويبدو أن الصدمة ألجمت لسانها.. لم تنطق أو تتحرك انش عن وقفتها
لينهرها زياد بخفوت..
-عاصم يايارا... إنتِ عرفاه، متتكسفيش منه...
ثم يتابع ضاحكًا ببساطة يبدد حياء شقيقته قليلًا..
- اعتبريه زي أخوكي الكبير..
أطلقت نفسًا مرتجفًا، تزدرد لعابها بتوتر وبطء شديد تحت وطأة نظراته المراقبة.. تحركت تحث قدميها على السير وقد صارتا كـ هُلام، تنوي الاستئذان..
-طيب انا هسيبكم على راحتكم.. وادخل جوة..
نبرتها المتحشرجة وقسماتها المرتعبة ابهجته، يعلم أن لها وجهان
وجه تُخفيه.. عابث، شقى، لذيذ كـ حلوى القطن الزهرية وهو ما رآه منها..
ووجه آخر للمقربين كشقيقها والعائلة، وجهِ خجول، جيد.. برئ كـ براءة الحَمل..
يتشدق بتهكم والآخر لا يفهم، وحدها هي فقط من ستفهم..
-لااا.. هو إذا حضرت الشياطين ذهبت الملائكة ولا إيه؟!
ليغمغم زياد بحرج.. خوفًا من أن يكون عاصم قد أُحرج من استقبالها
-معلش أصل يارا خجولة شوية... ملهاش في السهر والقعدات المختلطة وكدة..
كادت ضحكته الرقيعة أن تنطلق.. تحكم بأعجوبة، يسخر بنبرة مبطنة
-ماشاء الله على الأدب..
-كويس طالما جيت.. يبقى نطلب بيتزا... إيه رأيك..؟
يتباسط بالجلسة، يأخذ راحته
-معنديش مشكلة..
ثم يلتفت زياد ليارا يسألها..
-يارا بيتزا معانا ولا إيه؟!
لا تقوى على النطق.. اومأت فقط، فهتف
- تمام...
.. ليمسك بهاتفه، يتصل بإحدى المطاعم للوجبات السريعة..
يملّي على العامل طلبه وينتظر رده..
غافل عن نظرات الآخر.. الجالس بجواره، الخائن بطبعه.. خائن مثله..!
يأكلها بعينيه، ذلك الوميض الخطير بمقلتيه يخبرها بأن حكايتهما لم ولن تنتهي.... والسهرة للتو بدأت..
............................
.. "بغرفة حنين"..
للتو انتهت من صلاة قيام الليل، وقد قطعت عهدًا على نفسها بالتزامها بالصلاة بعد أشهر من التقطع..
تجلس ممدة على فراشها. شاردة بالفراغ أمامها.. وقد وعدت جدها اليوم بأنها ستبدأ دروس ومذاكرة من أجل النجاح..
ستبتعد عن أي عبث قديم يبعدها عن حلمها الحالي وهو النجاح ونظرة الفخر ممن حولها..
ازعجها صوت هاتفها ينبأها عن وصول رسالة عبر تطبيق الوتساب...
فتفتحه لتفاجأ برسالة من رقم رامي.. وقد غفت تمامًا عن رقمه وأنه لازال مسجل بهاتفه..
كادت أن تمسح رسالته من الخارج ولكن فضولها غلبها.. لتدلف مترددة
تجده بعث فيديو إليها.. لا تدري لما انقبض قلبها هكذا.. دون شعور فتحت الفيديو.. ليصدر آصوات وقحة
ألقت بهاتفها بعيداً لطرف الفراش وكأنه حشرة تُلدغ، تنظر بصدمة واشتعال ملامح..
فما كان الفيديو سوى فيديو قذر له هو مع هنا يخفى وجهه ولكن صوته واضح..
اهتز الهاتف بوصول رسالة أخرى، اقتربت كالمغيبة وسيل من دمعٍ شق وجنتيها.. تقرأ رسالته الفجة بضبابية إثر الدموع..
- ها إيه رأيك.؟!
...............................
.." بعد أسبوعان"..
.. بمشفى كبير بقلب العاصمة، غرفة خاصة من أجل السيد كمال القاسم..
دخلها منذ قليل مع أسرته بعد استئصاله للمرارة بعملية جراحية، وكانت له فترة طويلة يُعاني من ألمها دون أن يعلم أنها أصل الداء..
وسريعًا حدد الطبيب موعد لإجراء العملية وأنه لايحبذ التأخير بحالته...
مستلقي على الفراش متأرجح الوعي وقد بدأ مفعول المخدر يتراجع ويظهر ألم الجراحة.. متغضن الجبين إثر الوجع، يلتفت لأمه القلِقة بجلستها أمامه فيهديها ابتسامة خافتة يطمأنها بها.. على فراشه بجوار قدمه تجلس نيرة تتحسس ساقه تمنحه دعم وهمي تبادله الابتسامة من حين لآخر..
تغمغم أمه بعدم رضا..
- عشان تبطل تكتم وتشيل في قلبك.. الحمدلله إنها جت ع أد كدة..
يجيب بخفوت متهدج..
- وده إيه علاقته بس ياماما.. هي كانت ملتهبة من زمان..
فتدخل نيرة تلوم بعتاب..
- انت كنت مقصّر بحق نفسك ياكمال.. حتى الكشف مكنتش بترضي تروحه..
يسأل، يتهرب بعينيه..
-قاسم فين..
تجيب نيرة ولازالت تمسد على ساقيه المفرودة بجوارها..
- نزل الحسابات وبالمرة هيجيب العلاج..
-السلام عليكم..
ألقاها زياد بمرح يدخل للغرفة والتحية موجهّة للجميع بما فيهم هي..
يتجاوزها عن قصد بعد عبوس ألقاه بوجهها، يربت ع كتف كمال بعد أن مال عليه قليلًا..
-حمدالله ع السلامة ياوحش..
-أهلًا بالصايع..
يغمغم بها كمال رغم تعبه ضاحكًا، يحب رؤية ذلك الفتى للأسف..
ليغمز زياد بعبثية..
- صايع بس لسة بمرارتي..
يعض كمال على شفتيه يمنع ضحكة لو صدحت سيتألم..
- متضحكنيش عشان الجرح..
يتهكم..
-جرح إيه ياكمال إنت هتستعبط دي مرارة..!
يتابع بشقاوة عفوية لتخفيف الجلسة
-اللي أدك دلوقتي شايلين ولاد ولادهم..
يقطع حديثه نبرة فاطمة تؤنبه..
- وأنا مفيش سلام ليا..!
يلتفت برفعة حاجب، غير متفاجأ ولكن لايبدو مهتم
يردف بنبرة عادية وهو يصافحها..
- أهلًا يامراة عمي.. عاملة إيه؟
تتعجب بداخلها، تمط شفتيها بضيق وهي تسحب يدها..
- مراة عمك..!! كويسة...
يبتعد ويعود لوقفته بجوار كمال، من أسفل رموشه يرى المحتقنة الجالسة بغيظ أمامه..
وقد قرر تجاهل ومزيد من الصبر، وبكل الحالات هي لن تعود له بتلك الفترة..
يرى ضغط شفتيها على بعضهما البعض، وفرك أناملها.. يود السلام والاحتضان، ولكن ستقابله بجمود
ينزعه كمال من مراقبته يأمره بلطف..
-اقعد..
ليرفع ساعة معصمه، يجيب
-لأ انا مستعجل.. ورايا شغل فوق دماغي أد كدة..
يستكمل بعد أن رمي نظرة للاخرى، نظرة بسيطة ولكن بين طياتها اشتياق
- هعدي عليك بالليل..
.. وغادر بهدوء بعد سلام بارد منه، هو لايدّعي بالفعل إشتاق
ولكن جزء من كبريائه يطلب منه الحفاظ على ماتبقى منه فاستسلم وسلم... يعلم أن قلبها رقيق لن تتحمل جفاؤه وستعود...
بالتأكيد ستعود...
.. بعد مغادرته كانت تجلس مكانها، تهز ساقيها بعصبية واضحة ليسألها كمال باهتمام..
- إنت تمام ؟!
رفعت حاجب، تُجيبه بانفعال واضح..
-آه تمام... تمام جدًا كمان..
...... بعد وقت قصير
كان قاسم يستند بساقه على الطرف الحديدي للفراش، يقّلب الأدوية
ويتفحصها مع نيرة.. يسأل
- واحنا هنعرف الأدوية دي بتتاخد أمته وازاي..
ترد..
-لما الدكتور يجي هسأله..
يتحرك من مكانه صوب كمال، يسأل باهتمام بالغ..
- انت كويس؟!
.. والأخير يهز رأسه بموافقة رغم تقطيب ملامحه من الألم..
- بقيت كويس شوية.. هروح أمته؟
يجيبه وهو يتحسس بشرة جبهته، يستشعر حرارته، ويمسح بعض حبات العرق المتناثرة بوجهه..
-الدكتور بيقول بالليل..!
يتركه ويلتفت لوالدته، والتي أرهقت من جلستها هكذا منذ الصباح الباكر.. فيشفق عليها..
-يللا ياماما عشان الولاد.. حنين ويارا مش هيسلكو معاهم..!
فيؤيد كمال كلامه..
- أيوة ياماما.. روحي إنتِ ونيرة أهي معايا..
......... ومع مرور الوقت، وقد أعطاه الطبيب مسكن هدأ جسده واطمأن على استقرار صحته، أخبره بأنه سيغادربالصباح أفضل له .. غفا لدقائق لم تطل، ونهضت نيرة من جانبه لتجلس على الكرسي المقابل تعبث بهاتفها وقد أصابها الملل كما أصابه هو الآخر..
يراقب الغروب من النافذة الزجاجية العريضة أمامه، يود النوم من أجل قطع الوقت..
ورغم سكونه إلا أن داهمت أنفه المتحسسة عطرًا خفيفًا مسكّرًا جعله يغمض عيناه بعدم تصديق، بالتأكيد تلك تهيؤات العملية والمخدر.. ولكن الصوت الناعم المغناج بطبعه جعله يلتفت كطلقة رصاص.
-مساء الخير...
وكانت هي ريم صاحبة الخيالات والتهيؤات وبطلة الهلوسة داخل غرفة العمليات كما ذكر الطبيب وهو يضحك بمرح..
كانت جميلة ناعمة على عكسه بتلك اللحظة كما يظن، حجابها الوردي زاد من وهج بشرتها البيضاء، وفستانها الطويل بلون ثلجي وكأنها أتت لتغويه
تسأله كيف سيستطيع المقاومة، وللأمانه هو لن يقاوم بالأساس..
حين لاحظت شروده وتجهم وجهه، سألت تجابهه..
- أدخل..!
لتنهض نيرة من مكانها، تُلقي بهاتفها جانبًا على الكومود الصغير.. تدعوها بود حقيقي..
-ياخبر... طبعًا أدخلي..
تدخل بهدوء وصوت كعب حذائها العالي ينقر بالأرض فيختل مابقى من توازن بداخله.. يردف بنظرات متسائلة
- عرفتي منين؟!
ترفع حاجبها المنمق تعاتبه..
- إيه... مكنتش عايزني آجي؟!
تدخلت نيرة تلطف الأجواء..
- في إيه ياكمال... تعالي اقعدي ياريم..
ثم استطردت..
- أنا بعتلها رسالة من شوية وعرفتها..
والتتمة استئذان مُتعجل..
-هنزل أجيب حاجة نشربها...
تقدمت ريم نحوه تسأله باهتمام.. وقد خرجت نيرة وأغلقت الباب من ورائها..
- طمني.. بقيت كويس دلوقتي!!
بخفوت أجاب..
- أحسن الحمد لله..
يجيب باقتضاب، دون أن ينظر إليها حتى..
فتلومه..
-تخيل لو مكنتش نيرة قالتلي مكنتش هعرف أصلًا..
صداع خبيث كاد أن يفلق رأسه، يضغط على جفنيه بشدة فتقترب أكثر
وعبق عطرها يزكم أنفه أكثر وأكثر، تلمس خصلات شعره القصيرة..
- أندهلك الدكتور..
برأسه يلعن ذلك الاقتراب.. جسده الواهن،
أليس من حق المريض العناق و القبلات..!!
ها هو وقد عادت الخيالات إليه من جديد، رجل شابت فؤديه يتخيل..!
تقطع تخيلاته باستياء ناعم..
- مش عايز ترد عليا... ع أساس إن مش انت اللي مزعلني..!؟
حاجباه ينعقدان بغضب وهو يرمق تلك المتبجحة..
-إنتِ هتنكري قولتيلي إيه...!
وقد لاحظت تشنج جسده، فتكلمت وهي ترفع ذقنها باعتداد
- عمومًا ده مش وقته ولا مكانه... بينا عتاب طويل أوي ياكمال
بس لما تكون كويس وتسترد صحتك..
.. وتحركت نحو حقيبة بلاستيكية لم ينتبه لوجودها بفضل تأمله بها،
تميل بخصرها تخرج محتوياتها أمام مقلتيه المشتاقتين وقد أذاق من شهد نعيمها ومازال المذاق عالق بقلبه... وكل حواسه..
تقترب، تضع عدة أطباق على الكومود المجاور له.. يسأل بجبين متغضن..
- إيه ده..
- عملتلك شوربة، وخضار سوتيه
يتهكم بسخرية لاذعة..
- وتعبتي نفسك ليه؟!
-تعبك راحة...
النبرة كانت صادقة حد اللاحد.. يلتفت، يدقق، يراقب وهج عينيها الصافي وهي تحدق به، فيرتبك وكأنه عاد مراهق يبلل شفتاه بعد أن شعر بجفاف،
- هتاكل اللي أنا جيباه كله... أنا اللي عملهولك بنفسي..
تثبت نظراتها بخاصته بجرأة وكأنها تخبره بأن لامفر من وجودها..
حاول النهوض من رقدته، يستند على ساعديه فيفشل بعد أن توجع بخفوت، ف انتفضت تقترب منه.. تسأله..
- أساعدك..!
ودون انتظار رده، كانت تساعده بالتحرك يستند على جزعها، حتى ارتفع قليلًا وبات وجهها بوجهه شبه ملتصقًا بعد أن عدلت الوسادة خلف ظهره..
طال عناق عيناهما ، وكم اشتاق لملامحها الجميلة، يبتلع ريقه الجاف على مهل، وقد انهارت مقاومته من هذا الاقتراب.. يُغمض عيناه
اللعنة لما لاتبتعد من أمامه.. ستتهاوى جميع حصونه أسفل قدميها هكذا..
وظلت هي على حالها.. والوضع بينهما كان قوب قوسين أو أدنى من التقبيل وتبادل الأنفاس و.....
دون طرق أو استئذان كانت نيرة تدخل مندفعة تحمل بين كفيها صينيه أعلاها اربع أكواب من النسكافيه..
تخشبت مكانها وقد أصابها الحرج من وضعهما.. تقاوم خجلها بمرح
-أنا جيت في وقت مش مناسب ولا إيه..؟
-آه....
خرجت بذات اللحظة من كليهما دون تخطيط.. فاحتقنت وجنتي نيرة خجلًا وحرجاً..
واستدركت ريم الموقف سريعًا فابتعدت ولاتزال بجواره.. تعض شفتيها بحرج شديد
-قصدي آه إنتِ اتأخرتي..
تأخذ منها الصينيه تسألها باستغراب..
- أربع كوبايات ليه..
لتضرب نيرة على رأسها وقد تذكرت..
-آه نور واقفة برة.. بتستأذن قبل ماتدخل..
.. والحمدلله أنها ظلت بالخارج.. لو كانت دلفت معها لكانت ماتت خجلًا من وضعهما..
ليهتف كمال بتأكيد
-قوليلها تدخل طبعًا..
.. هتفت نيرة باسمها، فدلفت على استحياء مبتسمة بحلاوة ملامحها..
تقترب بوقفتها من كمال، تغمغم باهتمام..
- حمدالله ع سلامة حضرتك ياأستاذ كمال..
فيرد هو بامتنان شاكراً..
- الله يسلمك يانور... شكرًا ع سؤالك..
"نور" يناديها نور، وأمامها، لما لا ينادي باسمها كاملًا
أو لا ينادي بالأساس.... ماهذا؟! أهي تغار..!
تدقق بنورهان، أنثى لطيفة، جمالها هادئ، ذلك الجمال الذي تراه فتشعر بالراحة وتعطيها القبول..
على حسب ذاكرتها بعد زواجها من كمال بوقت بسيط كانت غادرت المنزل بعد أن عرفت بأن أكرم سيطلقها، ويبدو أن الطلاق لم يتم بفضل وجودها وزيارتها لزوجها...
جذبتها نورهان وهي تمد كفها تنوي المصافحة..
-ازيك ياريم..
قابلت ابتسامتها بإبتسامة متكلفة، تمد يدها..
- انا الحمد لله.. إنتِ عاملة إيه؟!
.... وجلستهما معًا كانت خفيفة، يتبادلون الأحاديث الودية بينهما..
سلام وكلام وضحكات غنجة ورقيقة، وكمال يراقب باهتمام..
عيناه لاتترك تفصيلة واحدة بوجهها أو بحركة جسدها..
وريم والتي كانت مستاءة من حضور نورهان، وغيرتها على كمال
أشرقت ملامحها وزادت هدوءً بعد أن أكتشفت أن تلك ال" نورهان" فعلًا
لطيفة وخجولة..
وقفت نورهان تنوي المغادرة بسبب تأخيرها.. فاحتضنتها ريم وقد احبتها بالفعل، يتبادلن الأرقام..
وتبعتها نيرة إلا أن نورهان رفضت ولم تكن تريد ارهاقها، يكفي حملها..
......
.. خرجت من الغرفة، تسير بخطوات هادئة بالرواق وقد اتبعت طريق الدرج فالمصعد مشغول ولن يفرغ لوقتٍ ليس بقصير..
تميل بجسدها مع انحناء الدرج، تستند على السور خاصته، عدة درجات وكان أمامها..
اتسعت عيناه بمفاجأة، كانت مفاجأة حلوة.. يراها أمامه فتسبل أهدابها خجلاً، تعلقت عيناه بها، حجابها النبيتي الرقيق وملابسها المحتشمة والتي تليق بها وبشدة..
يصعد يتجاوز الدرجات، يأكل المسافة الواسعة بينهما بقدميه وهو يمد كفه يصافح فأعطته كفها بتردد.. فاختطفه يحتويه بكفه وطال، وقد أسره ملمسها الناعم ، تقريبًا كان لاينوي تركه..
توردت رغمًا عنها لتهمهم وهي تسحب يدها بأعجوبة..
-كنت بزور أستاذ كمال..
أكيد هي هنا لزيارة شقيقه، ماذا ستفعل هنا
بدلاً من أن تسأل عن حاله.. وكأنها بالأمس كانت نائمة بأحضانه..
تنهد بقوة، يسأل باهتمام..
- عاملة إيه؟
وبسؤاله يعنيه، فهو لم يرها منذ فترة، وكان آخر مابينهما اتصال هاتفي
وقت حادث ابن خالها.. ترد بخفوت..
- الحمدلله..
-أوصلك.!
- لأ.. شكرًا..
.. النبرة ممتنة دون ضيق وهو أراد ألا يضغط عليها فتستاء من جديد
أفسح الطريق لها، فنزلت تحت نظراته المراقبة
ولم يستطع التجاوز فعاود عرضه..
-أوصلك وارجع تاني.. مفيش مشكلة..!
-لأ بجد.. أنا عايزة أمشي شوية وبعدين هركب..
أومأ برأسه متهمًا، تريد الوقت الكافي، وسيعطيه لها والوقت كفيل باذابة جبل الجليد بينهما..
تعطيه ظهرها وتتابع نزولها وعند استدارة السلم.. التفتت له تناديه..
- أكرم..
وحينها نزل لمستواها، يقابلها ويفصل بينهما درجة واحدة، تلك الدرجة كانت كفيلة بأن يرى بوضوح ذلك الوهج اللامع بعينيها والذي لاتشوبه شائبه، وهج له ذوبان العسل بغابات الزيتون..
يسأل بعينيه، ولكنها كانت منشغله بحقيبتها، تعبث بمحتواها إلى أن أخرجت علبة مستطيلة من المخمل الكحلي.. تعطيها له على استحياء وقسمات متوترة..
يسأل بضيق عيناه..
- إيه ده؟!
تغمغم بصوت خفيض تنتظر رأيه..
- هدية... كنت حاسة اني هشوفك انهاردة..
يفتح العلبة أمامها باهتمام وبطء، حتى تفاجأ بقلم رفيع بلون ذهبي لامع
أنيق بشكل جذب نظره للوهلة الأولى، رغم أنه صعب أن يُجذب بأي شئ..
تمتم بصدق وهو يقلب القلم بأصابعه بخفة..
- جميل أوي..
تختلس نظرة جانبية نحوه وهو منشغل بهديتها لتميز اناقته البسيطة التي تشبهه،
تعلم بأن القلم سيعجبه، تفهم ذوقه جيدًا.. لذلك وقت أن رأت القلم قالت هو له..
رمقها بنظرة ثاقبة ليهمس بجدية..
- أجمل هدية جاتلي..
وحقيقةً كان لا يكذب، التماع بؤبؤ حدقتاه وابتسامته الواسعة التي تخترق قلبها كشعاع نور جعلتها متيقنة من صدقه..
أسبلت عينيها بحرج وهي تلتقط اقترابه منها، ياويلها بالتأكيد سيسمع ضربات قلبها الغبي عديم الكرامة...
ابتعدت خطوة، فـ افتر ثغره عن بسمة ممتنة..
-شكرًا...
ابتسمت برقة لتهنس بعفوية وكأنها اعتادت ع الجملة..
- من بعد خيرك..
تبدلت ملامحه الرائقة للنقيض.. شعر بأنها تلمح على معاملته بالسابق..
ولكن تورد وجهها وابتسامتها الصافية نفت شعوره..
-عنئذنك..
وتحركت، تنزل من جديد.. عدة درجات وكان يستوقفها مرة أخرى..
-نور..
فاستدارت بعد أن اتسعت ابتسامتها.. يخبرها بتباسط..
-أنا غيرت رقمي..
-بجد!!
بللت شفتيها لتتابع بارتباك..
-طب ممكن تديهوني عشان لو عوزت..
يقاطعها بنبرته الحاسمة كما قاطعها بخطواته..
-لو عوزتي اي حاجة تتصلي..
عضت على شفتيها بنزق...
-بس انا مش معايا ورقة..!
-ملهاش لازمة..
وقبل أن تتسائل او تسأل كان يمسك كفها برفق، يضعه بين كفه
وبكفه الآخر يكتب بقلمها التي اهدته له للتو على كفها
نقر القلم على كفها يدغدها، واقتراب بذلك لشكل أرسل قشعريرة بسائر جسدها.
تعض على شفتيها وقد اشتعلت ملامح وجهها كلها..
عيناه لاتحيدان عن وجهها المتلون بكل ألوان الطيف، يعلم مدى تأثيره
يتلكأ بكتابة الرقم.. إلا أن انتهى يبسط كفها ويعيدها إليها برفق مثلما أخذها..
-لما تروحي سجليه..
تهز رأسها، وهي تتحرك.. وتلك المرة تسرع بنزولها
تبتسم ابتسامة بلهاء حالمية، تضم كفها لقرب قلبها وملمس كفه لازالت تستشعره، ورائحة عطره.....
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق