رواية حرم السفاح الفصل الأول بقلم الكاتبه علياء شعبان حصريه وجديده
مُقدمة"
أنا مُجرد فتاة كانت تعيش حياة هادئة هانئة إلى أن رأيته فتحول هدوء يومي الساكن إلى عواصف هوجاء ترعد طوال عامي وما كدتُ انتفض في ثورة لإبعاده عني حتى رأيت يداي مقيدتان بسلاسل جبروته؛ تناقضه يُرعبني يؤذيني بشدة كما يحلو له وعندما تطولني براثن الأذى من الآخرين أرى رؤوسًا تُقطَّع وتُرمى أسفل قدميَّ؛ هكذا هي حياتي؛ حياة حَرم السفاح.
•~•~•~•~•~•~•
]]الفصل الأول]]
جلست ذات السبع سنوات مُتربعة على الأرض وفرشت أدوات المدرسة حولها في بعثرة عُرفت بها من قِبل إخوتها ووالدتها؛ فهي تعود من المدرسة ثم تجري إلى غرفتها وتقوم بتفريغ حقيبتها بالكامل على أرضية الغرفة وهي تزم بشفتيها في امتعاضٍ وتبرمٍ يغلفهما الصمت، بدأت تمسك بقلمها وتخط في كراستها شخبطة غير مفهومة وليس لها معالم تفي بمقدار هائلٍ من التيه والغضب اللذان يملأن طيات قلبها الصغير، أخرجت صرخات قلبها الهائج في عدة صفحات وما هي إلا لحظات معدودة حتى توقفت وبدأت تبكي بصوت يتخلله العجز والقهر.
-يقين!!
انفتح الباب فالتاع قلب "سبأ" التي رأت شقيقتها الصُغرى ينقطع صوتها من شدة البكاء، نادتها بفزع وهي تهرع إليها ثم أمسكت بذراعيه ونظرت إلى وجهها الباكي مُباشرة وقالت بقلق بالغٍ:
-يقين، بتعيطي ليه؟!
بدأت "يقين" تتهرب بنظراتها بعيدًا عن نظرت شقيقتها التي رمقتها بنظرات ثاقبة قلقة، أخفضت رأسها وهزتها يمينًا ويسارًا تُشير بأنه لا يوجد شيء بها، زوت "سبأ" ما بين عينيها وقالت باستغراب:
-مفيش حاجة إزاي؟! طيب بتعيطي ليه؟ ما أنا عايزة أفهم؟ حد زعلك في المدرسة؟!
أومأت سلبًا مرة أخرى وهي لا تزال تنظر بالأرض، وضعت "سبأ" أناملها أسفل ذقن الأخيرة وقامت برفع وجهها إلى أن نظرنا إلى بعضهما وعادت "سبأ" تسألها من جديد:
-بتعيطي ليه يا روحي، اكتبي لي!!
أرادت "سبأ" بشدة أن تتخلص من القلق الذي يعتريها عند رؤية شقيقتها هكذا خاصة أن "يقين" فتاة خرساء لا تقوى على الكلام أو الفصح عما يعتري قلبها ونفسها، أمسكت "يقين" بالقلم وكتبت بوجه شاحب وكف يرتعش:
-حسن.
ضمت "سبأ" حاجبيها بهدوء وأطالت النظر في الاسم المدون على الورقة وانتظرت أن تكتب شقيقتها شيئًا آخرًا ولكنها تركت القلم بسرعة وبدأت تشبك كفيها ببعضهما في تشنج واضطراب، خرجت شهقة مرتعبة من بين شفتي "سبأ" التي ابتلعت ريقها على مضض وأغلفت عينيها ببطء تنفي ما يدور في خلدها من أمور قاسية قد تكسر قلبها وتشطره نصفين، عضت شفتيها بتوجسٍ ورددت بصوت مرتجفٍ:
-ح حسن؟ مين حسن يا يقين؟! وعمل لك أيه؟!
بدأت "يقين" في البُكاء من جديد وما أن تسلل الشك إلى قلب الأخيرة بدأت تصرخ في وجه شقيقتها وهي تقول بصوت مرتاب:
-ردي يا يقين، مين حسن دا وعمل لك أيه؟! انطقي!!
هزت "يقين" رأسها سلبًا ترفض الاستجابة لأسئلة شقيقتها، لاحظت "سبأ" مؤخرًا أنها تشدد على ذراع شقيقتها بقوة وحدة دون داعٍ وما رُمي إلى ذهنها ما هو إلا هواجسًا فربما يكون صديقها وتم نقله إلى مدرسة أخرى أو شخص أزعجها بدافع التنمر لأنها لا تستطيع الكلام، قررت في هذه اللحظة أن تهدأ وتهدئ من روع شقيقتها، تنفست الهواء بثبات ثم طبطبت على ظهر الصغيرة وتابعت بابتسامة هادئة:
-يقين حبيبتي، قومي غيري هدومك وتعالي علشان نتغدى.
أومأت الصغيرة ونهضت على الفور صوب المرحاض، تنهدت "سبأ" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وقد اتخذت قرارًا حاسمًا بضرورة الذهاب إلى المدرسة غدًا والتحقق من الشيء الذي أزعج شقيقتها وقتلها بُكاءً.
تحركت "سبأ" إلى المطبخ لوضع طعام الغداء في الصحون ورص الطبلية قبل قدوم والدتها التي أوشكت على أن تصل، كان المطبخ يعج بالكثير من الأواني والصحون المتسخة والصواني التي فُرغت تمامًا من الطعام؛ فوالدتها طباخة ماهرة وقد اتخذت هذه المهارة مهنة تكسب منها قوت يومها حيث تستيقظ من الصباح الباكر ثم تبدأ في تجهيز جميع المأكولات التي طُلبت منها وتم حجزها من قِبل أصحاب الطبقة الراقية، اشتهرت "عزيزة" بطعامها اللذيذ ذي المذاق الخاص الذي يتسم بالنظافة والمذاق المصري الأصيل فكانت تلقى حُبًا وإقبالًا من قِبل الجميع ويتم حجز الطعام الذي تصنعه قبل أن يحتاجه الناس بعدة أيام نتيجة للزحام والتسابق على طلب الطعام منها.
-لمَّا نشوف الحاجة سايبة لنا أيه ناكله النهاردة، يارب يكون حمام، أنا شوفتها بتعمل حمام فإن شاء الله ظني مش هيخيب.
اندفعت نحو الفرن وقامت بفتحه وأخرجت الصينية القابعة بداخله وما أن نظرت داخلها حتى تابعت بابتسامة نصر:
-تعيش الحاجة عزيزة اللذيذة.
قامت بالتقاط الصينية ثم قامت بوضعها على الطبلية الموجودة بصالة الشقة الصغيرة وقبل أن تتحرك عائدةً للمطبخ لإحضار الباقي من الأكل وجدت والدتها تدخل من الباب وهي تقول بأنفاس لاهثة:
-ربنا يتوب علينا من الدور الخامس دا، حيلي اتهد.
سبأ وهي تضرب كفًا بالآخر:
-ما قولت لك يا زوز خليني أنا أودي الأوردرات ومسمعتيش الكلام.
تنهدت "عزيزة" باستسلام ثم تحركت نحو الطبلية وهي تقول بإنهاك:
-وأنا مش ناوية أبهدلك زيّ ما أنا متبهدلة في حياتي وعايشة دور الست والراجل.
سبأ بابتسامة خفيفة تكرر حديثها المعتاد على مسامع والدتها:
-بس أنا راضية يا أمي.. قلت لك مليون مرة عايزة أشيل الحِمل معاكِ.. خلينا نقسمه على اتنين علشان منحسش بيه!!
تنهدت "عزيزة" تنهيدة طويلة ثم تابعت وهي تنظر إلى ابنتها بحسرة:
-ياريت كان عندي ابن يشيل عن أمه وأخته.. بس منين هييجي الابن اللي يشيل لمَّا الأب مش راجل!
تنهدت "سبأ" بامتعاض وهي تتحرك بخطوات ساكنة إلى المطبخ:
-افتكري لنا حاجة عِدلة يا أمي، عكرتي صفو يومنا.
قبل أن تدخل إلى المطبخ وقفت على عتبته ثم نادت بصوت عالٍ تستعجل فيها شقيقتها التي دخلت إلى المرحاض ولم تخرج منه بعد، فلا ترغب أن تزداد الشكوك داخلها أو تأكل لحم أفكارها من كثرة التفكير:
-يقين، يلا الأكل اتحط وأمك جت.
وجدت باب المرحاض يُفتح وتخرج منه شقيقتها بوجه قد تبدلت ملامحه فصار هادئًا بعدما كان يكسوه الخوف والتشنج قبل قليل، ابتسمت "سبأ" لها بهدوء وسكن عقلها قليلًا حالما رأتها ثم التقطت الخبز وعادت مع الصغيرة إلى الطبلية، جلسن الثلاثة القرفصاء حول الطبلية، أقبلت "سبأ" على الطعام بمزاج معتدل وشهية مفتوحة فقالت يتلذذ واستمتاع:
-مش عارفة أشكرك إزاي يا زوز على الحمام دا، جه في وقته.
عزيزة بابتسامة صافية ترد:
-أنا قولت بما إن الأوردر كله حمام يبقى أجيب لنا جوزين ندوقهم على نفسنا وبالهنا والعافية على بدنكم.
تنحنحت "سبأ" بهدوء قبل أن تتكلم في تردد:
-بقول لك أيه يازوز، هي مدة العقوبة اللي فرضتيها عليا مخلصتش؟! أنا بقول المسامح كريم وخرجي لي الموتوسيكل بتاعي من المستودع علشان مش متعودة على بهدلة المواصلات في الجامعة!!.
رفعت "عزيزة" حاجبها وقالت بثبات وهي تكز أسنانها:
-الموتوسيكل تاني؟ مش خلصنا كلام في الحوار دا!!
تركت "سبأ" الطعام فورًا ثم تابعت بصوت يتخلله الندم:
-يا أمي ما أنا ألف مرة اعتذرت، اعتذرت وقولت لو واحد حاول يضايقني في الحارة هرجع لك وأعرفك وإنتِ اللي تتصرفي ومش هشغل دماغي تاني.
عزيزة بضحكة خفيفة كلما تذكرت الكارثة التي فعلتها ابنتها حينما تعرض لها أحد الشبان بالحي فقامت بمداهمته بالموتوسيكل الخاص بها حتى سقط في ترعة القرية وكاد أن يغرق والذي اشترته لها والدتها حتى يسهل عليها الذهاب للجامعة وتوفير أُجرة المواصلات التي تتضاعف كل يوم مع غلاء الأسعار كما أنهما يحتاجانه في توصيل بعض الطلبات التي تكون في أماكن نائية عن البيت فتطلب "عزيزة" من أحد الشبان بالحي أن يذهب لتوصيل الطلب ثم تدفع له مقبل ذلك نقودًا جيدةً وفي بعض الأحيان الأُخرى تُصر "سبأ" أن تذهب لتوصيل الطلبات بنفسها في يوم فارغ من المحاضرات.
-أضمن منين إنك تهدي ومتعمليش مشاكل مع الناس؟!
أردفت "عزيزة" تطرح سؤالًا هامًا؛ فأجابت الأخيرة بتبرم:
-لمَّا الناس تحترم نفسها ومتبصش على بيت فيه تلت ستات باعتبار إنهم صيدة سهلة، وبعدين يا أما البيت اللي مفيهوش صايع حقه ضايع.
عزيزة بنبرة مغتاظة:
-وإنتِ بقى الصايع دا!
أومأت "سبأ" وهي تبتسم في تفاخر رافعةً كتفيها بثقة؛ فيما صدمتها والدتها وهي تقول بإصرار على قرارها:
-يبقى مفيش موتوسيكل هيخرج من مكانه، وكُلي في صمت بقى عايزين نستمتع باللُقمة.
التفتت فورًا إلى "يقين" ثم تابعت بابتسامة حنونة:
-مش كدا ولا أيه يا يوكا؟!!
أومأت "يقين" وابتسمت ابتسامة بالكاد تُلاحظ لانتفاخ أوداجها نتيجة فمها الممتلىء بالطعام، ساد الصمت للحظات ولكنه لم يدُم حينما صدح صوت هاتف "عزيزة" يرن عاليًا، التقطته بسرعة وأجابت:
-أيوة، مدام عزيزة معاكِ، اتفضلي يا هانم!
استغرقت المكالمة حوالي عشرة دقائق تطلب فيهم الزبونة طعامًا يشمل حفلًا كاملًا مكونًا من أكثر من أربعين فردًا وكانت هذه الطلبية هي أكبر طلبية تلقتها "عزيزة" منذ أن بدأت من أكثر من عامين، أملت العملية على مسمع عزيزة جميع الأصناف التي تريدها على مائدة الحفل دون أن ينقص منهم شيء، هكذا أوصتها، أغلقت "عزيزة" معها وهي في حالة صدمة لأن المرأة تريد هذه الطلبية في ظرف يومين، التفتت "عزيزة" نحو ابنتها ثم تابعت بتوتر:
-الحقيني يا سبأ!!!
زوت "سبأ" ما بين عينيها وتابعت بخضة:
-الحقك ليه؟! مالك!!!
عزيزة وهي تبتلع ريقها بتريث:
-مطلوب مني أكل حفلة لأربعين شخص في ظرف يومين!!!
صاحت الأخيرة بصدمة وفم مفتوحٍ:
-نعم؟!!!!!!
سحبت صدمتها فورًا ثم دبت الحيوية والنشاط في صوتها وقالت بعزيمة:
-وأنا أقولك لك مش نعم، إحنا قدها وأدود ونقدر نعمل الأكل في ظرف يومين ويطلع زيّ الفل كمان.
عزيزة وقد اقتبست من ابنتها بعض الشجاعة فسألت بتذبذب:
-تفتكري!!
رفعت كفها أمام وجه والدتها ثم قالت بحسم وإصرار:
-ربنا اللي بيعين يا زوز.
صفقت "عزيزة" كف ابنتها بابتسامة سعيدة وقد تعاهدتا على إنجاز كُل الصعاب والتغلب عليها ومعاندة الحياة وتطويعها لصالحهما.
وهنا هتفت "سبأ" باستعداد:
-أشطا يا زوز.. يا دوب أقوم أغسل كوم المواعين اللي جوا دا وأنضف المطبخ علشان بكرا يومنا كله هيروح في السوق والتجهيزات.
عزيزة بتوجسٍ:
-إنتِ بكرا معندكيش محاضرات في الجامعة!!
سبأ بنفي: لا يا أمي لا بكرا ولا بعده اطمني.
أومأت "عزيزة" بارتياح وعكفت على صحتها تتناول ما به بجوعٍ ونهمٍ وكذلك فعلت الفتاتان وما أن انتهين حتى أسرعت "سبأ" بالانقضاض على المطبخ وتنظيفه بعناية كبيرة استعدادًا لمعركة الغد.
مـــــر اليوم سريعًا وسكن الجميع في ليله بهدوء حتى جاء الصباح في اليوم التالي استيقظ "عزيزة" باكرًا ثم تتجه إلى غرفة ابنتيها لإيقاظ كليهما؛ فتذهب واحدة إلى مدرستها؛ والأُخرى ترافقها إلى السوق، فتحت "سبأ" عينيها على مضض وهي تحجز أشعة الشمس المتعامدة على عينيها بكفها تستمع إلى صوت والدتها الجمهور يقول بحرصٍ:
-يلا، يوم جديد ورزق جديد، كل واحد على شغله، يلا يا يقين على مدرستك!!.
شدَّت "يقين" على غمضة عينيها بشكل لاحظته الأم جيدًا ثم انقلبت على جنبها الأيسر تعطي ظهرها نحو والدتها متشبثةً بغطائها؛ فتابعت "عزيزة" بصوت أكثر حدةً:
-يقين!!.. أنا مش عايزة دلع.
صوبت "سبأ" نظراتها نحو فراش شقيقتها ثم أردفت بنبرة متحشرجة نعسة:
-خلاص يا زوز أنا هصحيها وهوديها النهاردة المدرسة بنفسي.
عزيزة برفض قاطعٍ تقول:
-لا هي تروح المدرسة لوحدها وتبقى شاطرة، هي لازم تعتمد على نفسها وبعدين كدا مش هنلحق السوق من أوله وأنا مش بحب بقايا الخضار بتاع آخر اليوم.
تنهدت "سبأ" باستسلام لرأيَّ والدتها المنطقي والتي اعتادت الذهاب إلى السوق في الثامنة صباحًا لتنقية الخضار بتروي وإتقان فهي ترى أن جودة السلعة تقوي من جودة الطعام بعد طبخه، نهضت "سبأ" على الفور تنتشل شقيقتها المتشبثة في فراشها لتُجبرها على الذهاب إلى الحمام وارتداء زيّ المدرسة قبل انتهاء طابور الصباح الذي أوشك على أن يفوتها، غادرت "يقين" إلى مدرستها وتحركت "عزيزة" و "سبأ" في طريقهما إلى السوق.
بدأت تجهيزات وليمة الحفل على قدم وساق فما كانتا تنامان إلا سويعات قليلة لا تُذكر ثم تواصلا إتمام الأصناف جميعها، انقضى اليومان بسرعة البرق وأصبحت الطلبية جاهزة مُنمقة ملفوفة بإتقان ورغم الإجهاد والتعب اللذان يسيطران عليهما إلا أن "سبأ" قررت أن تذهب بنفسها لتسليم الطلبية وألا تترك تعب وعناء يومين في عُهدة شخص آخر ويروح ما فعلاه سُدى.
-يا بنتي الأوردر تقيل عليكِ، خليني أروح معاكِ أو أي حد من الشباب في المنطقة!!
أردفت "عزيزة" بقلق فيما تابعت الأخيرة بثبات وإصرار:
-يا أمي إحنا في غنى عن احتياجنا لحد وبعدين أنا أكيد مش هاخد كمية الأكل دي في الموتوسيكل، أنا خلاص طلبت أوبر وهو جاي في الطريق، هيوصلني لحد العنوان بالظبط، هاخد حسابي وفي نفس العربية هرجع.
تنهدت "عزيزة" باستسلام لإصرار ابنتها ورأت أن ما تقوله جيدًا ولا يستدعي قلقها؛ فهذه ليست المرة الأولى التي تذهب فيها لتسليم طلبية طعام محجوزة، لحظات ورن هاتفها يُعلمها السائق بمجيئه، أسرعت "سبأ" بحمل الطعام على مرتين؛ أنزلت جُزءًا إلى السيارة ثم صعدت إلى الشقة لأخذ الجُزء الآخر، التقطت من والدتها الورقة التي دون عليها العنوان ثم انطلقت في طريقها.
“كُل الطُرقٍ مُتشابهة بطريقة أو بأُخرى؛ أولها وداع وآخرها عودة؛ ولكن تخيل أن يتغير طريقك في لمح البصر أن يكون الوداع أوله وآخره فــــرار!!!.. طريق يحول حياتك من الألف إلى الياء وما عُدت بعدها ذات الشخص الذي سلك الطريق ولم يعرف المجهول وراء خطواته".
أعلمت السائق عن وجهتها حيث أحد القصور بمنطقة التجمع الخامس وبالأخص أحد الأحياء فيها، سلك السائق الطريق كما أملته عليه وما أن وصلت إلى ذلك الحي حتى أجرت اتصالًا بالعملية تطلب منها وصفًا دقيقًا حول القصر وما هي إلا دقائق حتى كانت تقف أمامه، ترجلت من السيارة ثم طلبت من السائق أن ينتظرها لدقائق قليلة، تحركت بخطوات بطيئة نحو البوابة التي فُتحت على الفور وظهر رجل بزيّ رسمي يقف أمامها، تنحنحت "سبأ" بتوتر وقالت:
-المدام صاحبة البيت طالبة أكل دليفري، ممكن تبلغها!!
أومأ بهدوء وهو يضغط على سماعة تقبع داخل أذنه ثم قال بصوت بارد:
-الأكل وصل يا فندم!!.. تمام.
سكت لثوانٍ ثم نظر إليها وقال بثبات:
-المدام بتطلب منك تدخلي.
أومأت بتفهم ثم التفتت نحو السيارة وراحت تنقد السائق حقه وهي تقول للحارس:
-طيب معلش، محتاجة حد يساعدني ويشيل معايا الأكل علشان كتير.
لحظات وجاءت سيدة ترتدي ملابسًا جريئةً بعض الشيء ثم أسرعت بحمل الطعام معها وتوجهتا معًا إلى الداخل، كان منظر القصر خلابًا بكل ما تحتوي الكلمة من معنى وقد أثار شدوها ودهشتها وراحت تنظر إلى كل تفصيلية فيه بإعجاب كبيرٍ حتى أنها نست أن عليها الإسراع ووضع الطعام بالمطبخ فسمعت صوتًا يقول بهدوء:
-هتفضلي مذهولة كدا والأكل على إيدك؟!!!
أيقظتها كلمات السيدة من سُباتها المؤقت فتنحنحت بإحراج وهي تتبعها للداخل:
-آسفة، بس المكان بجد شكله حلو أوي.
السيدة بابتسامة هادئة:
-وإنتِ كمان حلوة أوي.
سبأ بابتسامة خفيفة:
-تسلمي، دا من ذوقك.
وأخيرًا وصلتا إلى المطبخ الذي يقبع في نهاية الرواق ثم أسرعت بوضع الطعام على طاولة المطبخ وهي تقول:
-الحمد لله إن أنت لحقت أجي بدري قبل ما ضيوفكم يشرفوا.
السيدة بضحكة مُستهزئة من جانب فمها:
-لا ما الضيوف هنا من بدري فعلًا.. إنتِ اللي جاية متأخرة.
قطبت "سبأ" ما بين عينيها ثم ردت بتعجبٍ:
-إزاي؟! دا لسه الساعة ٣ العصر!!.. هي حفلة نهارية!!
أومأت السيدة هذه المرة دون أن تنبس ببنت شفةٍ ثم أشارت لها أن تتبعها وهي تتجه خارج المطبخ ، تبعتها "سبأ" في صمت ظاهري بينما داخلها يرغب أن يأخذ حقه ويغادر كي لا تنزعج والدتها من تأخيرها، تحركت معها صعودًا بالدرج حتى الطابق العلوي وما أن وصلتا هناك حتى رأت حشد من السيدات والفتيات اللاتي يرتدين ملابسًا عاريةً نسبيًا يتراقصن في ليونة وتناغم برفقة بعضهن البعض، التفتت "سبأ" تنظر إلى السيدة التي تراقب انهيارها عن كثب ثم تابعت بتساؤل واهتمام:
-إنتوا عاملين حِنة بناتي!!
انطلقت ضحكة عالية مائعة من فم السيدة التي تابعت وسط قهقهتها:
-حِنة بناتي أه.. تعالي ورايا علشان تقابلي الهانم.
سبأ وقد انتابها بعض القلق:
-إحنا لسه هنطلع سلالم تاني!!
أومأت الأخير وردت بإيجاز:
-لأ.. في نهاية الممر دا.
أكملتا سيرهما حتى وصلتا أمام باب الغرفة، طرقت السيدة على الباب عِدة طرقات خفيفة لتستمتع إلى صوت رقيق من الداخل يأمرها بالدخول، التفتت نحو "سبأ" ثم أشارت لها أن تدخل الغُــــرفة.
تحركت "سبأ" داخل الغرفة على مضض بينما تركتها السيدة وغادرت في الحال، أطرقت برأسها في احترام لخصوصية المكان فيما تابعت سيدة القصر تقول بهدوء:
-أهلًا بيكِ!!
رفعت "سبأ" بصرها للأعلى قليلًا حتى تتمكن من رؤيتها فوجدت سيدة بالغت الجمال والأناقة تمتلك شعرًا أصهب ناري وبشرتها بضة وجسدها نحيل نسبيًا تقف أمام مرآة التزين الخاصة بمنضدتها وتنظر إلى سبأ عبر المرآة، ابتسمت "سبأ" بهدوء وقالت:
-أهلًا بحضرتك.. أنا سلمت الأكل للأستاذة اللي كانت هنا من شوية.. ممكن الحساب علشان لازم أمشي ضروري!!
أشارت لها السيدة بإصبعها أن تقترب ثم أشارت من جديد نحو سحاب فستانها المفتوح، لاحظت "سبأ" أن السحاب بالفعل مفتوح وترغب السيدة في مساعدتها لغلقه، تنهدت بعمق داخلها ثم اقتربت منها وبدأت في غلقه بينما تابعت السيدة بهدوء:
-ليه تمشي؟! إنتِ أكيد جاية من مسافة بعيدة وأنا قررت أعتبرك ضيفة لحفلتي.
برقت "سبأ" بدهشة ثم تابعت بخجل من كرمها:
-اشكرك جدًا على كرمك بس أنا والدتي بتقلق عليا وكمان أنا عندي مذاكرتي.. لو مفيش إزعاج ممكن حسابي!!
أومأت تقول بثبات:
-أكيد ممكن، طيب على الأقل نتعرف على بعض شوية، يمكن نكون صحاب!!
سبأ بابتسامة خافتة:
-اسمي سبأ.. أول سنة في كلية طب بيطري وبساعد أمي في مشروعها.
في تلك اللحظة، التفتت السيدة تواجهها بعد أن كانت تعطيها ظهرها ثم عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت:
-أيه رأيك في شغل تاخدي فيه أضعاف اللي بتكسبيه من الأكل!!.. تخيلي بقى كمان تكوني بتقبضي بالدولار!!.
عقدت "سبأ" حاجبيها وقالت بفضول:
-أنا أتمنى أزود دخلي أكيد، ممكن أعرف طبيعة الشغل أيه؟!!
السيدة بابتسامة خبيثة:
-تشتغلي معانا في القصر!!
ضيقت "سبأ" عينيها وقالت بتساؤل مهتم:
-أشتغل أيه بالظبط في القصر!!
غمزت لها السيدة بعينيها وبدأت تتجاوز المسافة الموجودة بينهما ثم راحت تحرك أناملها على ذراع "سبأ" مرورًا بكتفيها في تلامس مشتبه فيه، بدأت "سبأ" تتابع بعينيها حركة أصابع السيدة حتى وصلت إلى عُنقها وبدأت تلمسه برفق وبعض الشهوة!!!
هكـــــذا شعرت "سبأ" كلما سرحت أصابع السيدة على جسدها وما أن بدأت تتحرك بأصابعها ناحية صدرها حتى أزاحت "سبأ" كفها بقوة وبدأت تتراجع للخلف وهي تقول بحلق جاف وصوت متوتر:
-أنا مش فاهمة إنتِ عايزة أيه؟.. ممكن فلوسي وخليني أمشي!!
رفعت السيدة أحد حاجبيها ثم قالت بتهكم:
-كُل دا ومش فاهمة أنا عايزة منك أيه؟!
في تلك اللحظة نبج صوت "سبأ" عاليًا وقالت بحدة وعصبية:
-مش فاهمة ومش عايزة أفهم.. وأيه طريقتك دي؟؟
أسرعت السيدة بإخراج العلكة من فمها ثم قامت بلصقها في سُترة "سبأ" التي رمقتها باحتقار وقرف بينما تابعت هي تقول ببرود:
-إنتِ عجباني.. بصريح العبارة أنا عايزة أقضي ليلة معاكِ!.
برَّقت "سبأ" فيها بعينين جاحظتين ثم صرخت بفزعٍ:
-يا نهار أبوكِ أسود.. إنتِ بتقولي أيه يا مريضة أنتِ؟!!.
تقهقرت للوراء خطوات عديدة وما أن تداركت ما هي فيه حتى أردفت بشك وصدمة:
-وكل البنات اللي بره دول .... زيّــــك!!!.. يعني دي مش حِنة بناتي ولا حفلة عادية!!!
لطمت "سبأ" وِجنتها ثم هرولت خارج الغرفة مقررةً الفرار دون انتظار حسابها كي تلوذ بنفسها من هذه الكارثة التي تود لو تستفيق الآن منها وتكون مجرد كابوسًا.
هرولت عبر الممر وفي حالة من الذهول وقعت عيناها على غُرفة مفتوح بابها فتوقفت تجحظ بعينيها في دوار ورهبة، وجدت فتاتين يتبادلان قبلات عنيفة وقد خلعتا ملابسهن تمامًا وصارتا كما ولدتهن أمهاتهن بالمعنى الحرفي، أسرعت بتغطية عينيها ثم هرولت مجددًا إلى أن وصلت إلى نهاية الممر ليقع بصرها على حشد الفتيات مرة أخرى وهن يتمايلن أمام بعضهن البعض بشكل مثير للاشمئزاز والغثيان، خطت أول درجة من السلم تهبطه ولكنها فجأة سمعت صوت طلقات نارية تأتي من الطابق السُفلي، التاع قلبها فزعًا وأبصرت رجالًا ملثمين يحملون أسلحة متطورة ويُبيدون كل من يروه، شهقت شهقة عالية وتشنجت أطرافها حتى كادت أن تُشل ولكنها جاهدت أن تختبيء في أي مكان قبل أن تصيبها رصاصة مؤكدة خاصة أن هؤلاء الرجال يصعدون الدرج في هذه اللحظة.
جاهدت نفسها حتى هرولت إلى نهاية الممر مرة أخرى ثم اختبأت خلف تمثالٍ كبيرٍ يقبع أسفل درج خشبي يصل الغرف ببعضها ولكن إطلاق النار لا يقف بل يشتد ويقترب منها رويدًا رويدًا وكل ما استطاعت رؤيته تناثر الدماء على أرضية الرواق وامتدادها على طوله حتى وصلت إليها.. ظل الوضع هكذا لحظات إلى أن ساد الصمت فجأة وبدأت تستمع إلى أقدام تتحرك هنا وهنا ثم صوت رجل يقول بغلظة:
-كُله تمام يا تيِّم بيه، تم الإبادة.
أسرع "هو" بنزع لثامه ثم ردد بجحودٍ:
-مش عايز روح لسه بتتنفس في المكان دا.. اعملوا استكشاف للأوض كلها وأي مُكن ممكن يستخبوا فيها.
أرادت لوهلة أن ترى من الشخص الذي يتحدث وما الوضع الذي وصل له الأمر، كان جبينها يتصبب عرقًا وصوت بكائها مخنوقًا خلف كفها، حاولت أن تمتد ببصرها لرؤيتهم فانزلقت ركبتها بفعل الدماء لتصطدم رأسها بالتمثال، تشخصت الأنظار كلها ناحية التمثال وبإشارة منه أمر أن يتفقدوا هذا المكان وما أن وصلوا إليه حتى رفع أحد الرجال فوهة السلاح صوبها فيما صرخت هي تقول بصوت باكٍ مذعور:
-متقتلونيش.. مش عايزة أموت.. أنا مش من المكان دا.. أنا كنت بوصل طلبية أكل.. متقتلونيش!!!
انهارت تصرخ ببكاء وعويلٍ ولكن الرجل لم يستمع لها ووضع إصبعه مُستعدًا للتصويـــــب!!
يتبع
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
تابعوا صفحتي عليها كل الروايات بدون لينكات علشان يوصلكم اشعار فور نزول الروايات من هنا 👇 ❤️ 👇
❤️💙🌺🌹❤️💙🌺🌹❤️💙🌺🌹❤️💙🌹🌺💙❤️
تعليقات
إرسال تعليق