الطريق الي النور
( الحلقة/44) إسلام عمر بن الخطاب !!
ويصل ركب المؤمنين الحبشة، ويستقبلهم ( كاسام ) وقد أعد لهم ما ييسر عليهم المعاش في أرض المهجر، وتمر بهم الأيام ولا يحس بتحركهم أحد، حتى استطاعوا أن يندسوا بين الأحباش، شأنهم شأن الغرباء فيها، وفي الخفاء كان كاسام يعينهم على شراء الأراضي الزراعية رخيصة الثمن، واستئجار الدكاكين، يمارسون فيها ما برعوا فيه من مهن مكة التي يحتاجها الأحباش، ولم يؤثر المهاجرون الأول التجمع في القرى بعينها حتى لا يتهموا بما يتهم به البطارقة عادة، التجمعات التي لا تدين بالنصرانية، وتنبه أشراف مكة يوماً بعد يوم إلى اختفاء أعداد متزايدة من المسلمين، بعضهم من المستضعفين الذين وجدوا الأمن والأمان في الحبشة، وبعضهم من ذوي الشرف والثراء والمنعة، الذين أحبوا أن يكونوا في عون إخوانهم هناك رغم أحزانهم الدفينة لمفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وينفلت عقال بعض صناديد مكة، ويوعز بعضهم إلى بعض بالتضييق على المسلمين، ومنع من يهم اللحاق بمهاجرى الحبشة، ونُصبت الكمائن على الطرق المؤدية للخروج من مكة، ومن يُعثر عليه متسللاً ناحية البحر من المسلمين، يُوضع القيد في يده، ويُحبس تحت حراسة مشددة من أهله وذوي قربته، ويكسر ( عبد الله بن سهيل ) قيده، ويفلت من قبضة أبيه، ويلحق بالفوج الثاني الذي أعده الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل على رأسه - جعفر بن أبى طالب - لينضم إلى الفوج الأول هناك .
وتجلت حكمة الرسول في جعل أمير الناس جعفر، ذلك أن والد النجاشي - الملك أبجر - كان على علاقة ود مع عبد المطلب جد جعفر، كما أن جعفراً خطيب مفوه، فإذا تعرض الوفد للمساءلة كان أجدر الناس بالجواب .
وينطلق ركب المؤمنين الثاني إلى الحبشة بعد مرور ثلاثة أشهر على الركب الأول، الذي جاءت منه الأخبار، بأن الأمور تسير على ما يرام .. ويحط جعفر بن أبى طالب وثمانون رجلاً وامرأة، هم عدة الوفد إلى الحبشة، ويستقبلهم إخوانهم في حيطة وحذر، وقد أعدوا لهم عدة البقاء، وفي مكة تنخلع قلوب المشركين كمداً وحزناً، فقد نجا من بطشهم على غفلة من الأيام، عصبة كانت تحت أعينهم يرصدونها ويدبرون لها، أما الآن فلا يدرون عواقب خروجهم إلى أرض المهجر، وساورتهم المخاوف من عون الأحباش لهم، وتقوية ظهورهم بغية الانقضاض على قريش . ويهمس أبو جهل في أذن عمر بن الخطاب، يستثير حميته على محمد وأصحابه، ويقلب الأمور في رأس عمر الغاضب، ليدفعه إلى فعل حماقة في دار الأرقم، وينهض عمر بن الخطاب بعد أن عبث أبو جهل ورهط من قريش في أذنه، قاصداً محمدا وأصحابه، يقطع الطريق قطعاً، متوشحاً سيفه، متوعداً في نفسه أن يقضي على محمد الذي فعل بمكة ما فعل، وغيَّر حياة الناس فيها، وصارت إلى الخلاف والشقاق، وشتت الضعفاء في الأرض، وهجر الأهالي من بعضها . كل هذه الخوالج كانت تختمر في عقل عمر، وبينما هو يعدو مسرعاً لقيه - نعيم بن عبد الله - وكان قد أسلم سراً، فقال نعيم لما رأى الشرر يتطاير من عيني عمر : إلى أين يا ابن الخطاب ؟ . قال عمر : أريد محمداً هذا الصابئ، والذي فرق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسبَّ آلهتها فأقتله . قال نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني هاشم تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً . ويتعجب من هذا الكلام عمر، فهو لا يدري إسلام نعيم، لكن كلام نعيم يشي بشيء كهذا . قال عمر : أراك صبأت يا ابن عبد الله . قال نعيم في تحدٍ وحزم : بل أسلمت . أفلا ترجع يا عمر إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ . وتسمَّر عمر في مكانه، وصاح في نعيم وأمسك بتلابيبه : وماذا بأهل بيتي ؟ . قال نعيم : أختك فاطمة بنت الخطاب، وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه . فعليك بهما . فغيَّر عمر وجهته إلى دار أخته، يُسرع الخطى وقد أذهله سماع ما سمع، ولما دنا سمع ما أكد له أن الأمر حقيقة، وسمعت أخته داخل الدار خطواته يقترب، فأخفى زوجها - خباب بن الأرت - الذي كان يقرأ القرآن لهما ليتعلما، أخفاه في غرفة مجاورة، وطوت فاطمة الصحيفة وجلست عليها، ودفع عمر الباب بضربة شديدة، ورأى أمامه زوج أخته وقد أربكته المفاجأة، فأمسك به عمر وقال : ما هذا الذي سمعته تتلونه قبل دخولي ؟ . قالا له : ما سمعت شيئاً . قال عمر وقد صعد الدم في رأسه : بلى والله لقد صدق من أخبرني أنكما تابعتما محمداً على دينه، ثم هوى بيده وهو ثائر على زوج أخته وشجَّ رأسه، فهبت فاطمة لتكفه عن زوجها ولا يتمالك عمر نفسه فيلطمها على وجهها لطمة تسيل لها الدم، وقالت فاطمة وهي تبكي : نعم قد أسلمنا، وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك .
فلما رأى عمر الدم على وجه أخته رق قلبه، وندم على فعلته وقال لها مترفقاً هادئاً : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد . وخشيت فاطمة أن تعطيه الصحيفة يمزقها، فتراجعت إلى الوراء وهي متشبثة بها وقالت : إنا نخشاك عليها . قال عمر وقد تبدى على وجهه قبول الأمر : لا تخافي واللات لن أمسها بسوء .
أحست فاطمة بالصدق في كلامه، وطمعت في إسلامه، قالت : يا أخي إنك على الشرك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، اذهب واغتسل ثم خذها .. فقام واغتسل، فأعطته الصحيفة فقرأ {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} واستمر إلى أن وصل لصدر السورة . كلام الله لموسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ } فقال عمر : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فلما سمع الخباب بن الأرت كلمات الرضا من عمر خرج من مخبئه، فلما رآه عمر أصابته الدهشة وقال الخباب لعمر : ياعمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس، وهو يقول " اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر .
قال له عمر : فخذني يا خباب إلى محمد آتيه فأسلم . قال الخباب وقد غمره الفرح والسرور : هيا هيا إنه يا عمر إنه في دار الأرقم عند الصفا .
ويهرع عمر إلى دار الأرقم، وضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً سيفه، فعاد فزعاً إلى الرسول وقال : يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف . ويقوم حمزة بن عبد المطلب متحفزاً قال : ائذن له يا رسول الله، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلته بسيفي هذا .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإدخاله، ويدخل عمر ويقف بجوار الباب ينتظر الإذن، وينهض الرسول ويندفع ناحيته ويمسك بمجمع ردائه، ويهزه هزاً عنيفاً وهو يقول له بصوت قوي : ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟ . فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة . قال عمر : يا رسول الله جئتك لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله . ولا يصدق الرسول نفسه من فرط الفرحة، ولا هو ولا من في دار الأرقم، وتخرج منه صلى الله عليه وسلم التكبيرة مدوية : الله أكبر، الله أكبر، وكبر خلفه المسلمون الله أكبر، وتسمع مكة التكبيرات المدوية الصادرة من دار الأرقم، قالت قريش : واللات لقد حدث شئ .
ويخرج أصحاب الرسول من دار الأرقم فرحين بإسلام عمر، غير عابئين بالمحاذير وتخرج معهم الدعوة من طور السرية إلى العلن، وكأن إسلام عمر قد وضع حداً فاصلاً بين السر والعلن، وكأن التكبيرات التي صاح بها المسلمون كانت آذاناً لميقات العلن في الدعوة .
ويسأل عمر أصحاب الرسول : من أشد الناس عليكم شراً ؟ . قالوا : أشدهم علينا أبا الحكم عمرو بن هشام . وينطلق عمر إليه، فعمر ليس بالذي يخفي إسلامه وقد عهدته قريش لا يهاب أحداً، ويطرق بابه طرقاً عنيفاً، ويخرج إليه أبو جهل مذعوراً على وقع ضربات عمر الشديدة ويقول : مرحباً بك يا ابن العم . ويصدمه عمر بالمفاجأة : أما دريت يا أبا الحكم ؟ . قال أبو جهل : ماذا ؟ . قال عمر : إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله . فاغتاظ منه أبو جهل وتغيَّر لون وجهه ودفع الباب في وجهه وهو يقول : تباً لك سائر اليوم أفسدت عليِّ يومي .
ويتركه عمر يأكل الغل قلبه بعد أن قذفه بالنبأ المفجع يحدث نفسه : ما العمل وقد دخل في دين محمد من لا يخشى أحداً من قريش . ولم يكتف عمر بما فعله مع أبى جهل، سأل : من أفشى الناس للسر ؟ . قالوا : ليس هناك أفشى للسر من - جميل بن معمر - فذهب إليه عمر، وأدركه عند الكعبة فقال له : يا ابن معمر أما علمت ؟ . قال جميل : ماذا ؟ . قال عمر : ما دريت إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فما أن سمع جميل إلا وانطلق من أمام عمر، دون أن يسأله أو يحاوره، عدا مسرعاً إلى حيث أكثر جموع قريش احتشاداً، وراح يصيح بأعلى صوته : يا معشر قريش صبأ عمر ودخل في دين محمد .
فأتت جماعة منهم إلى عمر، لم يصدقوا الداعي فقالوا : أحقاً صبأت يا ابن الخطاب ؟ . قال عمر : بل أسلمت أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولم يحتمل القوم تحدياً منه أكثر من هذا، قاموا عليه يضربونه ضرباً عنيفاً، ولم يقف عمر مكتوف الأيدي، رد عليهم الضرب قدر طاقته، وظلوا به هكذا ساعات . يضربونه ويقاومهم، فلما أحس بأن قواه بدأت تنهار، انسل من بين أيديهم وأمسك بكبيرهم - عتبة بن ربيعة - وألقاه على الأرض وركض على صدره، ثم وضع إصبعيه في عينيه، وهمَّ بالضغط عليهما وهو يقول : إن لم تنفضوا عني فقأت عينيه، وصرخ عتبة وهو تحته : اتركوه اتركوه والله يفقأ عيني . فتركوه بعد أن هددهم بكبيرهم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى

تعليقات
إرسال تعليق