رواية أغصان الزيتون الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ياسمين عادل
![]() |
الفصل السادس
"أنتِ، في أيدٍ أمينة."
____________________________________
تحول حفل الزفاف لحدثٍ مشحون، الجميع يترقب ما ستؤول إليه الأمور، بعدما ألقت "سُلاف" تلك القنبلة وسط الجميع. فضيحة بدرجة كارثة إجتماعية على وشك الوقوع، بل الأحرى إنها وقعت بالفعل، وما يدور الآن ما هو انتشار شظايا القُنبلة المنفجرة، ليحترق المكان كُله.
شمل "نضال" ما يحدث بنظراتٍ مذهولة، بفمٍ منبعج گالأبله، وبفضولٍ شديد سأل "راغب" الواقف جواره :
- مين دي ياراغب؟؟ تعرفها!.
لم يكن "راغب" أقل منه في تلقي الصدمة، فـ هو أقرب الأقربين لـ "حمزة" وصندوقهِ الأسود، يعلم بشأنه ما لم يعلمه غيره، إذًا كيف يحدث أمرًا گهذا وهو لا يدري عنه شيئًا. أطال "راغب" النظر إليهم مراقبًا ما يحدث، وأجاب بـ تحيرٍ :
- ولا أعرفها، مش فاهم إيه اللي بيحصل ده!.
حدجه "نضال" بنظراتٍ مستنكرة، مُعتقدًا إنه يخفي الأمر عنه :
- إزاي يعني مش عارف!!.. مش انت اللي شاهد على كل جوازاته ومعاه في كل حاجه!.
تلفّت "راغب" حوله بتشتتٍ، ثم لكزهُ بإنفعال وهو يهمس بـ :
- ششش، أنت غبي يابني!.. الحيطان ليها ودان!.
فلم يخفي "نضال" انفعاله هو الآخر :
- حيطان إيه!!.. الكل مشغول باللي حاصل، دي فضيحة.
- وأسما هانم دخلت في الدور، لو تطول هتموت البت.
أشار له "راغب" بضرورة التحرك لفعل شئ ما، قبل أن تتفشى الأوضاع گالوباء المميت :
- بسرعة لم المصوريين دول ، إحنا هنبقى على كل لسان قبل طلعة الصبح.
بالفعل ذهب كل منهم بإتجاه لمنع المصوريين والصحافة من اقتناص تلك الفرصة الذهبية، للحصول على أخبار ستكون في واجهة أخبار، وستحتل اهتمام الجميع، هذا الأمر الطبيعي بالمجتمعات الشرقية التي تتغذى على الفضائح الإجتماعية والكوارث الأسرية، حينها كانت "أسما" قد انقضّت على "سُلاف" بالفعل، وقد انتوت لها نية متوحشة.
أصابت ذراعها بخدوشٍ غائرة، وهي تغرز أصابعها في رسغها بعنفٍ، صارخة في وجهها :
- إبن مين ومرات مين؟؟.. إنتي مرات إبني أنا؟!.. شكلك مجنونة يابت انتي ولا شاربة حاجه!.
خلصت "سُلاف" ذراعها بصعوبة بالغة، مُدعية بتزييفٍ إنها لم تتأثر بـ أيًا مما يحدث :
- ملكيش حق ياحماتي!!.. ده بدل ما تاخدي حفيدك في حضنك وتعقلي إبنك؟.. حقيقي زعلت!.
أسندت "سُلاف" طفلها على صدرها، وأخرجت الوثيقة الأهم من حقيبتها، صور فوتوغرافية لهما أثناء توقيع عقد الزواج العرفي، صور حقيقية لم يتم التلاعب فيها مُطلقًا. أعطت لـ "أسما" واحدة منهم :
- شوفي بنفسك، إبنك بيمضي على الورقة العرفي وأنا جمبه.. وكمان صاحبه اللي شاهد على العقد.
وابتعدت عنها كي توزع النسخ المطبوعة من الصورة على الحضور، لا سيما "شاكر" وابنته المصون، العروس التي بات حفل زفافها مأتم على قلبها المكسور. حدق "صلاح" في الصورة وقد بهت وجهه، بينما أصاب الشلل كل حواس "حمزة" الذي لم يستوعب بعد ما يحدث من نائبة عظيمة ستقلب حياته رأسًا على عقب. الجميع ينظرون لبعضهم البعض، عدا "حمزة" الذي كان ينظر للصورة بتمعنٍ وتدقيق شديدين، إنه هو، صورته، بمنزله السري الذي لا يعلم أحدًا عنه، وهذا رفيقهِ يظهر بالجوار، وهذه هي تجلس بالقرب أيضًا، صورة كاملة متكاملة؛ لكنه كيف لا يتذكر شيئًا حول تلك الليلة. نهضت "ميان" عن جلستها، رفعت ثوب عرسها المشؤوم وكادت تركض به، فرارًا من الأعين المُسلطة عليها، ما بين شامتٍ ومُشفق، استوقفها "حمزة" ، برر لها برائته الكاذبة، وما زال يدافع عن نفسه كذبًا :
- مفيش حاجه من دي حصلت صدقيني ياميان، ده ملعوب عليا وأنا هكشفه.
انتزعت ذراعها منه، والبُكاء قد أغرق وجهها الحزين :
- لما تكشفه أنت عارف مكاني كويس، ده لو عرفت تكشف يامحامي يامحترم!.
نظرت "ميان" لوالدها گالتي تستجديهِ، فـ اقترب منها ليصحبها إلى الخروج من هنا، وهو يلقي بوعيدهِ الصادق عليهم :
- اللي حصل مش هيعدي على خير ياصلاح، مش بنت شاكر الألفي اللي يحصل معاها كده!.
كان "صلاح" مرتبكًا متوترًا، وقد أُصيب بالعجز عن التفكير، فيما قد يفعله في لحظة عصيبة گهذه :
- أستنى بس ياباشا، في حاجه غلط في الموضوع صدقني.
ولحق به لإنقاذ الموقف السخيف الذي وقع به الجميع، بينما كانت "أسما" تسأل ولدها بحزمٍ منفعل :
- ما تنطق !.. أنت أتجوزت البت دي فعلًا وخلفت كمان!.
مطت "سُلاف" شفتيها بفتورٍ منزعج، ثم أجابت نيابة عنه :
- مش فاهماكي ياطنط حقيقي يعني.. ورقة الجواز معاكي والصورة في إيدك وحفيدك في حضني، أعمل إيه تاني عشان تصدقي!!.
جذبها "حمزة" من ذراعها بعنفٍ حتى كاد يُسقطها :
- تعالي معايا.
وجرّها من خلفهِ جرًا بربريًا أمام الجميع، فـ صرخت به دون أن تسحب ذراعها من قبضته المؤلمة :
- براحة عليا، الولد في إيدي.
نظرت "أسما" حولها بنظراتٍ مرتبكة، وهي تعتذر لجميع الحضور عما حدث :
- بعتذر لحضراتكم أكيد في حاجه غلط.
اقترب منها "راغب" ليقدم مساعدته :
- أرتاحي انتي ياطنط، أنا مشيت كل المصورين وهتصرف في موضوع المعازيم.
التفتت "أسما" لكي تنصرف من أمام الجميع، فرارًا من تلك النظرات القاتلة التي رأتها في أعينهم، كزت على أسنانها بغيظٍ دفنتهُ بصدرها، وغمغمت بـ :
- أتفضحنـا خلاص، أنت وصاحبك فضحتونا.
قطب "راغب" جبينه بإستغراب و :
- أنا!.
توقفت "أسما" عن السير وهي تصيح في وجهه بإندفاعٍ مجنون :
- أنت ظاهر في الصورة معاه!!.. يعني عارف وساكت.
والتفتت من جديد لتهرب من هنا، بينما وقف "راغب" مشدوهًا مما سمع :
- ظاهر معاه!!.. بس أنا مش فاكر البت دي خالص!؟.
لحُسن الحظ إنها نزعت عن قدميها حذائها العالي قبل لحظات من فعلته المتهورة، وكأنها قرأت بوادر الغدر قد تجلّت في عينيهِ، وإلا لـ كانت وقعت على وجهها منذ وقتٍ طويل. تمسكت بـ الرضيع الذي كان يصرخ باكيًا بين أحضانها، وظلت مجرورة بيدهِ حتى وصل بها إلى أحد الغرف بالقصر المأجور، والتي كانت مخصصة لإستضافة العروس وتجهيزها. فتح الباب ودفعها للداخل، وهتف بـ كلمة واحدة :
- راجعلك تاني، بس أمشي الناس اللي برا وهاجي أطيّن عيشة أهلك كلهم.
كانت نظراتهِ عبارة عن نذيرٍ صادق، شريرة، متقدة، ومتوحشة؛ لكنها قابلتها بنظرات جمود وصلابة، وظلت واقفة قبالته هكذا بكل ثباتٍ وشموخ، حتى أوصد الباب عليها مستخدمًا المفتاح الخارجي. هنا فقط، حررت "سُلاف" زفيرًا مكتومًا من صدرها، ضمت "زين" لحُضنها، مسحت على رأسه ووجهه ليهدأ ويكفّ عن الصراخ، وهي تلاطفه بصوتها الذي يحفظه أكثر من أي شئ آخر :
- بس ياحبيبي، خلاص كل حاجه خلصت.. اللي جاي أسهل كتير.. حقك عليا، أنا بس برجعلك حقك.
وجلست به على الأريكة، كي تُريح قدمها قليلًا من أثر الركض حافية، وحتى تستعد للمشقة الحقيقية، لمواجهتهِ وجهًا لوجه، دون أن تستخدم حيل تواري بها شكلها.
خرج "حمزة" گالمجنون، ينظر يمينًا ويسارًا گالذي يبحث عن شخص بعينه، لاحظ الجميع ينصرف، وقد سيطرت حالة غريبة الأطوار بين الحضور بسبب ما حدث، وهناك أقصى اليمين، رأى "راغب" وهو يهتم بتوديع المدعوين بشكلٍ لائق، عوضًا عن الفضيحة التي هزت الجميع، فـ سار صوبهِ بعجالة حتى رآه الأخير، فـ أشار كي يحضر بين يديه، حتى وقف أمامه، وقبل أن يردف بكلمة واحدة، كان "حمزة" يضع وثيقة الزواج والصورة في كفه وهو يصيح بإنفعالٍ :
- أتصرف وشوفلي إيه العك ده، الورقة وقلت أكيد مضروبة، إنما الصورة!!.. الصورة دي من جوا بيتي ياراغب.
كان "راغب" يدقق في الصورة جيدًا، حتى اكتشف ثغرةٍ ما، فـ أفصح عنها :
- الصورة دي متصورة بموبايل واتطبعت، مش من كاميرا.
اختطفها "حمزة" من بين يديه، دقق فيها ليكتشف ذلك على الفور، لكنه في حالٍ لا يقوَ فيه على التركيز. نفخ بإنزعاجٍ شديد، وهتف بـ :
- إزاي ده يحصل!! صورة بموبايل في بيتي وأنا قاعد!.. إزاي ياراغـب.
ثم صرخ وقد أصاب الجنون مداركه فلم يعد قادرًا على التحكم في إنفعالاته لأكثر من ذلك :
- وميـن البـت دي!!.. مــــين؟.. أنا هتجنن.. مش فاكرها ولا عمري شوفتها.
دقق "راغب" في توقيعه، إنه هو ، بدون أي خطأ واحد، بدون أن شائبة تزوير أو ما شابه، فـ ذمّ على شفتيه بتحيرٍ :
- توقيعك صح!… في حاجه أنا مش فاهمها.
ثم نظر من حوله :
- هي فين؟.
غرز "حمزة" أصابعه في رأسه وهو يجيب :
- حبستها فوق.
- وهنعمل إيه دلوقتي؟!.. منظم الحفلة طلب نخلي المكان فورًا وقال مش عايز مشاكل.
أومأ "حمزة" برأسه متفهمًا :
- أنا هتصرف.
- على جانب آخر -
كان "زين" قد بدأ يدخل في سباتٍ عميق، حينما سمعت صوت المفتاح وانفتح الباب بغتةٍ، فـ وقفت "سُلاف" على الفور، متوقعة عودتهِ إليها؛ لكنها تفاجئت بتلك الفتاة التي ترتدي الزيّ الرسمي للمكان، وفي يدها حقيبة كبيرة، تقدمت منها بتعجلٍ وتركت الحقيبة على الأريكة وهي تهمس بـ :
- الباشا باعتلك دي.
وهمّت بالخروج على عُجالة، تركت "سُلاف" الصغير جانبًا، وهمّت تفتح الحقيبة بسرعة، لتجد ثيابًا نظيفة بها وللرضيع، وحذاء رياضي مُريح مرفق بـ جوارب قطنية، ورضاعة "زين" أيضًا ممتلئة بالحليب الدافئ، بجانب بعض الأشياء التي ستحتاجها. شرعت بتبديل ملابس "زين" أولًا، متعمدة الإسراع قبيل أن يأتي مجددًا، ثم نزعت عنها ثوبها الأحمر وبدأت ترتدي كنزة بيضاء قطنية مريحة، وبنطال من (الچينز)، جمعت شعرها، رفعته لأعلى وشبكتهُ بدبوس، ثم بدأت تُزيل عن وجهها تلك الكمية المكثفة من مساحيق التجميل. أعادت كل شئ في الحقيبة، وقبل أن تغلق سحابها كان "حمزة" يقتحم الغرفة من جديد، امتلأ وجهه بعلامات الإستفهام المشدوهه، وهو يرى وضع غير الذي تركها عليه، بجانب تلك الحقيبة التي كانت تغلقها وما كانت موجودة بالبداية. مشى نحوها بإندفاعٍ، خطف الحقيبة من بين يديها، ثم ألقى كل ما بها أرضًا وفتش به شيئًا فـ شيئًا، لم يثير أي شئ تحفظهِ، وإنما دخول الحقيبة هنا هو ما شتت لُبه، فـ ترك كل شئ ووقف أمامها، هزّها هزًا عنيفًا وهو يجأر بصوته متسائلًا :
- إنتي مــين ؟؟.. مين وصلك الشنطة دي وأنا قافل الباب؟.
فأجابت بثباتٍ دون أن تُبدي ذرة اهتزازٍ واحدة :
- الشنطة كانت هنا من الصبح.. ومتسألش دخلت إزاي.
فصرخ في وجهها صرخة أرعبت الصغير وأيقظتهُ :
- لأ هـــــســأل.
لم يكترث لبكائهِ، وظل صوته عاليًا بذلك القدر دون أدنى تغيير :
- ده انتي مرتبة لكل حاجه من بدري بقى!.
واجهت ظلام عينيهِ بغموض نظراتها وقوة تعابيرها وهي تقول :
- آه، كل ده كان مترتب، من ساعة ما ولدت إبنك وأنا مستنية اللحظة اللي أظهر قدامك فيها.. إيه رأيك ؟.
أوغر صدرهِ بالحقد، وملأ الغضب مشاعره المنفعلة، فـ غرز أصابعه في شعرها يكاد يجتث جذورهِ، وقد تفاقمت مشاعره العدوانية بداخله :
- أنا هـــموتك، هدفنــك في مكانـك لو مقولتيش مين رمـاكـي في سـكتي.
خدشت أصابعه بأظافرها لتؤلمه بحق؛ لكنه لم يأبه بذلك ولم يحّلها :
- محدش رماني في سكتك، ده نصيبك اللي انت صنعته بنفسك.
دخل "راغب" أثر صوته الذي انتشر بسرعة الضوء في المحيط كله، وكل ما ركز عليه هو إنقاذ الموقف للخروج بأقل خسائر من تلك الفضيحة :
- بس ياحـمزة بس، اللي بتعمله ده مش هيفيدنا بحاجه.
خلصها من بين يديه بصعوبة بالغة، ثم التفت ليحذرها بصرامةٍ :
- ما تخلصينا وتجيبي الحكاية من الآخر، لو عايزة فلوس هنغرقك.. إنما الحركات الـو××× دي شبعنا منها.
فتدخل "حمزة" رافضًا اقتراح رفيقه :
- ولا جنيه حتى هتطوله مني، وهتنطق بالحقيقة كلها يعني هتنطق.
فـ دفعه "راغب" برفق قبل أن يهجم عليها مجددًا :
- ياعم أصبر مش كده.
ثباتها وهدوءها، يعصفان بما بقى من ثباته، خاصة وإنها لم تهتز قيد أُنملة :
- أنا قولت اللي عندي، عايز نعمل تحاليل نعمل.. إنما تنكر إبنك ده مش هيحصل، واللي مش هاخده منك بمزاجك زين هياخده منك بالقانون.
ضحك من فرط إنفعاله، حقًا فقد كل الحلول العقلانية، وما بقى أمام خياله هو تصوّر واحد فقط، إنه يقتلها بالفعل ويتخلص من الأمر برمتّه :
- مش مصدق البجاحة اللي بتتكلمي بيها، ومين زين ده!!.. حتت العيل اللي جيباه معاكي تتسولي بيه.
فـ تباهت وكأنما الحق كل حق معها وحدها :
- حتت العيل ده هو ولي عهد عيلة القرشي، سواء اعترفت بـ ده أو لأ.
- ده بعينك لو حصل.
تدخل "راغب" مقترحًا :
- خلاص نعمل التحليل ياحـمزة، وبعدها لينا التصرف معاها.
ارتكزت عينا "حمزة" على الطفل وهي تتناوله ليبقى بين أحضانها، فـ غلت الدماء في عروقهِ، وما زال عقله غير قادر على استيعاب ما حدث حتى الآن :
- ده مش إبنـــي، مــستحيـل حاجه زي دي تكون حصلت، حتى لو كنت فعلًا اتجوزتك، مش ممكن يكون ده حصـل انتي سـامعة.
ثم نظر للطفل مرة أخرى، ولم يطيق صبرًا بعد كل هذه المماطلات :
- ماشي، هعمل تحليل عشان بس أكشف لعبتك القذرة، وبعدها....
صمت هنيهه، وبرز الشر في عينيه وهو يتوعدها :
- هكون عـزرائيلك، هموته وهموتك مـعاه.
تجاوز "راغب"، وحصل على ذراعها مرة أخرى ليجتذبها منه، فـ تملصت منه تلك المرة وهي تصيح فيه :
- أوعـى!!.. أنا جايه معاك من غير ما تلمسني.. إنت إيه! حــيوان ؟.. مش شايفني شايلة إبنك.
فصرخ في وجهها وقد طفح كيله :
- بـرضـو هتقـولـي إبنــك!!.. كلامك ده هحاسبك عليه حرف حرف، بس أصبري عليا.
فض "راغب" بينهما من جديد، وسأل "حمزة" :
- أهدا ياحمزة وقولي عايز إيه؟.. خلينا نكملها بالعقل ياصاحبي.
- هتيجي معايا المستشفى حالًا.
انحنت "سُلاف"، تناولت الرضّاعة (بزازة أطفال) خاصتهِ، وضعتها في فمه كي يهدأ قليلًا، ثم حملت حقيبتها الصغيرة على كتفها وتأهبت للذهاب معه :
- أنا جاهزة.
أشار لها "راغب" كي تعبر من أمامه :
- أتفضلي.
مرت من أمام "حمزة"، يكاد يطبق على عنقها فـ يحرمها حتى أنفاسها الأخيرة، جراء ما فعلتهُ، لولا أن "راغب" وقف أمامه وحدق فيه بنظرات ذات مغزى، ثم أردف بخفوت :
- أصبر، هنشعلقها بس نعمل التحليل.. أنا قلبي مش مرتاح.
فـ اتقدت نظرات "حمزة" وهو يتمتم بغضبٍ مكتوم :
- بقولك مش إبني، أنا بكون عامل حسابي في كل مرة.. ما تفهم بقى!.
ثم تركه والتفت كي يلحق بها، لئلا تحاول الفرار أو الهروب منه. كانت تسير بتؤدة، حريصة على وجود "زين" بين ذراعيها، حتى لحق هو بها، وضرب على كتفها ضرباتٍ مهينة :
- أنجزي مش هتمشي على قشر بيض!!..
تجاهلتهُ تمامًا، رأته يسير متعجلًا أمامها وقد سبق خطواتها بمسافة، لكنها لم تغير مسيرة خطواتها، وهمست بـ :
- أيامك الجاية كلها سواد، بس يطلع التحليل، هبقى كابوسك يابن القرشي.
وقف "نضال" بجوار "راغب" أمام القصر، يراقبون انصراف "حمزة" بها، بعدما أجلسها في السيارة وأغلق الأبواب كلها. فرك "نضال" فكهِ بحيرةٍ :
- يعني رايح بيها المستشفى!.
- آه.
زفر "نضال" وهو ينظر في ساعة يده، ثم هتف بـ :
- أسما هانم لسه قافلة معايا وسألتني، تفتكر أتصل أبلغها؟؟.
فـ نصحه "راغب"، وفقًا لمعرفته الطويلة بالعائلة فردًا فردًا :
- لو عايز نصيحتي أخلع نفسك من العيلة دي.. أسما ولية شر.. خلينا بعيد أحسن.. لو حمزة عايزنا إحنا معاه، غير كده لأ.
*************************************
كان يسير بسرعاتٍ متفاوتة، غالبًا عليه عصبيته المفرطة، ومن بين حينٍ وآخر ينظر بطرفهِ، هدوءها وهدوء الصغير كان يثيره أكثر، لكنه - وبصعوبة مفرطة - تحكم في نفسه، لم يردف بكلمة واحدة، لم يتحمل في الأساس أن يتحدث إليها بأي شكل. لاحظ تلك السيارة بالخلف، والتي كانت تُقلبّ في إضاءتها له كي يتوقف، راوغ سائقها، وبدأ يميل يمينًا ويسارًا، والسيارة التي تتعقبهم ترواغه هي الأخرى، حتى أسرعت فجأة وتعدتهُ حتى أصبحت أمامه، فـ تشكك بالأمر ونظر حيالها يقول :
- دي باقي لعبتك بقى ولا إيه!؟.
كانت هادئة بشكلٍ يثير الأعصاب، كأنها في أيدٍ أمينة، بل هي بالفعل في أيدٍ أمينة. توقفت السيارة على بعد أمتار قليلة لتوقفه، وفجأة وجد نفسه محاصرًا بسيارة من الخلف أيضًا، فلم يتمكن من الفرار بأي شكل. التفت يرمقها بإمتعاضٍ وغضب، وهتف بـ :
- ده انتوا عصابة بقى!؟.
ابتسمت "سُلاف" ابتسامة الظافر المنتصر، ورنت إليه بنظرةٍ أخرى شامتة، وقالت :
- عيب لما تقول كده على أم إبنك ياحمزة.
فجأة وجد "حمزة" مجموعة من الرجال ذوى البنية القوية، هيئتهم تنم على إنهم من أفراد الحراسات الخاصة، أشهر أحدهم السلاح، ووجهه على رأس "حمزة" قائلًا :
- أفتحلها الباب.
بقى "حمزة" مقيدًا بأصفادٍ صارمة، لن يقدر على مواجهتهم بمفرده، فهو مؤمنًا أن الكثرة - والقوة - تغلب الشجاعة. فتح لها باب السيارة عبر زر جانبي جواره، فـ قام أحدهم بفتح بابها وهتف بـ :
- اتفضلي ياهانم.
نظرت "سُلاف" إليه، ثم نزعت رضاعة "زين" من فمه قائلة :
- أنت اللي هتعمل التحليل لوحدك.
وضعت الرضاعة بجواره متابعة :
- ودي عينة إبنك.
ابتسمت من جديد، ابتسامة أكثر إشراقة وتحدي :
- أنا هعرف أمتى أوصلك تاني، عشان حق إبني وحقي.. عمره ما هيروح في الأرض.
كل ذلك وهو في موجة من الصدمة، كل ما عايشه الليلة من تدبيرٍ محنك ومدبر كان يستحق التصفيق بحق ، وبقى هو الغبي الوحيد الليلة. هبطت "سُلاف" عن السيارة بكل هيبة، وسارت متقدمة رجالها نحو السيارة، فتح لها أحدهم الباب حتى استقرت، ثم مضت السيارة في طريقها، لم يتحرك ذلك الحارس الذي بقى على رأس "حمزة"، حتى ابتعدت سيارة "سُلاف" للحد الذي لا يمكنه تعقبها، ثم انسحب من أمامه وهو يردف :
- زي ما الهانم قالت، هي هتوصلك في الوقت والمكان المناسب.
ومضى كي يستقل السيارة الواقفة في الخلف، ليبقى "حمزة" في قمة ذهوله وهو يردف بـ :
- آه يا ولاد الكـ*لـب...!!.
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل السابع :-
المحيط من حولها عبارة عن فوضى، تسبب جنونها في تكسير أغلب قطع الديكور الزجاجية، فـ الحال الذي وقع فيه جميعهم لا يُحسدون عليه، خاصة وأن "شاكر" رفض رفضًا قاطعًا محاولتهم للمناقشة معه. أوقعت بلورة قيمة للغاية، كانت قد ابتاعتها من أسبانيا في آخر زيارة لها، فـ التفت إليها "صلاح" وقد بلغ غضبهِ ذروتهِ :
- بـس ياأسـما، كـفاية مش قـادر أفكر بسببك.
اهتاجت هياجًا شديدًا، وهز صوتها كل الأرجاء وهي تصرخ صراخًا مدويًا :
- إبنك متـجوز ومـخـلف من ورايـا!.. أنت مش مستوعب المصيبة ياصلاح!.
زجرها بنظراتٍ مستنكرة، لمحدودية تفكيرها الذي لم يصل لأبعادٍ أكبر من ذلك :
- هو ده اللي بتفكري فيه!.. إنه عمل ده من وراكي!.. فكري في شاكر وبنته وفضيحتنا!!.. شاكر هيقلب الدنيا علينا عشان بنته الوحيدة.
اتقدت رأسه من شدة العصبية وهو يتابع :
- الـ ×××× بنت الـ ×××.. جاية تعمل الشو بتاعها ليلة فرح إبني!.. لو أطولها بس هوديها ورا الشمس.
ما زالت "أسما" لدى نفس النقطة، وهي قيام ابنها بأمرٍ گهذا دون علمها، وتطور الأمر حتى وصل إلى وجود طفل أيضًا :
- أمتى حصل وإزاي ؟.. والبت دي كانت فين طول الشهور دي؟.
- يـــــــــوه.!
قذف "صلاح" سترته على الفراش، والتفت متوجهًا صوب الباب، خرج منه وهو يسبّ ويلعن بألفاظٍ خرجت عن نطاق المسموح به، بعدما فقد التحكم في أعصابهِ التالفة. حينئذٍ كانت "أسما" تعيد محاولتها للإتصال بـ "حمزة"، علها تتوصل لأي معلومة حول مستجدات الأمر، لكنه ما زال مغلقًا ولا تستطيع الوصول إليه، فـ ألقت به على الطاولة، وفركت أصابعها بتوترٍ وهي تغمغم ساخطة على وضعهم :
- ياترى انت فين ياحمزة؟!.
**************************************
كان ينتظر رفيقه خارج المعمل المتخصص لجميع أنواع التحاليل، بعد أن وردهُ إتصال منه يُفيد بإيجاز ما تعرض له من موقف خطير لم يتعرض لمثيلهُ من قبل. نظر "راغب" في ساعة يده قبل أن ينفخ بإنزعاج، ثم نظر مرة أخرى لبوابة المعمل بقنوط، ليرى "حمزة" يخرج منها، فـ ترجل عن سيارته بعجالةٍ وأشار له مناديًا:
- حــمزة.
انتبه "حمزة" لمكانه، فـ تقدم منه حتى وصل إليه، فـ سأله "راغب" مشدوهًا :
- إيه اللي قولتهولي ده!!.. البت فعلًا مسنودة ووراها ناس؟.
كان "حمزة" گالقدر الذي يغلي على موقدٍ هادئ، بداخله حُمم بركانية تتلظّى من فرط غليانها، رغم الهدوء المزيف الذي يحاول أن يظهرهُ. دسّ إيصال إستلام النقدية في جيبه، ثم قال :
- الحكاية دي وراها لعبة كبيرة أوي ياراغب، بس أنا لسه مجمعتش التفاصيل كلها.. أنا بيتلعب عليا دور محبوك أوي أوي.
مطّ "راغب" شفتيه بقلة حيلة :
- طب وبعدين ياحمزة!.. هتعمل إيه بعد ما البت دي اختفت؟.
- هجيبها ولو في بـطن أمـها.
صدح صوته حتى وصل لكثير ممن حوله، فـ نظر "راغب" بشمولٍ و :
- أهدا ياحمزة الناس بتتفرج علينا.
صرّ على أسنانه بغيظٍ كتمه طويلًا، وهتف بـ :
- أنا عملت التحاليل وأخدوا مني عينة يطابقوها، قالي الإستلام بعد أسبوع بس أنا رشيت عليهم (رشوة) كلهم لحد ما بقوا ٣ أيام.. آخد التحاليل بس وهيكون في كلام تاني.
دنى "حمزة" منه خطوة، ثم همس من بين أسنانهِ الملتصقة :
- أتصرف وهاتلي البت دي من تحت الأرض ياراغب، أنا مش هستنى رحمتها عليا لما تتكرم وتظهر تاني قدامي.
أومأ "راغب" رأسه متفهمًا :
- من الصبح هقلب عليها الدنيا.. بس قولي إسمها إيه.
قطب "حمزة" جبينه مدهوشًا من نفسه، حتى إنه لم يعرف إسمها؛ لكنه تذكر أمر وثيقة الزواج، فـ أخرجها من جيبه ونظر لإسمها بشئ من الإشمئزاز :
- إسمها سُلاف.. سُلاف محفوظ السُني.
- أعتبرني لقيتها، من الصبح هجيبلك سجلات كل اللي أسمهم سُلاف.
تحرك "حمزة" نحو سيارته المصفوفة على الجانب الآخر و :
- أنا ماشي، لازم أشوف ميان.
*************************************
كانت بمفردها في تلك الغرفة التي تختلي فيها بنفسها أغلب الوقت، تتفقد مواقع التواصل الإجتماعي، والتي انتشر عليها الخبر بسرعة البرق، وأصبح الحديث عن الأمر مُحتل أحد المراتب الأولى للأخبار الهامة، أي ما يُسمى في عصر التكنولوچيا العصرية (Trend). جلجل صوت ضحكتها، وهي ترى الصور ومقاطع الڤيديو التصويرية متفشية بكل مكان ، اعتدلت في جلستها، تناولت السيجارة المشتعلة لتسحب منها جرعة إلى صدرها، ثم أعادتها مكانها بالمنفضة، و التقطت بعدها كأس الماء بشرائح الليمون ترتشف منه. تنفست بأريحية بعد إتمام أهم خطوة بالأمر كله، كان ظهورها الأول أمامه هو الإنتفاضة الأولى لمسيرتها الطويلة، وها هي تجاوزته، وما بقى يحتاج منها فقط كثير من الحرص و الدهاء. أغلقت هاتفها وهمّت بالخروج من هنا، لترى "مصطفى" أمامها منتويًا زيارتها، وعلى وجهه تعابير السعادة جليّة، فـ تبسمت في وجهه وهي تنحني عليه، ولامست بأصابعها ذقنهِ التي خالطها الشيب :
- مش بشوف الضحكة دي كتير على وشك ياعمي، أنا فرحانة إني فرحتك.
ربت "مصطفى" على يدها داعمًا ومشجعًا لها، متمنيًا لو إنه يتشفّى برؤية هزيمتهم الساحقة بنفسهِ، حتى يُرضي روحه الجائعة للإنتقام :
- فرحان من كل قلبي، وزمان إسماعيل حاسس بينا وشايفنا وفرحان هو كمان.. حق الغايبين خلاص هييجي.
أومأت "سُلاف" برأسها مؤيدة، بينما كان هو يتابع :
- ياما كان نفسي أشوف صلاح بعيني وأشفي غليلي.
ضغط بأصابع يده على ساقهِ - المبتورة - ، ليتذكر عجزهِ المستديم والذي تسبب فيه "صلاح القرشي" :
- كان نفسي أبقى واقف قدامه على رجلي.
وامتلأ صوته بالغيظ الحاقد وهو يتابع :
- وآخد قلبه من بين ضلوعه بأيدي.
هزت رأسها بتفهم، وهي تُقدّر مشاعرهِ المُتقدة :
- أنا حاسه بيك، متقلقش ياعمي هعملك كل اللي انت عايزه.
ضبط إنفعالاته المضطربة، وتحكم فيها شيئًا فـ شيئًا، ثم سألها بجدية :
- الرجالة اللي بعتهم ليكي كانوا كفاية؟.
انتصبت في وقفتها، وأجابته بثباتٍ :
- كفاية أوي.
- كويس إننا كنا عاملين حسابنا، أنا عارف إنهم و×××× ما هيصدقوا يستفردوا بيكي.. بس أنا عمري ما هسمحلهم بحاجه زي دي أبدًا.
صوت بكاء الرضيع "زين" انتشلها من أوج تركيزها، فـ أشارت نحو الجانب الآخر قبل أن تهمّ بالإنصراف :
- زين صحي، أنا هروح أشوفه.
و انصرفت من أمامه، حينما كان هو يستعيد أمام ناظريهِ مشاهد من الماضي، مشاهد لم ينساها أبدًا، يراها كل يوم، في صحوهِ ونومهِ. تلك الليلة المشؤومة التي خسر فيها خسرانًا مبينًا، والتي أقسم مُنذها إنه لن ينسى، إلى أن يواريـه الثـرى.
***************************************
كل المبررات لم تكفي، كي يصدّ عنه استجواب "أسما" - الصارم - والمُتشدد، بشأن ما حدث الليلة من أمرٍ مُشين. أطبق "حمزة" جفونهِ بـ اختناقٍ وضيق، وطرد ثقلًا من على صدرهِ بزفيرٍ عميق :
- أنا هكذب عليكي ليه ياماما!.. بقولك أول مرة أشوفها في حياتي، ولا هي مراتي ولا ده إبني، أفهمي.. في حد بيلعب عليا لعبة رخيصة جدًا.
لم تقتنع "أسما" بحديثهِ، وشعرت بـ شائبةٍ تطول الأمر :
- والصورة اللي كانت معاها! برضو هتنكرها؟.
نفخ "حمزة" بإنزعاجٍ شديد، ولم يتحمل ضغط لأكثر من ذلك، فـ هو أيضًا عايش يومًا صعبًا وأحداث مرعبة :
- ماما أرجوكي، أنا مش متحمل أي كلام، لسه جاي من عند ميان ورفضت حتى تشوفني أو تسمع مني ومزاجي زي الزفت.. سيبني أفكر وأشوف هعمل إيه في العك ده.
نزع "حمزة" رابطة العنق وألقاها جانبًا، وغمغم بضيقٍ شديد :
- البت دي مسنودة جامد أوي، في حاجات كتير حصلت وأنا غافل عنها.. ده مش موقف عابر ولا طبيعي أبدًا!.. بس مين؟؟ مين وراها!.
**************************************
من المساء للصباح.. كل شئ قادر على التغيير بين ليلةٍ وضُحاها. بضع ساعات كانت قادرة على نشر الأخبار بسرعة مهولة، فـ الفضيحة في مجتمعاتنا لا تحتاج سوى للشرارة الأولى، وبعدها ستندلع النيران دون أدنى مجهود. استيقظ الجميع على الكارثة الإجتماعية التي حدثت أمس، بعد أن تداولت الصفحات الإلكترونية والمواقع الإخبارية شائعات حول زواج "حمزة القرشي" السري، وحقيقة طفلهِ الغير شرعي، الذي نسبتهُ إليه المُدعية "سُلاف"، اهتمام الجميع بالأمر كان شيئًا غير طبيعي بالمرة، وكأنها حملة مُمنهجة ومقننة تم شنّها على عائلة "القُرشي". لم يتذوق "حمزة" طعم النوم، بقى هاجدًا الليل كله، مختليًا بنفسهِ، كأنه يُعيد حسابات السنوات الماضية كلها، كل من تزوج بهن بذكرياتهن ، كل ما يخصهن ، لكن عقلهِ أبى أن يتذكر "سُلاف" نهائيًا، كأن تلك الليلة مُسحت من ذاكرتهِ بتاتًا. انتشلهُ صوتٍ ما بالخارج، فـ تشتت ذهنهِ ونهض من مكانه متعجلًا، فتح الباب ليرى "راغب" أمامه، فـ سأله مرتابًا :
- في إيه ياراغب؟؟.
كان وجههِ حاملًا حُمرة غاضبة، وهو يصيح فيه :
- إنت نايم في العسل ولا إيه؟؟.. تليفوناتك مقفولة ومش عارف أوصلك.. مشوفتش الفضيحة اللي حصلت؟
قطب "حمزة" جبينه، ودلف للداخل مسرعًا يبحث عن هاتفه :
- فضيحة إيه؟!.
- فيسبوك كله ملهوش سيرة غير حمزة القرشي اللي استغل نفوذه ونفوذ أبوه وضحك على بنت ورماها هي وابنها في الشارع!!.. مصر كلها بتتكلم عنك وانت بتقولي فضيحة إيه؟؟.
- نهار أبوها مش فايت!!
تجهم وجه "حمزة" صائحًا بتلك العبارة الممتعضة، وقد انغمست تعابيرهِ بالصدمة، فتح هاتفه ومنه تفقد مواقع التواصل الإجتماعي، لتظهر أمامه صور من حفل زفافه، والذي تحول لحدث كارثي بكل المقاييس، وتحولت آراء الجميع لمساندة "سُلاف" ضده، كونها إحدى النساء اللاتي يعانينّ من جحود أشباه الرجال وخداعهم، وبقى هو الذئب البشري الذي انتهك قُدسية فتاة سلمتّهُ مفاتيحها، فـ اغتال روحها بلا شفقة، وتركها نافيًا عن نفسهِ أي علاقة بها، ليبقى طفلهِ - الغير شرعي - منها، منتظرًا حُكم بأبوتهِ له، كي يعيش ويحيى بعالمٍ لن يعترف به، إلا بشهادة ميلاد مذكور في خانة الأب "حمـزة صـلاح القُرشي"
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الثامن :- - الجزء الأول -
"في طرفة عين، يتبدل الحال لحالٍ آخر، وهو لم يعايش بدل الحال فـ حسب، لقد انقلب كل شئ رأسًا على عقب، والتنبؤ بشئ بات أمر غاية في الصعوبة."
____________________________________
أنهى "نضال" المكالمة الهاتفية بعجالةٍ، ثم نظر بإتجاه "حمزة" الذي وصل لذروة غضبهِ، وأعطاه الخبر السئ :
- مش هنقدر نعمل حاجه، الخبر انتشر في صفحات كتير جدًا ده غير الحسابات الشخصية اللي شاركت الموضوع.. دي بقت قضية رأي عام ياحمزة.
ترك الهاتف وهو يقترح عليه :
- أنا رأيي تاخد إجراء قانوني ضدها، أعمل بلاغ وانت عارف إن الحق معاك.
كان "حمزة" جالسًا على مكتبه، يتحرك به المقعد يمينًا ويسارًا كما يتحرك عقله تمامًا، الأمور تعقدت بسرعة مريبة، وهو عاجزًا عن صدّ كل تلك الإشاعات عنه في ظل عدم وجود دليل براءته، ذلك التحليل الذي سينقذ موقفهِ ويحل الأزمة التي تعرض لها ، وكأنها حملة مكثفة لإنهائه، برع مُخططها في رسم كل زواياها. دخلت "رضوى" بعد أن قرعت على الباب، كان بينًا على ملامحها تغييرًا واضحًا، كأنها نظرات محتقرة أو ما شابه، أحنت رأسها مبتعدة عن النظر عنه، ثم قالت :
- بفكر حضرتك إن جلسة الإستئناف في قضية مدام عايدة بكرة.
حدجها "حمزة" بنظرةٍ مستنكرة، وعلى وجهه تعابير الغضب جليّة :
- تقريبًا يارضوى أنا المفروض أكون في باريس دلوقتي، كنتي هتعملي إيه!.
ثم صاح بغتةً وبشكلٍ أفزعها :
- ما تتصرفي زي ما بتتصرفي على طول!!.
وزع "نضال" نظراتهِ بينهما قبل أن يتدخل منعًا للصِدام :
- خلاص ياحمزة هي متقصدش.
ثم نظر بإتجاه "رضوى" متابعًا :
- أنا هشوف الموضوع بنفسي يارضوى.
رمت "رضوى" نظراتها الحانقة على كلاهما، ثم التفتت لتخرج وهي تغمغم بهسيسٍ غير مسموع :
- مقدرش على الحمار وجاي على البردعة، تستاهل كل اللي بيحصل يارب يطلع إبنك في الآخر ونشوف بقى هتعمل إيه!.
خروجها صادف دخول "راغب" إليه، وعلى وجهه تعابيرٍ غير مبشرة بالمرة، قرأ "حمزة" ذلك بسهولة، فسأله قبل أن يعترف هو :
- إيه ياسبع ؟.. معرفتش توصل لحاجه! مش كده ؟!.
فـ أفصح "راغب" عن فشلهِ الذريع :
- ملهاش أثر، ٣ بس في مصر أسمهم سُلاف محفوظ السُني، واحدة منهم ميتة من شهر ونص، وواحدة مسافرة برا مصر في هجرة مع جوزها بقالها ٣ سنين، والتالته بنت عندها ١٦ سنة.
برزت ابتسامة ساخرة على محياه، وتجول حولهم بتوترٍ مرتبك وهو يصيح بـ :
- أنا قولت كده!!.. واحدة بالدماغ دي مستحيل تديني رقبتها بسهولة.
دفن أصابع يديهِ الأثنتين في رأسهِ يضغط عليها بإنفعالٍ :
- هتجنن، مين ورا البت دي!!.. أنا مسيبتش واحدة غير وأنا مقطع الورقة العرفي اللي بينا، مفيش واحدة عرفت تخدعني ولا تاخد مني اللي أنا مش عايز إديه ليها!!.. إزاي ده يحـصل معـايـا..!.
فكر "نضال" قليلًا، وبدأ بالفعل يُصدق أن الأمر حقيقيًا ولا يحمل أي تلاعب، تشكك في ذاكرة "حمزة" الذي قد يكون تناسى تلك الفتاة، من بين العشرات الذي قضى لياليهِ الخاصة معهن، فـ رمقهُ بتوجسٍ وسأله :
- أنت حاسس بإيه يا حمزة؟؟.. معقول يكون ده إبنك فعلًا؟.
- مــش إبـنــــــي، مـسـتـحـيل!.
اهتاجت أعصابهِ وهو يصرخ بذلك، ولم يهدأ أبدًا بل أن الأمر تطور أكثر :
- واللعبة القذرة دي أنا هكشفها كلها، وساعتها وحياة أمي ما هرحم البت دي، ولا هيكون ليها شفيع عندي.
شدد "راغب" على كتفه مهونًا عليه :
- خلاص ياحمزة، كلها النهاردة والنتيجة تطلع، ونحطها في عين الكل ، ونرفع بيها قضية كمان.. هنبهدلها هي واللي يتشدد لها كمان.
نظر "حمزة" لهاتفهِ، لم ترد "ميان" على اتصالاته المتكررة، وتجاهلت رسائلهِ تمامًا، حتى إنه فشل في تحديد موعد للقاءها وتفسير نفسه أمامها، فـ قذف الهاتف بعيدًا عن متناول يده، وفتح زرّ قميصهِ ليُحرر عنقهِ قليلًا، بعد أن أحس بإختناقٍ شديد يُطوقهُ، وفتح النافذة الزجاجية العريضة لينظر عبرها، تلك المرة الأولى التي يصل فيها لحالٍ گهذا، عاجز، حائر، ومضطر على الصبر حتى تتبين النتيجة التي ستكتب مصيرهِ، إما النصر، أو الهزيمة الساحقة.
************************************
أيام عصيبة، قضاها جميعهم في الإنتظار على أحرّ من الجمر، لتظهر براءة "حمزة" ويتطهر من ذاك الأمر الذي طالهُ ولوّث دفترهِ - الأبيض - كما يظن الجميع. هذه المرة السادسة على التوالي ، التي تتصل فيها "أسما" بـ ولدها، لكي تطمئن على النتيجة النهائية لتحليل الأبوة، لكنه لم يُجيب هذه المرة، كان منشغلًا بإستلام أصل النتيجة، گطالب الثانوية العامة الذي ينتظر نتيجة سيتحدد على أساسها حياته كلها. أمسك "حمزة" بالظرف، متوترًا مرتبكًا، هل يفتحه أم لا؟.. ماذا ستكون النتيجة؟ هل لصالحهِ؟.. أم صالحها هي؟. كفّيهِ متجمدان گقطعتان من الثلج، والخوف - لأول مرة - يعرف الطريق لـ بواطنهِ. فتح الظرف بتلهفٍ، وفتح التقرير الطبي ليشملهُ بنظراتٍ خاطفة، حتى استقرت عيناه على تلك العبارة المكتوبة بالأنجليزية، وكان معناها ( العينة مطابقة بنسبة ٩٩.٩٪ مع حمزة صلاح القُرشي).
بُهتت تعابيره، گمن انهدمت دُنياه رأسًا على عقب، إذًا هو أب لهذا الطفل بالفعل، حتى وإن أراد ألا يكون ، هذا هو الواقع الذي يُعايشهُ الآن. ظل واقفًا مشدوهًا مصدومًا، ماذا سيفعل الآن؟.. بل أين سيجد طرف الخيط الذي سيدُلهُ عليها؟. تعقدت الأمور أكثر وأكثر، بعدما ثبت له صدق قولها، وإنها أنجبت منه طفلًا في الخفاء دون أن يرى أو يسمع شيئًا، وكان هذا هو ضمانها الوحيد، لكي يعيش الطفل.. وتعيش هـي.
خرج "حمزة" من بوابة المعمل، بوجهٍ مغلف بالذهول ، حتى استوقفه "راغب" بترقبٍ يسأله :
- طمني؟.. النتيجة إيه؟.
لم يتفوه كلمة، بل كان صمتهِ أبلغ رد قد يصل لـ "راغب"، ذمّ على شفتيه وقد فهم ما وصلت إليه الأمور :
- إبنك؟.
نظر "حمزة" حوله، ثم قطع دابر الأمر نهائيًا بقوله :
- ده كلام التحاليل، إنما الحقيقة.. لأ.
قطب "راغب" جبينه بغير فهم :
- يعني إيه؟.
برقت عينا "حمزة" ببريق شرٍ، وأفصح عن نيتهِ :
- يعني كأني مشوفتش التحليل ده، هنضرب النتيجة زي ما بنضرب أي حاجه، وتبقى تقابلني لو عرفت تثبت العكس.
طوى "حمزة" ظرف التحليل ووضعهُ في جيب سُترتهِ، ثم سار نحو سيارته :
- يلا عشان ورانا حاجات كتير.
***********************************
تلقى "صلاح" خبر تواجد أفراد الشرطة أمام بيتهِ، في حدثٍ لم يسبق له الحدوث من قبل، فـ هرول بالخروج من مكتبه الموجود بداخل المنزل، ومن خلفهِ "أسما"، وقد تسرب القلق لكليهما، حتى وصل أمام البوابة، ليرى بالفعل أفراد من الشرطة في انتظاره. أخفى "صلاح" مشاعر القلق والتوتر بداخله، وبدا ثابتًا صامدًا وهو يردف بـ خشونةٍ :
- أيوة يافندم.. أنا صلاح القرشي، أؤمر.
رمقه ضابط الشرطة بحزمٍ وهو يسأله :
- إبنك فين ياأستاذ صلاح؟.
ازدرد "صلاح" ريقه، فالأمر كان مريبًا بالنسبة إليه :
- ليه يافندم، ممكن تفهمني ؟.
- مطلوب القبض عليه.
حدقت "أسما" بفزعٍ :
- لـيه ؟.. إبني عمل إيه؟.
حينئذٍ كانت سيارة "حمزة" تتوقف أمام البوابة، أراد "صلاح" لو أن لديه الفرصة لتحذيره، ليبتعد على الأقل - حاليًا - ، حتى يفهم تحديدًا ما الذي حدث كي يؤدي الحال إلى أمر بالقبض. ترجل "حمزة" عن سيارته وعيناه تتجول بين الواقفين كلهم، ظن أن "شاكر" قد بدأ المراوغة معهم، بعد ما طال ابنته، فـ تنهد بتحيرٍ وهو يسير نحوهم متسائلًا :
- في إيه يابابا؟.
فسأله الضابط :
- أنت حمزة القرشي؟.
زفر "حمزة" بنفاذ صبر وهو يجيب :
- آه.. خير حضرتك.
- أتفضل معايا، في محضر ضدك وبناء عليه خرج أمر بالقبض عليك.
اتسعت عيناه بذهول، لتطور الأمر بسرعةٍ خارجة عن سيطرته، وسأل ممتعضًا ، وبلجهةٍ بدت مستنفرة :
- عشان؟؟.
- أنت متهم بتهديد بالقتل، ضد السيدة سُلاف محفوظ السني.
گالصاعقة، نزل الخبر عليهم، فـ قبل حتى أن يضع "حمزة" الخطة ضدها، كانت هي قد تحركت ضده منذ زمن، وهذه هي بادرة خطتـها...
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الثامن :- - الجُـزء الثـانـي -
تنويه :-
(الجزء قصير حيث إنه بقية فصل أمس).
"ظُلم الظالم أول خيارات العدل."
______________________________________
فرك "نضال" عيناه الناعستين، ونفض رأسه عله يتخلص من نوبة النوم التي اشتدت عليه. خرج من العقار الذي يقطن به وهو ينظر من حوله، حتى رأى سيارة "راغب" تقف هناك، فـ سار نحوها متأدًا حتى استقر جواره بجانب مقعد القيادة، وسأله في سخطٍ منزعج :
- إيه الموضوع اللي يخليك تقومني من نومي وتنزلني الشارع على ملى وشي ياراغب!!.
اقتاد "راغب" السيارة متعجلًا وهو يفسر له الأمر :
- حمزة في القسم.
تغضن جبينهِ مدهوشًا، وسأل بإستفسار :
- في القسم جاني ولا مجني عليه؟.
- الأتنين.
كان جوابًا مريبًا لم يُفسر حقيقة الموقف، مما استرعى بادرة إنفعالٍ لدى "نضال"، فتسائل بنفاذ صبر :
- ما تكلم ياعم انت وتقول من الآخر !.. أنا مش فاهم أي حاجه!.
فشرح له على عجالة :
- البت اللي ما تتسمى دي، راحت عملت محضر ضده إنه هددها بالقتل.
حدق "نضال" مذهولًا من جرأتها، بعد ما تسببت فيه من كارثة أودت بمستقبل "حمزة" إلى الهاوية :
- بنت اللئيمة!!.. بعد كل ده هي اللي بتبلغ عنه!.
فصاح "راغب" دفعة واحدة، بعدما حاول حجب امتعاضهِ الدفين :
- تخيل!!.. حتة مفعوصة تجرجرنا كلنا على القسم!.. أنا مش مستوعب اللي بيحصل.
تثائب "نضال" للمرة الثانية على التوالي، فـ نهرهُ "راغب" منفعلًا :
- إيـــه ياعم انت ما كفاية وتخلي عندك دم؟!.
فتّش "نضال" عن هاتفهِ فلم يجده، فـ اتسعت عيناه مضجرًا :
- يـوه!!.. نسيت التليفون بتاعي!.
توقف "راغب" بمحاذاة الرصيف بغتةً، وصرخ في وجهه :
- أنـزل ياجدع انت وخدلك تاكسي، أنا أعصابي مفرفرة لوحدها.
فـ انفعل "نضال" أيضًا ولم يحتفظ بسكونهِ - الغير مقصود - طويلًا :
- يا زفت انت التليفون بتاعي عليه أرقام ناس مهمين جدًا، ممكن حد فيهم ينفعنا.. فهمت! ؟.. أنجز خلينا نشوف الليلة اللي مش فايته دي!.
***************************************
اهتاجت أعصابه فاقدًا السيطرة عليها، بعد تعرضه لهذا الموقف الذي لا يُحسد عليه، فـ بعد أن قرر قطع دابر الأمر بالتزوير والكذب، وطَمَسَ حقيقة نسب طفلهِ العائدة إليه؛ لم يجد حتى الوقت الذي يتخلص فيه من أي صلة بالأمر، وإذ به يقع فريسة سهلة في فخٍ مُدبر، قبيل حتى أن يرمش عينهِ. فـ هي تعلم جيدًا حيل خصمها وتحايلهِ، وقضت وقت طويل للغاية لكي تدرس كل ما يخص شخصيته، لتكون قادرة على تلك المواجهة الصعبة والتحدي الشرس، الذي قررت خوضهِ. أفاق "حمزة" من شرودهِ اللحظي، على صوت والده وهو يتحدث للضابط :
- إزاي الكلام ده!.. إبني مش حد من الشارع يافندم، طالما قولت لسيادتك بكرة الصبح يكون قدام النيابة يبقى خلاص، كلامي نافذ.
رفض الضابط اقتراح "صلاح" رفضًا قاطعًا ، وبرر ذلك بـ حجتهِ القوية :
- مفيش الكلام ده ياأستاذ صلاح، أنت راجل قانون وعارف، ده أمر نيابة، يعني أستاذ حمزة هيفضل مشرفنا لحد ما يتعرض الصبح على النيابة.
لم يدوم صمت "حمزة"، بل خرج عنه وقد استنفذ كل ما بقى لديه من بقايا صبرٍ وتماسك :
- أنت أكيد اتجننت!! عايز تنزلني أنا الحجز!.
هبّ الضابط عن جلستهِ وقد اتقدت عيناه بإنفعال ملحوظ، وصاح فيه بغير هوادة :
- ده انت اللي دماغك لسعت على الآخر، أنت هنا في القسم، يعني ممكن ألبسك محضر سبّ وقذف وتعدي لفظي على موظف أثناء تأدية وظيفته!.. هي هبّت منك ولا إيه!.
تدخل "صلاح" قبل أن يتورط "حمزة" بتهورهِ أكثر وأكثر، كي ينقذ ما يمكنه إنقاذهِ :
- يافندم ميقصدش، الصدمة برضو مش طبيعية، ده محامي معروف وكانت وظيفته يخرج الناس من هنا، يقوم هو يدخل!.
زجرهم ضابط الشرطة بنظراتٍ مستخفة، ولم يأبه بذلك التبرير الواهي من وجهة نظرهِ :
- والله دي مشكلته هو مش مشكلتي، في محضر متحرر ضده ودليل على إنه هدد السيدة سُلاف بالقتل.
نظر "صلاح" لإبنه نظراتٍ مستنكرة، بعدما ورط نفسه معها بقول شئ مثل هذا، دون أن يعي إنها احتاطت جيدًا لتوقع به شرّ وقيعة.
(عودة بالوقت للسابق)
ارتكزت عينا "حمزة" على الطفل وهي تتناوله ليبقى بين أحضانها، فـ غلت الدماء في عروقهِ، وما زال عقله غير قادر على استيعاب ما حدث حتى الآن :
- ده مش إبنـــي، مــستحيـل حاجه زي دي تكون حصلت، حتى لو كنت فعلًا اتجوزتك، مش ممكن يكون ده حصـل انتي سـامعة.
ثم نظر للطفل مرة أخرى، ولم يطيق صبرًا بعد كل هذه المماطلات :
- ماشي، هعمل تحليل عشان بس أكشف لعبتك القذرة، وبعدها....
صمت هنيهه، وبرز الشر في عينيه وهو يتوعدها :
- هكون عـزرائيلك، هموته وهموتك مـعاه.
(عودة للوقت الحالي)
ضرب "حمزة" على سطح المكتب وهو ينظر لوالدهِ :
- أتصرف، أعمل حاجه يابابا!.
عاد الضابط يجلس في مكانه، وهو يردف بفتورٍ منزعج :
- مفيش حاجه تمنع تطبيق القانون ياحضرت المحامي.. ودي حاجه أنت عارفها كويس، ياريت كفاية مماطلة وتتفضل.
وأشار للمجند :
- خده ياعسكري.
وقف "حمزة" عن جلستهِ بعد أن أيقن أن لا خلاص من هنا الليلة، خاصة وأن والده قام بالعديد من المكالمات التي استهدف بها إنقاذ ولدهِ، لكنها باءت جميعًا بالفشل، في ظل تحول ذلك الموضوع لأمر تحدث عنه العامّة وأصبح حديث المدينة كلها. خرج "حمزة" ومن خلفه المجند، يوّد لو يطالها بيده، ليفتك بها فتكًا بلا رحمة، ليتحقق مرادهِ بنفس اللحظة، ويراها ماثلة أمامهِ وجهًا لوجه. فـ تسعرت مشاعرهِ وكاد يهجم عليها لولا وجود والده الذي أعاق حركته :
- يابنت الـ ×××××.
دفعه "صلاح" للخلف وهو يعنفهُ بخفوتٍ :
- حــمـزة!!. إحنا في القسم أعـقل.
تبسمت "سُلاف" وهي ترنو إليه بشماتةٍ قائلة :
- دي فيها قضية سب وقذف دي ياحمزة!.. عيب، قولتلك قبل كده أنا أم إبنك ولازم نحترم بعض، أنت مصدقتش.
فصرخ في وجهها :
- مش إبــنــي!.
حافظت على هدوءها الذي يثير نيران انفعاله أكثر، وهي تُشهر تقرير المعمل حول تحاليل الأبوة أمام عينيه :
- لأ لأ لأ ، ميصحش تكذبني كده قدام حمايا!!.. ده التحليل طلع وأنت استلمت النتيجة بنفسك، مش كده يابابا حمزة؟.
حدق "صلاح" في تلك الورقة الفاصلة، التي تمسك بها "سُلاف، ثم نظر لولده يسأله مذهولًا :
- الواد طلع إبنك ياحمزة ؟؟.
ناولته" سُلاف" التقرير وهي تجيب نيابة عنه :
- أيوة ياجدو صلاح، طلع إبنه.
ثم نظرت إليه من جديد :
- ما ترد على بابا ياحمزة، ولا مكسوف!.
تلك العيون التي تنظر إليها وشرارة الشر بازغة فيهم، كانت تُشعرها بلذة الإنتصار وزهوته، وهو عاجزًا حتى عن صدّ العدوان الذي أقامته عليه. دنت منه خطوة، وهمست بجوار أذنه بخفوت سمعهُ :
- مش قولتلك، هعرف أوصلك في الوقت والمكان المناسب.
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل التاسع :-
"في الحرب تتساوى الرؤوس، لكن في نتيجتها تدعس أحدهم الأخرى."
_____________________________________
كانت گالنار على اللهب، يأكل داخلها بعضه بعضًا من فرط القلق على ولدها، حتى رأت "صلاح" يخرج وحيدًا، وكأن الشياطين تتقافز أمام وجهه، فـ أسرعت بخطواتها منه، وهي ترمي بنظراتها المتفحصة خلفه بحثًا عن "حمزة"؛ لكنه غير موجود!. استوقفته "أسما" بأنفاسٍ مضطربة، وسألته بإستهجانٍ :
- إبني فين ياصلاح؟؟.. مخرجش معاك ليه؟.
كأنه غير قادر على النطق بها ومصارحتها، فالأمر جمّ صعب التقبل، حتى هو لا يصدق، ثانيتين من الصمت كانتا كفيلتين بإثارة جنونها، لتصرخ في وجهه :
- ما تــرد عـليـا ياصـلاح!.
تدخل "راغب" محاولًا بذلك السيطرة على انفعال "أسما" الذي تجاوز مراحل الغضب :
- أهدي ياطنط خلينا نفهم اللي حصل.
فرك "صلاح" ناصيته بيده، وكز على أسنانهِ قبل أن يقول بإيجاز :
- هيتعرض على النيابة الصبح.
حدقت "أسما" بغير تصديق، وكأن الصدمة قد نزلت على مداركها گالصاعقة، حينما بُهت كلا من "راغب، نضال"، وبادر "نضال" بسؤالهِ مستفهمًا :
- أنا مش فاهم هو عمل إيه لكل ده!.
امتعضت تعابير "صلاح"، وأخفض صوته وهو يسبّها سبابًا نابيًا :
- بنت الـ ×××ـة دي بلغت عنه إنه مهددها بالقتل، ومقدمة في بلاغها تسجيل بصوته كمان!.. إحنا بيتلعب علينا لعبة قذرة أوي.
رآها "راغب" تمضي بإتجاه باب الخروج، فأشار نحوها وقد امتلأ وجهه بتعابير الحنق التي بلغت حلقومهِ :
- أهي خارجه أهي.
التفتت "أسما" تنظر بعينان تسعرت على أشُدّها، وغلت الدماء في عروقها حتى فارت، فـ اهتاجت وقدمت على الهجوم عليها بكل ما أُوتيت من قوة، لتفتك بها وتُمرغ وجهها بالأرض إن طالت ذلك. أحست "سُلاف" ببادرة الغدر في عيناها اللاتي تقدحان بالشر؛ لكنها لم يرمش لها جفنًا أو يهتز لها ثباتًا، بقيت صلبة في وقفتها بشكل مثير للأعصاب، حتى بقيت بينهما خطوة واحدة، وقبيل أن تطالها يد "أسما" كان ذلك الفحل العريض يقف حائلًا للحماية دونهما، فوجدت "أسما" شيئًا أشبه بالجدار يحجب عنها الرؤية، واستمعت لصوتهِ الخشن وهو يحذرها :
- بلاش يامدام، بلاش الغلط.
كان "صلاح" و "راغب" قد لحقا بها بسرعة البرق، قبيل أن تتسبب بكارثة أمام المخفر، قد تُضعف الموقف القانوني أكثر وأكثر فتجعلهُ أشد انحطاطًا؛ لكن مع وجود ذلك الفحل تحول الأمر لإستنكارٍ غاضب من "صلاح"، الذي انفعل بغتة وهو يوجه حديثه لذلك الرجل :
- أنت بتعمل إيه ياض أنت!!.. واقف قدام مراتي كده ليه!.
كان ثابتًا گالصخر وهو يشير إليه كي ينصرف جميعهم :
- صلاح باشا، مش عايزين مشاكل، خلي المدام تبعد عن الهانم خالص، وإلا الوضع مش هيعجب حد.
تأجج غضب "راغب" أكثر مع رؤية المهزلة القائمة بوضوح، وبعدما رأي بنفسه ما وصفه له "حمزة" من قبل، بإنها تستند على حوائط بشرية :
- لما انتي بتستخبي ورا رجالتك، بتظهري قدامنا ليه من الأول؟.
ابتعدت "سُلاف" قليلًا من خلف رجُلها، شملت جميعهم بنظراتها قبل أن تهتف بـ :
- أنا بستخدم حقي في الدفاع عن النفس يامتر، وقبل ما صاحبك وأهله ياكلوني أنا وإبني لازم يفكروا بدل المرة ألف، عشان عداوتي مش بالسهل كده.
- آه ياتربية الشوارع يا ××××× ، بترمي بلاكي على إبني وكمان بجحة وعينك قوية!.. أنا مش هرحمك.
تأففت "سُلاف" بإنزعاج شديد، ونظرت حيال "صلاح" الذي كان يرمقها بغيظٍ شديد و :
- هو انت مقولتش لطنط ولا إيه؟؟.
ثم تنهدت وهي تُخرج وثيقة إثبات نسب الطفل "زين" من جيب بنطالها القصير :
- عمومًا أنا دايمًا جاهزة.
مدت يدها بالوثيقة متابعة :
- ده تحليل الأبوة، مـبروك.. زين يبقى حفيدك ياطنط.
خطفت منها الورقة وما زال داخلها يُكابر، رافضة تصديق حقيقة كتلك، حتى عيناها التي ترى الحقيقة الآن ترغب بألا تصدقها. بُهت وجهها، تحجرت عيناها على ذلك الرقم (٩٩.٩٪)، والذي كاد يُسبب لها جلطة دماغية فورية. أصرف "راغب" عيناه عما يرى، بكل الأحوال هو أدرى من الجميع بالحقيقة التي جاهد "حمزة" كي يطمسها، لكنه لم يكن لديه متسع من الوقت. سحب "نضال" تلك النتيجة التي لم يراها من قبل، وبحزمٍ متشدد كان يردف بـ :
- دي صورة، فين الأصل؟.
تلوت شفتي "سُلاف"، قبل أن تتبسم بمكرٍ وهي تجيب :
- أكيد أنا مش غبية عشان أديك المستند الرسمي والموثق اللي يثبت حقيقة نسب إبني، كفاية عليكم الصورة، وفي نسخة من الأصل مع.... حمزة.
تغضن جبين "راغب" بإستفهام وهو يسألها :
- إنتي جيبتي نسخة أصلية منين؟؟.
مازالت مبتسمة بذلك الهدوء المستفز، وهي تجيب بثقة بالغة :
- أنا كمان ليا طرقي الخاصة، مش أنتوا بس اللي بتعرفوا تتصرفوا.
خطت خطوتين، حتى أصبحت قبالة "راغب" مباشرة، ثم هتفت بـ :
- أنت الوحيد اللي هيقدر يساعد حمزة إنه يفتكر الليلة دي، ساعد صاحبك، يمكن لما يفتكر يرتاح.
كادت تمضي لتغادر، لولا يد "راغب" التي قبضت على معصمها بشئ من العنف :
- قصدك إيه؟.
تدخل ذلك الموّكل بحمايتها، وحرر معصمها من يده وهو يقف أمامه گالمرصاد، في حين أعطته "سُلاف" طرف خيط، يستطيع به أن يعثر على حقيقة تلك الليلة الغامضة :
- افتكر كده، الديسكو، ونوسه.
زاغت عينا "راغب" وهو يبحث في خبايا عقله عما يذكره، حتى تابعت هي :
- بلاش نوسه، خلي سلامة ربيع يفكرك.
ارتفع حاجبيه مذهولًا وهو يسأل :
- أنتي تعرفي سلامة ربيع!!.
هزت كتفها وهي تجيبه :
- معرفش، أنت اللي هتعرف لما تدور.
فتح حارسها ذراعهِ كي تمر بأمان وبدون أن يمسسها أيًا منهم، فـ مرت، وقبل أن تنصرف كُليًا التفتت نصف التفاته، ونظرت لـ "راغب" وهي تقول :
- الخميس ١٤ يوليو.
و غمزت له، وكأنها قدمت له معروف لن ينساه، قبل أن تتحرك في المقدمة والحارس من خلفها، اضطرب "راغب" وهو يعتصر رأسه كي يتذكرها، ولم يستطع "نضال" أن يهدأ في ظل أن "راغب" بيده تذكر كل شئ لإنهاء الأمر :
- ما تفتكر ياراغب، البت متأكدة إنك الوحيد اللي عارف.
نظرت "أسما" بإتجاه "صلاح"، وقد برقت عيناها بلمعانٍ خذلان :
- يعني ده إبن إبني فعلًا؟؟.. حمزة عنده ولد من واحدة زي دي ياصلاح ؟.
أشاح "صلاح" برأسه بعيدًا عنها، ماذا يقول لها، عن أي فضيحة يتحدث!. زواج إبنه الذي ما زال ينكر، أم إنه أب لطفل غير شرعي؟. أم إنه خسر خسارة عُظمى بكل المقاييس، بعد ما أصاب إبنة "شاكر" من حالة صدمة لن يتهاون فيها أبيها مُطلقًا!.. من أين يبدًا؟.
************************************
لقد مرت الساعات گالسنين، كأنه دُفن حيًا، بين أربعة جدران تتآكل من شدة ارتفاع الرطوبة، حتى إنه لم يشعر بالصباح حين أصبح، وهو محتبسًا في هذا الظلام القاسي.
تركت "سُلاف" توقيعها أمام هيئة النيابة الموقرة، ثم تركت القلم وهي تلتفت بأنظارها نحوه، كانت عيناه تنهش منها، لولا هذا المكان الذي يتواجدان فيه الآن، لـ انقض عليها. قابلت نظراته بنظراتٍ متحدية لا تخشى شيئًا، ثم لفتت إنتباهه ببسمةٍ متنكرة :
- وكيل النيابة بينادي عليك ياحمزة.
انتبه "حمزة" والتفتت رأسه نحو وكيل النيابة، فـ استمع إلى تحذيره شديد اللهجة وهو يقول :
- وقّع على محضر عدم التعرض ياحمزة، طبعًا أنت رجل قانون وفاهم كويس، أي تعرض أو أذى هتتعرض ليه السيدة "سُلاف" هيكون مسؤوليتك مسؤولية كاملة.. يكفي إنها تنازلت عن المحضر.
لم يتفوه "حمزة" بكلمة واحدة، فقط ترك توقيعهِ كي يتخلص من هنا بأقصى سرعة، بعدما قضى ليلة من أسوأ الليالي التي قد يعايشها بحياتهِ.
لم تطول إجراءات الإفراج عن "حمزة" بعد قرار النيابة بذلك، فقط بعض الروتينيات الطبيعية وبعدها رافق أحد المحامين المخضرمين، والذي استعان به "صلاح" كي يكون هو بعيدًا عن مسرح الأحداث، في ظل وجود الكثير من الشوائب والشبهات التي طالت إبنه مؤخرًا. خرج "حمزة"، فـ اجتمع من حوله عدد غفير من الصحفيين والإعلامين، والذين حاول المجندين إصرافهم بشتّى السبل. حاول "حمزة" أن يتخطاهم ويتجاوز أسئلتهم التي كانت تتردد في آذانه، إلى أن لمح بطرفه "سُلاف" وهي تُدلي بأقوالها لأحد الصحفيين، فـ تشنجت عضلات وجهه صائحًا :
- هي بتهبب إيــه دي ؟؟.
نفخ وهو يكظم غضبهِ وغيظه، وإلا ستقوم قيامتها إن ترك ثيرانهِ الهائجة عليها الآن. تجاوز "حمزة" كل أولئك المحيطين به، وقفز بداخل سيارة والدهِ بالمقعد الخلفي، بينما أشار "صلاح" للسائق الخاص به كي يتحرك بهم :
- أطلع خلينا نخلص من القرف ده.
كادت السيارة تتحرك لولا أن الباب المجاور لـ "حمزة" انفتح، لحظات وكانت "سُلاف" تجلس بجوارهِ لتُشعل فتيل غضبهِ. توهجت عيناه وكأنها تبعث حرارة ملتهبة، وتخضبت بشرتهِ الحِنطية بحُمرةٍ متسعرة، حينئذٍ كان "صلاح" يصيح فيها بنفاذ صبرٍ :
- أسمعي يابت انتي، شوفي عايزة إيه وخديه وحلّي عن سمانا، أنا والله ماسك روحي عنك بالعافية.
قطبت جبينها بإستياءٍ مصطنع، وهي تعاتبه على فظاظتهِ المتعمدة :
- مش معقول كده ياحمايا!!.. ده انت حتى مطلبتش تشوف حفيدك؟!.
لحظة واحدة فاصلة، وكان الشيطان قد تمكن من مداركهِ بالفعل، وسلبهُ ما بقى من عقله، فـ انقض على عنقها متعمدًا خنقها، يكاد يقبض روحها ويجعلها تلفظ أنفاسها بين يديه. انتفض "صلاح" بفزعٍ وهو يرى حماقة "حمزة" وتهوره الذي يدفع به من حافة الهاوية، فـ ترجل عن المقعد الأمامي وراح ينقذ ولده من فعلٍ شنيع يكاد ينهي مستقبله - وحياتهِ - كليًا، كافح بأضنى جهدهِ لكي ينتزع "حمزة" عنها وهو يصيح فيه :
- حــمـزة!!.. هتودي نفسك في داهيه يابني!.
لكن الأخير كان صلبًا قويًا، وقد صبّ جام غضبهِ فيما يفعل، فـ أصبح تخليصها منه غاية في الصعوبة، حتى أن السائق أيضًا حاول التدخل من الجهة الأخرى لمنع وقع تلك الكارثة. حينئذٍ كان "سُلاف" تحارب من أجل أن تعيش، من أجل أن تحافظ على روحها الغالية التي لم تثأر منه بعد، لم تقوَ على صدّ يداه عن عنقها، حتى وهي تسعل لم يحلّها، فـ لم تجد سوى الحل الأقرب، خاصة وأن وجهه كان قريبًا منها للغاية، فـ بطحت أنفهِ بناصيتها أولًا - بطحة ليست قوية - لكنها مفاجئة، تحرر ضغط يداه عن عنقها قليلًا، فـ أمسكت برأسهِ تجتذبها بعنف وعضّت أنفه عضّة شرسة، وكأنها تقضم قضمة لحم. فصرخ متألمًا وهو يحررها نهائيًا - رغمًا عنه -، ووضع كلتا يديهِ على وجهه بعدما أحس بألمٍ عظيم في أنفهِ، حينها كانت هي قد تخلصت من وجود السائق الذي حاول إنقاذها، وترجلت عن السيارة وهي تسعل بصعوبة، بعدما مرت بلحظاتٍ كادت تفقد حياتها فيها، وحينئذٍ كانت تترك له وعيدها الأخير :
- هرفع عليك قضية إثبات نسب وهفضحك ياحمزة، بس أصبر عليا.
تجمع البعض حول سيارة "صلاح" بعد أن نشبت تلك المشاجرة - القصيرة -، فـ صرخ "صلاح" في الجميع وهو يصرفهم عنه :
- كـفاية كـدا!.. أنا ممكن أبلغ فيكم كلكم دلوقتي.
أغلق "صلاح" الباب الخلفي واستقر بالأمام وهو يهتف بصياح :
- أطلع على المستشفى.
*************************************
دعس "سلامة" سيجارته في المنفضة، وقطب جبينه يفكر مليًا، بعد المطلب الغريب الذي طلبه منه "راغب". حمحم قبل أن يمد يده نحو كأس المياه، ثم سأله :
- إيه العلاقة، ما تفهمني عشان أفيدك.
حك "راغب" صدغهِ وهو يرمقهُ بنظراتٍ ذات مغزى، ثم صارحه :
- أنا هجيلك دوغري (بصراحة) ياسلامة.. أنت أكيد سامع عن اللي بيحصل لحمزة اليومين دول.
لم ينكر "سلامة" علمه بما شاع عن الأخير من أخبار على ما يبدو إنها صادقة :
- آه سمعت.
- البت دي قالت إن انت اللي هتجيب من الآخر، عشان كده عايز تسجيلات الكاميرا بتاعت الديسكو لليوم ده.
مط "سلامة" شفتيه گالعاجز، وصارحه بصعوبة القيام بشئ گهذا :
- أنت بتكلم في سنة فاتت ياراغب!.. أكيد مش هلاقي تسجيل زي ده.
أخرج "راغب" ظرف أبيض مغلق، وضعه أمامه على الطاولة وهو يغريه قائلًا :
- لو انت عايز تلاقيه هتلاقيه ياسلامة، وبعدين كل حاجه وليها تمن.
خطف "سلامة" نظرة من داخل الظرف، فـ برقت عيناه بلمعانٍ طامع :
- طب سيبني أشوفلك صرفة كده.
ربت "راغب" على كتفه، ثم غمز له موحيًا بكثير من الرزق الذي ينتظره :
- حمزة لما بيتبسط من حد بيبسطه ياسلامة، أنت عارف ده كويس.. الظرف ده عشان بس نفسك تتفتح.
فـ أشار "سلامة" على عيناه و :
- من عيوني، الباشا يؤمر بس.
**************************************
صرخ "حمزة" في وجهها، ودفع يدها عن وجهه بشكلٍ مُهين وهو يصيح فيها :
- أنتي غـــبيـة!!.. قولتلك وجعاني جدًا.
ابتعدت الطبيبة عنه نهائيًا، ونزعت قفازات يداها الطبية وهي تقول :
- حضرتك متعصب من ساعة ما جيت وأنا مش عارفه أتعامل معاك، الدكتور هييجي لحضرتك دلوقتي.
فأشاح بذراعهِ كي تنصرف من أمامه :
- ياريت!.
ضغط "صلاح" على كتفه حتى عاد يسترخي على سرير المشفى بقسم الطوارئ، ثم أردف بـ :
- أهدى ياحمزة مش كده!.. البنت بتطهر الجرح لسه.
لحظات وكان الطبيب بينهما وهو يسأل :
- خير ياحضرات.
كان وجه "حمزة" إجابة صريحة على سؤاله، تغضن جبين الطبيب مذهولًا، واقترب منه أكثر، ثم انحنى عليه وسأل :
- مين عضك كده؟.
فـ أثار بذلك انفعال "حمزة" الناشب بالفعل، ليهدر فيه هو أيضًا :
- هو تحقيق ولا إيه!!.. ما تشوف شغلك وانت ساكت.
اكفهر وجه الطبيب، وبدت تعابير الغضب جليّة على وجهه وهو يرد بأسلوبٍ حازم :
- سؤالي كان في صميم شغلي ياأستاذ، لازم توضحلي عشان لو اللي عضك حيوان لازم تاخد المصل المناسب!.
فـ تدخل "صلاح" كي تهدأ الأجواء المتوترة من حولهم :
- لأ مش حيوان، هي حيوانة، أقصد واحدة يعني.. ياريت تشوف مناخيره بسرعة عشان نمشي يادكتور.
انحنى الطبيب عليه، حينما أطبق "حمزة" جفنيهِ بقوةٍ وكأنه يعتصرهم، شاعرًا بمزيج من المشاعر السلبية والسيئة. ضغط الطبيب ضغطة خفيفة على أنفهِ، فـ كتم "حمزة" صرخة كادت تخرج من جوفهِ، بينما عقب الطبيب بإندهاشٍ شديد :
- واحدة إزاي!!.. دي أسنانها اخترقت الجلد ودخلت في اللحم!.
فحص الأنف فحصًا سريعًا ثم تابع :
- بس مفيش كسر الحمد لله، ولا تمزق في الأوعية.!.. مجرد جرح هيتطهر ونستخدم دهان للجروح ودهان مضاد للإلتهاب.
سكب الطبيب المحلول الملحي أولًا على قطعة من القطن النظيف، ثم هتف بـ :
- أولًا لازم تهدى، المكان ده من الوش حساس، عشان كده حاسس بالوجع.
وبدأ يقوم بمهامهِ من تنظيف وتطهير للجرح بشكلٍ دقيق، قبل أن يغلف الأنف بالدهان المناسب، ثم وضع طبقة رقيقة من الشاش الأبيض قبل اللاصق الطبي :
- هنضطر نفضل مستخدمين الشاش واللصق يومين لحد ما الجلد يلتئم عشان نمنع وصول الميكروبات والأتربة لمكان الإصابة، بعدها تقدر تستخدم الدهان بدون ما تغطي مناخيرك.
نهض، نزع قفازاته، ثم أردف بـ :
- هكتبلك الكريم اللي هتستخدمه، هما نوعين ، أما تنضيف الجرح ده مسؤوليتك.. ألف سلامة.
استقام "حمزة" من نومته، فـ أصابه دوّار مفاجئ حاول ألا يُبديهِ، أطبق جفونه محاولًا استعادة كامل وعيهِ، بينما كان أبيه يسأل :
- هتعمل إيه ياحمزة ؟؟.. أنا مش عايزك تتصرف من دماغك، خليني أساعدك.
وقف "حمزة" مستقيمًا، التفت لوالده :
- سيبلي الحوار ده، أنا هخطط للبت دي خطة هتجيبها هي واللي وراها الأرض.
ضحك "صلاح" مستهزئًا به، وهو يذكره بما حدث خلال يومين :
- آه ما هو واضح!.. هي اللي هتجيبك الأرض طول ماانت معاند وعايز تمشي لوحدك.
تحرك "صلاح" نحوه متابعًا :
- أعترف ليا أنا أبوك، خلاص مبقاش ينفع تنكر.. الواد طلع إبنك فعلًا، اللي مستغربه إزاي تتخدع بالشكل ده!.
تأفف "حمزة" غير قادر على تحمل المزيد، بجانب ضغط الألم على أعصابه :
- بابا أنا مش متحمل، روح خلص الحساب عشان أمشي من المخروبة دي.. بعدين نتكلم.
رمقه "صلاح" بنظرةٍ مستنكرة ، قبل أن يسير في طريقه للخروج، من أجل إنهاء الحساب. تعقبته نظرات "حمزة" حتى خرج نهائيًا، ثم جلس على طرف الفراش وهو يغمغم بـ هسيسٍ خافت :
- مش هي بتقول إنها مراتي واللي معاها ده إبني!!.. يبقى تستحمل بقى اللي هتشوفه مني.
انفعالهِ حرك عضلات أنفهِ بالخطأ، فـ تآوه متألمًا وهو يتحسسها برفقٍ شديد، ثم همس مغتاظًا :
- حتى دي هتدفعي تمنها غالي أوي.
***************************************
انصرف النادل بعدما وضع الطلب الخاص بهم على الطاولة، فـ سدد "عناني" نظراتهِ المستهجنة إليها وهو يهتف بعتابٍ :
- مش مصدق!!.. كل ده وانتي مخبية عني ياسُلاف!.. تطلعي واحدة من ضحايا الحيوان ده ومتقوليليش؟؟.. ليه يابنتي.. ماانا كنت جيبتلك حقك بالقانون وانتي عارفة مين هو عناني الحكيم.
تناولت "سُلاف" كأس الماء بالليمون خاصتها، ارتشفت قدرًا قليلًا منه، ثم تركته بأيادي مرتعشة، وقد برعت في تجسيد دور المضطهدة المظلومة والمغلوبة على أمرها أمامه. طأطأت رأسها تخبئ نظراتها منه، ثم هتفت بخفوت لائم حالتها الكاذبة التي زيفتها :
- اتحرجت من حضرتك جدًا، كنت هقولك إيه!!.. إبن القرشي ضحك عليا وعشمني بالجواز وبعدها رماني!.
نفخ "عناني" بإنزعاج شديد مما عرفه منها، وحاول قدر ما يمكنه أن يكون يبدو رزينًا هادئًا، رغم الكراهيه التي ملأت أحشائهِ وجوفه :
- منحط، مش مصدق إن في واحد ينتمي لمهنتنا بالإنحطاط ده!.
ثم نظر إليها وقد فهم ما اللغز الذي اختبأ ورائها :
- عشان كده كنتي غامضة، فيكي حاجه مش طبيعية دايمًا! هروبك من مواجهة صلاح وإبنه في أي قضية كان حاجه مشكوك فيها بالنسبالي!.
فركت "سُلاف" كفيها بتوترٍ، ثم رفعت بصرها نحوه تستجديه :
- كل اللي عايزاه من حضرتك حاجه واحدة بس، ساعدني، استلم القضية بنفسك وأنا مستعدة أكمل شغل في المكتب حتى لو من غير مقابل.
انفعل "عناني"، وكأنها تعمدت الضغط على عرقهِ الإنساني وضميره اليقظ :
- إيه الكلام ده ياسُلاف!!.. ده انتي واحدة من فريقي وأنا لا يمكن أسمح لحد إنه يظلمك وياخد حقك، قضية إثبات النسب دي بتاعتي وأنا موكل بيها، وحقك هييجي أنتي وإبنك تالت ومتلت ، متقلقيش أبدًا.
كأن إشراقة ظهرت في وجهها، وهي تمتن له على صنيعهِ الطيب معها :
- شكرًا بجد ياأستاذ عناني، مش هنسى معروفك أبدًا.
أمسكت بحقيبتها وهي تتابع :
- هروح أغسل وشي وأرجع حالًا ، عشان نتكلم في تفاصيل القضية.
أومأ رأسه متفهمًا، بينما أولتهُ هي ظهرها، فـ برزت ابتسامة النصر على محياها، وشعّ من عيناها بريقًا متحفزًا، إحتفالًا بتجاوز أول خطوة نحو الدخول لـ عُقرهم. إثبات نسب طفلها أولًا، ثم تأتي البقية
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل العاشـر :-
"بعضهم يعيش گالجمر على الموقد، لا الموقد ينطفئ، ولا الجمر يخمد اشتعالهِ."
____________________________________
صوت بكاؤهِ استرعى انتباه "مصطفى"، وكان قادرًا على اجتذاب اهتمامهِ لكي يذهب بنفسه ويتفقدّهُ. حرك "مصطفى" مقعدهِ المتحرك نحو غرفة "سُلاف"، فـ سمع صوت المُربية تحاول تهدئة الصغير، بينما هو لا يسكن نهائيًا. دخل "مصطفى" وهو يدفع الباب بمقعدهِ :
- في إيه ياأم علي؟؟.. زين بيعيط ليه؟.
بدت الحيرة على ملامحها، بعدما عجزت عن إيجاد حل لتهدئة الرضيع :
- مش عارفه يابيه، زي ماانت شايف على صرخة واحدة.
فتح ذراعهِ لها كي تناوله إياه قائلًا :
- أنا عارف، أمه غايبة عنه طول النهار، عشان كده مش طايق حد غيرها.
وضعته بين أحضانهِ، حيث كان يحرك قدميهِ الصغيرتين بعشوائية وهو يبكي، بينما هدهدهُ "مصطفى" برفقٍ ليّن وهو يبتسم في وجهه قائلًا :
- ماما قربت تيجي خلاص.
نظر بإتجاه "أم علي" و :
- هاتي أي حاجه فيها ريحة سُلاف ياأم علي، يمكن لو شم ريحتها يهدا.
بحثت "أم علي" من حولها، ثم نظرت على المشجب لترى وشاح أحمر، فـ تناولتهُ وعادت إليهم، وضعته على صدر الصغير فأمسكت يداه الصغيرة جدًا بطرفهِ، وصوت بكاءهِ قد بدأ يخمد رويدًا رويدًا، فـ برز احمرار عيناه وتوّرد أنفهِ الصغير أثر بكاءهِ الشديد. مسح "مصطفى" على رأسهِ قبل أن يضمهُ إليه قليلًا، فـ تذكر شقيقهِ على الفور، شقيقهِ الذي راح ضحية الغدر والخيانة. أطبق "مصطفى" جفنيه بحزن، وزفر تنهيدة محترقة من جوفه وهو يقول :
- روحي انتي ياأم علي.
- حاضر يابيه.
انتقلت "أم علي" للخارج، حينها اختلى "مصطفى" بالرضيع الذي أيقظ - دون عمدٍ - ذكريات مرّ عليها زمن طويل، فقد كان هو الأخ الأكبر الذي راعى شقيقهِ وهو رضيع، هو الذي عهد لتربية أخيه "إسماعيل" بعد وفاة أبيهم، فـ أصبح هو الأب والأخ وهو لم يتجاوز الثالثة عشر من عمرهِ، ثم ماتت أمهم وهو في سن السابعة عشر، فـ لم يكن عليه سوى الإعتناء بالصغير الذي فقد أبويهِ باكرًا، ليبقى يتيمًا منذ الرابعة من عمرهِ، لم يدّخر "مصطفى" وسعهِ، أمّن للصغير مأكله ومشربه وتعليمهِ حتى أصبح رجلًا، وبقى كلاهما في الحياة گوجهين لعُملة واحدة، قلبين لروح واحدة، وكأن "إسماعيل" كان ولدهِ وليس شقيقهِ الأصغر.
مسح "مصطفى" عيناه التي أذرفت الكثير من الدموع، ثم دقق في ملامح الرضيع التي أشبهت "سُلاف" في طفولتها، لم يُشبه والدهِ قطّ، كأن هذا هو العوض الذي استحقتهُ، بعد عذابٍ وحرمان طويل، رغم جهود "مصطفى" المكثفة لتعويض إبنة أخيه، إلا إنها كانت ناقصة دائمًا، وكأن الحنين هو مصير تعيشهُ وليس حالة شعورية مؤقتة. مسح بلسانهِ على شفتهِ الجافة، ثم حمحم قبل أن يقول :
- مكنش ليكم ذنب في الحدوتة كلها، لكن نصيبكم كده.. نصيبكم تاخدو بحق اللي راحوا هدر، وإلا هموت وأنا مش قادر أبص في وش الغالي ومراته!.
كان "زين" ينظر إليه وكأنه يفهمه، بصمتٍ وهدوء، حتى انفتح الباب عليهم، فـ التفت "مصطفى" برأسه ليرى "سُلاف" قد حضرت، وأسرعت بخطاها نحوهم :
- أم علي بتقولي طول اليوم بيعيط.
تناولتهُ "سُلاف" من بين ذراعيهِ وضمتهُ لصدرها، فـ تدفئت رئتيها برائحته، وتبسمّ محياها وهي تهمس بـ :
- أنا آسفة حقك عليا ياروحي.
ثم نظرت لعمها، كي ترى تلك الحالة الغريبة التي عليها وجهه، فـ تغضن جبينها وهي تسأله بإهتمام :
- مالك ياعمي، حصل حاجه؟.
لم تتاح له الفرصة للرد، حيث رنّ هاتفه برنين تقليدي، فـ أخرجه من جيبه ليرد عليه :
- ألو.. إيه اللي حصل.
برزت إبتسامة متحمسة على محياه، وانتقلت عيناه للنظر إليها، حيث كانت مترقبة لمعرفة ما حدث، فـ وضح "مصطفى" ذلك بقوله :
- ده اللي كنا مستنينه، أديهم اللي هما عايزينه زي ما اتفقنا، ونصيبك جاهز.
أغلق "مصطفى" المكالمة، فـ فطنت "سُلاف" بهوية المتصل وسبب إتصاله :
- ده سلامة ؟.
أومأ "مصطفى" برأسه :
- هو، زي مااحنا عايزين بالظبط ، راحوا ورا تسجيل الكاميرات لليوم ده.
جلجلت ضحكة "سُلاف"، وتجولت من حوله وهي تُحدث صغيرها :
- بابا بيدور علينا يازين، خلاص هانت.. بكرة يعترف بيك وبيا غصب عن عين أهله.
أشرق وجه "مصطفى" بعد انطفاءهِ :
- كده مش فاضل غير القضية، بعدها هنلاعب صلاح وإبنه اللعبة الكبيرة.
- أطمن، عناني خلاص مسك القضية، الصبح هعمله التوكيل ونبدأ الإجراءات.
*************************************
أفرغ بعضًا من الدهان على قطنة نظيفة، ثم مسح بها على أنفهِ، وهو في حالة بلغت أقصى مراحل الغضب. قذف أنبوب الدهان على المنضدة، ثم سبّ سبّةٍ خافتة :
- الـ ×××××.. مش هرحمك بس أطولك بأيديا.
انفتح الباب بغتةً، ودلفت منه "أسما" ومن خلفها الخادم، ثم أمرته بـ ترك الصندوق الذي يحمله :
- سيبه هنا ياعطا.
قطب "حمزة" جبينهِ بإستفهام، فـ أجابت "أسما" على سؤاله دون أن يسأله :
- الصندوق ده بعتته ميان.
نفخ "حمزة" وهو يحك عنقهِ بإنفعال، وأبعد نظراتهِ عن والدتهِ التي تتطلع إليه بإستهجان :
- وبعدين بقى!!.. مش عارف أتكلم معاها كلمة واحدة، حظرتني من كل حته والحرس منعني من الدخول لما روحتلها.
تلوت شفتي "أسما" بدون شفقة عليه، وهي تحمله نتيجة ما حدث كاملة :
- والله دي أقل حاجه تعملها معاك.. لو أنا مكانها مكنتش بعتلك حاجتك وبس، أنا كنت رميتهم في وشك.
- ماما أرجـوكـ.....
فـ صاحت به لتعبّر عن رفضها الشديد لفعلتهِ الشنيعة في حقّ العائلة :
- أخرس خالص!.. لوثت أسمنا وفضحتنا في كل حتة، آدي أخر صياعتك، ولسه المصايب اللي هتقع على دماغنا من وراك.
وقف "راغب" أمام الباب، متحرجًا من الدخول وقد وصل حديثهم لمسامعه، فـ حمحم للفت إنتباههم و :
- آ أحم.. مساء الخير.
نظرت إليه "أسما" بطرفها، ثم عقبت :
- أهو شريكك جه، شوفوا بقى حل لمصيبتكم.
مرّت من جوارهِ وكأنها رياح أمشير العاتية، وصفقت الباب بقوةٍ ومازال صوت غمغماتها الساخطة مسموعًا لهم. ذمّ "راغب" على شفتيه بإستغراب، ثم هتف بـ :
- مش عارف أنا ذنبي إيه؟.. من ساعة اللي حصل أمك بتحملني المسؤولية وبتعاملني زي الزفت.
اكفهر وجهه وهو يُذكرّه :
- ناسي إنك كنت معايا في الصورة الزفت دي!.
تنهد "راغب" وأطرق رأسهِ بتحيرٍ، ثم أخرج هاتفهِ من جيب سترته وهو يردد :
- بمناسبة الصورة.. كل اللي البت دي قالته صح.
تغضن جبين "حمزة"، كأنه يرفض تصديق شئ گهذا، تحفزت حواسه ودنى منه بأعصابٍ على حافة الإنهيار :
- إزاي!!.. عرفت حاجه من سلامة؟.
فتح "راغب" التسجيل على هاتفه، وناوله الهاتف وهو يقول :
- يوم ١٤ إحنا كنا هناك فعلًا، كانت قاعدة معانا البت نوسه ساعتها وهي اللي عرفتنا عليها.. قعدنا وخدنا سهرتنا ومشينا وهي معانا.. اللي بعد كده أكيد أنت فهمته.
شاهد "حمزة" المقطع بتركيزٍ وتدقيق، حتى إنه أعاد مشاهدتهِ مرتين متتاليتين، وعند دقيقة معينة توقف وأعادهُ للمرة الثالثة، فسأله "راغب" مستفهمًا :
- في حاجه لفتت انتباهك!.
مسح "حمزة" على شفتهِ السُفلى بلسانهِ، صمت هنيهه، ثم أردف بـ :
- أنت مش ملاحظ إننا كنا سكرانين أوڤر؟.
أومأ "راغب" رأسه مؤيدًا :
- ملاحظ، وده للسبب اللي مخلينا مش فاكرين أي حاجه من اليوم ده.
أبعد "حمزة" الهاتف عن مرمى بصرهِ و :
- بس من أمتى وأنا بوصل للحالة دي!.. أنا آخري كاس واحد بس ده إن شربته!.
زفر "راغب" وابتعد عنه، جلس على طرف الأريكة وأسند ذراعيهِ على ساقيه :
- الموضوع عمال يتعقد، وإحنا حتى مش طايلين بنت الأبالسة دي عشان نعرف منها حاجه.. هنعمل إيه؟.
كزّ "حمزة" على أسنانه، مغتاظًا غيظًا حاميًا :
- لازم أوصلها بعيد عن شوية التيران اللي بتتحامى فيهم مني.. طول ما هي بتلعب من بعيد أنا متكتف.
ثم صاح فجأة وقد انفجر غيظه المكتوم أخيرًا :
- وأنا مينفعش أخـسر ياراغـب!.. مينفعش أكــون عـاجـز كـده.
أشار له "راغب" ليهدأ قليلًا، ونهض كي يوازيه في وقفته وهو يقول :
- طب أهدا طيب.. أنا مش ساكت وبدور عليها في كل حته.
ابتعد "حمزة" وتجول بعشوائية في الغرفة، بينما كان همّ "راغب" هو انتشاله من هذه الحالة :
- ألبس وتعالى نروح أي حته، شكلك ده مش عاجبني.
تعقد حاجبيهِ مستنكرًا، ورمقهُ بنظراتٍ محتقنة وهو يردف بإنفعال :
- هو أنت مبتشوفش ولا إيه ياراغـب!!.. مش شايف وشي عامل إزاي بسبب الـ ××××× دي!.
ذمّ "راغب" شفتيه بدون أن يُعقبّ، فـ تابع "حمزة" :
- أنا مش هنزل اليومين دول خالص لحد ما وشي يتعدل، دي آ.....
وكظم غيظهِ بصعوبة وهو يتمتم بخفوت :
- شوهت وشي بنت الـ ×××ـة!.. بس كله مردود وحياة أبوها.
التفتت رأسهِ لينظر بطرفهِ على إنعكاسهِ بالمرآة، فـ اهتاج مجددًا وقرر أن يبقى وحيدًا لبعض الوقت :
- روح انت وسيبني دلوقتي، أنا محتاج أفكر بهدوء.. وابعتلي المقطع ده عشان لو احتاجته.
تفهم "راغب" رغبتهِ، فـ سحب نفسهِ لكي لا يضغط عليه أكثر من ذلك :
- ماشي، اللي تشوفه ياعم.
وغادر غرفتهِ وهو يتمتم بـ :
- كان مستخبي فين كل ده!.
**************************************
نظر من حوله، كان المكان خاويًا تمامًا، بالكاد تُضيئهُ إضاءة السيارة. أحس بشئ من التوتر ينتابه، ليست المرة الأولى التي يراها فيها، لكنها تختلف الآن، بعد كشف نفسها أمام "حمزة" ، فـ أصبح عليهم الإلتزام بالحرص وعدم السماح بترك أي ثغرات قد توّقع بأحدهم. نظر في ساعتهِ، قبل أن يحرر زفيرًا من صدرهِ، حتى رأى سيارتها تقترب منه، فـ انتصب في وقفته، واستعد للقائهم. ترجلت عن السيارة، وسارت صوبه حتى أصبحت قبالته :
- مكنش لازم نتقابل، قولتلك نخلي بالنا الفترة دي لحد ما الدنيا تظبط.
فرك "نضال" كفيه سويًا، ولم يُطيق صبرًا حتى ينقل لها هذا الخبر الذي قد يُشتت خططهم تمامًا :
- مكنش ينفع أصبر لبكره، حمزة نيته مش خير ياسُلاف.
تلوت شفتيها بسخريةٍ مستخفة :
- وإيه الجديد، أمتى أصلًا كان نيته خير!؟.
كان باديًا عليه القلق، وهو يفسر لها مقصدهِ :
- أنتي مش فاهمة حاجه، حمزة مش هيقف قدامك في المحاكم، حمزة هيعترف بيكي وبإبنه.
بُهت وجهها في البداية، وانعقد حاجبيها بذهولٍ مما فكر به بشأنها :
- وبعدين؟.
انفعل "نضال" رغمًا عنه، وهو يفسر لها النية التي تختبئ خلف هذا الفخ اللئيم :
- وبعدين هيستفرد بيكي وبالولد.. مش هيرحمكم، أنا أكتر حد يعرف حمزة في الشر عامل إزاي!.
رغم خفقان قلبها، وتلك الرعشة التي سرت في أطرافها، إلا إنها أظهرت جمودًا غير مباليًا بالتوابع الخطيرة :
- مش هيقدر يعمل حاجه.
أمسك "نضال" برسغها، هزّهُ دون قصدٍ وقد سيطرت عليه مشاعرهِ الحية حيالها :
- أنا مستحيل أسيبك أنتي وإبنك تقعي في الفخ ده!.. أنا سيبتك مرة.. مش هسيبك التانية ياسُلاف، أنتي فاهمة!.
انتشلت "سُلاف" رسغها منه بلطفٍ، ثم ذكرتهُ بهدفهم الذي سعوا إليه سنواتٍ مديدة :
- أسمع يانضال، أنا فنيت سنين عشان أوصل لهنا، مش هرجع خطوة واحدة لورا مهما كانت النتيجة.. خلاص السهم نفد، ياإما هقضي على إبن القرشي، ياإما هو هيقضي عليا.. ملهاش حل تاني، حتى لو كلفني الأمر أعيش جوا بيتهم....
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق