expr:class='data:blog.languageDirection' expr:data-id='data:blog.blogId'>

نعيمي وجحيمها الفصل الحادي والاربعون حتي الفصل الخامس والاربعون بقلم أمل نصر بنت الجنوب

 

نعيمي وجحيمها

الفصل الحادي والاربعون حتي الفصل الخامس والاربعون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 


الفصل الحادي والأربعون 


 الدنيا هديت جوا ومحدش بقى سامع لهم صوت.

تفوهت بها سمية وهي تخاطب رقية بترقب، مع إنصاتهم لأصوات الشجار التي تصل إليهم من غرفة خالد ومعه زهرة الاَن، ردت رقية بقلق :

- يعني خلاص اتصالحوا على كدة؟

أجابتها صفية :

- محدش عارف يا ستي، لكن مدام الصوت هدي، يبقى اكيد بيتفاهموا، لكن انتِ ماتعرفين سبب الخناقة إيه بقى؟

ردت رقية بحزن :

- حتى لو عارفة إيه فايدة الكلام، مدام صاحب المشكلة شايف إن معاه الحق، وهو فعلًا معاه الحق، لكنه أكيد مش شايف الصورة كاملة .

ربتت سمية على ركبة رقية بتهوين لتقول وهي ترى حجم الحزن البادي على وجه المرأة العجوز:

- أكيد مهما حصل مابينهم لازم يتصالحوا ويتصافوا، دا الاتنين روحهم في بعض.

تمتمت رقية بالدعاء من قلبها حتى يمر الأمر على خير بين ابنها وحفيدتها حتى رفعت رأسها على قول صفية:

- بس دي أول مرة أشوف فيها خالي خالد بالهيئة الصعبة دي، وفي حياتي كلها ما سمعت زعيقه على زهرة بالشكل ده، عندي إحساس إن الموضوع كبير أوي مابينهم.

أومأت رقية رأسها بأسى، فهي تعلم تمام العلم بصحة ماتقوله صفية لما رأته من غضب واضح على وجه ابنها منذ ايام، وبعد أن ذكر لها عن زيارته لسمسار النحس، وحاول بكل إلحاح بعدها أن يوقعها أو يأخذ منها معلومات، ولكنها كانت تدعي دائما عدم المعرفة، وبداخلها تعلم تمام العلم أنه لا يصدقها، إذن وهو الاَن معها، ماذا أخبرته؟ وكيف كان ردها عليه؟

                       

  ❈-❈-❈ 


وفي داخل الغرفة كان الوضع هادئ بينهم بشكل غريب، هو بوقفته مستندًا بظهره على الحائط بجوار النافذة الخشبية، يستمع لها بإنصات وهي تردف وتحكي له عن ماحدث من سرقة أباها لأمواله المرسلة من الخارج، وأبتزازها من قبل فهمي بائع البرشام كي تقبل بالزواج منه حتى يرد لها الأموال التي أخذها من أبيها، ثم لقاءها بهذا السمسار في مكتبه ومحاولاته الدنيئة لاستغلالها والتحرش بها ثم انقاذ جاسر لها برفقة حارسه حتى إغماءتها من مشهد ضرب الحارس لهذا السمسار، وإفاقتها بعد ذلك في منزل جاسر الذي عرض عليها الزواج بعد سداده ألأقساط المتبقية من الشقة.


- بس هو دا كل اللي حصل يا خالي، يعني مستغلنيش لا بالعكس، دا أجبرني بكرمه إني احترمه وافكر في عرضه. 

كانت هذه اَخر جملة قالتها وهي تنهض من مقعدها، بلهجة يكتنفها قلقٌ ازداد مع كلمته المقتضبة:

- أجبرك !

قالها وتوجه للنظر من النافذة للخارج، إرتابت هي من كلمته لتُردف دون تفكير على الفور في محاولة للتصحيح :

- مش قصدي غصب، لأ هو يعني زي ما تقول كدة أحرجني بزوقه أو ااا يا خالي إنت ما فاهمني بقى 

إلتف إليها عائدًا فجأة مرددًا خلفها :

- فاهمك! تصدقي دا كان اعتقادي فعلًا في السابق يا عيون خالك، لكن دلوقتي أبقى عبيط لو قولت كدة.

هتفت بغصة موجعة من الحزن البادي على صفحة وجهه كصدمة وخيبة أمل فيها:

- ما تقولش كدة يا خالي أبوس إيدك، أنا اياميها كنت متلخبطة والدنيا بتقلب وتحط عليا، جاسر هو اللي خد بإيدي وطمن قلبي من كل خوفي ناحيته، واديك شوفت بنفسك العمايل اللي بيعملها عشاني.

أومأ يمط بشفتيه ليفاجأها بقوله:

- اَه صحيح دا كفاية اللي عمله مع ابوكي، ولا اللي عمله النهاردة كمان عشانك وجعل قصة حبكم ترند ع السوشيال ميديا والعيال المراهقين ياخدوها كنموذج، عن الباشا اللي حب البنت الفقيرة، بصراحة لو قولت في حقه ولو نص كلمة ابقى راجل ناقص، بقى يدفعلي اقساط الشقة وبعدها يبقالي عين اكلمه أساسًا، دي إيه البجاحة دي؟

غامت عيناها بالدموع مع الشحوب الذي غطى وجهها، وقد علمت من خلف سخرية كلماته مرارة ما يكنه الاَن بداخله، فقالت برجاء:

- بلاش دا يبقى تفكيرك فيا يا خالي، دا انا تربيتك، وحافظني زي ما انت حافظ خطوط كف إيدك 

- يا شيخة!

قالها وأكمل بحدة:

- يعنى انتِ زعلانة عشان فكرتي اتغيرت عنك، وانا مش حقي أزعل لما غفلتيني وخبيتي عني موضوع الشقة واللي حصل.

توقف قليلًا ثم تابع بلهجة لائمة تنبع من ألمه:

- انتِ خبيتي عشان صعبت عليكِ يا زهرة صح؟ صعب عليكِ خالك اللي راح اتغرب في بلاد الله وساب اتنين ولايا من غيره، بعد ما عدى الستة والتلاتين من غير جواز، ينصدم لما يعرف باللي حصل لما الشقة تروح منه ومعاها حب عمره كمان .

أسبلت بأهدابها وعيناها لا تقوى على مواجهته، لقد كشف بقراءة جيدة منه، كل ما كان يدور برأسها بالفعل، وهذا ما زاد من وجعها عليه، وانشق قلبها أضعاف حينما صدر صوته ببحة خرجت من عمق كرامته المجروحة:

- بس لا يا بنت اختي، مش انا اللي اقبلها ولو على موتي حتى، مش جواز ولا خسارة لحب عمري. 

رفعت عيناها إليه بتساؤل لتجده فجأة، تحرك نحو خزانة ملابسه ليعود إليها سريعًا يتناول كفها ويضع بها ورقة كبيرة، من نظرة واحدة علمت ما بها، فهتف بارتياع:

- إيه ده يا خالي؟ انت ازاي تعمل كدة؟

ناظرها يرد بشراسة:

- ليه كنت عايزاني اخد إذن منك الأول؟ ولا فاكراني ما هصدق واعمل نفسي مش واخد بالي، ولا ابوس إيدي بقى وش وضهر على حسنة جاسر باشا عليا وعلى أهلي.

هتفت وصوتها يخرج بانهيار:

- وطب وشقى عمرك في الفلوس اللي سددت نص تمن الشقة بيها، ما صعبش عليك دا كمان؟ وانت بتروح وتسجلها بإسمي 

اعتلي ثغره بابتسامة جانبية يقول:

- ما انا خسرت قبلها نص عمري معاكِ، هاتيجي ع الفلوس ياللا بجملت.

هنا إنهيارها وصل لاَخره، فسقطت على الأرض تبكي بحرقة تناديه للتراجع بكلمات غير مترابطة مع شهقاتها 

العالية، في مشهد اخترق صدره كنصال حادة تغرز فيه، ولكنه ربط على قلبه مستمرًا على موقفه، وقام بفتح باب غرفته يهتف مناديًا على سمية وابنتها صفية لرؤيتها. 


❈-❈-❈ 


- كتب كتاب!

هتفت بها بعدم تصديق أو استيعاب، أو رفض شعر به هو من علامات الإندهاش التي ارتسمت على ملامح وجهها فجأة، وتابعت :

- ازاي يعني؟ كدة خبط لزق من قراية الفاتحة لكتب كتاب على طول؟

اعتدل كارم في جلسته ناحيتها رافعًا حاجبًا واحدًا أمامها، وجاء الرد من أبيها الذي شعر بالحرج، يخاطبها بنظراتِ تحذيرية لتنتبه:

- خبط لزق إيه بس يا كاميليا؟ خلي بالك يابنتي من كلامك، كارم راجل محترم وثقة، وإنت عارفاه من زمان من شغلك معاه، ولا إيه بس؟

وصلها مقصد أبيها فقالت بدفاعية:

- اانا ماقولتش حاجة عنه ولا غلطت فيه، انا بس مستغربة ع السرعة.

تحدث هو يقول بهدوء:

- انا شرحت لعمي أسباب قراري، انا وانتي ناضجين كفاية، يعني مش كتب الكتاب اللي ممكن يسبب ما بينا مشاكل في فترة مهمة زي الخطوبة، دا غير أني هاعمل حفلة كبيرة وهاعزم ناس ورتب مهمة من عيلة والدي.

- مهمين ولا مش مهمين انا مالي؟ 

قالتها بحدة أجفلته أمام والدها الذي هتف باسمها:

- كاميليا.

استدركت فقالت بحرج:

- يا بابا افهمني أنا بتكلم عن اتخاذه لقرار مهم زي ده كدة فجأة، وبدون علمي .

هم أن يرد والدها ولكن توقف على قول كارم:

- معلش يا عمي ممكن تسيبنا لوحدنا .

تطلع صابر إليهم قليلًا بتردد ثم نهض مستئذنًا للإنصراف وتركهم، فبقيت هي معه وحدها، تتحاشى النظر بعيناه التي تناظرها بحدة، وفاجئها بقوله:

- قلقانة ليه من كتب الكتاب؟ ولا يكون بتفكري تغيري رأيك يا كاميليا ؟

اشتعلت عيناها لترد بتحدي:

- انا لما بقرر مش بستنى افكر يا أستاذ كارم، يعني لو في دماغي أغير رأيي مكنتش هاوافق بيك من الأول.

- أمال خايفة من كتب الكتاب ليه؟

سألها بهدوء ليزيد من غضبها:

- هو انت كل اللي عليك خايفة خايفة، إيه اللي يخوفني انا منك ها؟ لا كتب كتاب ولا ألف ورقة حتى، تقدر تمنعني ساعة ما اقرر ولا اكتب كلمة النهاية.

صمت قليلًا هو، أمام هذه الشراسة التي تصدر منها بصخب، يتأملها باستمتاع، فبرغم عنف كلماتها معه، لكنها لا تدري بكم المشاعر التي تحييها بداخله مرة أخرى، لتعيده لحلبة الصراع والتحدي من جديد؟!

- إنت سرحت في إيه ما تتكلم؟

قطعت شروده بقولها، ورد هو :

- تمام يا ست كاميليا، إنتِ قولتيها بنفسك إن ما فيش حاجة تقدر توقفك لو حبيتي تنهي الحكاية، وأنا بقى هاجيبلك من الاَخر، بصراحة كدة، انا عايز بكتب الكتاب اقطع السكة عن أي حد يحاول يقربلك وانت فاهماني

هتفت بغضب ضاربة بكف يدها على ذراع المقعد بجوارها:

- تاني هاتكلمني عن فلان ولا علان، ما قولتلك الموضوع عندي انا، ولا حضرتك شايفني عيلة صغيرة، ولا شخصية تافهة اتأثر بأي كلام يتقالي؟ 

على صوته يرد بصيحة لها:

- ومدام الموضوع عندك انتِ، قلقانة من إيه بقى؟ 

همت لترد ولكنه منعها ليُكمل بنبرة أهدى قليلًا:

- عارف كل الكلام اللي بتقوليه، بس انا برضوا بكلمك من منطق قوتك اللي انتي بتصرخي بيها دلوقت، الخطوبة هاتبقى ما بينا بكتب الكتاب، على ما اخلص تشطيب الفيلا بتاعتنا، دا طلبي منك، دا لو انتِ واثقة في نفسك؟ واظن يعني انك فهمتي كويس اخلاق الناس اللي انت شغالة معاها.


❈-❈-❈ 


- فتحت باب السيارة لتلج بداخلها ثم قامت بصفقه بعنف مرددة بتأفف:

- أووف يا ساتر .

ردت الأخرى وهي تتحرك بالسيارة التي تقودها:

- ليه كدة بس؟ هو انتِ لدرجادي مخنوقة. 

- مخنوقة بس! دا انا هطق من القرف. 

قالتها بصرخة أجفلت ميرفت التي خاطبتها بدهشة:

- وطي صوتك شوية يا ميري، احنا في العربية يعني أي أحد حد هايسمع صرختك دي .

عاندتها الأخرى بقولها:

- وما يسمعوا ولا يتفلقوا حتى هو انا هايهمني رأي الناس دي كمان مش كفاية اللي انا فيه.

- إيه هو اللي انتِ فيه بقى؟

سألتها ميرفت وهي تحيد بنظرها عن الطريق إليها، فقالت الأخرى تحكي شكوها:

- الزفت اللي اسمه مارو بقى قارفني وواقفلي ع الوحدة، روحتي فين؟ خرجتي ليه من غيري؟ بتتكلمي مع مين في الفون الوقت دا كله عشان يديني مشغول؟

التفت إليها تسألها:

- بيسألك ويقرر فيكِ ليه دا كمان؟ هو ليه إيه عندك أساسًا؟

لوت ثغرها ميري تجيبها بابتسامة سمجة:

- الباشا عايشيلي في دور الحبيب !

- إيييه؟

قالتها ميرفت لتنطلق في نوبة من الضحك الهستيري، لتردف ميري بغيظ:

- بتضحكي ياروحي، أمال لو تشوفي معاملته ليا ولا غيرته من أي حد يكلمني في النايت ولا النادي تقولي إيه؟ دا مقتنع إن اللي ما بينا قصة حب واَخرته الجواز. 

مسمعت ميرفت وازدادت ضحكاتها وهي تميل برأسها للخلف حتى تمكنت من القول تمازحها بتفكه:

- طب وأخرتها إيه بقى؟ هاتتجوزوا صح؟

- اتجوزوا دا إيه انتِ كمان؟ 

هتفت بها ميري وهي تدفع من يدها علبة السجائر على تبلوه السيارة أمامها، بعد أن أخرجت منها واحدة لها، وتابعت:

- اتجوزوا ازاي دا بعقله العيالي؟ هو ينفع معايا للفسح والقعدة الحلوة اَه، يسليني بدمه الخفيف او يرقص معايا في النايت نخربها او يعني....... انتِ فاهمة .

- فاهمة، فاهمة أوي كمان.

أردفت بها ميرفت بابتسامة خبيثة وغمزة من عيناها، وتابعت ميري بتفكير

- ولا والدي كمان، دا ممكن يخلص عليا لو عرف بعلاقتنا، خصوصًا وانا حاساه اليومين دول من معاملته الكويسة ليا، انه بيدبرلي حاجة كدة انا مش فاهماها. 

- ها يكون بيدبرلك إيه يعني؟

قالتها ميرفت بتساؤل قبل أن تتوسع عيناها بمرح تردف:

- يا نهار أبيض يا ميري، ليكون بيدبرلك جوازة جديدة ههههه دا ماروا هايقلب الدنيا .

افتغر فمها ميري ببلاهة مع قول الأخرى، ثم ضربت بكف يدها على جبهتها، تشعر بالدوار من مجرد التخيل.


❈-❈-❈ 


ولج لداخل الملهى الذي حرمه على نفسه منذ زواجه بها ، عيناه تجول في أرجاءه حتى وجده أمامه على مقعده القديم أمام رجل البار، يرتشف شرابه بشرود،

- إنت رجعت تاني للشرب يا طارق، دا انا مصدقت انك عقلت.

قالها جاسر وهو يجلس على المقعد المجاور له، فالتفت رأس الاَخر إليه يقول بسخرية:

- واعقل ليه بس واتعب نفسي؟ مدام كدة كدة ما فيش فايدة؟

تفهم جاسر حالته، فاقترب يربت على كتفه قائلًا بحزم:

- بلاش نبرة اليأس دي يا عم طارق، ماحدش عارف بكرة مكتوب فيه. 

تبسم يرد عليه بنبرة تقطر بالمرارة:

- ما انا خلاص عرفت وسلمت، هي حكمت ما تدخلني جنتها عشان شايفاني وحش وما استحقهاش، وانا بدفع تمن ذنوبي وحساباتي القديمة، يبقى انتظر إيه بقى؟ خلصت .

زفر جاسر بتعب، يمسح بكف يده على شعر رأسه للخلف، يكنتفه الحزن على حال صديقه وهو يعلم ويشعر بما يعانيه الاَن، وما أوصله لهذه الحالة، فقال وهو يستقيم بطوله ينهض عن كرسيه؛

- لا ما خلصتش يا طارق وقوم بقى من هنا وكفاية شرب.

حرك رأسه طارق باعتراض مرددًا:

- يا بني بقولك مافيش أمل، انا انكتب عليا اعيش بذنوبي واتحرمت عليا الجنة. 

ضاق ذرعًا جاسر بفعله، فلم يجد سوى جذبه بعنف يوقفه جبرًا، وهو يقول بحزم:

- فوق بقى واصحى لنفسك، الإحباط دا هو اللي هايأخرك بزيادة، إعقل يا طارق واصبر شوية، 

قال عبارته الأخيرة برجاء مس قلب الاَخر فترك الكأس التي بيده، واستطرد جاسر مستغلًا انصات الاَخر:

- إنت بنفسك قايلي عن شخصيتها العنَدية، اصبر وشوف اخرتها إيه؟ وارجع واقولك ما حدش عارف، بكرة مكتوب فيه إيه؟

أطبق ثغره طارق وبدي على وجهه الاقتناع، فتناول سترته ليدفع حساب النادل استعدادًا للذهاب، وتناول جاسر هاتفه ليهاتف زهرة، وقبل أن تجيبه وجد طارق يسأله بعتب:

- لكن الواد ده عرف منين بحكاية ابني من كلوديا؟

عقد حاحبيه جاسر يسأله بدهشة:

- قصدك كارم يعني؟ مش عارف أو مش فاكر صراحة، بس ممكن يكون عرف بالصدفة.

- صدفة إيه؟

سأله طارق وهم أن يجيبه جاسر ولكنه انتبه يرد على الصوت المتغير في الهاتف عن صوتها.

- الوو مين معايا؟...... كاميليا؟........ مالها زهرة يا كاميليا؟ ......... إيه طب انا جاي حالاً؟

انهى المكالمة وخرج سريعًا دون ان ينتظر طارق الذي اتبعه بالهتاف، بعد ارتيابه من هيئته المقلقة


❈-❈-❈ 


دثرتها وانضمت جوارها على الاَريكة التي كانت متكورة بجسدها عليها، لتنضم إليها وتحتضنها بقوة، مرددة بلهجة حانية:

- خلاص ياقلبي بقى إهدي، خالك لا يمكن يتخلى عنك ولا يسيبك.

عصرت زهرة بعيناها التي ذبلت من كثرة البكاء تقول بصوت بح من فرط نشجيها:

- أنا مش واجعني إنه اتخلى عني، انا موجوعة على وجعه، مكنتش اعرف انه هياخد الموضوع على كرامته كده، انا عارفة خالي لما يوصل للمرحلة دي يبقى جاب اَخره مني، بس انا غبية، انا غبية عشان ماقلتلوش، انا غبية.

- خلاص يا بنتي مش كدة يازهرة بقى هاتضيعي نفسك بجد .

هتفت بها كاميليا بحزم لتوقفها ولكن زهرة لم تسمعها، وهي مازالت تردد بهذيان:

- شوفتي بقى يا كاميليا، انا بخوفي وجبني عملت زي الدبة اللي قتلت صاحبها، مش عارفة عقلي كان فين ساعتها، هافضل كدة طول عمري ضعيفة وغبية، أو جبانة زي ما كانت غادة بتقولي زمان، أيوة أنا المتخلفة أزيت أقرب حد ليا في كرامته.....

صاحت عليها هذه المرة تقاطعها بغضب وتهزهزها لتفيقها:

- بس بقى هاتضيعي صحتك، ارحمي نفسك شوية يخرب عقلك .

- إيه اللي حصل يا كاميليا؟

صدرت من جاسر الذي ولج فجأة داخل المنزل، يخطو مهرولًا بقلق نحوهن ،  وصل إليهن لينضم بجوارها على الاَريكة من الناحية الأخرى،  وجذبها من ذراعها ليرفع رأسها إليه ليرى وجهها الذي تبدلت ملامحه بشكل يثير الشفقة، فهتف بارتياع:

- إيه اللي حصل معاها عشان توصل للحالة دي؟

تنهدت كاميليا بأسى وجاء الرد من زهرة التي اعتدلت فجأة أمامه لتخرج له من تحت الغطاء عقد تمليك الشقة التي سجلها خالد بإسمها، تناولها وتطلع بها سريعًا، فارتفعت عيناه إليها يناظرها بأسف مع تفهمه لحالتها، وجذبها إليه ليدفن رأسها بصدره وعادت هي لنوبة بكاءها الحارق، بنشيح مكتوم يمزق نياط قلبه تمزيقًا، فقال مخاطبة كاميليا:

- المجنون دا عمل كدة ليه؟ طب مش يسألنا الأول ويفهم مننا .

ردت كاميليا بحزن على حالتها:

- ماهي المشكلة انه عرف بنص الكلام، ولما ضغط عليها النهاردة، حكت له هي من طق طق لسلام عليكم ، فطلع لها العقد اللي كان مجهزه من وقت ما عرف، ودا اللي قهرها. 

- مجنون. 

قالها جاسر بعنف وغضب وذراعيه تشدد على زهرة التي تنتفض بشاهقاتها ودموعها أغرقت قميصه الأبيض، ثم ارتفعت رأسه نحو طارق الذي أتى خلفه بسيارته، يردد بخطواته السريعة نحوهم ببهو المنزل:

- إيه الأخبار يا جاسر؟ طمني.

اومأ له بعيناه غير قادرًا على الرد، أما كاميليا فتخشبت تجبر نفسها لعدم الإلتفاف برأسها للخلف بعد أن اخترق صوته أسماعها، وخاطبت جاسر بلهجة جعلتها عادية، لتهرب من مشاعر غريبة تنتابها الاَن بقدومه وتتزايد مع اقترابه منهم:

- بس احنا لازم حقيقي نلاقي حل لمشكلة خالد، اللي رمى تعبه وشقاه في لحظة تهور ودفاع عن كرامته، 

- ماله خالد؟

سأل طارق بدهشة مستغربًا ما يحدث أمامه وعيناه التي تنقلت بين ثلاثتهم توقفت عليها وهو يرى تعمدها بعدم النظر إليه؟ لتُجفله حينما نهضت فجأة تقول لجاسر، طب انا اعرف ان الخدامة مشيت، هاروح اسخن لها أي حاجة تاكلها، دي من الصبح على لقمة الفطار. 

القى جاسر نظرة حانقة على المدفون وجهها بصدره وقد هدأت قليلًا بحضنه، ثم ارتفعت رأسه إلى لكاميليا بامتنان قائلًا:

- متشكر أوي بجد، انا مش عارف أوفي جمايلك معايا ومعاها ازاي يا كاميليا؟

- جميل إيه بس يا جاسر باشا، دي اختي على فكرة .

قالتها بجدية صادقة ثم انصرفت على الفور، تاركة الأخر ينظر في أثرها بلهفة معذبة.


❈-❈-❈ 


- كنت قاسي معاها أوي يا خالد.

قالتها نوال بجلستها معه في أحد الكافيهات المعروفة، رمقها هو بنظرة مبهمة قبل أن يشيح بوجهها عنها متنهدًا بثقل، وتابعت بقولها:

- انا مصدقتش كاميليا لما قالتلي على حالتها، دي روحها فيك يا خالد، واللي بينك بينها أقوى من المعزة وأقوى من الأبوة حتى .

- أديكِ قولتيها بنفسك .

قالها مقاطعًا بحدة ثم أردف بنبرة أهدى من سابقتها:

- أكتر من أبوها وهي عارفة كدة، يبقى كان لازم تفكر شوية فيا وتعرف باللي يوجعني على حق، بيقولوا العتب على قد المحبة، وانا زعلي منها اتعدى العتب على قد صدمتي فيها. 

ردت في محاولة لأقناعه:

- هي فكرت بعواطفها لما خبت عنك، حبها الشديد ليك جعلها ماتخدتش بالها من اللي انت بتقوله ده، زهرة لا يمكن تقصد تقلل من كرامتك ولا عزة نفسك .

- كرامتي وعزة نفسي.

رددها بابتسامة ساخرة وهو يحرك رأسه بحركة غير مفهمومة، وأردف:

- كرامة ايه بس؟ وبنت اختي كانت ها تضيع ما بين واحد بيبتزها بالفلوس اللي اتسرقت عشان تتجوزه والتاني كان عايز يعتدي عليها في مكتبه والتالت اللي أنقذها منهم خد مكافأته بجوازه منها، لا ودفعلها اقساط شقة خالها اللي كان هاتضيع بسببه، ههههه

قبضت براحتها على كفه يده تحاول دعمه رغم حزنها على حالته، فكلماته التي تقطر بالمرارة كانت موجعة لها بقسوة، رفع عيناه إليها فقالت له بمهادنة:

- حاول تهون على نفسك شوية يا خالد، اللي انت بتعمله دا صعب أوي عليك وعليها، وراجع موقفك معاها شوية، 

نفى وهو يحرك رأسه لها :

- ما قدرش يا نوال، على قد حبي ليها كان قد الوجع، شوفي بقى احلها ازاي دي؟

صمتت تزيد من ضغطها على كفه، واستطرد هو :

- طب انا هاقولك على حاجة، طبعًا انا حاكيتلك قبل كدة عن ابشع حادثتين مرت بيهم زهرة، في المرة الأولى، انا كنت لسة صغير وكبرت لما شيلت مسؤليتها بعد وفاة والدتها اللي هي أختي، في المرة الثانية بقى كانت كبرت هي في رعايتي، ونشأ ما بينا الرابط العجيب ده، انا معرفش اسمه ايه بصراحة، بس اللي  فاكره كويس قوي، ان الزفت فهمي ساعة ما زنقها في بير السلم وكتم نفسها، انا سمعت همهمتها المكتومة في ودني وانا نايم في بيتنا اللي في الدور التالت، هاتصدقيها دي؟ ساعتها جريت نازل على السلم مفزوع ورجلي هي اللي حركتني لغاية عندها، وشوفتها بين إيديه ونفسها منحاش ومكتوم، سحبته منها وجريته من قفاه زي البهيمة ع الأرض، ما ارتحتش غير والدم بيشلب من كل حتة في جسمه. 


❈-❈-❈


أنهت تسخين الطعام في الفرن الكهربائي، لتضع اَخر الأطباق على الصنية، وفور أن همت برفعها تفاجأت به يخترق المطبخ الشاسع المساحة معها، بطوله المهيب، ورائحة عطره الطاغية التي غطت على رائحة المأكولات بيدها، وقال مخاطبها إياها:

- مافيش داعي توصليلها الأكل، هي خلاص نامت أساسًا. 

- نامت .

قالتها بإحباط وهي ترمي بفوطة المطبخ الصغيرة بيدها تردد:

- وسابها ازاي تنام كدة، دي شكلها تعبانة أوي .

تقدم بخطواته نحوها ويديه في جيبي بنطالة يقول :

- ماهي صعبت عليه، وماهنش عليه يصيحها بتقل رأسها على صدره، قالي بقى أبلغك، وهو هايفضل جمبها مش هايسبها. 

- تمام 

قالتها متنهدة بيأس، لتتناول في أطباق الطعام والفاكهة وتُعيد وضعهم في البراد أو ثلاجة الطعام، انشغلت بهم متحاشية النظر إليه، حتى ظنته خرج قبل أن تصطدم رأسها من الخلف فجأة بجسده الصلب، فالتفت مجفلة تهتف بشراسة نحوه:

- إنت أيه اللي جابك هنا؟

أجابها ببساطة وهو يميل أمامها بجسده ليتناول الطعام خلفها من فوق رخامة المطبخ:

- بساعدك يا كاميليا. 

فغر فاهاها بدهشة شديدة من جرأته، وهي تدري بوضعها في هذه المساحة الضيقة وقد انحسر جسدها بينه وبين المطبخ خلفها، هتفت بقوة تدعيها رغم اهتزاز صوتها:

- وسع كدة يا طارق وابعد عني، ولا انت قاصد ولا إيه؟

مال بوجهه نحو وجهها بابتسامة ساحرة يقول بلهجة عابثة:

- من غير إيه؟ أنا فعلا قاصد.... عشان اساعدك !

شهقت بصوت مكتوم مع زيادة قربه منها، وقلبها يضرب كطبول رقص أفريقية.فتوترها قد وصل لأقصاه، وصدرها يعلو ويهبط بسرعة متزايدة أمامه، فقالت بصوت جعلته حازمًا رغم اهتزازه:

- إبعد يا طارق أحسنلك، أنا مش عايزة صوتي يطلع ويبقى شكلنا وحش. 

ردد غير عابئ بغضبها:

- وهايبقى شكلنا وحش قدام مين بقى؟ جاسر اللي هو صاحبي وعارف بمشكلتي معاكِ، ولا زهرة اللي هي صاحبتك وبرضوا نفس الموضوع. 

صمت قليلًا يتناول ثمار الفاكهة بتمهل قاتل يكاد أن يقضي عليها، ثم أردف:

- ولا يكونش قصدك على خطيب الغفلة؟ عاملة حساب زعله لا يسيبك مثلًا؟ مع إني أشك دا لازقة بغِرا

بدأ الخوف داخلها يتحول إلى ارتياع حقيقي منه، فهيئته الغريبة وكلماته الأغرب إليها، تُظهر عدم اتزانه، وبغريزة دفاعية باغتته بدفعة قوية بكفيها ليرتد قليلًا، ولكنه بخطوة واحدة، عاد ليُحاصرها هذه المرة بين ذراعيه الذي استند بهم على قاعدة المطبخ خلفها، وقال:

- بتهربي ليه يا كاميليا؟ ما تواجهي ولو مرة واحدة في حياتك مخاوفك دي اللي مقيداكِ، ولا انت هاتفضلي طول عمرك كدة، صوت عالي وشخصية تبان شديدة وقوية، لكن من جوا هشة وضعيفة. 

هتفت بغضب انساها وضعها الخطر:

- إحترم نفسك يا استاذ انت، مش عشان فضلت واحد تاني عنك، يبقى ها تعيب في شخصيتي وتطلع القطط الفاطسة فيها، أوعى كدة بقى.

صاحت بالاَخيرة لتعيد المحاولة في دفعه، متجاهلة الغضب الذي انطلق بداخلة مع كلماتها، ليُشعل براكينه الخامدة نحوها، 

شهقت مجفلة على إمساكه لكفيها التي كانت تقاوم بهم، ولفهم لخلف جسدها الذي ضمه لصدره بقوة، هادرًا بعنف:

- طب عيني في عينك كدة وقولي الحق، بتحبيني ولا لأ يا كاميليا؟ قولي بقى وبطلي جبن؟

هتفت بشراسة تخفي جزعها منه وهي تحاول بكل قوتها أن تخلص نفسها من قبضته ،وتجاهد بصعوبة لمنع البكاء بين يديه .

- أنت بينك اتجننت ولا عقلك فوت، سيبني يا بني آدم انت بقولك. 

شدد عليها يقول بحرقة:

- وما اتجننش ليه ها؟ اللي يحب واحد زيك لازم تطير برج من عقله، ولا ياخدها من قاصرها ويدخل مستشفى المجانين برجليه أحسن.

زاد من ضمها رافعًا وجهها إليه حتى لا تتهرب بعيناها منه، ليزيد بداخلها الشعور بالخطر منه، وقد حطم كل حصونها، وأزاح عنها هذه القشرة الزائفة لقوة تدعيها أمام الجميع، نزعها ليضعها في نفس النقطة التي حاولت بكل طاقتها الهرب منها، ينتظر إجابة منها تحييه، ولا يعلم بما تحدثه فعلته الحمقاء بها، انهار جدار تماسكها وخرج صوتها على وشك الانهيار تخاطبه برجاء:

- سيبني يا طارق، ما تخلنيش أكرهك. 

وكأن دلوُا من الماء البارد سقط فوق رأسه ليفيقه، ارتخت ذراعيه عنها وتركها تفرك على رسغيها اَثار همجيته، ترمقه بنظرة تكاد أن ترديه قتيلًا لحزنها، فقال يخاطبها بأسى:

- أنا أسف يا كاميليا، مش عايزك تزعلي مني .

- مش عايزني أزعل منك؟!

رددتها خلفه ساخرة غاضبة، ثم قالت بخيبة أمل:

-  انت فعلا معندكش أخلاق. 

قالتها وخرجت مهرولة لخارج المنزل، لتتركه يعض أصابع الندم على تهوره معها.


❈-❈-❈


وصلت لسيارتها تندس بها سريعًا، لتطلق العنان لدموع احتجزتها بصعوبة في حضرته، يكفيها الذل برجاءها له حتى يفك ذراعيه عنها ويتركها، هذه المرة كانت قاسية، هذه المرة كانت قاضية، بعد أن ضغط بكل قوته على موطن ضعفها، لينزع منها اعتراف ترفض وبشدة حتى التفكير به، مسحت بدموعها سريعًا لتتناول هاتفها وقد قررت وحسمت أمرها، وما ان جاءها صوت المجيب على الإتصال حتى هتف سريعًا به :

- الوو.....  ايوة يا كارم، انا خلاص فكرت وقررت 


❈-❈-❈


رفع عنها الغطاء لينضم بجوارها في الفراش، وارتفعت كفه يده ليمررها على شعرها الحريري بحنان، يتطلع لوجهها الشاحب وخط الدموع السائلة لم تجف به بعد، تارك اَثره على ملامحها الجميلة، فدنى إليها ينثر قبلاته الرقيقة على كل إنش به ولكن بحذر حتى لا يوقظها، لا يصدق حتى الاَن انهيارها بهذا الشكل المريع، يُحمل نفسه الجزء الأكبر في الخطأ الذي حدث وسبب هذا التصدع في علاقتها مع أقرب الناس إليها؛ خالد والذي يعد بمثابة والدها الحقيقي، لقد خانه ذكائه هذه المرة في التعامل مع شخصية صعبة كخالد، رأسه الناشف كرأس الثور بعنده واعتزازه بكرامته، كان يجب عليه الحرص التام لعدم المساس بهذا الجزء الأغلى عندها، هو تصرف بطبيعته كرجل اعمال، يعشق الإنجاز  وتناسى أطباع البشر المختلفة مع اختلاف طبقاتهم، تنهد بإرهاق وتفكير عميق، فهذه المعضلة لابد لها من حل مرضي وسريع، والتعامل مع قضية شائكة كهذه يحتاج لذكاء شديد، هو بأشد الحاجة إليه الاَن، مع شعوره بعجز شل عقله عن التفكير، مع حزنه المضاعف لهذه الحالة التي وصلت إليها؟

الفصل الثاني والأربعون 


 تقلب في فراشه عدت مرات حتى بحثت يداه عنها، وشعر بخلو مكانها بجوارها، فاستيقظ يتطلع جيدًا حول الفراش، وجالت عينيه على باقي الغرفة ولم يجدها أيضًا، فانتفض يزيح عنه الغطاء وخرج ليبحث عنها في باقي الغرف وهو يهتف باسمها، اتاه صوتها من المطبخ ودلف إليها فتفاجأ بها جالسة وكمية كبيرة من الأطعمة أمامها على الطاولة، انعقد حاجبيه باستغراب وهو يخطو نحوها ويلقي التحية:

- صباح الفل، انتِ هنا وانا بدور عليكِ. 

ردت والطعام بفمها:

- صياح الورد، اعمل ايه بقى؟ قومت من النوم هلكانه من الجوع وببص في الساعة لقيتها أربعة الفجر كدة، بصراحة ماقدرتش استناك .

ابتسم إليها بحنان يقبل رأسها قبل أن ينضم ليجلس بجوارها قائلًا:

- بالهنا على قلبك يا حبيبتي.

اومأت له مغمغمة بالشكر بوجه مشرق رغم أثار شحوب الأمس، فتابع يسألها:

- عاملة إيه بقى النهاردة؟

أومأت تجيبه بابتسامة خبئت مع تذكرها لما حدث من خصام مع أعز أحبابها:

- الحمد لله، ادينا خليناها على الله وهو يسويها .

اقترب منها يضع قبلة عميقة على جبهتها، شاعرًا بألمها وما أصابها وقال ممازحًا ليخرجها من حالة الحزن التي عادت إليها مع تذكرها:

- بس انتِ امبارح كان شكلك مسخرة والنعمة .

- أنا يا جاسر؟

قالتها بخضة استغلها هو ليكمل بضحكاته:

- ايوة انتِ، وشك دا كان احمر جامد بلون الطماطم اللي قدامك دي. 

قالها هو واتسعت عيناها بانتباه وتوقفت عن مضغ الطعام بفمها، فزادت بداخله الحماسة ليردف وهو يشير بيديه:

- الانتفاخات بقى كانت منتشرة هنا وهناك وعينكي دي كدة مش قادرة تفتحيها ولا مناخيرك. 

- مالها مناخيري كمان؟

هتفت بها بأنفعال لم يخفى عليه فرد ضاحكًا :

- كبرت كدة فجأة وبقت ولا قد البطاطساية مش عارف ازاي؟

شهقت مخضوضة غاضبة تضربه بيديها على ذراعه تنهره:

- بس بقى، والنعمة هازعل منك بجد يا جاسر.

حاوطتها ذراعيه وهو يقهقه بالضحك منتشيًا بإخراجها عن طورها، وهي تقاومه باعتراض حتى قبلها على وجنتيها ليهمس بصوته الدافئ بجوار أذنها :

- بس برضوا كنتِ قمر، ما انا بعشقك في كل حالاتك يامجنونة انتِ، ولا انتِ مش واخدة بالك ولا إيه بس؟

هدأت حركتها وهي تذوب من كلماته الجميلة التي تخرجها من واقعها على الأرض، وتدخلها لبراح عالمه الجميل؛ عالم جاسر الريان الذي اخترق حصون قلبها وقرب المسافة بينهم وكأنه أتى إليها من مدن خيالها، وهي اللي لم تقتنع يوم بتحقق الأحلام. 

ختم بجملته الاَخيرًا يطمئنها:

- مش عايزك تقلقي أبدًا كل حاجة هاتمشي زي ما انت بتحبي وأكتر، خليك فاكرة .

قال الأخيرة وأعاد بوضع قبلة بصوت عالي على وجنتها قبل أن ينهض من جوارها يتمتم:

- اقوم انا بقى افوق كدة أصلي واخدلي شور كويس على ما يجي ميعاد الشغل، تكوني جهزتي انتِ كمان .

أوقفته بقولها:

- بس انا مش هقدر اروح معاك الشغل النهاردة يا جاسر.

تحركت شفتيه وهم ليعترض ويُجادلها ولكنها تابعت :

- مش عشان موضوع امبارح والله، بس بجد انا جسمي تعبان كله النهاردة، وحاسة نفسي عايزة أشبع نوم .

استجاب لها يرد بابتسامة عاشقة:

- زي ما تحبي ياستي، ريحي النهاردة، مديرك الغلس سامحلك بإجازة.

توسعت ابتسامة رائعة على ثغرها اسعدت قلبه وهي تتمتم بكلمات الإمتنان قبل أن تدعوه قائلة:

- طب ما تيجي تفطر معايا قبل بالمرة تفتح نفسي كدة وتشاركني.

ألقى نظرة نحو الطعام الموضوع أمامها فضحك بصوت عالي مرددًا بمرح:

- عايزني افطر ع الصبح بمحشي فراخ ومكرونة فرن؟ دا انا نفسي مستغرب أكلتك من ساعة ما قعدت بس طبعًا مديلك عذرك .

زامت شفتيها حانقة من كلماته قبل أن ترد وهي تتناول بفمها قطعة من المحشي :

- ماشي ياعم الرشيق، ياللي خايف على جسمك، انا بقى عاجبني الأكل المسبك والمحشي كمان، دا طعمه جميل ويجنن.

عاد بخطواته ومال بجسده نحوها مستندًا بكفه على طرف طاولة الطعام وقال بمشاكسة:

- يعني بذمتك مش خايفة لا تزيدي ولا تتخني؟ 

صمتت وتباطئ مضغ الطعام بفمها، تنظر إليه بشرود عن إجابة سؤاله، قبل أن تُجفله بوقفتها فجأة أمامه لتسأله:

- بصراحة بقى أنا عندي شك فعلا إن اكون تخنت، لكن أنت إيه رأيك ياجاسر؟

تخصر في وقفته يقيمها بنظرة متفحصة من أسفل عند أقدامها، ثم ترتفع أنظاره للأعلى ببطء حارق، وتتوقف على بعض الأماكن ، فينقل إليها ابتسامة خبيثة تزيد من توترها، وهي تهتف باستعجاله:

- ماتقول بقى يا جاسر وتطمني.

هزهز رأسها يرد بمرح :

- إنتِ عايزني اطمنك واقولك إيه بالظبط؟

- تقولي الحقيقة، إن كنت تختنت زي ما انا حاسة كدة ولا لأ؟

قالتها بسرعة ودون تفكير لتزيد من مرحه وازداد اتساع ابتسامته وهو يميل برأسه نحوها يسألها:

- والحقيقة بقى هي اللي هاتطمنك ولا هاتزيد من قلقك أكثر، وضحي عشان احدد إن كنت اقول ولا اصرف نظر.

وصلها مغزى كلماته فسقطت بجسدها على مقعدها تعاود الجلوس وتردد بإحباط:

- كدة فهمت، يبقى انا فعلًا تخنت.

قالتها وعيناها تسمرت نحوه بنظرة معبرة تترجاه لتكذيبها، كبح انطلاق ضحكاته حتى لا يغضبها، وصمت يقلب عيناه أمامها بابتسامة مستترة كإجابة عن السؤال، ليزداد بداخلها اليأس، فتابعت تسأله:

- بس انت بتحب الستات الرشيقة؟صح يا جاسر مش كدة؟

ظل صامتًا لبعض اللحظات مستمتعًا بمناكفتها وعبوس وجهها بشكل طفولي تطور  ليتخذ منحى للحزن ، فلم يطاوعه قلبه أكثر من ذلك، فاقترب يحاوطها براحتي كفيه على صدغيها يقول بحزمه المرح:

- يا مجنونة يا للي هاتجنيني معاكِ، إمتى بقى تفهمي، 

  قعدتي على وزنك ده عجباني، خسيتي وبقيتي رفيعة برضوا عجباني، أما بقى لو تختني؟.......

،- إيه؟

سألته بلهفة فاتفجأت بخطفه لقبلة قوية من شفتيها ثم قال بصوت صاخب بمشاعره:

- برضوا هاتفضلي عجباني ومجنناني كمان.


❈-❈-❈ 


صباح الفل يا ست الكل.

هتف بها فور أن وقعت عليه عيناها بوسط الصالة بعد خروجه من غرفته، فقابلته بعدم الرد وهي تُشيح بوجهها عنه للناحية الأخرى. زفر متنهدًا بتعب، يألمه هذا الجفاء الذي لم يعهده منها طوال سنوات عمره، ولديها حق ولكن هو أيضًا لديه حق؟!

تقرب منها يضمها ليضع قبلة كبيرة على أعلى رأسها، مشددًا بذراعيه ليمنع عنها مقاومتها واعتراضها، يردد بدلال اسمها:

- ما تبس بقى يا رورو واهدي كدة، لزوموا إيه الزعل دا كله بس؟

هتفت ترد عليه بحزنها:

- إنت عارف لزوموا إيه؟ عارف يا خالد ومُصر تتعب قلبي .

أغمض عيناه بتعب وفك ذراعيه ليجلس بجوارها قائلًا:

- انا برضوا اللي هاتعبك ياما؟ طب ليه بس؟

واجهته تهتف بغضب:

- عشان انت بتعاندني وتعاند نفسك، جاي تمثل عليا انك بتهزر وعايزيني اندمج معاك واحن كمان، طب ازاي؟ دا انا قلبي بيتقطع من امبارح من ساعة ما مامشيت من عندنا وهي يا حبيبة قلبي، منهارة من العياط وبتترجاك وانت ولا اكنك هنا، جيبت القسوة دي منين يا خالد؟ إنت مكنتش كدة .

صمت عن الرد قليلًا في مواجهتها، واعتلت ابتسامة غريبة شفتيه قبل أن يجيبها:

- انت عارفة كويس اني مش قاسي، زي ما انتِ متأكدة برضوا إن دا ردي الطبيعي، فبلاش يا أمي تدخلي من السكة دي.

ألجمتها كلماته المقتضبة فتناولت كفه تخاطبه برجاء:

- مش هادخلك من السكة دي، بس انت يا حبيبي قدر لوحدك، بنت اختك مالهاش غيرنا، حتى لو انت شايف انها اتصرفت غلط، بس ما يكونش العقاب كدة، دي روحها فيك زي ما انت ماروحك فيها ، سامحها ولا حاول بمخك كدة تحل المشكلة دي، بشكل يرضي كرامتك. 

سألها منتبهًا عاقدًا حاحبيه بشدة:

- يرضيني ازاي بقى؟

ردت رقية بتردد:

- يعني مثلًا تقبل بالشقة وتسدد لجاسر الريان باقي الأقساط، واهو كدة يبقى حفظت كرامتك .

- ماعدتش ينفع .

قالها ونهض من جوارها يرددها بابتسامة ساخرة:

- ماعدتش ينفع ياست الكل، ماعدتش ينفع 


❈-❈-❈ 


للمرة الخامسة يصل إلى باب غرفتها ويجده مغلق كما هو، رغم انتصاف اليوم بدوام العمل، مازالت حتى الآن لم تصل، تاركته كالمجنون يدور في الرواق من غرفته إلى غرفتها يمسح بكفيه على شعر رأسه ويزفر بصوت عالي، انها حتى لا تُجيب عن اتصال واحد منه، وصل إلي مكتبه يدور حوله كالأسد الحبيس في قفصه، يلوم غباء تصرفه معها بالأمس، أثار رفضها جنونه فتصرف بحماقته المعتادة دون التفكير في طبيعتها العنيدة وعقدتها القديمة؛ وهي لم التي لم تأمن غيره على سرها، مال بجسده يضرب بكفيه على سطح المكتب يود لو يجلد نفسه، لقد أثبت لها بالفعل ضعف أخلاقه بتحرشه بها بهذه الطريقة المهينة، وهي المعتزة دائمًا بشخصها وكرامتها، بحماقته تسبب في زيادة خوفها منه.

كيف له أن يكفر لها عن خطأه؟ كيف يجعلها تثق به، وتنسى ماضيه وأفعاله السابقة كيف؟

رفع رأسه للأعلى متأوهًا من عمق ندمه، وذهب نحو نافذه مكتبه، مستندا بذراعه على أعلى إطارها ينظر في الفراغ في الخارج يتمتم بصوت عالي مع نفسه:

- أعمل إيه بس يا ربي؟ واكفر عن خطئي معاها ازاي عشان تسامح وتغفر ؟ ولا انا بغلطي وأخطائي الكتير اتطردت من رحمتك؟ واتحرم عليا نعيم جنتك في السما وراحة بالي في الأرض مع اللي بحبها؟


❈-❈-❈ 


وصلت إليها لترتمي بجسدها عليها بعناق كبير ولهفة واضحة وهي تشعر برجوع روحها إليها بلقاء حبيبة اعز الأشخاص على قلبها، وتردد بحرقة:

- وحشتيني وحشتيني اوي، 

اطلقت الأخرى ضحكة مجلجلة ترد عليها:

- والنبي إيه؟ يابت اطلعي من دول .

- إيه يا أستاذة نوال هو انت مش مصدقاني ولا إيه بس؟

قالتها وهي تنزع نفسها عنها بابتسامة محرجة، قبل أن ترحب بكاميليا هي الأخرى، وردت نوال :

- لا يا حبيبتي طبعًا مصدقاكِ اها!

مطت شفتيها زهرة تخاطب كاميليا:

- بقت لئيمة قوي صاحبتك دي؟ 

ردت كاميليا وهي تجلس بجوار نوال أمامها:

- بس يا بنت ما تقوليش كدة على الأستاذة.

- حتى انتِ كمان؟ دا انتوا بقيتوا عصابة بقى؟

قالتها زهرة وانطلقت ضحكات الثلاثة بالمزاح اللطيف، حتى غلبها الحنين لتسأل عنه نوال :

- عامل إيه دلوقتِ؟ قلبوا رق عليا ولا لسة برضوا زعلان؟

ردت لها نوال بابتسامة مطمئنة:

- كويس وبخير وزي الفل كما

شوية زعل وهايروحوا لحالهم مع الوقت، يعني فكي كدة وما تشليش هم انتِ يا ضرتي .

استجابت لمزاحها زهرة ولكن بابتسامة باهته وقد غامت عيناها بتأثر تقول لها :

- أنا اسفة يا نوال، بعملتي المهببة بوظت الترتيب كله وضيعت عليكم الشقة، انا مش قادرة أسامح نفسي ابدًا من ساعة اللي حصل. 

قالتها وسالت خط الدمعات الساخنة على وجنتيها فهتفت كاميليا بعجل:

- بس اللي يرضى عنك، وقفي حنفية الدموع دي كدة من اولها احنا جاين نقضي وقت حلو مش تعكنني علينا، دي البت جايالك مخصوص عشان تطمنك عليها .

تداركت زهرة تمسح دمعتها سريعًا وهي ترسم على وجهها ابتسامة تقول:

- لا خلاص مش هاعيط، لكن انا كنت عايزة أطلب من نوال بس لو ترضى. 

انتبهت لها المذكورة تنصت باهتمام ، فقالت زهرة بتردد:

- انا عارفة انك غالية عنده، لو تقنعيه يسامحني او حتى ياخد فلوسه لو كان يعني قفل من الشقة او .......

قاطعتها نوال بضحكة كبيرة تقول لها:

- إيه يا بنتي ، هو انتِ نسيتي خالك وطبعه ؟

صمتت زهرة تسبل أهدابها عنها بحرج، فاستطردت نوال :

- انا قولتك يا حبيبتي ماتشليش هم، اينعم هي محتاجة صبر زيادة عن الأول، بس دا قدرنا، والحمد لله دلوقتي هو بيشتغل في شركة محترمة في البلد ومرتبه كويس، شهرين تلاته كدة ع الفلوس اللي رجع بيها من الغربة ، ونقدم على شقة جديدة، وماتخافيش مني ولا تقلقي انا كدة كدة لازقة فيه.

انشق ثغرها ابتسامة جميلة يشوبها القلق لتسألها:

- طب ووالدك؟

- لا ما انا والدي فقد الأمل مني خلاص وحط صوابعه في الشق من غبائي زي ما بيقولي دايمًا كدة .

قالتها وانطلقت عائدة للضحك مرة أخرى ومعها زهرة وكاميليا التي صدح هاتفها بالإتصال مرة أخرى، ولكن هذه المرة برقم الاخر فاستقامت تستئذنهم للرد في مكان قريب وذهبت تاركة زهرة تردد لنوال بكلمات الشكر والإمتنان على وقوفها بجوار خالها. 


❈-❈-❈ 


بداخل الشرفة التي تطل على الحديقة الداخلية للمنزل، وقفت مستندة بظهرها على الجدار الزجاجي تتحدث في الهاتف:

- الوو..... أيوة يا كارم ............... تمام والحمد لله .........النهاردة؟.......... كدة بالسرعة دي 

................ لأ طبغا موافقة يا سيدي، هو انا قولت حاجة يعني ؟.............. حاضر هحاول متأخرش .

......... أكيد مبسوطة وفرحانة....

أنهت المكالمة اخيرًا ببعض الجمل المنمقة معه، متنهدة بشرود وعيناها نحو المساحة الخضراء لصف الورود، التي وزعت أحواضها بشكل جمالي تناسب مع ألوانها ، لتبعث في القلب بهجة برؤيتها، صدح هاتفها مرة أخرى برقمه فظلت تتأمله حتى انتهى الاتصال، كما يحدث في كل مرة، تكتنفها الحيرة في الرد وعدم الرد، شئ بصدرها يتوجع بقوة مما يحدث، وكرامة تصرخ في وجه إهانته لها بالأمس وقد انساق خلف شياطينه ليؤكد لها مخاوفها ويعيدها لصواب اختيارها رغم قسوته، قسوة الارتباط لمجرد الهروب، تنهدت تغمض عيناها بتعب، وقلق غريب يمنع عنها الفرحة مع هذا الخطيب الذي اكتشفته الاَن فقط انه غريب، واجهة لامعة تجذب الأنظار نحوها، لكن لا أحد يعلم لما يحتويه بداخله، عسى أن تكون مجرد مخاوف 

غمغمت بها وهي تعود للتنضم للفتيات في الداخل، فقالت وهي تقترب منهن:

- خدوا راحتكم قد نص ساعة كدة ، عشان انا معايا ميعاد ضروري، ومش عايزة اتأخر عليه؟

- ميعاد أيه؟

سألتها زهرة وتبعتها نوال ، فقالت تجيبهم بمرح زائف وهي تجلس معهن:.

- ولا حاجة يا حبايبي، انا بس هاروح انقي شبكتي مع كارم باشا خطيبي. 

هللت نوال بكلمات التهنئة والمباركة وكاميليا تبادله الرد بابتساماتها، اما زهرة فكانت ترمقها بأعين متفحصة، تبحث عن فرحة حقيقية بعيناها او ملامح وجهها ولا تجدها، هنأتها بابتسامة مصطنعة هي الأخرى ثم غيرت الحديث بقولها:

- خلاص الوقت الباقي ده لازم نستغله كويس، واول حاجة هانعملها انكم هاتفطروا معايا.

هتفت عليها كاميليا قائلة بقلق:

- يا نهار أبيض يا زهرة، انتِ ماكلتيش من امبارح؟

ردت زهرة بابتسامة ساخرة:

- ياه يا كاميليا دا انتِ طيبة قوي، بقى مفكراني قاعدة من امبارح بالجوع، ماتعرفيش بقى اللي صايب صاحبتك اليومين دول، يا مؤمنة دا انا قومت على اربعة الفجر ، نسيت الزعل وكل عياط امبارح ونزلت ع الأكل في التلاجة زي المفجوعة اقسم بالله، كنت هاموت من الجوع. 

تطلعتا الاثنتان إليها بدهشة ممتزجة بمرحهم وردت نوال :

- طب وزعلانة ليه؟ ما الأكل نعمة ربنا، ومتعة من متع الحياة .

هتفت زهرة لتزيد من حيرتهم:

- يابنتي والله عارفة، بس انا اليومين دول حاسة بحاجات كتير متغيرة معايا ، مش بس الجوع والأكل الكتير.

- إيه يعني اللي يخليكي تقلقي كدة؟

قالتها كاميليا باستغراب قبل أن تتابع بتخمين اختلط بحماسها

- استني صحيح لتكوني شاكة انك حامل يا زهرة؟

اعتدلت نوال منتبهة جيدًا تتابع بترقب رد زهرة والتي قالت:

- بصراحة اه بس انا مش عايزة اتكلم ولا اقول لجاسر غير لما اتأكد كويس، انا حتى كنت هاسأل ستي امبارح، بس الخناقة بقى وقفت في بوقي كل الكلام

❈-❈-❈

- تاني يا عامر، بتشرب قهوة تاني 

هتفت بها لمياء أجفلت زوجها الذي كان يتابع أعماله على الاب توب الخاص به على كنبة وحده في غرفة جانبية اتخذها مقرًا له بعيدًا عنها، غمغم ببعض الكلمات الحانقة لاختراقها الغرفة دون استئذان، فعاد لعمله مفضلًا تجاهلها مما زاد من غضبها، فتحول هتافها للصياح:

- وبعدين بقى في عندك ده، اللي هايضعك ويضيع صحتك؟ هو فيه إيه بالظبط؟

ضاق به منها ومن صياحها فاغلق حاسبه بقوة وخلع نظارته ليرد على كلماتها بنزق:

- دا سؤالي انا ليكي يا مدام، مالك انتِ اشرب قهوة ولا اشرب زفت حتى ، انا حر يا ستي .

اقتربت بوجهٍ محتقن تخاطبه بغضب:

- حر في إيه يا عامر؟ أنك تهمل صحتك كمان؟ مش كفاية الأؤضة اللي سيبتها وجيت هنا اعتزلت لوحدك، واكنك ولا طايقني ولا طايق لي كلمة حتى. 

زفر يضرب بكفيه يقول مخاطبًا له بتأفف:

- لا حول ولا قوة إلا بالله، عايز اختلي بنفسي يا ستي واقعد لوحدي، فيها حاجة دي؟ ما انتي بقالك سنين بتعمليها، وانا ساكت، حقي انا كمان بقى. 

صمتت تبتلع صياحها والكلمات الغاضبة، ثم ما لبثت أن تحاول مرة أخرى بطريقة ناعمة معه عله يستجيب، فجلست بجواره تقول برقة:

- طب يا حبيبي افهمني بس وافهم كلامي، انا مش عايزة اخنقك انا حابة اطمن واطمن قلبي كمان على صحتك .

- صحتي! لا كتر والله يا مدام، انا تمام وعال العال.

بصق كلماته ونهص من جوارها ولكنه اهتز بوقفته فلحقت بذراعيها تحاول مساعدته ولكنه نزع نفسه عنها هاتفًا بغضب:

- إبعدي يا لميا انا اقدر اقف وامشي لوحدي ، مش محتاج لمساعدتك، أوعي.

رق قلبها رغم خشونة تعامله معها، وسألته بقلق :

- خدت دواك النهاردة يا عامر؟

- مالكيش فيه.

قالها هكذا بكل بساطة بوجهها، ليصدمها من رده المباغت، فغرت فاهاها بدهشة، وتلجم لسانها عن الرد ، لتظل متسمرة محلها تراقبه حتى اختفى من أمامها، فلم تملك سوى رفع هاتفها للاتصال بمن يستطيع مساعدتها، وفور أن جاءها الرد هتفت إليه:

- اللحقني يا جاسر، والدك تعبان ومانعني اراعيه ولا اديلوا العلاج 


❈-❈-❈


طب يعني هي دلوقتي كويسة ولا شكلها إيه بالظبط؟

سألها خالد في الهاتف وهو يصعد الدرجات المتبقية للمصحة التي يتعالج فيها محروس بصحبة سمية زوجته، وجاءه الرد من نوال بتلاعب:

- واقولك ليه بقى عن حالتها، ما انت لو عايز تشوفها روحلها بنفسك .

ردها المرواغ اثار احتقانه فهتف بصوت عالي جعل رؤس البشر من المارة من الزوار والعاملين في المصحة تتلفت نحوه:

- قولي بقى يانوال ومتعصبتيش الله يرضى عنك.

أجفلت من حدته المفرطة فردت بهدوء وقد علمت بحالته الغاضبة الاَن:

- طب اهدى بس ومتعصبش نفسك ، انا بس بهزر. 

وصلها صوت زفرته الطويلة فتابعت بهدوئها:

- زهرة كويسة يا سيدي واخر تمام، بس نفسها بقى تتصالح وترضى عنك ، دي هاتموت عشان تكلمك.

تنهد بألم يردف بصوت مشحون بعاطفته الأبوية نحو زهرة وقال:

- الكلام سهل لكن التنفيذ صعب، صعب قوي، خصوصًا دلوقتي، يمكن مع الوقت القلب يصفى.

قال الأخيرة وصمتت نوال عن المجادلة معه فهي الاعلم بما بحمله قلبه من حزن وعتب موجع عسى مع الأيام، تشفى اَلامه


انهى المكالمة ومضى في طريقه بداخل أروقة المصحة بصحبة سمية التى تجرأت لتحدثه هي الأخرى:

- أنا اسفة يا أستاذ خالد لو هاتدخل، بس انا أكتر واحدة تشهد على حبك للست زهرة، بحكم عشرتي الطويلة ليكم من ساعة ما اتجوزت محروس وحضرتك مكانتش طايقني. 

- أنا يا سمية مكانتش طايقك؟ 

سألها مجفلًا وقالت هي تجيبه بابتسامة ودودة منها :

- ايوة امال ايه لو انت مكنتش فاكر، انا افكرك بمعاملتك الخشنة معايا، بس دا الطبيعي على فكرة وانا مش زعلانة، يعني واحدة خدت مكان اختك المرحومة، هاتطيق تبض في وشها ازاي بس؟ وانت شاب صغير واخداك الحماسة، مكدبش عليك انا كمان مكانتش بطيقك من معاملتك ليا ، بس لما كنت اشوف حنيتك على بنت اختك، كنت ارجع لعقلي على طول واديلك عذرك .

صمت خالد وتذكر فعلا ماتقصده، حينما كان يمنع زهرة من التعامل معها واذا راَها في منزلهم يغضب من والدته التي عرفت بأصلها منذ البداية، وهي من جعلته يرى جيدا ان سمية ما هي الا امرأة تعيسة أخرى أوقعها الحظ مع محروس الغبي .

أجفل من شروده على متابعة سمية في قولها له؛

- انا متأكدة من انك هاتحن وتصفى لزهرة عشان عارف ومتأكد انها رغم غلطها في نظرك زي ما انت شايف فانت عارف انها عملت كدة من كتر محبتها وخوفها عليك، بس ياريت بس الزعل ما يطولش. 

التف إليها من مستوى طوله الفارق عنها بكثير نظرًا لقصر قامتها الطبيعية، يومئ برأسه مرددُا لها :

- إن شاء الله، إن شاء الله يا سمية، ربنا يسويها 


❈-❈-❈


بعد قليل 

كان اللقاء بغرفة منعزله ضمت الثلاثة، محروس بملابسه النظيفة البيضاء، بهيئة جديدة عليه وتجهم وجهه يظهر بوضوح عدم اندماجه وتقبله للعلاج المرهق:

- ماهو انتو تتشالوا تنحطوا تلاقولي حل، انا مش طايق المخروبة دي ولا طايق القعدة فيها .

قالها فور جلوسه أمامهم بعد ترحيبه النزق بزيارتهم، ردت سمية مجفلة من تصرفه:

- يا نهار اسود، ايه اللي انت بتقولوا دا ياراجل؟ ما هو دا الحل لكل مصايبك وبلاويك، ولا انت مش ناوي تتعظ بقى؟

هتف بوجهها غاضبًا :

- هو دا اللي انتِ فالحة فيه يا اختي مصايب وبلاوي، ماهي كل الرجالة بتشرب ومقضياها، جات على محروس الغلبان ولا عشان حظه الزفت، لقيتوها فرصة وجاتلكم، عشان تطلعوا عليا القديم والجديد، لكن دا بُعدكم .

هتفت سمية بدورها ترد على كلماته بأنفعال كاد أن يخرجها من اتزانها الدائم:

- بعد دا كله يا محروس ولساك برضوا ما اتعتظتش؟ بقى بدل ما تحمد ربنا عشان موقفلك ولاد حلال يخرجوك من المصيبة اللي جيبتها لنفسك، وكمان واقفين معاك لحد ما ربنا ياخد بإيدك ويشفى عنك، وواخدين بالهم من عيالك وبرضوا بتتبتر ومش عاجبك

- ياخي ان شالله يولع فيكم كلكم، هو انتو هاتزلوني، يعني تطلعوني من سجن تدخلوني لسجن تاني بحجة العلاج والكلام الفارع ده، لا بقولكم ايه انا مش هافضل في المخروبة، انا عايز اخرج. 

كان يهدر بغضب وهو يلوح بيداه في الهواء بشكل يثير الاستفزاز، متغافلًا بغباء عن هذا الجالس أمامه بجوار سمية متكتف الذراعين، متجمدًا بهيئة ساكنة في الظاهر ، وبداخله حمم سائلة من النيران تغلي بأوردته، 

وهو يتذكر افعاله القديمة مع شقيقته والتي أدت لوفاتها في النهاية، تخلية عن ابنتها وتركها لهم يتيمة الأبوين، ثم فعله الاَخير بخسته في سرقة نقوده المرسلة من الخارج والتي أدت لضياع شقته وشقا عمره فيها وقبله كان سيتسبب في ضياع زهرة .

عند خاطره الاَخير بتذكره ما حدث معها نهض فجأة وبدون تفكير قفز على محروس، يمسكه من تلابيب ملابسه، ليرفعه إليه ثم دفعه بقوة على الحائط يهدر بانفاس ممتهدجة، 

- انت البعيد هاتفضل طول عمرك كدة لا بتحس ولا عندك نظر تشوف بيه.

جحظت عيناه محروس على وضعه الجديد، بعد ان بوغت بفعل خالد، فانتقلت عيناه بهلع نحو زوجته التي خاطبت خالد على تردد وخوف:

- مش كدة يا سى الأستاذ، سيطر على غضبك منه شوية.

وكأنه لم يسمعها دفعه مرة أخرج ليرتطم ظهر محروس على الجدار بقوة اَلمته يهدر من تحت أسنانه:

- بقى بتسرق فلوسي يا محروس وتديها لفهمي عشان توافق زهرة وتتجوزا غصب عنها، عارف دا لو كان حصل أو تم فعلا؛ اقسم بالله ماكان هايكفيني روحك ساعتها، إنت إيه ؟ خرتي*ت ولا حل*وف ما بتحسش؟ هافضل انا طول عمري أشيل من وراك والم في بلاويك، ماعدتش عندي شغلانة غيرك.

غضبه المكبوت طوال السنوات الماضية كلها خرج فجأة، ليفقده حكمته وتعقله الدائم، فلم يشعر بنفسه وكفيه تضغطان بقوة على رقبة محروس حتى برقت عينا الاَخير واصطبغ وجهه بالحمرة الداكنة مع قرب انتهاء الأكسجين منه، يشعر بقرب خروج روحه من جسده، وسمية تهتف على خالد برجاء حتى يتركه ولا يخسر نفسه ومستقبله بمقتله، استجاب اَخيرًا لتركه وابتعد عنه يلهث بعنف وكأنه كان خارجًا من حلقة سباق للعدو السريع، رمقه بنظرة اَخيرة بازدراء ثم انصرف من الغرفة والمصحة نهائيًا تاركًا سمية مع زوجها الذي التقط انفاسه اَخيرًا يردد لها بارتياع:

- كان هايموتني يا سمية، كان هايموتني .


❈-❈-❈ 


بداخل الملهى دلفت بصحبته، لا تصدق نفسها وهذه الأجواء الغريبة عنها، الموسيقى العالية والانوار الصاخبه بألوان متعددة، وجوه رأتها قبل ذلك في الحفل ووجوه لا تعرفها، لكن جميعها توحي بإلثراء، وهي معه يدها بيده، يتملكها التفاخر والزهو بصحبة شخص مثله يثير إعجاب الفتيات أينما ذهب، يصافح الشباب ويقبل الفتيات على وجنتاتهن، ويقدمها إليهم ليتعرفوا عليها، فتتلقى كلمات الغزل من الرجال، ونظرات حاقدة وحاسدة من الفتيات، وصل بها ليجلسا معًا على إحدى الطاولات ، يقول لها:

- ها يا قمر إيه رأيك بقى؟

أجابته بفرحة تحاول تحجيمُها أمامه لتتصنع الخجل:

- يجنن والله، بس انا مكسوفة عشان دي اول مرة ادخل مكان زي ده.

رمقها بنظرة متسلية ثم رد بابتسامة زادته وسامة أكثر :

- معلش بقى اصل انا بصراحة طول اليوم في الشغل، وما بصدق يجي الليل عشان اسهر واعيش سني.

- اه عشان كدة انت موافقتش لما قولتلك نخلي مقابلتنا في النهار أحسن .

قالتها وهي تتلاعب بشعرها تدعي التفهم جعل المرح يزيد بداخله أكثر نحوها، فقال لها بمغزى:

- كويس اوي انك فهمتي عشان تتعودي على كدة، انا راجل إيزي ومنفتح بحب السهر والخروج دايمًا، عشان كدة دايمًا تلاقيني استغل اي وقت واطلع اتفسح في اروبا أو أي منطقة في ألعالم كله

لمعت عيناها بالحماس مع كلماته وعقلها ينسج في الأحلام التي تجمعها به، تجول العالم معه وتنشر صورها ليرى الجميع ما وصلت إليه بجمالها وذكائها .

- سرحتي في إيه؟

سألها مقاطعًا شرودها، فهزت رأسها بارتباك تقول :

- لااا مش حاجة مهمة يعني ما تشغلش نفسك انت .

- كدة طب قومي معايا .

قالها وهو ينهض فجأة لبشير إليها بيده، سألته باندهاش:

- اروح معاك فين .

تناول كفها ليجيب وهو يُنهضها من مقعدها :

- هاتقومي عشان نرقص مع بعض طبعًا، واحنا جاين هنا ليه أصلًا؟

تشبثت محلها لا تريد التحرك وهي تتذكر نصائح والدتها لها دائمًا بعدم التساهل معه حتى لا يراها لقمة سائغة. 

- لااا انا مقدرش اتحرك وارقص قدام الناس الغريبة اصل انا مش متعودة على كدة.

قالتها بهمس متصنعة الحياء، لترى تبدل ملاح وجهه على الفور من ابتسامة دائمة لتجهم غامض بتفكير، ظل على وضعه للحظات قبل أن يستدير بجسده عنها يقول ببساطة:

- تمام ياقلبي زي ما تحبي، بس ما تزعليش بقى لما اقعد السهرة كلها وانا برقص مع أي بنت هنا غيرك هاتصاحب عليها ، باي .

قالها ليكمل بتحرك خطواته مبتعدًا عنها، هتفت بلهفة لتلحق به قبل أن يتركها وينفذ تهديده:

- لأ باي دا إيه ؟ انا جاية معاك .

وانلطقت معه على منصة الرقص تسايره بكل ضمير، ضاربة بنصائح والدتها عرض الحائط.


❈-❈-❈ 


وقفت تراقبهما من زاوية قريبة، يتاَكل قلبها من القلق والخوف عليه، لم تعهده بهذا العند طوال سنوات زواجها به، لم تختبر منه قبل ذلك هذا الغضب العاصف، فلاطالما كان صبورًا وحنونًا معها، يتحمل دلالاها ويفعل المستحيل لإرضاءها، تتمنى لو يعود ويغفر لها ذلة لسانها حينما تهورت معه في الحديث، بسبب ما واجهته من بهيرة في هذه الليلة المشؤمة. 

وفي الناحية الأخرى كان بجوار ابيه الصامت يحدثه بمهادنة يشوبها العتاب :

- كدة برضوا يا والدي، تقلقلنا وتخوفنا عليك، على الأقل سيبها اراعيك وتديك الدوا وبعدها اعمل كشر وابعد براحتك .

رفع إليه عامر نظرة غاضبة يرد:

- مش عايز دوا ولا شفقة منها، انا مش محتاج لها ولا محتاج لغيرها .

أجفل جاسر على النبرة الحادة لوالده في الحديث، فقال يخاطبه بلوم:

- ليه دا كله يا والدي؟ دا انت في حياتك ما عملت كدة معاها، طول عمرك بتحايلها حتى لو كانت غلطانة، وبتغفر لها كل أخطائها. 

- أديك قولت بنفسك، طول عمري بصالح وادلع، أنا دلوقتى كبرت وماعدتش فيا حيل للدلع ولا المحايلة.

انتبه جاسر وضيق عيناه بريبة نحو والده يرمقه بنظرات متفحصة لهذا التغير المفاجئ منه، فعاد بسؤاله ولكن بصيغة أخرى :

- هو إيه اللي حصل بالظبط مابينكم؟ وخلاك تقلب عليها بالدرجة دي؟ هي تتصل بيا وتترجاني من الخوف عليك وانت مش طايق حتى تسمع سيرتها، ما تقول يا والدي وريحني ولو كان في مابينكم سوء تفاهم نصلحه ولو خصام نقرب المسافة. 

زفر عامر يشيح بوجهه عنها لا يريد الإجابة، فكيف سيذكر له ان السبب الرئيسي لمشاجراتهم ، هو غضبها من صورتها التي اهتزت أمام المجتمع المخملي بزواجه من زهرة؟ وكلماتها الصعبة بعدم مسامحتها عن هذا الزواج من خلف ظهرها، فقال بمرواغة

- حاجة ما بيني وما بينها يا عم جاسر، يعني مالكش فيه.

اندهش جاسر من إجابة ابيه المبهمة فحاول بمهادنة مرة أخرى:

- طب ماشي مش هاتدخل ولا ازيد في أسئلتي، بس رجاءًا يعني، تخف شوية عصبيتك دي، وحاول بس تسمحلها تديك العلاج في ميعاده زي ما احنا متعودين .

وكأن بكلماتها كان يقصد العكس، انتفض عامر معترضًا بعنف:

- قولت مش محتاجها ولا محتاج رعايتها، انا مش مستني شفقة من حد فاهم ولا، لا منك ولا منها

هتف بالاَخيرة بانفعال أدى لاهتزاز جسده بقوة واضعًا يده على موضع قلبه، بوجه تغضن بالألم 

حتى كاد أن يقع لولا أن تلقفته ذراعي ولده قائلًا بجزع:

- والدي. 

الفصل الثالث والأربعون 


-  الله يا جدعان دا ايه الحلاوة دي؟

هتفت بها رباب باعين متوسعة من الإنبهار وهي تفحص طقم الألماظ في علبته المخملية، وبشبه ابتسامة كانت كاميليا ترمق العقد والأسورة وخاتم الزواج في العلبة التي بيد شقيقتها، بعد أن أصر كارم عليهم ضد رغبتها في شراء شئ بسيط، فقالت ردًا على شقيقتها:

- دا زوق يا كارم يا ستي مش زوقي .

سمعت شقيقتها والتفت برأسها لكارم تخاطبه بإعجاب:

- زوقك يجنن ياعم كارم، طب والله انت لقطة يا شيخ .

قالتها ليشيع جوا من المرح على جميع الموجودين في الجلسة، من عائلة كاميليا في منزلهم وكارم ووالدته، والذي أعجبه الإطراء فقال يرد:

-،عقبالك يا ستي إنتِ كمان لما نفرح بيكِ 

ردت رباب تدعي البؤس:

- ياااه معقول دا يحصل ؟ ادعيلي بقى الاقي عريس زيك كدة، مع إني أشك 

أطلق كارم ضحكة منتشية يقول لها:

- ولا تزعلي يا رباب أكيد هتلاقي، ولو مكانش موجود أجيبلك انا يا ستي ولا إنتِ فاكراني هين في البلد دي يعني ولا إيه .

هللت رباب بجملته لتكمل بمزاحها المرح:

- ايوة بقى، وياريت كمان يكون حليوة وشبهك، عشان يبقى بيرفكت بجد .

قالتها وانطلقت ضحكات الجميع مرة أخرى، فخاطبه والد كاميليا بلهجة جدية وهو يشير بيده نحو أكياس الملابس والعطور الموضوعة أمامهم على الطاولة:

- بس مكانش في داعي للمصاريف دي كلها يا بني، الحكاية في بيتها يعني.

اطرق كارم بوجهه قائلًا بدماثة اخلاق واحترام يثير الأندهاش:

- ما تقولش كدة يا عمي، كاميليا أميرة وما يلقش بيها إلا كل شئ غالي، وان كان ع الهديا والهدوم فدي حاجات والدتي هي اللي اشترتها لوحدها عشان تقدمهم لمرات ابنها. 

انتبهت كاميليا بوقع جملته التي أقرأها كواقع قبل حدوثه ولم تنتبه لكلمات والدته وهي تتحدث بمودة مع أبيها، اندماج بين الأسرتين يدعو للإعجاب، كارم يوزع ابتسامته وكلماته المنمقة توحي بتهذبه الدائم، والدته هي أيضًا لا تفرق عنه الكثير سوى أنها تبدوا طبيعية عنه قليلًا في تعبيرات وجهها وضيقها لو رأت ما لا يعجبها عكس ابنها ذو الصفحة المغلقة دائمًا؟!

انتبهت بعيناها على وقوف شقيقها الصغير بالقرب منهم بوجه واجم يتطلع إليهم بصمت.

- ميدو واقف مكانك ليه يا حبيبي؟ مش تيجي تقرب كدة وتبارك لكوكي حبيبتك.

قالتها تدعوه فاتحة ذراعيها، تقبل دعوتها وخطا ليرتمي في أحضانها قبل أن يقول لها بتردد:

- الف مبروك يا كوكي .

- يا قلب كوكي إنت.

قالتها وهي تشدد عليه بذراعيها وتزيد من قبلاتها على رأسه ووجنته، فاجئها كارم بجذبه منها مرددًا لها:

- يا ستي اديلوا نفسه شوية، 

أجلسه بجواره على الاَريكة ولف ذراعه حول الصغير يخاطبه بلطف:

-  إيه يا حبيبي مش ناوي تباركلي أنا كمان. 

استجاب له ميدو يرد بابتسامة شاحبة لم تصل لعينيه:

- مبروك يا عمو .

داعبه كارم بطرف سبابته على ذقنه يشاكسه:

- طب ومالك بتقولها كدة من غير نفس، مش تفك كدة وتهزر معانا يا بطل. 

- إن شاء الله. 

قالها ميدو بروتينية عادية وهو ينهض ليكمل باستئذان:

- معلش عن إذنكم أصل انا جاي من الدرس تعبان وعايز اريح شوية .

تابعت كاميليا انصرافه بقلق، جعلها لم تقوى على إكمال الجلسة دون أن تطمئن عليه، ولحقت به داخل غرفته

وجدته جالسًا على طرف تحته مطرقًا برأسه وهو يتلاعب بأصابع يده برتابة توحي بشروده. 

، جلست بجواره لتسأله بحنان:

- مالك يا قلبي؟ إيه اللي مزعلك بقى ومغير حالك كدة؟ لتكون بجد زي ما قال والدي وفاكرني هاسيبك؟ أوعى يا حبيبي تصدق إن دا ممكن يحصل، أبدًا والله، عمري ما هاسيبك ياقلب كاميليا، هافضل كده متبعاك دايمًا، وعمرك ما هاتغيب عن عيني........... .

قطع استرسالها يباغتها بسؤاله:

- إنتِ ليه رفضتي عمو طارق؟

أجفلت وعادت برأسها للخلف تستوعب قليلًا قبل أن تجيبه بارتباك:

- إنت بتقول كدة ليه؟ حد قالك إن طارق إتقدملي؟

أجابها بسأم وهو يتكتف بذراعيه:

- لأ ماحدش قالي، بس انا بحب عمو طارق قوي وهو بطل ما يجي بيتنا زي الأول، هو انتِ زعلتيه في حاجة؟

رفررت بأهدابها تطالعه بازبهلال ثم ما لبثت أن تجيبه وهي تنفي بهز رأسها تقول:

- لا طبعا، لا هو زعلني ولا انا زعلته، الحكاية حكاية نصيب، عمو كارم اتقدم وانا وافقت بس كدة، يبقى تبارك يا حبيبي لاختك وبلاش نجيب سيرة فلان ولا علان تمام.

سمع مها ثم مط بشفتيه وهو يشيح بوجهها عنه قائلًا:

- تمام ، بس انا برضوا بحب عمو طارق وما بحبش الراجل ده.


❈-❈-❈ 


في رواق المشفى كان يدور حول نفسه بدون هوادة يجئ ويذهب، في انتظار خروج أحد ما يطمئنه على حالة أبيه التي اخذت كل هذا الوقت في الفحوصات وتناوب الأطباء على رعايته بداخل العناية المشددة، وفي الناحية الأخرى كانت لمياء منزوية على نفسها تبكي بصمت، تتاَكل داخلها من القلق على زوجها شريك عمرها الذي لم كادت أن تفقده بغباءها في لحظة تهور منها جعلتها تنطق بالكلمات المؤذية له، 

إنتبهت على وجه ابنها الذي أشرق وعينيه تتلفت للبعيد خلفها، التفت هي الأخرى برأسها نحو ما ينظر إليه، فوجدتها تخطو بخطوات مسرعة نحوهم، ومعها سائقها العجوز. 

- إيه اللي جابك بس يازهرة دلوقتِ في الوقت المتأخر ده؟

قالها جاسر وهو يتلقفها من وسط المسافة، أجابت بقلق وهي تلتفت نحوه ونحو الدته:

- مقدرتش استنى يا جاسر بعد من غير ما اطمن بعد ما عرفت من إمام، أخبار عمي عامر إيه دلوقتِ؟

تنهد يجيبها باستسلام ويده تسحبها معه :

- لساه في غرفة العناية يازهرة، والدكاترة بيقولوا إنه هايفضل تحت الملاحظة لحد ما يطمنوا عليه.

هتفت بحزن :

- لدرجادي هو حالته صعبة ياجاسر؟

أومأ له بعيناه وقربها من والدته، فتقدمت تصافحها بدعم قائلة بمواساة:

- عاملة إيه دلوقت يا ماما، ربنا يطمن قلبك ويطمنا معاكِ.

أومأت لها لمياء هي الأخرى، ولكن بدون صوت، فخاطبها جاسر، احنا ممكن نطول هنا جمبه على ما يفوق، يعني انتِ شوية كدة وتروحي،

نفت برأسها على الفور قائلة:

- لا طبعًا انا مش ماشية من هنا غير ورجلي على رجلك بعد ما نطمن على عمي .

- يا زهرة بلا..........

قاطعته بقوة وهي تجلس على أقرب المقاعد أمامه تردد:

- أنا قولت مش ماشية يعني مش ماشية .

زفر جاسر بيأس من عنادها، قبل أن يستسلم ويشاركها الجلسة بجوارها في انتظار الإطمئنان على أبيه. 


طال الإنتظار وزهرة التي مُصرة على مرافقتهم، أصابها الوهن والتعب مع الجلسة المتعبة وعدم أخذ جسدها لقسطًا ولو قليلًا من الراحة والنوم، فغلبها النعاس على كتف زوجها الذي ظل جالسًا بجوارها ولم يطاوعه قلبه على إيقاظها، بل وخلع سترته ودثرها بها، حتى أشرق الصباح عليهم، لمياء والتي كانت مراقبة من الناحية الأخرى، تخلت عن كبريائها قليلًا تخاطبه بهدوء:

- بدل ما هي نايمة على كتفك كدة، خليها تروح وترتاح في بيتها أحسن..

رمق والدته بنظرة غير مفهومة ثم قال:

- ما انتِ شوفتي بنفسك، أنا حاولت معاها كتير، وهي مش راضية، أعمل إيه بقى في دماغها الناشفة؟ حتى وهي تعبانة مصممة تفضل جمبي.

وصلها مغزى كلماته على الفور، لتشيح بوجهها عنه مبتلعة الباقي من حديثها، أما هو فانتظر قليلًا متابعًا لها ليتأكد من فهمها للرسالة بهذا التوتر الذي اكتنفها، وبعد أكتفائها منها تركها ليعود لهذه الرقيقة التي أصابت كتفه بالتخدر من ثقل رأسها عليه، ابتسم بداخله وهو يربت على وجنتها برفق هاتفًا بهمس:

- زهرة، زهرة فوقي ياقلبي، زهرة فوقي بقى، كتفي وجعني بجد .

هممت قليلًا قبل أن ترفع رأسها إليه، وهي لم تعي بعد على وضعها:

- أيوة يا جاسر في حاجة؟

ابتسم بجانبية يشاكسها:

- لا قلبي مافيش، كتفي بس نمل وماعدتش حاسس بيه.

استفاقت شاهقة تبعد رأسها عنه على الفور قائلة باعتذار:

- أنا اَسفة يا جاسر، بس بجد والله ماحسيتش بنفسي. 

رمقها بابتسامة مشبعة بعشقه وهو يقول:

- لا يا ستي ولا يهمك، فداك كتفي ودراعي كمان دا كفاية قعدتك جمبي يا شيخة..

شعرت بالخجل من كلماته حتى ابتسمت عفويًا وقضمت شفتها السفلى بدلالها اللطيف الذي كاد ان يذهب بعقله حتى أنساه وضعهم، انتقلت عيناها بغير قصد للجهة الأخرى فانتبهت على السهام الخصراء وهي تحدجهم بضيق، خبئت ابتسامتها على الفور بحرج وهي تعتدل بجلستها، وقد غفل جاسر عنها لرؤيته الطبيب المعالج لأبيه، اَتيًا نحوهم بابتسامة مبشرة يخاطبهم:

-  تقدروا تطمنوا يا جماعة، عامر باشا فاق والحمد لله


❈-❈-❈ 


بعد قليل كان طارق أول الوافدين للمشفى بعد ان علم من صديقه بالذي أصاب عامر الريان، بحث حتى وجدهم أمام غرفته في انتظار الدخول بعد خروج فريق الأطباء من عنده، وصل إليهم يخاطبهم بلهفة:

- السلام عليكم يا جماعة إيه اللي حصل؟

أجابه جاسر بعد ترديد لمياء وزهرة التحية:

- الحمد لله يا طارق عدت على خير، كانت أزمة شديدة بس ربنا لطف بينا .

تمتم بكلمات الحمد ثم تابع بالسؤال:

- كويس قوي يعني اقدر ادخل معاكم؟

اومأ له جاسر بعيناه وبعد قليل دلفا اربعتهم بخطوات مترددة بحرص نحو عامر المعلقة بيده الأنابيب الطبية، وشحوب وجهه مع المرض أذهب عن بشرته لونها الطبيعي.

تقدم جاسر أولهم ليتناول كف يده يقبلها بشوق قاتل يخاطبه بحرقة:

- الف سلامة عليك يا والدي، انا كنت هاموت من قلقي عليك.

أومأ له عامر بابتسامة من تحت قناع ألاكسجين الذي يتنفس به

تقدمت لميا هي الأخرى تخاطبه باكية بعتب وهي لا تصدق فرحتها بسلامته:

- سلامتك يا عامر، بس انا برضوا زعلانة منك، عشان خبيت عليا تعبك، لكن وديني يا عامر لو عملتها تاني لتشوف اللي يحصلك 

- قلبك أبيض يا ست الكل، دا احنا مصدقنا اطمنا ع الراجل. 

قالها طارق ضاحكًا من خلفها قبل أن يقترب هو الاَخر ليسأله عامر بتفكه:

- إيه يا عم الشباب ما تقوم كدة وشوف الناس النكدية دي، عليا النعمة انا من فرحتي هاين عليا أزغرط.

قالها طارق وارتسمت ابتسامة واسعة بمرح على وجه عامر كما استجاب له جاسر ولمياء وزهرة التي وقفت بزواية قريبة منهم مع خجلها للتقدم، انتبه لها عامر ليشير إليها بيده مع نظرة مشجعة منه، فاقتربت تتناول كفه هي الأخرى تقبلها قائلة بصدق حبها لهذا الرجل الذي لم تقابله سوى عدة مرات معدودة ولكن يغمرها إحساس الابوة منه:

- الف سلامة عليكِ يا عمي، ربنا ما يحرمنا منك أبدًا يارب 

تبسم لها بمودة ليربت بكفه على وجنتها بحنانه، مما أثار الغيرة بقلب لمياء التي لم تجد هذا الترحيب ولا هذه الإبتسامة منه 


❈-❈-❈ 


كانت تعدو بخطوات مسرعة نحو مقر عملها بعد أن أوصلتها وسيلة المواصلات العامة بالقرب من المبني، وجدته فجأة يظهر لها من العدم ويتصدر بجسده الضخم أمامها يقطع عنها السير بوجه متجهم يبدوا خاليًا تماما من هزله الدائم كلما قابلها، حدجته بنظرة كارهة تزفر بفمها متأففة تقول بتهكم:

- يا صباح يا عاليم يا رزاق يا كريم، هو انا اصطبحت بوش مين بس النهاردة ع الصبح؟

رد ساخرًا :

- إكيد بوشك طبًغا، لهو انتِ بتسيبي المراية أساسًا؟. 

كزت على اسنانها غيظًا من وقاحته وتبجحه معها في الحديث ، ودت لو تمطره بالسباب ولكن فضلت تجاهله لمغرفتها التامة بعدم مقدرتها على مجاراة لسانه الحاد، تحركت خطوتين فخطا هو أيضًا يتصدر لها مرة أخرى، فهتف بوجهه غاضبة :

- إبعد عن وشي يا جدع انتِ بدل ما اصرخ والم عليك الشارع كله 

تجاهل تهديدها وقال سائلًا من تحت أسنانه:

- بتخرجي مع الواد الأصفر وتروحي اماكن زي دي ليه يا بت؟ مالكيش اهل يربوكي؟

وكأنها ضُربت بمقلاة غليظة على وجهها جحظت عيناها وانفغر فاهاها بصدمة لتجادله صائحة بانفعال:

- وانت مالك انت الله يخرب بيتك؟ أهلي ربوني ولا سابوني من غير تربية، اروح ولا مروحش، كنت خطيبي ولا جوزي عشان تراقبني وتيجي تحاسبني كمان؟ مين اداك الحق ده؟

رد غير عابئ بانفجارها:

- ما حدش اداني يا عين امك، بس انتِ خليكِ مكاني، لما تشوفي بهيمة قدامك مغمية عنيها وبتجري حدف على طريق الترعة وانتِ شايفاها هاتغرق قدامك، تصعب عليكِ بقى وتحاولي توقفيها ولا تسبيها تغرق وتروح في داهية بقى مع نفسها؟

جحوظ عيناها ازداد حتى كاد أن تخرج مقلتيها من محجريهم، فكها الذي تدلى بشدة من هول كلماته، حتى أصبح وجهها يشبه الرسوم الكرتونية، فخرج صوتها اخيرًا تردد بعدم استيعاب مشيرة بسبابتها نحوها:

- أنا بهيمة؟ إنت بتقول عليا أنا بهيمة؟

أكد لها بقوله:

- أيوا بهيمة، طول ما انتِ مقفلة عقلك ده وسيباه بعفاره وترابه كدة من غير ما تنضفيه وتفهمي بقى من نفسك، تبقى بهيمة. 

تهدجت أنفاسها وهي تضغط على أسنانها بقوة لتكبح جام غضبها من هذا المستفز الذي يمطرها بالإنتقاد والتشبهات الاَزعة دون وجه حق، وحينما غُلبت على أمرها وجدت نفسها تتكتف بذراعيها تبتغي إهانته، فقالت تدعي الامبالاة:

- أنا حرة واعمل اللي انا عايزة اعمله، إنت مالك انت، ياللي اَخرك حتة بودي جارد لا روحت ولا جيت. 

اطلق ضحكة ساخرة غير مكترث لردها وقال:

- أنا حتة بودي جارد وانتِ اَخرك إيه ياست البرنسيسة؟ ولا تكونيش اتعشمتي بالواد الأصفر، لا بقى يا حبيبتي فوقي نفسك، دا كلها يوم ولا اتنين وتلاقيه مع واحدة غيرك، يعني هو بس مستني ياخد غرضه منك .

- انت قليل أدب.

هتفت بها بغير سيطرة على انفعالها:

- لا يا اختي مش انا اللي قليل أدب، دا انتِ اللي هبلة وسادة ودانك عن النصيحة وعيونك الواسعة دي بتبص كدة ع الفاضي من غير ما تشوف كويس، صدق اللي قال، عيون بقر من غير نظر.

صارت دمائها تغلي منه بقهر وفاض بها حتى أنها زامت بفمها أمامه ترفع قبضتيها في الهواء تود افراغ شحنتها الغاضبة بضربه، وصاحت بعنف:

- عليا النعمة يا إمام لو ما لميت نفسك لكون مسلطة عليك اللي يربيك ويعلمك الأدب. 

- هههه

صدرت منه بسخرية ليكمل :

- مش انا ياما اللي عايز الرباية، دا انت ناقصك اللي كفين عشان تتعلمي الأدب وتمشي ع الخط ماتعوجيش.

قالها بغضب وأعين حمراء أجفلتها منتفضة، فاستغلت هفوته وركضت هاربة من أمامه بجزع، تابعها ينظر في أثرها مرددًا بغيظ رافعًا قبضته في الهواء:

- اه يانا بس لو اتلم عليها، إيدي بتاكلني يا ناس!


❈-❈-❈ 


ظلت تسرع بخطواتها هربًا منه بخوف تملكها من نظراته الغاضبة والمتحفزة ضدها، لاتدري ماذا تفعل مع هذا الشخص الكريه، يتدخل فيما لا يعنيه وكأنه يحاول فرض وصايته عليها بغير صفة!

تفاجأت بخروج ميرفت أمامها وذهابها نحو سيارتها، لاحقتها حتى قبل أن تدلف لداخل السيارة:

- ميرفت ميرفت، كنت عايزاكي في موضوع مهم .

قالتها لاهثة بلهفة وهي تفاجأها بحضورها، فالتفت رأس الأخرى يمينًا ويسارً تخاطبها بتحفظ وصوتٍ خفيض:

- أهلًا يا غادة، واقفة كدة ليه؟ 

أجابتها بصوت لاهث

- كنت عايزة أقعد معاكِ واتكلم شوية واقولك عن الواد اللي اسمه إمام، دا بيعاكسني في الرايحة والجاية وكمان بيقول........

- خلاص يا غادة مش وقته انا ورايا مشوار مهم، خلي الكلام دا بعدين.

قالتها ميرفت تقاطعها بنزق، فتابعت الأخرى وكأنها لم تسمع:

- طب انا كنت عايزة أسألك، هو صحيح اخوكي بتاع نسوان زي ما بيقولوا؟

فاض بها ميرفت واستشاطت غيظًا منها فاقتربت برأسها تهمس من تحت أسنانها:

- أنا مالي ومال الكلام دة، دي حاجة بينك وبينه واعرفيها منه، إبعدي بقى عن الباب ووسعيلي عشان امشي، عامر الريان تعبان اوي عايز اروح اشوفه .

ابتعدت لها غادة وفور أن اعتلت ميرفت سيارتها، هتفت عليها:

- طب ممكن تاخديني واروح اشوفه انا كمان معاكِ.

تطلعت لها ميرفت بغيظ وهي تقضم شفتها السفلي بقوة لتكبح نفسها عن رد قاسي لها، ثم اكتفت بتشغيل المحرك والتحرك بسيارتها بعيدًا عن محيطها.


❈-❈-❈ 


خرج الجميع بأمر الأطباء بعد اطمئنانهم عليه، إستأذن طارق للذهاب لمتابعة عمله وتبقى جاسر وزهرة ولمياء التي جلست بزاوية تفور وحدها شاعرة بضيق يطبق على أنفاسها، بعد معاملة عامر الجافة لها رغم، كل ما حدث له وقلقها عليه طوال الساعات الماضية، ثم هذا الشعور بالغيرة الذي أصابها الاَن، نحو هذه الفتاة التي حظيت بحنان زوجها في أشد اوقاتها هي إحتياجًا له، وقبل ذلك كان ابنها الذي سرقته عن العالم أجمع، إنها حتى لا تصدق هذه المعاملة التي يعاملها بها، جاسر المتجهم الغاضب دائمًا،  يدلل ويحنو ويبتسم ، وهذه الزهرة لا تعلم ما بها، هل هذه طيبة وبراءة التي تحيطها أم أنها مسكنة وإجادة جيدة لتأدية دورها في الحصول على ما تبتغيه؟ 

ظلت على شرودها في مراقبة الزوجان الوقفان أمامها في إحدى زوايا المشفى، حتى استفاقت على لمسة خفيفة على كتفها. لتجفل برؤية ميرفت تخاطبها:

- هاي يا طنت، عمو عامر عامل إيه؟

أومأت لها لمياء تتقبل تحيتها والإجابة عن سؤالها بعد أن جلست بجوارها ميرفت والتي كانت تتحدث بموساة:

- أنتِ ما تعرفيش أنا زعلت قد إيه يا طنت بعد ما عرفت بالخبر، أقسم بالله خرجت من الشركة طوالي، وما قدرتش أكمل اليوم، عمو عامر دا معزته عندي كبيرة أوي .

ردت لميا بابتسامة ودودة لها :

- ما تحرمش منك ومن سؤالك يا حبيبتي، احنا الدكاترة طمنونا لكن بقى هو لسة في دايرة الخطر، وعايز رعاية طول الوقت، لكن انت عرفتِ منين ؟

- عرفت من كارم، أصله وصل النهاردة الشركة يمسك مكان جاسر بصفته مدير أعماله.

قالتها وهي تهزهز رأسها تدعي التأثر قبل أن ترفع عيناها نحو جاسر وزهرة فقالت بمكر:

- بس أنا بجد زعلانة على حال عمو عامر، عشان اتحرك بمشاعره وقطع رحلة علاجه بسبب جوازة، الله أعلم هاتوصلنا لحد فين بنحسها؟.

سمعت منها لميا وعيناها اتجهت نحو الجهة المقصودة ولكنها أثارت الصمت .


❈-❈-❈ 


وفي الجهة الأخرى كان التعب قد بلغ مبلغه منها، فكانت تشعر بأقدامها على وشك السقوط، ومازالت تنكر أمامه:

- يا جاسر بقولك كويسة انت قلقان ليه بس؟

تجهم وجهه يأمرها بحزم هذه المرة، وقد ضج من الجدال معها دون فائدة:

- اسمعي الكلام بقى وروحي، أنا مش فاهم إيه لزوم إصرارك العجيب ده وانتِ مش قادرة تصلبي طولك أصلًا؟

تنهدت ترد بقنوط:

- مش حكاية جدال، بس انا بصراحة مش بلعاها، ازاي يعني اروح البيت واكل وانام وانتوا هنا على أعصابكم؟ ما ينفعش يا جاسر.

أكمل بحزمه غير راضي عن مجادلتها له:

- لأ ينفع وبطلي بقى، انا ووالدتي متعودين ع السهر، انما انت شكلك تعبان بجد. روحي ياللا وكفاية كدة.

- طب إنت إمتى هاتيجي طيب؟ ما انت كمان تعبان والست والدتك برضوا تعبانة؟

قالتها وقد بدا انها بدأت تستسلم، فقال يربت على ذراعيها بحنان:

- ما تقلقيش احنا بس مستنين الدكتور الألماني اللي متابع حالته، هو أكتر واحد عارف بيها، خلاص طيارته ساعتين وتوصل. يعني مش هاتأخر عليكِ كتير.

أومأت وتحركت تتصل بسائقها ليأتي وياخذها معه، ولكنها استدركت بالمكان المتواجدة فيه، فومض عقلها بفعل ما تأخرت عنه منذ أيام، وذهبت لتسأل موظفات الأستقبال في الطابق عن معمل التحاليل في المشفى. 


❈-❈-❈ 

بعد قليل 

وقد أنتهت زيارتها ومواساة لمياء عن مرض زوجها، وقد فاجئها جاسر كالعادة بجفاء كلماته رغم فعلها للواجب معه، فاضطرت للتسريع بالذهاب، كانت تتحدث وهاتفها على أذنها وهي تقطع الرواق الطويل في اتجاه المصعد:

- يا بنتي افهمي بقى، جوز خالتك في العناية وانا كان لازم اشوفه............. جوزك خالتك مين؟ عامر الريان يا ميري، هو انتِ فقدت الذاكرة؟............. ماشي يا ستي براحتك، انا بس حبيت اقولك لو عايزة تعملي الواجب............ طب خلاص يا حبيبتي ما تزوقيش، هو انا ضربتك على إيدك........... تمام يا قلبي اشوفك بقى بالليل .

أنهت المكالمة لتضع الهاتف في حقيبتها ولكنها تفاجأت برؤية زهرة ما زالت في نفس الطابق ولم تغادر، مع تغير اتجاه سيرها، عقدت حاجبيها قليلًا باستغراب قبل أن تصل لمصعدها، قبل أن تكمل طريقها ماطة بشفتيها. 


❈-❈-❈ 


وإلى ميري التي أنهت أتصالها مع ميرفت بنزق، لتعود غير مبالية لتشغيل الموسيقى الغربية الصاخبة وترقص عليها بتهور وجنون كعادتها، أو بترديد الأغنية الهادئة نسبيًا مع تأدية الكلمات والتعبير بجسدها ويديها أمام المراَة، باندماج شديد جعلها تشرد مع كل حرف وكأنها على منصة غنائية أو على مسرح تتفاعل لًتبهر متابعيها، أخذتها الحماسة حتى تفاجأت بصاحب الجسد النحيل خلفها تمامًا، شهقت صارخة بارتياع وهي تلتف نحوه:

- بابا خضتني، انت هنا من إمتى ؟

رمقها والدها بنظرة مشمئزة رافعًا طرف شفته بصمت لعدة لحظات اربكتها، ثم ما لبث أن يتمالك غضبه وهو يشير لها بيده:

- اقفلي الزفت ده، وتعالي عايز اتكلم معاكِ .

سمعت منه واتجهت لتغلق مشغل الموسيقى، ثم جلست أمامه .

اومأ لها بذقنه نحو ملابسها يخاطبها بضيق:

- قاعدالي بالشورت والبيت كله خدم ، ما ينفعش تلبسي حاجة عدلة تحفظي بيها مقامك قدامهم. 


اعتدلت أمامه لتضع قدمًا فوق الأخرى ترد بتعالي:

- ودول إيه دول إللي هاعملهم قيمة ولا حساب كمان؟ انا ميري مش محتاجة اعرف حد مقامي .

ازداد شعور الإمتعاض بداخله منها، ليغمض عينيه عنها ويغمغم بالسباب مع نفسه وهو يحاول حفظ صحته عن الإصابة بجلطة دماغية أو شلل رباعي من حماقات ابنته التي لا تنتهي، ثم عاد إليها برأسه مقررًا الدخول في الحديث مباشرةً ، فقال بأمر:

- إنت يا بنت، عايزك تقومي تاخدي شور وتزوقي نفسك، عندنا مقابلة مهمة.

تجعد جبينها باستغراب تسأله:

- وانا مالي بمقبلاتك ؟ من امتى انا بحضر حاجات زي دي أصلًا؟

اعتدل بجلستة هو الاخر،  ينفض السيجار الكوبي الكبير، ليرد على كلماتها بنزق:

- عشان انا عايز كدة النهاردة، دا مش عشان الشغل او الوزارة، دي مقابلة خاصة، السفير فوزي شريف وابنه رائد هايحضر معاه واحتمال نتغدا مع بعض كمان.

تسمرت قليلًا أمامه بوجهها دون رد تستوعب وتتذكر تخمين ميرفت، فقالت:

- والدي هو الموضوع دا فيه تلميح لخطوبة ولا جواز.

مال بوجهه أمامها بجيب بحدة:

- تلميح! لا يا روح قلبي دا أكيد هايحصل وانا واثق ، بس اهي أمور شكليات وخلاص، ولا هما يستجروا كمان يرفضوا نسبي؟

ابتعلت ريقها تقول بتوتر:

- طبعًا هما مش هايرفضوا، بس حضرتك ناسي بقى ان انا كمان لازم يبقالي رأي ولا تجوزني عمياني؟

رد بنبرة هادئة مريبة:

- وانت ها ترفضيه ليه يا ميري؟ عشان الشكل ولا عشان الشخصية؟

- دي أو دي المهم إنك تاخد رأيي، عشان دي حاجة تخصني أكيد.، ثم انا كمان ماخلصتش عدتي، لزوموا إيه الاستعجال بقى؟

قالتها ميري لتفاجأ بعاصفة غاضبة من أباها الذي هدر عليها بصيحته:

- لزوموا إني عايز ارفع راسك من تاني بعد ما بن الريان ماخلى شكلك زبالة وطلقك عشان بنت سكرتيرة ولا تسوى؟

أشاحت بوجهها عنه وقد اَلمتها حقًا كلماته فتابع يردف:

- جوازك هايتم من رائد تاني يوم عدتك بعد ما تخلص، انا مضمنش الظروف، خصوصًا والوزارة دلوقت بقت على كف عفريت، انا بيوصلني معلومات وعارف ان دا ممكن يحصل في التعديل اللي جاي.

شهقت بدون صوت لتسأله بعدم تصديق:

- يا نهاري، معقول يا دادي دا يحصل وترجع إنت  إنسان عادي؟ ومبقاش انا بنت الوزير؟

كشر بوجهه أمامها يخطبها بضيق وابتسامة صفراء:

- اه يا حبيبتي، ممكن اوي الكلام دا يحصل وفي اقرب وقت كمان، عشان كدة بقى احنا لازم نسرع بموضوع جوازك ده، وتبقي مرات السفير .

أومأت برأسها وهي تستوعب فحوى كلماته، تعلم أن والدها بإصراره بهذا الزواج لا يقصد مصلحتها وحدها، وإنما تاتي مصلحته هو أولًا، في تبيض وجهه بمصاهرة تعيده للصورة من جديد بعد ان تنطفئ عنه الأضواء، وتضيع منه السلطة.  


❈-❈-❈ 

خرجت ميرفت من المصعد لتضع النظارة السوداء على عينيها في طريق خروجها من المشفى، حتى تغادر وتعود لعملها وقد فعلت ما يقول عليه الواجب،  أمام جاسر ووالدته، كانت تسير مسرعة بخطواتها ولكنها توقفت فجأة على سماع الصوت المألوف لأذنيها والذي صاحبه بعض الضحكات العالية ليزداد الشك بداخلها، فاستدرات بكليتها لتقطع الشك بالقين، وقد كان، حينما رأته أمامها يتضاحك مع بعض الرجال الموظفين في المشفى .

توسعت عيناها بتركيز شديد وعقلها ومض في كل الاتجاهات فور تذكرها كل الاَحاديث القديمة والأقاويل، فارتفعت عينيها غريزيًا نحو الأعلى ثم عادت تردد اسمه ببهجة نبتت على الفور بداخلها:

- عماد!

الفصل الرابع والأربعون 


وسط الزملاء من عمال المشفى وموظفيها كان يتضاحك ويتفكه بالحديث المرح معهم، وفنجان قهوته بيده، حتى أنه من الاندماج لم يلحظ هذه الواقفة بالقرب منهم، بهيئتها الراقية لفتت انتباه الرجال، فلكزه أحدهم كي ينتبه، فاستدار بجسده ليراها أمامه عن قرب، تسمر محله وخبئت ضحكاته لعدة لحظات بعد أن عرفها، قبل أن يتحرك بخطواته نحوها على تردد:

- ااا السلام عليكم.

القى التحية وردت هي بأسلوبها الناعم دائمًا:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ازيك يا عماد هو انت مش عارفني؟

تبسم باضطراب ليرد غير مستوعب ما يراه أمامه منها من تواضع في رد التحية وبل وسؤالها عنه وعن أحواله، رغم معرفتها الضعيفة والسطحية جدًا به:

- لا حضرتك طبعًا وهل يخفى القمر، انتِ ميرفت هانم، بس انا بقى اللي مستغرب انك تفتكري موظف غلبان زيي، خرج من شركة الريان بقالوا شهور. 

رفعت النظارة السوداء عن عينيها لتُظهر التعاطف في كلماتها إليه:

- ازاي بس ما افتكركش؟ هو انت ناسي انك صلحتلي الكمبيوتر بتاعي قبل كدة، انا منساش اي وش شوفته أبدًا خصوصًا لما يكون إنسان على خلق زيك، دا غير كمان يعني.....

صمتت قليلًا لتبدوا وكأنها تبحث عن كلمات، قبل أن تستطرد بلهجة خبيثة:

- بصراحة انا مقدراش انسى الظلم اللي وقع عليك من جاسر الريان لما ضربك وطردك قدام الموظفين كلهم من غير سبب .

أظلم وجهه بعد تذكيرها الصريح لما حدث له من هذا الرجل ومازال يترك في قلبه وجيعة حتى الاَن، ولا يظن أنه سيشفى منها أبدًا، فرد بنبرة تحمل بداخلها الألم مشمول بإحساس الظلم الذي يشعر به:

- ربنا ينتقم منه بقى، طردني ظلم من شركته بعد ما خطف مني حب عمري، واتجوزها غصب عنها منه لله.

انتبهت لعبارته الأخيرة فانطلقت برأسها إشاراتٍ لحديث مشوق، فتمالكت لتسأله بنبرة تبدوا عادية رغم اللهفة الشديدة بداخلها:

- خلي بالك من كلامك يا عماد، إيه اللي انت بتقوله ده؟ وهو جاسر الريان هين عشان يتجوز سكرتيرته غصب عنها؟

تشدق لها قائلًا بانفعال حقيقي من واقع ظنه:

- عليا النعمة زي ما بقولك كدة، الباشا اتلم على والدها وربط معاه بغير رضاها، انا عارف انها كانت بتحبني، غادة بنت عمتها أكدتلي بكدة لما حكتلي، بس هي قالتلي انه راجل عربي ومقالتش على إسمه أكيد من الخوف.

شعور بالفرحة غمرها غير طبيعي وهي تردد بداخلها، 

- حبيبتي ياغادة، حبيبتي!

أما هو فاستطرد:

- على العموم انا سيبت عزبته اللي فرحان بيها وربنا كرمني بشغل هنا في المستشفى، لكن حقي في سرقة اللي بحبها لا يمكن هاسامح فيه.

رسمت على وجهها التأثر مع قصته، رغم دفوف الفرح التي تدوي بداخلها بصخب يجعلها تود الرقص بوسط المشفى وأمام الجميع، وردت برزانة:

- أكيد طبعًا الأرزاق على الله، بس انت ماقولتليش، 

شغال إيه هنا بقى؟

أشار لها بيده الحرة نحو إحدى الغرف القريبة:

- انا بشتغل هنا بوردية الصبح، مراقب ع الكاميرات اللي بتشمل المستشفى كلها.

ذهبت بأنظارها نحو الغرفة التي يشير إليها، قيمتها سريعًا بنظرة متفحصة قبل أن تعود إليه، تعتلي وجهها إبتسامة مصطنعة تردف له بدعم:

- يا ماشاء الله، ربنا يوفقك بجد، انت تستاهل كل خير، هاتصدقني لو قولتلك اني ضميري كان مأنبني دايمًا عنك، وكان نفسي الاقيك وامسكك أي شغل يخصني، بس انت قولت الارزاق على الله، ربنا يوفقك.

استجاب يرد لها بابتسامة ودودة:

- ربنا يبارك فيكِ يا هانم، صحيح على رأي اللي قال، صوابع الإيد مش زي بعضها، يعني شوفي اهو انتِ متواضعة ازاي؟ وصاحبنا دوكها مفتري ازاي؟ مع أنكم من نفس الطبقة.

أردفت تنهي حديثها بالسؤال الأهم برأسها قبل تستدير وتتركه:

- عماد هو انت لو جاتلك الفرصة عشان تقابل زهرة، هاتحاول تاني معاها؟ ولا انت خلاص استسلمت للأمر الواقع؟

أجابها على الفور بحميتهِ القديمة وتهوره الذي أدى لصرفه من العمل قبل ذلك:

- أكيد طبعًا هاكلمها واحاول معاها تاني، دي وحشاني قوي وجاسر الريان فارض عليها حراسة ومضيق عليها من الكل النواحي عشان ماتخرجش من إيده ولا عن طوعه، بس انا حاسس إنها لو لقت فرصة ممكن تحاول المرة دي وتختار اللي هي عايزاه، ياما نفسي تتخلى عن خوفها وماتبقاش بقى جبانة كدة على رأي غادة .

- تاني غادة.

غمغمت بها مرة ثانية بداخلها قبل أن تنهي المقابلة معه وتكمل بابتسامة منتشية 

- انا قولت من الأول، حبيبتي والله .


❈-❈-❈


وصل إلى مقر عمله بخطوات مهرولة يصعد الدرجات الرخامية ثم إلى المصعد حتى الطابق المنشود ، يُمني نفسه برؤيته بعد غيابها بالأمس؛ الذي اظلم العالم بعينيه وجعله يُحصي الدقائق والساعات الطويلة حتى يمضي هذا اليوم الكئيب بدون رؤيتها، 

وصل غرفتها بقلب يضرب بسرعة تجعله يريد القفز من صدره حتى يسبقه في رؤيتها، 

أطرق بخفة على باب غرفتها قبل أن يدفعه بمرونة ليلج إليها بالداخل ، جالسة على مكتبها بهيئتها العملية تعمل على بعض الملفات أمامها تخطف الأنفاس بروعتها وجمالها الاَسر، جاهد للسيطرة على لهفته الشديدة نحوها في إلقاء التحية:

- صباح الخير.

ردت بعملية وكأن شيئًا لم يحدث بينهم قبل ذلك مع رفع رأسها أليه بنظرة سريعة:

- صباح الخير اتفضل يا طارق؟

تقدم ليجلس أمامها وقال في مباردة لبدء حديثه معها:

- حمدلله ع السلامة، يارب يكون سبب الغياب خير .

رفعت رأسها إليه تجيبه :

- خير يا طارق والحمد لله، شكرا ع السؤال.

شعر بعدم الإرتياح مع كلماتها المقتضة في الحديث تحمحم يجلي حلقه، وقال متابعًا لفتحه موضوع اخر :

- انا بقى اتأخرت النهاردة بسبب قهري لو لسة ما تعرفيش يعني، عامر باشا والد جاسر تعب أوي الليلة اللي فاتت واتنقل ع المستشفى،

- يا نهار أبيض معقول؟ طب هو عامل إيه دلوقت؟ 

سره انتباهها لحديثه، فاستطرد يسترسل

- لا الحمد لله الموضوع عدى على خير، انا لما سمعت الصبح، خطفت رجلي وعلى طول روحت اشوفه، هو عدى مرحلة الخطر خلاص، بس لسة بقى المشوار طويل في علاجه. 

- ان شاءالله يعدي على خير دا كمان، 

تمتمت بها لتكمل بعد ذلك سائلة:

- بس انا مستغربة اوي، ان زهرة ما قالتش ولا اتصلت .

رد يحادثها بتأثر:

- ما هي باتت ليلتها في الإنتظار مع جوزها يا كاميليا، أكيد يعني مش هايجي في بالها تقلقلك معاها.

أومأت رأسها بتفهم لتسبل أهدابها أمامه صامتة ، فلم يقوى على التهرب أكثر من ذلك، فقال يعبر عما بصدره نحوها:

- كاميليا انا عايز اعتذرلك عن موقف الليلة، انا كنت شارب وفقدت السيطرة على مشاعري، لكن والله انا اتغيرت عن الاول و........

- خلاص يا طارق، كفاية بقى مش عايزة اسمع السيرة دي تاني، انا ما صدقت نسيت ومش عايزة افتكر تاني

قالتها بمقاطعة سريعة؛ جعلته يكمل بحماس:

- كوبس قوي الكلام دا عشان انا كمان مش عايز افتكره، كاميليا انتِ غالية عندي قوي وانا لا يمكن اقصد أهينك ولا اقل من قيمتك، ارجوكي حطي الكلام دا كويس في بالي، دي غلطة ومش هاتتكرر تاني، انا لا ........

- خلاص يا طارق عرفت، اسمعني انت بقى.

قاطعته للمرة الثانية ولكن هذه المرة لتوقفه حتى تستطيع قول ما تريده، ازدردت ريقها بتوتر يكتبنفها منذ جلوسه أمامها، ثم قالت بثبات مزيف

- انا روحت جيبت الشبكة امبارح ويةن الخميس الجاي ان شاء الله، هاتبقى خطوبة رسمي وكتب كتاب.

قالتها وانتظرت لترى رد فعل منه على صفحة وجهه، ليخيم الصمت بينهم لعدة لحظات؛ ظلت بهم مترقبة وهو يبادلها النظر وكأن لسانه انعقد عن الرد أو درجة استيعابه أصبحت صفر حتى لا يفهم ما قالته، أو هي الصدمة التي تخطف الشخص عن الواقع لمدة من الوقت قبل أن يشعر بأثارها، وبين هذا وذاك ، باغتها فجأة بمباركته :

- الف مبروك، ربنا يتم بخير. 

لفظ عبارته ونبض فجأة مغادرًا يتركها بحالة من التخبط وألم شديد يضغط على صدرها، ويجثم على أنفاسها بثقل يكاد ان يخرج بخروج روحها من الجسد


❈-❈-❈


خرجت من المصعد بعد أن هبطت به للطابق الأرضي، في طريق خروجها للعودة لمنزلها، تفرك بأبهامها على ساعدها الذي انسحبت منه عينة التحاليل التي قامت بها منذ قليل، اتصلت بسائقها الذي أخبرها أنه في انتظارها في السيارة، ولكن وقبل أن تقطع الرواق الاَخير، تفاجأت بإحداى الفتيات توقفها:

- زهرة هانم زهرة هانم.

التفت إليها تسألها بأندهاش:

- إنتِ بتندهيلي أنا؟ 

أجابتها الفتاة بلهجة مؤكدة 

- أيوة حضرتك مش انتِ برضوا مرات جاسر الريان؟

أومأت لها زهرة برأسها فتابعت الفتاة:

- طب حضرتك في واحدة هانم منتظراكِ هناك في الأؤضة اللي في وشك دي، هي اللي نبهت عليا عشان اندهلك.

قطبت تسألها باستغراب:

- هانم مين دي اللي هاتسأل عليا هنا في المستشفى؟

أجابتها الفتاة على حسب ما حفظت:

- أنا معرفش إسمها، بس هي ست كبيرة وشكلها حلو .

- ست كبيرة وشكلها حلو ؟

رددت خلفها باستفسار، فردت الفتاة وهي تحرك كتفيها:

- أيوة يا فندم زي ما بقولك كدة، عن إذنك بقى .

تابعت زهرة تنظر في اثر الفتاة التي انصرفت من أمامها، تفكر بحيرة عن هوية المرأة التي تريدها، خمنت بتعجب مع المواصفات التي ذكرتها الفتاة؛ أن تكون لمياء التي تركتها قبل قليل أمام غرفة زوجها المريض هي من تريدها؟ ولكن لما فضلت الإختلاء بها بعيدًا عن جاسر؟ في خضم التساؤلات الكثيرة برأسها لم تجد سوى أن تذهب بنفسها وتتأكد.


❈-❈-❈


وصلت إلى الغرفة المذكورة تطرق بخفة على الباب الذي اندفع على الفور معها، فولجت لداخلها تهتف بتوتر:

- مساء الخير، حد موجود هنا؟

قالتها وعيناها تتلفت في الأنحاء بحثًا عن المرأة المذكورة؛ لتجفل على الفور برؤية اَخر شخص تتوقع رؤيته؛ والذي انصعق بدوره لرؤيتها، ونهض عن كرسيه من أمام الشاشات الكثيرة قائلًا بعدم تصديق:

- مش معقول! هو أنا بحلم ولا بيتهيألي؟ آنتِ يا زهرة ياللي واقفة قدامي؟ ولا انا شوقي ليكِ عملي هلاوس ولا إيه بس؟

كان يتفوه بالكلمات وهو يتقرب منها ليتأكد من رؤيتها، عكسها هي التي ارتجفت ودب في قلبها الخوف بقلقٍ امتزج بذهولها لرؤيتها المفاجأة له، وعيناها انتقلت على الفور نحو باب الغرفة تريد الذهاب .

أومأت له تهز برأسها بحركات غير مفهومة وهي ترتد بأقدامها للخلف، فباغتها بغلق الباب بقفزة سريعة منه جعلتها تخرج عن صمتها صارخة:

- إنت قفلت الباب ليه؟ إفتح الباب يا جدع انت.

خطا نحوها يخاطبها بلهفة أذهبت الحكمة عن عقله:

- عايزة تخرجي وتمشي ليه؟ هو انا لحقت اتكلم ولا حتى اسلم عليكِ؟

ازدردت ريقها بصعوبة تحاول التماسك وردت بصوت فضحه الإهتزاز:

- أنا لا عايزة اتكلم ولا اسلم حتى يا عماد، سيبني اخرج وامشي أحسن. 

تابع بتقدمه نحوها مدفوعًا بصدمته من كلماتها:

- تاني يا زهرة، عايزة تهربي مني وتنكري اللي حاساه جواكي ناحيتي، فيه إيه؟ هو الراجل ده بيعذبك ولا ماسك عليكِ ذلة، عشان يخوفك الخوف دا كله؟  

- خوف وكلام فارغ إيه إللي بتقوله، مالك انت باللي بيني وبين جوزي؟ افتح الباب يا عماد وبلاش جنانك ده، أنت بعتلي هنا ليه أساسًا؟

هتفت بكلماتها علّه يسمع ويعود عن تهوره، فما كان منه إلا ان ازداد هياج صوته وهو يواصل التقدم نحوها وهي تواصل التراجع:

- انا ما بعتلكيش، إنتٍ اللي جيتي برجليكِ لوحدك عشان تشوفيني، وبرضوا بتلفي وتحوري في الكلام، أنت إيه يا شيخة فاكراني غبي ومش هافهم؟ 

تلجم لسانها عن الرد عليه مع هذه الحدة المفرطة منه ، وقد توسعت عيناها بذهول وخفقت دقات قلبها بتسارع شديد مما بدر لذهنها من مخاوف تتواتر لرأسها مع اقواله الغريبة وهو يتحدث بثقة غير مفهومة، بالإضافة لغلقه باب الغرفة عليهم، ليزداد الخوف بداخلها مما قد يحدث لو علم زوجها بهذا الحديث، وهي الأعلم بحجم غيرته الشديدة رغم حنانه المفرط. 

جاهدت لتخاطبه بثبات ونبرة هادئة لمهادنته رغم عواصف الغضب التي تدور نحوه بداخلها:

- طب ممكن توسع كدة من قدامي، الباب مقفول علينا والمنظر مش حلو .

تسمر غير قادر على الحركة يتطلع إليها بشوق جارف بعد أن هدأت نبرتها معه وعادت لرقة حديثها الدائم، وقد أعادته إلى ذكرياته السعيدة معها في العمل السابق، فخرج صوته بتحشرج يغمره العتاب:

- وحشتيني أوي يا زهرة، رغم كل الوجع اللي شايله جوايا منك، لكن والله قلبي ما قادر يقسى ولا ينساك أبدًا.

عند هذه النقطة واحتدت عيناها زهرة لتُظهر القوة أمام هذا المعتوه لتُنحي مشاعر الشفقة التي دائمًا ما تشعر بها تجاهه، وقالت بقسوة تدعيها أمامه:

- لو ما فتحتش الباب دا حالًا او بعدت عن وشي ، انا هاتصل بجوزي او الحراس بتوعي يجوا يعلموك الأدب.

قابل تهديدها بابتسامة مستخفة يرد عليها:

- والنبي أيه؟ يعني انتِ تيجيلي الأوضة عشان تبصي عليا وتشوفيني واما اجي انا اكشفك، واكشف خوفك يا جبانة بتهدديني انك هاتكلمي المحروس جوزك، طب وريني كدة.

وصل احتقانها منه لأقصاه، ولم تعد بها قدرة على مهادنته، تناولت هاتفها من الحقيبة أمامها قائلة بتهديد اَخير قبل التنفيذ رغم عدم نيتها بمهاتفة زوجها نفسه:

- سامحني يا عماد بس انت اللي اضطرتني لكدة.

راقبها غير مصدق حتى راَها تضغط على زر الأتصال، فاشتعل غيظه ليدفع الهاتف من يدها حتى أسقطه أرضًا فصرخت بوجهه غاضبة:

- إنت اتجننت با عماد اقسم بالله اصرخ وألم عليك المستشفى كلها.

- لمي الناس واعملي نفسك مش فاهمة ماهي دي أخلاق العبيد. 

قالها هادرًا بغضب قبل أن يستدير مجفلًا على دفع باب الغرفة بقوة، ليطل أمامه جاسر الريان بغضب وحشي صائحًا:

- إبعد عنها يا حيوان. 

شهقت زهرة بذعر مع دخول زوجها، الذي لا تعلم كيف عرف بمكانها رغم مغادرتها له منذ وقت ليس بقليل، عكس عماد الذي ظل على جموده يراقب تقدم جاسر الريان نحوه بتحدي غبي، رغم تحفز الاخر وهيئته التي تثير الرعب بقلب من يراه.

- الباب كان مقفول ليه؟

قالها جاسر بهدوء ما يسبق العاصفة، وكان رد الاخر بكل برود :

- عادي الهوا هو اللي قفله 


❈-❈-❈


لطمت زهرة بكفيها على وجنتيها بارتياع فهذا الأحمق يتعمد استفزاز زوجها الغاضب من الأساس غير أبهًا بما قد يفعله في هذه اللحظة التي يوشك فيها على قتله، ومعه حق، تقربت تمسك بذراع جاسر حتى تبعده لتصرف عنه شياطينه:

- تعالي نخرج يا جاسر، وسيبك من البني اَدم المجنون ده .

اوقفها بنظرة نارية يشيب لها الولدان من عمق النيران المتأججة بداخله فالتصق لسانها بسقف حلقها غير قادرة على الإكمال، لتلتف رؤسهم فجأة على قول عماد :

- دلوقتِ بقيت مجنون يا زهرة، وجوزك بقى هو العاقل؟ بعد ما اتجوزك بنفوذه وخطفك من اللي بتحبيه وبيحبك.

صرخت بوجهه بقهر:

- اخرس يا أخي حرام عليك، بطل افترا .

ردد عماد ساخرًا:

- أيوة أيوة كملي، مش قولتلك دي أخلاق العبيد.

وكأن بيده أشعل الفتيل، لم يقوى جاسر على المقاومة أكثر من ذلك ، فهجم عليه يطلق وحوشه الساكنة بداخله نحو هذا المدعو عماد، وانقض يكيل له باللكمات والضربات حتى دفعه بقوة على احد الشاشات لتقع على الأرض مهشمة وهو بجوارها وجاسر فوقه لا يعطيه فرصة للرد وزهرة بالقرب تصرخ ليتركه حتى لا يتسبب بقتله، حتى امتلأت الغرفة بالبشر التي تجمعت على الصرخات، واندفع موظفي المشفى والأمن يرفعوه عنه بصعوبة، بعد أن امتلأ وجه الاخر بالدماء، وقف يلهث من فرط غضبه شاعرًا بالرغبة الشديدة في العودة لإكمال ما يفعله

وزهرة تبكي محلها وعلى وشك الإنهيار، دلف مجفلًا مدير المشفى ومعه عدد من الرجال قاموا بصرف الجميع من الغرفة، ولم يبقى سوى جاسر ومعه زهرة، 

وعماد في الأرض يحاول النهوض برفقة رجلي أمن من موظفي المشفى. 

تسائل مدير المشفى بصوت جزع:

- معلش يا جاسر باشا، احنا جينا عالصريخ وكنا عايزين نعرف باللي حصل؟

نزع جاسر ذراعي الرجال عنه ليجيب بحدة:

- الكل..... ده كان بيتحرش بمراتي .

قالها والتفت الوجوه نحو زهرة التي تماسكت لترد:

- أيوة فعلا هو دا اللي حصل، حتى بالأمارة رمي من إيدي التليفون لما حبيت اتصل بجوزي أو البودي جارد بتوعي .

دنى الرجال نحو الجهة التي تشير إليها، ليتيقن الجميع من صدق حديثها مع رؤية الهاتف أسفل احد المقاعد ، تناوله احد الرجال ليُعطيه للمدير الذي بدوره ناوله لزهرة، يكرر الأسف والاعتذار مع الوعد على محاسبة الموظف بصرفه من العمل، فهدأ غضبه قليلًا ليسحب زهرة من يدها ويخرج بها من الغرفة بصحبة المدير الذي ظل يثرثر بكلمات الاعتذار حتى ينأى بنفسه وبالمشفى عن غضب جاسر الريان لما يمثله من مكانة هامة بالدولة، ومازالت بعض التجمعات الفضولية متناثرة في رواق المشفى تترقب وتتابع حتى أجفل الجميع حتى جاسر وزهرة ومدير المشفي، على الصيحة القوية التي جعلتهم يلتفوا برؤسهم نحوه وهو خارج من الغرفة باَلام جسده يستند على الجدران :

- للمرة التانية برضوا بتسبب في قطع عيشي، يا ظالم يا مفتري، مش كفاية انك خطفت حب عمري وغصبتها على الجواز منك، ولا إيه يا ست زهرة؟

فجأة تحولت كل الوجوه بالنظر نحوها بتساؤل عن صحة قوله، وهي مصدومة تشعر وكأن أحدهم نزع عنها ملابسها لتصبح امام الجميع عارية، تحفز جاسر وتحرك لاستكمال مايفعله حتى لو أدى لقتل هذا الأحمق ولكن زهرة لم تمهله فكل ما حدث كان أكبر من طاقة احتمالاها لتسقط مغشيًا عليها على الأرض، قبل ان تلحقها ذراعي زوجها.


  ❈-❈-❈


والى مكان آخر 

حيث الشركة التي يعمل بها خالد، وقد استدعاه مديره إلى مكتبه، دلف يصافح الرجل بكل احترام ووقار لسنه، كما رحب به الرجل قبل أن يجلسه أمامه قائلًا:

- اهلا أهلا يا عم خالد نورت مكتبنا المتواضع. 

اومأ له خالد بابتسامته المشرقة:

- دا نورك والله يا فندم، ربنا يبارك فيك ويسعدك. 

- ويبارك فيك انت كمان يا بني، حقيقي رغم صغر الفترة اللي قضيتها معانا، لكنك اثبت جدارة أحسن من ناس بقالها سنين شغالة معانا .

قالها الرجل بمدح صريح أخجل خالد الذي رد بابتسامة ممتنة على كلماته يشكره:

- تسلم دا من أصلك من الطيب، انا ما مش بعمل أكتر من شغلي، دي لقمة عيشي يعني لازم احس انها حلال ومن عرقي .

تبسم له الرجل بإعحاب حقيقي يقول له:

- لو كل الناس شافتها زيك كدة، كان حاجات كتير في البلد دي، ياللا بقى خلينا في المهم.

سأله خالد باستفسار:

- إيه هو المهم يافندم؟

أجابه الرجل على الفور :

- خبر حلو يا خالد، الشركة بتاعتنا قررت تخفف عن الموظفين في الشركة وتخصص عدة وحدات بتتمن مخفض، يعني مقدم بسيط وقسط كل شهر على قد مقدرة الموظف ومرتبه. 

حرك رأسه خالد بعدم فهم او تصديق، فتابع الرجل:

- يعني قدم اوراقك يا عم خالد وان شاء تبقى من تتقبل ضمن المجموعة الأولى، اصلهم هايقسموها لدفعات ، 

قطب قليلًا بتفكير ثم قال بتردد:

- هو الخبر الحلو بس معقول ها يقبلوني؟ انا عارف حظي!

شاكسه الرجل بقوله:

- حظ إيه ياعم خالد ؟ دول جاعلين الأولوية في القبول للناس اللي ظروفها صعبة والعرسان ، هو انت برضوا مش من ضمن العرسان وخاطب حسب ما اسمع؟

رد بضحكات مضطربة مع فرحته الشديدة :

- اه عرسان والله العظيم عريس


❈-❈-❈


على طاولة السفرة التي جمعتها مع ابيها ووالدتها ، كانت تتناول طعامها بشرود مع كل كلمة تفوه بها هذا الحارس اللزج المدعو إمام، قليل الزوق وعديم الاحساس، يفرض نفسه ويوبخها بالكلمات القاسية، وكأنه وصياً عليها! تلعن اليوم الذي رأته فيه، ولكن كلماته اصابتها بالقلق، خصوصًا مع هذه التصرفات الغريبة التي تجدها من ماهر، هي رأت بنفسها انفتاحه وتحرره، وجرأة تصرفاته مع الفتيات ومعها هي أيضاً؛ فهي ليست غبية حتى تتغاضى عن شئ كهذا، قد لمسته منه بنفسها، ولكن ما الجديد؟ فهو مثل جميع الرجال من طبقته، ممن يملكون متع الحياة كالمال والشباب والصحة، ولماذا تذهب بعيدًا فجاسر الريان كان كذلك وطارق أيضًا، فلماذا إذن تصعب على نفسها أو تغلق الباب في وجهه؟ هي لابد لها من التريث حتى تصل إلى ما تتمناه، فإن كان هذا طبعه حقًا، فهي ليست لقمة سائغة له، بل هي ذكية وتعرف كيف توقفه عند الوقت الازم للإيقاف، مدامت تشعر بإعجابه بها فلتستغل هذه النقطة لصالحها، وكما نصحتها والدتها قبل ذلك ( شوق ولا تدوق) سوف تفعل وتسير على النهج حتى يأتي صاغرًا يطلب يدها، فهي ليست بهينة أبدًا بل هي غادة بنت آحسان.

خرجت أفكارها الأخيرة بصوت لفت أنتباه والديها ، فسخر عليها أبيها بقوله:

- اسم الله عليها يا حيلتها، انتِ بتكلمي نفسك يابت؟

لوت ثغرها وهي تنحي بجانب وجهها عنه صامتة عن الرد، قبل أن تجفل على نظرات والدتها الحادة هي الأخرى ، فقالت لتهيهم عن مراقبتها:

- سمعتي ياما باللي حصل النهاردة؟ 

لم تجيبها إحسان بل ظلت تحدجها بهذه النظرات الثاقبة وكأنها تكشفها، تابعت غادة رغم اضطرابها:

- الدنيا كانت مقلوبة عندنا في الشركة، حكم عامر الريان ، حما بنت اخوكي بيقولوا عليه تعبان اوي وشكله هايفلسع. 

سمعت منها إحسان تزوم بفمها ساخرة ثم قالت بمكايدة:

- ايوة يا ختي أيوة، افقعيلي مرارتي أكتر ما هي مفقوعة، على كدة كل العز والهيلمان هاتورثوا زهرة مع جوزها، هو كدة محروس اخويا على قد طبعه العفش ومشيه العوج لكنه دايمًا محظوظ

تدخل والدها أيضًا رغم عدم فهمه لمغزى كلمات زوجته:

- أيوة يا اختي، دا كفاية اللي اتعمله عشان يخرج من مصيبته وتلزق في فهمي سنارة ودلوقتي بقى بيستجم في مصحة بهواتي ياكل ويشرب وينام على كيفه.

مصمصت إحسان بشفتيها لتكمل بغيظ اثار حنق غادة التي يصلها مغزى كلماتها:

- أرزاق.


❈-❈-❈


على صخرة كبيرة في منطقة مختصرة عن الأعين بجوار البحر، كان جالسًا، ذراعًا متشبثة بالسنارة التي ألقاها منذ فترة في المياه لانتظار أن تأتي بفريسة من طعام البحر تبتلع الطعم منها، واليد الأخرى كانت ممسكة بالهاتف على أذنه يتابع مع أحد صبيانه اخر الأخبار في حارته بحديث كان محتدً بعصبيته:

- يعني لساها برضوا الحكومة بتراقب؟............ يقبضوا على مين يابا دا بعينهم ......... امممم........... طب خليك انت كدة دايمًا مراقب وعينك صاحية وأي حركة تبلغني بيها واما اشوف انا إيه أخرتهم معايا......... تشكر يا سيحة ما انا عارف ان ورايا رجالة بتسد......... ماشي يانور عيني سلام .

انهى المكالمة ولسانه يغمغم الكلمات بغيظ:

- ماشي يا ولاد ال.... فاكريني لقمة طرية وهاقع بسهولة، لكن وحياة شرفي لكون واخد حقي من الكل واولهم جاسر الريان نفسه، بس تهدي الدنيا شوية وتخف المراقبة ، ان ما عرفتكم كلكم مين فهمي سنارة، ما بقاش انا .


❈-❈-❈


أمام جسدها الساكن على التخت الطبي في المشفى التي لم يتمكن من مغادرتها بعد سقوطها مغشيًا عليها أمام التجمع البشري الذي شهد على المشاجرة وكلمات المعتوه الاَخر، الذي أراد أن يفتعل فضيحة له ولأسم عائلته العريق بأقواله، لا يستوعب حتى الاَن ماحدث، يشعر بالشلل في عقله فاقدًا القدرة على الفهم، إن كان هذا مقصودُا، ام انه محض صدفة، ام انها فعلًا كانت تكن شعورًا لهذا الشخص، يشعر باندفاع الدم بأوردته وكأنها حمم مغلية، يكتنفه امتنان كبير بداخله على غياب وعيها عنه وقت هذه اللحظات العصيبة، وقد تجنبت غضبه الكاسح وقتها، الله وحده الأعلم كم كان سيصبح قاسيًا برد فعله معها، 

اعتدل بجلسته يتناول الهاتف، ليتطلع بهذه الرسائل التي تواترت على هاتفه قبل ما حدث من هذا الرقم الفريب، واحدة تحذره من خيانة زوجته، والأخرى تخبره بلقاء حبيبها القديم، تجاهل الاثنان ولكن مع ورود الثالثة وهي تُنبئه عن مكان تواجدها بهذه الغرفة مع هذا المدعو عماد في نفس المشفى، لم يتمكن من كباح أقدامه عن التحرك مع ذكر هذا الأسم البغيض، والأن وقد حدث ما حدث بعد اخذ وقتٍ بالتفكير، يتسائل بعنف عن هوية المرسل؟ وعن مقصده بإرسال الرسائل إليه؟ وهل هو قريب أم بعيد؟


رفع رأسه على أصوات تصدر منها مع بدء إفاقتها، ظل على جلسته المتحفزة نحوها، يراقب عودتها لوعيها تدريجيًا حتى التقت عيناها بخاصتيه لعدة لحظات ، جعلتها تتذكر كل ما حدث، مع رؤيتها تجهم وجه القديم وانعقاد حاجبيه بشدة، لتعلم بحجم غضبه مع شعورها بالظلم الذي وقع عليها بقول هذا المعتوه وتسببه لفعل فضيحة لها أمام افراد المشفى من موظفي وزائري المرضى، اشاحت بوجهها عنه لتنطلق في موجة بكاء حارقة، واضعة كف يدها على فمها تكتم شهقاتها عنه، 

وصل إليها صوته الغاضب متسائلًا:

- بتعيطي ليه؟

استمرت ببكائها ولم تقوى على الرد، مع علمها بسوء ظنه نحوها الآن والشك الذي سينتابه مع هذا الوضع، وهذا الكلام الذي سمعه، هتف مرددًا مرة أخرى بحدة مع اقترابه منها:

- بقولك بتعيطي ليه؟ مش تردي ؟

حاولت التوقف عن البكاء ولم تستطيع، فردت ما بين شهقاتها:

- وأيه فايدة ان اقولك، ما انت أكيد ظنيت السوء وانا ربنا وحده العالم ببرائتي.

- اتعدلي وبصي عليا وخلي عينك في عيني .

كان قد وصل إليها وأصبح بقربها تمامًا، فالتفت هي إليه، تحاول التماسك لمواجهة غضبه بشجاعة البرئ للدفاع عن نفسه:

- أيوة يا جاسر قول اللي انت عايزه أنا عايزة أسمعك، بس عشان تبقى عارف، انا مستعدة احلف ع المصحف دلوقتي إني من ساعة ما اتجوزتك، دي أول مرة اشوفه فيها ، واول مرة اعرف انه شغال هنا

سمع منها ثم دنى بجسده نحوها بتأني مريب يسألها :

- امال روحتيلوا الأوضة ازاي وانت مش عارفة؟ دخلتي عنده في غرفة مراقب الكاميرات ليييه؟

صرخ بالاَخيرة جعلها تحرك رأسها بانهيار وقبل ينطق فاهاها وجدته يردف بغضبه:

- خرجتي من عندي قبلها يجي أكتر من ساعة والسواق كان مستني يروحك، كل ده كنتي معاه؟

- يا جاسر اسمعني الاو.....

- اسمع إيه؟

صرخ بها يقاطعها غير اَبه بانهيارها ، فنيران قلبه جعلته غير قابل للسماع او السماح:

- نبهت عليكِ من قبل الجواز، البني اَدم ده تقطعي معاه ، عشان كنت شايف بعيني نظراته وإعجابه بيكِ، طردته من شركتي وعجلت بجوزانا عشان أوقف محاولاته معاكِ، على ظن انك مش بتبادليه شعوره، تقدري تقوليلي دلوقتي وبصراحة، ظني كان صح ولا غلط ؟

أومأت برأسها مع شهقاتها المتعالية من البكاء، فهدر كالمجنون يضرب بقدمه على أرجل التخت في الأسفل، يفرغ جام غضبه به:

- امال جايب هو الثقة دي منين؟ بيأكد ويصرخ قدام الناس ان غصبتك على جوازي وخطفتك منه ، كلامه صح ولا كدب؟ قولي واتكلمي، رسيني على بر معاكِ..

- كدب والله كدب. 

أردفت بها مع بكائها الذي تعالى بنشيج، أما هو فقد هدنت صرخاته مع اَلم قدمه فسقط جالسًا على الأرض ولم تعد تحمله قدمه، ظل على استكانته مرهقًا بشدة وهي استمرت في بكائها حتى استنزفت كل طاقتها، ثم دوا صوت طرق انثوي على باب الغرفة، فنهض يعدل من ملابسه، كما تناولت هي إحدى المحارم الورقية لتمسح اثار دموعها، 

دلفت الفتاة الممرضة بعد أن أذن لها جاسر وعاد لجلسته على كرسي بالقرب من زهرة، وقالت بعملية:

- حضرتك انا كنت عايزة اسحب عينة تحاليل من المريضة بأمر الدكتور .

اومأ لها بيده، فخطت الفتاة للداخل رغم تعجبها من تجهمه، وصلت تخاطب زهرة لفرد ذراعها وفور أن انتبهت لوجهها، هتفت مرددة لها بلهفة:

- إيه دة؟ مدام زهرة دا احنا بقالنا ساعات د بنتصل بيكِ عشان نبلغك بنتيجة التحليل اللي......

قطعت كلماتها مجفلة على وجه زهرة، الذي أذبله البكاء، فسألتها بقلق:

- هو انتِ كنتِ معيطة؟

اشاحت زهرة بوجهها عنها لا تريد الرد اما جاسر الذي استرعى انتباهه قول الفتاة، فسألها بحدة :

- تحاليل إيه؟ وهي من امتى حللت عندكم ؟

اصابها الجزع من هيئته فردت تجيبه على تخوف:

- اصلها حضرتك وصلت عندنا النهاردة قريب الساعة عشرة، كانت عايزة تعمل إختبار حمل .

ومض عقله مع تذكره ميعاد مغادرتها من جواره امام الغرفة المتواجد بها أبيه، فتابع يسألها على الفور :

- والنتيجة طلعت أيه؟

ترددت الفتاة قليلًا في قولها امام تحفزه لتستشف ان كان سيعجبه الخبر ام لا، ثم قالت بنبرة متحمسة:

- طلعت إيجابية حضرتك ، يعني المدام حامل. 


الفصل الخامس والأربعون 


ولجت لداخل منزلها بسعادة تجعلها وكأنها طافية على سطح المياه، لا تصدق ما تم إنجازه هذا اليوم، هذه الصدفة العجيبة التي استغلتها بذكائها لتفعل ما ودت فعله منذ فترة طويلة، فحققت بها أهدافًا عدة في وقت واحد كالذي ضرب بحجر واصاب عدة عصافير، ارتمت على اَريكتها الاَثيرة واستلقت عليها بظهرها ومازال فمها منشق بابتساماتها الظافرة، هذه ليست مشكلة قليلة وستمر مع الوقت، بل انها فضيحة مع كلمات عماد التي القاها في وسط المشفى على الملأ، إضافة إلى الشك الذي زرعته بداخله، حينما وجد الاثنان بغرفة واحدة مغلقة عليهم، لا تستبعد انتقام جاسر منها ان لم يكن بطلاقها سيقوم بقتلها بعد هذا العشق الابله منه ناحيتها، 

رفعت إليها الهاتف تنظر في التسجيلات والمشاهد التي وثقتها بالتصوير ، فانطلقت تضحك بهستيريا على هيئة عماد المزرية بإصاباته من جاسر ، وهو يتكلم بجدية، تنبع من تصديقه الكامل لعشق زهرة له ، بعد ان أوهمته غادة المؤذية بذلك، هذه الفتاة تفيدها دائمًا وبشكل غير طبيعي، صورة جاسر الذي اظلم وجهه مع كلمات عماد ، وهو يتقدم للفتك به، هذه الزهرة وهي ترتمي على الارض كالخرقة البالية أمام عيون البشر المصوبة نحوها وقد أجفلها عماد المتيم بكلماته الغريبة، تقسم أنها لم يمر عليها في الحياة بمثل هذا اليوم من سعادة، ولا ضحكت من قلبها هكذا، تذكرت بداية لقاءها مع عماد بعد ان قص عليها مشكلته بكل غباء أسعدها، لتُدبر خطة مكتملة الأركان، وكان اختيارها الجيد لفتاة تعمل في تنظف مراحيض المشفى، ثم اغرائها بحزمة كبيرة من المال ، جعلت الفتاة تجحظ عينيها مع رؤيتهم بعدم تصديق، ثم تحفيظها للكلمات التي ستدلي بها لزهرة لتوقعها، وتمت المهمة حينما  اخذت هاتف الفتاة نفسها لتبعث منه الرسائل لجاسر وهي تراقب من زاوية قريبة ذهاب زهرة الى الغرفة التي يعمل بها عماد، ثم تعويض الفتاة بحزمة كبيرة اخرى بعد سحب الخط وتكسيره فور استجابة جاسر للذهاب لتحذيراتها ليظبط الزوجة الخائنة مع حبيبها القديم.

عند هذه وانطلقت بموجة اخرى من الضحك لا تستطيع التوقف عنها، يغمرها احساس هائل بخوضها لمغامرة غير عادية أثارت بقلبها السعادة ، تنهدت بغبطة لتتمالك نفسها من الضحك قليلًا، ثم اعتدلت بنومها لتهاتف الرقم المناسب لها الاَن :

- الو..... أيوة يا فاضل.


❈-❈-❈ 


أغلق باب الغرفة فجأة بعد أن دلف إليها، فانتبهت هي من شرودها والتفت رأسها اليه مع جلوسها متكئة 

بظهرها على وسادة من الخلف، أشاحت بوجهها عنه على الفور ، فلم ترى هذه اللهفة التي بدت على ملامحه وهو يخطو ليقترب منها، ممسكًا بيده ملف التحليل الخاص بها لاختبار الحمل، بعد ان تأكد من صحة المعلومة وعاد بقرائته عدة مرات بدون ملل، 

دنى ليجلس بجوارها، يسألها بصوت متحشرج من فرط المشاعر التي تتنابه الاَن لدرجة تجعل الصوت يخرج بارتجاف:

- ما قولتليش ليه؟

وكأنها لم تسمع ظلت على وضعها ولم تجيب، فتابع بأسئلته 

- ليه ما قولتليش على حاجة زي دي يا زهرة ؟ وانتِ عارفة ومتأكدة إني هتجنن عشان اعرفها.

التفت برأسها إليه بنظرة خاطفة ثم عادت للناحية الأخرى مرة على الفور لتجيبه بلهجة ميتة:

- كنت عايزة اتأكد الأول قبل ما اتكلم

رد يُلح بسؤال اَخر:

- برضوا ليه ما قولتيش من البداية، وانا كنت سعيت معاكي عشان نتأكد مع بعض؟

عادت لصمتها ولم ترد، فباغتها فجأة يجذبها من ذراعها لتلتفت إليه عنوة، وتقابل عينيها بخاصتيه المتعطشة لمعرفة الحقيقة، فأمرها مرددًا بصوته الحازم المسيطر:

- ما تسبنيش اتكلم كدة وانتِ ساكتة، اتكلمي وردي عليا ، قولي يا زهرة وريحي قلبي من أسئلة كتير في دماغي ، قولي .

- عشان كنت عايزة اعملهالك مفاحأة. 

هتفت بها صارخة بوجهه لتكمل بانهيارها مع سيلً من الدموع تهطل بغير توقف:

- ايوة يا جاسر، كنت مفكرة انه هيبقى أجمل خبر ممكن ابلغك بيه، وعلى أساس انها تبقى مناسبة سعيدة ما بينا، وهاتفضل ذكراها معانا العمر كله، بس دا كان ظني في الأول ، لكن دلوقتي بقى، مش عارفة.

لم يتمالك نفسه أكثر من ذلك، فجذبها بقوة يضمها لصدره مرددًا بحرقة:

- سعيدة والله، والله سعيدة، يا أجمل زهرة في عمري كله.

مع شعورها بغمرتة القوية لها بذراعيه، وإحساسها بفرحته رغم ما حدث منذ قليل، انطلق بكائها بهسترية تردد له من بين شهقاتها:

- انا كنت محضرة كلام وحاجات كتير اعملها لما اَجي ابلغك بالخبر بعد ما اتأكد، ما كنتش اتخيل ان فرحتي المنتظرة تيجي مع ظرف بشع بالشكل ده

زاد بضغط ذراعيه عليها وقد وصله إحساسها المقهور، بصدق كلماتها إليه، يتمزق قلبه إلى أشلاء متناهية الصغر، مع كل حرف يصدر منها، يعيد لململة شتات نفسه، بعد أن فكر بروية، زهرة منذ زواجها به، وهي تحت انظاره سواء في البيت أو العمل، حتى بيت جدتها يتم بمرافقة حراسه ، بالإضافة انه ليس بالصغير أو عديم الخبرة، حتى لا يعلم بصدق عشقها إليه او الأدعاء بذلك، مع تذكره لظرف زواجهم ومحاولاته الكثيرة معها حتى استجابت له، هو أعلم الناس بصدقها وبرائتها التي اوقعته أسيرًا لها، ولكن يظل هذا السؤال:

- لماذا ذهبت الى غرفة هذا الشخص؟ 

فك ذراعيه لينزعها عن حضنه بلطف شديد بعد أن هدات شهقاتها قليلًا ، رفع وجهها إليه يمسح بابهاميه كي يجفف عنها دموعها التي لا تتوقف، فقال بلهجة حانية:

- خلاص يا زهرة انا مصدقك، بس انتِ أكيد عارفة ومقدرة الوضع اللي انا اتحطيت فيه، والكلام اللي قالوا المتخلف ده قدام امة لا اله إلا الله في المستشفى. 

مع تذكيرها بما حدث عادت لبكائها تقول بحرقة:

- بس انا والله ما عشمته بحاجة يا جاسر، انا مش فاهمة أساسًا هو جايب الثقة دي منين؟ بيتكلم واكنه امر واقع، مش فاهمة ليه بيعمل كدة؟ واللعبة اللي لعبها عليا عشان اعتب برجليا لأوضته اللي بيشتغل فيها  ويفتن مابيني وما بينك، اقسم بالله لا يمكن اسامحه عليها أبدًا

ضيق عينيه قليلًا يسألها بريبة:

- لعبة ايه اللي لعبها عليكِ؟

قطعت بكائها لتجيبه بقوة:

- ما هو دا اللي كنت عايزة اقولك عليه من البداية، عن السبب اللي خلاني اروح للغرفة اللي شغال فيها.

احتدت عينيه وتحفزت جميع خلاياه مع قوله لها:

- قولي يا زهرة اللي حصل وانا سامعك كويس اوي.


❈-❈-❈ 


بفستان ازرق يغطي ركبتيها بقليل وزينة خفيفة بوجهها غير مبهرجة، تنفيذها لتوصيات ابيها الذي أصدر أوامره أيضًا لجلسوها الاَن في انتظار الزائرين المهمين ، تفرك بتملل لا تطيق هذه الجلسات المملة، وهو مشغول عنها في النظر في حاسبه ومتابعة اعماله حتى دوى صوت جرس المنزل، فاغلقه على الفور مع دلوف الرجلين لداخل المنزل بصحبة مدير مكتبه، فوقف يخاطبها من تحت أسنانه:

- قومي اقفي معايا باحترام واتعدلي في وقفتك مش عايز أي استهبال .

نفخت بضيق مذعنه لأمره ومغمغة بالكلمات الحانقة بداخلها، حتى وقعت أنظارها على الضيفين، الرجل السفير فوزي شريف وابنه رائد فارتخت ملامحها وبدا عليها الإعجاب لهذا المدعو رائد بهيئته الأنيقة بشكل مبالغ فيه مع ارتدائه لحلة رمادية انعكست على لون بشرته البرونزية وعضلاته البارزة بوضوع مع سترته المحكمة بضيق على ساعديه، ليذكرها بنجوم المصارعة التي تعشقها بعشق ابطابها والنظر إليهم، يتقدم نحوهم مع ابيه برزانة ووقار تظهر رقي تربيته، هللت بداخلها على هذا الاختيار الرائع من اباها، ثم تمالكت بداخلها لتُجيد التعامل مع العريس اللقطة كما يقال عنه في الحارات الشعبية، أسبلت أهدابها تدعي الخجل، وهي ترحب بهم برقة غريبة عنها، أثارت إعجاب الرجل الكبير ليثني على جمالها وحسن أدبها:

- بسم الله ماشاء عليكِ يا بنتي، مثال الجمال والأدب، يا زين ما ربيت يا فهمي .

- متشكرة اوي يا أنكل ربنا يخليك. 

قالتها بصوت بالكاد يُسمع، جعل حاحبًا يرتفع باستغراب من ابيها، قبل أن يندمج مع الرجل بضحكة مفتعلة مع قوله:

- دا من زوقك يا فوزي، بس بصراحة انا متعبتش خالص في تربيتها، أصلها دي ورثت الأدب والاحترام عن والدتها .

أكمل الرجل بكلمات الإعجاب وهي تطرق برأسها بمبالعة، رغم خبثها في نقل النظرات إلى هذا الجميل المدعو رائد، وهو يبادلها الإعجاب حتى جلس أمامها، يفتح ازار سترته فبرزت عضلات صدره من القميص الأبيض، كادت أن تصرخ مكبرة بالأعجاب ولكنها استطاعت السيطرة على جنونها وتمالك نفسها، لتسمع كلمات المودة بين الرجلين وهذا السفير يقول مخاطبًا أباها:

- أنا اتشرفت جدًا بالتعرف عليك يا سيادة الوزير ، بصراحة انت مثال الشرف والتواضع ، يارتني قابلتك من زمان ووطدت علاقتي بيك 

ربت فهمي بكفه على عظام صدره يظهر الإمتنان لكلمات الرجل بقوله:

- دا أنا اللي اتشرفت وزادني الشرف بمعرفتك، في الحقيقة انا راجل مش إجتماعي اوي في حكاية التعارف والصدقات، لأني دايمًا بحب التقدم في شغلي بكل ضمير، ودلوقتي كمان بعد ما مسكت الوزارة بقالي سنين، ما عدتش حتى بعرف انام الليل وانا شايل هم البلد وبفكر طول الليل في مشاكلها. 

- يا سلام يا فندم على نبل أخلاقك وضميرك اليقظ 

أردف بها الرجل بحماس ليستطرد:

- مش بقولك سعيد بمعرفتك يا فندم ، انا بقالي فوق العشرين سنة دلوقتي بخدم في دول أمريكا الاتينية ، من ساعة ما كنت موظف صغير في السفارة إلا أن وصلت لمنصب السفير، بخدم في منصبي كمان بكل إخلاص وضمير، فاستسلمت بقى للغربة وقسوتها، بس بقى لما جيت عند جواز ابني، فوقت لنفسي وقولت انه لا يمكن اجوزها لواحدة أجنبية بتربيتهم المختلفة عننا، أصل مافيش غير البنت المصرية هي اللي تليقله عشان تصون شرفه وتراعي ربنا في اولاده.

سهم فهمي مع كلمات الرجل الصادمة له، ولكن مع التفافة بسيطة لابنته التي اندمجت في دورها وهي تتبادل مع الشاب ابتسامتها بخجل تدعيه، خف توتره قليلًا. 

أتت الخادمة بصنية كبيرة تحمل عليها الحلويات وفناجين القهوة فنهضت هي سريعًا تُجفل المرأة بأخذ الصنية منها لتُضايف بنفسها الرجلان وتعطيهم اطباق الجاتوه، انتشى والدها من فعلتها ولكنه اندهش مع تسمر الخادمة أمامهم بذهولها من فعل ميري الغريب، هتف عليها بالأنصراف، وعادت ميري تدعي الحياء لتزيد من اعجاب الرجل وابنه معه ، وبداخلها تتراقص من الفرح، فهذا الوسيم ذو الجسد العضلي الرائع سوف يكون من نصيبها، لتغيظ به صديقاتها وكل من شمت في طلاقها من جاسر الريان، بالإضافة انه لا يعرف شيئًا عن تاريخها، فاقت من شرودها على إضاءة الهاتف الذي جعلته صامتًا برقم ماروا، تأففت بقرف تغلق الهاتف لتعود لجلستها وابتساماتها للشاب الراقي الوسيم

لتزيد من تعلقه بها، فمن الواضح من نظراته نحوها أنه بلع الطعم وسيكون موعد زفافها بيها قريبًا، لا بل قريبًا جدًا


❈-❈-❈ 


في صباح اليوم التالي 

فتح أجفانه على أثر الضوء الذي اخترق الغرفة مستيقظًا من نومه العميق، والتعب مازال يفتك برأسه رغم غفوته لهذه الساعات الطويلة، بعد سهره مع تعب أبيه، ومرور يومه السابق بمشقة مع أحداثه الكثيرة والكبيرة أيضا، تأوه من تخدر ذراعه الذي مازال يحمل رأسها، ليعتدل بجسده بصعوبة ويميل ليُقبلها على جبهتها بقصد إيقاظها مع مداعابته الرقيقة لأنفها ، وهي تزوم بصوتها متأففة، فيزيد عليها بضمها بقوة حتى أنت بين ذراعيه قائلة بصوت مختلط بنعاسها :

- بس بقى يا جاسر كفاية غلاسة.

ضحك منتشيًا بمناكفتها التي تزيد من مرحه مع ردود أفعالها الغير متوقعة، فدنى منها يردد بجوار أذنها:

- مش هابطل غلاسة غير لما تقومي واشوفك صاحية قدامي

تغضنت ملامح وجهها بضيق وهي تسحب الشرشف لتغطي رأسها، وحاولت أن تنقلب للناحية الأخرى ولكنها لم تتمكن من ضيق المساحة على السرير الطبي، وهو بجسده الضخم محشور بجوارها، يحاصرها بذراعيه، ضحك من قلبه على محاولاتها الفاشلة، لتعود لوضعها متنهدة باستسلام تغطي بساعدها على عيناها، ازداد بضحكاته ليكشف عيناها فهتفت بتذمر:

- يووه عليك يا جاسر، كفاية بقى عايزة انام حرام عليك.

وكأن بكلماتها الغاضبة تطالبه بالمزيد، زاد بميله عليها حتى ثبت ذراعيها بجانبيها ليعطي للضوء مساحة كاملة وفرصة كبيرة لازعاجها أكثر ، حتى استسلمت تفتح عينيها إليه قائلة بغيظ:

- اديني اتنيلت وصحيت، استريحت انت كدة بقى؟

اومأ لها برأسه بسعادة تدغدغ قلبه مع فرط فرحته بحملها، يتأمل تفاصيل وجهها بنهم لا يصدق بتحقق حلمه اَخيرًا بإنجاب طفل او طفلة، قطعه منها، يتمنى بشدة أن يكونوا جميعهم شبهها، حتى يرى صورتها مع كل نظرة لأحد منهم.

قاطعت شروده قائلة بسأم

- هانفضل ع الوضع دا كدة كتير؟ مش ناوي بقى تفك عني شوية خليني اتحرك ولا اخد نفسي؟

حرك رأسه بالنفي ليزيد بتقبيلها مع ضحكاته المقهقهة باستمتاع لغضبها، فهتفت هي بين ذراعيه ساخطة:

- يا عم بس بقى راسي تقيلة مش متحملة، اتحرك كدة خليني اقوم مش كفاية حشرتك جمبي على السرير وانا تعبانة.

رفع رأسه إليها يقول بمرح غير مكترث لضيقها:

- طب اعملك إيه؟ وانا راجل كدة كبير وخوفت انام بعيد عن حضن مراتي؟ نصيبك بقى اتحملي.

كبتت بصعوبة ابتسامة ملحة على أثر كلماته المتفكهة، وتابعت تردف مدعية الغضب لتُخفي حرجها:

- يعني إيه بقى؟ مافيش تقدير لظروفي الجديدة ولا لتعبي؟

سمع منها واعتدل عنها فجأة قائلًا بخوف تشوبه الفرحة لهذا الوضع الجديد:

- بجد انتِ تعبتي يا زهرة؟ ولا بتهزري؟

ردت بابتسامة مستترة وهي تستقيم بجذعها أمامه:

- طبعًا لازم اتخنق من أقل حاجة وانت لازم تخلي بالك، هو فيه هزار كمان في الحمل؟

- اممم .

زام بفمه بنظرة ماكرة متفهمًا لدلالها المتزايد بحملها الجديد، فنهض سريعًا يخاطبها :

- حيس كدة بقى ، طب ياللا قومي من كسلك بسرعة عشان تفوقي كدة وتفطري معايا 

افطر معاك فين بالظبط؟

قالتها وهي تنزل بأقدامها عن التخت فاهتزت بداور رأسها الذي افقد جسدها اتزانه، على الفور لحقتها ذراعي جاسر ليسندها، متسائلًا بقلق:

- أيه الحكاية؟ هو انت لسة تعبانة من امبارح؟

اومأت برأسها تجيبه بابتسامتها الجميلة:

- مش عارفة، بس انا بجد حسيت بدوخة جامدة وانا بقف دلوقتي، شكلي هاتعبك قوي في الحمل ده.

- اتعبيني يا ستي ولا يهمك، المهم انتِ ما تتعبيش. 

قالها ببساطة أوقفت الكلمات بفمها، وكيف تستطيع الرد بما يناسب جمال عبارته؟ فتابع لها:

- اخلص بس مشوار والدي واشوفلك دكتورة شاطرة نتابع معاها، أكيد اللي بيحصلك ده سببه ضعف تغذية، هتقدرى تكملي للحمام لوحدك بقى ولا اروح معاك؟

قال الأخيرة بابتسامة ماكرة جعلتها تعتدل فجأة وتنزع ذراعه عنها قائلة بعصبية:

- لأ طبعًا مش لدرجادي، انا كويسة واقدر اروح لوحدي

قالتها وتحركت بخطواتها مسرعة عنه، هتف من خلفها ساخرًا:

- فجأة دبت فيكي الروح ها؟ 

التفت برأسها إليه بابتسامة وهي تومئ له بعيناها، ورد متخصرًا لها :

- طب خلصي وتعالي خدي تليفونك دا اللي هانج من كتر الاتصالات .


❈-❈-❈ 


دلفت صفية بخطواتها السريعة الى داخل المنزل عند صفية والهاتف على أذنها بعد أن جاء الرد اَخيرًا من زهرة ، بعد عدة ساعات عصيبة من القلق عليها بعد هذه الإشاعات التي امتلأت بها السوسيال ميديا:

- أيوة يا زهرة، احنا بنتصل بس عشان قلقنا عليكِ لما مرضتيش تردي كذا مرة على اتصالتنا ....... ايوة طبعًا ما انتِ عارفة ستك......... لا ما فيش حاجة مهمة ماتقلقيش...... 

كانت قد وصلت إلى رقية التي خطفت منها الهاتف على الفور غير قادرة على الأنتظار .

- أيوة يا عين ستك عاملة إيه؟

قالتها لتفاجأ بخروج خالد فجأة من غرفته يكمل ارتداء قميصه ويجلس بجوارها متلهفًا لسماع صوتها من مكبر الصوت لرقية في الهاتف، ورقية التي انتبهت له، أكملت المكالمة بحرص مع شعورها بعدم علم زهرة او تهربها، ولكن ما يحيرها هو هذه النبرة السعيدة في صوتها:

- يعني انتِ كويسة با حبيبتي، ما فيكيش حاجة؟...........يابنتى عايزة اطمن عليكِ............ طب ماتيجي تزورني اصلك وحشتيني أوي يا حبيبتي وعايزة اشوفك بعيني.......... ظروفك عمك؟ .......... اه يا حبيبتي لازم طبعآ تقفي معاه في عيا والده بس حاولي ما تتأخريش يعني .......... يا ختي تعالي وفرحيني انا مستنياكِ،.......

التفت رأس رقية فجأة لخالد مع سؤالها عنه، وردت عليها بدبلوماسية مع رفض ابنها للتحدث في الهاتف، ثم أنهت المكالمة والتفت إليه تخاطبه:

- يعني حرام بقى لو كلمتها بنفسك؟ بدال ما انت بتتعذب كدة وهاتموت عشان تسمع صوتها؟

رمق والدته بنبرة معاتبة قبل أن يأخذ منها الهاتف ويعطيه لصفية ويشكرها، والتي بدورها تناولته واستاذنت للذهاب حتى تعطيهم المجال للحديث بينهم

فور انصرافها التف خالد يخاطب والدته بلهجة لائمة:

- مش تخلي بالك يا ست انتِ من كلامك وصفية واقفة جمبنا.

مصمصت رقية ترد بسخرية:

- على أساس ان العيلة الصغيرة دي مش فاهمة، دا كفاية شكلك وانت خارج من اوضتك بتلبس في كم القميص فضحت لهفتك قدامها اكتر من كلمتي.

صمت بتفكير وهو يراجع نفسه بعد أن ألجمته رقية بكلماتها، فقال مغيرًا لدفة حديثهم:

- خلاص بقى يا ست سيبك من الكلام ده وخلينا في المهم، هي كانت بتقولك انها هاتبشرك وتفرحك، تفتكري تقصد إيه؟

عصرت عقلها قليلًا رقية مع تركيزها في كلمات زهرة، ثم ما لبثت ان تلتمع عيناها بخبث تقول له:

- هي بتقولي هابشرك وخبر حلو يبقى أكيد طلعت حامل، ههههه البت دي هاتفضل طول عمرها غلبانة ودايمًا كدة مكشوفة قدامي ..

أشرق وجه خالد مع ابتسامة اظهرت سعادة شديدة مع سماع الخبر لو صدق فعلا وكان حقيقًا، لقد تراقص قلبه بداخل صدره لمجرد التخيل ، ولكنه تذكر سبب اتصالاتهم العديدة إليها بقلق، فانتفض فجأة من جوار والدته يتسائل بحيرة داخله:

- ترى من يكون هذا المدعو عماد ، وما قصته مع جاسر الريان وابنة قلبه زهرة؟


❈-❈-❈ 


صعدت معه إلى الطابق الموجود بإحدى غرفه عامر الريان تحت الرعاية الطبية الكثيفة، ليتفاجأ الاثنان برؤية لمياء أمامهم ، متحفزة بشكل غير طبيعي، بيدها الهاتف ، وجهها مظلم من الغضب، تزفر دخان من أنفها:

القت إليها زهرة التحية على الرغم من توجسها الكبير منها وقد بدا انها فهمت سر غضب المرأة:

- صباح الخير يا طنت.

حدجتها بنظرة نارية أثارت الرعب بقلب زهرة ، قبل ان تنتبه على لمسة من كف جاسر على ذراعها، يومئ لها بذقنه قائلًا:

- اسبقيني انتِ وانا ها حصلك. 

اذعنت لأمره وتحركت سريعُا لتتجنب هذه العاصفة الهوجاء وهي تلوح بالأفق مع غضب لمياء:

- بتبصيلها كدة ليه؟ دا انت كان هاين عليكِ تضربيها. 

هتف بها جاسر نحو والدته فور انصراف زهرة واطمئنانه لبُعد المسافة، قابلت كلماته لمياء بغضب أكبر تهمس هادرة حتى لا يسمعهم احد من أفراد المشفى وهي لا ينقصها فضائح:

- خايف اوي على زعل البرنسيسة حضرتك، ومش هامك الفضايح ولا الكلام اللي مكتوب عنكم؟

قالت الأخيرة رافعة إليه الهاتف، بعد ان أمتلأت الصفحات بما حدث بالأمس وعن قول هذا المعتوه بعد ضربه، وهذه الإشاعات التي تروج لظلم جاسر الريان للعاشق المسكين بخطف حبيبته وضربه وصرفه من عمله أيضًا، وبرغم الغضب المستعر بداخله لانتشار هذه الأخبار الملفقة، بهذه السرعة مع حبك الرواية إلا انه قد ابى ان تؤثر به او بفرحته بحمل زهرة، وقد علم بفطنته ان هذا الأمر مدبر بخطة محكمة ولن يهدأ له بال حتى يكتشف صاحبها وفي اقرب وقت، ولذلك جاء الرد لوالدته بمنتهى الهدوء واضعًا كفيه بجيبي بنطاله:

- وإيه يعني، ما يقوله اللي يقولوه وانا هايهمني في إيه؟

استشاطت لمياء من الغيظ وغلى الدم بأوردتها، تهتف حانقة:

- يهمك في إيه؟ إنت هاتشلني يا ولد انت؟ يعني انا اخلص من فضيحة نسبنا بيها وبوالدها اللي كان مسجون، تقوم تطلعلي حكاية الولد اللي خطفتها منه دلوقتِ، طب كنت سيبهالوا ياسيدي، اهم الاتنين من نفس الطبقة، ودور انت ع اللي تناسبك. 

صك على فكيه من الغيظ يهدر بأنفاس حارقة، ثم ما لبث ان يتمالك نفسه ليعود لهدوءه:

- متشكرين يا ست ماما على النصيحة المتأخرة دي، بس انا بقى كل ده ما ياثرش فيا، انا ميهمنيش اي حد تاني غير مراتي؛ اللي انا متأكد من مشاعرها ناحيتي، عن اذنك بقى يا ست الكل.

قالها وتحرك مسرعًا من أمامها، تاركها جاحظة العينان،  لا تصدق رد فعله الغير مبرر في التمسك بهذه الفتاة التي لا تجلب له سوى المصائب، من وقت أن تزوجها ، غير مقدرًا لمكانته واسم عائلته، دبت بأقدامها قبل أن تلحق به، فحديثها معه لم ينتهي بعد.


❈-❈-❈ 


وبداخل الغرفة عند عامر الذي كانت ممسكة بكفه زهرة، تقبلها كما يفعل زوجها تمامًا، تسأله عن صحته بصوتها الرقيق وتشجعه على النهوض من مرضه:

- يالا قوم بقى واقف على رجليك، عايزينك في الشغل معانا، جاسر على قد ذكائه دا كله، لكنه ما يجيش حاجة جمب حضرتك .

اومأ لها بابتسامة مستجيبًا لها، فتابعت له :

- طب اقولك على حاجة، ليك عندي خبر حلو قوي لو قومت بالسلامة كدة وخرجت من المستشفى دي .

عقد حاحبيه بشدة بتفكير عميق وقد بدا أنه يخمن ، وتمنى أن يصدق تخمينه، اشار لها بيده، حتى تقول على الفور، فضحكت مستمتعة بالحاحه:

- طب ومستعجل ليه طيب؟ ما انا بقولك اهو، على ما تقوم وتخرج من المستشفى. 

رمقها بنظرة محذرة كي تتابع لتثير ضحكاتها اكثر ، فاستسلمت له اَخيرُا لتخبره على حياء جعلها تتلعثم في قولها بجمل غير مترابطة:

- اصل يعني اا اممم، بصراحة كدة في مولود جديد جاي في السكة، قصدي يعني ااا ولي العهد، ااا

- انتِ حامل؟

قالها سريعًا بعد أن نزع قناع التنفس من على انفه وفمه، غير قادرًا على،الصبر أكثر من ذلك .

اومأت له برأسها مسبلة أهدابها بخجل منه، 

أغمض عينيه يتأوه بفرح اشتيقاهِ لهذا الخبر السعيد منذ سنوات عديدة لا يذكر عددها، ليس فقط منذ زيجة جاسر الأولى لا بل منذ ولادته حينما ظل وحيده، ولم يرزق بطفل أو طفلة اخرى غيره، التف لزهرة يلح بسؤاله ليسمعها مرة أخرى:

- انتِ بتتكلمي بجد يا زهرة ما بتهرريش صح. 

أجابته بقلق على حالته:

- والله بتكلم جد، بس بقى حط القناع عشان تتنفس كويس .

وبرد فعل غير متوقعة إزاح القناع لأعلى رأسه رافضًا ارتدائه، يخاطبها وهو يشير إليه بذراعيه:

- طب تعالي، تعالي يابنت قربي .

- تقرب فين يا باشا؟ انت بس قولي. 

قالها جاسر بعد ان دلف إليهم بداخل الغرفة، ورد عامر بصوته الضعيف الاهث رغم سعادته:

- قربها مني البنت دي خليني ابوسها في خدودها 

صدر صوت شهقة عالية من زهرة لفتت نظر جاسر قبل ان يلتف إلى والده يرد ضاحكًا:

- صلي ع النبي يا عم، تبوسها دا إيه؟ وانا روحت فين بقى؟

- ما انت كمان عايز ابوسك.

قالها عامر جاذبًا جاسر قماش قميصه والاَخر استجاب يقترب إليه نفسه ضاحكًا وقد خمن من فرحته، بعلمه بالخبر السعيد من زهرة ، أما عامر والذي ضم رأسه إليه

يردد بغبطة غير مبالي بتعب قلبه:

- الف مبروك يا حبيبي، اَخيرًا ربنا استجاب لدعايا 

نزع جاسر نفسه عنه بصعوبه خوفًا على صحته، رغم سعادته بفرحة والده:

- براحة على نفسك يا حبيبي انت لسة تعبان .

وصلت لمياء لتنضم معهم لداخل الغرفة، فقالت مندهشة لما يحدث أمامها:.

- إيه اللي بيحصل هنا؟ وانت شايل قناع التنفس ليه يا عامر؟

أجابها وقد ازداد لهاثه:

- فرحان قوي يا لميا بحمل مرات ابني ، اَخيرًا هابقى جد وعندي أحفاد.

وعلى عكس المتوقع صاحت لميا على ولدها بمشاعر مختلطة بين الفرح والغضب أيضا :

- الكلام دا صحيح يا جاسر؟ يعني مراتك حامل فعلآ ومهانش عليك تبلغني بنفسك؟ ربنا يسامحك يا جاسر، ربنا يسامحك.

ظلت تردد بها حتى خرجت من أمامهم باكية

لحق بها جاسر على الفور لترضيتها كالعادة مغمغمًا بكلمات حانقة:

- إيه هو ده؟ هي ادتني فرصة أساسًا عشان اقولها؟

تمتم عامر هو الاَخر:

- مافيش فايدة، عمرك ما هتتغيري يا لميا 


❈-❈-❈ 


- بتقولي أيه؟ يعني دا حصل بجد؟

هتفت بها كاميليا وهي تخاطب زهرة بعدم تصديق، وكان رد الأخرى :

- والله زي ما بقولك كدة، دا انا حاسة ان ربنا نجاني بمعجزة، مش فاهمة البني اَدم دا ازاي يعمل معايا، دا حبكها عليا بشكل غريب، لا والمصيبة مخه متبت على انه بحبه.

اعتدلت كاميليا بظهرها على الكرسي الجالسة غليه بجوار زهرة بمقاعد الانتظار في المشفى وعقلها يعيد في الكلمات بتأني، فقالت بتفكير:

- بس انا عارفة عماد كويس قوي، التدبير والتخطيط دا ما يفهمش فيه أبدًا، هو مجنون شوية ومتهور، الموضوع دا انا لمسته فيه من ساعة اللي عمله معاكي في الشركة وخلى جاسر الريان يطرده من شغله، لكن تخطيط بالشكل ده، مايفهمش أبدًا فيه.

حركت زهرة رأسها بالرفض وهي تُعيد تكرار السؤال المُلح برأسها:

- طب هو جاب الكلام ده منين أصلًا؟ مصمم ليه على فكرة اني بحبه وخايفة ما اعترفلوا، انا مفتكرش ابدًا اني لمحتلوا أو حتى إدتلوا إحساس بحاجة زي دي، انا كنت بعاملوا كويس على أساس أنه إنسان كويس، وانه ممكن يكون مناسب لواحدة في ظروفي ساعتها، دي حاجة بتمر على كل البنات قبل ما تقابل النصيب، لكن أكتر من كدة ما فيش، والحمدلله اني بحب جوزي فعلًا.

أشاحت كاميليا بوجهها عنها تغمغم بالسباب على من زرعت الوهم برأس هذا المسكين وكانت سببًا رئيسيًا لما يحدث من دمار:

- ماشي يا غادة الكل...... انا ان ماكنت حاسبك ع الموضوع دا مابقاش انا .

التهت عنها زهرة بنظرة نحو جاسر وهذا المدعو كارم بجواره يتباحثان في بعض الموضوعات الهامة لعملهم:

- قوليلي يا كاميليا، هو انتِ لسة مصممة على قرارك في الجواز من اللي اسمه كارم ده؟

تطلعت كاميليا نحوهم بنظرة عابرة قبل أن تجيبها وهي تدعي فرح لا تصدقه زهرة أبدًا:

- انتِ لسة بتسألي يا بنتي؟ دا احنا كتب كتابنا في خلال أيام ، دا غير الشبكة كمان اللي اشترناها ، دا كارم صمم يجيبها الماظ .

رمقتها زهرة بنظرة كاشفة ترد على إدعائها:

- بس انتِ عمر الألماظ ما أغراكِ يا كاميليا، نفسي افهم دماغك واعرف انتِ ليه بتعاندي نفسك وتعذبيها بالشكل ده، لكن برضوا هافضل محترمة كتمانك. 


صمتت كاميليا وقد أبطلت زهرة ببرائتها حُجتها، بعد أن كشفت عن ما في قلبها نحو هذه الزيحة التي اختارتها بعقلها، فبماذا إذن ستخبرها وهي التي يكتوي قلبها بنيران عشق ترفض الإعتراف به؟!

وكأنه أتى على النداء تسمرت عيناها نحو الرواق الذي يقطعه بوجه واجم متجمد الملامح، وكأنه يرفض هو الاَخر الأفصاح عما يشعر به،

وفي الجهة الاخرى التفت انظار جاسر نحو صديقه الذي أتي نحوهم يلقي التحية بابتسامة غريبة عنه يصافحه ويصافح كارم أيضًا، والذي قابل تحيته بترحاب شديد على غير العادة. 

- اخبارك إيه بقى يا طارق باشا؟ يارب تكون كويس. 

رمقه طارق برفعة من حاجبه يرد بابتسامة توسعت:

-،أكيد كويس طبعا، حمد لله نعم ربنا عليا كتير، يعني ما فيش حاجة تستاهل. 

رد كارم بابتسامة جانبية:

- يارب دايما كدة ، انا حالا كنت بكلم جاسر باشا على ميعاد كتب كتابي على كاميليا بعد يومين، أكيد انت هتيجي من غير عزومة صح؟

- أكيد. 

قالها طارق بنبرة تبدوا عادية لتُخفي ما وراءها، وكان 

الغضب هذه المرة من نصيب جاسر الذي لم يحتمل النظرة التي طلت من صديقه رغم انكاره بالقول، فالتف لكارم يصرفه بدبلوماسية:

- طب روح انت دلوقتي واعمل اللي،قولتلك عليه بخصوص العملا الجداد. 

رد كارم بعملية:

- تمام حضرتك، بس معلش لو اتأخرت شوية عشان لازم اوصل،خطيبتي .

اومأ له جاسر على مضض ليتركه ينصرف، فظلت يتابعه حتى ذهب إلى كاميليا التي كانت تعيد احتضان زهرة وتبارك لها من جديد على حملها بسعادة حقيقة لها.

عاد جاسر إلى طارق ليسأله بقلق:

- إنت جاي متغير عشان كدة بقى؟

تطلع طارق إليه بنظرة خاوية لعدة دقائق قبل أن يقول له :

- اللوم مش عليه على فكرة، اللوم عليها هي !

قال الأخيرة بإشارة منه نحوها، أثارت قلق جاسر منه، فالتف إليه يسحبه من ذراعه حتى يتجنب افتعال المشاكل.

- بقولك إيه تعالي عايزك معايا. 

تسائل طارق بدهشة وهو يُسحب معه:

- بتجرني كدة ليه؟ مش تقولي الأول عايزني في أيه؟


❈-❈-❈ 


في الغرفة نفسها التي تم فيها  الشجار سابقًا، كان مجتمعًا بمدير المشفى ورجل متخصص في التقنيات الحديثة لهذه الاجهزة، يشاركهم طارق رغم ضيقه. 

- هي دي البنت صح؟

هتف بها الرجل وهو يوقف صورة الشاشة على الفتاة التي أوقفت زهرة قبل خروجها من المشهد. دنى جاسر يُمعن النظر في الصورة، فهتف مخاطبًا مدير المشفى:

- دي لابسة يونيفورم كمان، دي شغالة عندكم هنا بقى!

رد الرجل وهو يتطلع إليها أيضًا:

- اه بس دا لبس النضافة، يعني أكيد شغالة ثواني هاروح اسأل واجيبها بنفسي.

قال الأخيرة وهو يلتقط لها صورة بهاتفه، وفور انصرافه، هتف جاسر على الرجل المتخصص:

- طب عايزك بقى ترجعلي بالكاميرا مع البنت ان شالله حتى تجيبها من اول مادخلت على ميعاد شغلها:

- أمرك يا فندم. 

قالها الرجل بعملية وهو يفعل كما أمره، تدخل طارق سائلًا:

- مالها البنت دي يعني؟ هي عملت إيه مع زهرة؟

- خليك متابع معايا وانا هافهمك القصة كاملة بس بعدين. 

قالها يُتطلع بدقة أمام الشاشة، صمت طارق يتابع مثله حتى هتف متسائلًا مرة أخرى:

- إيه دا؟ مش دي مرفت اللي واقفة مع البنت في طرقة الحمامات ؟

صمت جاسر مضيقًا عينيه وهو يعيد تذكره للمرأة المتخفية في المطعم سابقًا ذات الجسد النحيل، وقت تصويره مع زهرة حينما تناولت المنوم في زجاجة العصير بخدعة لقصد التشهير بهم، لتكتمل الان بهذه الخطة المحكمة والتي كادت ان تؤدي لخسارته لزهرة أو أذيتها، وتعكير صفو فرحتهم بالحمل الذي كان يتحرق شوقًا إليه، فرد اَخيرًا بأنفاس متهدجة من الغضب المستعر بداخله:

- هي فعلًا مرفت.


تكملة الرواية من هنا


إللي عاوز الروايه من أولها يضغط هنا



اقرأو الروايات الكامله من هنا 👇👇👇


الصفحه الرئيسيه للمدونه



روايه أسرني كنج الصعيد كامله



رواية حلم ساره كامله جميع الفصول



رواية عشق الزين الجزءالاول كامله



رواية مجنونة كبير الصعيد كامله



رواية لهيب الهوي كامله



رواية زوجتي من الريف كامله



رواية حبيبي عبر الزمن كامله



رواية غدر الزين كامله



رواية المتمرده كامله



سكريبت بنت المقابر كامل




تعليقات



CLOSE ADS
CLOSE ADS
close