expr:class='data:blog.languageDirection' expr:data-id='data:blog.blogId'>

"و قبل أن تبصر عيناكِ" بقلم مريم غريب~ ¤ تمهيد والبارت الاول¤ ~كامله على مدونه النجم المتوهج للروايات



 "و قبل أن تبصر عيناكِ"

~ ¤ تمهيد والبارت الاول¤ ~

بقلم مريم غريب

المكان : حي ستانلي / الأسكندرية

الزمان : عام 1986 أوائل شهر تمّوز 


هكذا بدأ الأمر... برؤيتها مصادفة و هي تسير ضمن مجموعة صغيرة من الفتيات اليافعات في مثل سنها تقريبًا فوق جسر المدينة الساحلية الشهيرة 


لم و لن ينسى حتى أدق التفاصيل لهذا النهار أبدًا.. فستانها الزهري المزيّن بالورود البيضاء.. شعرها الأشقر الطويل مرفوعًا على شكل ذيل حصان و مربوطًا بمشبكٍ من الصدف.. عيناها الواسعتان كمحيطٍ أسفل حاجبين مرسومين بدقةٍ.. و الأنف حادٍ صغير ينحدر إلى فمٍ مكتنزٍ تغطيه طبقة من طلاء الشفاة فاقع الحمرة 


كانت بشرتها البضّة الناعمة حيث كانت مكشوفة الذراعين و الساقين متلألئة تحت آشعة الشمس الساطعة... ضحكتها الجميلة و المسموعة تعزز من تألقها و تميّزها بين قريناتها.. كانت أجمل منهن... بل أجمل نساء الكون في نظره يومها و حتى أخر عمره 


بهذا الشكل إجتذبت إنتباهه.. و هي تمشي في خط و في يدها كأسًا من المثلجات تأكله و تضحك في آن... بينما هو يمشي بالخط الآخر مهرولًا يحاول اللحاق بمعيادٍ هام 


لحظة أن وقعت عيناه عليها نسي كل شيء... حرفيًا كل شيء.. جمد بمكانه كالصنم يحملق فيها فقط.. مرّ الوقت و هي تتهادى في خطواتها بتمهلٍ 


كانت تمضي و تذهب أمام ناظريه.. و لا يعلم أيّ قوة دفعته لتغيير مساره فجأة لينتقل إلى الجانب الآخر و يسير في إثرها متتبعًا خطاها دون أن يبدو عليه بأنه يراقبها 


مشى بشوارع و أماكن لا يعرفها.. لم يكن يلاحظها أصلًا... تركيزه كله مصوّبًا نحوها.. قضى أكثر من ساعة في تقفي أثرها... لكنها و لحسن حظه كانت أول من وصلت إلى بيتها.. و الذي لم يكن سوى عمارة فخمة بضاحية راقية تعرّف عليها لاحقًا 


ودعت صديقاتها مكتفية بالتلويح لهن.. ذهبوا... فدخلت هي.. ما كادت تصل أمام المصعد الكهربائي تمامًا إلا و أحست بتلك القبضة الفولاذية تحاوط رسغها على حين غرة 


لم تعرف كيف كتمت صرختها الملتاعة، في نفس اللحظة تجتذبها القبضة بقوةٍ و تلصقها بالحائط الرخامي في زاوية معتمة... كان هناك شعاعٍ كفاها لتبيّن هوية ذاك الجريئ الذي حرى بها أن ترتعب منذ أول وهلة بين ذراعيه بل و تصرخ لتفضح أمره


لكن عوض ذلك بقيت ساكنة تمامًا تحدق، في وجهه الطويل ذي القسمات القاسية الجذّابة.. و تلك العينان العسليتان بمسحة غامضة 


كانت مضطرة أن تتطلع لأعلى حتى ترصد كل هذا.. فقد كان طويل القامة و ضخمًا بصورة مخيفة و مطمئنة في آن... فهي للحق لم تكن تشعر بأيّ تهديد من جانبه.. إنما الاستسلام.. و الاستسلام التام فقط لسيطرة خفية تنبعث منه و تجبرها على الخضوع و الترقب هكذا ... 


لم تشعر بالملل أو الخطر لدوام الوضع المريب الذي جمعهما.. لم تشكو و لم تتحرك قيد أنملة... حتى قرر أن يكسر الصمت ناطقًا بصوته الغليظ الجاف : 


-تتجوزيني ! 


جحظت عيناها و هي ترمقه بذهولٍ محاولة إستيعاب ما يحدث كله ... 


من هذا المجنون ؟ بِمَ تفوّه للتو ؟ هل طلب منها الزواج حقًا... غريب يظهر أمام وجهها من العدم.. يطلبها للزواج بمدخل العمارة و بهذه الطريقة اللامعقولة !!! 


من يكون بحق الله !!!! 


°°°°°°°°°°°°° 


-سالم الجزار ! .. قالها معرفًا عن نفسه بتفاخرٍ لا ينأى عن الغرور 


كان يجلس بصالون منزلها، يضع ساقٍ فوق الأخرى.. أمامه يجلس والدها الباشا.. رجلٌ أشيب في أرذل عمره... لكنه لا يزال محتفظًا بهيبته و عنجهيته المتوارثة بعائلته عثمانية العِرق.. أصيلة الحسب و النسب.. رفيعة المستوى ذات الثراء الفاحش 


تركيبته الأرستقراطية المتغطرسة لم تكن عصية الفهم على رجلٌ مثل "سالم الجزار".. فهو منذ أبدى رغبة في الزواج من كريمة هذا البيت، تمكن بسهولة من تخمين شخصية والدها لحظة أن تلقّى جوابًا بالرفض لأول مرة على طلبه 


لولا أن تشبثت الإبنة بقرارها بل و أقدمت فعليًا على الإنتحار بقطع شرايينها.. أنقذوها الأطباء بشقّ الأنفس و قد أدرك والدها بأنه ليس أمامه خيارٌ آخر غير الإذعان لمشيئتها 


في النهاية هي إبنته و وريثته الوحيدة.. ليست لديه أيّ نيّة لخسارتها... لذا وافق على مقابلة ذاك الشاب الأدنى شأنًا و مكانةً بالمقارنة بابنته و به هو شخصيًا.. بنظره كان الاختلاف بينهما مثل اختلاف المشرق و المغرب.. رغم أن الأخير أوضح له بأنه ثري أيضًا و يمتلك بعض المنشآت الشهيرة 


لكنه ظل بعينيّ الباشا صغيرًا.. مثل صرصورٍ كما نعته مرةً أمام إبنته ... 


-أنا عارف إنت مين ! .. قالها الباشا بلهجته الجلفة النزِقة 


جللت تعابير الأزدراء وجهه و هو يستطرد ممعنًا في تحقيره : 


-أحسن تكون فاكر إني ممكن أسمح لكل من هب و دب يدخل بيتي بالبساطة دي..و الحقيقة بردو إنك غير مؤهل للدخول. و في ظرف تاني و لا عمرك كنت تحلم تقعد قدامي حتى 


يتكلّف "سالم" الابتسام و هو يرد عليه ببرودٍ : 


-بس أهيه الظروف حكمت يا باشا. و أديني قاعد قدامك. في بيتك.. و يشرفني طلب إيد الأنسة كاميليا بنتك.. و ده بعد موافقتك و مباركتك طبعًا 


شد الأخير على فكيه و هو يصعقه بنظراته، ليقول فجأة بغضبٍ بَيّن : 


-منغير سخافات و كلام متزوّق مالوش لازمة.. إنت عارف كويس إني إستحالة أوافق أو أبارك جوازك من بنتي. أنا مش عارف إنت طلعتلها منين. و إزاي هي بصت لواحد جربوع زيك لا له أصل و لا فصل 


حلّ الصمت بينهما للحظاتٍ، وحده الباشا من ظهر عليه الانفعال المضمر.. بينما "سالم" هادئ... مسالم كأسمه.. لم يكن من السهل إثارته على أيَّة حال.. على عكس الأخير 


لا يزال "سالم" محافظًا على إبتسامته الخفيفة و هو يقول بفتورٍ استفزازي : 


-لو كنت هاعتب عليك في حاجة يا باشا ف هاتكون على سوء ظنك في أصلي ! .. ثم قال بقسوةٍ تعززها نظراته الواثقة : 


-مافيش حد في بر المحروسة مايعرفش عيلة الجزار.. و على راسهم أنا. سالم الجزار إللي النطق بسيرته بس يهز رجالة بشنبات .. 


و لوى ثغره بابتسامة خبيثة و هو يشير ضمنيًا لشارب الباشا الكث المنمق : 


-مع إحترامي لسعاتك يعني.. عمومًا أنا عاذرك. لأنك لسا ماعرفتنيش كويس 


إبتسم الباشا بتهكم قائلًا باستخفافٍ : 


-إطمن. أنا نظرتي ماتخيبش.. و عمر رأيي فيك ما يتغير. أنا واثق إن بنتي هاتفوق لنفسها بسرعة و ساعتها هايبقى مني ليك يا.. يابن الجزار 


هز "سالم" رأسه مجاريًا إياه و قال : 


-مني ليك دي في أي وقت يا باشا.. بس إللي عاوزك تتأكد منه. إني هاشيل كاميليا في عنيا و في قلبي. أنا بحبها بجد. و لو أطول أجبلها من السما حتة 


و من جديد ساد صمتٍ آخر... بقى الباشا خلاله يرمق "سالم" بنظراته الثاقبة.. إلى أن قال مادًا عنقه للأمام قليلًا يحذره و يرهبه في آنٍ : 


-كاميليا بنتي الوحيدة. و من بعد موت أمها بقت هي إللي بقيالي. من صغرها طلباتها مجابة و زي ما بتقولوا بالبلدي هي الحيلة.. لو فكرت في يوم تزعلها لأي سبب. أو تئذيها بأي شكل ... 


-ماتقلقش يا باشا ! .. قاطعه "سالم" و طمأنه هكذا 


-بنتك مش هاتشوف في حياتها معايا إلا كل الهنا إن شاء الله ! 


°°°°°°°°°° 


و على هذا النحو إستمرت المعركة الصامتة بين الرجلين و بيّد أن النزاع على "كاميليا" لن يخمد أبدًا بوجود كلاهما بحياتها.. إذ لا بد أن ينسحب واحدٌ منهما حتى ينتهي، و لكن الأمر غالبًا لا يسير بتلك البساطة 


تم الزواج خلال مدة قصيرة، و أقيم حفلٍ عائلي بسيط بمنزل العروس ضم قسمًا من عائلتها المرموقة، و إخوة العريس الثلاثة قد حضروا من بلدتهم أيضًا.. رغم أن "سالم" أبدًا لا يظهر مشاعره للأخرين 


إلا أنه عليه الإقرار بأن لولا مجيئ إخوته لكانت أصابته خيبة أمل و حزنٍ شديد.. صحيح لم يكن ليعبر عنه بأي طريقة... لكن آثاره كانت لتبقى غائرة بداخله لأمدٍ طويل 


لكنهم في النهاية جاءوا و عاضدوا أخيهم بحيث لم يتسنى للباشا التفوّق عليه من أيّ جانب.. كان ندًا له... و بأخر السهرة صافحه "سالم" و في عينه لمعة الإنتصار 


عروسه تتأبط ذراعه و بدوره يأخذها من بيت أبيها و حصنه المحرم لتعيش تحت سقف بيته هو كزوجة و شريكة له.. شريكة في كل شيء ... 


-أنا لحد دلوقتي مش مصدقة !! .. قالت "كاميليا هذه العبارة عندما إنفردت هي و زوجها ببيتهما الخاص 


كانت تقف أمامه بغرفة النوم ذات الاضاءة الصفراء الخافتة.. لا تزال في ثوب الزفاف، بينما هو يغلق باب الغرفة و يسير نحوها و هو يفك زر ياقته و يسحب ربطة عنقه ... 


-إيه بالظبط إللي مش مصدقاه يا حبيبتي ؟! 


وقف قبالتها تمامًا، حاوط خصرها بذراعه و قربها إليه بلطفٍ فصارت ملاصقة له.. تشعر بالدفء الذي يبثه فيها جسمه الصلب ... 


إزدردت ريقها و هي تشعر بتوترها يتصاعد لتقول دون تفكيرٍ محدقة بعينيه العسليتين حادتي النظرة : 


-كل إللي حصل.. مش قادرة أصدقه. كأنه حلم.. إنت عملت فيا إيه يا سالم.. أنا ما يوم ما شوفتك. لحد اللحظة دي مش قادرة أنطق ! 


علت زاوية فمه بابتسامة خبيثة و هو يرد عليها بنعومةٍ : 


-ماتبالغيش أوي كده.. ما إنتي بربانط أهو و حسك طالع و بيسحرني كمان 


هزت رأسها قائلة بتوضيحٍ : 


-مش قصدي.. أنا عاوزة أقول إني مذهولة. قابلتك بطريقة غريبة. قضيت معاك فترة قصيرة و يدوب عرفتك.. كنت بستجيب ليك في أي حاجة تقولها. ماشية وراك زي العامية و إنت الدليل.. إزاي مسيطر عليا بالشكل ده ؟!! 


أصدر "سالم" ضحكة خافتة، ثم طبع على خدها قبلة متوددة.. و همس بعدها فوق شفاهها : 


-عارفة ده إسمه إيه ؟ ده إسمه الحب.. الحب من أول نظرة زي ما بيقولوا. مش صدفة إني أشوفك و أمشي وراكي و إنتي كمان تقفي بين إيديا و تسمعيني كأنك تعرفيني. مش صدفة يا كاميليا.. إحنا إتخلقنا لبعض. و لقانا كان بمعاد ! 


كان لكلماته وقع السحر عليها.. كأنه يُلقي بتعاويذ... لم يسعها إلا تصديقه و التجاوب معه.. حين إرتفعا كفّاه باللحظة التالية ليحيط بوجهها، و يرفعه كي ما يتمكن من تقبيلها تلك القبلة الشغوفة التي تاق لها منذ رآها، و أدخر معها كل أشواقه و وصبه إليها 


و كعهدها معه.. أبدت إستسلامًا فوريًا و تركته يغزو القلاع و الحصون رافعًا رايات ملكيته عليها كلها.. من الرأس لأخمص القدمين... صارت ملكه ! 


°°°°°°°°°° 


لم يمر الكثير... فقط ثلاثة أشهر تلت ليلة الزفاف.. و أعلنت "كاميليا" لزوجها في عشاءً رومانسي عن خبر حملها.. ثمرة حبهما التي إستقرت بقرارٍ مكينٍ بداخلها 


كانت فرحته لا توصف..و كأن الدنيا كلها لا تساعه بها، و من يومها صار يغدق عليها المزيد من حبه و إهتمامه، حنى أنه بعث في طلب المزيد من الخدم ليوفر لها كل سُبُل الراحة 


حتى وضعت بعد ثمانية أشهر طفلًا ذكرًا أعطاه والده إسم "رزق".. لم يعجب الاسم جده الباشا بالمقام الأول، حتى أنه أعترض عليه صراحةً، لكن "سالم" لم يعبأ لاعتراضاته و تصرف كأنه لم يسمع شيئًا، مِمّا أزاد العداوة و البغضاء بينهما ... 


-إشمعنا رزق يعني يا سالم ؟! .. تساءلت "كاميليا" و هي تجلس بالفراش و ترضع صغيرها الذي حمل تفاصيل جمالها متشكلة بملامح أبيه 


تلقّى "سالم" سؤالها و هو يمشط شعره للوراء تحضرًا للمغادرة، ليرد عليها ناظرًا إلى إنعاكسها بالمرآة : 


-عشان إتمنيته كتير من ربنا و رزقني بيه.. عشان كده سميته رزق يا كاميليا. فهمتي ؟ 


همهمت بتفهمٍ : آاااه. عاوز تقول يعني إن كان نفسك أول خلفتك تكون ولد.. أنا كان نفسي في بنت بصراحة. بس لحظة ما شوفت رزق و ضميته في حضني. نساني كل حاجة ! 


و ألقت نظرة في وجه طفلها البهيّ، بشرته البيضاء و شقرة رأسه، و زرقة عيناه المماثلة لعينيها.. شعرت و كأنها تحمل قطعة من روحها ... 


-بابا كان عاوز يسميه طارق ! .. هتفت "كاميليا" و هي تعاود النظر تجاه زوجها ثانيةً 


يلتفت "سالم" لها الآن معلّقًا باستنكارٍ فج : 


-طارق ! إيه طارق ده.. لأ يا حبيبتي هو رزق. رزق سالم الجزار. أبوكي مش عاجبه الاسم دي مشكلته بقى مش مشكلتي أنا 


لاحظت "كاميليا" بوادر إنفعالٍ تطفر على ملامحه، فهدأته فورًا : 


-خلاص خلاص.. إهدا حبيبي. محدش يقدر يتكلم معاك أو يعارضك أصلًا. إنت جوزي و أبو إبني دلوقتي.. إحنا الاتنين ليك و بس ! 


نجحت بمسعاها و سرعان ما سكت عنه الغضب، لتستطرد بعد برهة و هي تتأمل مظهره المتأنق : 


-إنت بردو مصمم تسافر.. مش واخد بالك إن رجلك خدت على القاهرة الفترة دي كتير أوي يا سالم !! 


تنهد "سالم" بثقلٍ و هو يمضي ناحيتها، جلس مقابلها على طرف السرير و قال بجدية : 


-ماتنسيش إني أصلًا منها. و أهلي و ناسي كلهم هناك.. لازم من وقت للتاني أروح أشوفهم و أطمن عليهم. إنتي كمان مكانك معايا هناك. بس شرط أبوكي عشان يوافق على جوازنا كان إنك ماتبعديش عنه و تفضلي جمبه هنا في إسكندرية.. حتى شرط عليا أجبلك بيت جمب بيته و حصل. أنا وعدته إنك مش هاتسيبه. و أنا مابخلفش بوعدي.. بس بردو يا كاميليا أنا مقدرش أقاطع أهلي عشان بحبك و إنتي مش عايزاني أبعد عنك 


كاميليا بلطفٍ : حبيبي أنا ماقولتش تقاطعهم.. أنا بس زي ما إنت قلت بحبك و مش بستحمل تبعد عني كتير. هو ده بس ! 


ابتسم "سالم" لها بحبٍ و رفع يده و داعب خصيلات شعرها الذهبية متمتمًا : 


-ماتقلقيش.. أنا مش هتأخر عليكي. يومين و هارجعلك ... 


ثم أخفض رأسه لينظر إلى الرضيع و يهتف مخاطبًا إياه بصرامةٍ : 


-و إنت يا باشا.. خلي بالك من أمك في غيابي. أنا سايب راجل سامعني ! 


و ضحكا الزوجين بمرحٍ ... 


°°°°°°°°°° 


تعاقبت الأيام و السنوات و طالت العِشرة بينهما.. كبر طفلهما فلما أتم التاسعة كان جده قد فارق الحياة 


جده الذي أحبه كثيرًا رغم إنه يذكره بالحقير الذي سرق إبنته.. لم يستطع إلا أن يحبه و يعلمه كل ما تمنى أن يزرعه في صبي من صلبه.. كان "رزق" بالنسبة للباشا هو الولد الذي لم ينجبه 


أعطاه كل شيء.. و علمه كل شيء نافع... فحاز على بطولاتٍ شتَّى في السباحة و الرماية و الفروسية.. كان ذكي و فطن فقد تعلم كل هذا بسرعة و في سن مبكرة 


لطالما كان يفخر به الباشا و يقدمه للجميع بأنه حفيده و وريثه، علّق عليه آمال و طموحات كثيرة، و كان يتطلع لبناء مستقبلًا عظيمًا له... لكن قدر الله نفذ، رحل الجد، و حزن الحفيد عليه حزنًا جمًّا 


لولا وجود والده الذي لا يقل حبه في قلبه مثقال ذرة عن حب جده، لكان أصيب بنوبة إكتئاب.. كان "رزق" يعتبر نفسه طفلًا محظوظ، إذ حاوطه الحب و الدلال من جميع الجهات، من والديه و من الجميع.. كان صاحب حضور ساحر، و كأن الله قد ألقى عليه بمحبة من عنده، فلم يراه أحد إلا و دخل قلبه مباشرةً ... 


°°°°°°°°°° 


-إحنا رايحين فين يا مامي ! .. تساءل "رزق" بصوته الطفولي و هو يجلس بالمقعد الخلفي لسيارة أبيه 


برز صوت "سالم" أولًا يزجره : 


-كبرت على مامي دي يا رزق.. إسمها ماما يا ولد 


تدير "كاميليا" رأسه نحوه و تجيبه بصوتها الرقيق : 


-رايحين نزور أهل بابا يا حبيبي.. مش كان نفسك دايمًا تزور نينة و أعمامك ؟ 


اومأ الطفل بحماسة، فابتسمت أمه قائلة : 


-أهو بابا واخدنا القاهرة عشان نشوفهم و نقعد معاهم شوية ... 


و حوّلت بصرها إلى زوجها مضيفة بغبطة : 


-أخيرًا هاشوف أهلك.. ماتتصورش فرحانة أد إيه. هايبقوا أهلي أنا كمان ! 


°°°°°°°°°° 


و لكن ... 


كم هي قاسية خيبة الأمل.. بل... كم هي قاتلة الخيانة !!! 


بعد كل تلك السنوات.. بعد كل هذا الحب و الغرام... يتضح بأنه كاذب و خائن !!!!! 


يأخذها من بيئتها الراقية و يضعها هنا بمنزلٍ كبير و مشترك في حي قذر يزعم بأنه زعيمًا عليه... لم تكاد تفيق من الصدمة الأولى حتى ألقى عليها بالثانية، و بمنتهى البرود يقدم لها أولاده الصغار من زوجته الاولى التي تأخرت بالإنجاب ! 


قدمها لجميع العائلة بينما هي كالصنم تجاهد حتى لا يغشى عليها.. ليتحجج هو بارهاق السفر الذي ألمّ بها و يأخذها إلى جناحه الخاص 


يغلق عليهما الباب، يلتفت إليها فيجد وجهها محتمدمًا بحمرة خطيرة.. لقد كسرت الحد الأقصى من ضبط الأعصاب بالفعل.. ليدعو الله ألا تخسر حياتها بسببه الآن ... 


-إنت خدعتني ! 


قالت كلمة واحدة لخصت فيها كل شيء 


ظل واقفًا أمامها بثباتٍ و قال بهدوء : 


-أنا حبيتك بجد.. و ماتقدريش تنكري ده. و لا تنكري إن سعيت بكل ذرة فيا عشان أسعدك طول العشر سنين إللي عشناهم سوا 


-تطلع متجوز عليا و مخلف كماااان !!! .. هكذا إنفجرت بوجهه صارخة 


-كل ده و إنت آ ا ... 


لم تكلمها، إلا أخرسته صفعة عنيفة من كفه نزلت على وجهها فأطاحت به 


جحظت عيناها بصدمة، تلمست مكانها و هي تعاود النظر إليه باستنكار جنوني.. بينما يردد بلهجة هادئة لا تخفي غضبه المضمر : 


-صوتك.. أنا هنا كبير العيلة دي. مش بس العيلة.. المنطقة كلها بتاعتي كبير قبل صغير مايقدرش يفتَّح عينه فيا.. أول و أخر مرة هاحذرك تعلي صوتك عليا يا كاميليا.. دلوقتي هاسيبك تهدي. بعدين نتكلم و نتعاتب زي ما إنتي عايزة. بس إوعي تنسي تحذيري ! 


و إستدار بمنتهى البرود و خرج من الغرفة 


لتبقى هي بمكانها، تحدق في إثره مجزمة بأنها لا تعرفه.. هذا الرجل ليس زوجها، ليس حبيبها 


لا.. هذا ليس "سالم"... ليس هو ! 


°°°°°°°°°° 


كانت أيامٍ كالجحيم ... 


تعيش معه محددة إقامة لنفسها، لا تخرج من الغرفة أبدًا.. لا تلتقي بأحد من أهله، لا تود أن ترى أولاده و لا زوحته و لا أيّ فرد منهم 


كانت تحيا هنا جسدًا بلا روح.. رغم جهوده المبذولة لاستمالتها مجددًا و مراضاتها... لكنها أبدًا لم و لن ترضى.. و هو يعرف ذلك جيدًا.. لهذا فقد الأمل في إستعادة ثقتها و حبها من جديد و تعامل معها كما أرادت هي أن يتعاملا 


مجرد علاقة زوجية جوفاء.. باردة... فروض و واحبات يقدمها كلاهما و إنتهى الأمر 


أو هكذا ظنت لفترةٍ... قبل وقوع الحدث الذي غيّر كل شيء 


حيث في ليلةٍ، سمعت جلبة بالخارج، تنصتت فإذا بها تتبيّن لحظات مداهمة مخاض الولادة لإحدى نساء العائلة.. لم تلقي بالًا أو إهتمامًا و كنَّت بمكانها 


فلم يمر وقت طويل إلا و سمعت أصوات شجار عنيفة تنبعث من خارج البيت.. وقفت وراء النافذة و راقبت ما يجري... كان المشهد دموي.. أسلحة بيضاء و أسلحة نارية أيضًا في قبضات الشباب و الأولاد 


و عبارة واحدة يتناقلها الجميع : 


-ناصر الجزار إتقتل.. ناصر الجزار إتقتل.. ناصر الجزار إتقتل !!! 


"ناصر الجزار"... إنه يكون شقيق زوجها الأصغر !!! 


كتمت صرخة تحاوزت حنجرتها، ما لبث صراخ النسوة أن ملأ المنزل كله و تلاشى للأسفل و ساد هرج و مرج كبير ... 


ركضت "كاميليا" تبحث عن إبنها في كل مكان، نزلت حافية القدمين إلى الشارع.. بحثت هنا و هناك بنظراتها، لتجده يقف ضمن مجموعة من الأولاد الصغار يراقب ما يحدث برعبٍ 


إجتذبته من ذراعه، فمشى معها وراء البيت ... 


-رايحة فين يا ماما.. إستني بقولك رايحة فين ؟؟؟ 


ثبت قدماه فوق الأرض و أجبرها على الوقوف، فإلتفتت إليه و قالت محاطة وجهه بكفيها الناعمين : 


-يلا يا رزق.. يلا يا حبيبي. هانهرب من هنا ! 


رزق مستنكرًا كلامها : 


-نهرب إيه.. لأ طبعًا. أنا مش هاسيب بابا لوحده 


كاميليا بانفعالٍ : بابا إيه دلوقتي.. إنت مش شايف إللي بيحصل وراك ؟ إنت مكانك مش هنا. يلا يابني إسمع كلامي. يلا نهرب قبل ما حد يشوفنا 


رفض الصغير قائلًا بصرامة : 


-قولتلك مش هامشي.. هنا بيتي و مكاني. و مكانك إنتي كمان جمب بابا و جمبي.. إرجعي يا ماما. مش هاسيبك تمشي 


هزت رأسها للجانبين و سالت دموعها بغزارة، بينما يلاحظ كفها يحط أسفل بطنها و يسمعها تقول تاليًا : 


-هنا في أخ تاني أو أخت ليك.. بيكبر جوايا. أنا أهون عندي أموت نفسي. بس ماولدش هنا طفل يطلع مجرم زي الناس دول.. إنت إبني و أنا مربياك و عارفاك. إنت مش زيهم. بس أنا مش هاسمح أجيب للعيلة دي أطفال يكبروا عشان يبقوا مجرمين.. صدقني عندي إستعداد أموت نفسي يا رزق. صدقني ! 


إنه مجرد ولدًا في العاشرة من عمره ... 


أنى له أن يفهم أو يستوعب كل ما يجري من حوله ؟! 


بل أنى له كل هذا التعقل و الدراية التي أهدته لإتخاذ القرار بهذه السرعة !!! 


-إمشي يا ماما ! .. نطق "رزق" بآلية تامة و هو يفلت يد أمه 


سكتت "كاميليا" عن البكاء و نظرت له بذهولٍ، لكنها سرعان ما قالت بتصميمٍ : 


-مش هامشي منغيرك !! 


رزق باصرارٍ صارم : 


-و أنا مش هاسيب بابا.. إمشي إنتي. و ماترجعيش هنا تاني. سامعاني ؟ إوعي ترجعي و يشوفك ! 


و كأن الكلام يخرج من فم رجلٌ ناضج، و كأنه يدرك تمامًا مفاد الرسالة التي يوجهها إلى أمه... لتذعن الأخيرة إلى كلامه بأسرع ما أمكنها بعد أن فاقت من الصدمات المتوالية 


رمقته بنظرة قوية أخيرة، نظرة وداع.. نظرة ألم و فراق مجللة بالدموع... ثم ولّت مدبرة 


بل هاربة، و قد أطلقت لساقيها الريح و ركضت بسرعة كأنما يلاحقها فكٍ مفترس ... 


أما "رزق".. فركض بالاتجاه الآخر عائدًا إلى أبيه... إلى المكان الذي أختاره ! .......................................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


إنتظروا #البارت الأول بداية الأسبوع القادم ♥️ 


وقبل_أن_تبصر_عيناكِ

مريم_محمد_غريب

( 1 )


~¤ لا تأتي فرادى ! ¤ ~


المكان : حي الجزارين

الزمان : صيف 2017


كما يُقال الطيور تكبر لتغادر العشّ... ربما تنطبق تلك النظيرة على البشر أيضًا.  لكنها أبدًا لا تمت لعائلة "الجزار" بصلة 


حيث أنهم كبروا جميعًا، لكنهم لا يزالوا هنا ببيت العائلة.. اليوم هو الجمعة.. و كحال كل جمعة دون أن يتم إستدعاء نفرًا واحدًا... من تلقاء أنفسهم يجتمعون كلهم.. رجالًا و نساءً و أطفالًا بعد أداء الصلاة 


حول مائدة الفطور الشعبية المعدَّة و العامرة بكافة أنواع المأكولات على مختلف الأذواق، فكلٌ قد أدلى بما يشتهيه لسيدة البيت الثانية و المسؤولة عن كل شيء هنا.. "هانم السويفي" إبنة النظير القاطن بمنطقةٍ مجاورة لا تبعد كثيرًا، و أيضًا الزوجة الأولى لكبير "الجزارين".. "سالم الجزار" شخصيًا 


الكل يجلس في هدوء.. ينظرون إلى الطعام باشتهاءٍ.. لكن لا أحد يجرؤ على لمس أيّ شيء قبل مجيئ كبيرهم ... 


فلم يمر وقت كثير إلا و ظهر أخيرًا.. في مشهد مهيب يلج"سالم" عبر بوابة مرتفعة مزدوجة... كان قد بدل جلبابه الأبيض ليرتدي عباءته السوداء ذات النسيج الحريري اللامع 


لقد أتم الثامنة و الخمسون منذ أشهر قليلة.. لكنه و للدهشة لا يبدو عليه سنه أبدًا... لا زال قوي البنية.. شامخًا كجبلٍ... حتى الشيب لم يغزو إلى منابت رأسه الأمامية فقط.. رغم أنه يتاجر بالسموم، و الأعمال القذرة كلها كانت بالسنة له ميدانًا يلعب فيه بمفرده و يحكمه منذ زمنٍ طول.. كان الحفاظ على صحته البدنية و العقلية بالمقام الأول لديه.. ليس هو فقط... بل كان قانونًا قد سنَّه و طبقه على جميع أفراد عائلته 


أذعنوا جميعًا خاضعين لمقولته الشهيرة التي تنص بالحرف "إحنا نسفَّر الناس كلها.. بس مانسفرش !" ... 


تأهب الجميع للقيام له إحترامًا، لكنه أبقاهم بمجالسهم بإشارة من يده.. بينما يده الأخرى تمسك بسمبحةٍ و فمه يتحرك بالابتهالات الصامتة 


جلس بمكانه متربعًا على رأس المائدة الأرضية، اضطر الآخرون للإنتظار لحظاتٍ إضافية... ثم أخيرًا رفع "سالم" رأسه و مرر نظراته على وجوه عائلته 


شقيقه الأوسط "إمام" و أسرته المكوّنة من شابًا و فتاة حاضرين.. شقيقه "عبد الله" الذي يليه بالعمر حاضر هو و زوجته فقط.. إذ لعلة فيه قد حرما من نعمة البنين، لكنهما ظلا متمسكان ببعضهما رغم ذلك، و حتى اليوم لا يراهما أحد إلا متحابين مخلصين لبعضهما بعض 


في صفٍ مقابل.. جلست أسرة "سالم" كتفًا بكتف، زوجته إلى جواره تمامًا، و أولادهم الأربعة متراصين أمامهما، ثلاثة ذكورٍ و فتاة صغيرة 


و بالرغم من أنه لاحظ هذا منذ جلوسه.. لكنه إنتظر حتى تأكد، و بعد مرور الوقت الذي يسمح للأخير بالحلول أمامه... لم يحدث ذلك، فإذا به يرفع صوته ذي النبرات الصلبة قائلًا : 


-أومال فين رزق يا ولاد ؟! 


برز صوت "فاطمة" إبنة "إمام" مجيبة على سؤال عمها بصوتٍ متهلفٍ و عيناها كأنما تنبضان بقلوب الهيام :


-رزق رجع معاكوا من صلاة الجمعة و يدوب غير هدومه و نزل طوّالي يا عمي 


عبس "سالم" و هو ينظر ناحيتها مرددًا : 


-نزل طوّالي على فين يعني !! 


تداخل صوت "مصطفى" إبنه الذي يلي "رزق" قائلًا بازدراءٍ بَيَّن : 


-عنده ماتش يا حاج.. الكابتن رزق ماسك شعار "أبطالها لحد ما نبطلها" ! 


تجاهل "سالم" دعابة إبنه الحاقدة، ليبدي ردة فعل حانقة : 


-أنا مش قلت 100 مرة الماتشات و الكلام الفاضي ده يتمنع من الحتة خالص.. إحنا فين هنا ؟! 


غضن "مصطفى" عينيه و هو يتمتم لنفسه بغيظٍ : 


-على أساس تقدر تقول الكلمتين دول قصاد المحروس ! 


إلتفت له "سالم" مستوضحًا : 


-بتقول إيه يا مصطفى ؟! 


قلب "مصطفى" تعبيرع بلحظة هاتفًا بابتسامة : 


-و لا حاجة يا حاج.. بقول يعني مافيهاش حاجة. أهي منها رياضة و منها حاجة بتسلي رزق. إنت عارفه مالوش طقطان (صبر ) على حاجة ! 


تكلّف "سالم" الضيق و هو يهز رأسه بيأسٍ : 


-مش عارف كيفه إيه في حاجة زي كده !!! 


يرد إبنه الأصغر "حمزة" بمرحٍ لا يخلو من الحماس  : 


-كيفه يغلب طبعًا يابويا.. أصل الواد عجينة من ساعة ماتش الشهر إللي فات مش ناسيها لرزق و كان بقاله فترة يزن عليه ينزل ماتش تاني بس مش معاه 


-أومال مع مين ؟ 


-إمبارح جابله واحد مِتع و جتة كده شكله يخوف. حطهم قصاد بعض قدام أهل الحتة على أساس يحط رزق قدام الأمر الواقع.. بس هو وافق عشان يجيب أخره المرة دي ! .. و قفز من مكانه مصفقًا بحماسة : 


-و الله فكرتني يا حاج أما أقوم ألحق اللقطة الأولى.. دي بتبقى بالماتش كله ... 


كانت هذه إشارة لسلوك أخيه الأكبر في اللعب، يراه البعض غريبًا، بينما البعض الآخر يراه مثيرًا و تكتيك لا يخطر على بال أحد 


لم يكاد الولد البالغ من العمر تسعة عشر عامًا يقوم من مكانه إلا و جمده صوت أبيه الصارم : 


-أقعد ياض إنت.. أنا مأذنتش لحد يقوم !!! 


كنَّ "حمزة" في مكانه ثانيةً و هو يغمغم بتهذيب : 


-أسف يا حاج ! 


تنفس "سالم" بعمقٍ و تمهل لحظةٍ، ثم رفع رأسه من جديد معلنًا : 


-عندي كلمتين و كنت عاوز الكل يكون حاضر و يسمع.. بس هاقولهم دلوقتي و الحاضر يعلم الغايب عشان خلاص مافيش وقت 


-خير يا حاج ! .. قالتها "هانم" و علائم الريبة تطفر على وجهها متواضع الجمال 


رد "سالم" بايماءة صغيرة دون أن ينظر إليها : 


-خير إن شاءالله.. أنا إمبارح بس بلغني خبر وفاة كوثر الوديدي مرات عمكوا ناصر الله يرحمه. الوفاة ماحصلتش إمبارح. كان بقالها شهرين و أخوها عزام الوديدي كان ساكت كل ده عشان مانطالبش ببنتها "ليلة" و تيجي تعيش وسطنا هنا.. إللي وصلني إنه كان عاوزها لإبنه الكبير و خاف نظهر في الصورة قبل ما الموضوع يتم ... 


و ضحك مكملًا : 


-مش عارف جاب الغشم ده منين.. مهما كانت ليلة دي لحمي و هي إللي باقيالي من ريحة أخويا. أهبل عزام ده. مايعرفش إني ببعت ناس تجيبلي أخبار بنت أخويا أول بأول 


-طيب إتصرفت معاه إزاي ياخويا ؟!! .. قالها "إمام" باهتمامٍ شديد 


نظر له "سالم" و قال بحزمٍ : 


-عيب تسألني سؤال زي ده يا إمام. بقولك دارى علينا موت أخته. كان عاوز يعمل كل حاجة سوكيتي لأنه جبان و خايف مننا.. أنا يدوب بس رفعت سماعة التليفون و طلبته. قبل ما أقوله عايز ليلة رد و قال أجبهالك بشنطة هدومها لحد عندك يا معلم سالم. و فعلًا كمان شوية و هاتوصل إن شاء الله 


تنفس "عبد الله" الصعداء و قال ببهجةٍ حقيقية : 


-ده أحلى خبر سمعناه إنهاردة و الله يا سالم.. بس بعد إذنك طبعًا ليلة هاتقعد في شقتي. إنت عارف ماعندناش حد و لا شباب كبار. مافيش غيري أنا و عبير. هاتونسنا و في نفس الوقت هانراعيها كويس ! 


إبتسم "سالم" له و قال بطيب خاطر : 


-أكيد يا عبده.. ما إنت عمها. و عبير ماتتخيّرش عنك. أنا متأكد إنكوا هاتاخدوا بالكوا منها و هي كمان هاتحبكوا أوي ... 


ثم أشار بيده إلى الطعام و قال أخيرًا : 


-كلوا بقى.. كفاية كلام أحسن الأكل يبرد ! 


_________ 


إستغرقت التحضيرات للماتش هذه المرة وقتًا طويلًا ... 


لكن بقى أخر شيء و هو إقامة الحلبة بمنتصف الحارة الفسيحة.. تم هذا بسرعة و إنقسمت لطرفان، الخصم العملاق كما وصفه "حمزة" لأبيه يقف ليدهن جسمه بالزيت 


يقابله في الجهة الأخرى "رزق الجزار" ... 


كان مشغولًا بأداء تمرينات الصدر و الذراعين، بعد أن خلع كنزته الخفيفة، فتعرَّى جزعه العلوي تمامًا و ظهرت لياقته البدنية المبهرة للعيّان.. جسمه أبيض في الأصل، و لكنه الآن بدا برونزيًا محمّر من أثر الشمس الحارقة 


خصيلات شعره الشقراء تلتصق بمقدمة جبينه، و تسيل من خلالها قطرات عرقه الساخنة، تعبر بين عينيه الزرقاوتان و أهدابه الناعمة، فتغزو أخيرًا لحيته الخفيفة و تترك ملوحة فوق شفاهه الدقيقة الوردية 


ليسارع بتناول قنينة المياه من أحد الشباب الموالين له، يتجرع منها باستفاضة حتى أنهاها.. ثم يلقي بها فارغة خارج الحلبة و يلتفت فجأة نحو خصمه 


على عكس الأخير لم يحاول أن يبدو مخيفًا، رغم مؤهلاته البدنية التي تعزز فكرة كهذه.. لكنه آثر دائمًا أن يبدو رائقًا، فلم يزيده ذلك إلا فتنة و بهاءً... "رزق الجزار" منذ نعومة أظافره حلو الطلعة و جميل الشكل.. إنه ذكر.. بل و صار رجلًا ذا سطوة و هيمنة بعد أبيه... حتى أنه أكبر إخوته.. لكنه من شدة وسامته كان النوعان رجالًا و نساءً لا يستطيعون إشاحة أبصارهم عنه.. و كأنه معجزة ! 


إشارة واحدة من يده... كان الجميع ينتظرها.. حتى تبدأ الجولة الأولى و تنفجر الصيحات المشعجة و الهتافات باسمه هو فقط 


ثلاث ثوانٍ يتقاربا الطرفان في تأهبٍ ... 


ليتصادما مرةً واحدة، بينما يرخي "رزق" ذراعيه و قبضتيه تمامًا تاركًا خصمه ينال منه كما يشاء.. حتى أنه سمح له برفعه في الهواء و إلقائه أرضًا بقسوة.. تم كل هذا بارادته، و كأنه كان يستعذب المعاناة و اللكمات التي أصابت وجهه و فتحت جروحًا دامية بشفته السفلى و أنفه و أسفل حاجبه الكثيف 


لعل الشمس كانت تعمي عينيه قليلًا، إلا إن ذلك لم يمنعه من رصد وجه أبيه.. حيث كان يقف في شرفة منزلهم الكبيرة بين العائلة... جميعهم قد أطلوا ليشاهدوا البطل 


بطل ! 


كيف يكون بطلًا و هو في هذا الوضع ؟!!! 


على كلٌ... لم يستمر طويلًا.. بعد أن أخذ "رزق" كفايته من الضربات المنشودة... أطلق صيحة كأنما هي زئيرًا آدميًا.. كانت بمثابة الدفعة التي مكنته بسهولة من ركل الخصم في بطنه، ليتراجع الأخير للخلف منكفأ على ظهره 


ينتصب "رزق" الآن قائمًا بقامته الضخمة..يمسح الدماء المنداحة من فمه بظاهر يده... بينما ينهض الخصم مستعدًا لإنهاء الجولة الأولى لصالحه 


و لكن هيهات ! 


ها هو "رزق" يبتسم له بعذوبة وديعة و هو ينظر بعينيه مباشرةً... لا يمنح تلك الابتسامة لأحد عبثًا.. قلما يبتسم أصلًا.. و كثيرًا ما يُسقط الضحايا !!! 


يشعر بموجة من الأدرنالين تندفع بشرايينه، لحظة التصادم الثانِ... مارس "رزق" عليه السحب بأنواعه و الرفع بأنواعه، و لعله أثناء تسديد بعض اللكمات أفقده قسمًا من أسنانه العلوية 


و بعد مناورات و خطف و دخول من أسفل الذراع و الساق... سرعان ما إنتابه الملل.. فقرر أن يُنهي اللعبة الآن 


في كلتا الحالتين كان الخصم قد إنتهى.. و صار يترنح كالسكارى... ليصطدم به "رزق" مرة أخيرة.. يرفعه فوق كتفيه العريضين في وضعية القوس و يدور به في الهواء 


ثم أخيرًا يسقطه فوق الحلبة بعنفٍ قضى على بقايا وعيه، فيصيح "رزق" بغلظةٍ و هو يرفع قبضته الحديدية لأعلى معلنًا إنتهاء اللعبة و الفوز لصالحه و من الجولة الأولى 


حوله الحشد الغفير من قاطني المنطقة و المناطق المجاورة يصرخون و يللهون باسمه.. الجميع يحتفي به، حتى أن البعض صعد إلى الحلبة ليحملونه فوق أكتافهم... لكنه لم يكن يعبأ و لا ينظر إلا صوب نقطة معيّنة 


في ذلك المكان المرتفع قبالته، حيث لا يزال والده يقف، إزداد زهوًا و غرورًا عندما رآه يشمله بنظرات الفخر و الاعتداد ... 


_________ 


-ضربة المعلم بألف ! 


-ما يجبها إلا رجالها يا زوّز ! 


كانت تلك الكلمات الاحتفالية التي سمعها "رزق" من فم أخيه الصغير و إبن عمه و صديقه المقرب "علي إمام الجزار" 


تركهم بغرفته و سارع نحو الحمام ليغتسل بسرعة و يلحق بميعاد العمل الذي كلفه به أبيه، تسرب دمه بكمية وفيرة مع المياه أسفل الدُش.. لكنه خرج نظيفًا و لامعًا كعادته 


ارتدى ملابسه المؤلفة من سروال جينز غامق و قميصًا فاتح محلول الأزرار من الأعلى.. مشط شعره للخلف و نثر عطره المفضل بغزارة.. و أخر شيء ليكمل هندامه علّق قلادته الثمينة المصنوعة من الذهب الأبيض في عنقه، و أرفق إلى معصمه الأيسر ساعته الذكية باهظة الثمن التي تتيح له قراءة ضغطه أحيانًا، و ما إذا تسارعت خفقات قلبه تطلق إنذارًا لتتبهه 


كانت هذه طبيعته.. الاهتمام بنفسه و التأنق كما تعّود منذ صغره... لكن هذا كله ظنه البعض مفتعل لهدف الكيد فيهم.. و على رأسهم كان أخيه الأصغر منه بعامين.. و الذي هدف طوال عمره ليصير ندًا له، و لو أنه لا يبالي به مطلقًا 


لم يكن "رزق" أبدًا سهل الإنقياض، و لم يسمح لأحد طيلة مدة مكوثه هنا بأن يجره إلى الفخاخ.. كان يقظ و فطن.. فطن كما كان يصفه جده الباشا ! 


يغادر "رزق" غرفته و يهبط للطابق الأرض، ذلك الطابق الذي اختارته جدته المسنّة كي ما تسكن فيه و تقضي به آخر أيام عمرها ... 


كانت عادة لديه، قبل أن يذهب لأيّ مكان خارج البيت.. لا بد أن يدخل عندها أولًا و يّلقي نظرة عليها كنوعٍ من أنواع الاهتمام و الموّدة الحقيقية التي يكنَّها لتلك السيدة جزء إحسانها إليه في طفولته و صباه، فهي في وقتٍ من الأوقات حلّت بمكان أمه، عليه الأقرار بأن في وجودها كانت مرارة حرمانه من والدته أخف وطأة عليه 


جدته الرائعة الطيبة ... 


-دودي القمر ! .. صاح "رزق" و هو يطل برأسه عبر فتحة باب غرفتها 


-صاحية و لا نايمة يا نينة ؟!! 


كانت الغرفة مضاءة بنور شمس الظهيرة، و كان السرير يقع بركنٍ جانبي للغرفة.. قبل أن يتمكن من رؤيتها تمامًا وصله صوته المتحشرج : 


-رزق ! تعالى يا حبيبي. خش إنت محتاج أذني يابني. قولتلك إنت الوحيد إللي تدخل عليا و تخرج براحتك 


إبتسم لها "رزق" و ولج ماضيًا ناحيتها و هو يقول : 


-عاملة إيه يا نينة.. فطرتي و أخدتي الدوا و لا لسا ؟! 


بادلته جدته الابتسامة.. و تدعى "دلال" ... 


كان يطيب لها الدلال كاسمها، و كان هو بالأخص يدللها كما كان يعشق النظر بوجهها رقيق الملامح رغم التجاعيد و الوبر بالذقن 


أعطته يدها قبل أن يطلبها هو، فحنى رأسه ليطبع قبلة حانية فوق جلدها الطريّ المترهل.. سمع صوتها تاليًا يجيبه : 


-أنا أول واحدة بصحى في البيت ده.. فطرت يا حبيبي و خت الدوا. تسلملي يا غالي 


و رفعت كفها لتمسح على شعره و وجهه، لعلها خربت تسريحة شعره.. لكن لا مشكلة.. لتفعل هي فقط ما تشاء ... 


-إنت روحت تشلفط وشك تاني يا رزق ؟! 


ضحك "رزق" من الملاحظة التي أبدتها و الطريقة نفسها، ليجلس أمامه على طرف السرير قائلًا : 


-روحت فين بس و شلفطت إيه يا دودي.. ده كان ماتش ملاكمة. لسا خلصان و كنت برا قصاد البيت 


دلال بتذمرٍ : و الله ما أنا عارفة ملاكلة إيه دي إللي غاويها 


-ملاكمة يا دودي ! .. صحصح لها ضاحكًا 


أشاحت بيدها قائلة : 


-أبصر زفت أنا هاحضر فيها دكتوراة.. المهم كسبت و لا لأ ؟!! 


لا يزال يضحك من قلبه و هو يومئ لها : 


- كسبت يا دودي. كسبت .. 


و غمز لها ... 


-إنتي ماسمعتيش الدوشة و لا إيه ؟ 


-ما إنت عارف سمعي بقى على أدي 


رزق لائمًا : قولتلك مليون مرة تعالي أوديكي للدكتور. عارفة يا نينة.. مش هاتحسي إنك إتحركتي أصلًا. هاجبلك عربية إسعاف لحد هنا 


دلال بإباء شديد : 


-لا لا ياخويا.. حد الله بيني و بين الإسعاف و المستشفيات. أنا لو هموت يبقى هنا في سريري ماتبهدلش برا 


تلاشت ابتسامته تمامًا و هو يقبض على يدها قائلًا بعتابٍ : 


-إيه يا نينة الكلام ده.. بعد الشر عنك. موت إيه بس.. طيب خلاص زي ما تحبي. أنا هاجبلك الدكتور لحد هنا 


لم تتسنى لها فرصة الرد عليه 


إذ سمع بوضوح أصوات شجار بالحارة، ليعتذر منها فورًا و يسرع راكضًا إلى الخارج ...


°°°°°°°°°°°°° 


استطاع أن يميّز من صوت النزاع بأن المتسبب فيه هي أنثى ... 


هناك بالوسط.. وقفت سيارة باذخة، أمامها إحتشد الناس حول فتاةٍ يبدو من شكلها و مظهرها عدم إنتمائها لمنطقتهم، بل لم يكن بها ما يشير إلى تدنى المستوى من أيّ جانب


و لكن إسلوبها الفج الذي تعاملت به مع ذاك الشاب الهزيل ذو الملامح الإجرامية، أخبر عن إجادتها و خبرتها بالعالم الذي يحيط بها ... 


--و رحمة أمي ما هاسيبك ألا في القسم يا حيوان ! .. كانت تلك العبارة على لسانها لا تردد غيرها 


حتى جاء "رزق" مخترقًا الحشد، صار هو يمسك الشاب من ياقة، و هي تمسك بالأخرى، بينما يعلو صوته الخشن : 


-قسم إيه يا شاطرة.. إنت فاكرة نفسك فين هنا. أصبري ليكي روقة .. 


و صرف نظره إلى الشاب قائلًا : 


-عملتلها إيه يالا ؟! 


إندفعت الفتاة مجيبة بانفعالٍ شديد : 


-الحثالة ده عاكسني و كان عاوز يحط إيده عليا.. و إنت تطلع مين أصلًا و إزاي تكلمني باللهجة دي. إنت ماتعرفش أنا مين.. طيب و رحمة أبويا و أمي هاتكون أخرتكوا إنهاردة إنتوا الجوز 


رفع "رزق" حاجبه و صار يتأملها أكثر الآن.. لا ينكر جاذبيتها، و لكنه لم يستطع إمساك لسانه بعد أن تجرأت عليه، فقال بسخرية محقرًا من شأنها : 


-إتكلمي على أدك يا حُرمة.. إنتي أصلًا كلك على بعضك مافكيش ألا  آااا ... 


و صمت بطريقة ايحائية و هو يشير بعينه صراحةً إلى فتحة فستانها العلوية ... 


إنفجر الحشد ضاحكًا من نكاية "رزق" و تسديده المضبوط، بينما ألقت الفتاة بالشال الذي وضعته فوق كتفيها، فكثر عريها، و فردت ذراعيها و هي تطلق شهقة مغناجة، ثم صاحت بلهجة سوقية متقنة : 


-لاااااااا يا حبيبي. مايغركش شكلي و لبسي. مش كل الطير يا بابا إللي يتاكل لحمه. أنا آه حرمة زي ما بتقول بس مش أي حرمة.. اسأل عليا ده أنا ممكن أقل منك و من إللي يتشددلك و لا تعرف تعمل معايا حاجة !!! 


صعقها بنظراته المحتدمة، و رفع قبضته الضخمة مكوّرًا إياها و هو يقول بغلظة مهددًا : 


-شيلوا البت دي من قدامي أحسن و الله أكسَّرلها وشها ! 


تبجحت عليه فورًا : 


-بت في عينك يا سافل يا قليل الأدب. أديني وقفالك أهو.. وريني هاتكسَّرلي وشي إزاي ! 


لأول مرة بحياته كان سينأى عن التحضر و المبادئ التي نشأ عليها و آمن بها... إذ بلغ منه الغضب مبلغه و قرر أن يؤدب تلك الفتاة البذيئة بأقسى طريقة كما أحطت من شأنه أمام الجميع 


و لكنه قبل أن يتخذ خطوة واحدة تجاهها جمده هتاف أبيه الحاد : 


-رزق ! 


إلتفت له في الحال، فإذا بالأخير يقبل عليه مقطبًا وجهه بغضبٍ و هو يقول بصلابةٍ : 


-إنت إتجننت.. هاتمد إيدك على ليلة. على بنت عمك ؟!!! .................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...


البارت التاني بكرة إن شاء الله ♥️

تعليقات



CLOSE ADS
CLOSE ADS
close