رواية أغـصان الـزيتـون الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم ياسمين عادل حصريه وجديده
![]() |
الفصل الأول
"نقطة النهاية لا تُنهي الأشياء، قد تكون بداية أعتّىٰ من سابقتها، أو إنها بالفعل بداية غير قابلة للشك."
____________________________________
كانت الأجواء حارّة للغاية، رغم كونهِ منتصف أيار، إلا أن آشعة الشمس التعامدية تسلطت على الأرض، مُحدثة بذلك توهج في درجات الحرارة التي تقافزت لما بعد السبعة وثلاثون درجة مئوية. كانت تجلس في المقعد المجاور لمقعد القيادة بداخل السيارة الفارهه، لم تبالي بالحرارة الخارجية وهي تنعم بمكيف الهواء بالسيارة، أثناء تطلعها لفساتين الزفاف من أرقى بيوت الأزياء بالعاصمة، حتى تبهر الجميع في الحفل المُرتقب. التفتت إليه لتلقي عليه نظرة خاطفة وهي تسأله :
- حمزة، إيه رأيك في الفستان الشامبين ده!.
تحركت عيناه بالإتجاة الذي تشير صوبه، وخطف نظرة غير مهتمة من أسفل نظارتهِ قبل أن يجيب :
- حلو.
قطبت جبينها بإنزعاج، وسألتهُ بشئ من الضيق :
- أنت مش مهتم ليه ياحمزة!.. ده المفروض فرحنا كمان ٣ أسابيع!.
ابتسم بمجاملةٍ وهو يلتفت بكامل رأسه نحوها، ثم مسح على وجنتها ملاطفًا إياها، بعد أن أظهر لها إهمال غير متعمد :
- سوري ياحببتي ، دماغي فيها ١٠٠ حاجه مع بعض.. وبعدين أن واثق في زؤك.. يعني أختاري اللي يعجبك وأنا معاكي.
أغلقت هاتفها الذي كانت تتفحص الفساتين من خلاله، ثم أردفت بـ :
- بابي كان عايز يتكلم معاك، هتيجي النهاردة بالليل؟.
طرق "حمزة" بأصابعه على المقود، ونظر حوله بقنوط، وقد أزعجتهُ إشارة المرور التي ظلت على وضعيتها المزدحمة لأكثر من عشر دقائق، فـ تجاهل سؤالها وهو يعقب بشأن هذا الأمر :
- بقت حاجه زفت يعني، كل ده أشارة مرور ليه!.
نفخ متذمرًا، ثم التفتت رأسه ليجيب عليها :
- أنا مشغول جدًا بالقضية اللي ماسكها اليومين دول ياميان، أفوق بس وهاجي للباشا.
تعمقت "ميان" في النظر إليه، بعيناها الزرقاء التي أشبهت أمواج عروس البحر المتوسط، ثم سألته بشغفٍ لسماع الجواب الذي سيرضي غرورها :
- مبسوط ياحمزة؟.
ارتخت تعابير وجهه في لحظة واحدة، كأنه إنسان آخر تمامًا، ونظر إليها وهو يردف بـ :
- طبعًا ياحببتي، أنا مستني الوقت اللي هتكوني فيه معايا للأبد، اليوم اللي هتبقى فيه على أسم حمزة القرشي.
تبسمت بدلالٍ وهي تحيد برأسها عنه، فـ مسحت يده على شعرها و :
- ومش هيكون في كسوف بينا زي دلوقتي كده.
ضحكت "ميان" وهي تنظر نحوه، وقبل أن ترد كانت تعابيرها يغزوها الوجوم، وعيناها ترتكز على تلك المرأة التي تقف بجوار السيارة، وتضع كفها المتلطخ على زجاج السيارة لتفسد لمعانهِ، فـ التفت "حمزة" برأسه ينظر، إلام تحدق هي بعيناها وكل هذا الذهول يعتريها، حتى صدمهُ رؤية تلك الغريبة، فـ فتح زجاج السيارة على الفور، ونظراتهِ المستهجنة تتردد على وجهها وهو يصيح فيها :
- أنتي عبيطة ولا بتستعبطي!!.
فـ سألتهُ بتبجحٍ، وعيناها ترنو إليه بنظراتٍ غريبة، حملت مغزى مُبهم :
- أديني أي حاجه يابيه.
رمقها شزرًا، وأشار لها بإحتقارٍ ليقول :
- غوري من قدامي أنتي عكرتي مزاجي، وإياكِ إيدك تلمس الأزاز مرة تانية.
صافرة إنفتاح الإشارة كانت بمثابة طوق النجاة لهم، فـ أغلق "حمزة" زجاج السيارة وشرع يقتاد سيارتهِ بعجلٍ بعدما فسد مزاجهِ كليًا، وعيناه تنظر إليها عبر المرآة الجانبية، حيث ظلت في محلها دون حراك، وبشكلٍ متصلب جعله يرتاب بشأنها، لكنه تجاهل التفكير بالأمر، بعدما تجاوز الأمر -حسب ظنهِ-، دون أن يعلم إنها كانت مجرد بداية، بداية لحكائة ستبدأ برؤيتها صدفة، صُدفة مرتبة ومخطط لها من قبل.
*****************************
فتح "صلاح القُرشي" عُلبة السجائر الفضية الفاخرة، ووضعها أمام ذلك الرجل المهيب، الذي حمل بين طيات ملامحهِ وقارًا وهيبة، وابتسم بتوددٍ وهو يقول :
- أتفضل يامعالي الباشا، مجيتك لحد هنا النهاردة شرف ليا وللمكتب كله.
سحب "كامل حداد" سيجارة من بين المعروض، فـ أشعلها له "صلاح" بقداحتهِ، ثم أردف "كامل" وتلك النبرة الخشنة ترافق صوته :
- أنا عايز المسألة دي تخلص بأسرع وقت ياصلاح، البت المفعوصة دي مش لازم تاخد حاجه من ابني.. هو اتجوزها عرفي يومين وخلصنا وأخد اللي هو عاوزه وخلصنا.
تنحنح "صلاح" وهو يجلس على رأس مكتبه، ومنع ابتسامتهِ المستخفة من الظهور أمام "كامل"، لئلا يتبين عليه تعابير الشماتة :
- المشكلة مش في الورقة العرفي ياباشا، دي البت تبلها وتشرب عليها ميا.. المشكلة إن البيه الصغير أتعدى عليها بالضرب وهي راحت حررت محضر ضده.
تغضن جبين "كامل" قبل أن يترك نزعة غضبهِ تنفجر منه، فـ تدارك "صلاح" الأمر على الفور وعرض عليه خطتهِ دون إطالة :
- بس بسيطة، أنا هعرف ألين دماغ البت وأخليها تتنازل، ومش هتسمع غير الخبر اللي يعجب معاليك.
تناول "صلاح" هاتفه وبدأ يجري إتصالًا وهو يقول :
- حمزة هيخلص الموضوع في ٢٤ ساعة، ولا تشغل بالك.
—على جانب آخر—
لم يتوقف هاتفهِ عن إرسال إشعارات المكالمات الفائتة، بينما هو على غير دراية أو شعور به، اندمج كليًا في السباحة بداخل مسبحهِ الداخلي الكبير، المكان بالكامل مغطى بالزجاج، بجانب مساحة عريضة خُصصت للمشروبات، تضم مبرد صغير لحفظ الأطعمة والشراب، وأرجوحة كبيرة على بُعد مترين من المسبح، ومقاعد ممتدة مريحة للإسترخاء.
صعد "حمزة" برأسه من أسفل المياه، مسح على شعره بعدما نفضهُ، وسبح نحو أحد الحواف، ليستمع إلى صوت مدير أعمالهِ المقرب وهو يبلغهُ بـ :
- تليفونك بيرن بقاله شوية ياحمزة، صلاح باشا مبطلش إتصال.
صعد "حمزة" عبر الدرج المعدني، تناول منشفة عريضة مسح بها على جسده، وأمرهُ بالرد نيابة عنه :
- رد عليه يانضال، قوله في اجتماع.
بالفعل نفذ "نضال" الأمر، وأجاب على الفور :
- أيوة ياباشا، أستاذ حمزة عنده اجتماع دلوقتي.. دقايق ويكلمك.
كان صوت صياح والدهِ مسموعًا إليه، لكنه لم يهتم حتى، جلس على المقعد وتناول مشروبهِ البارد دون اكتراث، حينما كان "نضال" يحاول جاهدًا أن يُهدئه قليلًا :
- متقلقش ياباشا، هيكلمك على طول.. حاضر.. سلام.
والتفت ينظر إلى "حمزة" ليجده على هذه الحالة الهادئة - والمثيرة للإستفزاز - :
- كل مرة بسمع أنا الكلام اللي ملهوش لازمه!.
ترك "حمزة" كأس المشروب خاصته، وهتف بـ :
- المفروض تكون أتعودت على أبويا خلاص يانضال، متكبرش الموضوع.. هو عايزني عشان موضوع إبن الحداد، وأنا قولتله هتصرف ، ملهاش لازمه الزن.. أنا خلقي ضيق اليومين دول.
فـ استهجن "نضال" تعبيره، واستبدله بمعنى آخر أكثر ملائمة :
- تقصد على طول خلقك ضيق.. ما علينا.
نهض "نضال" عن جلسته، وسحب حقيبة اليد خاصته ليقول :
- أنا ماشي، هعدي المكتب وأروح بعدها.
رمقه "حمزة" بنظراتٍ عابثة، وسأله :
- إيه؟!.. هتقابل البت بتاعتك النهاردة!.
لاحت ابتسامة متفائلة على وجه "نضال"، غطت بدورها على تعابير العبوس والضيق، ليجيب بتحمسٍ :
- آه.
وقف "حمزة" عن جلسته، وسحب (تيشرت) أسود كي يرتديه وهو يقول :
- مش هتعرفني عليها بقى !!
فـ انزعج "نضال" على الفور، وتشددت نبرته وهو يجيب بحزمٍ قاطع :
- لأ طبعًا هو أنا عبيط!! ثم إنها مش شبه البنات اللي تعرفهم ولا فيها منهم.. دي حاجه تانية خالص.
ضحك "حمزة" مستخفًا :
- خلاص ياعم متخافش أوي كده، أنا عمري ما أخون صاحبي.
ثم صاحبت الجدية تعابيره وصوته، وهو يتطرق للحديث عن العمل :
- روح على المكتب، هتلاقي رضوى محضرالك ملفات القواضي اللي ليها جلسات الأسبوع ده، أنا عايز أقفل كل القضايا المفتوحة قبل ما آخد أجازة شهر العسل.
تحرك "نضال" من مكانه مستعدًا للمغادرة، وهو يردف بـ :
- ماشي، أشوفك بالليل.
**********************************
ذلك الزرّ المميز جدًا، والذي لا يتخلى عنه في أغلب قمصانهِ التي يرتديها. "حمزة".. زرّ منقوش بالعربية البارعة الجذابة، وبشكلٍ مميز يجتذب الأنظار. وضعه "حمزة" كنهاية لطيفة بعدما أنهى ارتداء ملابسه للخروج هذا المساء، ثم نظر لساعة الحائط قبل أن يغمغم بـ :
- عالله أفلت من بابا الليلة دي!.
لم يلبث أن يُنهي عبراتهِ المتمنية، حتى وجد أبيه يقتحم الغرفة فجأة، وملامحه لا تخلو من تعابير الحنق البالغ، وهو يردف مستنكرًا :
- هو انا هتحايل عليك ولا إيه ياحمزة!!. من ساعة ما مسكت مكتب منفصل وبقى ليك شغلك بعيد عني وأنا مش عارف أتلم عليك.
ذمّ "حمزة" على شفتيه قبل أن يسأل :
- هي ماما فين؟؟.. شكلها مش هنا النهاردة!.
تغضن جبين "صلاح" بإنزعاج مفرط، فـ ابتسم "حمزة" وهو يدنو منه ليقول :
- أنا هحل المسألة من جذورها زي ماانت عارف ياابو صلاح، متقلقش.. بس سيبني ألاقي الوقت المناسب.
نفخ "صلاح" وقد بدأ الغضب يتمكن منه، وأفضى عما يجول في ذهنه :
- كامل وجعلي دماغي، وأنا مش ناقص دوشة اليومين دول.. أنا ماسك قضية كبيرة ويهمني أخرج المتهم منها بأقل الخساير.
تلوت شفتي "حمزة" وقد تعرف على القضية فورًا :
- قصدك قضية إبن جاد؟.
فـ انفجر "صلاح" صارخًا فجأة :
- هـو بعينه!!.. جاد نائب برلمان وراجل تقيل وعمره ما أتأخر عننا في حاجه.
مطّ "حمزة" شفتيه معبرًا عن عدم إعجابه بالأمر، ثم أردف بتذمرٍ :
- بس ده شروع في قتل، واتمسك متلبس!.
فرك "صلاح" كفيه سويًا، ورمقه بنظرةٍ حملت كثير من المعاني :
- هنلاقي حل، بس انت فكر مع أبوك.
أومأ "حمزة" برأسه قبل أن يتحرك :
- من عيوني ياأبو صلاح، بس سيبني أحرر دماغي من عفاريتها الأول عشان مزاجي مش ولا بد دلوقتي.. سلام.
وخرج من الغرفة كي يلحق بسهرتهِ الخاصة، بدون أن يُزعج لأي سبب.
وصل لمكانه المفضل، ذلك المقهى الراقي الذي أشبه حانات الليل - في تقاليدهِ الفاجرة -، شمل ببصرهِ الثاقب الطاولات ليجد رفيقهِ، حتى وقعت عيناه عليه يجلس مع صديقته التي لا يحبها "حمزة" أبدًا ، فـ سار نحوه مغمغمًا :
- وبعدين في البت التنحة دي!.
سحب المقعد وجلس أعلاه، وقد وزع نظراتهِ المنزعجة على كلاهما :
- أزيك ياراغب.. أفتكرتك لوحدك!.
ترك "راغب" مشروبهِ البارد ليقول :
- إيه أخرك ياحمزة؟.. ده انا كنت ماشي.
فـ سلط "حمزة" عيناه على "سحر" وهو يتعمد التحقير في نظراته :
- وانا كمان على بالي أمشي الحقيقة.
تأففت "سحر" بإنزعاج، ونهضت متلكئة وهي تردف بـ :
- صاحبك كل مرة يديني وش مش اللي هو!.. أنا ماشية يابوبي.
مدد "حمزة" ظهره للخلف وقد ارتاح قليلًا من تواجدها الغير مرغوب فيه :
- ياريت.
قطب "راغب" جبينه بعد انصرافها، وسدد نظرات مستنكرة لرفيقه قائلًا :
- مش فاهم مش عجباك في إيه؟.. ما هي شبه كل اللي انت اتجوزتهم!.
تشتت أنظار "حمزة" وهو ينظر من حوله، ثم عنف "راغب" على تصريحه هذا في مكانٍ مكشوف هكذا :
- إيه ياعم ما تحكي للناس بالمرة!!.. خلص وشوفلنا حاجه نشربها، أنا مزاجي زفت.
لم تسمح له حالته بأن يرى جيدًا، أو يدرك إنه محطّ أنظار من إحداهن. كانت تجلس على مسافة مقبولة، تسمح لها رؤيته بوضوح، راقبته عبر المرآة الصغيرة التي تنظر إليها وكأنها تضبط طلاء شفاهها، وتفكيرها الخبيث يتجول بداخل رأسها لتجد الطريقة التي تذهب إليه بها. أغلقت المرآة وتركتها بالحقيبة، ثم نظرت للنادل وأشارت إليه كي يقترب، ثم أمرتهُ بـ :
- عايزة واحد ميا باردة بشرايح الليمون، بس مش هتقدمه هنا.
التفتت رأسها نحو طاولته، ثم هتفت قائلة :
- هتقدمه لـ حمزة، حمزة القرشي.
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الثاني :-
"وكُل ذي حقٍ سـ يؤتى حقهِ.. ولو بعد حين"
____________________________________
ظل صوت صنبور المياة مستمرًا لفترة من الزمن، حتى استيقظت على صوتهِ المزعج، فـ تأففت وهي ترفع رأسها من أسفل الغطاء، ونظرت نحو دورة المياة بنظراتٍ محتقنة لتهمس بـ :
- إيه كل ده!!.. ده انا معرفتش أنام ساعتين على بعضهم!.
توقف صوت المياة فجأة، فـ تنهدت وهي تترك ثقل رأسها من جديد على الوسادة، وأطبقت جفونها وهي تتآوه بتألمٍ بالكاد شعرت به في أنحاء من عظامها :
- آه!.. منه لله هدّ حيلي.
دقيقة واحدة، وكان "حمزة" يخرج من دورة المياة مرتديًا ثيابهِ النظيفة. مسح الماء عن شعرهِ الفوضوي، ثم وقف أمام المشجب ليضع المنشفة، قبل أن يدنو من المرآة العريضة. فتح مجفف الشعر وبدأ يُخلص رأسه من برودة المياة المنعشة، فـ سرق ما بقى من عيناها من بقايا النعاس. همّت تعتدل من نومتها، واستندت على ركبتيها وهي تردف بـ :
- مش كنت تستني لما أصحى ياكوكي عشان تعمل كل الدوشة دي!!.. ده انا منمتش طول الليل بسببك!.
لم ينتبه لها، ولم يُعيرها أدنى اهتمام، فـ تلوت شفتيها بإنزعاج وغمغمت بـ :
- هو أطرش ولا إيه؟.
أغلق "حمزة" مجفف الشعر وتركه جانبًا، ثم بدأ يمشط شعره بشكلٍ متميز. ترك الفرشاة، أغلق زرّ القميص، تأكد من حزام الخصر، ثم مسح على بشرة وجههِ الحليقة حديثًا، والتفت ليقول دون النظر إليها :
- يلا عشان تنزلي معايا يابسبوسة.
قطبت جبينها بإستفهام، وتسائلت مرتابة :
- هو انا مش هقعد استناك هنا ولا إيه؟.
رفع بصره نحوها أخيرًا، بعد وقت طويل من التجاهل المتعمد، ثم ابتسم وهو يرد بثباتٍ غير متشكك :
- أكيد لأ.
ثقتهِ في الإجابة دفعتها لأن تسأل دون تروٍ أو تفكير :
- ليه؟؟ مش أنا بقيت مراتك و المفروض استناك هنا لحد ما ترجع؟.
كأنها نزعت فتيل قنبلة موقوتة، كانت تتأهب للإنفجار بأية لحظة. ارتكزت عيناه الثاقبة عليها، وحملت تعابيرهِ الغامضة معاني بثت الرعب في نفسها دون أن يتفوه بكلمة، فـ تداركت الأمر فورًا وعادت تُصحح خطأها فورًا :
- آ.. حت لو عرفي يعني، قصدي إني بقيت على ذمتك و......
- ششششش.
قطعت صوتها في الحال، ورأتهُ يخرج وثيقة الزواج العرفي من جيب بنطالهِ، مزق ورقة الزواج العرفي لـ قصقوصات صغيرة، ثم نثرها في الهواء وتلك الإبتسامة المُريبة تتراقص على محياه، وهتف بـ نبرةٍ أقرب للعدائية :
- كده خلاص، أنا معرفكيش، ولا كأني شوفتك ولا عرفتك.
كتمت شهقة متفاجئة من صنيعهِ المباغت، واتسعت أحداقها حينما كان يتابع حديثه العنيف، قاصدًا التحقير من شأنها، لئلا تنسى من تكون ومن أين أتى بها :
- أوعى تكوني نسيتي نفسك يابت!. مرات مين؟؟، أنتي مرات حمزة القرشي!!.. مش عشان ضربنا ورقتين عرفي في الضلمة تخلي أحلامك تسرح بيكي، أصحي.
سحب هاتفهِ وأشار لها كي تنهض :
- فزّي (أسرعي) قومي خلينا نخلص، أنا مش فاضيلك.
هرعت من مكانها وهي تستر عُريها بقطع من الثياب، بعدما رأت منه وجهًا مُظلمًا قد يحطّ عليها حطّ الكوابيس المرعبة، وسرعان ما دلفت لدورة المياة لتنفيذ أمرهِ. جلس "حمزة" على حافة الفراش، وغمغم بسخطٍ منزعج :
- قال إيه... مراتي !؟.
**********************************
تراكمت عليها الأعمال، بعدما تغيبت أمس عن عملها في مكتب المحاماة الخاص بـ "عناني الحكيم"، وحينما عادت، وجدت ما تركته قد تضاعف لملفات أخرى أكثر وأكبر. رفعت "سُلاف" تلك الملفات الغير مهمة سطح مكتبها، وخرجت كي تُلحقهم بالأرشيف الخاص بالمكتب، كي تتخلص من هذا التكدس المُزاحم على مكتبها، فـ تصادفت بـ أستاذها في طريقها يقول :
- عملتي إيه امبارح ياسُلاف؟؟.. خلصتي إجراءات جواز السفر اللي أخدتي عشانه أجازة ؟.
فـ أجابتهُ برسمية منضبطة :
- آه يامستر عناني، شكرًا لحضرتك.
فـ أشار نحو مكتبه وهو يقول :
- لما تخلصي عايزك في مكتبي.
فـ أومأت برأسها :
- حاضر.
استبقها نحو غرفتهِ، فلم تتأخر عن اللحاق به، مستشعرة بذلك وجود أمرٍ يهمها. أغلقت الباب كما أمرها، وجلست قبالته تسأل :
- خير يامستر عناني؟.
لم يدخر "عناني" سؤاله المرتاب، بعدما لاحظ بنفسهِ تبدل حالتها منذ يومان :
- عايز أسألك، ليه اعتذرتي عن القضية بتاعت أشرف مع إنها مضمونة ١٠٠٪.
برعت في إخفاء ذلك التوتر الذي تسلل لنواجذها، وبدت فاترة أكثر من اللازم وهي تجيب :
- مش عايزة أدخل قضية ممكن تكون تقيلة عليا وأنا لسه في بداية حياتي، أنا سمعت إن اللي ماسك القضية دي حد تقيل جدًا، تقريبًا صلاح القرشي!.
أومأ "عناني" رأسه بالإيجاب، وأصرّ على إظهار نقاط القوة مشيرًا لـ :
- آه هو، بس أنا قولتلك القضية مضمونة، الولد إبن النائب أتمسك متلبس، يعني القضية في جيبنا.
ابتسمت "سُلاف" بتكلفٍ، وقد منعت بصعوبة نفسها من أن تنفعل أو تخضع لغضبها الأهوج، الذي سرعان ما يتفشّى بكامل حواسها لمجرد ذكر "صلاح القرشي" أو ولدهِ أو أمرًا يخصهم، وأزالت خصلة انسالت على وجهها بالخطأ، لتقول بإصرارٍ لم يتزحزح عن مكانه :
- آسفة يافندم، أعفيني من القضية دي، في محامين كتير غيري وأفضل مني، أنا لسه متدربة.
لكنها واجهت إصرار مستميت من "عناني"، محاولًا إقناعها برأيه :
- بالعكس، أنتي أثبتي نفسك خلال فترة قصيرة جدًا، لكني مندهش من إصرارك المرة دي رغم بساطة الأمر.
نهض "عناني" عن مكانه متابعًا :
- صلاح من أقوى منافسينا ياسُلاف، وأنا حابب واحدة زيك في قوتك وذكائك تكون ضمن الفريق اللي جمبي، مش كفاية تكوني مجرد محامية في مكتب عناني، الأهم تكوني من الفريق الخاص بيا.. فهماني!.
وتابع توضيحاته بتصريح خطير للغاية، قلما اعترف به :
- هقولك حاجه مش كتير بقولها لأي حد.. صلاح أغلب طرقه شمال، وإبنه زيه.
دنى "عناني" منها، انحنى قليلًا عليها، وتابع مخفّضًا صوته قليلًا :
- إبنه طلع أوسخ منه كمان، عارفه التلميذ اللي بيغلب أستاذه؟؟.. ده بالظبط اللي حصل مع صلاح وإبنه.
انتصب "عناني" في وقفته، وختم حديثه عنهم بـ :
- حمزة ألعن في الشر من أبوه، على الأقل صلاح ليه حدود، إنما حمزة لأ.
تظللت عيناها بلمعانٍ متحفز، وكل مشاعرها المتقدة التي تخفيها لأعوامٍ طويلة كانت تتضاعف يومًا بعد يوم. أحست وكأن صدرها الذي حمل كل تلك المشاعر لسنوات لم يعد قادرًا على الصبر لأكثر من ذلك، كأنه يعلم أن الوقت قد حان للقاء، ولكي يدفع كُل مُدانٍ دينهِ.
***********************************
تنهدت وهي تترك مشروب الفاكهه جانبًا، وجلست باديًا على ملامحها التحيّر. نظرت نحو تلك السيدة التي تجاوزت الخمسون من عمرها، لكنك حين تنظر من هناك ترى سيدة لم تتعدّى الثلاثين، حافظت على لياقتها ونضارتها فـ بقيت گالغصن اليانع. ابتسمت "أسما" بتوددٍ وهي تسألها :
- مالك ياميان؟؟.. شكلك بيقول في حاجه عايزة تقوليها!.
داعبت "ميان" أظافرها الصناعية (أكليرك) وهي تسأل بترددٍ مختنق :
- هو حمزة حياته كلها ضايعة في الشغل كده ياطنط؟؟.. ده فاضل أيام على الفرح وهو حتى مش مكلف نفسه ييجي معايا نتفرج على القاعة بعد ما اتجهزت!.
بررت "أسما" انشغال ولدها الدائم بدفاعٍ مستميت :
- حمزة بـ يبني نفسه ياميان، وعمل أسم عظيم خلال فترة قصيرة، دورك تقفي جمبه وتدعميه، أكيد مش هيفضل جمبك طول الوقت.. ماانتي شايفة أونكل صلاح، على طول مش معايا وأنا عمري ما أيدتهُ ولا وقفت في طريقه زي الستات الزنانة.
استنكرت "ميان" مطلب "أسما" الغير مباشر بتحرير ولدها قليلًا :
- بس إحنا بنمر بفترة أهم حاجه فيها الإهتمام!.
قطبت "أسما" جبينها بغير رضا، وأردفت بـ :
- ده كلام تافه جدًا ياميان، كبري دماغك شوية وبلاش تنكدي على حمزة.. بلاش كمان تفضلي مكشرة كده لما ييجي!.
بدت حازمة بعض الشئ، وهي تلفت انتباهها لتجاعيد وجهها وثنايات بشرتها الحزينة، والتي لم ترق لها، فـ سرعان ما انتبهت "ميان" وتنازلت عن تلك التعابير والإيماءات الموحية، لتستمع إلى صوتهِ يأتي على مقربة منها :
- مـيان!.. وحـشتيني.
التفتت لتراه ينحني صوبها، يُقبل وجنتها قبل أن يردف بـ :
- كنت هكلمك حالًا.
ثم نظر لوالدتهِ :
- مساء الخير ياست الكل.
تبسمت "أسما" في وجهه :
- مساء الخير ياحبيبي، غير هدومك عقبال العشا ما يجهز.. ميان هتقعد معانا على العشا النهاردة.
- حالًا.
أسرع ليصعد إلى غرفته، كي يتخلص من تلك الأمسية التي أُجبر عليها، بينما كانت "أسما" تحثها على ضرورة التقرب منه، لئلا يحس فتورًا منها :
- قومي أسأليه عايز يشرب إيه بعد العشا، أنا مش هفهمك كل حاجه بنفسي ياميان، لازم تكوني أذكى من كده.
هزت "ميان" رأسها بتفهمٍ، ونهضت لتلحق به، حينما كانت "أسما" تنتقل للمطبخ، كي تعطي أوامرها للطباخ بتجهيز العشاء.
دخلت "ميان" غرفتهِ بعدما أذن لها، فـ وجدته بالفعل قد أنهى تبديل ملابسهِ خلال لحظات قليلة، تبعثر شعرهِ فـ شكلّ ملامحًا أخرى أكثر وسامة، ابتسمت مُطيلة النظر إليه، وعبرت عن إعجابها بـ :
- أول مرة أشوفك منعكش!.. شكلك حلو.
ضحك "حمزة" وهو يمسح على شعره بكلا كفيّه، ثم نظر إليها وهو يدنو ببطءٍ ماكر ليقول :
- مش حاجه جديدة عليا، أنا حلو في كل حالاتي.
طالت ذراعهِ خصرها، فـ شهقت فجأة وهو يجتذبها لصدرهِ، اضطربت مشاعرها وهي تحس بأصابع يده التي تلمس جلد ذراعها، واقشعرت مع استشعارها لملمس شفاهه على وجنتها :
- أنا صابر بالعافية، لو عليا أخلي الفرح دلوقتي مش بعد أسبوع.
ذمّت على شفتيها بتحرجٍ شديد، وهي تحس بسخونة هائلة تنبعث من حشاياها :
- حمزة آ... مينفعش كـ....
لم يوليها فرصة الرفض، قطعت شفاهه طريق لسانها، وأخرس صوتها بقُبلةٍ فريدةٍ سرقت شتاتها المضطرب، لتقع مستسلمة بطواعية كاملة، غارقة في حُب ذلك الرجل الذي تعشقهُ، ذائبة گذرة من السكر في الماء، ضاع أثرها وبقى حلو مذاقها.
************************************
مدفأة ضخمة قديمة للغاية، تعود لأزمنة قد ولّت ومضت، حتى إنها لم تعد متواجدة إلا بشكلٍ نادر. كان يجلس أمامها على مقعدهِ المتحرك، يُغطي نصفهِ السُفلى بغطاء أسود خفيف. عقله شاردًا بشكل ملفت للإنتباه، حتى إنه لم يشعر بقدومها إلا عندما وقفت أمامه، وحجبت عنه رؤية نيران المدفأة، فرفع بصره نحوها فجأة :
- سُلاف!.. جيتي أمتى؟.
- دلوقتي.. اتعشيت؟.
حرك المقعد خاصته ليتراجع للخلف، ثم أجاب بنفس الجمود المعتاد :
- مستنيكي.. عملتي إيه النهاردة؟.
كانت تعلم إلام يشير سؤاله بالتحديد، فأجابت عليه دون تطويل :
- رفضت القضية نهائيًا، أنا مش هغامر دلوقتي بظهوري قدام صلاح وإبنه.
تفهم "مصطفى" رغبتها، وأكد على صحة خطواتها التي تخطوها نحو ذلك المصير المجهول :
- صح، خليها تمشي زي ما اتفقنا.
استمعت لصوت نهنهه لرضيع يأتي من الداخل، فـ سألت على الفور :
- زين أخد الرضعة بتاعته؟.
فأجاب "مصطفى" وهو يقود مقعده نحو غرفته :
- آه.
أحست بشئ غير طبيعي به، فـ لحقت به ووقفت أمام مقعده، لتسأل بإسترابة :
- مالك ياعمي؟؟ فيك حاجه متغيرة؟.
كأن غليان صدره قد طفح على وجهه، فـ احمرت بشرته فجأة وهو يجيبها بصراحة مطلقة :
- مش قادر أتحمل، صبر السنين اللي فاتت كوم وصبر أيام كوم تاني ياسُلاف، قلبي بيتقطع جوايا كل يوم يابنتي!.
جلست أمامه القرفصاء، ووضعت كفها على كفهِ قائلة بتوعدٍ :
- كله هيمر ياعمي، اللي جاي إنتصار وبـس، عـهد عليا.. بس أصـبر عشان تيجي زي ما رسمتها.
تعالى صوت بكاء الصغير "زين"، فـ أنهى "مصطفى" ذلك الحوار مؤقتًا :
- شوفي إبنك وبعدين نكمل كلام، أنا مستنيكي في أوضتي.
فـ استقامت بوقفتها وأسرعت تدخل لصغيرها، كان يتحرك بعشوائية شديدة بداخل فراشهِ الصغير، وبكاءهِ لم يهدأ قطّ إلا بعد رؤيتها، بدأ يسكن رويدًا رويدًا، فتمكنت "سُلاف" من رؤية عيناه الحمراء ووجنتيه المتوهجة أثر البكاء، حملته لحُضنها، وضمت ذراعيها عليه برفقٍ ليّن وهي تهمس بـ :
- خلاص أهدا، أنا جيت خلاص.
سكن الرضيع بين ذراعيها، فـ مسحت الدموع عن وجهه الصغير وهي تبتسم له بحنانٍ لا يراه منها غيرهِ وحده، وهمست له بوعدٍ صادق :
- هانت يازين، كل حق هيترد لأصحابه، وأنت كمان لك حق هيجيلك.. مامي عمرها ما هتنسى حقك أبدًا، حتى لو كان تمن حـقك ده.. المـوت....
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفـصل الثالث :-
"عدو عدوي.. صديقي."
_______________________________________
كانت تتطلع إليهم بعينين امتلأت بالحقد، على الرغم من مجهوداتها المُضنية لإخفاء ما يجول في صدرها، إلا أن شدة الكراهية التي حملتها بداخلها قد طفت على وجهها. أنهت "سُلاف" تنظيف الزجاج المُطل على الحديقة، وهي تراقب بتركيزٍ دقيق "حمزة" وخطيبته بالأسفل، وقد أتيا لمعاينة المكان من أجل حفل الزفاف الذي سيُقام نهاية الأسبوع. انتبهت لصوت كبيرة الخدم وهي تصيح فيها :
- أنتي يابنت؟؟ بكلمك!.
التفتت "سُلاف" إليها بعدما أخفضت بصرها للأرض - بتهذيب مُصطنع - ، ثم هتفت ببراءةٍ مزيفة :
- أيوة يافندم!.
زجرتها بنظراتٍ محتقنة، وهتفت مشيرة للزجاج :
- بقالك ساعة واقفة تنضفي نفس المكان!! دي مش طريقة شغل!.. أسمعي ده أول يوم ليكي معانا وأنا مش عايزة مشاكل، أنجزي خلينا نخلص.
هزت "سُلاف" رأسها بالموافقة، وعادت تهتم بعملها :
- حاضر.
انصرفت السيدة، فـ نظرت "سُلاف" بطرفيها لتتأكد إنها غادرت، ثم عادت تراقب "حمزة" من جديد.
—جانب آخر —
كظم "حمزة" قنوطهِ، وحاول جاهدًا أن يمر اليوم بسلام، بعدما أصرت "ميان" على مرافقته لها أثناء معاينة المكان الذي وقع عليه الإختيار لإقامة حفل زفافهم. مسح جبهته التي توهجت بفعل تعامد الشمس عليها، وضبط نظارة الشمس القاتمة خاصته ليقول :
- مش كده خلصنا!!.. يلا نمشي أنا الشمس خنقت أمي!.
قطبت جبينها بإستنكار، بعدما استخدم تلك الطريقة التي لم ترق لها بتاتًا أثناء الحديث :
- إيه اللي بتقوله ده ياحمزة!! أول مرة أشوفك بتتكلم كده!.
نفخ "حمزة" بإنفعال، وبدا صوتهِ متذمرًا إلى حدٍ ما :
- عشان اتخنقت، وإنتي مصرة تدخليني في تفاصيل ماليش فيها، ما تختاري بنفسك القاعة والفستان وكل حاجه أنا معنديش أي موانع، ليه تعطليني وتاخديني معاكي زي ما أكون إبنك ولا حاجه!!.
وانسحب من جوارها بخطواتٍ متعجلة، كي يغادر ذلك المكان الذي حطّ على أنفاسهِ بشكلٍ مريب، فـ لحقت به بعدما اعتذرت لمنظم الحفل عن انصرافهم المفاجئ، واستقرت في مكانها بالأمام وهي تصرخ في وجهه :
- دي آخر مرة تزعقلي قدام حد ياحمزة، okey ؟.. أنا مش واحدة بتشتغل في مكتبك ولا متهمة بتدافع عنها عشان تتسببلي في إهانة بالشكل ده.
كان قد استعاد ثباته - إلى حدٍ ما -، بعدما تخلص من الحرارة المفرطة بالأجواء، والتي تسببت له في تغير مزاجي ملحوظ، فـ هدأ قليلًا وظهر الهدوء في نبرته وهو يسترضيها :
- سوري ياحببتي، مقصدتش.. بس بجد مش متحمل الجو ده!.
وضع يده على كفها المسنود أعلى فخذها، تناوله وقربه من فمه، ليُقبّله برقةٍ ناشدًا مصالحتها، بعدها هتف بـ :
- متزعليش، بس بعد كده خليكي على راحتك وانا على راحتي، ماشي؟.
ارتضت نسبيًا، ولم تُطل الأمر حتى لا يتطور الإنزعاج بينهما، وفي قرارة نفسها كانت قد قررت ألا تصحبه بالفعل لأي مكان، بعدما رأت بنفسها كيف سيكون الحال، إن تواجد بمكانٍ لا يرغبه. كأنهُ يُشكلها على طباعه، حتى يتفادى أي مشكلات قد تحدث بالمستقبل، ولكي تختبر بنفسها ماذا يعني أن تُزعجه أو تُسيّر الأمور وفقًا لهواها، حتمًا سيكون المردود سيئًا، وقد رأت جزءًا قليلًا منه منذ قليل.
*************************************
أغلقت على نفسها لتتجاوز محنتها، وهي تتنفس بصعوبة لا تعلم سببها، منذ فترة طويلة وهي تعاني هذا الأمر البليغ، والذي لم تجد له سببًا عضويًا حتى الآن. متلازمة صعوبة التنفس وانقباضة الصدر التي تظهر بين حين والآخر - بغتة وبدون سابقة إنذار -. جلست "سُلاف" تلتقط أنفاسها بتوازن حتى تستعيد هدوئها، بدأت تعود لوضعها الطبيعي، فـ نهضت وهي تنزع عن نفسها وسائل التزييف، نزعت وصلة الشعر الشقراء (باروكة)، وتلك الملابس الكثيرة التي ضاعفت من حجم بدنها لتبدو بدينة شيئًا ما، ثم وقفت أمام المرآة لتنظف بشرتها التي تحملت الكثير والكثير من مساحيق الزينة، لـ تُخفي ملامحها الحقيقية ولو بنسبة محدودة، لقد عادت "سُلاف" التي تعرفها أخيرًا. ظلت واقفة أمام المرآة، تنظر لنفسها بدون تركيز، عقلها في مكان آخر، حتى انتشلها صوت هاتفها من أوّج تركيزها، فـ أجابت على المتصل :
- أيوة.. آه لسه راجعة من هناك، كنت بشوف المكان بنفسي، عارفه إنه خطر بس كان لازم.. عيني لما تشوف غير لما أسمع منك، المهم.. عايزة منك حاجه مهمة جدًا.
*************************************
مرور الأيام كان ثقيلًا عليه، كلما تخيل مجرد فشل ولدهِ في القيام بتلك المهمة، والتي ستزيل عائق تهديدات "جاد" لهم، تتولّد رغبة داخله بالإنفجار. قذف هاتفه على سطح مكتب "حمزة"، وهتف بصياحٍ منفعل :
- المدير بتاعك قافل تليفونه ومرجعش البيت من امبارح! شايف يانـضال ؟؟..
ذمّ "نضال" على شفتيه وهو يتبادل النظرات المتحيرة مع "رضوى" -سكرتيرة مكتب "حمزة" الخاصة، ثم حاول تلطيف الموقف بقوله :
- ياباشا أكيد في حاجه معطلاه، سيادتك عارف حمزة أكتر مني.
لم تُغني كلمات "نضال" أو تُهدئ من عصبيته، بل إنها تفاقمت أكثر أكثر :
- مش مـبرر أبـدًا، الراجل مستني مني رد، أقــوله إيـه!.. الباشا اللي اعتمدت عليه مش موجود في مكتبه ولا في البيت وصايع بقاله يومين!!.
أحس "نضال" بـ اهتزازات الهاتف داخل جيبه، فـ أخرجه منتويًا رفض المكالمة، لولا إنه وجد أسم "حمزة"، گالذي وجد كنزًا ثمينًا في أشد لحظات القحط والفقر، فـ تقافزت حواسه وارتفع الأدرينالين في عروقه هاتفًا :
- حـمزة بيتـصل.
وأجاب على الفور :
- أنت فــين ياحـمزة، صـلاح باشـ.....
اختطف "صلاح" الهاتف منه، وهدر بصوته في الهاتف قائلًا :
- أنت فين ياسيد الرجـاله؟.
كل تعابير الغضب، الإنفعال، العصبية، والجنون.. كلها اختفت في لحظاتٍ، وحلّ الوجوم على كامل حواسه، وهو يجلس على المقعد المقابل للمكتب، ويسأل في رزانة :
- يعني إيه اتنازل!!.. أنت متأكد؟.
جلجل صوت ضحكة "حمزة" في الهاتف، حتى وصلت أصدائها لـ "نضال" و "رضوى"، وهتف بـ غرورٍ ملموس في صوته المتباهي :
- وأنا ههزر معاك ليه ياابو صلاح، أسأل جاد بيه بنفسه، أنا لسه خارج من المديرية أنا وهو وإبنه سمير بعد قرار الإفراج عنه.
اتسع ثغر "صلاح" عن آخره، وابتهجت تعابيرهِ كأن شيئًا لم يكن :
- عملت كده إزاي!!.. خليت الواد يتنازل إزاي ياحمزة؟.
كان واثقًا مرتاحًا، وهو يجيب بنفس اللهجة المغترة :
- دي بقى بتاعتي أنا، المهم إن اللي انت عايزه حصل.. سيبني بقى ياابو صلاح وحل القضايا بتاعتك لوحدك بعد كده.
ضحك "صلاح" بملء فمه، فـ رمقته "رضوى" بإستنكارٍ مختنق، بينما كان يقول :
- بقى كده! بعد ما شربت الشغل وأسمك حطّ على أسمي بتسيبني!!.. عمومًا حتى لو سيبتني أنا مش هسيبك ياابن صلاح.
انسحب "نضال" من الغرفة مشيرًا لـ "رضوى" كي تلحق به، فـ تتبعتهُ حتى خرجا سويًا من الغرفة، ثم غمغمت بتبرمٍ :
- يعني بعد كل التهزيق ده مجرد ما إبنه رد عليه قعد يضحك للصبح!!.. بالنسبة للوش الخشب اللي كان مصدره لينا!.
- ششش، كفاية رغي وروحي شوفي شغلك.
وانصرف من أمامها، ومازالت هي تردد بإختناقٍ :
- اتعلمت تقول هشش زيه كمان!! ماانا الملطشة بتاعت المكتب ده.
وركلت بقدمها سلة المهملات الفارغة بأحد أركان الردهه ليقع مائلًا، ثم انصرفت بغيظ ينهش في عقلها .
*************************************
كانت "سُلاف" تخرج من مديرية الأمن بخطواتٍ أشبهت الركض، وتخطت مسافة ليست قصيرة حتى وصلت لسيارتها. فتحت السيارة، قذفت بالحقيبة أولًا، ثم ألقت جسدها على مقعد القائد وهي تتأفف بإنزعاج. لملمت شعرها المتبعثر من حولها وجمعته للأعلى مستخدمة مشبك الشعر، ثم بدأت بالإتصال الهاتفي وهي تُشعل سيجارة لتُنفس عن نفسها قليلًا، حتى جاءها الرد بالجهه المقابلة :
- أيوة، حمزة خرج سمير جاد دلوقتي.. آه.
وفجأة صرخت بإنفعالٍ :
- معـرفش ، معرفش إيه الثغرة اللي فوتناها عشان يجيب في قضية زي دي إخلاء سبيل بكل سهولة كده.
طردت بقايا التبغ العالقة في صدرها بنفخة واحدة، ثم أردفت بـ :
- أكيد في حاجه شمال في الموضوع ده، مش بعيد يكون هدد الواد عشان يتنازل.
قذفت السيجارة من نافذة السيارة وأغلقت الزجاج، ثم هتفت بإنفعالٍ سيطر على حواسها كافة :
- أقفل وسيبني دلوقتي، محتاجة أفكر كويس.
وأغلقت. تعلقت عيناها بـ اللاشئ، يكاد الجنون يفتك بعقلها، وكل ما يمضي من وقت دون الثـأر يزيد من إيلام روحها التي عاشت في العذاب سنوات. لقد فعلت أشياء كثيرة كي تحظى بلحظة الإنتقام تلك، حتى إنها التحقت بكلية الحقوق فقط كي تتسنى لها الفرصة للتقرب منهم، كل شئ في حياتها ربطته بهم لتسهيل عملها في المستقبل، إنها أكبر خطة قد يضعها إنسان للإنتقام، استغرقت أعوام وأعوام، ولن تُضيع كل هذا فقط. انتبهت للأبواق التي أتتها من الخلف، گنذير لكي تحرك سيارتها، فـ أدارت المحرك وهمست بـ :
- مفاضلش غير شوية صغيرين أوي، وهبقى أقرب لهم من نفسهم.
**************************************
وضع النادل المياة الغازية أمامه بجانب كأس فارغ، بينما كان "حمزة" ينظر يمينًا ويسارًا، گالذي يبحث عن شئ ما. تلوت شفتيه بنفاذ صبر، وأصرف عقله عما يجول فيه، ثم التفت لصديقه يقول :
- كنا بنقول إيه!.
قطب "راغب" جبينه بإستغراب :
- إنت اللي كنت بتتكلم وسكت فجأة، مالك؟؟.. لسه موضوع البت إياها شاغلك ولا إيه؟.
أدّعى "حمزة" عدم فهمه، وبدا غير مكترثًا بشئ :
- تقصد مين؟؟
ضحك "راغب" عابثًا، وغمز له گإشارة بإنه يفهم كل شئ :
- البت بتاعت الميا بالليمون، اللي بعتتلك الكوباية واختفت في ساعتها!! إيـه ؟.. نسيت!.
تلوت شفتيه بعدم اهتمام، وأنكر وجود أمرٍ گهذا، رغم إنشغالهِ الشديد به :
- لأ مش في بالي خالص، أنا دماغي في الجوازة اللي داخل عليها.
- أنت بتحب ميان؟
سكب "حمزة" المياة الغازية في الكأس وهو يجيب :
- ميان فرصة العمر، أهلها مسنودين ويعرفوا يسندوا أي حد، والبت جميلة وشيك وبنت ناس، وأهم من كل ده في إيدي.. يعني جوازة ماشية من كله.. مش مهم الحب بالنسبالي، المهم اللي هييجي من ورا الجوازة دي.
انتبه "حمزة" لتلك الفتاة التي تمدّ له يدها بالورود، فـ رفع بصره ليجدها إحدى فتيات الشارع، وقد اقتحمت المكان بثيابها الرثة وشكلها المخيف، لتشحذ من أولئك الذين ينضموا للطبقة المخملية، ما يساعدها على جلب لقمة العيش. اقشعر "حمزة" حين رآها، وشعر بإشمئزاز لدى سماعها تقول :
- أديني حاجه لله يابيه.
نفرت العروق في رقبته، وهبّ واقفًا من مكانه گالذي مسّه سحر، وصرخ في وجهها :
- إزاي واحدة زيك تدخل مكان زي ده!!.
ونظر حوله وهو يصيح بـ :
- فين الزفت الأمن، أنا هخرب بيتهم.
وقف "راغب" عن جلسته، وأشار لها بـ احتقار وهو يحاول إصرافها :
- أمشي من هنا يابت!!.
تراجعت الفتاة للخلف دون أن تنبث كلمة، وفي خروجها كانت تصطدم بفرد الأمن الذي قبض على رسغها بعنف ليقول :
- دخلتي هنا إزاي يابت انتي؟؟.
فـ صاح به "حمزة" :
- أنت لسه هتسأل، خرجها من هنا مش ناقصة قرف.
خرجت برفقة فرد الأمن حتى الخارج، وعندما تأكد من إنه ابتعد عن الأعين كان يتركها وهو يعتذر :
- حقك عليا ياهانم.. بس انتي اللي طلبتي كده.
ألقت "سُلاف" بالزهور أرضًا، وأخرجت مظروف من جيب جلبابها، لتناوله إياه قائلة :
- خد دول عشانك.
دسّ الظرف في جيب سترته وهو يتفقد بعيناه المكان من حوله، ثم سألها بفضول :
- بس انتي عملتي كده ليه!!.
زجرته "سُلاف" بنظرةٍ أرعبته، وما أعطى لنظرتها طلّة مخيفة ذلك الكحل الأسود الذي اكتحلت به أعلى وأسفل عيناها، فـ أضاف مشهد مرعب لهيئتها، تراجع الرجل على الفور عن سؤاله، وعاد لمكان عمله دون أضافة أي شئ، في حين أسرعت هي بخطواتها، حتى وصلت لسيارتها وركبتها سريعًا، فـ تحرك السائق بها وهو يسأل :
- عملتي إيه؟.. شافك؟.
لم ترد، نزعت "سُلاف" رباط الرأس القديم المتهالك، وخلعت عنها ذلك الجلباب الشنيع، ثم أخرجت المرآة واستخدمت قطع قطنية وسائل منظف للبشرة، كي تزيل كل ما لوثت به شكلها.. فـ عادت لهيئتها الطبيعية. مشطت شعرها الأسود، وتخلصت من كل الأشياء التي استخدمتها في كيس أسود كبير، بعدها أمرته بأن يتوقف :
- أقف على جمب.
توقف، فـ ترجلت وألقت الكيس بأقرب سلة مهملات، وعادت تجلس بالمقعد الأمامي. صمتت لحظات، ثم أردفت بـ :
- عارف ابن صلاح طلع سمير جاد من القضية إزاي؟.
فسألها منشغلًا بالقيادة :
- إزاي؟.
عضت "سُلاف" على شفتها السفلى، وكبحت غضبها بصعوبة، لتقول بعدها :
- أبتز الواد وخلاه يتنازل عن القضية.
صفّ السيارة جانبًا، والتفت إليها يسألها بإهتمام :
- أبتزه بإيه؟.
لم يكن جوابًا صادمًا بقدر ما كان جوابًا مثيرًا للإشمئزاز :
- بأخته، أبتـزه بأخته.
استعدت "سُلاف" كي تترجل عن السيارة، وقبل ذلك كانت تعطيه أمرًا بـ :
- لازم تجيبلنا معلومات عن الواد ده، مش لازم نضيعه أبدًا، أكيد هيكون عايز ينتقم من حمزة.
ولاحت ابتسامة متراقصة على محياها وهي تقول :
- عدو عدوي يبقى صديقي.
ترجلت وأغلقت السيارة، سارت نحو المنزل العتيق الذي تسكنه مع عمها، منزل فخم من طابقين، لكنه قديم إلى حدٍ ما، وكأنه قطعة أثرية عتيقة، تريد أن تحتفظ بها. فتحت الباب لتجد ظلامًا دامسًا، بينما غرفة طفلها هي الوحيدة المضيئة، فـ أغلقت الأبواب جيدًا ومشت بإتجاه الغرفة، گالتي تركت كافة وجوهها الكثيرة بالخارج، ودخلت بوجه الأم فقط. أشرق وجهها مع رؤيته، فـ اقتربت منه وانحنت لتمسح على بشرته، وهمست بـ :
- حبيب مامي وحشني أوي.. أتأخرت عليك؟.
أصدر الرضيع نهنهه گالذي يجيب على سؤالها، فـ حملته بين ذراعيها وتابعت :
- معلش، خلاص مش هسيبك تاني خالص، هنقعد مع بعض على طول.
التمعت عيناها ببريقٍ مريب، وسألته :
- إيه رأيك لو نقابل بابي؟؟..
نظرت لذلك الفستان الأحمر القاني، المعلق على المشجب مُغلفًا بغلاف شفاف، ثم أردفت بـ :
- مبقاش ينفع نتأخر أكتر من كده.. لازم نتقابل بسرعة.
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الرابع :-
"انتظرتك طويلًا، أما حان وقت اللقاء؟!."
______________________________________
لم يكفّ هاتفهِ عن إثارة الضجيج من حولهِ، لكنه كان غارقًا في النوم العميق بدون أن يشعر بأدنى شئ من حوله، استغرق استعادتهِ لإدراكهِ كثير من الوقت وكثير من المكالمات الفائتة، حتى فتح عينيهِ الثقيلتين وبدأ يسمع رنين هاتفهِ. زفر زفيرًا منزعجًا وهو يتحرك أسفل الغطاء، ثم اعتدل من نومته وهو يتناول الهاتف. نظر جوارهِ فلم يجد تلك الفتاة التي شاركتهُ مضجعهِ أمس، أي زوجتهِ الغير شرعية كمان يدّعي، فـ أجاب على هاتفهِ بأريحية، وما زالت آثار النعاس تغطي على نبرته الغير واضحة :
- ألـو...
فـ آتاه صوت "راغب" :
- في إيــه ياجدع انت!! هو انا بصحي قتيل ولا إيه؟؟.. كل ده نوم ياعريس!؟.
تنفس "حمزة" وهو يسند ظهرهِ للخلف :
- مش عارف راحت عليا نومه إزاي !.
- هو انت في الشقة إياها ولا إيه؟.
- آه.
ضحك "راغب" بأعلى صوته، وهتف ممازحًا إياه :
- يابني فرحك بكرة!!.. مش كفاية عك بقى ، بنت شاكر لو عرفت بلاويك دي مش هتعديها.
قطب "حمزة" جبينه مستنكرًا، وبكل تبجحٍ كان يهتف بـ :
- وهي مالها؟؟ هي حاجه وهما حاجه.. كفاية إنها هتكون مراتي الرسمية.. وبعدين إمرأة واحدة لا تكفي ياراغب ياخويا.. وأنا راجل ذوّاق، أحب آكل من كل الأصناف.
نزع الغطاء عنه، وأنزل ساقيه على الأرض لينهض :
- المهم، هاخد شاور وأكلمك عشان أشوفك.. سلام.
وانتقل نحو المشجب كي يسحب منشفته، متوجهًا صوب دورة المياة، وما زالت تلك الأغنية الأجنبية الشهيرة تتردد على لسانه، يُدندنها مستمتعًا.
**************************************
تأكدت من أن حرارة الحليب الدافئ تناسب رضيعها، ثم أغلقت الرضاعة البلاستيكية وخرجت من المطبخ، كي تلحق به وتُطعمه، كانت أسعد لحظاتها، تلك التي تقضيها مع الصغير "زين"، كأنها عادت طفلة، لتعيش معه كل ما حُرمت منه، فـ فاقد الشئ هو أفضل من يُعطيه، لأنه أفضل من يعلم كيف كان شعور الحرمان منه. كان "زين" يمتص الحليب وعيناه عالقة بها، هو يستطيع تمييزها بين آلاف الناس، هي فقط من يجد ذلك الدفء بين ذراعيها. لمست نعومة بشرتهِ البيضاء ، ثم مسحت على شعرهِ الأسود وهي تهمس بـ :
- نظرتك ليا دي بالدنيا كلها، أنت الوحيد اللي بنسى معاه أنا مين!.
استمعت لـ صوت عمها ينادي، فـ نهضت عن جلستها وخرجت تبحث عن الخادمة :
- أم علي!.
جاءتها السيدة الأربعينية مسرعة :
- أيوة يابنتي، أنا هنا أهو.
ناولتها الرضيع وهي تؤكد عليها :
- خلي بالك من زين وأنا داخله لعمي.
- من عنيا.
وأخذتهُ في أحضانها. ذهبت "سُلاف" بإتجاه غرفة عمها، دخلت وأغلقت الباب عليهم، لترى تلك التعابير - المفهومة بالنسبة إليها - مُتشكلة على وجهه، فـ جلست قبالته لتقول :
- صباح الخير ياعمي، أفتكرتك لسه نايم.
كان صوتهِ حازمًا يلمع فيه الحزن وهو يقول :
- نوم إيه ياسُلاف!!.. ده هفضل صاحي من هنا لحد ما نوصل للي عايزينه، مش مصدق نفسي.. خلاص اللحظة حانت!.
أومأت "سُلاف" برأسها، وعيناها تشعّ بالغضب المكتوم، الذي بقى سجين صدرها لسنواتٍ مديدة، ثم هتفت بإصرارٍ مستميت :
- خلاص ياعمي، كل اللي صبرت عليه هتحصده، حق عيلة زيـِّان كلها هيرجع.. بس اصبر عليا.
تحمست حواسهِ، وبقى گالقدر المغلي الذي لا يُطيق النيران لأكثر من ذلك :
- هتعملي إيه!!.. طمنيني.
- كل حاجه جاهزة.. النهاردة هقدم على أجازة قصيرة من مكتب عناني، عشان هحتاج كل طاقتي ومجهودي الفترة الجاية، اللي داخلين عليه مش سهل أبدًا.
نهضت من مكانها، انحنت لتكون - قرفصاء - أمام عمها، ثم أردفت بصوتٍ راجي :
- بس لازم تحميني، دخول عش الدبابير مش بالساهل ياعمي.
وضع يدهِ على كتفها، شدد عليه، وبرز الصدق في صوتهِ وهو يقول :
- أنا في ضهرك ياسُلاف، ومحدش هيمس شعرة منك طول ماانا على وش الدنيـا.
*************************************
كان نهارًا مشمسًا لطيفًا للغاية، إلى أن وردتهُ تلك الأخبار التي عكرت صفو يومهِ، وأفسدت سعادتهِ بـ اقتراب زفافهِ، حتى إنه خرج عن طورهِ. قذف "حمزة" الملف الورقي، فـ تطايرت كافة الأوراق وتناثرت من حولهِ، وهو يصيح مزمجرًا بعصبية مفرطة :
- هو إيــه، الراجل ده بروح أمه هيفضل عامل زي خيال المآتـه كده!! مفيش قضية غير لما ألاقيه لازق في قفايا!!.
حاول "نضال" محاولة بائسة أن يمتص ذلك الإنفعال عنه، لكن مجهوداتهِ ذهبت سدى :
- خلينا نتكلم بهدوء ياحمزة، إحنا يعتبر منافسين أقويا جدًا قدام أي حد.. وإصراره على مواجهتنا ده دليل إننا أقوى منه.
لم يكن كلامه بلسم لإنفعاله، كأنما زاد الحريق سعيرًا ولم ينطفئ بتاتًا :
- ياعم ما ينافس حد غيري!! ولا انا مكتوب على ضهري أفضل شايل همه هو كمان بدل ما أركز في شغلي!!.
ثم صاح مناديـًا :
- رضـــوى.
هرعت "رضوى" من الخارج تلبية لنداءهِ :
- أيوة يامستر حمزة.
- عايز عنوان مكتب الزفت عناني.
- حالًا.
اضطرب "نضال" على الفور، وتجلى التوتر عليه وهو يسأله :
- أنت هتعمل إيه بالظبط!.
جمع "حمزة" أشياءه عن سطح المكتب، وهتف بـ :
- هروح أشوف آخره إيه.. قبل ما آخد خطوة ضده هتزعله أوي أوي مني.
اندفع "حمزة" خارجًا من مكتبهِ، بينما كان "نضال" قد وصل لذروة قلقهِ واضطرابهِ، أخرج هاتفه سريعًا وبدأ يقوم بإتصال تليفوني، علهُ يُنقذ من الموقف ما يمكن إنقاذهِ :
- ألو، أيوة ياصلاح باشا، في حاجه كده حصلت.
************************************
تناولت "أسما" حقيبتها، مستعدة بذلك للذهاب إلى مركز التجميل المتخصص الذي تزورهُ أسبوعيًا، لكن استوقفها ذلك الحديث الدائر، بين زوجها وبين "نضال". انتظرت حتى أنهى "صلاح" المكالمة، ثم سألته بفضول :
- في إيه ياصلاح؟.
وقف "صلاح" أمام المرآة ليرتدي رابطة العنق وهو يفسر لها :
- إبنك مصمم يدخلني في مشكلة مع عناني الحكيم، وأنا بصراحة مش فايق خالص!.. يعني هو ده وقته!.
تلوت شفتي "أسما" بعدم اكتراث، وبثقة بالغة كانت تردف بـ :
- إبني يقدر يتخطى أي حاجه، متقلقش عليه.. سيبه يتصرف.
التفت يرمقها بإستهجان، وهو يرى ذلك الفتور الذي يخنقهُ منها :
- لأ هقلق، حمزة ساعات دماغه بتفلت منه ياأسما، ومحدش كان عامل لتصرفاته فرامل غيري.. لكن من ساعة ما سابني وفتح مكتب لوحده وأنا قلقان على طول من تهوره.. مش كل مرة هتسلم الجرّة.
ابتسمت "أسما" بشئ من الإستخفاف، وذكرتهُ بشئ من الماضي :
- من شبه أباه فما ظلم ياصلاح، ولا نسيت أنت كنت إيه!.
تغضن جبينه بتبرمٍ :
- في إيه مالك النهاردة!!.. كلامك كله سمّ ليه؟.
نفخت "أسما" في الهواء، وأصرفت عيناها عنه وهي تبرر :
- مفيش، مضايقة شوية، إبني بكرة هيتجوز ويعيش بعيد عني وأنا مش متعودة على كده.
فـ اعترض على تفكيرها قائلًا :
- أهو ابتدينا شغل الحموات من بدري!
تحركت "أسما" كي تغادر المكان كله :
- أنا خارجه.
تركت الباب مفتوحًا، فـ عاد "صلاح" ينظر للمرآة وهو يغمغم بخفوتٍ :
- مع ستين... سـلامة.
*************************************
جلست على مكتبها وقد غمر العبوس وجهها، ونظرت حولها منزعجة وهي تردد :
- بس انا كنت عايزاه في حاجه مهمة جدًا!.
تناولت "حنان" - زميلتها في المكتب - قلم حبري، وبدأت تكتب وهي تقول :
- كنتي اتصلتي بيا قبل ما تيجي وكنت هقولك إن مستر عناني نزل بنفسه يقضي مشوار وممكن ميرجعش المكتب.
طرقت "سُلاف" على سطح المكتب بأظافرها، وفكرت مليًا في وسيلة للتواصل معه، عوضًا عن مقابلته الليلة :
- خلاص ممكن أشوفه برا.. مفيش حل تاني.
تعجبت "حنان" من إصرار "سُلاف" على لقاء السيد "عناني" الآن وبهذا التعنت، وسألتها بفضول عن تلك الحالة المُريبة التي بدت عليها :
- مالك ياسُلاف، أنتي بخير؟.
نهضت "سُلاف" عن مكانها وهي تجيب بإختصار مقصود :
- ولا حاجه، هبقى اكلمك بعدين.. باي.
وخرجت من المكتب إلى ساحة الإستقبال بالمكتب، فـ سمعت صوتًا مألوفًا على مسامعها، خفق قلبها، تفشّى التوتر في معالم وجهها وحواسها، فـ أشرأبت برأسها تنظر بإتجاه الصوت، ليصدق حدسها، إنه هو، "حمزة صلاح القُرشي" يقف بنفسه بالخارج، ويتحدث إلى عامل البوفيه الخاص بمكتب "عناني الحكيم". انتفض قلبها بذعرٍ، وتملكت الرهبة حواسها أجمع، الآن ليس وقت اللقاء، لم تحن اللحظة الحاسمة لتواجهه بعد، لقاءهم الآن سَيُفسد كل ما خططت له ، بل إن كل مجهودها المُضني سيكون قد ذهب مع الريح. تراجعت خطوات للخلف، والتفتت لتسير بتؤدة، متعمدة ألا يُحدث حذائها ذا الكعب العالي صوتًا مثيرًا للإنتباه؛ لكن صوته القريب منها للغاية جمدها في مكانها، تصلبت گقطعة من الثلج، وهي تسمع صوته بحديثٍ مُصوّب إليها :
- لو سمحتي ياأسـتاذة.......
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الخامس :-
"سيستحق كُل مُستحقٍ ما يستحقه."
______________________________________
هل تجيبهُ؟.. أم تتجاهله ؟.. أم تركض فرارًا من أمامه؟. لا تدري ما الذي عليها فعلهِ بالتحديد، للتخلص من هذا المأزق اللعين، الذي حلّ عليها گالكارثة. كان بينها وبين مواجهته شعرة واحدة، شعرة وتنكشف بشكلها أمامه، لولا صديقتها التي كانت گالمنقذ بالنسبة لها، واستمعت لصوتها من الخلف وهي تردف بـ :
- أهلًا يافندم، أساعدك إزاي ؟.
التفت إليها "حمزة" وسأل بجمودٍ :
- عايز أقابل أستاذ عناني، قوليله حمزة القرشي.
قد تعرفت عليه "حنان" منذ الوهله الأولى، وبدون الحاجة لأن يعرّف نفسه، فـ ابتسمت إليه بتملقٍ وهي تشير إليه ليتفضل في مكتبها :
- للأسف مش موجود، أتفضل ارتاح وأنا هتواصل معاه حالًا.
كان جافًا حادًا في ردّه عليها :
- مش عايز أتفضل، بلغيه إني سألت عليه وهبقى آجي مرة تانية.
التفتت رأسه نحو تلك الفتاة التي لم يراها، فلم يجد سوى الخواء، كأنها اختفت تمامًا دون أن تترك أثرًا، لم يدعو الأمر إلى ارتيابه - حاليًا - ، ومضى يشق طريقه للمغادرة من هنا، بعدما لم يؤتي ذلك بنتيجةٍ ترضيه.
—على جانب آخر—
لا تعلم كيف أتتها القوة لتفر من هناك، وفي لمح البصر، بدون أن يشعر بها أحدًا أو تترك علامة استفهام من خلفها. طارت "سُلاف" بسيارتها طيرًا، للتخلص من تواجدها بهذا المحيط بينما هو يتواجد به، وفي أحد الشوارع الهادئة توقفت قبل أن ترتكب حادث مُريع، بعد أن وصلت إلى تلك النوبة التي تنتابها مجددًا. وضعت يدها موضع قلبها، وهي تُجاهد جهادًا قاسيًا للتغلب على مُتلازمة صعوبة التنفس وانقباضة الصدر تلك. لحظات طويلة للغاية، قضتها للتغلب على تلك الحالة الوهنة التي تبغضها، حتى بدأت تستعيد حالتها الطبيعية رويدًا رويدًا. لاحظت إضاءة هاتفها الذي تركته على وضعية - صامت - منذ وقت، فـ تناولته وأجابت عليه :
- ألو.. كارثة، حمزة جه مكتب عناني.. لأ لأ مشافنيش.
تنهدت بشئ من الأريحية، ثم تابعت :
- ربنا أنقذني بمعجزة.. لأ خليك عندك، أنا اللي جيالك.. سلام.
تركت الهاتف جانبًا، وبدأت قيادة السيارة من جديد، وعقلها المضطرب يسعى إلى لملمة شتاتهِ. ماذا لو إنه رآها!.. هل كان سيتعرف عليها؟ ، هل كانت ستقوده ذاكرتهُ لتلك الليلة؟.. هل كان عقله سيدرك إنه يعرفها من مكانٍ ما؟. يبدو أن القدر قد أنقذها من كارثة كانت سـ تُبدد كل ما سعت إليه، وكأنه يمنحها الفرصة الأخيرة، كي تخطو تلك الخطوة المصيرية، التي ستغير كل شئ.
*************************************
لا تعلم كمّ مرّ عليها من الوقت وهي واقفة بمكانها هكذا، تتأمل طفلها النائم، والذي سبح في نومه دون أرقٍ أو انزعاج. لوهله أحست بمزيج من الخوف والقلق بشأنه، خاصة وإن كان هو الوسيلة الأساسية التي تعتمد عليها في خطتها اللعينة؛ لكنها مجبرة على ذلك بكل الأحوال، حتى تأتي الخطة بثمارها. أطبقت "سُلاف" جفنيها، وشردت للحظة، لو إنها في ظروف أخرى، لو إنها تنعم بحياة طبيعية للغاية. تخرج مع زوجها وأطفالهم للتنزه أسبوعيًا، وبين كل حينٍ وآخر تغادر العاصمة وتسافر لأي بقعة من بقاع الأرض، للتغيير من كآبه الجو وملل الروتين المعتاد، تذهب للنادي وتتابع جيدًا دروس أبنائها في المجالات الرياضية المختلفة من سباحة وملاكمة.. إلى آخره. فتحت "سُلاف" عيناه لتسقط عبرة مقهورة لم تشعر بها، وهي تحس بصدرها گكتلة متوقدة من فرط الغضب، لقد حُكم عليها أن تعيش حياة تعيسة گهذه، بينما جلّادها يعيش وينعم هانئًا هادئًا. مدت طرف سبابتها لتمسح تلك الدمعة، لتسمع بعدها صوت "مصطفى" :
- سُلاف ؟.
برعت في إخفاء تلك التعابير التي أغرقت وجهها، والتفتت إليه تسأله :
- أيوة ياعمي.
قاد المقعد المتحرك نحوها، وعيناه تدرس بدقةٍ ما تواريه :
- مالك؟؟ شكلك متغير؟.
بطرفيها كانت ترمى نظرة نحو الصغير، ثم أردفت بصوت لم يخلو من الحزن :
- مش عايزة أدخل زين في اللي هيحصل!.. هو ضحية زيي بالظبط.
- وعشان هو ضحية فرض عليكي تجيبي حقه لأنك أمه.
التمعت عيناها بلمعةٍ مذعورة، وأفضت عما يجول بصدرها من مخاوفٍ تُعذب روحها :
- ولو آذاني فيه؟.. لو فكر ياخده مني؟.
تضرجت بشرتهِ بـ حُمرة منفعلة، وتطايرت شرارات الغضب المكتوم من عينيه وهو يتوعدهُ وعيدًا صارمًا :
- ورحمة إسماعيل ما هخليه يشوف نور الشمس تاني هو وأبوه وكل عيلته، أنا مصبرتش ٢٤ سنة عشان في الآخر ياخد مني انتقام تاني.
قبض على معصمها، شدد عليه دون الرغبة بإيلامها، وذكّرها بكل ما عايشوه، حتى تحين هذه اللحظة :
- سُلاف، أنتي تقدري تعملي كل اتفقنا عليه، أنتي أقوى واحدة فينا دلوقتي يابنتي.. فاهمة؟.
تسلحت بالغضب، أقوى أسلحتها شراسة وقوة، فـ كلما غضبت، كلما أعدّت لهم ما لا يتوقعون. ستضرب بلا هوادة، وتقتلع حصونهم المنيعة التي استغرق بنائها أعوامٍ، ستجتث آثارها في لحظة.
**************************************
- وبعدين؟.
كان ذلك سؤال "راغب" لـ "حمزة"، أثناء حمل أثقال الحديد بالنادي الرياضي. رفع "حمزة" خمسة عشر كيلو بذراع واحدة وبدأ يرفع لأعلى ثم يهبط به من جديد، وهتف بشئ من الرعونة :
- يخلص الفرح على خير وبعدها هشوف هعمل إيه معاه!!.. مش كل قضية أمسكها أتفاجئ إن عناني هو محامي الخِصم فيها! ولا حد من مكتبه!!.. دي مش صدفة أبدًا.
ترك الحديد وتابع بحدةٍ منفعلة :
- ده حاططني في دماغه!.. وأنا بقى هزعله آخر زعل، حظه إني مش فايق اليومين دول.
مسح "راغب" عرقهِ المفرط بالمنشفة، ثم عرض عليه :
- سيبهولي وركز في فرحك، أنا هشوفلك آخره إيه.
ثم غمز له بعدما لكزهُ بيمينه :
- دي الليلة الكبيرة بكرة والنهاردة هنودع العزوبية يازوم.
لاحت ابتسامة مغترة على محياه، ومشى بإتجاه (المشاية الكهربائية) يهتف بتباهٍ :
- عزوبية إيه ياراغب!!.. ده احنا عيشناها طول وعرض، مش عارف ليه الإنسان العاقل يسجن نفسه بنفسه ويتجوز!.. لولا أسما هانم وصلاح بيه مكنتش خدت خطوة زي دي وبعت حريتي بإيدي.
شغل اللعبة ليبدأ بالمشي عليها، وبدأ يُزيد من السرعة تدريجيًا، حينما كان "راغب يتابع حواره معه :
- أفهم من كده إنك خلاص تُبت إلى الله؟.
قطب "حمزة" جبينه مستنكرًا، ونفى عن نفسه تهمة گتلك :
- أكيد لأ، أنا بس واخد أجازة قصيرة من الملاعب.. وهرجع أول ما شهر العسل يخلص.
وقف "راغب" قبالته، وسأله متشوقًا :
- خلاص رايح باريس زي ما قولتلي؟.
- آها، ميان اختارت وانا وافقت.
نفخ "راغب" بإنزعاج، وبدا وجهه محتقنًا وهو يشكي مأساته :
- ده أبوك الحج صلاح هينفخني على كده.. ما كنت تاخدني مكتبك ياعم زي ما خدت نضال!.. ده الشغل ما أبوك يكفّر الواحد بالأمانة يعني.
جلجلت ضحكة "حمزة" لوصف رفيقه عن العمل مع "صلاح" :
- ده ابو صلاح ده سكرة، أنت بس ريحه وهو مش هيكلمك.. وبعدين الصبر حلو، مكنش ينفع آخدك انت ونضال مع بعض، هيقول عليا بسرق الموظفين منه.. خصوصًا انت، مكانتك عند أبويا غير أي حد.
تلوت شفتي "راغب" بإستهجانٍ، وأيّد رأي "حمزة" بشدة :
- طبعًا، هيلاقي فين واحد زيي يسلك في الحديد!.
وتحرك لينصرف من أمامه وهو يغمغم :
- ربنا يهديك عليا ياصلاح.
************************************
قضت يومان من أجمل ما يكون، تجهيزات العرس وحفل توديع العزوبية وكل تلك التفاصيل الأخاذة، كلها أشياء بعثت على روحها البهجة، لا سيما إنها ستجتمع بذلك الرجل الذي تُحبه، وقد ظنت نفسها أكثر الفتيات حظًا به. منذ بداية اليوم وهي في حالٍ مبتهج، تحسب الدقائق واللحظات حتى تنتهي خبيرة التجميل من تجهيزها، فـ تطل على هيئتها گعروسٍ ستخطف الأنظار وتُبهرها. وضعت "سوزان" التاج الضخم على رأسها وثبتته جيدًا، ثم سحبت جناحيّ طرحتها الطويلة لتبقى على أكتافها، ونظرت من بُعد عليها. لاحظت إنطفاء تلك الوجنه قليلًا، فـ سحبت الفرشاة وبدأت تضع تلك اللمسة الذهبية اللامعة من جديد، وفي النهاية هتفت بـ :
- قمر ياميان، قمر.
ابتعدت عنها وأتت بالمرآة لتجعلها ترى نفسها، فـ تلألأت عينا "ميان" بإنبهارٍ وإعجاب، وتضاعفت حماستها لأن يراها "حمزة" الآن :
- حلو أوي أوي ياسوزي، تسلم إيدك بجد!.
ساعدتها "سوزان" لتقف عن جلستها، وحملت ثقل الفستان الضخم لتضعه على الأرض وهي تقول :
- خلينا نشوف الإطلالة كلها عاملة إزاي.
طرقات على الباب أعقبها دخول مفاجئ، أغلقت "أسما" الباب من خلفها والتفتت تنظر إليها بتدقيقٍ شديد، فـ انبعجت شفتيها بإبتسامةٍ راضية وهي تُثني على مجهود "سوزان" :
- شاطرة ياسوزي.
ثم دنت منها ببطء وهي ترفع ذيل فستانها الأخضر :
- ألف مبروك ياروحـي، طالعة زي القمر.
فـ ابتسمت "ميان" بوداعةٍ وهي تعاود النظر للمرآة :
- ميرسي ياطنط.. هو حمزة لسه موصلش؟.
سحبت "أسما" طرف الطرحة ووضعته على كتفها، وهي تجيب على سؤالها :
- حمزة تحت مع المُصور، هيخلص معاه وييجي ياخدك عشان جلسة التصوير بتاعتكم.
ثم نظرت لـ "سوزان" و :
- سيبينا شوية ياسوزي.
- أمرك ياأسما هانم.
خرجت "سوزان" تاركة إليهم مساحة من الخصوصية، فـ أجلستها "أسما" أولًا قبل أن تجلس، ووضعت ذلك القناع المبتسم المتكلف على وجهها وهي تبدأ حوارها :
- أسمعيني كويس ياميان، اللي هقوله ده لمصلحتك ومصلحة حمزة كمان.
أومأت "ميان" رأسها بتفهمٍ :
- سمعاكي ياطنط.
************************************
أخرج "حمزة" يدهِ من جيبه، نظر لساعة اليد الفضية الأنيقة، ثم نظر من حولهِ بنظراتٍ خاطفة. كل شئ على أكمل وجه، تراص المدعوين على طاولتهم، حضر الشيخ الذي سيعقد القران وينتظر اللحظة المناسبة، المصوريين على أهبة الإستعداد لبداية الحفل، فريق من الشباب يقومون بخدمة المدعوين لتقديم مشروبات متنوعة، وفي الخلفية كان الأضواء الساحرة تغمر الحديقة الفسيحة المُقام بها الحفل، والموسيقى الراقية تُضفي بدورها رونقًا ناعمًا هادئًا على المحيط.
مسح "حمزة" على شعيرات ذقنه الخفيفة، والتفت ينظر لصاحب الكف الذي حطّ على كتفهِ، ليجد "نضال" قد أتى أيضًا :
- مـبروك ياحـمزة، أنا فرحان من قلبي إنك قررت تعقل وتقبل بالسجن الأبدي ده.
ضحك "حمزة" وهو يعانقه قائلًا :
- ربنا يسامحك، النهاردة عندي وبكرة عندك يانضال.
تأمل" نضال" هيئته الجذابة، جذابة جـدًا، وعلق على ذلك :
- شيك شيك شيك.. بس ليه القميص كمان أسود؟.
فأمسك "حمزة" بـ (بيبونة) العنق :
- ما الفيونكة بيضا أهي!.
نظر "نضال" من حوله قبل أن يضحك و :
- بس متقولش عليها فيونكة!.. ميان هتفتحلك دروس اتيكيت وانتقاء ألفاظ دلوقتي.
وقعت عيناه على "راغب"، وهو يُلاطف إحداهن، فـ أشار نحوه و :
- صاحبنا ميعرفش يقف فاضي أبدًا.
نظر "حمزة" بإتجاهه :
- سيبه يعيش يومه، أنا أصلي حذرته ميجيبش حد من معارفه هنا ، ده برضو فرح بنت شاكر الألفي.. يعني الصحافة كلها والإعلام كله معانا هنا.
نظر "حمزة" في ساعته من جديد، ثم تحرك بوقارٍ :
- هطلع أشوف ميان عشان كتب الكتاب.
-على جانب آخر-
جلست بداخل السيارة، تنتظر اللحظة المناسبة ، التي ستظهر فيها بين المدعوين بالداخل، داخلها يرتجف گطفلٍ يصارع ليالي البرد القارص، بينما هي گـ كومة من حريقٍ تفشّت روائحهِ بالأرجاء. نظرت لطفلها الذي ألبستهُ حُلة أنيقة، ثم ابتسمت وهي تقول :
- جاهز يازين؟؟.
ثم نظرت لهاتفها منتظرة تلك المكالمة التي ستتحرك بناء عليها. حتى وصلتها رسالة :
"دلـوقتـي".
استعدت "سُلاف" للترجل عن سيارتها، بعدما حملت طفلها في حُضنها، هبطت بتروٍ مُقيدة بحذاء القدم الأسود العالي، مرتدية فُستان أحمر مخملي، يليق تمامًا بقوامها الممشوق، وأكتافها وذراعيها يُغطيهم طبقة حمراء شفافة، وقد تركت فتحة طويلة بطول الساق لتنكشف ساقها البيضاء الرفيعة.
سارت نحو بوابة "القصر الملكي المُقام به الحفل"، حتى التقيت بفريق من الشباب أمام الباب، وسألتهم :
- جاهزين؟.
فأجاب أحدهم، ممن يمسكون بكاميرا تصوير كبيرة :
- جاهزين ياسُلاف، أنتي جاهزة ؟؟.
ثم أشار برأسه للطفل :
- آخر كلام هتدخلي بالولد؟.
فأومأت رأسها بثقةٍ شامخة :
- آه.
سارت بإتجاه البوابة وخلفها فريق المصورين والصحفيين ممن سيغطون الحدث، استوقفها أحد أفراد الأمن متسائلًا :
- أهلًا يافندم، معاكي بطاقة دعوة؟.
ابتسمت بلطافة، فـ تضاعف جمالها الأخاذ وهي تجيبه :
- معايا، ممكن تخرجها من شنطتي لأن معايا طفل؟.
ابتسم فرد الأمن متأثرًا برقتها، وتناول عنها الرضيع "زين" وهو يردف بـ :
- ممكن آخد الولد أفضل، وحضرتك تخرجيها براحتك.
ابتسمت بعذوبةٍ وهي تُخرج بطاقة الدعوة من حقيبتها الصغيرة، ناولته إياها فنظر إليها بدون اهتمام، فقط تأكد إنها تمتلك دعوة لحضور الزفاف، ثم أفسح لها الطريق :
- اتفضلي حضرتك.
وفي الأخير ترك إليها طفلها لتدخل به.
لم تسحرها بهجة الأجواء، لكنها حطّت على جرحها گمادة قوية الإشتعال. دلفت وهي تنظر من حولها بنظراتٍ دارسة، هنا وهناك، وأعلى وأسفل، هي تحفظ المكان جيدًا، وقد حضرت إليه أكثر من مرة، لكنها أرادت التأكد من أن كل شئ سيتم كما ينبغي أن يكون. بقيت بعيدة عن مركز بصر "حمزة"، الذي رافق عروسهِ وهبط بها الدرج في مشهد ملكي عظيم، والجميع ينظر إليهم بتحفزٍ منبهر، حتى وصل بها إلى منصة عقد القران، وجلس جوارها وقبالته والدها "شاكر الألفي". ابتسم "شاكر" وهو ينظر لـ "صلاح" وهنئهُ :
- مبروك ياصلاح.
ربت "صلاح" على ذراعه و :
- الله يبارك فيك ياباشا، ربنا يقدرنا ونسعد ميان ونبقى عيلة تانية ليها.
فتح الشيخ دفترهُ، وبدأ الحديث ببعض الآيات القرآنية والنصائح الإرشادية للعروسين، گبداية تمهيدية قبل البدء في عقد القران، وأثناء تركيز الجميع مع هذه اللحظة، وحرص الكثير على تخليد هذا المشهد، ظهرت هي من خلفه، تنظر إليه بنظراتٍ مريبة لم ينتبه لها، قبل أن تقتحم صفو مجلسهم بصوتها :
- حـمـزة؟!.
التفت نحو صوتها، وقطب جبينه بإستفهامٍ متسائل :
- أيوة؟.
كان وجهها جامدًا، تعابيرها غامضة، نظراتها تبث القلق والتوتر، وهي تسأله بصوت وصل لجميع من حوله :
- مش قبل ما تتجوز كنت تقول لعروستك إنك متجوز وعندك إبن؟!.
هبّ "صلاح" من مكانه واقفًا، بنفس اللحظة التي وقف فيها "حمزة" عن مكانه مشدوهًا مذهولًا، علت الأصوات من حولهم، وبقى "حمزة" كالذي أصابته صدمة أفقدته النطق، فـ صاح "صلاح" بها متسائلًا :
- بتقولي إيه يابت انتي؟؟.
التفتت رأس "سُلاف" لتنظر إلى عدوها اللدود، حدقت في عيناه المخيفة، وقالت بثباتٍ لم يهتز :
- إبنك متجوزني عرفي، وأنا جايه النهاردة عشان يعترف بإبنه وبيا قدام الناس كلها.
نهض "شاكر" عن مكانه غير مصدقًا ما يحدث :
- في إيـه الحكاية دي ياصلاح، ما تقول حاجه؟.
فأجابه "صلاح" على الفور :
- مفيش حاجه من دي ياشاكر، دي شكلها مزقوق علينا.
لم يتوانى المصورين والصحفيين عن تخليد تلك اللحظة لتصعيد الأمر وترويجهُ، بينما الجميع يتهامسون حول الفضيحة التي استثارت، وبين كل ذلك انتبه "حمزة" للتو واستعاد إدراكه الذي توقف للحظات، قبض على رسغها، وبقوةٍ مؤلمة غرز أصابعهٍ في لحمها وهو يصرخ في وجهها :
- أنتي بتـقولي إيــه يامـجنونة انتي!!.. أنا اتجوزتك ومخلف منك؟؟ أنتــي!.
تحاملت على نفسها لتحمل الألم، ووضعت رضيعها برفق بين ذراعيه وهي تقول :
- متحاولش تنكر، خلاص مبقاش ينفع الموضوع يستخبى أكتر من كده.
بدأت الدموع تنسال من بين عيني العروس الجميلة، ووقفت عن جلستها هي الأخرى متسائلة بنبرةٍ حزينة :
- صحيح الكلام ده ياحمزة؟.
فـ نفى عن نفسه ذلك وهو يصيح بـ :
- محصلش ، أنا أول مرة أشوفها في حياتي.
ثم نطر نحوها متوعدًا إياها :
- ده أنا هوديكي في ستين داهية.
وأعاد إليها الرضيع بشئ من الإنفعال، حتى كاد يسقط منها، فـ تشبثت فيه بقوةٍ وقد اتقدت عيناها بالشر، خاصة بعدما انهار "زين" باكيًا، فـ صاحت في وجهه بإنفعالٍ شديد :
- أنا اللي هوديك في داهية وهقاضيك كمان.
أخرجت ورقة الزواج العرفي من حقيبتها، وفتحتها أمام عينيه وهي تقول :
- ورقة الجواز أهي، بتوقيعك وتوقيعي، وزين يبقى إبني وإبنك.. دي حقيقة مش هتقدر تهرب منها، ولو مش مصدق، نعمل تحليل DNA.
تعليقات
إرسال تعليق