رواية
يحدث ليلا في الغرفه المغلقه
الخامس
سائق الميكروباص كأغلب أمثاله يستمع إلى أغنية مسفة بصوت عالى والمغنى ينوح طوال الأغنية، دخلت الميكروباص وجلست على أخر كنبة فى جهة الشمال بجانب الشباك، ورائى دخلت ياسمين وجلست على نفس الكنبة فى الجهة القابلة بجانب الشباك الآخر، في حين جلست هند وليلى على الكنبة الصغيرة في المنتصف أمامنا، كنا جميعاً نتابع الطريق من نوافذ السيارة وكأننا نبحث عن شئ ما ؟
أحسست بتعب شديد وناشدت السائق :- وطى وطى يا عم لو سمحت، الجو ليل ودماغنا مصدعة وتعبانين.
برطم السائق غير سعيد ولا مقتنع بخفض صوت الكاسيت دون أن ينظر إلينا :- فى حاجة ولا إيه ؟ إنتو كنتوا فين ؟
- مافيش يا عم مافيش.
- إنتو متنرفزين ليه، لا صحيح كنتو فين ؟
نظرت إليه ياسمين وقد أقسمت عيناها على تلقينه درساً فى الأدب إذا سمعت كلمة إضافية، أردت أن أوفر طاقتنا جميعاً فأجبته لعله ينتهى من فضوله.
- كنا عند ناس قرايبنا.
جزت ياسمين على أسنانها فى غيظ :- راجل جماز جمز يا ساتر.
لم ينته السائق من فضوله وتدخله فيما لا يعنيه فأراد أن يشارك برأيه :- آه قرايبكم، كنتوا بيتوا هناك، الدنيا شتا والساعة ١١ بالليل !
بدأ صبرى ينفذ فنظرت له نظرة فى مرآة السيارة فهمها جيداً فأغلق فمه، كانت أعصابى تغلى ولن أحتمل سخافات أحد الجمازين كما تقول ياسمين، وصلنى نفس إحساس كل من حولى فى تلك اللحظات، الندم والندم ثم الندم، فيما عدا هند، إنها معتادة على مثل هذه الأمور، تصدقها وتخوض فيها للنهاية، نظرت من الشباك وتأملت ما حدث منذ أن جاءت هند وقت العصر لتقنعنا وعدم تقديرى للأمور، ليلى التى كنا نقف جميعاً ضدها، تأملت ما حدث وكأنه شريط سينمائى، مغامرة غير محمودة العواقب لأربع بنات جامعيات، يذهبن بمفردهن إلى دجال مشعوذ، فى قرية بمحافظة بداخل قلب الصعيد، في شتاء يناير القارس المخيف ليلاً، لا يعرف عنهن أهلهم ولا حتى أحد من أصدقائهم شيئاً، ماذا لو خطفنا وهذا أتفه شئ محتمل فى مثل هذا المكان المخيف؟ ماذا لو دس لنا ماهر شيئاً فى الشاى؟ وما الفائدة من تقطع أوراقنا؟ إنه يعرفنا الآن ويعرف أسماء أمهاتنا أيضاً، يستطع أن يفعل ما يحلو له ولن ألومه، أدرس القانون وقد تعلمت أن القانون لا يحمى المغفلين، نظرت إلى البنات فوجدتهن فى مثل حالتى صامتات متأملات، فندهت عليهن مداعبة، أو هكذا كنت أحاول.
- يا بدوح.
نظرن إلى جميعاً لكن ياسمين لم تبال، ظل رأسها مائلا إلى الشباك، فى حين نظرت إلى الخلف هند وليلى، نظرت لنا ليلى التى كانت تجلس مقابلة لى فى الأمام مستفسرة.
- الله ... بدلتوا طرحكم ليه ؟
أجبتها بسؤال :- بدلنا طرحنا ؟
- أيوة إنتى وياسمين بدلتوا طرحكم، إنتى بقيتى الصفراء وياسمين الخضراء أهو.
أخذت أتفحص ما الذى أرتديه فوق رأسى ثم تبادلت أنا وياسمين نظراتنا لبعض وإلى ما نرتديه فى ذهول! لقد بدل حجابنا فعلا ولا ندرى كيف؟ وفى الحال خلعت طرحة ياسمين وأعطيتها إياها كما خلعت طرحتى هى الأخرى، صرخت ياسمين.
- يا نهار أسود ... يا نهار أسود ... والله مابدلتها ؟!
- والله مابدلتها، لأ أنا مش مجنونة مابدلتهاش.
أخفض السائق صوت الكاسيت أكثر ليستمع إلينا فى وضوح، أسرعت إلينا هند وليلى الجالستين فى الكنبة التى أمامنا مباشرة بنفس ترتيب مواجهتهما لنا، ليلى أمامى وهند أمام ياسمين، زاغت أعين ليلى وهمست.
- وطوا صوتكم والنبى، وطوا صوتكم، ممكن نتخطف هنا أبوس إديكم وطوا صوتكم.
شخصت هند ببصرها نحونا ولم تنطق بكلمة، لاحظنا أن السائق فعلا يسترق السمع بشغف وفضول.
- هو فى إيه ؟
فى سرعة ولخبطة أجابت ليلى :- مفيش حاجة، عاوزين نوصل بقى علشان أتاخرنا قوى وأهلنا مستنين.
حاولت هند تفسير ما حدث فى برود وكأنها تذكرنى بشئ نسيته :- مش إنتى يا مريم ماكنتش عاجباك الطرحة من الصبح عشان شيفون تلاقيكى بدلتيها ونسيتى.
أجابتها ياسمين فى عصبية :- هى نسيت وأنا كمان نسيت يا هند؟
بقيت أنا وياسمين فى صمت، نظرت ليلى إلى هند بحنق وقالت :- هى كانت شورة مهببة، أنا عارفة إيه اللى كان خلانا نمشى ورا واحدة زيك ؟
لم تعلق هند، ظللت أبكى وأنا أفكر فى أمى وأهلى، كنت أشتاق إليهم وأفتقد إحساس الأمان بجانبهم، وأنا أبكى بحرقة نظرت إلى الأرض، كانت ليلى أمامى تواسينى وأرجلها فى الممر الضيق الذى تخرج أو تدخل منه الميكروباص، فإذا بى أبكى أكثر وأنا أنظر إلى ليلى فى دهشة.
- وده إيه ده كمان ؟
- فى إيه؟
- إنتى بدلتى البووت بتاعك مع هند ؟
نظرت كل منهما إلى رجلها، رفعت هند رأسها سريعاً بينما ظلت ليلى تنظر إلى البووت الذى ترتديه وتسمرت، تحجرت الدموع في عينيها لتنزل على مهل وترفع رأسها فى بطء شديد لتنظر إلى، عندها تكلمت هند.
- أيوة بدلناهم.
جاءت كلمات ليلى باكية نافية :- لأ مابدلناهمش يا هند.
فاض الكيل بياسمين فأنفجرت :- بطلى كدب ومدافعة عن الرجل ده بقى، حرام عليكى هو إحنا ناقصين.
- أنا مش بدافع بس ليلى ناسية، ثم إنتى يا مريم قعدتى تتريقى عليه وغمزتك بلاش، ثم أيوة إحنا بدلناهم يا ليلى.
تذكرت شيئاً هاما لتأكيد نفى ليلى :- ومن إمتى كانت مقاستكوا واحدة يا هند؟
صمتت بعدها هند إلى أن وصلنا، الأن تغير تفكيرى ناحية ليلى، هل تكون هند وراء ما حدث؟ وإذا كان هذا صحيحا، لماذا ذهبنا إلى هذا الدجال؟ قطعت هندحبل أفكارى.
- بص يا أسطى لو سمحت طلعنا على طيبة، نروح عندى على البيت أحسن النهارده يا بنات.
{طيبة حى راقى بينه وبين الأقصر ربع ساعة}
- طيب ماشى.
لم يبد منا أى أعتراض أو مواققة، كنا فى حالة نفسية لا تسمح بأى نوع من التفاوض على أى شئ، وصلنا طيبة، وإلى فيلا والد هند وأمام البوابة الحديدة وقف الميكروباص، كان شقيقها "طارق" يقف فى الدور الثانى حين وصلنا، دخلت أنا وليلى وياسمين وتركنا هند تدفع للسائق، سمعنا صوتها العالى تفاصله فى الأجرة، إلى أن جاءنى صوت السائق عالى فأزعج من فى البيت جميعاً.
- ده منظر بنات محترمة ده؟ جايين الساعة ١١ ونص، أنتو كنتو فين ؟
هرولت كالمجنونة من الداخل إلى الخارج، التقطت حجراً من الأرض وقذفته به من شدة الغيظ منه ومما نحن فيه، نزل شقيقها من الدور الثانى إلينا مسرعاً، كان السائق قد مضى إلى حال سبيله! وقفت مكانى وتأملت نفسى وردود أفعالى، فتوجست خيفة على عقلى! أصبحت لا أفكر قبل أن أفعل أى شئ، جاء صوت طارق شقيق هند في الخلفية.
- إيه اللي جايبكم دلوقتى ؟
قبل أن ننطق أسرعت والدة هند إلينا، لتتأكد من وجودنا بعد أن سمعت صوتنا وصوت السيارة بفضل هدوء المكان الشديد، عندما رأتنا بهتت وانكرت وجودنا فى هذه الساعات المتأخرة من الليل وحدنا خارج البيت؟ تكلمت بلغتها الصعيدية وبلهجة حادة لم نعتدها منها من قبل.
- إيه ده يا بنات، إيه اللى جابكوا دلوقتى ؟
اردفت هند :- النور قطع فى قنا قلنا نيجى نذاكر هنا.
لم تنطلى على الأم هذه الحجة الواهية، فرفعت حاجبيها وقالت :- إتقطع من أمتى يعنى ؟
- من العصر يا أمى واستنيناه مجاش، قلنا نيجى هنا أحسن.
- ولما هو قطع العصر ما كنتوا جيتوا وقت العصر مش فى الليالى كده ؟!
- اللى حصل بقى يا أمى نعمل إيه دلوقتى يعنى ؟ ادخلوا انتو يا بنات على الأوضة وأنا جاية.
فى الخلفية سمعنا الصدام مازال محتدماً بين هند وأمها، تأنيبا على التأخير وكلام عن الميكروباص والسائق إلى أن أغلقنا الباب وراءنا، فتخافت الصوت شيئاً فشيئاً.
تتميز غرفة هند بألوان زاهية من اللون الوردى والفوشيا والموف، بها شباك بيضاوى الفتحة كبير يطل على حديقة المنزل، تتكون من سريرين وخزانة صغيرة بينهما ودولاب في المقابل، جلست أنا وياسمين على سرير وليلى على السرير المقابل. أنظر أنا إلى ياسمين وليلى تنظر لى، دخلت هند وأغلقت الباب وراءها بعنف، دخلت مباشرة إلى الشباك، فتحته إلى آخره ووقفت تنظر إلى الحديقة، سادت فترة صمت ليست بالقليلة، أدارت هند وجهها لنا فجأة وقالت.
- إحنا في العيلة على طول بنروح للراجل ده وهو راجل كويس، أنا مرضيتش أتكلم قدام ماما، وموضوع الطرح بتاعكوا ده يا مريم، أكيد أنتو بدلتوها ونسيتوا، إنتى مكنش عاجبك طرحتك عشان شيفون، صح ؟
عادت ياسمين تنفى بعصبية :- طيب هى مكنش عاجبها طرحتها، وأنا؟ مريم نومتنى مغناطيسى وقلعتنى الطرحة من غير ما أحس؟ أنتى عبيطة ولا أيه؟ بصى يا هند بلاش تفتحى الموضوع ده تاني.
أرادت ليلى تهدئة الموقف خاصـة ونحن فـى منزل هند :- يا ياسمين أهدى مش كده، حصل خير يا جماعة.
توقفت هند تسمع ياسمين بهدوء، صمتنا للحظات، ثم قطعت الصمت.
- مش جعانين ؟
قلت فى أرهاق :- لأ مش جعانة.
ساندتنى ليلى :- ولا أنا.
لم ترد ياسمين، جلست على السرير ناظرة للأرض بشرود
قالت هند فى مرح غريب :- أنا جعانة وهاروح أعمل عشا وآجى.
بعد عدة دقائق جاءت هند بصينية كبيرة تحمل عدداً من أنواع الأجبان والمربى والخبز الفرنسى، رأينا العشاء فانفتحت شهيتنا، وجلسنا جميعاً على الأرض حول صينية الساندويتشات لنأكل، قالت هند مبتسمة.
- أنتو مش كنتو مش جعانين من شوية ؟
نظرت لها فى تعب :- جعت.
ضحكت هند وليلى وضحكت معهن وتبسمت ياسمين وهى تمضغ طعامها ببطء وشرود، أخذنا حماماً دافئاً واحدة تلو الأخرى بعد كل ما عانيناه من تعب، لعل الماء يجلى ويذهب عنا ما حدث، تمنيت أن تكون الأمور بهذه البساطة، أعطتنا هند ملابس للنوم، بعد أن استمتعنا بدفء المياه كانت هند قد أعدت لنا أكوابا من الكاكاو الساخن، لسان حالنا يقول "أحسنتى أختيار مشروب الشتاء يا هند، جميعاً نحتاج، نكهة الشيكولاته الآن بعد كل ما عانيناه"
نامت هند وليلى على سرير وأنا وياسمين على السرير المقابل كنت أشعر بياسمين وكأنها لم تذق طعم النوم مثلى تماماً، شعرت بتأنيب الضمير يقتلنى، كنت أخاف الله وعقابه أكثر بكثير من خوفى مما قد نواجهه فى المستقبل، كيف نسيت أن الله هو القادر الجبار فوق كل شئ؟ وأننا كلنا مخلوقات ضعيفة فى ملكوته، مهما بلغت قوتنا فإننا أضعف من مشيئته، ما علينا إلا أن ندعوه فيستجيب، ما علينا إلا أن نطلب القوة من القوى فنقوى، كيف طاوعتهن؟ نهضت من نومى وجلست مكانى أساوى شعرى إلى الوراء وأنا أستغفر الله، فقالت ياسمين.
- فى إيه يا مريم ؟
- مش عارفه أنام خالص.
- ولا أنا.
- صحيح نسيت أقولكم مش ماهر قالى على صندوق الحجة سعاد عايزه ؟
- صندوق إيه ؟
- الصندوق الأثرى اللى كان فى أوضة السنترال قال هو ده السبب !
- طيب ما نديهوله ؟
- تانى يا ياسمين دجالين وكفر ؟
تذكرت فتح القفل :- صحيح يا ياسمين، الصندوق كان عليه قفل متعرفيش راح فين ؟
- لأ مشفتوش، يمكن واقع هنا ولا هنا، خلاص نديه لصاحبته ولا حتى نرميه لو هو المشكلة يا مريم، ده إنتى حطاه فى أوضتك.
- لا يا ياسمين دى أمانة، أنا لا هارميه ولا هديهوله، ده بيقول كده. علشان يبيعه بشئ وشويات، لما تبقى ترجع صاحبته ده شكله قيم وأنتيكة.
بعد لحظات صمت أكملت ما يدور فى عقلى :- إحنا فعلا غلطنا يا ياسمين غلطة كبيرة، يارب استرها، يارب جيب العواقب سليمة، أنا خايفة قوى من ربنا.
- ربنا غفور رحيم هيرحمنا إن شاء الله، لكن تفتكرى رجل زى ده ممكن يرحمنا ؟
- بس هو كان كويس معانا الصراحة !
- واللى حصلنا يا مريم ؟
- بصراحة يا ياسمين إحنا أكتر اثنين اتريقنا عليه وقاوحنا معاه، يمكن اللى حصل ده كان قرصة ودن، خاصة هو مكنش بيرد! ل كان بيبتسم أبتسامة صفراء كده وشفتى وأحنا بنركب ضحك ضحكة عجيبة.
- ممكن، معرفش، طب وجزم هند وليلى ؟
بعد فترة غلبنا النوم دون أن ندرى فقد كنا فى شدة الإرهاق، فى هذه الليلة جاءني عماد فى أحلامى واقفاً كما كان فى الكلية فى نفس المكان الذي قابلته فيه، وقف منبها إياى قائلاً
{أنا قلتلك خدى بالك يا مريم وإنتى حرة، وقلتلك بلاش ثقة فى حد ... مسمعتيش الكلام ! مش عارف أعملك إيه دلوقتى
"الحلم"
-----------
كنت أتجول وحيدة فى شوارع قديمة، نظيفة، غريبة وشديدة الجمال أيضاً، بيوت أثرية لا مثيل لها اليوم إلا من بقايا هارئة لا تلقى منا المعاملة التى تليق بحسنها، معمارها بسيط وجميل وقوى الصنع يقف فى فخر واعتزاز، كأنه امرأة تتباهى بجمالها الربانى الذى لم يلوث بعد، جدران مبنية من الطوب الأصفر الكبير الحجم تزينها مشربيات خشبية صنعت بدقة متناهية، مطلية بلون بنى أصيل، بعض المنازل مزخرفة من الخارج بألوان هادئة متناسقة، والبعض الآخر محفور على حجرها بعض آيات الذكر الحكيم فى دقة وحلاوة، فنون لم أر مثلها إلا فى المتاحف والأماكن الأثرية فقط، أما واجهات المساجد فقد بنيت بأحجار منحوتة ومزخرقة عوضاً عن الطوب، الشوارع نظيفة جداً حتى فى أدق منحنياتها مهما ضاقت.
بعض النساء يرتدين سروالاً وقميصا، بعض القمصان من الحرير، له ذيل مطرز بالذهب وثوب قصير فوقه مزركش يحيط به حزام مزركش أيضا ثم رداء خارجى ذو أكمام واسعة، والبعض الآخر يرتدى فوق قميص قصير ثوب طويل من الخلف والجوانب فوقه، بعض السيدات ترتدى البرقع المطرز بالذهب الذى قد يتساوى طوله مع طولها تقريباً، وأخريات يكتفين بالتخفى وراء غطاء الرأس الكبير والذى يغطى أكثر من ثلثى جسمها، وهناك من لم تخف وجهها لا وراء برقع ولا خلف غطاء رأس، لكن جميع هذه القطع مطرزة بالحرير أو بخيوط ذهبية وفضية أحسبها ذهباً وفضة حقيقيين عند بعض من يلبسونها.
رأيت نساء ترتدى شيئاً يشبه إلى حد كبير القفطان المغربى بألوان واضحة صارخة، ايضاً مطرز ومزخرف بجمال آخاذ، لكن الشئ الملحوظ أن غالبية النساء قد تزين بالقررايط والأساور والخواتم والخلاخيل من الذهب والفضة.
تجول بصرى فرأيت عيناى رجال يرتدون سروالا واسعاً، يغلق عليه حذاء جلدى متوسط أو قصير الرقبة وجلباباً قصيرا أو قميص، يربطهما حزام من المعدن أو من القماش المزخرف بلون مختلف عادة، ثم عباءة مفتوحة من الأمام لمزيد من الوقار، بعض الرجال يرتدى جلباباً طويلاً لا يظهر السروال، تلف الرأس بعمامة تدور حول طاقية فى الوسط بلون مختلف، وقد زينت العمامة عند بعض الرجال بجوهرة ثمينة أو حجراً كريماً فى منتصفها فوق الجبهة.
من هؤلاء؟ كيف جئت إلى هنا وأين أنا؟ كم تمنيت أن أعيش هذه الأجواء فى أحلامى، أترانى أحلم أم أنى قد أنتقلت بالفعل؟ هل من الممكن أن يهرب بى عقلى الباطن إلى مكان أردت أن أراه فى زمن مختلف ؟ أم أنى فى الأساس من هذا العصر وقد سافرت إلى عصور نحسبها متقدمة؟ لكن مهلاً، ما هذه الملابس التى ارتديها! إننى أرتدى مثلهم تماماً حتى أننى أرتدى برقعاً طويلا على وجهى! كيف حدث ذلك؟!
أننى فى سوق به بعض الباعة، الناس يروحون ويجيئون فى عجلة وفى بطء، حمدت الله حمداً كثيراً عندما رأيت امرأتين واقفتين فى أحد الأركان القريبة منى، يتيادلان الحديث بصوت ليس منخفضاً أو لعله عالى بعض الشئ، لكنه كان كفيلاً بأن يصل لأذنى، فوقفت على مقربة أسترق السمع لعلى أعرف أين أنا، ومن هؤلاء ومن أكون بينهم، لعلهم يعرفوننى، أو يعرفونى بنفسى ويختصروا على ما سوف أمر به من جنون، إلى أن دار هذا الحديث بينهما.
- ألم تدرى بعد ؟ لقد أتى من قوص البارحة.
- من هو ؟
نظرت السيدة فى نفاذ صبر، ثم أطلقت زفيراً وحاولت رسم أبتسامة :- يا فاطمة يا حبيبتى ... عمن نتكلم بالآساس؟
بدا لى أن فاطمة تتذكر ، لكن ملامحها رسمت سؤالاً فى الطريق :- الشيخ عبد الرحيم القنائى القادم من أرض الحجاز، ولكن ما علاقة قوص به يا خولة ؟
بدت خولة مهتمة حد كبير كأنها تتتبع أثر الشيخ :- ما سمعته من زوجى أن الشيخ مغربى الأصل، وُلد بسبتة بالمغرب الأقصى، وأن نسبه يرجع إلى الإمام الحسين بن على بن أبى طالب، وقد تتلمذ فى مسقط رأسه على يد والده الشيخ "أحمد بن حجون"، لكن والده توفى وهو بعمر الثانية عشرة، كان الشيخ شديد التعلق بأبيه فمرض لفقده، لذلك أشار الأطباء أن يغادر البلاد إلى أن تهدأ نفسه، فسافر إلى دمشق في ضيافة أخواله، ونهل من العلم ما جعل صيته يذيع بين الناس هناك، لكنه عاد إلى بلده، ثم إلى أرض الحجاز.
- فيما بال قوص إذن ؟
- الصبر يا فاطمة، لقد قابله الشيخ "مجد الدين القشيرى " فى موسم الحج، ودعاه لزيارة قوص والمكوث بها لتلقين أهلها العلم، لكنه ذهب إلى هناك بضعة أيام ققط، ثم قرر المجئ هنا إلى "قنا".
- وما الذى غير وجهة الشيخ يا ترى ؟
- لرؤيا رآها فى منامه وتكررت عليه، ولاقتناعه أن أهل قوص ليسوا بالحاجة إليه كأهل قنا.
- لقد فهمت الآن، ولكن إلى متى يمكث العالم يا أم منتصر ؟
- لا أحد يعرف يا فاطمة ، لا أحد يعرف.
أنتابنى دوار وكدت أن أقع فأستندت إلى الحائط بجانبى، ورفعت البرقع كى أتنفس، حينها جرت فاطمة وخولة إلى فى ذعر غير مصطنع، وأستندت إليهما، قالت فاطمة فى خوف.
- لله أنتى بخير يا أختاه.
أجبتها وقد تهدجت أنفاسى :- نعم الحمد لله.
جاءت نبرات صوت خولة جدية :- إذا أردت مساعدة فرجاء اطلبى، نملك من الوقت ما يكفى لايصالك إلى بيتك.
- بيتى
- نعم بيتك .. أين يقع ؟
- لا أدرى.
نظرت خولة إلى فاطمة فى ارتياب ثم إلى في شك، قاطعتها فاطمة.
- دعينى أخمن .. أنت غريبة على قنا، لكنتك توحى بالغربة عن الديار ؟
- نعم أنا من أسوان.
- وماذا أتى بك إلى هنا ؟
قالتها خولة فى شك، كان على أن أحاول التحدث بلغتهم ومجاراة الموقف فأنا لا أعرف يقينا هل هذا حلم أم واقع؟ لكنى وجدت لسانى ينطق بلغتنا العربية الجميلة فى سلاسة لم أعهدها من قبل.
- ذهبت فى رؤية أبنة عم لى، لكنى فقدت العنوان ولا أتذكره.
- إذن أتيت بمفردك ؟
قاطعتها فاطمة مرة ثانية :- لا ترهقيها بكثرة السؤال يا خولة، أوشكت الشمس أن تغرب يمكنك المبيت عندى ولا حرج.
كانت خولة تنظر إلى فاطمة وعينيها تقول لا تقدمى أية عروض فنحن لا نعرف من تكون ومن اين أتت ؟ قد تكون جاسوسة مثلا، نظرت إليها فى تردد ولم أجب لكنها أكملت.
- تبدين متعبة وفى حاجة إلى الراحة.
قررت خولة أن نتعرف إلى بعضنا البعض وقد بادرت فاطمة بعرضها الكريم.
- انا خولة بنت عبد الوهاب القرمزى، وهذه فاطمة الزهراء بنت عثمان الأشعرى، ما أسمك ؟
- مريم بنت فاروق المختار.
تأملوا الأسم وكأنهم يبحثون عن مثيله فى ذاكرتهم، ولكن فاطمة لم تبالى، وحدها خولة بقيت فى شك وحذر، جاء صوت فاطمة بقرار.
- خولة سوف آخذ مريم إلى البيت لتستريح، وعند إشراق شمس الغد تستطيعين الرحيل يا مريم أو وقتما تشاءين.
لم أستطع إلا الموافقة. أريد الاسترخاء وأشعر بتعب شديد، ولا أدرى أين أنا ولا أستطيع الرجوع إلى حيث كنت.
- أشكر كرمك يا فاطمة.
- لا بأس يا مريم، خولة سوف نتقابل بعد الغد فى نفس المكان والميعاد لا تنسى.
- إن شاء الله.
مشيت مستندة على فاطمة في الأتجاه المعاكس لطريق خولة، كنت أستمع إليهما غير مصدقة لما أنا فيه، أرى الناس فى الشوارع التى لم أراها من قبل وأنا غير مدركة! ماذا حدث؟ أين أمى وأختى وأخى وجدتى وجميع أهل؟ أين أصدقائى؟ هل أنا طالبة كلية الحقوق فى سنه ٢٠١١ ميلادية، أم أنى فى سنة ... أى سنة هذه؟ أين هاتفى؟ وكيف أرتديت هذه الملابس ومتى؟ أريد أجوبة على كل تساؤلاتى وإلا سوف يتفجر عقلى، بأدرتها بسؤال.
- عفواً سوف أسألك سؤالاً قد تتوجسين خيفة منى بعده، وأنا مقدماً أرجوكى ألا تفعلى قد رأيت خولة وحذرها منى، لكنى أخشى أن لوثة ما قد أصابت عقلى فى الصميم.
- لابد أنك مررت بظروف قاسية، لا تبتئسى يا أختى ولا تحملى نفسك ما لا طاقة لها به، اسألى سؤالك وسوف أكون شديدة الصراحة معك.
- فى أى الأعوام نحن ؟
رجعت فاطمة برأسـها إلى الــوراء وفتحت عينيها أكـثر :- لعل الشمس قد أصابت رأسك يا مريم ! ا إنها السنة الـ ٥٥٥ هجرية - ١١٦١ ميلادية.
الرابع 👇👇👇👇👇👇👇👇
تعليقات
إرسال تعليق