القائمة الرئيسية

الصفحات

 


الطريق الي النور

البارت 63/64/65


( الحلقة/ 63 ) الفرار من الاضطهاد والملاحقة !! 

وانتشر الإسلام في أغلب دور المدينة، وظهر الهدى والنور على أكثر أهلها، وكان هناك شيوخ أمثال - عمرو بن الجموح - ممن أصروا على الباطل القديم، لكن الله قيض له أبناء صالحين دفعوه إلى النور دفعاً . فكان لعمرو بن الجموح صنمًا من خشب في داره يقال له (مناة)، كما كان الأشراف يصنعون، يتخذه إلهًا يُعظّمه ويُظهره كلما أراد مناجاته، فلما أسلم فتيانه كانوا يدلجون بالليل على صنم أبيهم عمرو، فيحملونه في غيبة من أبيهم، ثم يلقون به في حفرة قريبة من الدار، من تلك الحفر التي تُلقي فيها العذر والقاذورات، حتي إذا أصبح عمرو بن الجموح، ورأى الصنم منكساً على رأسه في القذر، تملكه الغضب والخشية من أن تحل عليه اللعنات ..

فيصيح بأعلي صوته : ويلكم من عدا إلهنا هذا الليلة ؟ فيسحبه من الحفرة، ويزيل عنه العذر والقاذورات وهو يرتجف، ويعتذر إليه بالكلمات النادمة، ويعود به إلى الدار، ثم يضعه مكانه بعد أن يغسله ويطيبه ثم يحدثه قائلاً : أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه، سامح عجزي عن دفع الأذى عنك . 

فإذا أمسى ونام عمرو بن الجموح عدوا عليه مرة أخرى، ففعلوا مثلما فعلوا في الليلة الفائتة، فيصبح عمرو ويجد صنمه في نفس المكان من القذر، فيسحبه وينظفه ويطهره من الأذى مرة ثانية، ويضعه في مكانه في الدار وهو في أشد حالات الحيرة والاستغراب !! 

وفي الليلة الثالثة يحدث نفس الأمر، وتثور ثائرة عمرو بن الجموح - من هذا الذي يتربص به ؟ - فجاء في هذه المرة، وعلَّق سيفه على الصنم وقال له : إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامنع الأذى عن نفسك، وهذا السيف معك . أراد عمرو بن الجموع أن يضع في هذه المرة دينه الذي يعتقده على المحك وصنمه الذي يسجد له على المختبر . 

فلما أمسى ونام عمرو، تسلل أبناؤه إلى الدار، وحملوا الصنم وأخذوا السيف من عنقه، ووضعوا مكانه كلباً ميتاً، قرنوه بحبل في عنق الصنم، ثم ألقوه في نفس بئر القذر التي بها عذر الناس، فلما أصبح عمرو ولم يجده، ذهب إلى ذلك البئر اللعين، فوجد الصنم منكسًا مقرونًا بكلب ميت، فانطلق لسانه ينشد كلمات الحق : 

والله لـو كنت إلــهاً لـم تكن ............. أنت وكلب وسـط بئر في قـرن .

أف لملـــقاك إلــهاً مســتدن ............ الآن فتشناك عن سـوء الغـبن .

الـحـمد لله العـلى ذي المـنن .............. الواهب الـرازق ديـان الـدين .

هو الذي أنقذني من قبل أن ............. أكـون في ظلـمة قـبر مـرتهن .

ويرسل مصعب بن عمير رسالة الى الرسول صلى الله عليه وسلم، أطلعه فيها على سير الإسلام فى المدينة، وقال فيها : أقبل إلينا يا رسول الله، والله مابقى فى المدينة بيت من الأوس والخزرج إلا ودخل فى الإسلام، فكانت لهذه الرسالة أثرها البالغ في تأهب الرسول صلوات ربى وسلامه عليه ومن معه للهجرة . 

وانتظر الرسول وتريث حتي يأتيه الإذن من الله، وظل يتحين الوحي حتى جاءه الأمر من الله، أذن الله له بخروج المسلمين من مكة دونه، فقال لهم الرسول : إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارًا تأمنون بها، فكانت تلك إشارة البدء فى التحرك، فخرجوا أرسالاً . انسل المستضعفون من بين قريش خلسة، وغادر الأقوياء جهارًُا، وتبعهم الأغنياء بعد أن ساومتهم قريش، فخلوا بينهم وبين أموالهم، وبدأت قريش تتنبه للخطر، فراحت تُضيق الخناق على المهاجرين ممن يقدرون عليهم، وأخذت تقاوم في استماتة هذا النزيف البشرى، ذاك الذي يهدد كيانها بالزوال .. فيحبسون فى الحديد من وقع فى أيديهم، ويلاحقون الفارين من الضعفاء لإعادتهم الى دائرة الاضطهاد . ورغم كل هذه الإجراءات الباطشة العنيفة، لم تستطع قريش السيطرة على الموقف، والذي راح يخرج من بين أصابعها، وهي تنظر إلى الخطر الكامن وراء هجرتهم .

صارت قريش في هذا الموقف الذى أوقعها فيه محمد، وسُحب البساط من تحت أقدامها، وها هو يعد نفسه للحاق بمن هاجر، فيتقوى بأصحابه فى يثرب، ثم يكروا عائدين إلى مكة وقد تمكنوا في الأرض، وصاروا قوة يمكنها الوثوب على قريش، وتمحوها محوًا، وإخضاعها لهذا الدين الجديد ، فما هو العمل بعد أن صارت عملية ملاحقة الفارين من مكة شاقة عسيرة، بل ومستحيلة الإحكام ؟ فإن هم تمكنوا من البعض فلن يتمكنوا من الكل، ونظروا حولهم، وأداروا الفكر في عقولهم، فرأوا أن حل هذه المعضلة، يكمن في القضاء المبرم على محمد رأس هذا الأمر ومدبره، وعليهم الإسراع قبل فوات الأوان .

ورويدا رويدا لم يبق في مكة من المسلمين، سوى من حبس أو فتن إلا ( علي بن أبى طالب ، وأبو بكر الصديق ، وزينب بنت الرسول الذي منعها ، العاص بن الربيع من الخروج مع من خرجن من النساء ) ، وكلما استأذن أبو بكر الرسول صلى الله عليه وسلم فى الهجرة قال له : لا تعجل .. لعل الله يجعل لك صاحبا فيسره ذلك، فهو يلمس في كلام الرسول إشارة إليه، ويتكرر سؤال أبى بكر وتكون إجابة الرسول هي نفسها : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا . ويتأكد إحساسه بأنه المعنى بذلك، فيذهب إلى داره، ويُعد راحلتين بزادهما ويضعهما في فناء الدار، ويرتب أمره على مرافقة النبى صلوات ربى وسلامه عليه، وتخشى قريش أن يغادر محمد مكة فجأة فى الخفاء، ودون علمها، فيسرع أبو جهل الخطى تجاه أندية قريش ومجالسها صائحا : يا معشر قريش، يا معشر قريش، إذا كان صباح الغد فليكن جمعنا فى دار الندوة، لنرى رأيا فيما نزل بنا من محمد ومن فر منهم إلى يثرب .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تكملة ( الحلقة/ 63 ) الفرار من الاضطهاد والملاحقة !! 

وفي الصباح يهرع إلى دار الندوة، كل من له شأن فى قريش، أشرافها وفرسانها، وذوو الأسنان والمكانة، وعلى رأسهم صقور قريش التي تكابد عناء ملاحقة وتتبع كل من فارق دين قريش وأسلم – شيبة بن ربيعة، أبو سفيان بن حرب، طعيمة بن عدى، جبير بن مطعم، الحارث بن عامر بن نوفل، النضر بن الحارث، أبو البخترى بن هشام، زمعة بن الأسود، أبو جهل وآخرون – وينضم إليهم إبليس فى هيئة رجل مسن يقف على باب دار الندوة، ويسأله أبو سفيان : مَنْ الشيخ ؟ فيقول : شيخ من أهل نجد سمع بالذى أعددتم له فحضر معكم، ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحا .

قال أبو سفيان : أهلا بك يا أخا العرب، فماذا ترى من أمر محمد ؟ – قال الشيخ النجدى : يا سادة قريش أنتم والله أفاضل العرب وحماة البيت ، أنتم أئمة الناس، يقولون ما تقولون، ويفعلون ما تفعلون ، فقد جاءكم محمد بما أعلم وتعلمون، ولئن لم تجمعوا أمركم بشأنه ذهبت ريحكم، وانفضت العرب من حولكم، فأجمعوا فيه رأيا .

وساد الوجوم جمعهم، وبعد لحظات صمت . انبرى أبو جهل متحدثا ليمسك بناصية التشاور كي يدفعهم إلى ما يريده، قال : لا يدخل معنا فى المشاورة أحد من أهل تهامة، فإن هواهم مع آل المطلب، فخرج من الاجتماع ثلاثة من أشراف تهامة .

وبدأ الحديث حكيم بن حزام فقال : لقد بالغتم في أمر محمد وأصحابه، وها هم قد فروا من مكة، دعوهم فتبقى لنا مكة من دونهم ، وينظر إليه أبو جهل فى حدة ، كأنما قرأ ما يدور فى رأسه ، فلم ينس أبو جهل لحكيم فعلته، يوم أن حشد الناس حوله لشق صحيفة الحصار الظالمة ، التي حاصرت قريش من خلال بنودها من ناصر الرسول وسانده ، وطالت بنى عبد الدار، وبنى عبد مناف، وأبناء البطنين من هاشم وآل المطلب، وما يدور فى رأس الحكيم هو انتهاز فرصة اللقاء والخروج بموقف، فيه تترك قريش محمدًا يلحق بمن خرج من أصحابه ليس كرها فيه ، بل تعاطفا معه يخفيه بين طيات قلبه الرقيق ، ويعلن حكيم بن حزام في المجلس خلاف ما يبطن من خير لمحمد وأصحابه ، ولا يقرأ ما وراء هذه الكلمات سوى أبى جهل . ويميل زمعة بن الأسود، ميل حكيم بن حزام فيقول : نِعمَ القول وحق اللات وما هم إلا ضعاف أذلة، فدعوهم يذهبون حيث شاءوا فنكفى شرهم .

قال الشيخ النجدى : لقد خالفكم الصواب، فهم لا يفرون من مكة، وإنما غادروها ليُعدوا لكم الجيوش ويغزونكم في عقر داركم . قال حكيم : مالك من مخرف أيها النجدى، إنهم ضعاف أذلة، فمن أين لهم تجيش الجيوش ؟ إنك تبالغ، كأن لك ثأرا عند محمد تريد أن تبلغه !! قال النجدى : إنما أنا مشفق عليكم، ناصح لكم وإن كان هناك من ثأر عند محمد فهو ثأركم أنتم، أو ليس هو من عاب آلهتكم، وسفَّه أحلامكم، وفرق جمعكم ؟ والله إن سمحتم له بالخروج، ليعودن مكتسحاً مكة بيتا بيتا، فامنعوه من الخروج قبل أن يفعل بكم الأفاعيل.

وسرت كلمات الشيطان مسرى النار فى الزيت، فأشعلت المجلس . 

فقال أبو جهل : والله يا قوم إن الرأى ما رآه هذا الشيخ النجدى . وبدأت تبرز أصوات صقور قريش الداعية للتصعيد، فقال أبو النجدى بن هشام : احبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء، الذين كانوا قبله (زهيراً والنابغة) ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.

قال الشيخ النجدى : لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذى أغلقتم دونه من أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى . ثم قام جبير بن مطعم فقال : نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فو الله ما نبالى أين نذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا، وفرغنا منه فأصلحنا أمر ألفتنا كما كانت – ولا يُعجب الشيطان هذا الرأى، فهو لا يدع رأيا في المجلس دون تعقيب عليه، أو توجيهه حتى يصل الى بغيته التي من أجلها أتى وتجسد في هيئة البشر . 

فقال :لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا إلى حسن حديثه، وحلو منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حى من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد .. أو أديروا فيه رأيا غير هذا . 

فقال أبو جهل : والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد .

قال الشيخ النجدى : وما هو يا أبا الحكم ؟ قال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعها، فلم يقدر (بنو عبد مناف) على حرب قومهم جميعا . فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم . قال الشيخ النجدى : القول ما قال أبو الحكم، وهذا هو الرأى الذي لا رأى بعده .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

( الحلقة/ 64 ) البلاغ من الله لنبيه بالهجرة !! 

وانفض مجلس التآمر المنعقد في دار الندوة، وتفرقوا وهم مُجمعون على قتله، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه .. فلما كانت عتمة من الليل، اجتمعوا على باب النبى صلوات ربى وسلامه عليه يرصدونه، فإذا خرج لصلاته في جوف الليل التى كان يصليها عند الكعبة، وثبوا عليه، وأحس الرسول بهم يُطوقون الدار، فقال لعلى بن أبى طالب : نم على فراشى، وتسج ببردى هذا الخضرمى الأخضر، فنم فيه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان ينام في برده ذلك إذا نام .. وفي الخارج يلتف حول دار الرسول صلى الله عليه وسلم فتيةٌ من قريش وقد حملوا سيوفهم ، وطوَّقوا الدار من كل ناحية، يرقبون من بعيد داخل الدار، فيرون على الفراش من يتغطى بالبردة الخضراء، فأيقنوا أنه لازال غارقا في نومه، ويطول انتظارهم له، فقد أخبرهم أبو جهل أنه يخرج فى ساعة متأخرة من الليل، يصلى عند الكعبة، لكنه لم يخرج بعد، ويمر أبو جهل على فريق التربص فيقول أحدهم له : يا عماه انتظرنا ولم يخرج فِلمَ لا نتسور عليه الدار، ونقتله في فراشه ما دمنا قررنا قتله ؟ قال أبو جهل: ويحكم لا تفعلوا، واللات لو فعلتم تصبح العرب فتقول : تسورنا كالنسور، وروّعنا بنات العرب. إن خرج فاقتلوه، وإن لم يخرج فلا تفعلوا ، فهى ساعة ويخرج إليكم فلن يطول بقاؤه . 

وانصرف عنهم أبو جهل، وطال انتظارهم، وبدأ ثباتهم فى التراخى، فترنحوا يمينا ويسارا كأن بهم المس، ثم غشيهم النعاس، وضرب الله عليهم جداراً محكماً من الغفلة ، ليخرج رسول الله من بين أيديهم، وجاء جبريل إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وأمره بالخروج من الدار، وخرج النبى من أمامهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلم يروه، وأمسك النبى حفنة من التراب، وجعل ينثرها على رؤوسهم فرداً فردا وهو يتلو { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } إلى آخر الآيات ويمر على المتآمرين النائمين رجلٌ من بنى عبد الدار، فيقول لهم : ويحكم ماذا بكم أخذ النوم بأنفاسكم، ماذا تنتظرون ها هنا ؟ قالوا: ننتظر محمدا . قال خيَّبكم الله والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم أحدا إلا وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، تحسسوا رءوسكم، تحسسوها .. أفلا ترون ما بها من تراب !! 

قالوا : حقا على رؤوسنا تراب . لعله بفعل الريح، ولكن كيف خرج من بيننا، إنه لازال نائما متوشحا ببرده الأخضر . فاندفع أحدهم ناحية الدار وقال : سأقتحم الدار وأقتله . فقام عليه الآخرون ومنعوه وقالوا له : لا تفعل حتى يخرج، أما سمعت ما قاله لنا أبو الحكم . ولكن الفتى المتحمس، لا يأبه بتحذير أصحابه ومنعهم له، دفعهم عن نفسه وانطلق ناحية باب الدار، وتشجع نفر من المتحفزين، وتبعه لإنهاء الأمر، وقال : هيا أنا معك، ودخلا ناحية الغرفة، حتى إذا كانا بالقرب من النائم، استيقظ على بن أبى طالب من سباته على أصواتهم ، وهبَّ واقفا، ثم سار نحوهما بكل ثبات وإقدام، فقالا له في دهشة : أين محمد؟ فرد عليهما على : لا ادرى أمرتموه بالخروج فخرج . وعادا الفتيان إلى فريق التآمر وقد خاب أملهما، وجنَّ جنونهم وانطلقوا يمينا ويسارا يبحثون عنه على غير هدى . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دنا من بيت أبى بكر، فى هذه الساعة المتأخرة من الليل . 

ليست من عادته أن يطرق فيها باب أبى بكر، وقد قارب الفجر من البزوغ، فطرق النبى بابه، فقام أبو بكر من فراشه على صوت طرق الرسول، وفتح الباب، وإذا بالنبى صلوات ربى وسلامه عليه أمامه فأدخله. وفي الغرفة المجاورة تستيقظ عائشة بنت أبى بكر وأختها أسماء، ويدخل أبو بكر عليهما وهو مندهش، ويقول لعائشة همساً : ما جاء رسول الله فى هذه الساعة إلا لأمر حدث ! وعاد أبو بكر إلى حيث يجلس النبى في غرفته هو ، فقال النبى لما سمع صوت حراك في الغرفة المجاورة : اخرج عنى من عندك . قال أبو بكر : يا رسول الله هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى ؟ قال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام : إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة . قال أبو بكر فى لهفة وبهجة : الصحبة يا رسول الله - رد عليه النبى صلوات ربى وسلامه عليه : الصحبة – أيقن عندها أبو بكر أنه مرافق للرسول فى هجرته، فلم يتمالك نفسه من فرط السرور، فبكى من شدة الفرح وقال : يا نبى الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا .

لم تكن الراحلتان هما فقط ما دبره أبو بكر للهجرة مع الرسول، لكنه أعد للأمر عدته على أحسن ما يكون، فهو يعلم أن الخروج إذا حدث، لن يكون فى العلن، وأن قريشا لن تدعهما دون ملاحقة، فرتب الرحلة ترتيبا يليق بصحبة رسول الله، فكان فى ذهنه أن الطريق الذى سيسلكه إلى المدينة، هو طريق الشام البعيد، الذى لا يسلكه إلا من أراد الذهاب الى المدينة، تمويها وتضليلا لعيون قريش، وأوصى بمرشد، أو دليل له دراية بدروب ذلك الطريق (عبد الله بن أريقط ) من بنى الدائل بن بكر وكان مشركا، فقال أبو بكر للنبى وقد تبدت على وجهه علامات الاستعداد : لقد أعددت لذلك منذ أن قلت لي .. لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا .

وأمر النبى أبا بكر بالتحرك، واختار النبى صلوات ربي وسلامه عليه العروج ناحية الجنوب، ليصرف الأنظار عنه، ثم يعاود إمساك طريقه مرة أخرى، بعد أن تكون الأمور هدأت، فعمد إلى تضليل المشركين ، الذين انطلقوا فى هذه اللحظات ناحية الشمال ـ الطريق المتجه إلى يثرب ـ فتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم عكس ذلك، على جهة الجنوب، وفي ثلث الليل الأخير من ذلك اليوم العظيم، والظلام فيه يُخيم على ربوع مكة وما حولها يخرج الرسول ومعه أبو بكر، وينظر إلى مكة نظرة مودع حزين على فراقها، فيقول وقد دمعت عيناه : والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وإنك لأحب أرض الله إلىِّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منكِ ما خرجت .. ويحاول أبو بكر أن يصرف حبيبه عن الحزن فيقول له : لا تأس على أحدٍ فيها يا رسول الله . فقد همَّوا بك . وانطلقا إلى جبل أسفل المدينة، حتى إذا وصلا اليه، تحرى الرسول فيه مكانا يصلح للاختباء والتخفى، فاهتدى إلى مكان خلف الجبل يصلح لذلك . ( غار ثور ) وكان أبو بكر قد أمر أثناء خروجه مولى له يُدعى (عامر بن فهيرة ) أن يسير خلفهما بالغنم، حتى يغطى آثار الأقدام، كى لا يعثر الطلب على طريقهما .

.. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تكملة ( الحلقة/ 64 ) البلاغ من الله لنبيه بالهجرة !! 

وقف النبى صلوات ربي وسلامه عليه وأبو بكر أمام (غار ثور) ويهم النبى صلى الله عليه وسلم بالدخول فيه فيمنعه أبو بكر ويقول : والذى بعثك بالحق، لا تدخل حتى أدخله قبلك، فإن كان به شيء نزل بى قبلك، فهذه الكهوف ملجأ للثعابين والحيات – ويتحسس أبو بكر الغار، ثم يدخل ويدخل خلفه النبى، وينادى أبو بكر من خلف الغار مولاه – عامر بن فهيرة - ويقول له : يا ابن فهيرة اجعل عبد الله ولدى عينا لنا فى مكة، فلا يبرحها فى النهار ، يسمع لنا ما تقول قريش، ويعلم بما تدبر لنا – 

قال عامر : سأنطلق إليه وأخبره بذلك، وأنا يا أبا عبد الله ماذا أفعل ؟ 

قال أبو بكر : أرع غنمى فى رعيان أهل مكة، وتأتينا فى المساء، وتحتلب لنا وتزودنا بما نحتاج، ولا تنس إذا هممنا بالخروج من الغار أن تُبلغ (عبد الله بن أريقط ) بساعة الرحيل، كى يدلنا على الطريق . 

انطلق عامر بن فهيرة، ومعه التعليمات، وترك الرسول وأبا بكر فى الغار، وكانت قريش قد هاجت وماجت، لمَّا علمت بنجاته من القتل، وفى تلك الأثناء، لم يكن فى مكة من المسلمين، غير على بن أبى طالب، ومن حبسوهم قسرًا ، ومن تعذر عليهم الخروج من النساء ، أما على بن أبي طالب فقد أبقاه الرسول ليؤدى الأمانات التي كانت عنده لأصحابها من أهل مكة، وسمى له الرسول أصحابها، وأمره بالمكوث حتى يأخذ كل من له أمانة أمانته . 

ويهرع أبو جهل وهو فى حالة من التخبط والهياج إلى دار أبى بكر، فليس لمحمد صاحب سواه، ولن يعدم من هذه الدار خبرًا عن مكانه، ويطرق الباب بعنف، فتخرج إليه أسماء بنت أبى بكر ويسألها : أين أبوك يا بنت أبى بكر ؟ 

قالت : لا أدرى والله أين أبى، فرفع الفاجر يده، وهوى بها على وجه الطاهرة أسماء، فلطمها وهو يصيح : قد فعلها أبوك وخرج مع محمد، والله لن يبلغا ما أرادا . وانصرف مسرعاً يُوجه رجالات قريش إلى منافذ الخروج من مكة، للإمساك بمحمد وصحبه ، فقد استيقن الآن أنه خرج مع أبى بكر، وتوجه نفرٌ ممن أمرهم أبو جهل بالإتيان به ناحية الغار، وأخذوا يقتربون منه شيئاً فشيئا، ولكن الله أعماهم عنه فقال أحدهم للآخر : واللات ما جاز مطلوبنا من هذا الغار، فرد عليه الآخر : ما أحسب محمدا دخل هذا الغار، فقال صاحبه له : عجبا لقد بحثنا عنه فى كل مكان، وقد انقطعت آثار الأقدام عند هذا المكان .. 

وصارا فوق الغار، ولو أمعنا النظر من شقوقه لوقعا على مطلبهما، ولكن الله يصرف همتهما إلى ما لا يتخيله أحد . وقفا الاثنان أمام الغار وقد نسى ما جاء من أجله، وتحول حديثهما إلى أمر آخر غير الذى فيه الطلب، ويسمع الرسول وأبو بكر حديثهما البعيد عن المهمة، ويريا الأقدام فيقول أبو بكر للرسول : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فيقول الرسول له في تهامس : يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، وينصرف الرجلان عنهما بقدرة الله .

وتمر هذه الليلة الطويلة بأحداثها المحتشدة، ويسفر وجه النهار على مكة، وقد ماج أهلها في تخبط وارتباك ، فماذا لو أفلت محمد من أيديهم، لكن الأمل يحدوهم فى الإمساك به، ولازالت نفوسُهم على عزمها، فلم يمض وقت بعيد على خروجه وهذا يعنى أنه في مكان قريب من مكة . فأعلنت قريش مكافأة عالية لمن يأتى بمحمد حيا أو ميتا – مائة ناقة، وانطلقت الفرسان ومن أغراهم العرض يميناً ويساراً وكلهم أمل في العثور عليه .

فى هذه الأثناء توجه ( أبو قحافة ) والد أبى بكر الصديق، إلى دار ابنه لمَّا سمع أنه هاجر مع محمد، وأراد أبو قحافة أن يطمئن على أحفاده، ماذا ترك لهم والدهم ؟ هل تركهم يواجهون العنت دون مال ؟ فطرق الباب وفتحت له أسماء بنت أبى بكر فقال لها : والله إنى لأراه قد فجعكم بماله فى نفسه ؟ وتفتق ذهن أسماء إلى حيلة تخرجها من هذا المأزق، فأبو بكر لم يترك لهم شيئاً، وأخذ معه الأموال كلها، فهو لا يدري ما هى نوع العقبات التى سيواجهها، فهم مطاردون، وأوكل رعاية بناته إلى الله فى هذا الظرف العصيب، فوضعت أسماء حجارة فى كوة بالبيت، ثم وضعت عليها ثوبا، وكان أبو قحافة كفيفا لا يرى، فأخذت بيده وجعلته يتحسس موضع الكوة التى بها الأحجار وعليها الثوب، وأوهمته أنها أموال تركها أبوها. 

قالت لجدها : ضع يدك على هذا المال . ووضع أبو قحافة يده فاطمأن وقال : لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن وفى هذا بلاغ لكم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

( الحلقة/ 65 ) سراقة بن مالك والآية الكبرى !! 

الكل يبحث الآن فى منافذ مكة الخارجية ، طمعاً فى نيل المكافأة الكبيرة، والرسول صلوات ربى وسلامه عليه وصحبه داخل الغار منذ ليلة أمس، وعبد الله بن أبى بكر يتجول فى طرقات مكة نهاراً، يسمع ويرى ما يدور فيها ، وما يُدبر للنبى وأبيه، فهو عينهما فى مكة . وعامر بن فهيرة يذهب بالغنم ومعه ما احتاجه النبى صلوات ربي وسلامه عليه وسيده أبو بكر، ويغطى آثار الأقدام حول الغار بالغنم، وأسماء بنت أبى بكر توافيهم ليلاً بالطعام الذى يكفيهم حتى اليوم الثانى، وتشق نطاقها نصفين، فتضع الطعام فى نصف، وتربط الثانى على بطنها .. وعُرفت من يومها - بذات النطاقين- 

ثلاثة أيام يستمر فيها الطلب، والرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه يمكثان فى – غار ثور- حتى إذا هدأ الطلب فى اليوم الثالث، تهيأ الرسول وأبو بكر للخروج من الغار، ويبدأ التخطيط للرحلة الكبرى إلى المدينة . 

ينطلق عامر بن فهيرة ليأتى – بعبد الله بن أريقط – دليل الطريق، ويتم اللقاء عند سفح جبل الغار، ويأخذ الركب الميمون مسيره نحو الشمال، ليمر بمكة من بعيد، ثم ليجاوزها إلي ناحية طريق الساحل، المتجه شمالاً إلى المدينة . ويسير الأربعة نحو غابتهم، فى الأمام – عبد الله بن أريقط – ومعه – عامر بن فهيرة– وخلفهما النبى والصديق أبو بكر، وأبو بكر لا يفتأ يتلفت يميناً و يساراً، يسير مرة أمام النبى ومرة خلفه، ويسأله الرسول عن ذلك فيقول أبو بكر: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، حتى آمن عليك، ويسأل أبو بكر الدليل – عبد الله بن أريقط – عن خط سير الرحلة، ليراجعه أبو بكر فى الأماكن التى يرى فيها خطرًا عليهم إذا سلكوها، ويجيب عبد الله بن أريقط وكأنما رسم بإحكام طريقه للسير، لا تسلكه القبائل فى مسيرها نحو الشمال، 

قال: سأمضى إلى طريق الساحل وأعرج أسفل عسفان، ثم أستمر حتى – أمج – ومنها أنطلق إلى – قديد- ومن قديد أسلك الطريق المؤدى إلى – الخرار – ومنها إلى – ثنية المُرة – فإذا وصلت – مدلجة لقف – أستبطن بها حتى أصل – مدلجة محاج – ثم أستمر حتى – الجداجد – ثم – الأجرد – فإذا وصلت – العبابيد – أبطأت ولا أحيد يميناً ولا يساراً حتى أدرك يثرب . 

اطمأن أبو بكر بدروب السير الوعرة، واختياره للطرق المجهولة، التى يتعذر الولوج فيها، وانطلق الرهط إلى مهجره . 

وبعد مرور الأيام الثلاثة هدأ الطلب، ولكن لم يهدأ في نفوس الطامعين في المكافأة، فمائة بعير ليست هينة، جعلت فرسان قريش تحوم حول الطرق المؤدية إلى المدينة حوم المتلهف على الفريسة وكان – سراقة بن مالك بن جُشم – أكثرهم تلهفا، وكيف لا وهو فارس فرسان - بنى مُدلج- وسيد من ساداتهم، يجلس فى أحد أندية قريش، ويسمع ما يدور بين الناس ، محاولات تخرج للبحث عن محمد ولا يعود الرجال، ويخامره الشوق في الخروج للبحث عنه، وبحنكة الفارس المخضرم ينتظر حتى يُحار أهل مكة، ويُغالبهم اليأس في العثور عليه، ويقرر فى نفسه شيئاً ؟ عدم تفويت الفرصة والخروج إلى الطلب ، لكن مع هذا تثاوره المخاوف من أن يعثر أحدهم عليه لو تأخر أكثر من هذا، فبينما هو جالس يحدّث نفسه هكذا، جاء أحدهم وقال له : أراك يا سراقة صامتاً عما يدور حولك، هل تحدثك نفسك بالمائة ناقة، التى رصدتها قريش لمن يأتى بمحمد ؟ 

قال سراقة : عجبت والله لأمر قريش، تدفع مائة من الإبل لقتل ولد من أولادها ؟ قال الرجل : ولكنه عادى آلهتها وسفَّه أحلامها وفرَّق جمعها . قال سراقة : ولكنه خرج من بينهم فهل تركوه يذهب حيث شاء فتخلص لهم مكة، ويترك الرجل سراقة يتحدث وقد انهمك فى النظر بعيداً إلى قادم يأتى من أولئك النفر الذين خرجوا للبحث عن محمد ، فلما دنا منهم القادم سأله سراقة، ما بك يا رجل ؟ رأيتك تتهامس نحوه وأنت تعدو نحونا ؟ قال الرجل الذي كان يحادث سراقة : يقول لى ابن أخى إنه رأى لتوه أشخاصاً غرباء : وفي تلهف المترصد فرصة قال سراقة : ماذا تعنى وأين رآهم ؟ قال الفتى القادم لتوه : رأيتهم بالسواحل، وأغلب الظن أنهم محمد وأصحابه . 

أحس سراقة أنهم عثروا عليه من بعيد وقال فى نفسه : والله إنه لمحمد، آه لو عثرت عليه، مائة ناقة تضاف إلى الإبل والشياه فأكون أغنى رجل فى - بنى كنانة - وعزم أمره، وموَّه على الرجل والفتى وصرف أنظارهما إلى ما هو بعيد عن الموضوع حتى يستأثر بالجائزة دونهما، فقال سراقة للفتى الذى رآى الغرباء : لا لا لقد أخطأت والله، إنهم جماعة من عبيدنا وصبياننا انطلقوا يبحثون عن ضالة لنا فاهدأ بالاً . 

وصدَّقا ما قال سراقة، وكتم سراقة الأمر ، وصمم على الخروج خلف النبى وأصحابه وما إن عاود من فى المجلس حوله سمرهم ، وانشغلوا بحديثهم، حتى انسل ودون أن يلحظه أحد مبيتاً أمره . الخروج خلسة ونيل مكافأة قريش دون شريك، ويذهب إلى بيته ، ويأمر جاريته بأن تأخذ فرسه وسلاحه وتنتظره فى بطن الوادى دون أن يراها أحد ، ويتلكأ سراقة صرفاً للأنظار، ثم يتسلل إلى بطن الوادى حيث تنتظره الجارية، فيركب جواده وينطلق على طريق الساحل، ولا يلبث أن يلحق بهم، ويلمح أبو بكر الراكب خلفه فيقول : يا رسول الله لقد أدركنا الطلب، ويقترب فرس سراقة من خلف النبى صلوات ربى وسلامه عليه، وكان يقرأ القرآن فدعا النبى دون أن يلتفت إلى الخلف ، فيتعثر جواد سراقة، وترتطم بطنه بالأرض، ويقول سراقة لنفسه على الأرض وقد تمتلكه دهشة : ويحك سراقة ، يتعثر به جواده فوق أرض صلبة، لابد أن هذا الرجل كما يُقال عنه إنه ممنوع ؟ . ثم يعاود سراقة المحاولة بعد أن قام جواده وهو يحدث نفسه : ها قد قام الفرس لابد أنها كبوة من كبوات الجياد، لألحقن به .

ويندفع سراقة في المرة الثانية ، وما أن اقترب من خلف النبى ، إلا وساخت قوائم الجواد فى الأرض الصلبة ، ويتسمر مكانه وقد استوى بطن الجواد بالأرض . أيقن سراقة أن لا فائدة في هذا الطلب فقال فى نفسه : والله إن الرجل ممنوع ولن يخلص إليه، ثم صاح : يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجينى مما أنا فيه ، ولك علي عهد الله من هذا الطريق، أن لا أدع أحداً يطاردك، وأن أرد عنك الطلب . ويُخلصه الرسول صلى الله عليه وسلم من غرسته بدعوة كما ثبته فى الأرض بدعوة، فينهض الجواد وكأن لم يمسه شيء، ويهمس سراقة فى نفسه همساً : لقد علمت والله إن الرجل ممنوع، وليس إليه سبيل، لأقتربن منهم فى هدوء .

ويقترب سراقة فى هيئة أمان من الرسول ، ويدفع الرسول بأبى بكر ناحيته، ويقول الرسول له : ماذا تبغى يا سراقة ؟ قال سراقة فى وداعة ولين : أنا سراقة بن مالك ابن جُشم المُدلجى ، لا يصلك منى ما تكره، وهذا سهم من كنانتى ، وإنك لواجد إبلى فى طريقك فاعطِ للرعاة هذا السهم، يعطونك من إبلى ما شئت . 

قال الرسول : لا حاجة لى فى إبلك، قال سراقة : يا محمد إنى أعلم أن أمرك سيظهر، فاكتب لى أمانا إن أتيتك به أكرمتنى . فأمر الرسول أبا بكر أن يكتب ما أراد، فكتب أبو بكر فى رقعة الأمان الذي طلبه وأعطاه له . واستدار سراقة بفرسه موجهاً عنانه ناحية مكة وهو يقول : والله لأردّن عنكم الطلب، فلا يصلكم أحد من قبلى أبداً، فلما هم بالانطلاق، سمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه فتوقف : ياسراقة كيف بك وقد تسورت بسواري كسرى ؟ واندهش سراقة وقال : كسرى بن هرمز ؟ قال الرسول : نعم (كسرى بن هرمز )

وانطلق سراقة يكلم نفسه بهذا الوعد : يا للعجب يعدنى بسواري كسرى والناس تلاحقه، يعدنى بها ولا يجد شربة ماء ؟ أحقا يكون لى فى يوم ما سواري كسرى ؟ 

وكيف لا والرجل ممنوع ، وإنى على يقين بأنه سيظهر على العرب والعجم . 

وقطع سراقة طريق العودة حتى دنا من مكة، فقابله فى الطريق بعض الفرسان وقد اهتدوا إلى الطريق الذى سلكه محمد ، فأوقفهم سراقة وقال : إلى أين يا إخوة العرب ؟ 

قالوا : بلغنا أن محمدا قد سلك هذا الطريق . قال سراقة : قد كفيتكم هذا الطريق فابحثوا فى طريق غيره . ويأخذ الرجال طريقاً آخر، وكلما مرت مجموعة بحث تبتغى هذا الطريق منعهم سراقة، وعاد إلى داره وحفظ عهد النبى، وأدى ما قطعه على نفسه فى رد الطلب ، وبدأت تتواتر الأخبار إلى أبى جهل، أن سراقة اعاق سير الفرسان المتجهة إلى طريق الساحل ، وحال بينهم وبين محمد، فمشى إليه أبو جهل والتقاه وقال له : أتراك صبأت ياسراقة ؟ قال سراقة : لا والله يا أبا الحكم ما صبأت ولا تابعت محمداً على دينه . قال أبو جهل : فلِمَ إذن رددت الناس عن الطريق الذي جئت منه ، وقد أصبت محمداً فيه ؟ 

قال سراقة : إنى يا أبا الحكم .. لقد رأيت رجلاً لأمره فى الظهور، فأحببت أن تكون لى يد عنده .. ويتغير لون أبى جهل، ويعجب لسماع هذا الذى يقوله سراقة، فيقول فى سخرية : أو سحرك محمد يا سيد بنى كنانة ؟ قال سراقة : لا يا أبا الحكم، لو أنك رأيت ما رأيت ما لمتنى على ما فعلت . قال أبو جهل : وما رأيت بحق اللات ؟ فأنشد سراقة قائلاً :

أبا الحكم واللات لو كنت شاهداً ........... لأمر جوادى إذ تســوخ قوائمه 

عجبت ولم تشكك بأن محــــمداً ......... رسول وبرهان فــمن ذا يقاومه

عليك فكف الــقوم عـــنه فإننى .......... أخال لنا يوما ســــتبدو معالمه

بأمر تود النصر فـــيه فإنــــهم ........ وإن جـميـع النـاس طــراً تســـالمه

ويتركه أبو جهل وهو يتمتم بكلمات ملؤها السخط والغضب : واللات ما انتهينا من سحر محمد بعد – يكر الفرسان خلفه - وبدل أن يأتونا به يردون الطلب عنه .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تعليقات

التنقل السريع
    close