يحدث ليلا في الغرفه المغلقه
الرابع
مروه جوهر
قضينا أغلب اليوم فى البحث عن سلسلة ياسمين من أجل المعرفة، التى باتت السبب فى ضياع صداقتنا والتخوين المستمر والقلق، جاءت ياسمين إلى غرفتى عاقدة يديها تفكر دون أن نتحدث، ظلت واقفة كما هى على باب الغرفة، لم نتناول إفطارنا أو أي وجبة، لم تعد لدينا شهية، ليلى ما زالت مكتئبة على الأرجح، تنام فترات طويلة ولا ترد أى سؤال أو أى تحية.
عند أذان العصر عادت هند من الخارج، هتفت فى حماس فقدناه منذ بداية الأحداث المؤسفة.
- يا بنات.
مر كثير من الوقت نفتقد هذه الروح الحلوة التى تميزنا، أصبحنا نتجنب بعضنا البعض، ولم نعد كسابق عهدنا ، نظرت إلى ياسمين في اندهاش وأردفت.
- تعالى يا هند.
جاءت هند وعلى وجهها علامات أمل وتفاؤل، نظرت إليها ياسمين فى فضول، سألت هند.
- فين ليلى ؟
أجبتها :- أكيد نايمة
- لأ صحوها، أنا عاوزاكوا كلكوا، الموضوع اللى بيحصلنا أنا عرفت حاجة عنه، وفى قرار لازم يتأخد مننا كلنا وحالا.
أعرف هند ومخها الصعيدى المتحجر، لن تقول شيئا إلا بوجودنا جميعاً كما قالت، أسرعت إلى غرفة ليلى وفتحتها، وجدتها نائمة كما ظننت، فتحت إضاءة الغرفة بأكملها.
- ليلى .. اصحى بسرعة، هند عاوزانا كلنا عشان اللى بيحصلنا.
أفاقت ليلى من نومها، تقاوم عينيها النور المباغت، وتحاول أستيعاب الكلمات دون ردة فعل، أخذت بيديها كطفلة فنهضت دون تفكير، ذهبنا إلى غرفتى حيث تجلس هند وياسمين فى صمت وأنتظار، تكلمت هند وكأنها تخطب فينا.
- بصوا يا بنات، من الآخر كده مفيش تفسير لكل الحاجات اللى بتحصلنا إلا أن فى جن لابس واحدة فينا، أو عايش معانا في الشقة، أنا بصراحة مشكتش فى الموضوع ده على طول لأن إحنا عايشين في الشقة بقالنا شهور، لو كان فى حاجة كانت ظهرت من بدرى، لكن يظهر إن العيب كده فى واحدة فينا، أنا من الأقصر وأدرى منكم بالمواضيع دى وشفتها كتير قدامى، يمكن حد متغاظ من واحدة فينا عملها حاجة ؟ عموما هنعرف كل حاجة .
لم نتحرك حركة واحدة من أماكنا ونحن نستمع بإنصات شديد إلى ما تقوله هند، ظللنا هكذا لفترة، ثم بدأنا التلفت حولنا والنظر لبعضنا البعض، تجردنا لدقائق من شكوكنا تجاه بعضنا، لنقع في شك أكبر وأعمق وأخطر، أنا لا أؤمن بمثل هذه الأشياء، فالحافظ هو الله، لم تبد ياسمين مقتنعة أيضاً لقولها.
- جديد الكلام ده يا هند !
ولم تلق الفكرة قبولاً عند ليلى أيضاً.
- وإزاي هنعرف بقى إن شاء الله ؟ إوعى تقولى هنجيب دجال في البيت ؟!
- لأ دجال إيه يا شيخة ؟ هنروح لشيخ، شيخ كويس جداً أعرفه وأهلى كمان يعرفوه، أنا كلمته فى التليفون لما سلسلة ياسمين ضاعت، كان كتير بقى اللى بيحصل ده، قالى يا إما واحدة فيكم ملبوسة يا إما البيت مسكون !
- يعنى من دماغك كده يا هند بدون ما تقوليلنا، روحى إنتى وشوفى مين هيروح لو موافقين، أنا مش رايحة للناس دى.
- يا ليلى مفيش حل قدامنا غيره، مين أخد سلسلة ياسمين؟ مين قطع بووت مريم؟ مين قطع محفظتى؟ مين يوماتى بياخد الفلوس من محفظتى أنا ومريم؟ لولا إن ياسمين معتمدة على الفيزا كان أتسرقت منها فلوس أكتر كمان؟
لم تجبها ليلى فنظرت لها هند فى شك وتابعت.
- قوليلى مين يا ليلى لو عارفه ؟
- تقصدى أنا يعنى ؟
حينها لم أقصد الأتهام المباشر، لكننى أردت أن أفرغ ما يدور بداخلى.
- معلش يا ليلى يعنى، ما هو إنتى الوحيدة اللى محصلكيش حاجة ! حطى نفسك مكانا إحنا، كنت هتفكرى إزاى ؟
- يعنى إنتى موافقة يا مريم نروح لدجال ؟
أنطلق صوت هند مدافعاً :- شيخ مش دجال يا ليلى.
نظرت إلى ياسمين فى تردد .
- مش عارفة أفكر، ياسمين إيه رأيك ؟
- والله انا تعبت، انا مبحبش الناس دى، بس لو هيقولنا فى إيه وإنتو هتروحوا هاضطر أروح.
تضغط هند على نقطة ضعفنا الأن، وهي "معرفة الحقيقة".
- مريم، مفيش وقت للتفكير، هو مستنينا بعد المغرب على طول، لازم نقوم نلبس دلوقتى، على بال ما نروح المشوار ده يا دوب.
- هو فين يا هند ؟
- فى{البياضية} .
- فين دى؟
- بين الأقصر وإسنا.
- ودى هنركبلها إيه دى ؟
- ياللا ياللا يا بنات أنا عارفة الطريق.
قاومت ليلى :- أنا مش رايحة، فكونى من الحوار ده.
لكننى ضغطت عليها بنفس أسلوب هند.
- ليه يا ليلى مش عاوزة تروحى، أصلا كل الشكوك ناحيتك وإنتى مش عاوزة حد يعرف حاجة ليه؟ اللى مش راضى يروح يا بنات يبقى هو اللى بيعمل كده فينا أو هو اللى عنده المشكلة بقى ؟
- أووووووف ... أمرى إلى الله.
فى أقل من نصف الساعة كنا جميعاً مستعدات للخروج، نرتدى ملابس بسيطة، يعلوها "البالطو" لما له من دور فعال فى مواجهة برد شتاء الصعيد القارس، ارتدت هند "عباءة سوداء" وأمسكت سبحة بيديها مما جعلنى أضحك على هيئتها، أغلقنا البوابة الحديدية الزرقاء قبيل موعد أذان المغرب، مارين على الحوارى الضيقة النظيفة، وما إن وصلنا إلى الشارع الرئيسى حتى استقللنا سيارة أجرة قاصدات موقف أتوبيسات قنا، طغى علينا إحساس المغامرة، إلا هند كانت فى مهمة رسمية كبيرة وخطيرة، لاحظت أنى أرتديت طرحتى الخضراء الخفيفة التي لن تغنى عنى شيئاً في مساء طقس شديد البرودة، على العموم لقد تأخر الوقت كى أعود واستبدلها، ولا أمتلك ما يكفى من النقود لشراء أخرى فى طريقنا، فقد سرقت جميع نقودى إلا القليل، أتمنى أن يكفى لشراء الطعام والمواصلات حتى ترسل أمى نقوداً أخرى، ولكن لماذا ترسلها؟ كى تسرق من جديد؟ لا أريد نقوداً حتى أعرف أين تختفى.
وصلنا موقف الأتوبيسات ثم ركبنا ميكروباص {قنا - الأقصر} ، وصلنا الأقصر ولم يدم البحث طويلا عن ميكروباص آخر {الأقصر - إسنا} يبدو أن هند تعرف الطريق جيداً كما قالت، أستغرق الطريق كله ساعة ونصف الساعة تقريباً، هاتفت هند الشيخ لتخبره عن قرب وصولنا.
قرية "البياضية" تقع فى منتصف الطريق تقريباً بين {الأقصر وإسنا] أو لنقل فى ثلثه الأول، وصلنا عند قهوة بجانبها كنيسة، كان لابد أن ينتظرنا الشيخ هناك ليأخذنا إلى داره، هند تعرف الطريق إلى الكنيسة فقط، ولا تتذكر جيداً أين يقع بيته، خاصة مع حلول الظلام وقد وصلنا بعد أذان العشاء، نزلنا من الميكروباص فوجدناه منتظراً، يرتدى جلباًبا أزرق، تلف رقبته كوفية حمراء، وصندل أسود جلدى، طويل، أسمر، رشيق، أسود العينين. يبتسم أبتسامة مخيفة بعض الشئ، أظافره طويلة متسخة، مد يده مصافحاً، وليس هذا من عادة شيوخ الصعيد.
- أهلا وسهلا يا بنات .. إزيكم ؟
أتسعت أبتسامة هند فى تفاخر:- الشيخ "ماهر" يا بنات.
رددنا جميعاً :- أهلا وسهلا.
سار وهند فى المقدمة، وانا وياسمين وليلى وراءهن، لم نتوقف عن الضحك على أتفه الأسباب، لا أدرى ماذا حل بنا، ربما لأنها مغامرتنا الأولى، أغلب الظن أننا سوف نضحك ونستمتع كثيراً الليلة، لم نلاحظ معالم الطريق من كثرة الضحك، كل ما تذكرته أن البيت يسبقه ممر طويل على يمينه زرع طويل ربما قمح، ولا أدرى ما يحده من جهة اليسار، عبرنا هذا الممر الطينى التربة وراءهن لندخل فناء كبيراً واسعاً، أمامه منزل طينى صغير مطلى باللون الأبيض، ميزنا اللون على ضوء إضاءة ضعيفة معلقة خارج البيت، على يسار المدخل كلبين طولهما يقترب من طولنا، لونهما أسود فاحم، ينبحان بلا توقف ويثيران الخوف والتوتر بيننا، عيونهما تضئ فى الظلام، لاحظ الشيخ حالنا وقال مطمئناً.
- اتفضلوا يا بنات واقفين ليه ؟
يتكلم الشيخ مبتسماً هادئاً بلهجته الصعيدية الحادة المشابهة للهجة هند، نظرنا إلى الكلاب في خوف.
- متخافوش دول مربوطين.
أكمل جملته والكلاب لم تتوقف عن النباح إلا بنظرة واحدة منه، أسكتتهما وأسكتتهما ثم رجعا خطوات للخلف وجلسا، شاهدنا ما حدث فسرت فينا رجفة، ليست مغامرة خفيفة الظل كما توقعنا، ولكن لابد من إكمالها فلا مجال للتراجع الآن، بلا شك وقعنا تحت تأثير الأجواء المحيطة، فمن الطبيعى أن تسيطر على حيوانك الأليف، ها نحن نقف على عتبة بيته.
- اتفضلوا يا بنات، تعالوا من هنا.
تركنا البيت الطينى الصغير أمامنا وإتجهنا ناحية اليسار، مشينا وراء هند ننظر إلى كلابه والنور الخافت يضئ أعينهما أكثر، وهما مازالا محدقين نحونا، نزلنا بضع درجات إلى غرفة تحت الأرض، فى هذه اللحظة تملك الخوف منا دفعة واحدة، الغرفة صغيرة، لون جدرانها أزرق فاتح اللون، باب دخول الغرفة يقع في منتصفها بالضبط، فى مواجهة الباب مقعد خشبى، فوقه مباشرة علقت سجادة صلاة زرقاء قاتم لونها، بجانبها على اليمين صورة السيدة العذراء تحمل السيد المسيح فى وداعة، وبجانبها على اليسار صورة ثالثة لفرعون مهيب لم أميزه، على يمين الغرفة كنبة قديمة الصنع كبيرة ملتصقة بالحائط، وعلى يسارها مكتب صغير فوقه كتب كثيرة قديمة وجديدة، عليه أباجورة ذات إضاءة حمراء، على جانبى المكتب يوجد كرسى واحد جلست عليه هند، وجلست أنا فى منتصف الكنبة وعلى يمينى ليلى وعلى يسارى ياسمين.
كان الرجل على درجة كبيرة من الأدب واللطف، جلسنا صامتات فأراد أن يكسر الجليد، أخذ يسألنا عن دراستنا وأحوالنا فى الجامعة، خضنا فى هذا الحديث لدقائق، وبعدها قال.
- إن العلم نور حقيقي للإنسان وأن للعلم درجات كثيرة، منها المميزة وهى التى خص الله بها بعض عباده الصالحين، وأن الشخص المتعلم حقا يضئ نوراً لمن حولها.
ثم أعطى كل منا ورقة بيضاء متوسطة الحجم لتكتب فيها أسمها وأسم والدتها وتقوله بصوت عالى ففعلنا وعندما جاء دور ليلى.
- ليلى بنت حبيبة.
أبتسم الشيخ فى ثقة غريبة.
- لأ يا ليلى، إنتى أسمك لولا مش ليلى، إنتى مغيراه بس عشان مش عاجبك.
- لأ أسمى ليلى.
- لأ أسمك مش ليلى يا لولا، أنا آسف بس دي حاجة ما تزعلش؟ ده أسمك!
لم يعجب هند ما يحدث فقررت أن تنهيه :- لأ إنتى أسمك لولا وأحنا كلنا عارفين.
نظرت ليلى إلى هند فى حنق وصرخت فيها :- وإنتى مالك إنتى ؟
هنا أحسست أنه أبله فاستخففت به، نظر إليها الشيخ ثم سألها فى تحد عن ملكية بيتها وكأنه يعرف ما تخفيه ويسخر من كذبها، وكأنها لعبة مسلية، الغريب أن ليلى بدت كاذبة أيضاً فضحك بمكر وقاطعها.
- خلاص يا بنتى .. ساكنة مالكة ولا مأجرة .. ما علينا، ثم ألتفت إلى :- لابسة أسود ليه يا مريم ؟
- والدى توفى.
نظر إلى فى ثقة وقال :- توفى من أكثر من شهر ونص، ليه لسه لابسة الأسود ؟ المفروض نمشى تبع السنة الشريفة يا مريم.
قلت وقد غلبنى الذهول :- صح ؟
نظرت إليه في شك وأردت أن أعيد تقييمى، فالرجل ليس أبلهاً كما توقعت، فكرت وقتها أن هند زودته بالمعلومات إن لم تكن معه، لكننى أسترجعت أنها تضررت مثلى تماماً أم تراها خدعة كبيرة منهما؟ آثرت أن أركز فيما أنا فيه الآن وأترك التفكير لاحقاً، قاطع تفكيرى قائلاً.
- شوفوا يا بنات، هقرا على كل واحدة فيكم لو واحدة فيها حاجة هيبان، لو كنتم كويسين يبقى نشوف الشقة.
صحت فى أمل وخوف :- يعنى تيجى معانا الشقة ؟
- لأ من غير ما أروح هعرف من هنا.
بدأ "ماهر" طقوسه لمعرفة المصابة، بدأت هند الطقوس وكأنها معتادة عليها، قام من مكانه ووضع يده اليمنى على رأسها، وبيده اليسرى مسح على جبينها ، ثم أخذ فى ترديد عبارات غير مفهومة بلغة غريبة بصوت خفيض، ثم ردد :- "وجعلنا من الشجر الأخضر ناراً" وقد لاحظت أنها من الآية القرآنية فى سورة ياسين، بسم الله الرحمن الرحيم »والذى جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون« فى صوت مسموع، بعدها ظل يردد عبارة "يا بدوح .. ثم يتميم بصوت خافض كلام لا نسمعه يا بدوح، بصوت عالى مفزع، عندها انتفض جسده وتشنج وهدأ فى نفس اللحظة! تشنج وهدوء في نفس الوقت! إنه يتصنع بلا شك!
لكننا شاهدنا هند وقد أختفى سواد حدقة عينيها، وأنقلب إلى الأعلى، وتحولت عيناها إلى اللون الأبيض فقط، انتابنا ذهول لا يخلو من خوف، كنا نتابعها فى ترقب وفضول، أما ليلى ظلت تمعن النظر فقط فى صورة الفرعونى على الجدار أمامها، بعدها طلب ورقتها البيضاء ليجلس ويكتب عليها بلون برتقالى غير مرئى كلمات غير مفهومة أيضاً. {عرفت ذلك عندما جاء دورى وهممت بالنظر إلى ورقة ياسمين الملقاة على المكتب من باب الفضول} ، ثم قامت ياسمين لتجلس على نفس الكرسى المقابل للمكتب وتنضم إلينا هند، نفس الطقوس وحركة العين والتشنجات والعبارات مع ياسمين لا يوجد أى فرق، ثم الكتابة على الورقة البيضاء وضمها إلى ورقة هند.
جاء دورى، كنت قد نلت حظى من الخوف ولا أريد المزيد، أستسلمت وأقنعنى أنه لا داعى للخوف خاصة وأن البنات على ما يرام مثلما أرى، لكن وما إن بدأ بترديد كلمات "يا بدوح ... يا بدوح" حتى أحسست برجفة سرت فى جسدى كله وتوقف عقلى عن التحليل.
كانت ليلى معنا بجسدها فقط، عيناها وعقلها مع الفرعون المعلق، أمضت كل هذا الوقت فى تأمل وكأنهما يتحدثان، قامت ليلى وأدت كل الطقوس ولكن من الواضح أنها أنهكته جداً وأستهلكت من الجهد ما بذله مع ثلاثتنا! آثار التعب على وجهه بدت واضحة، جلس منهكا خلف مكتبه، يجاهد كى يرسم أبتسامة .. ينظر فى أوراقنا البيضاء التي أمامه بعد أن ملأها بالحبر البرتقالى والكلمات الملبكة والدوائر والنجوم ورسوم أخرى كثيرة، لكن فضول هند لم يهدأ.
- ها يا سيدنا ... مين فينا فيها حاجة ؟
أشار الشيخ أن كل منا بها مشاكل صغيرة مثل الحسد لهند، وريح جن لياسمين، وكلها أمور تحل بوسائل بسيطة، لبس الفضة، الأستحمام بورق نبق، وما إلى غير ذلك من وصفات يرددها أمثاله، كنت وياسمين نستمع فى تهكم، ردت ياسمين في حدة.
- لو عندى ريح جن صحيح .. طيب ما أقرأ سورة البقرة ؟ إيه اللى يخلينى أطلطل ؟
- وماله أقرى سورة البقرة طبعاً.
- بس أنت مقولتش كده الأول، تقول نبق وفضة ومتجيبش سيرة القرآن، إزاي شيخ ومتعالجش بالقرآن؟
تبسم الشيخ أبتسامة صفراء ولم يعلق، ألتفت إلى سريعاً:- خليكى إنتى بعدين يا مريم هرجعلك.
ثم نظر فى حيرة إلى ليلى وهى ما زالت تحدق فى الفرعون وقال :- ليلى .. الشيوخ اللى بتروحيلهم عاملين أحلى شغل، التحويطة اللى عملاها قوية جداً ومش مخليانى شايف أى حاجة عندك.
أعرف أن عمل التحويطة شئ معتاد ومهم لدى أغلب أهل الصعيد، لتحويطهم من أى شر لهم وأهل بيتهم، فلا يستطيع أحد إيذاءهم عن طريق السحر ولا الحسد ولا يمسهم جان.
لم تقاوم ليلى كلامه عن التحويطة فصمتت، أدرك أنها لن تقاوم مرة أخرى فاسترسل وتكلم عن حبيبها السابق الذى تزوج حديثاً، ولامها لتركه حيث إنه ما زال يحبها وكان على أتم الإستعداد لفعل أى شئ من أجلها، ثم أبتسم في خبث وقال.
- بس أنتو فى حاجة مزعلاكم يا بنات.
قررت أخيراً ياسمين أن تشاركه شيئا لعله يجدى نفعاً.
- وماله نقولك زعلانين ليه، زعلانين على حالنا المايل، كل البنات بتتخطب إلا إحنا قاعدين زى الفقر.
- نعملكوا حاجة طيب، عاوزة تتجوزى مين يا مريم ؟
- عاوزة أتجوز مين !
- لو عاوزة تتجوزى حد معين هاتيلى أسم أمه بعد كده وتعالى، طيب يا بنات .. نعمل دور شاى ونكمل.
قام وأتى بالشاى في دقيقتين فقط كأنه جاهز دائماً، لم نأخذ أى فرصة للتعليق على أى شئ، رأت ياسمين الشاى ولم تستطع مقاومة إدمانها له فأخذت كوبا شربته حتى آخر رشفة دون تفكير، هند لا تشرب الشاى مطلقاً فأعتذرت، بينما ساورتنى الشكوك انا وليلى، وأحس بنا فلم يلح علينا كعادة الصعايدة، تركنا نفعل ما تستريح إليه أنفسنا، بعد أن رأيت ياسمين سليمة لم يصبها مكروه بعد شربها للشاى عن آخره، أخذت كوبا على مهل، نظر إلى ماهر وأبتسم وكأنه عرف ما دار بعقلى، أخذت رشفة صغيرة على مهل، تشجعت ليلى وأخذت نفس الكوب من يدى وشربت قليل من الباقى، كان شاياً صعيدياً أصيلاً بالنعناع حلو المذاق، بعد أن شربت الشاى أصابتنى لوثة ضحك هستيرية لا أعرف لماذا، وبدأت سخافاتى تظهر معه.
- أنت بتشتغل إيه يا شيخ ؟
- دكتور روحانيات.
- بالعربى ولا بالإنجليزى ؟
- أنا أتعلمت العلم ده فى نيجيريا.
- وكنت مبسوط هناك ؟
- جداً.
- وإيه اللى رجعك تانى ؟
- بلدى أولى بيا، وولادى لازم يعرفوا بلد أبوهم خاصة إن أمهم نيجيرية.
انفلتت ضحكة عالية من القلب :- يعنى زي دكتور زويل كده لما رجع عشان يفيد بلده ؟
نظر إلى الشيخ فى تحد :- على راحتك يا مريم.
عادت أبتسامته الصفراء، هند تنظر إلى في غضب، ياسمين تبتسم بينما ليلى لازالت تحلق مع الفرعون المريب على الجدار الأزرق، أقوم بحركات فجائية متتالية وألملم أطراف حجابى وأساوى ملابسى عازمة على القيام وإنهاء هذه الجلسة السخيفة.
- ياللا ياللا يا بنات، إحنا اتأخرنا قوى.
- لأ يعنى إزاى تمشوا، أنتم زى بناتى، باتوا معانا والله، وسط مراتى وولادى دول هيفرحوا قوى، قوليلهم يا هند والله.
- الله يخليك يا سيدنا.
أردت أن أوقفه وأعود بذاكرته أنه فقط أداة لتسهيل أمر ما وأننا لسنا اقرباءه.
- طيب حسابك كام بقى ؟
- لا لا لا أنا مش هاخد فلوس، هتدينى فلوس على إيه؟
- مش عارفة بس مجهودك برضوا.
- قوليلهم خلاص يا هند.
دنيت من أذن هند.
- هو هيبقشش علينا ولا إيه ؟
- خلاص يا مريم إحنا أصلاً لينا معاه حساب، بقولك يا شيخ انا عاوزة حاجة تشيل عنى الصدة.
كانت ياسمين صامتة وليلى أول الفارين إلى الباب، وقفت على عتبته بينما لا تزال تحدق فى الفرعون، عندما وصلت بالقرب من ليلى سمعت صوته ينادينى.
- يا مريم ... هاتيجى هنا تانى، خدى ده رقم تليفونى والعنوان.
كان واثقاً مما يقول باستفزاز، أخذت الورقة ودسستها فى الجيب السحرى بالمحفظة، وقفنا جميعاً نرى ما يفعله لهند.
- ثوانى بس يا بنات، أعمل لهند "فتح طريق"
كنت أعرف هذا المصطلح لكن هذه المرة الأولى التى أراه فيها، جاء بورقة بيضاء طويلة ثم طبقها كالمروحة الورقية، كتب طلاسم غير مفهومة بقلم حبر أزرق، أستطعت أن أقرأ كلمة "الله" فى نصف كل مقطع من الطلاسم بوضوح، إلى جانب بعض الحروف المتناثرة فكان لا يكتب {نحن} كلمة واحدة ولكن {ن ح ن}، طبق المروحة الورقية فى قطعة قماش قديمة ألوانها ازرق وأحمر ثم أخاطها باحتراف.
حينها تذكرت صديقة لى فى الجامعة من الأقصر، تدرس فى كلية إعلام، فقيرة الحال والجمال، أحبت معيداً فى الكلية وأرادت الزواج به، كان شيئاً من الخيال أن تفكر بمثله، الشاب مثقف من طبقة أجتماعية ومادية أعلى كثيراً ومختلفة تماماً عنها، ذهبت إلى "شيخ" فى "إسنا" أمثال ماهر وما أكثرهم فى الصعيد، خاصةالأقصر وإسنا وما حولها، لم تمر السنة الدراسية وسط ذهولنا جميعاً إلا وقد تزوجت هذا الشاب، لم تبذل أى جهد معه، لم تبرهن أنها بنت أصيلة وسوف تقف معه فى حلو أوقاته وأحلكها سواد، لم ترهق نفسها فى تعديل هيئتها أو تنحيف بدنها، لم يعرفها جيداً، لم يختبرها فى مواقف كما يفعل باقى الشباب، لم يهتم بمستوى أهلها ولا بقلة جمالها، لكنه أتاها وتمنى الزواج بها، ذهب إلى أهلها وقدم كل فروض الطاعة من أجلها فى أقل من شهر وتزوجها فى غضون السنة قبل أن يخطفها رجل آخر كما كان يقول فى هوس دائما !
لم يستغرق فتح الطريق ثلاث دقائق كاملة، أخذته هند في غير هيبة ولا ريبة.
- أحطه فى صدرى يا شيخ ؟
- حطيه دلوقتى في صدرك ، لما تروحى شيليه تحت المخدة الجنب اليمين ونامى على جنبك اليمين، غير كده هتضطرى تخلعيه كل ما تروحى الحمام.
قبل أن نخرج من الغرفة همست ياسمين فى أذنى :- هو هيعمل إيه بالورق اللى فيه اسامينا ؟
فتنبهت وبدا على صوتى القلق :- صحيح يا شيخ فين الورق اللى فيه أسامينا ؟
أبتسم نفس أبتسامته الصفراء :- آآآآه الورق، ماتقلقوش.
مزق الورق قطعاً صغيرة عدة مرات حتى أصبح لا شئ، عرضت أن نأخذ قامته بالخارج معنا، فواجهتنى أبتسامة تحذيرية بما تحمله الرجل من استهزاء واستخفاف، الأن يجب أن نرحل وكفا كل ما كان، أسرعت البنات أمامى بخطوات وكنت الأخيرة على مقربة منه فنادانى.
- مريم .. إلا صحيح .. مفيش حاجة عندكم فى البيت أثرية ؟
- زى إيه ؟
- زى صندوق خشب مثلاً ؟
- وأنت عرفت إزاى ؟
- أنا أعرف وأنا قاعد هنا مش لازم أتنقل، الصندوق ده هو سبب اللى أنتوا فيه، أنا ممكن أخده وأكشف عليه وأريحكم.
- بس الصندوق ده مش ملكنا، ده بتاع الحجة صاحبة البيت ولازم إكلمها أسألها الأول.
- على راحتك بس أكيد هى مش هترضى.
- أكيد ليه بقى؟
- لأنه أثرى والله أعلم جايباه منين، إنتى عارفة تجارة الآثار فى الصعيد، عموما فكرى وردى عليا.
- مش هديهولك إلا لما تيجى صاحبة البيت هى تديهولك، وده اللى عندى.
- عموما معاكى رقمى وعنوانى وشاورى عقلك يا بنت الناس.
هل يرانى بلهاء إلى هذه الدرجة هذا المشعوذ المختل، ربما عرف عن الصندوق من هند، وربما من شياطينه، لكننى لن أفرط فيما ليس لى أبدا خاصة أنه أثرى، لن أخون الأمانة ليبيعه هو باعلى الأثمان، كانت حجته المسكينة أن الصندوق هو السبب، إذا كان هذا هو السبب فلماذا لم يوضح ذلك أمام كل البنات؟ حيلة ساذجة من دجال محتال.
خرجنا من هذه الغرفة، أو المغارة إن صح التعبير فى الساعة الحادية عشرة مساء، نظرنا إلى الكلاب فبادلتنا نفس النظرة الحادة التي لم تعد تخيفنا دون أن تنبح، مشيت أنا وياسمين وليلى أولا والشيخ وهند وراءنا، عبرنا الفناء الكبير ولاحظنا أن البيت الطينى الصغير مغلق هذه المرة بلا أصوات، ربما نام أهل البيت، فى ليالى الشتاء في قلب الصعيد لن تجد سوى القطط والكلاب فى الطرقات، فى القرى كل شئ يسكن بعد صلاة العشاء حتى ذوات الأربع.
خرجنا في حالة عكسية لما أتينا عليه، بدأنا نتلفت حولنا فى استقراء للطريق، الجو شديد البرودة، سواد الليل فاحم كئيب لا ترى منه شيئاً، لا تسمع صوت أى من المخلوقات، وكأننا فى مدينة أشباح، فقط حفيف الزرع وتخبطه ببعضه فى الهواء، الإنارة موضوعة على استحياء كل عدة أمتار كثيرة للإرشاد، إضاءة خفيفة جداً ترهق عينيك عند تبين الطريق، مشينا في الممر الطويل للمرة الثانية. عرفنا أن جهة اليمين بها ترعة أو بركة راكدة.
أدركنا أنه البيت الوحيد بين الزرع والترعة، لا يوجد حوله أى بيوت أخرى، ولا أى شئ على الاطلاق، مشينا وكأننا كنا مغيبات لفترة من الزمن، وقد صفعنا الهواء البارد على وجهنا صفعة قوية لزوم الإفاقة، نظرنا إلى بعضنا البعض نفس النظرة المحملة بالغضب واللوم والندم، ساد الصمت بيننا لفترة ثم تكلمنا أخيرا وكانت بداية اللوم لياسمين.
- إحنا إزاى عملنا كده يا بنات؟ إحنا كنا مغيبات أكيد، ده إحنا حتى ما قلناش لأهلنا؟ يعنى لو كان حصلنا حاجة ولا حد كان هيعرف إحنا فين.
وكأننى نصف واعية تساءلت :- عندك حق يا ياسمين أنا مش قادرة أصدق، شوفتوا الكلاب؟ شوفتم لما بصلهم وسكتوا ؟
خرجت ليلى عن صمتها منذ رأت الفرعون المعلق على الحائط :- يا جماعة اللى أكتر من الكلاب صورة الفرعون.
- صحيح يا ليلى إنتى كنت قاعدة مبحلقاله طول القاعدة وما نطقتيش كلمتين على بعض ؟
- عاوزة اقول على حاجة، بس ما تتضخضوش، كلكم كانت عينكم بتقلب لفوق وبتبقى كلها بيضاء لما كان بيقول {يا بدوح ... يا بدوح} !
تذكرت ما رأيته أنا أيضاً :- آه شفتكم كلكم وإنتى كمان يا ليلى على فكرة.
واندفعت ياسمين مثلنا تتذكر :- آه شفتكم برضه بس مارضيش أخضكم، يا نهار اسود !
أكملت ليلى :- الفرعون اللى على الحيطة، كانت عنيه بتقلب بالتوازى مع كل واحدة فيكو عينها بتقلب، حركة عين مريم كانت نفس حركة عينه بالظبط ! وهند وياسمين ! والله العظيم.
قلت في توكيد :- وأكيد إنتى بقى كمان طالما عينك قلبت يبقى أكيد عينه قلبت معاكى !
أردفت ليلى فى سخافة :- يمكن.
أستكملت ملاحظاتى :- على فكرة انا وهو بيقول الكلمة دى حسيت صوابع إيدى بتعمل حركات غريبة فى الهوا، الغريب إنى مكنتش عارفة اسيطر عليها، كأنها كانت بترسم كلام ؟ غير أنى اترعشت جامد.
لطمت ياسمين خدها فى ندم :- يا نهار أسود ... يا نهار أسود !
عادت فترة الصمت إلى أن قطعتها ياسمين للمرة الثانية:- ارجعى ورا يا مريم ماتسيبيش هند لوحدها.
قالت ليلى فى لؤم بين :- وهى هند دى يتخاف عليها.
رجعت إلى هند والشيخ ماهر، سرت بجانب هند فوجدتها تحدثه عن ليلى بدورها.
- أهى كده من زمان يا شيخ، ليلى دى طول عمرها واعية وتخاف على القرش، عايشة كده سفلقة علينا.
لم أفهم موقف هند وليلى وهما اللتان تجمعهما صداقة سنوات الجامعة والمتشاركتان فى نفس الغرفة! صحت فى عجب :- إيه ده هى طلعت ليلى ؟
- مش عارفلها يا مريم، بس هو شاكك فى البيت.
- وليه ما قالش الكلام ده وإحنا قاعدين هناك ؟
لم تجب هند على سؤالى، وصلنا إلى الكنيسة ثم القهوة التي انتظرنا عندها الدجال ماهر، صاحب القهوة الخالية تماماً موجود بصحبة صبية يحسبان الإيراد وأشياء أخرى، نظر إلينا المعلم نظرة كلها أحتقار وصاح بصوت عالى.
- أستغفر الله العظيم، اللهم إنا نعوذ بك من الكفر، شهل يا بنى خلينا نروح بقى.
تجاهلت هند نظرات صاحب القهوة ونظرت إلى شيخها.
- طيب يا شيخ لو عرفت حاجة أبقى كلمنى وإحنا لو حصل حاجة تانية هكلمك برضه.
- لأ انا واقف معاكوا لحد ما أطمن إنكم ركبتو، والله كنتم بيتم معانا ؟
لمحنا ميكروباص قادم لعينين سائقه نظرة غير مريحة بالمرة، أوقفته وسألت :- قنا ؟
- قنا ؟ دلوقتى !
وانطلق بدون كلمة أخرى، بعد دقائق جاء ميكروباص آخر، وعلى الفور وقفت هند أمامه :- قنا ؟
أجابها السائق وقد عزم الإستغلال :- مخصوص ولا موقف ؟
- أى حاجة، ياللا ياللا يا بنات أتاخرنا، مع السلامة يا شيخ.
نظر إلى ماهر فى سخرية مستترة ولوح بيده :- مع السلامة يا مريم.
ألحق سلامه بضحكة عالية غير منطقية، لم أفهم ما الداعى للضحك ولم أرد السلام، فتحت هند باب الميكروباص الجرار وأشارت إلينا أن ندخل، ثم أردفت قائلاً.
- طمنونى عليكم أول ما توصلوا ضرورى يا هند.
- حاضر يا سيدنا.
تعليقات
إرسال تعليق