أخر الاخبار

رواية نعيمي وجحيمها الفصل السادس والأربعون حتي الفصل الخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب

 رواية نعيمي وجحيمها 

الفصل السادس والأربعون حتي الفصل الخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 


رواية نعيمي وجحيمها 

البارت السادس والأربعون حتي الفصل الخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 


رواية نعيمي وجحيمها 

الجزءالسادس والأربعون حتي الفصل الخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 


رواية نعيمي وجحيمها 

الفصل السادس والأربعون حتي الفصل الخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 

بعد أيام طويلة من الخوف والقلق تعدت الأسبوعين، تحسنت حالة عامر تدريجياً وقد ساهم خبر حمل زهرة، في التعجيل في هذا التحسن، كان جالسًا بنصف نومة على سريره يسند ظهره بوسادة من الخلف، حينما ولجت إليه زوجته بوجه مشرق وابتسامة اعتلت ثغرها الجميل، لتخاطبه بفرح:

- صباح الخير يا جميل، عيني باردة عليك، صحتنا أتحسنت اهو وخلعنا قناع التنفس كمان.

أومأ برأسه لها متمتمًا بكلمات الحمد بابتسامة مجاملة شعرت بها، فقالت له معاتبة:

- إنت لسة متغير مني يا عامر؟ بعد كل اللي مرينا بيه ده وقلبك لسة محنش؟

اقتربت منه لتكمل بنبرة متألمة فغضب زوجها هذه المرة طال وفاق قدرة احتمالها، وهي التي اعتادت منه في كل شجار لهم على مدى سنين زواجهم ان يكون هو المبادر للصلح حتى لو كانت هي المخطئة:

- إنت عارف كويس يا عامر إني مقدرش اعيش من غيرك لا اتحمل جفاك ده معايا، ليه بتزيد بقى وتقسى عليا كدة؟

أغمض عينيه متنهدًا بقنوط قبل أن يفتحهم ليواجهها بقوة مع هذا البريق الحاد بهم ويرد بما يعتمل بداخله منها وقد فاض به ولم يعُد به طاقة للتحمل.

- وانتِ كمان متأكدة من حبي ليكِ اللي خلاني اصبر على دلعك من ساعة جوازنا واعديلك أخطاءك، بل بالعكس بقى، دا انا طول الوقت بحاول اَجي على نفسي وارضيكِ، لكن خلاص بقى يا لميا الصحة معادتش فيها، انا تعبت بجد 

قال كلماته الأخيرة بأنفاس متهدجة أظهرت مدى معاناته فلحقته هي بقولها:

- طب قولي اعمل إيه عشان ارضيك وانا هانفذ على طول، قول يا حبيبي اعمل إيه عشان اشوف نظرة العشق في عنيك مرة تانية، قول يا عامر دا انت ابويا اللي بتدلع عليه واخوها اللي بتمتع بحنيته، وجوزي اللي بتسند عليه قدام الدنيا كلها. 

امتد فمه المطبق بشبح ابتسامة مع قولها الذي يُسعد أي رجل إذا سمعه من زوجته، ولكنه رد بلهجة حازمة إليها.

- أنا مش عايز حاجة خاصة منك يا لميا، انا عايزك تحسني علاقتك مع ابنك ومرات ابنك، اتقبلي زهرة يا لميا، دا كفاية انها هتبقي ام حفيدك اللي بنترجاه من الدنيا، طب حتى افتكريلها تعبها معانا طول الأيام اللي فاتت رغم حملها.

زمت فمها وبدا على ملامح وجهها الإعتراض، وقالت بعند وهي تشيح بعينيها عنه:

- الأيام اللي فاتت كانت صعبة ع الكل مش هي بس على فكرة، وكلنا تعبنا ولا انت شوفتها هي ولا ما شوفتنيش انا؟

رد عامر كازا على أسنانه:

- لسه برضوا بنتكري ومش عايزة تديلها حقها، طب انتِ مراتي ودا واجبك، لكن هي بقى مرات ابني، يعني اَخرها زيارة عادية وخلاص، عاملي زهرة كويس يا لميا، دا البنت طيبة وزي النسمة تتحط ع الجرح يطيب. . 


احتدت نظراتها وهي تعود بالخلف تتأمله جيدًا، لا تصدق أن زوجها أيضًا وقع اسير هذه البراءة الخادمة لهذه الفتاة، ألا يكفي ابنها الذي اصبح لا يرى أحدًا سواها وكأنها الملاك الذي نزل على الأرض بالخطأ، فقالت بتهكم: 

- ما تقول فيها شعر كمان يا عامر، انا مش فاهمة إيه اللي جرالك إنت وابنك، عشان تتعلقوا بالبنت دي وتنسوا أصلكم ومركزكم الإجتماعي وسط البشر والعالم كله؛ اللي بتراقب كل تفاصيل حياتكم، وبينتقد كل كبيرة وصغيرة تعملوها؟

أجابها مشددًا على حروف كلماته غير مبالي بثورة غضبها، ولا بهذا المنطق الذي تتحدث به متشدقة:

- أرجع تاني واقولك، دي مرات ابنك وهتبقى أم أحفادك قريب، وحكاية اني حبيت البنت أو اتعلقت بيها، وانتِ عايزة دا ما يحصلش ليه بقى؟ وانا شايف فرحة ابني وراحته معاها، والوسط اللي انتٍ فرحانة بيه ده؟ ما احنا كل يوم بنسمع عن فضايح وخيانات بالكوم فيه، لكن انتِ ابنك اتجوز على سنة الله ورسوله مع اللي شاف راحته معاها، زي ما في ناس كتير بتعملها برضوا بس في السر، إنما نحن ابننا راجل وما بيخافش من حد عشان يعمل حاجة في السر

صمتت تتأكل من الغيظ وقد ألجمها بكلماته المنتقاة بدقة، فقالت متهربة:

- ع العموم كل واحد حر في حياته، المهم بقى، انا جهزتلك كل حاجتك، عشان نروح مع بعض

- لا انا مش هاروح دلوقت، هستنى حبتين على ما يجي جاسر.

قالها على الفور، وردت هي مستفسرة:

- وهتستنى جاسر ليه بقى؟ إذا كان هو أصلًا مجاش النهاردة. 

تحمحم يجلي صوته بتوتر يكتنفه الاًن قبل إخباره بما انتواه مع ابنه، لعلمه الاَكيد، كم هذا سيغضبها فقال بارتباك:

-  أصلي ناويت اروح معاه....... اقضي فترة علاجي عنده.

- تروح فين؟

صاحت بها غير مكترثة لصوتها العالي ومكانتها الإجتماعية في مشفى كبير كهذا، لتكمل بعدها:

- إزاي يعني ياخدك عنده؟ وانت تروح ليه بيته من الأساس وبيتك راح فيين؟

أغضبه صياحها ليزيد بداخله احتقانه منها، فذهب عنه توتره، ورد حازمًا يمنع عنها فرص الجدال بأسلوب تعلمه جيدًا حينما يأتي لاَخره:

- عنده ولا معندوش، أنا قررت ومش هارجع في كلامي، ومحدش له حاجة عندي عشان يمنعني .


❈-❈-❈ 


عادا الإثنان من عيادة الطبيبة النسائية بعد أن أجرت فحصوها مع زهرة واطمأنت على حالة الجنين، كما أمرت ببعض النصائح التي يجب اتباعها طوال مدة الحمل، وبداخل المنزل كانت تسير بجواره بخطوات متأنية حتى جلست على أقرب اَريكة وجدتها أمامها؛متابعة حديث جاسر المحتد مع والدته في الهاتف:

- يا ماما بتزعقيلي ليه بس؟ هو هيقعد عند حد غريب يعني؟ ............ يا ست افهمي، أنا اللي اقترحت عليه الاقتراح ده عشان اراعيه......... ياماما والله ما قصدي، انا عارف ومتأكد انك مبتقصريش معاه، بس انا قولت اخفف عنك يعني.......... 

وكأن بكلماته يقصد زيادة غضبها مع ازدياد صراخها الباكي في الهاتف، فتابع في محاولة لإرضاءها:

- طيب ما تيجي انتِ معايا واهو يبقى تغير جو بالنسبالك.

حتى هذه لم تفلح فقد استمرت في بكائها، حتى انتهاء المكالمة بينهم دون أي نتيجة تذكر، دفع جاسر الهاتف من يده على الطاولة الزجاجة الصغيرة ومعها سلسلة مفاتيحه وسقط هو على الاَريكة بجوارها، يزفر متفافاَ، مغمضًا عينيه ليضغط بطرفي سباته وإبهامه على أعلى أنفه، عله يخفف من إرهاقه، ثم التف على قول زهرة له:

- برضوا رفضت إنها تيجي هنا معاه؟

حرك رأسه بيأس وهو يعتدل بجسده مائلًا نحوها:

- للأسف بتقولي ان بيتها أولى بيها، واني بمحاولتي دي، بساهم في زيادة الفرقة ما بينها وبين بابا.

سمعت منه زهرة بتأثر صامتة فاستطرد بتعب:

- طب اعمل إيه بس عشان ارضيها؟ ما هو انا مش هقدر أسيبه تعبان كدة وانام في بيتي هنا وقلبي مشغول عليه، خصوصًا بقى وانا ملاحظ انه لسة زعلان وواخد جمب منها، ولا هقدر كمان أسيبك انتِ هنا لوحدك.

- خلاص يبقى نروح احنا ونقعد عندهم .

- إيه؟

تفوه بها بغير تصديق، وتابعت هي مؤكدة رغم ما رأته سابقًا من لمياء، والتمسته من معاملة جافة منها:

- أيوة يا جاسر، نروح نقعد معاهم انا وانت نراعي عمي على ما ربنا يتمم شفاه على خير أو حتى يتحسن وبعدها نرجع على بيتنا .

سهم قليلًا أمام قولها بملامح ثابتة قبل أن يقترب منها مقبلًا وجنتها ممتنًا على حل مشكلته ببساطة أراحت قلبه، وقال بصدق ما يشعر به نحوها:

- كل يوم بتأكديلي بالفغل انك جنتي على الأرض؛ اللي ربنا كرمني بيها عشان احسن شكره واحمده ليل نهار عليكِ .

صمت برهة بتفكير ثم أكمل يطمئنها هي أيضًا:

- وعلى فكرة يا زهرة بخصوص والدتي لو انتِ قلقانة منها، فخليك فاكرة كويس أوي، إني لا يمكن هاسكتلها لو حصل أي إشكال ما بينكم، ولا والدي كمان، ولا انتِ ماواخداش بالك بمعزتك عنده.

تبسم ثغرها بابتسامتها التي تزيد من تعلقه بها يومًا بعد يوم:

- طبعًا عارفة ومتأكدة كمان، عمي عامر دا عسل ربنا يعجل بشفاه يارب، وطنت لميا ربنا يقرب ما بينا ان شاء الله، ما حدش عارف.

تنهد مطولا براحة وهو يعود بظهره للاَريكة، متمتمًا بتفكير:

- وبكدة هتبقى العزومة في بيت والدي تمام!

- عزومة إيه؟

سألته تقطع عليه شروده، تطلع إليها قليلًا بصمت قبل أن يجيبها وقد بدا أنه حسم أمره في إخبارها:

- أصل يا ستي، حابب اني أعمل عزومة كدة ع الضيق بعدد محدود من اصدقائنا، بمناسبة ان والدي ربنا أخد بإيده، زي مصطفى ونور مراته مثلا، طارق وكارم وكاميليا، ميرفت وميرهان...

- إيه ميرهان؟

هتفت بها مخضوضة لا تصدق بنطقه للأسم حتى، فوجدته يردف متصنعًا الجدية:

- أيوة ميري يا زهرة، ما انا مش عايز ماما تتحرم منها، دي مهما كان برضوا تبقى بنت اختها، ومش معنى ان كل واحد راح لحاله مننا يبقى خلاص هانقطع بقى.

مالت إليه بوجهها تقول مستنكرة:

- يا سلام، وانت اسم الله عليك، بتحن اوي للراوبط الأسرية .

شعر بسعادة تدغدغ قلبه مع رؤية هذا الجانب الجديد منها، وردها الساخر رغم خجلها الدائم فقال يشاكسها:

- بتغيري يا زهرة؟

زفرت تُشيح بوجهها عنه فتقرب يلح بمشاكستها أكثر وبإطراف أصابعه يمازحها على طرف أنفها:

- ماتقولي يا بنتي وعبري عن اللي مضايقك، بتغيري يا زهرة؟

نزعت يده تزأر بوجهه بشراسة:

- والله لو ما بطلت يا جاسر هزعل بجد، وانت عارف إن الزعل وحش عليا، ولا نسيت كلام الدكتورة؟

- إيه دا إيه دا؟ هي هرمونات الحمل هبت علينا ولا إيه؟

قالها بمرح متزايد ، وحينما لم يلقى استجابة منها، خفف ملطفًا يقول لها:

- ع العموم انا سمعت انها اتخطبت، والدها ما شاء عليه ما بيضعش وقت

غمغم بداخله:

- والله ما انا عارف مين المغفل دا اللي رضي بيها أصلًا؟ 


❈-❈-❈ 


أهلًا أهلًا يا كاميليا، نورت المكتب يا قلبي .

هتفت بها غادة بترحاب شديد نحوها رغم اندهاشها الكبير لهذه الزيارة الغير متوقعة من كاميليا؛ التي لم تفعلها طوال عملها معها في نفس الشركة 

تقبلت التحية كاميليا متصنعة الإبتسام والمودة، حتى جلست معها أمام مكتبها.

وقالت غادة بمبادرة لحديثٍ مرح ولكنه مقصود:

- انت أكيد جيتي لكارم خطيبك إللي ماسك الشركات دلوقت مكان جاسر الريان، وقولتي تعدي عليا صدفة صح؟

نفت لها برأسها لتزيد من حيرتها قائلة لها :

- لا يا غادة انا جيالك انتِ مخصوص. 

ضيقت حاجبيها بشدة بتساؤل والفضول يوشك على قتلها ولكنها تمالكت تسألها:

- هاْ تشربي أيه بقى؟ حكم دي تبقي زيارتك الأولى لمكتبي المتواضع مع زميلتي ولازم نضايفك ولا إيه يا حكمت؟

قالتها بأشارة بذقنها نحو المرأة الجالسة في المكتب المجاور في الجانب الاخر من الغرفة ورت الأخرى:

- طبعًا ياغادة، دي استاذة كاميليا نورتنا بجد والله، تحبي اطلبك ساقع ولا سخن بقى؟

رمقت كاميليا غادة بشبح ابتسامة غامضمة قبل أن تلتف برأسها للمرأة ترد بزوق :

- متشكرة أوي حكمت، خليها في وقت تاني ان شاء الله، بس معلش لو هاستأذنك دقايق بس، عشان عايزة غادة في كلمتين ضروري .

على الفور تركت المرأة ما بيدها ونهضت مغمغمة بكلمات محرجة، حتى غادرت من أمامهم، لتزاد الحيرة بعقل غادة حتى التفت برأسها إليها لتسألها ، فلم تعد لديها قدرة على الصبر أكثر من ذلك:

- موضوع ايه دا اللي جايالي عليه مخصوص؟

دنت كاميليا برأسها على هاتفها تتلاعب بيه قليلًا، قبل أن ترفعه إليها بصورة مسجلة لمنشور سابق وقالت:

- إيه رأيك؟

تمعنت النظر غادة في الصورة بغير فهم حتى سألتها متعجبة:

- إيه ده؟ هو انتِ جاية تاخدي رأيي في اللي حصل بين عماد وزهرة وجوزها؟

مالت برأسها نحوها كاميليا، تجيب كازة على أسنانها ، لتفرغ شحنة من العضب، ظلت تكبتها الى وقت طويل حتى فاض بها منها :

- لا يا حبيبتي انا عارفة رأيك من غير ما تقولي ، انا بس جاية أسألك، مبسوطة كدة بعد ما دمرتي بني أدم غلبان زي عماد ، لما زرعتي براسه الوهم وحسستيه أن زهرة بتحبه فعلُا، بس خايفة تعترف عشان جبانة وخايفة من جاسر الريان؟

شعرت وكأن صاعقة هبت وضربتها فجأة بدون استئذان وقد باغتتها كاميليا بحديث ظنت بأنها تناسته، ولكنها تمالكت لتُنكر متسائلة:

- إيه الكلام اللي بتقوليه دا ياست كاميليا؟ أنا مالي انا ومال بني اَدم مجنون زي ده؟ ما تروحي يا اختى اسألي ست البرنسيسة، مش يمكن تكون هي اللي عشمته وخلت بيه؟

- تاني برضوا بتكدبي؟

هدرت بها كاميليا صارخة تضرب بكفها على سطح المكتب، وقد ازداد الإحتقان بداخلها حتى أفقدها حكمتها وحديثها الرزين دائمًا ، فتابعت بنبرة اهدى من سابقتها على الرغم من حدتها:

- عماد هو اللي قالي الكلام دا بنفسه وأكدلي ان انتٍ اللي قولتيله، كان قصدك إيه ساعتها غادة ها؟ كنتِ عايزاه يأثر على زهرة ولا يعمل إسفين ويبوظ جوازتها من جاسر الريان؟ 

ولا انتِ كنتِ مستكترة الجوازة من الأصل عليها وشايفة إن عماد هو اللي ألأنسب لظروفها؟ ما تقولي يا بنتي وخليني افهم وجهة نظرك. 

صاحت هي الأخرى غير مبالية بصوتها الذي وصل لزميلتها التي انتظرت خارج الغرفة:

- وجهة نظر وكلام فارغ إيه؟ مالي انا ان كان الست زهرة تتجوز عماد ولا جاسر الريان؟ هاحقد عليها ولا هابُصيلها ليه من أساسه؟ ما هو مسيري انا كمان ربنا يرزقني زيها، ولا زيك انتِ اللي هاتتجوزي ابن اللوا؟

زادت كاميليا بحصارها وتضيق الخناق عليها، بصراحة أجفلت غادة منها:

- ما هو دا فعلآ اللي حاصل، ولا انتِ فاكراني ماكنتش واخدة بالي من تعمدك الدائم للتقليل منها قبل ما ربنا يرزقها بجوازها من جاسر الريان، بحقدك وغيرتك دمرتي انسان مسكين وكنتِ هاتتسببي بخراب بيت زهرة اللي كل ذنبها في الحياة انها ماشية بنيتها ، ومش واخدة بالها من التعابين اللي حواليها.

جسدها كان يهتز من فرط غضبها حرفيًا، فكلمات كاميليا لها كانت موجعة بحق حتى جعلتها تفقد الذرة الباقية من تعقل لها ، فنهضت من مقعدها فجأة تلتف لها من خلف المكتب لتهدر بغل وقد أخذتها العزة بالأثم:

- انا مش هارد على واحدة زيك، وانتِ جاية تعايري وتذليني على حاجة مش بإيدي، مش معنى ان بنت خالي ربنا اداها من وسعه يبقى انا هابصلها يا ست كاميليا، ولا هابصلك انتِ كمان ، قادر ربنا يكرمني زي ما كرمكم، أنا متأكدة إن ربنا لا يمكن هايرضي باللي بتعمليه معايا ده، أكيد هايجيبلي حقي منكم .

قالتها وانطلقت في موجة بكاء حارقة أمامها، لتزيد على مشاعر الازدراء بداخل كاميليا حتى تحولت إلى لمجموعة مختلطة من الأشياء التي لا تجد لها وصفًا، مزيج بين الشفقة والإزدراء، وضيق يجثم على أنفاسها، حتى تناولت حقيبتها وخرجت دون أن تعير وصلة الأخرى من الشهقات العالية أدنى اهتمام 


❈-❈-❈ 


في المجمع الكبير 

وبداخل إحدى محلات الملابس النسائية الخاصة، كانت ميري تنتقى عدة أنواع فاخرة وجميلة تريد ابراز جمالها أكثر أمام الزوج المستقبلي لها المدعو رائد، فهذا الجميل لم يرى منها حتى الآن سوى الملابس المنتقاة بعناية لتكون حشمة أمامه والكلام المتحفظ حتى يراها خجولة ورقيقة كزوجة شرقية يفخر بها أمام المجتمع المنفتح، لا يعلم بما تخبئه له بعد الزواج، ستجعله كالخاتم بإصبعها ومن ثم يسمح لها ويشاركها جنونها لتنطلق بحريتها بعد ذلك.

- يعني اَخيرًا شوفتك اهو.

صدر الصوت المعروف لأسماعها ليقطع عنها شرودها، حتى أنها شهقت مجفلة تلتف إليه برأسها، لتجده يتقدم داخل المحل النسائي بتفاخر وزهو لفت أنظار الفتيات إليه، حتى إذا وصل إليها اكمل بتساؤل أمام اندهاشها:

- قافلة تليفوناتك وما بتروديش عليا ليه يا ميري؟ لتكوني زهقت مني وعايزة تسبيني؟

صيغة السؤال الغريب في حد ذاتها أثارت الضحكات الخبيثة حولها من الفتيات والتي ساهمت في اشتعال غيظها، فردت كازة على أسنانها منه:

- خلي بالك من كلامك يا مارو ثم متنساش كمان انك في محل خاص للسيدات وميصحش دخولك فيه من الأساس .

افتر فاهه باستنكار قبل أن ينزل بعينيه ما بيدها وهذه القطعة النسائيه التي تشبه الشبكة بخطوطها الحريرية بتصميم رائع، ليُطالعها بانبهار وإعجاب فقال غامزًا لها بشقاوة:

- واو، دا هيبقى يجنن عليكِ يا ميري بلونه النبيتي،  وهتبقى ليلتنا نار.

هذه المرة التفت على صوت ضحكة صريحة من إحدى الفتيات التي لم تتمالك نفسها، حدجتها ميري بنظرة نارية أرعبت الفتاة فصمتت على الفور ، أما هي فعادت أليه قائلة بحدة:

- ممكن افهم انت ازاي عرفت مكاني وايه اللي جابك ورايا هنا؟

ذهب الهزل عن ملامح وجهه لتحل جدية على قدر ما تضحكها اوقاتٍ كثيرة، على قدر ما تثير بقلبها الخوف، من مدى جنونه، وقال:

- شوفتك ، يا ست يا ميري وانت خارجة في عربيتك مع حرس والدك، وانا مستني بعربيتي، فضلت متابع لحد اما دخلتي المول وجيتي هنا ع المحل، لكن الكلام اللي داير دا صحيح؟

- كلام إيه؟

سألته باستفسار ورد يقول متهكمًا بغضب:

- قال بيقولوا قال انك اتخطبتي لواحد والده سفير وهاتسافري معاه، بعد جوازكم؟

ابتلعت ريقها تحاول التفكير في رد مناسب يجعلها تتفادى عاصفة محملة بالغبار والأتربة سيفعلها بافتعال فضيحة يشهد عليها رواد المحال بل ورواد المول التجاري جميعه لو قالت الحقيقة، فردت بكلمات تنتقيها بدقة:

- دي كلها إشاعات يا مارو، هو انت شايف في إيدي دبلة دلوقت عشان تصدق إني اتخطبت؟

قالتها رافعة كفها إليه، ونظر هو نحو أصابعها جيدًا يتبين صدقها، ثم قالت بنبرة تتصنع العتاب:

- كل الحكاية انه ابن صاحب والدي المهاجر بقالوا سنين وعايز يتعرف على بلد والده وعلى المعالم السياحية بيها، يعني اعتبره خواجة وانا بأدي دوري الوطني معاه، ولا انت فاكرني مش وطنية عشان اهرب من حاجة زي ده؟!


❈-❈-❈ 


لسة برضوا مش عايزة تقولي عن اللي مضايفك بالشكل ده؟

سألها كارم بعد أن أتت إلى مكتبه منذ دقائق بعد شجارها مع غادة، ورغم تصنعها الأبتسام ولكنها وكالعادة، ملامحها الشفافة تفضح ما بداخلها دائمًا، ردت على سؤاله بمرواغة كي تتجنب فتح هذا الحديث الخاص معه:

- يااا كارم للزوموا إيه الأسئلة الكتير دي بس؟ هو انا جاية اشغلك عن شغلك المهم عشان اروشك بمشاكلي كمان؟ كبر دماغك انا هفُك اساسًا لوحدي ما تشغلش نفسك انت.

- لما ما اشغلش نفسي بيكِ؟ يبقى هشغل نفسي بمين بقى؟ يغور أبو الشغل اللي ياخدني منك يا كاميليا .

أجفلها برده المباغت حتى أنها تطلعت إليه لعدة لحظات بذهول، لا تصدق حالته المتغيرة هذه الأيام، والأقوال الرومانسية التي يمطرها بها في جميع محادثاتهم، 

من وقت أن وافقت على كتب الكتاب، أو حتى نظرات الهيام التي تلمسها بعينيه، مبتعدًا عن تلك التي أخافتها قبل ذلك منه.

- ما قولتليش بقى عن سبب الزيارة الجميلة دي؟

سألها بنفس النبرة الناعمة وردت تُجيبه بالكذب:

- عادي يا كارم، قولت اعمالهك مفاجأة، ولا انت ما بتحبش المفاجأت:

اعتلي ثغرة المطبق بابتسامة جانبية غير مفهومة قبل أن يرد :

- طبعًا بحبها خصوصًا لما تيجي منك، بس انا بقى اللي هايسعدني فعلًا هو التعجيل بقى بحفل الخطوبة اللي أجلتيه كذا مرة عشان مرض عامر الريان ، بس اهو الراجل اتحسن والنهاردة ان شاء الله هيخرج من المستشفى، إيه حجتك تاني يا كاميليا ؟

سهمت أمامه تبحث عن إجابة قبل أن تتهرب بتناول كوب العصير أمامها تتجرع منه لتبتلع توترًا يكتنفها كلما ذكرها بطلبه، وعقلها مشغول بهذا الاخر الذي يتعمد تجاهلها كلما راَها بالمصادفة والتي تتم بندرة هذه الأيام رغم عمله معها بمكان واحد، يظل حبيس مكتبه وقت العمل وحينما يفرغ منه يذهب سريعًا لجاسر الريان في المشفى

في الناحية الأخرى كانت عينيه مسلطة عليها يراقب خلجاتها بدقة وكأنه يقرأ ما بعقلها على صفحة وجهها وهو بكل بساطة يتلاعب بقلمه، وتابع يسألها :

- هو طلبي صعب اوي كدة عشان تسرحي مني بالشكل ده؟

تداركت لتعي ان شرودها طال فعلا هذه المرة فردت متهربة بموضوع اًخر:

- اسفة يا كارم بس انا مخدتش بالي من سؤال، لما افتكرت علاج والدي، اصله بصراحه فيهم نوع مستورد بلف عليه الصيدليات كلها ومش لقياه، بيقولوا انه اختفى من السوق من ساعة ما الدولار ارتفع

رمقها بهذه النظرة الغامضة المتفحصة قبل ام يجفلها بتناول آحدى الأوراق البيضاء أمامه يسألها باهتمام :

- اسمه إيه بقى العلاج؟

- ليه يعني؟ ما انا بقولك مختفي من السوق .

عادت ألى وجهه هذه النظرة الواثقة والابتسامة المتكلفة وهو يردف لها:

- إنتِ اكتبي اسم العلاج وانا لو ما اتصرفتش وجبتلك مجموعة مبقاش أنا.

إلتوى ثغرها بابتسامة مصطنعة لتومئ له برأسها حتى انتبها الاثنان على فتح باب الغرفة بقوة، ليلج منه جاسر الريان، على الفور نهض كارم يقفل أزرار سترته ليسقبل جاسر بحفاوة بالغة تقبلها جاسر بكل ود قبل أن يقترب من كاميليا ويرحب بها أيضًا ثم جلس على كرسيه خلف المكتب وجلسا الأثنان على المقاعد أمامه، بادره كارم بالتحدث عن الصفقات الأخيرة التي تمت والتعاقدات الجديدة، قبل ان يقاطعه جاسر بقوله:

- إهدى ياعم كارم شوية خليني اخد نفسي، وخلينا نتكلم بقى براحتنا شوية قبل ما ندخل في الشغل.

اومأ له كارم بهز رأسه وابتسامة مرحبة، فسأل جاهر يخاطبهما موجهًا عيناه نحوهما:

- وانتوا عاملين إيه بقى؟ 

همت لتجيبه كاميليا بالإجابة العادية التي تقال لمثل هذه الأسئلة، ولكنها تفاجأت برد كارم والذي قال:

- الحمد لله حضرتك احنا كويسين وتمام ، اما بالنسبة للخطوبة فكنا مأجلينها على ما عامر بيه يتحسن ولذلك دلوقتي بعد ما اطمنا فان شاء الله ميعادها يبقى بعد بكرة 

انعقد لسانها أمام هذا التحول الغريب والقرارات المفاجئة لها دون أن يستشيرها فظلت صامتة تتطلع إليه مزبهلة وهو يتحدث عن ترتيبات الليلة وما يعده لها ، أما جاسر فقد كان بعالم اخر غير منتبه لكلماته، فعقله كان يفكر في صديقه الذي يكتم بصدره ولا يبين حتى الآن!


❈-❈-❈ 


خرجت من دوام عملها تتمخطر بخطواتها بعد أن اعادت على زينة وجهها بمزيد من المساحيق لتًخفي َاثار بكاءها بعد مشاجرتها الحادة مع كاميليا؛ التي أوجعتها بكلماتها القاسية تتهمها بالحقد والغيرة بعد أن نالت هي والأخرى الحظ كاملًا تأتي الاَن متبجحة على الوحيدة التي ظلت محلها في الخلف ولكن هذا لن يدوم، فهي ليست اقل منهن جمالًا بل هي تزيد عنهن بالذكاء؛ الذكاء الذي سيمكنها من تخطيهن والفوز قريبًا!

رأت سيارته على مرمى بصرها مصطفة في انتظارها على الرصيف الثاني، فافتر ثغرها بابتسامة سعيدة وتخطيطها يسير جيدًا جدًا كما أرادت، تعمدت التمايل أكثر بخطواتها حتى تُظهر جمال خطواتها مع صوت كعب حذائها في الأسفل، وما ترتديه من ملابس ضيقة متمثلة ببلوزة بيضاء محكمة في الأعلى، وجيبة غطت ركبتيها في الأمام لتظهر من الخلف جزء كبير من سيقانها مع هذه الفتحة الكبيرة، وفي ظل هذه الفرحة انتابتها برؤية ماهر وقلبها الذي يقفز من السعادة معها ، أجفلت على صوت قوي وكأنها ضربت بعصا على ظهرها ، شهقت بصوت عالي تلتف خلفها لتجد هذا المدعو إمام يلوح بعصا رفيعة في الهواء أمامها وكأنه بهددها بها، قبل أن يعيد فعلته بالضرب مرة أخرى على عجلة الكاوتش التي قام بتغيرها في الأسفل عبده السائق ليبدلها بواحدة أخرى بسيارة جاسر الريان، قائلًا كازًا على أسنانه:

- عشان لما اقولك عجلة قليلة أدب وناقصه رباية...... تبقى تصدقني. 

شهقت صارخة في الضربة الأخيرة لتتستدير من أمامه وتعدو سريعًا نحو السيارة التي تنتظرها، لتهرب بجلدها من هذا المجنون .

راقبها عبده ضاحكًا قبل يرفع أنظاره نحو إمام يخاطبه:

- طب عليا النعمة يا شيخ انت مجنون ومش عارف أخرة جنانك دا إيه؟

جلس إمام على الكاوتش التي فش غليله فيها بضربها منذ قليل قائلًا بلهاث من فرط غضبه:

- اخرتها خير إن شاء، وحياة أمي لاعدلها بالعافية!


❈-❈-❈ 


دثر والده جيدًا على تخته بعد أن أخرجه من المشفى التي ظل يتعالج بها لأسابيع حتى تحسن وقارب على استعادة عافيته، فجاء به إلى منزله بصحبة زوجته لميا وزهرة التي كانت تجاهد لإخفاء توترها وقلقها، لمشاركة لمياء منزلها، بكل ما تراه منها من جفاء ومعاملة عادية ليس بها أي نوع من الدفء الذي يغمرها به عامر الريان حتى وإن ظل صامتًا كما كان في العناية المشددة وقت ازمة مرضه:

- ها يا حبيبي كويس كدة بقى؟

هتف بها جاسر مخاطبًا والده الذي أومأ مجيبًا بابتسامة جميلة رغم تعبه:

- تمام يا حبيبي ما تحرمش منك .

جلست على طرف تخته لمياء تخاطبه بلهجة حانية:

- أحضرلك حاجة تاكلها يا عامر من أكل البيت بدال اكل المستشفى اللي انت زهقت منه أكيد؟

اجابها بنظرة نحوها بطرف عينيه من تحت أجفانه:

- معلش ماليش نفس دلوقتِ خليها بعدين.

تعضن وجه لمياء بالحزن تناظره بعتاب يتجاهله بقصد حتى لا يضعف أمام رجاءها الصامت، تحمحم جاسر ليلفت إليه الانتباه وقال مخاطبًا والدته:

- طب احنا نخرج بقى يا ست الكل ونسيبه يرتاح شوية وبعدها أكيد هايقولك بنفسه على الأكل اللي بيحبه.

نهضت لمياء وعيناها مازالت مصوبة نحو زوجها الذي كان مستمرًا في تجاهلها ، وفور ان تحرك الثلاثة لتركه أجفلهم عامر بالنداء على زهرة:

- تعالي يابت انتِ سيبك منهم .

أشارت بسبابتها نحوها تسأله بعدم تركيز:

- إنت عايزني انا يا عمي؟

- امال خيالك يعني ؟ اخلصي يابنت هاتي الكرسي عشان تحكيلي على مشوار الدكتورة وتقوليلي قالتلك أيه؟

هتف بها عامر بحزم نحوها ، فالتفت زهرة بنظرة متسائلة نحو زوجها الذي اومأ بعيناهُ إليها لتنفيذ مطلب أبيه، رغم اعتراض والدته التي رمقت زهرة بغيظ قبل ان يسحبها جاسر من ذراعها بمهادنة حتى استجابت له على مضض لتنصرف وتغادر تاركة زهرة تأخذ حريتها في الحديث مع عامر الذي قصد ذلك ليخفف عنها توترها وتشنجها. 


❈-❈-❈ 


- معفولة يا جاسر؟ يعني انت بتتكلم جد ما بتهزرش؟

هتفت بها لمياء بعدم تصديق بعد أن أردف لها جاسر عن هذا المطلب الغريب حينما يصدر منه هو شخصيًا، والذي أكده بقوله جاسر بنبرة مقنعة بعد أن جلس يتناول من طبق الفاكهة الذي أمامه على الطاولة:

- واهزر ليه بس يا ست الكل؟ انا عامل العزومة عشان اجمع حبايبنا، بمناسبة خروج والدي بالسلامة من المستشفى وحمل مراتي ، الظرفين الحلوين دول بقى ، مش يستاهلوا حفلة بذمتك؟

جلست لمياء في الكرسي المقابل تومئ له برأسها وقد افتر ثغرها بضحكات سعيدة أظهرت أسنانها وهي تجيبه:

- صح عندك حق يا جاسر، هما فعلًا يستاهلوا حفلة مش عزومة، إيه رأيك بقى لو نخليها حفلة فعلًا؟

هذه المرة كانت الضحكة من نصيبه نفسه، قبل أن يجيبها بتفكير:

- لأ يا أمي مش لدرجادي، نكتفي دلوقت بالعزومة عشان صحة بابا كمان ما تتعبش ولا انتِ تحبي إيه؟

أجابته بلهفة وفرحة لازالت لا تستوعبها بعد:

- كل اللي تقول عليه كويس يا حبيبي، مدام هتراعي كمان صحة عامر، وانا كفاية عليا انك حنيت وعايز تقرب المسافات بيني وبين ميري، دي مهما كان بنت خالتك يا حبيبي والدم عمره ما يبقى مية. 

هز برأسه يُظهر اقتناعه الكامل مع ابتسامته التي لا تفارق فمه قبل أن يقول لها:

- طب خلاص بقى يا أمي مدام اتفقنا، يبقى اتصلي انتِ يا ست الكل واعزمي بنفسك، برضوا انتِ هاتقنعيهم أحسن مني!


الفصل السابع والأربعون 


لفصل طويل جدًا اضطريت اقسمه لجزئين والجزء دا لوحده معدي ال٤٠٠٠ كلمة ماتنسوش التفاعل وتعليقاتكم الجميلة


الجزء الأول 


جالسة على كرسيها تراقبه من فترة لا تذكر عددها، 

بعد ليلة مرهقة فعليًا لها من النوم المتقطع، والذي لا تعلم إن كان سببه هو تغيرها لمكانٍ لم تعتاد عليه قبل ذلك على الرغم من شعورها بالدفء بمشاركته الغرفة التي شهدت سابقًا على أيام عزوبيته، أو يكون السبب الاَخر هو تفكيرها المستمر في هذه المأدُبة التي قرر فعلها اليوم بالمنزل بمساعدة والدته التي دبت في جسدها الحماسة بشكل يثير الإندهاش والغرابة أيضًا فهذه المرأة تكتنفها سعادة غير طبيعية منذ أن علمت من جاسر بترحيبه لدعوة ابنة شقيقتها أو زوجته الأولى ميرهان لحضور هذه المأدُبة، تتاَكل من الفضول بداخلها لتعلم بالغرض الحقيقي من وراء هذه المأدُبة، وهي الأعلم بطبع زوجها الإنعزالي من وقت زواجها به، دائمًا لا يفضل الحفلات ولا السهر مع أحدُ غيرها، او هذا ما رأته هي في هذه الأشهر القليلة معه!

نار تسري بأوردتها كل ما تذكرت أنها ستلتقي بهذه المتكبرة اليوم والمطلوب منها الترحيب بها في المنزل الذي كان مقرها هي قبل ذلك، تحتد عينيها في النظر إليه وشيطان عقلها يصور لها عدة سيناريوهات تزيد من اشتعال نيران الغيرة بصــ درها بعد أن علم بخطبتها، ولربما كان هذا سببًا ليحن إليها ولأيام زواجه بها

- يا نهار اسود ليكون هو دا اللي حاصل فعلًا، ولا مصيبة كمان لو مكانش في خطوبة أصلًا وهو بيضحك عليا، والنعمة دا لو حصل بجد لا يمكن هسامحك يا جاسر أبدًا.

ظلت تغمغم بكلماتها وحديث نفسها المشتعل بالظنون، تضع غيظها بالقرقضة على أطراف اظافرها حتى أخذها الوقت، ولم تشعر به هو نفسه حينما استيقظ وانتبه على جلستها الشاردة وفعلها الغريب، حتى نهض يجفلها بقبلة كبيرة على وجنتها بصوت عالي ويًتبعها بقوله:

- صباح الفل، الجميل بقى سرحان في إيه؟

عبس وجهها وبرقت عينيها ترمقه بنظرة مشتعلة بصمت دون أن تجيبه ولو بحرف، لا تعلم بأنه فهم ما يدور بعقلها الاَن جيدًا من ظنون وأفكار متطرفة، توحي بها ملامحها البريئة والتي لا تعرف التصنع، ولكن هذا لا يمنع شعوره بهذه التسلية الغير عادية في مناكفتها ، وأردف يدعي الدهشة: 

- يا بنتي اتكلمي وقولي، ليه التكشيرة دي كدة بس ع الصبح. 

- وانت مالك؟

هتفت بها حادة مباغتة كادت أن توقعه من الضحك، ولكنه سيطر بصعوبة ليتمالك نفسه حتى عن الأبتسام، رغم ارتسامه بوضوح على ملامح وجهه، ورد بجدية مزيفة يدعى العتب:

- كدة برضوا يا زهرة؟ دا رد ترديه على سؤالي؟ لا يا زهرة انا مش متعود منك على كدة.

استدركت شاعرة بحجم خطئها بهذا الرد الغير لائق لسؤاله، فقالت ملطفة وقد انتابها فجأة شعور بالذنب :

- معلش متزعلش مني، بس بصراحة بقى انا أساسًا قايمة متقريفة ومزاجي زفت عشان معرفتش انام كويس بعد ما غيرت مكاني، وانا مصدقت اتعود على مكاني الجديد في بيتنا هناك. 

أومأ برأسه لها يدعي تقبله الإعتذار الغير مباشر منها بصمت مما اضطرها لتزيد بسؤاله:

- لكن انت ماشاء الله بقى باين عليك قايم من نومك مبسوط!

توسعت على فمه ابتسامة أضاءت وجهه ليجيبها فاردًا ذراعيه باسترخاء :

- ومانبستطش ليه بقى؟ ودا اول يوم ليا في الغرفة دي اللي طول عمري متعود فيها على وحدتي والوحشة اللي كنت بحسها دايمًا، اصحى بقى على منظر كدة يسعدني ويشرح قلبي، حبيتي قاعدة قدامي بعد ما شاركتني فيها، لا وشايلة جواها ابني اللي جاي في السكة كمان..

قطع فجأة يتناول كف يدها ليكمل حديثه بصدق ما يشعر به:

- اَخيرًا هيبقالي ذكريات حلوة ابدلها بالذكريات الوحشة القديمة .

وصلتها كلماته بما تحمله من معاني جميلة لتزيد بداخلها اليقين من صدق عشقه لها مع تأثرها الحقيقي، لمعاناته السابقة مع هذا الشعور القاتل بالوحدة، ولكن عقلها الساخن بالأفكار الجامحة الاَن يرفض الأستسلام دون أن تسأل عن ما يدور به:

- جاسر هو انت اتأكدت فعلًا أن ميري اتخطبت، ولا دي إشاعات والناس بتطلعها وخلاص؟

إلى هنا وقد فقد زمام أمره ولم يعد لديه قدرة على كتم ضحكاته، حتى اثار ضيفها منه أكثر وصارت تحدجه بنظرات شرسة تساهم في استمرار ضحكاته، قبل أن يهدأ اَخيرًا ناهضًا من أمامها يردف مع ذهابه نحو حمام الغرفة:

أما انت غريبة والله يا زهرة، بقى كل الهليلة دي عشان تسأليني اتأكدت من خطوبة ميري ولا لأ ؟ طب انا هكون بكدب ليه بس يا بنتي؟

ختم جملته الاَخيرة بابتسامة متلاعبة قبل أن يغلق باب الحمام أمامها بمنتهي البرود، مما جعل أبصارها معلقة لحظات على الباب المغلق تتمتم بغيظ:

- بقى أنا اللي غريبة يا جاسر؟.... ولا انت اللي تشل.


❈-❈-❈ 


بعد قليل 

هبطت من الدرج بصحبته لتجد عامر جالسًا على رأس السفرة التي تراصت عليها كافة أنواع الأطعمة الخفيفة الخاصة بوجبة الأفطار والصالحة أيضًا من أجل حالته الصحية، أشرق وجهه برؤيتهم وهتف يدعوهم بمرح:.

- أيوة كدة بقى الوشوش اللي تفتح النفس دي ع الصبح، تعالوا يالا افطروا معايا يالا تعالوا.

اقترب جاسر يقبله على راسه مردفًا بتحية الصباح وتبعته زهرة بتقبيل كف عامر الريان، قبل أن يجلسا معه ليشاركاه الطعام .

سألهم على الفور عامر بلهجته الودودة دائمًا:

- ها ياولاد عاملين إيه بقى في سكنتكم الجديدة هنا معانا؟ وانتِ يا زهرة بقى انبسطتي في أؤضة جوزك؟

أجابته زهرة بابتسامة مصطنعة لتُخفي ما بداخلها ولم تَخفى على عامر بفطنته ولا جاسر بلؤمه:

- مش اوضة جوزي يبقى أكيد هانبسط يعني ان شاءالله يا عمي .

اومأ لها عامر يدعي الاقتناع حتى لا يزيد بأسئلته ويحرجها، أما جاسر فغير ليسأله:.

- لميا هانم مش قاعدة تفطر معاك ليه يا باشا؟

رد عامر هامسًا من تحت اسنانه وعينيه تطوف يمينًا ويسارًا بحذر خوفًا من سماعها ما يقول:

- راحت تطمن على تجهيزات العزومة بتاعة النهاردة، من ساعة ما قولتلها انت من امبارح وهي مش راسية على حيلها تمامًا، وكأنها عازمة الخديوي اسماعيل ذات نفسه الله يرحمه.

اومأ له جاسر بابتسامة انتقلت لزهرة هي أيضًا، وتابع عامر بضيق:

- بصراحة بقى انا مش بالع الموضوع ده، لزوموها إيه العزومات والكلام الفارغ ده؟

تدخلت زهرة وقد أتى على هوائها منطق عامر الريان لتُضيف على قوله بانفعال:

- عندك حق والله يا عمي، انا كمان مش مقتنعة وحاسة كدة انها مظاهر كدابة ع الفاضي. 

توجه جاسر نحوها بوجه عابس ونظرتٍ محذرة لم تهابها زهرة، فقال يخاطبها :

- حاولي تمسكي نفسك شوية وماتبينيش اللي جواكي على اتفه الأسباب. 

برقت عينيها بالتحدي لتعترض بهز رأسها، بفعل أسعده من الداخل عكس ما يبين لها من تجهم على ملامح وجهه، قبل أن ينتبه على قول والده الذي يتابعهم بمرح:

- ايوة يا زهرة اديلو وما تسكتيش. 

اسبلت اهدابها بحرج لتُخفي ابتسامتها ورد جاسر على والده:

- مبسوط انت بقى كدة صح؟

اومأ عامر برأسه يجيبه بابتسامة منتشية:

- جدًااا، أصل دي اول مرة اشوف فيها حد بيتحداك من غير ما تقلب انت الدنيا .

ازداد اتساع ابتسامتها مع صمتها وهي تتلاعب بطبقها ورد جاسر بدبلوماسية مشاكسًا:

- عادي يعني يا والدي، انا راجل متفاهم اساسًا لطبع مراتي وهرموناتها اللي بتتغير دلوقتي كدة دقيقة مع الحمل.

شهقت مخضوضة من جراته ولم تدري بمرفقها وهي تلكزه به على ذراعه، ليقابلها بابتسامة متلاعبة مع رفع حاجبه، وانطلق عامر بالضحك قائلًا لجاسر :

- ايوة بقى يا جامد يا بن الريان انت.


- جامد في إيه بقى؟

قالتها لمياء حينما أتت فجأة لتنضم معهم على طاولة السفرة، ورد جاسر بمرواغة حتى يتجنب غضبها، مع ذكر ما قالته زهرة وقبلها عامر الريان:

- لا ست الكل انا كنت بحكيلهم بس على صفقة حديد عرفت اخلصها قريب من حيتان في السوق كانوا بيتحدوني فيها.

- ربنا يزودك اكتر وأكتر يا حبيبي. 

قالتها لمياء بعملية قبل ان تردف له بحماس عما قامت بتجهيزه لمأدبة المساء وانواع الأطعمة التي أمرت بتحضيرها وعدة أشياء اخرى، حتى يظهروا بصورة مشرفة أمام الجميع، وخصوصًا مصطفى عزام وزوجته نور وختمت بسؤاله:

- لكن انت اكدت على مصطفى إنه يجي النهاردة؟ عشان انا أكدت ع البنات زي ما قولتلي، يبقى انت تأكد ع الرجالة زي ما اتفقنا. 

رد جاسر بجديته إليها:

- ما تقلقيش يا ست الكل مصطفى وافق انه يجي بس على متأخر شوية، عشان عنده لقاء مهم مع عملا أجانب، لكن انت بنت اختك قالتلك انها هتيجي صح؟

- قالت ان شاء الله، المهم بقى...

قطعت لتوجه كلماتها هذه المرة لزهرة بقولها:

- النهاردة هتيجي ميكب ارتست وانا هشرف بنفسي على إطلالتك، مينفعش تبقي اقل من نور خالص النهاردة، حتى لو كانت عزومة مش حفلة فهماني. 

اومأت لها زهرة بطاعة رغم شعور بعدم الراحة اكتنفها مع قول لمياء التي اندمجت في حديثها إلى زوجها:

- انا وصيت المحل اللي انت بتتعامل معاه، هما عارفين مقاساتك كويس وهيجيبولك شوية بدل تنقي منهم على مزاجك يا عامر

اومأ لها عامر على مضض لا يريد ازعاج نفسه بالجدال معها أما جاسر فذهب لعالم اَخر وشرد لما يقوم بتجهيزه هو أيضًا!


❈-❈-❈ 


جالسة على تختها تطلي اظافرها يديها وبنفس الوقت تجيب على محدثتها في الهاتف الملقى بجوارها بالسماعة التي وضعتها على أذنها :

- أيوة يا حبيبتي اتصلت بيا من امبارح وقال إيه بتعزمني على العشا عشان تشيل المسافات ونرجع نقرب من بعض تاني........... وانتِ كمان يا ميرفت لا مش معقول دا انا مصدقتهاش لما قالتلي انها مجمعة الحبايب........... طبعًا هروح ولا انتِ فاكراني هخاف كمان؟........... يا قلبي دا انا مجهزة فستان شرياه جديد شكله يهوس دا غير كمان اني هادخلهم ورائد في أيدي عشان تندم هي وابنها ويعرفوا انهم خسروا كتير لما فرطوا فيا وربطوا نفسهم بالنسب العرة والسكرتيرة دي كمان........... لو تحبي احنا ممكن نيجي نعدي عليكِ وناخدك معانا............ طيب يا قلبي اشوفك بالليل ان شاء الله. 

أغلقت المكالمة ثم رفعت أظافرها أمامها لتنفخ من فمها عليهم لتجفيفهم، ولكنها أجفلت منتفضة بعد ان تفاجأت بأبيها واقفًا أمامه كتمثال يمد برأسه نحوها عاقدًا حاجبيه بشدة،  فهتفت بارتياع من هيئته:

- في إيه يا بابي؟ هو انا كل شوية هتفاجأ بيك كدة قدامي؟ طب حتى راعي خصوصيتي. 

هز برأسه والدها بحركاتِ غير مفهومة يقول بسخرية على كلماتها:

- لا وانتِ بتراعي قوي الخصوصية، بدليل انك سايبة الباب مفتوح كالعادة من غير ما تعملي حساب للعمال ولا الخدم اللي مالين البيت .

التوى ثغرها بامتعاض مع صمتها عن الرد بعد أن ألجمها بكلماته فتابع يسألها بانفعال غاضب:

- يعني صحيح بقى انك رايحة عزومة النهاردة عند بيت الزفت طليقك... هو إنت معندكيش دم يا بنت انتِ؟ هتروحي بيت الراجل اللي فضل عليكِ السكرتيرة بنت خريج السجون ؟

انهى قوله وصدره يصعد ويهبط بتسارع أنفاسه الهادرة، قابلت ميري غضبه بعدم اكتراث وهي تنهض من أمامه ترد ببرود مع ذهابها نحو المرأة لتتناول فرشاة الشعر وتمشط بها شعرها:

- بصراحة مش فاهماك انا يا والدي، معصب نفسك كدة ومضايق ليه؟ دا انا هدخلهم ورائد في إيدي عشان اغيظهم واعرفهم مقامهم لما يلاقوني مخطوبة من قبل حتى عدتي ما تخلص. 

ضغط بأسنانه يقضم على شفته السفلى من الغيظ، فهذه الغبية تردف كلماتها ببلاهة، ولا تعلم بحجم الخسائر التي تكبدها مع انفصاله عن مجموعة الريان، وحجم الأموال التي كانت تتدفق بكثافة إلى حسابه دون جهد أو تعب، بالأضافة إلى كرسي الوزارة التي على وشك أن تطير منه وهو يجاهد لعدم حدوث ذلك.


❈-❈-❈ 


- ها إيه رأيك بقى؟

سألها خالد وهو يتأمل السعادة البادية على وجهها وهي تتطلع بكل زاوية في الشقة الجديدة، بعد أن حصل عليها ضمن المجموعة الأولى التي تقبلت طلباتهم الشركة، وسعادة تكتنفه بغير حدود بهذا العوض الجميل 

الذي أتى في موعده وبهذه السرعة في هذا الوقت القليل بعد أن فقد شقته الأخرى. 

- ما ترودي يا بنتي وقولي رأيك بقى؟

كرر سؤاله علّه يجد إجابة مفيدة منها تريح قلبه، ولكنها وكالعادة تتمتع بمشاكسته، فقالت بابتسامة مرواغة:

- يعني هي حلوة بس ااا؟

تابع يسألها 

- بس إيه؟

التفت أليه تتنهد بصوت عالي تقول له بتصنع التفكير:

- امممم اصل بصراحة كدة امممم بس ما تزعليش مني يا خالد في اللي هقوله. 

تخصر بوسط الصالة الفسيحة يميل إليها برقبته قائلًا بترقب:

- وإيه بقى يا حلوة اللي هتقوليه وخايفة يزعلني؟

التفت إليه ترد بابتسامتها الجميلة:

- طب يعني انا لو قولتلك انها مش عجباني هتغيرها مثلًا؟

- نعم !

قالها بخضة، وأكملت هي غير مبالية :

- أصلها خنيقة كدة ودمها تقيل على قلبي، انا بقول نستنى شوية على ماتفرج بقى بفرصة تانية ان شاء الله.

هتف رافعًا قبضته مهددًا يتصنع الجدية رغم ضحكاته التي شاركته بها بعد ان حاصرها على أحد الجدران

- لمي نفسك يا بنت المستشار، انا على اخري بجد فاتقي شري أحسن، الشقة حلوة وعجباكي فعلا، صح ولا مش صح؟

اومأت برأسها تقول باستسلام لتقاء شره:

- طبعًا يا باشا دي، دي تجنن هو انا اقدر اقول حاجة عنها .

تابع ليضيف بتهديد رافعًا حاجبه بشر ، لدرجة جعلتها كادت ان تصدق جديتها:

- وهتروحي دلوقتِ على بيتكم تقولي لوالدك ينتظرني عشان هجيلوا ونحدد يوم الفرح على اَخر الشهر اللي جاي ، دا فرمان وصدر. 

- يا سلام دا انت تؤمر وتصدر فرمانك براحتك، هو انا اقدر اعترض كمان؟

ختمت بضحكة مقهقهة فجعلته يبتعد هو الاخر مبتهجًا بضحكها وسعادة تغمره بقرب يوم وصاله بها ، بعد هذا الصبر الطويل. 

توقفت عن الضحك متنهدة براحة وعينيها تطوف في الشقة بأعجاب حقيقي وقالت بتأثر :

- على فكرة انا مبسوطة زيك وأكتر كمان، لان الشقة فعلا حلوة وانا عندي استعداد اتجوز فيها كدة ع البلاط من غير جهاز كمان ، بس قولي صحيح، هو انتِ هتيجي لوالدي النهاردة؟

ذهب الهزل وحل عبس غريب على ملامح وجهه يجيبها ماسحًا على ذقنه بتوتر:

- لا ما هو مينفعش النهاردة، عشان انا وانتِ عندنا مشوار.

سألته با ستغراب:

- مشوار إيه؟


❈-❈-❈ 


في المساء 

وأمام مراَتها كانت تضع اللمسات الاَخيرة على زينة وجهها بالمسح بالفرشاة وإضافة الحمرة المكثفة على وجنتيها، وقد برعت في رسم عينيها لتُظهر جمال اللون الأخضر بهم بشكل يثير الفتنة ويثير بذاتها الإعجاب والغرور أيضا، تبسمت على صوت صفير الإعجاب الذي أتى من خلفها، فتابعت لتضع اللون الاَخير على شفاهاها، مع النظر في انعكاس صورته وهو يقترب متأنيًا، يرتدي فانلة ملتصقة بجســ ده في الأعلى بدون أكمام، وفي الأسفل بنطال بيتي مريح واضعًا كفيه بداخل جيبيه، وقال يتبع صفيره :

- إيه الجمال ده يا ست فيفي، دا انت غلبتي نجمات هوليود .

التفت إليه بابتسامة متسعة بزهو تتلاعب بأناملها على خصلات شعرها المصفف بعناية تسأله راغبة في المزيد من الإطراء:

- بجد يا ماهر؟ يعني انا عجبتك فعلا ؟

اطلق صفيرًا اَخر وهو يتناول يدها ليديرها حول نفسها مرددًا بفخر:

- يا قلبي انتِ ما تعجبنيش انا وبس، دا انت تعجبي الباشا كمان ولا انتِ مش شايفة نفسك بقى؟

تنهدت مبتهجة بصوت عالي قبل ان تقترب منه تقبله عل وجنته بخفة تقول بامتنان:

- مرسي أوي يا ماهر، كنت محتاجاها أوي الجرعة دي، عشان احس بجمالي كدة وافرد نفسي قدامهم. 

قالتها وهمت لتركه ولكنه أكمل ليزيد من إطراءها :

- افردي يا قلبي ومدي رجليك كمان، انتِ ما فيش واحدة في جمالك أصلًا.

- واوو

قالتها مصدرة صوت انتشاء لسماع كلماته، مما جعلها تعيد الكرة بتقبيله مرة أخرى على الجانب الاَخر من وجهه قبل ان تبتعد سريعًا تتناول السترة القصيرة لترتدبها فوق فستانها، وقالت تسأله على عجالة:

- ما قولتليش بقى اخبار البنت غادة إيه معاك؟

وكأن بسؤالها ذكرته ليردف عما جاء به إلى غرفتها، قلب عينيه يجيبها بسأم:

- أوو يا فيفي، البنت دي صعبة وغريبة فعلاً، مرة تبقى كيوت كدة واحس اني هاوصل معاها، ومرة تانية الاقيها انقلبت لشراسة كدة مش مفهومة، طيب هي عايزاني ولا مش عايزاني؟

ضحكت ميرفت ترد على شقيقها وهي تنثر على فستانها رائحة العطر الباريسي:

- لا من ناحية هي عايزاك فهي عايزاك قوي، لكن غبائها يا قلبي مصورلها انها ممكن بعمايلها دي توقعك على بوزك وتتجوزها. 

شهق ضاحكًا باستنكار يرد بعدم استيعاب لهذا الأمر الغريب.

- دي مجنونة دي ولا إيه؟ عايزاني أنا اتجوزها؟ طب ازاي يعني؟ هي متعرفش انا مين ولا فرق الطبقات ما بينا ازاي؟ دي تبوس إيديها وش وضهر إني بصيت لها أساسًا وخليتها ترافقني .

تنهدت ميرفت قبل أن تتحرك للمغادرة ولكنها توقفت على مدخل الغرفة، تقول لشقيقها قبل ذهابها.

- هي فعلا مجنونة وعبيطة كمان ، بس بتنفعني وقت الزنفة


❈-❈-❈ 


وفي منزل عامر الريان كان أول الوافدين شقيقته عليه والتي استقبلها جاسر بالترحاب الشديد لما تمثله هذه المرأة من حنان امومي يستشعره منها في كل لقاء بها، أما عامر الريان فكان لقاءه بقبلة حــ ارة على أعلى رأسها بمودة أخوية دائمة بينهم مهما فرقت بينهم المسافات، وعلى العكس كان استقبال لمياء لها بمودة مصطنعة فهي لن تنسى لعلية اشتراكها مع شقيقها وجاسر لهذه الزيجة التي تورطوا بها وأخفوها عنها، لعلمهم الأكيد برفضها .

- نورتيني بجد يا علية، اَخيرًا شوفناكي في البيت هنا بقى.

قالتها لمياء بعد أن رحبت بها وجلست تنضم معهما في جلسة عامر مع شقيقته والتي ردت؛

- ما انتِ كمان بقالك فترة كبيرة مجتيش بيتي يا لميا، لكن ع الأقل انا بسأل على طول بالتليفون واطمن، دا غير ان روحت زورت اخويا كذا مرة في المستشفى، لكن انتِ بقى فكرتي مرة تزوريني وانا عيانة؟

بهت وجه لمياء لتقول بدفاعية وقد أجفلتها علية بردها القوي:

- وانا هعرف منين يعني انك تعبتي؟ وانت حتى حساب  ع السوشيال الميديا معملتيش؟

ردت علية بابتسامة مستخفة زادت من حنق لمياء فهذه المدعودة علية دائمًا ما تثير بنفسها الغيظ بثقتها الدائمة بنفسها رغم بساطتها في كل شئ، تدخل جاسر ملطفًا وليتفادى غضب أبيه الذي بدا واضحًا من نظرته نحن زوجته:

- بس يا عمتو احنا  كنا عايزين نعملكوا زيارة انا وزهرة عشان اعرفها على بيتك والمزرعة بتاعكتم.

ردت علية مرحبة بغبطة:

- تنور يا حبيبي انت وزهرة حبيبة قلبي، دي وحشتني أوي هي فين مش شايفاها .

- اهي دي اللي نازلة ع السلم .

قالها عامر بإعجاب وهو يتطلع لزوجة ابنه التي تزينت باحتراف مع لفة رائعة وعصرية لحجابها، تناسبت مع فستانها الذي أظهر جمالها بدون تكلف كالعادة، هللت علية بمرح لابن شقيقها تلكزه بعد أن لاحظت تسمر نظراته هو الاَخر على حبيبته والتي يزداد جمالها في كل مرة يراها فيها، بزينة أو بدون زينة .

تلقفتها علية بالاحضان والقبلات بمودة شديدة أثارت حفيظة لمياء بعد لقاءهم البارد منذ قليل .


❈❈-❈


- وبعدين بقى يا كاميليا، هاتفضلي على حالة الجمود دي كدة كتير؟

قالها وقد فاض به بعد أن توقف بسيارته أمام منزل عامر الريان، رمقته بنظرة غامضة تود تجاهله لتلتف وتترجل من السيارة ولكنه أحكم إلكترونيا على باب السيارة، حتى صارت تضرب بعنف على المقبض الذي لا يستطيع الفتح، فالتفت إليه قائلة بنزق:

- ممكن تفتح الباب يا كارم عشان اخرج. 

رد ببرود ولهجة هادئة:

- ما فيش نزول يا كاميليا من غير منتفاهم، ان شالله حتى نتخانق، بس بلاش السكوت ده

مالت برأسها نحوه تردد بسخرية:

- نتخانق! هو انت بتديني فرصة اتخانق ولا اللحق حتى اقول رأيي! يا راجل دا انا بتفاجأ بالقرارات اللي تخصني معاك، زيي زي رباب اختي بالظبط،  يعني إيه يعني تقرر مع والدي ميعاد الخطوبة من غير ما تاخدوا رأيي؟ دا انا لما سمعتك وانت بتقولها لجاسر الريان، سكت على ظن اننا لسة هنتافهم لسة، مش اروح البيت الاقي والدي بيكلمني ع التجهيزات اللي حضرها معاك في القاعة، إمتى لحقت تعمل دا كله أساسًا؟

تنهد مطرقًا رأسه قليلًا يمتص غضبها قبل ان يرفع عينيه إليها يخاطبها بهدوء:

- هو انتِ لما طلبتِ تأجيل الخطوبة لبعد ما ربنا يطمنا على عامر الريان، انا عارضتك يا كاميليا؟

نفت برأسها تهم للرد بعصبية وانفعال ولكنه قاطعها قبل حدوث ذلك بقوله:

- القاعة جاهزة من قبل ما نختار الشبكة، انا بس خدت والدك عشان يشوف بنفسه وأكد ع الميعاد باقرب وقت عشان الناس اللي دعيتها واضطرت تستنى، ما ينفعش التأخير اكتر من كدة يا كاميليا، ولا انت معندكيش رغبة في الارتباط بيا من أساسه؟

لهجته اللينة معها وكلماته الراجية وحديث عينيه الذي لطالما احتارت فيهم، كل هذا يزيد بداخلها الارتباك، مع الحــ روب التي تخوضوها بداخلها، تريد الراحة التي بسببها وافقت من البداية على الزواج به، إذن لما هذه الوحوش التي تأكل برأسها ولا ترحمها عن التفكير ولو قليلًا،  حتى كارم الذي كان يثير توجسها في بداية خطبتهم أصبحت ترى منه وجه اَخر يريد استرضائها بكل طاقته، ولكن ما يثير قلقها هو استعجاله الدائم على عقد القران، رغم توضيحهِ للسبب الرئيسي الذي يدفعه لذلك، وهو خوفه من تأثير طارق عليها، وكأنها طفلة صغيرة،  ولكن اليس هذا ما يحدث بالفعل؟!

- سكتي ليه يا كاميليا؟ ولا انتِ مش لاقية إجابة لسؤالي؟

قالها ليقطع عنها شرودها فقالت بدفاعية مبررة:

- لا طبعًا انا قولتلك قبل كدة اني لو ماليش رغبة في الجواز منك مكنتش هوافق من الأول. 

أكمل على قولها:

- زي ما قولتي كمان انك يوم ما هتقرري انك تكتبي كلمة النهاية ، ولا الف ورقة هتمنعك، صح يا كاميليا؟

سالها بالاَخر وردت على الفور بقوة:

- اَه طبعًا فاكرة، وانا بقصد كل كلمة بقولها .

- خلاص يبقى إيه لزوم القلق بقى؟

قال سؤاله ليتناول كف يدها ويقبلها قائلًا بحنان لم يسبق لها رؤيته:

- وانا واوعدك إن اليوم دا لا يمكن يحصل أبدًا، واني هبذل كل جهدي عشان اسعدك.


❈-❈-❈ 


- واقفة عندك كدة ليه يا زهرة؟

هتف بها جاسر نحوها بعد تركه لجلسة الدفء العائلي التي جمعته مع والده وعمته علية في أحد الغرف وحدهم، تاركين المأدبة ولمياء وكل شئ، للحديث عن ايام طفولتهم وبعض المواقف الطريقة التي حدثت قديمًا معهما، حتى أن جاسر اضطر لتركهم بصعوبة متذكرًا ما ينتظره، ثم يفاجأ الاَن بوقفة زهرة المتسمرة ليعلم السبب فور ان وقعت عيناه نحو ما تنظر إليه

- قاعدة ليه مكانك؟ ما تتحركَِ وسلمي ع الضيوف 

همس بها بخبث فور أن وصل إليها يشير بذقته نحو ميري وهذا الأجنبي الذي تتأبط ذراعه ووالدته ترحب بهما بحفاوة، كرر بمطلبه مع نظرتها الشاردة إليه؟ 

- يا بنتي ما ينفعش وقفتك دي اتحركي كدة.

حركت رأسها باعتراض لتفاجأ به يطبق على كفها ويسحبها معه نحوهم، حاولت فك يدها هامسة بصوت خفيض:

- سيب إيدي يا جاسر وبلاش اسلوبك ده، طب سيبني امشي لوحدي طيب من غير ما تسحبني، ياااجاسر

صمتت فجأة حينما وجدته يقترب منهم ليردف مرحبًا بالضيفين:

- اهلًا يا ميري نورتي.

انتبهت فجأة على صوته فالتمعت عينيها فجأة لترد بابتسامة يعرفها جيدًا وهي ترتد بقدمها للخلف خطوة واحدة لتُظهر الخطيب المزعوم أمام انظاره:

- أهلًا يا جاسر عامل أيه؟ وانت ازيك بقى يا مدام ؟

قالتها الأخيرة مع نظرة وجهتها لزهرة التي اومأت لها برأسها تغمغم بالتحية رغم ارتباكها فتدخلت لمياء في الحديث موجهه الكلمات لابنها وزوجته:

- رحبوا كمان بالضيف، دا يبقى خطيب ميري، الأستاذ رائد ابن السفير فوزي شريف .

صافحه جاسر على الفور مرددًا الترحيب بحرارة مزيفة للرجل الذي رد بكلمات مقتضبه بلغته العربية الغير متقنة مما جعل جاسر يعقد حاجبيه بشدة مستفسرًا، وجاء الرد من ميري بزهو قاصدة:

- اصل رائد اتولد وعاش عمره كله يتنقل في دول امريكا اللاتينية مع والده السفير، وكل معلمينه كانوا من نفس البلاد، ولذلك هو للأسف بيفهم العربي بس ميقدرش ينطقه بتمكن زي والده مثلًا .

أومأ جاسر رافعًا وجهه للأعلى بمبالغة فهمتها ميري مع هذه الابتسامة الماكرة وقد عرف منها كيف استطاعت الإيقاع بهذا المسكين وهو لا يفهم العربية حتى يعرف تاريخها،  ولكنه انتبه على نظرة الأعجاب الصريح من هذا المدعو رائد نحو زهرة محركًا رأسه باستفهام عنها فجاءت الإجابة من لمياء والتي قدمتها له على انها زوجة ابنها، ابتسامة بلهاء اعتلت ثغر الرجل ليردف بانبهار وقد وافقت صورتها للصورة التي رسمها قبل ذلك في مخيلته، فخرجت كلماته بالفصحى 

- " واو زوجة شرقية جميلة"

- هي مين اللي جميلة؟

هتف بها جاسر وقد ذهب العبث عن وجهه وحل محله شر مطلق مع ارتفاع حاجبًا واحدًا بخطر ونظرة قاتمة للرجل الذي هم ليصافح زهرة، ثم عاد بكفه مرة أخرى على تخوف، تخصرت له ميري بتحفز فتدخلت لمياء لتسحبه بصعوبة مع زهرة التي تدخلت معها لمنع حدوث الشجار وافتعال مشكلة دبلوماسية. 


❈-❈-❈ 


- دي عمايل دي برضوا يا جاسر انت عايز تفضحنا ؟

هتفت بها زهرة فور ان ابتعدا بمسافة اَمنة عن ميري  وخطيبها الأجنبي، وقالت لمياء محذرة بغضب:

- اقسم بالله يا جاسر لو ما عديت العزومة دي على خير، لا انت ابني ولا انا اعرفك.

بصقت كلماتها بوجه مكفهر قبل ان تتركهم وتذهب نحو الخطيبين لدرء سوء التفاهم، تابعتها زهرة قبل ان تهمس بضغط اسنانها نحوه:

- يعني عاجبك كدة لما قلبت والدتك علينا؟ كان عاملك إيه الراجل يعني؟

تجهم وجهه واحتدت عينيه يرد بخشونة قاطعة لها:

- كفاية انه بصلك وقال عليكِ جميلة، يحمد ربنا بقى إني مخلصتش عليه.

اجفلت من غضبه فقالت مبررة بهدوء رغم زوهولها من فعل زوجها:

- دا أجنبي يا جاسر، الراجل بيتكلم على سجيته، ودا ثقافته غير ثقافتنا. 

ازداد بريق عينيه ليرد بحدة محذرًا:

- بلا اجنبي بلا زفت، وما تحاوليش تبرري عشان انا اتخنقت أساسًا. 

هزت برأسها تطيعه على تخوف صامتة فهذا المجنون لا تضمن رد فعله وقد وصل غضبه لاَخره، لتصدر صوت شهقة مفاجئة فور أن وقعت عينيها على من ولج لداخل المنزل بصحبة عروسه.

- دا خالي يا جاسر .

قالتها بفرحة طفلة صغيرة رأت والدها بعد رجوعه من سفر سنوات، فلم تشعر يقدمها وهي تركض نحوهما، 

وتبسم جاسر يتابع فرحتها حتى ارتمت بحــ ضن خالها فعبس وجهه يغمغم بحنق وهو يحرك اقدامه للذهاب إليهم:

- هو انا عامل اليوم ده عشان يقلب عليا ولا إيه؟ صبرني يارب.


❈-❈-❈ 


وكأن برؤيتها التي أشتاق إليها منذ اسابيع مرت عليه وكأنها شهور عادت إليه روحه، فنسي غضبه وتبخرت كل مشاعر اللوم بداخله، ولم يبقى سوى الاشتياق الموجع لصغيرته، والتي اطبقت بذراعيها حوله مردفة بدموعها:

- وحشتني يا خالي، وحشتني قوي،  ربنا العالم انا الايام دي عدت عليا ازاي؟ ربنا ما يعيدها تاني أبدًا يارب. 

قبلها اعلى رأسها خالد يقول بصوت متحشرج بمشاعره :

- مش أكتر مني يا زهرة، انا في بعدك، حتة من قلبى مكانتش موجودة، يعني كنت عايش وميت في نفس الوقت .

- يا حبيبي يا خالي ربنا ما يحرمني منك أبدًا. 

- منور يا عم خالد. 

قالها جاسر فور ان وصل إليهم، وذراعه امتدت نحو زهرة لابعادها عنه قائلًا بزوق:

- حبيبتي وسعي شوية كدة عايز اسلم ع الراجل. 

جذبها خالد يمنع ابتعادها بمشاكسة ويرد لجاسر:

- دا نورك يا باشا طبعًا، بس احنا نعرف نسلم عادي يعنى، حتى بص اهي إيدي ممدودة أهي.

اشار بكفه الحرة ليصافحه جاسر على امتعاض،  وتدخلت نوال خلفهم قائلة بمرح بعد تأثرها منذ قليل بلقاء خالد وزهرة ابنة شقيقته او ابنته هو على الأصح:

- جاسر باشا، انا قاعدة هنا والله ومحدش واخد باله مني. 

اوما لها جاسر يحيها بحرج اكتنف زهرة هي الأخرى فذهبت إليها معتذرة بأسف تقبلته نوال بصدر رحب وتفهم لكل ما يخص خالد .

اما جاسر والذي انفرد مع خالد قليلًا فخاطبه بامتنان قائلًا:

- متشكرين اوي يا خالد انك قبلت العزومة، بس كان نفسي بجد تجيب رقية والبنات معاك. 

تبسم خالد يرد باعتزاز اعتاد عليه طوال سنوات عمره، دون تأثر بمكانة او اي شخص كان .

- يا جاسر باشا انا قبلت دعوتك المرة دي وانا ساحب في إيدي خطيبتي على أساس جملتك امبارح لما قولتلي اعتبرها عزومة من صديق ، لكن بقى لو كنت سحبت رقية والبنات، ساعتها كانت هتبقى عائلية ، وانا بصراحة مفضلش أن أول لقاء مع العيلتين يبقى في عزومة عامة، بل بالعكس انا أفضل ان العزومة تبقى في بيتنا أولًا ودا الأصح. 

اومأ له جاسر بصمت وقد الجمته حجة خالد والذي اصاب في كل كلماته  

الفصل السابع والأربعون 

الجزء التاني 


ترجل من سيارته بعد ان أوقفها أمام منزل عامر الريان واصطفها في مكان قريب منه بجوار السيارات العديدة للمدعوين لهذه المأدبة، أحكم أغلاقها واستدار بخطواته السريعة نحو مدخل المنزل، ليتفاجأ برؤيتها وهيئتها التي تنجح في كل مرة بسحب أنفاسه من داخل صدره، 

حتى أنسته الوعود التي قطعها على نفسه وعينيه متسمرة عليها وقد التقت بخاصتيها فلم تحيد هي الأخرى بأنظارها عنهما، وكأن حديث أشتياقِ مطول يدور بينها، مع وقع خطواته التي تمهلت دون إرادته، اللعنة عليها وعلى كل ما يخصها، لديها القدرة دائمًا على تحطيم مقاومته، ولكن ورغم ذلك فهو لن يعود لسابق عهده معها، استعاد توازنه ليغلف وجهه بهذا القناع الزائف يدعي التجاهل، وساعده رؤية هذا الغراب الذي أتى خلفها يومئ له بابتسامة صفراء بادله طارق بواحدة مثلها، ثم أزاد قاصدًا لحرق دمه برفع ذراعه ليُحاوط كتفيها، قابل فعله طارق بتغافل تام وقد أشاح بوجهه على الفور حتى لا يعطيه فرصة للفرح به، لا يعلم سر هذا الرجل ولما يشعر بأفعاله الغريبة وكأنها تتعدى الغيرة من رجل اَخر راَه قبل ذلك يغازل خطيبته وهذه المثالية الغيرة العادية التي يبرع دائمًا في إظهارها أمام الجميع، تنهد من حريق يدور بداخله ليغمغم لنفسه وهو يصعد الدرجات الرخامية الكبيرة نحو مدخل المنزل:

- جمد قلبك كدة واركز، هو انت لسه شوفت حاجة؟ دا انت ياما هتشوف.

ومن خلفه شعرت كاميليا بفعل كارم المقصود ، فرمقته بنظرة ممتعضة لم يكترث بها وقبض على كفها ليسحبها  معه متمتمًا ببرود:

- إيه يا كاميليا احنا هنفضل واقفين الليلة كلها هنا ولا أيه؟ ياللا عشان اللحق اروحك بدري لبيتكم بدري كمان. ياللا. 

أذعنت باستسلام تتبعه وبداخلها تتاَكل غيظًا من أسلوبه الا مبالي .


❈-❈-❈ 


وفي الداخل كان لقاء خالد ولمياء بعد أن قدمه إليها جاسر بتحفز بعد تحذيراته لها بالأمس وقت اتفاقهم على مأدبة العشاء وقد وضع شرطه نصب أعينها، لمقابلة أسرة زهرة بمودة جيدة وإلا سيفعلها ولن يتهاون بترك المنزل وأخذ أبيه لمنزله، فاضطرت صاغرة لمواقفته وها هي الاَن ترحب بخالد وترسم على وجهها ابتسامة رغم احتقانها في الداخل:

- اهلًا يا أستاذ خالد نورتنا وشرفتنا بوجودك. 

قابل خالد تحيتها بابتسامة مرحبة رافعًا رأسه أمامها يخاطبها باعتزاز:

- الشرف لينا يا هانم، انا اللي سعيد بالتعرف عليكِ.

اومأت بابتسامة متكلفة اتسعت بذهول مع كلمات جاسر وهو يقدم لها نوال :

- دي بقى خطيبته يا ماما الأستاذة نوال بنت المستشار فتحي رضوان .

- واو مستشار. 

غمغمت بها وهي ترحب بوجه مرتخي قليلًا عن لقاءها السابق بخالد:

- اهلا بيكِ نورتينا يا قمر.

رحبت بمصافحتها نوال بابتسامة ودودة

- البيت منور باصحابه ربنا يحفظك 

غلبها الفضول لتسألها على الفور:

- وانت بقى محامية ولا أستاذة في الجامعة؟

تدخلت زهرة لتُجيبها بغبطة وسعادة حقيقة لرؤية أحب الأشخاص على قلبها:

- نوال محامية شاطرة اوي، دي ليها مكتب وحدها ومافيش قضية بتخسرها. 

اومأت لمياء وقد ارتسمت الحيرة والدهشة على وجهها،  من هذه العائلة التي رغم فقرهم يصاهرن اساتذة ومستشارين ورجال أعمال أيضًا!


❈-❈-❈ 


بداخل سيارته والتي اصطفها بمكان بعيد نسبيًا عن محيط القصر الكبير والحراسة الضخمة له من رجال أشداء، وقع اختياره على واحدًا منهم، يسير دومًا بهذا الطريق بعد أن انتهاء نوبته، قبل عودته لمنزله باستقلال إحدى الموصلات العامة في الموقف القريب .

- بس بس انت يا أخ.

هتف بها نحو الرجل الذي تعجب في البداية وظن أن النداء على شخص آخر، حتى أصر عليه الاَخر وهو يشير بكف يده إليه ليقترب، عقد حاجبيه الحارس الضخم لطلب هذا الصغير لينضم إليه بالسياره، حتى اقترب يخاطبه بخشونة وعدائية:

- انت مين وعايزني أركب معاك ليه في العربية؟

تأفف مارو يزفر حانقًا ورد بسأم مع قلق هذا الضخم لمرفقته :

- يعني هكون عايزك تركب معايا العربية ليه بس انت كمان؟ أكيد عايزاك في مصلحة.

ارتفع حاجبيه الرجل وازدادت الريبة على ملامح وجهه وهو يحرك رأسه يسأله باستفهام:

- مصلحة أيه بالضبط؟ انا مركبش العربية مع حد غريب من غير ما اعرف غرضه إيه مني الأول .

فاض به مارو وهو قليل الصبر من الأساس فضرب بغيظ على مقود السيارة قائلًا من تحت أسنانه:

- بجســ مك اللي زي جســ م الوحش دا وخايف مني؟! دا انا كل اللي عايزه منك كلمتين بس ع السريع ، اركب بسرعة بقى قبل ما يشوفك حد من باقي الحراس، مش عايزين شوشرة. 

بدت الحيرة واضحة على وجه الرجل في القبول أو الرفض ولكنه تذكر الفرق الجسدي الهائل بينه وبين هذا الشاب اليافع بجسده النحيل وشعر رأسه الطويل الذي يعقده من الخلف كذيل حصان قصير، كفعل الفتيات، استغفر بداخله وعقله ذهب لافكار غريبة جعلته يأخذ حذره في جلسته معه بداخل السيارة، فعاجله سريعًا بقوله فور أن ابتعدا عن محيط القصر جيدًا وحراسه:

- اتفضل بقى قول اللي انت عايزه بسرعة عشان اللحق انا الميكروباص واروح لامي واخواتي .

عبس مارو بضيق من خوف هذا الرجل الضخم منه ، فتنهد ليوقف السيارة في ركن منعزل في إحدى الشوارع الجانبية ليزداد الشك بقلب الرجل وهتف يسأله يأعين متوسعة :

- إنت موقف العربية هنا ليه؟ وعايز مني إيه بالظبط؟

قلب عينيه بسأم مارو فلم يأتي على باله ما يفكر به الرجل، وفضل الدخول مباشرةً حتى ينهي اللقاء مع هذا الغبي، ليتناول سريعًا مجموعة من الأوراق النقدية الكثيرة ليلوح بها أمامه قائلًا:

- شايف الفلوس دي كلها هتبقى ليك لو طاوعتني في اللي هقولهولك.

توحش وجه الرجل ليهدر إليه بعدائية على وشك الفتك به وقد انتشرت بعقله الظنون:

- إيه اللي انت عايزه ياد؟ وديني ما يكون اللي في بالي لقطــ ع خبرك النهاردة. 

شهق مارو يلكزه بكفه الرفيعة على صدره الضخم صائحًا باستنكار وقد وصله اَخيرًا مقصد الرجل:

- تقطع خبري ليه حيوان انت؟ انا كل اللي عايزه منك هو ان أسألك عن ميري، ولو جاوبت صح هتكون الفلوس دي من نصيبك 

هدأت فورة الرجل وخف قلقه مع توجسه الدائم من هيئته الغريبة والتي تذكره بهيئة النساء حتى ضرباته منذ قليل على صدره، استغفر بداخله مرة أخرى قبل أن بجيبه باستفسار:

- تقصد ميري المطلقة بنت الوزير؟

شهق مارو رافعًا رأسه للسماء قبل أن يعود قائلًا للرجل بارتياح:

- اخيرًا فهمت... ايوة هي با سيدي، كنت عايز أسألك عنها، اصلها اليومين دول مختفية ومعدتش تحضر مع الشلة في مشاويرهم ولا حتى بترد على تليفوناتي. 

اعتدل الرجل بجلسته وقد فك تشجنه القلق منه، فرد مستخفًا وهو يمسح بأنامله على وجنته:

- وعايزها ترد عليك ليه وهي مخطوبة وكتب كتابها كلها أسابيع ويتم؟

صرخ مارو بنبرة صوته الرفيع أجفل الرجل قائلًا بانهيار:

- إيييه؟ مخطوبة، يعني بتغدر بيا وعايزة تسيبني؟

ازداد ضيق الرجل وتمتم فمه بالسباب يلعن هذا المعتوة وهذه اللحظة التي قرر التنازل فيها لينضم معه بالسيارة، قبل أن ينتبه على صوت مارو الغاضب وهو يأمره ملوحًا بمجموعة من الأوراق النقدية أكبر من سابقتها ليردف له قائلًا بتصميم:

- خد دول وعايزك تحكيلي كل حاجة عنها وعن خطيبها، وليك قدهم تاني كتير اوي لو جيبتيلي كل أخبارها أول بأول. 


❈-❈-❈ 


عودة إلى منزل عامر بعد أن اكتمل بعدد المدعوين لمأدبة العشاء، لينضموا جميعًا على طاولة كبيرة ضمت العديد من الأصناف المبهرة بعد أن طلبتها لمياء مخصوص من إحدى المطاعم الشهيرة بإعدادها، رغم علمها بإجادة العاملين بمنزلها من خدم لصنع هذه الأصناف، ولكنها ركزت على الشكل الجمالي أيضًا والذي يفعله الشيف المشهور بهذا المطعم، للفت الأنظار إلى الأطعمة مما أثار بقلبها الفخر وهي تراعي الجميع بجدية وتوزع ابتسامتها في ضيافتهم .

نوال والتي جلست بالقرب من خطيبها كانت عينيها لا تفارق بانبهار نور الممثلة التي لطالما أعجبت بها على الشاشة، بجوار زوجها هذا الرجل الشهير أيضًا بأعماله العملاقة رغم صغر سنه، حتى لفتت أنظار خطيبها 

وانتبه ليسألها بهمس:

- في إيه يا أستاذة وقفتي أكل ليه؟

أجابته بهمس هي الأخرى:

- مستغربة قوي بصراحة مكنتش اعرف ان هيجي اليوم واقعد على طرابيزة واحدة مع ناس مهمة زي دي بشوفهم بس ع الشاشة. 

عبس خالد بوجهه إليها يقول متصنعًا الأمتعاض بمواصلة همسه:

- بيئة وهتفضحينا، انا مش فاهم انت بنت مستشار ازاي بس؟

لكزته بخفة فتأوه بصوت مكتوم جعلها تزيد بابتسامتها التي كانت تجاهد لأخفاءها، ومن ناحيته فقد تركزت عينيه نحوها وهي تتناول طعامها وهذا الجاسر يحاوطها برعايته واهتمامه في إطعامها رغم عدم اغفاله عن مراعاة الحضور، بشكل أدخل السرور على قلبه، وفي الناحية الأخرى وقد أخذ الجزء الأكبر من اهتمام لمياء لمرعاة ميري وخطيبها المزعوم وميرفت،  التي كانت توزع نظراتها على الجميع، حتى انها لم تغفل عن مبالغة كارم في اهتمامه بكاميليا وتجاهل طارق المقصود لهما، وحديث عامر المتباسط مع شقيقته هذه المدعودة علية والتي تضحك بعفوية لا تناسب الجلسة وما عليها من حضور بوجهة نظرها.


❈-❈-❈ 


بعد انتهاء الجميع من طعامهم توجهوا جميعهم لإحدى الغرف الشاسعة المساحة بناءً على رغبة جاسر ، الغرفة كانت مميزة بطرازها المعماري المختلف عن باقي الغرف، جيدة التهوية رغم العدد الكبير بها بالإضافة إلى هذا الجدار الزجاجي الذي أظهر من الخلف الحديقة البديعة بانوراها الموزعة على الشجيرات بحرفية وحوض السباحة في الأرض ليزيد من سحر المشهد، انقسمت كل مجموعة حسب ميولهم، جاسر وبجانبه طارق ومعهم مصطفى عزام، عامر وقد أعجب بخالد من وصف شقيقته علية وكلماتها وقد أصر على مجالسته لهم، أما كارم وقد وجد ضالته مع هذا المدعو رائد ليأخذ فرصته ويبهره بمهارته اللغوية وإجادته التامة للغة الأسبانية التي يتحدث بها الاَخر ، فيثير إعجابه بالأخذ والرد معه، ويُعطي لكاميليا المجال للأنفراد مع الفتيات نوال ونور الجميلة المتواضعة وزهرة التي انضمت إليهن بعد أن أتت بمشروب اَخر لنور:

- اتفضلي يا ستي العصير الدايت زي ما قولتي اهو .

قالتها وهي تضع الكوب الزجاجي أمامها قبل جلوسها معهن، هتفت نور محرجة لفعل زهرة:

- يانهار أبيض، بنفسك يا زهرة جايباه؟ هو انت قاصدة تكسفيني يا بنتي؟

ردت زهرة بدهشة تشوبها الإبتسامة الرائعة منها كالعادة:

- أكسفك ليه بس يا نور؟ هو انتِ فاكراني هانم والحاجات دي عشان أأمر بقى واتأمر، لا ياعم انا بجيب حاجتي بنفسي، وبلاقي راحتي في كدة .

تجعد وجه نور بمرح إمتزج مع دلالها الفطري وهي توجه حديثها للفتيات:

- ما حد فيكم يكلمها يا جماعة، دي مُصرة تكسفني حقيقي البنت دي برقتها. 

استجبن لها بالرد بالمزاح والضحك أيضًا حتى قالت كاميليا:

- بس تعرفي يا نور ، احسن عملتيها بجد النهاردة انك جيتي من غير حماتك العــ قربة، دي مش معقولة بتعامل الناس كلها من طرف مناخيرها، واكنها من طينة تانية.


افتر ثغر نور بابتسامة حقيقية وهي ترد  بتفكه غير مبالية:

- أمال لو تشوفيها معايا في البيت ، هتكتشفي على طول انها بتعاملني كمواطن من الدرجة التالتة، بعد ولادها ومرات ابنها التركية.

شهقت نوال غير مصدقة ما يحدث مع النجمة التي تراها دائمًا ع الشاشة بصورة أخرى غير تلك تحدثهن الاَن:

- معقول؟! ليه بقى؟ ولا هي الست بهيرة بتاعتكم دي  فاكرة نفسها من الأسرة المالكة مثلًا؟

اردفت نور مؤكدة وهي تومئ رأسها مغمضة عيناها ببؤس:

- أكتر يا أختي أكتر ، هي من عيلة ليها أصول بشوات وبهوات، فدمغاها مخليها بقى متمسكة بالجزء دا بشكل غربب، لما تشوفيها وهي بتتكلم مع عدي أخو مصطفى الصغير ومراته التركية، تكتشفي انك ولا حاجة وسطيهم، بس انا والحمدلله مصطفى دايمًا بيعوضني وبيعاملني كملكة بدليل إنه جابني النهاردة من غير ما يقولها لا تشبط فينا زي كل مرة لما تشوفني فيها خارجة معاه بس اقولكم على حاجة. 

قالت الأخيرة تقترب برأسها تهمس لهن:

- اقسم بالله انا حاسة ان اللي اسمه عدي ده هيطلع من وراه بلاوي و طنت بهيرة دي، اللي طايره بيه وبمراته التركية، هتاخد على دماغها منه، أصله مش مظبوط كدة ودايمًا بحسه بتاع بنات على الرغم انه لئيم وما بيبنش،

قطعت وهي تتأمل هذا التركيز الشديد الذي بدا عليهن ، لتضيف:

- أنا قولتلكم على السر واللي بحسه بس بلاش والنبي تطلعوا فتانين زيي وتقولوا لحد تاني. 

قالت كلماتها بلهجة بدت جدية لتصدم الفتيات في البداية قبل أن تنطلق ضحكاتهن بصوت عالي، أجفل المجموعة الأخرى بالقرب منهن، ميري ولمياء وميرفت التي عقبت على فعلهن:

- الست الممثلة اندمجت مع صاحبتنا شكلها كدة بيئة زيهم .

أثارت حفيظة لمياء بقولها لترمقها بنظرة معاتبة ولكن لم تنطق بلسانها ما تود البوح به، فا أضافت ميري على قول قرينتها:

- عندك حق يا ميرفت بكلامك، دا انا كنت واخدة عنها فكرة تانية خالص البتاعة دي.

لم تقوى لمياء على الكتمان أكثر من ذلك فقالت على حرج:

- خلاص يا بنات بلاش الكلام دا أرجوكم .

استدركت ميرفت خطئها لتردف ملطفة على الفور دون ان تتخلى عن خبثها:

- أنا مقصديش حاجة وحشة يا طنت، أنا بس خدت بالي انهم مدينك ضهرهم وهاتك يا رغي ولا اكنك صاحبة البيت أساسًا!

كلماتها السامة اخترقت كبرياء لمياء فبدا التأثر جليًا على ملامح المذكورة، لتبادل ميري مع مرفت ابتسامتهن الخبيثة، وقد أصبن الهدف.


❈-❈-❈ 


والى مصطفى الذي انتبه على شرود طارق والتغيير الذي حل على شخصيته التي دائمًا ما كانت مرحة، فكان يناكفه بالكلمات عله يعود لعهده معه:

- إيه يا بني؟ اقسم بالله ملايق عليك دور العقل ده، إيه اللي جراك يالا؟

رد طارق مستجيبًا بابتسامة شاحبة وقد أخذ حذره  بتغير وضعيته في الجلسة حتى يتجنب النظر إليها ، رغم اختراق صوت ضحكاتها النادرة الرائعة لمدينته الاَمنة لتُعاد على مسامعه مرارًا وتكررًا، فتُعكر صفوه وتزيده تشتتًا رغم ادعائه العكس .

- ما انا عقلت بجد يا عم مصطفى، ولا انت فاكرني هفضل طول عمري كدة على جناني؟

اردف مصطفى مصرًا على رأيه بتشدد:

- يا بني كل الناس تعقل إلا انت، ماتقولوا حاجة يا أخ، انا مش قادر اصدقه بصراحة.

قال الأخيرة بإشارة نحو جاسر الذي كان في عالم اَخر غير مندمجًا معهما على الإطلاق، نفض رأسه من أفكارها يربت بكفه على ركبة مصطفى ليرد بعملية :

- سيبك من طارق دلوقت، دا مشكلته معقدة وان شاءالله يجي الحل من عند ربنا المهم......

قطع جملته وقد تحفز بجلسته والتمعت عيناه ببريق غريب اثار فضول صديقيه من هذا التغير الذي طرأ على ملامح وجهه فجأة ، فسأله مصطفى مستفسرًا:

- المهم إيه يا جاسر؟ 

بمجرد استماعه للسؤال نهض فجأة يزرر سترته ويعدل من هندامه ليرد عليهما بابتسامة غامضة:

- الموضوع المهم بقى واللي جايبكم مخصوص عشان، هتشوفوه دلوقت حالًا، في العرض اللي هيتم قدامكم.

سأله طارق عاقدًا حاحبيه بشدة:

- عرض إيه يا جاسر .

اومأ له الاَخير بابتسامة لاتوحي أبدًا بالخير وهو يتحرك مبتعدًا عنهم وقد حان وقت العرض بالفعل .


❈-❈-❈ 


تقدم بخطواته حتى توسط الغرفة وهتف ليلفت إليه الأنظار بعد أن حانت اللحظة الحاسمة وقد أعد عدته سابقًا لكشف الحقيقة:

- يا جماعة بصولي هنا معلش.

تكلم بعد أن استرعى الأنتباه وتعلقت ألأبصار نحوه بتساؤل:

- الف شكر ليكم كلكم انكم لبيتوا الدعوة وجيتوا أولًا.

قالها بابتسامة مرحبًا ليتلقى استجابتهم الممتنة بالابتسامات له أيضًا مدعومة ببعض الكلمات، واستطرد يكمل:

- أكيد معظمكم فاكرين إن العزومة دي عشان ربنا طمنا على صحة والدي، بس الحقيقية بقى انا عندي تلت أسباب، أولها أكيد طبعًا عشان صحة والدي والتانية بقى .....

توقف قليلًا وعينيه ذهبت إليها بابتسامة لفتت انظار الجميع نحوها قبل أن يخبرهم بسعادة بملأ فمه:

- زهرة حياتي، عوض ربنا ليا، اللي ردت الروح في قلبي بعد ما جف عن الحياة وكان عايش وكأنه حي وميت في نفس الوقت، دلوقتي شايلة جواها حتة مني، زهرة حامل يا بشر. 

قالها مهللًا بمرح طفل صغير، وكأنه ليس جاسر الريان المعروف باتزانه الدائم وهيبته التي كانت تمنعه حتى عن الإبتسام إلا في الضرورة، فصخبت الغرفة بالمباركات والعبارات المهنئة بفرحة حقيقة من معظم الموجودين عدا ميري التي شعرت وكأن خطابه موجهًا أليه بقصد أهانتها بعد صفعها بكلمات الغزل التي القاها نحو هذه المدعوة زهرة ثم هذا الخبر الذي اوغر صدرها بالحقد والكره حتى كان جسدها يهتز حرفيًا من الغضب، أما ميرفت والتي بدأت تشعر بذبذبات خفية مفعمة بالقلق تنتشر في الهواء حولها، وحدسها يونبئُها ان حديث جاسر لم ينتهي بعد، ولكن استطاعت برسم ابتسامة متصنعة لتهنئة لمياء التي التمعت عينيها وترقرقرت بها دموع الفرح

رمقت بغل من طرف عينيها صاحبة الخبر نفسه زهرة والتي كانت تتلقى المباركات بالاحضان والقبلات من الملتفين حولها، وعلية شقيقة عامر الريان والتي كانت تقبل وتهنئ بمبالغة وغبطة حقيقية مع شقيقها وابنه وحتى هذا المدعو خالد والذي كان يبدوا وكأنه والد العروس، أما جاسر فلم يرأف بخجل زهرته أمام هذا الجمع الكبير فقبلها بمرح على وجنتها أمامهم غير مبالي باعتراضها كالعادة، قبل أن ينهض مرة أخرى ليفُض حالة الهرج والمرج بالغرفة بهتافه والتصفيق بكفيه:

- يااا خوانا يا خوناا انا لسة ما قولتش عن السبب التالت انتبهولي بقى .

تدخل طارق وقد أعادته حالة الفرح لطبيعته المشاكسة:

- سبب إيه تاني يا عم جاسر؟ مصيبة ليكون عرفت نوع الجنين وناوي تعلن لنا دلوقت عن العضو الجديد في العيلة اللي هيمسك مجموعة الريان؟

نفى برأسه جاسر بابتسامته تزامنًا مع هذه الضحكات الصاخبة حوله مع هذا الجو الذي تشبعت به الغرفة بالمرح والمزاح :

- لا يا خفيف استنى بس عليا شهرين وانا اتحفك بالجديد، خلينا اتكلم في المهم بقى:

قطع لينهي بذكائه مزيدًا من التفكه والمزاح، وقال بصوت عالي موزعًا أبصاره على كل فرد بالغرفة، بوجه جدي خلى منه العبث:

- السبب التالت يا اخوانا هو اني عرفت الخاين .

وقع الجملة الغريبة أجفلهم، ليسود الصمت على الفور ويحل محله التوتر، تنهد براحة لذلك ثم التف سريعًا ليُدير شاشة التلفاز العملاقة بجهاز التحكم عن بُعد ( الريموت) ليقول موضحًا:

- أنا هشرح لكو بالصورة عشان تعرفوا، شوفوا كدة، القصة قدامكم بدأت من هنا لما زهرة حبيبتي دخلت مطعم مع بنت عمتها بعد جوازي بيها بفترة كنت لسة ما أعلنتش فيها عن خبر جوازنا، وزي ما انتو شايفين كدة ، هي قعدت وبنت عمتها جالها تليفون وقامت بعدت عنها تتكلم ، جالها الولد دا اللي لابس كمامة  وقدملها العصير دا على اعتبار ان بنت عمتها بعتاه.

قال والتفت رأسه يراقب ردود افعالهم المتابعة بتركيز، عدا ميرفت فهي الوحيدة منهم التي بدا اليقين يسكن قلبها بقرب الخطر، التف جاسر عائدًا لما يفعل بعد أن رمقها بنظرة جعلها عادية كالجميع ثم أكمل:

- عشان اختصر معاكم، العصير دا كان فيه منوم.

تابع رغم الشهقات التي سمعها من خلفه.

- ايوة زي ما انتوا فهمتوا كدة، الموضوع دا كان مدبر بحرفية بحيث ان زهرة يغمى عليها أو جسمها يرتخي ومتقدرش تقوم من مطرحها، عشان لما بنت عمتها تتصل بيا واروح انا اشوفها مع قلقي عليها، الصور تتاخد لي وانا شايلها وبعدها يحصل التريند اللي انتوا فاكرينه طبعًا.

- الولد دا تجيبه من تحت الأرض يا جاسر.وانا هربيه بنفسي 

هتف بها من عامر الريان من الخلف بقوة أجفلت الجميع واستنفرت معظمهم خاصةً الرجال ليدلي كل فرد بدلوه حول الولد وعقابه على فعلته، وميرفت صامتة مضيقة عينيها بتفكير عميق،  فجاء رد جاسر 

المباغت لها :

- للأسف يا والدي المشكلة كلها مكانتش في الولد ، الحكاية كانت في الست دى أصلها هي اللي كانت زاقة الولد.

قال جملته مرافقة مع وقف الشاشة على صورتها وهي متخفية بالسترة الثقيلة والكمامة على الوجه وغطاء الرأس. 

- مين دي يا جاسر؟

قالتها لمياء وهي متمعنة النظر في الصور وبجوارها ميرفت ترتجف داخليًا بتحفز .

رد جاسر بوجه بائس ودراما مصطنعة، الست دي انا عملت المستحيل عشان الاقيها ساعتها لكن برضوا معرفتهاش.

حانت منه نظرة خاطفة نحو ميرفت أصابتها بالتشتت،  قبل أن ينهض فجأة قائلًا:

- لكن بقى لما حصلت المشكلة الأخيرة بيني وبين زهرة ساعة الواد المجنون دا والتريند الاَخير أكيد فاكرينه دا كمان ما انا بقيت نجم بقى.......

قال الاَخيرة ببسمة متفكهًا، فجاء سؤال والده إليه:

- تريند إيه يا جاسر؟ انا مسمعتش عن الاَخير ده.

التفت أليه ليغير صورة الشاشة مرافقًا لقوله:

- في الحقيقة يا والدي التريند المرة دي حصل في نفس المستشفى اللي كنت انت موجود فيها، أنا هحكيلك.

قال الاَخيرة ثم قص بعجالة بدءًا من الفتاة العاملة التي أوقفت زهرة قبل خروجها من المشفى إلى نهاية ما حدث معه مع زهرة قبل أن يكتشف الخطة المرسومة وهذه الرسائل التي رفع صورتها على الشاشة أمامهم، وكان التعقيب الأول من كاميليا:

- بس انا مش مصدقة إن عماد يعمل كدة، لانه بصراحة ميعرفش يخطط، هو واحد مسكين كان فاكر إن زهرة بتحبه..... وهم في خياله بقى! لكن تخطيط ميعرفش يخطط.

تداركت حتى لا تلفظ باسم غادة التي وضعت هذا الوهم بعقل عماد واكتفت بالتعقيب المبهم، وجاء الرد من جاسر:

- ما انا عرفت المدبر الحقيقي يا كاميليا واتأكدت من كدة كمان.......

صمت قليلًا يتابع وجه ميرفت الذي شحب رغم الشراسة البادية عليه، فقد تأكدت الاَن من معرفته للحقيقة وهي ليست بالهينة حتى تعطيه لذة الانتصار، واجهته بأعين متحدية استفزت شياطين نفسه بالداخل ليتعجل على الفور بصور الفتاة العاملة:

- دي صور البنت وهي بتوقف زهرة ودي صورتها وهي بتعترف بكل حاجة ودي وهي بتتعرف ع الست اللي حرضتها وحفظتها الكلام ودي صورة الولد الصحفي بتاع الجريدة الصفرا اياها، وفي الحالتين....

صمت يقطع الشك باليقين وقد ثبت صورة ميرفت وهي متخفية، والصورة الأخرى التي مع الفتاة بشكل واضح

ليردف بصوت عالي وانفاس متهدجة:

- الصورة دي هي دي لنفس الشخصية اللي موجودة وسطينا دلوقت

التفت ألأبصار حولها ولكنها وللمفاجاة لم تأبه ، فنفسها الخبيثة ترفض الاستسلام أو الظهور بصورة المخطئ بعد أن فضح شرها أمام كل من يعرفها، فقالت بإنكار:

- كل الكلام دا كدب وانا لا يمكن هسكت على اللي انت عملته دا يا جاسر.

الصدمة الجمت الجميع عن التفوه بحرف ، ليبقى الحديث المحتد بينها وبينه فقط والذي قابل إنكارها ليرد بابتسامة ساخرة واضعًا كفيه في جيب بنطاله بعد أن ازاح سترته للخلف:

- تصدقي بإيه؟ أقسم بالله فجأتيني فعلا، إنت حقيقي بتبهريني يا ميرفت.

نهضت من مقعدها لتكمل هجومها المضاد بثبات تحسد عليه:

- دا انت اللي أبهرتني يا جاسر بنزول مستواك لدرجة المقرفة دي،  بقى عامل اللعبة دي كلها ومجمعنا عشان تطلعني انا الشريرة بقصص من تأليفك، عشان تنفي تهم الخيانة اللي اتقالت على مراتك وانت رافض تصدقها. 

تدخلت ميري رغم وضوح الحقيقة كبزوغ الشمش أمامها، ولكن حقدها أعمى قلبها لتصدر صيحتها جاذبة الأنتباه نحوها:

- عندك يا ميرفت، صاحبنا دا بقى مريض حقيقي، والظاهر كدة ان عشرته مع الأوباش نسته معاملة ولاد الأصول .

إهانتها الصريحة لجاسر عززت الثقة بقلب ميرفت رغم ردود الأفعال المستهجنة حولهن فليس الجميع بغباء ميري التي أتت هي الأخرى تساند قرينتها،

تطلع جاسر إليهن يرد بهدوء وابتسامة مستخفة رغم النيران المشتعلة بصدره من كم التبجح الذي يراه امامه، فتركز خطابه لميرفت:

- صاحبتك مش مصدقة اللي بيتقال عليكِ رغم ان كل حاجة قايلها بالدليل، طب اقولها ع السبب الحقيقي اللي غذى كل الحقد دا في قلبك ناحيتي يا ميرفت عشان تدمريني او بمعنى حقيقي تسعي لتدمير الحاجة الحلوة الحقيقية وهي الست اللي حبيتها بجد في حياتي؟

تابع بصوت أعلى يصل لخارج الغرفة نفسها:

- اقول قدام الناس دي كلها يا ميرفت، سر كرهك الحقيقي لزهرة عشان انا حبيتها؟

صمت وظل حديث الأعين هو سيد الموقف، ميري عينيها مغشية تمامًا عن الرؤية الصحيحة،  وميرفت والتي رغم كل ما تدعيه من ثبات وقوة، فقد كان جسدها يرتجف ويهتز مع تهديده بكشف تفاصيل هذه الليلة المؤلمة لها أمام الجميع ليسحق كبريائها واعتزازها بأنوثتها، وهي التي لم تغفر ولم تنسى له طردها من منزله في وسط الليل في الخفاء ودون علم أحد، أما جاسر فكانت تحرضه شياطينه بقوة للأنتقام لكرامته بفضحها مع فضح الأفعال الإجرامية التي قامت بها في حقه وحق زهرة، ولكن ولوهلة صغيرة، لمح مع هذا التحدى البادي في نظرتها إليه، رجاء انثى تخشى تهديده بحق، فما أقسى على المرأة رفضها الصريح من رجل عرضت نفسها عليه، فما بال لو قص التفاصيل المخزية في تحريضها له حتى ينغمس معها في الخطيئة ويخون معها هذه الحمقاء الواقفة تدافع الاَن وبكل شراسة عنها.

عند خاطره الاَخير التف كازًا على أسنانه وقد حسم أمره فهتف امام المترقبين بصمت في انتظاره:

- شوفوا يا جماعة من الاَخر كدة وبدون تفاصيل،  انا الست دي حصل خلاف كبير ما بيني وما بينها،  وعلى أثره انا كنت مصمم انها تخرج من المجموعة وتسيبها نهائي، لكني اتنازلت لما جت واعتذرت تاني يوم وقالتلي ياريت ننسى اللي حصل وكأنه محصلش، ودي كانت غلطتي عشان معملتش حساب الحية في غدرها. 

هتفت ترد وقد عاد إليها صوتها بعد عدم ذكره الحقيقة 

الكاملة وفضحها:

- انا برضوا حية يا جاسر؟ ولا انت اللي قلبك الأسود صورلك إن لسة حاطة الخلاف ده قدامي عشان انتقم واعمل الهبل اللي انت بتقوله ده؟

التف إليها بنظرة هادئة وقد سأم الجدال والشجار،ثم عاد إلى الحضور يردف بنبرة قاطعة:

- طب يا جماعة انا كنت في البداية ذكرت قدامكم عن أسباب العزومة واديني بالصوت والصورة شرحت كل شئ قدامكم عن السبب التالت، لذلك بقى انتوا بقيتوا شهود على قرارتي اللي هتاخذها دلوقتِ قدامكم ، الست دي انا بلغت عنها والولد والبنت قدمتهم للشرطة، دا عن حقي وحق مراتي في الأضرار اللي حصلت لنا منها، وقرار خروجها من المجموعة لو ما قامتش هي بالإجراءات المطلوبة من بكرة الصبح ، انا هضطر اعمل اجتماع للجمعية العمومية واقدم كل الأدلة دي اللي شوفتوها بنفسكم من دقايق.

استمعت منه فجحظت عيناها بصدمة وقد باغتها بدهائه حتى وضعها في موقف لا تحسد عليه، التفت تنقل بعينيها علّها تجد الدعم من أحدهم، لتُصعق بهذه النظرة القاتلة من عامر الريان فهو لا يقل قوة عن ابنه رغم مرضه، ولمياء رأت على وجهه التصديق بكل كلمة اردف بها ابنها مع نظرة الأزداراء وخيبة الأمل التي تحدجها بها، ولم  تقوى على الصمود أكثر من ذلك ، تناولت حقيبتها وخرجت مسرعة على الفور دون كلمة فتبعتها ميري تسحب رائد الغافل وكأنه كالحقيبة التي علقتها بيدها،  لتهتف وتتبعها:

- استني يا ميرفت انا جاية معاكِ، ماشي يا جاسر وديني لقول بابي ع اللي انت عملته ده وخليه يشوف حسابه معاك.

اردفت بالأخيرة بعد أن التفت إليه برأسها قبل خروجها من الغرفة، لتقابل برده الساخر:

- قولي يا حبيتي خليه يورني شطارته هو دا كمان ، انت عقابك الحقيقي هو مرافقتك لواحدة زي ميرفت دي وتفضلي على عماكِ دايمًا. 

رمقته بنظرة خاطفة وغاضبة ثم غادرت هي الأخرى. 

زفر حانقًا بارتياح نسبي بعد خروج ه الأفاعي وكشف حقيقتهم فزفر متعبًا قبل أن يجلس بخطوات متعبة على مقعده وقد استنزفت طاقته مع هذا النزال الذي خاضه بشراسة، قبل ان ينتقل بعيناه إليها لينهل منهما الدعم الحقيقي، رغم هذه النظرة المعاتبة بهما!


الفصل الثامن والأربعون 


في الملهى الذي أخذت ترتاده بصحبته منذ عدة ايام حتى أصبحت معروفة بمرافقته من اصدقاءه والعاملين به، كانت تتمايل بجلستها مع رتم الأغنية التي تصدح بصخب في قلب المكان فيتراقص عليها الفتيان والفتيات بساحة الرقص، تدعي اللامبالاة مع نظرات عينيه التي تطوف عليها من راسها إلى اقدامها في الأسفل برغبة تنضح مع هذه النظرات الماكرة، لقد علمت بتأثيرها عليه، وعليها أن تركز جيدًا فيما تفعله باستمرار دلالها وتمنُعها الذي يزيده تعلقًا بها، لقد كانت الأيام السابقة بمثابة اختبار له، حينما رفضت عروض السفر معه او مرافقته لأي مكان آخر وحدهم ، حتى هذا المكان لا تأتيه الا لمعرفتها بازدحامه ورفاهية مرتاديه من الطبقة المخملية التي تتمنى أن تصير بينهم قريبًا.

- وبعدين بقى هتفضلي على وضعك كدة كتير؟

سألها فالتفتت إليه تدعي الإجفال لقوله:

- وضع إيه بالظبط؟ مش فاهمة .

زفر يرد بشئ اَخر غير الذي يقصده بالفعل:

- قصدي يعني انك مش منتبهالي على الإطلاق، وبترقصي وكأني مش موجود معاكِ ع الطرابيزة أصلًا؟

شهقت بدون صوت لتقول بنعومة متكلفة اعتادها منها :

- انا يا ماهر مش منتبهالك؟ لأ طبعًا أنا بس اتشديت لكلام الأغنية أصلها حلوة اوي حتى خد بالك كدة معايا

أوقفت لتردد كلمات الأغنية بنعومة امتزجت بغنج يقارب الأغواء لتستمتع بتأثيرها عليه:

خطوة امشيلي لو خطوة .....ده انت عالقلب ليك سطوة

نظرة مبطلبش غير نظرة ........وانت فاهم و ليك نظرة

شوف حالي .............شوف ايه بيجرالي

حبيت و بصمت بالعشرة. 

- ما تبس بقى.

هتف بها يوقفها بوجه احتقن بالغضب من تدللها الذي طال معه، وهي تلاعبه بأغواء يعلمه جيدًا، فهو الخبير بأمور النساء، ومن هي حتى تظن انها تسطيع إيقاعه؟ فقال مردفًا:

- بقولك إيه يا غادة، ما تجيبي م الاخر وقولي انتِ عايزة إيه ؟ وتاخدي كام؟

تبدلت ملامحها وقطبت تسأله مستفسرة بقلق :

- تقصد ايه بكلامك ده؟

زفر يقول بكلمات محددة:

- قصدي كدة بكل وضوح، عايزة ورقي عرفي وتطلبي فيها مبلغ حلو ، انا معاكِ نتفق على مدة محددة ويفضلوا معايا عشان لما يجي الوقت اللي ننفصل فيه اقطعهم بإيدي .

على الرغم من صدمتها من كلماته التي أتتها مباغتة وغادرة لكل ما كانت تحلم وتبنيه في خيالها،  ولكنها تداركت سريعًا لتهدر بملامح لبوة متوحشة:

- نعم يا عمر؟ هو انتِ فاكراني واحدة من اياهم عشان تطلب مني حاجة زي دي وبالبجاحة دي كمان؟

هتف من تحت أسنانه يزجرها :

- وطي صوتك وبطلي كلامك البيئة ده، الناس بدأت تاخد بالها حوالينا .

أكملت على نفس الوتيرة غير اَبهة بقوله:

- كنت قول لنفسك الأول قبل ما تعرض عليا الكلام دا يا حبيبي، أنا غادة مش واحدة من الأوباش اللي انت تعرفهم.

قابل انفعالها بعند وقد استفزه صوتها العالي مع لفت انظار البشر نحوه من أُناس يعلمهم وآخرين لا يعلمهم، فقال بتعالي ماطًا بشفتيه:

- وانا معنديش غير كدة، عاجبك العرض اشطة، مش عاجبك يبقى تمام قوي .

اربكها بجملته الاَخيرة فقالت بعدم تركيز:

- قصدك إيه بكلامك ده ؟

اعتدل بجلسته واضعًا قدمًا فوق الأخرى يقول بعنجهية:

- قصدي ان دي فرصة ليكِ، عجبتك يبقى تقفشي فيها بسرعة عشان اخلص، معجبتكيش يبقى تقولي على طول، واللحق بقى اشوف غيرك انا معنديش وقت اضيعه في الكلام والرغي الكتير  .

كلماته السامة كانت تتلقها كصفعات قوية متتالية، تجعلها على وشك الترنح أو السقوط، مع شعور بالرخص أو الدونية منه جعلها تتمنى لو تكسر على رأسه كل زجاج في المحل كي تنتقم لكرامتها منه،  ولكن تعلم انها في كل الأحوال ستكون هي الخاسرة، 

تناولت حقيبتها تحدجه بنظرة قاتلة قبل أن تغادر دون أن يوقفها بكلمة واحدة.

خرجت سريعًا تطلق العنان لدمعاتها التي ظلت حبيسة في وجوده، يغمرها إحساس بالدونية لم تواجهه بحياتها، لقد رفعها في سماء أحلامها حتى كادت تعانق النجوم كي تقطف وتنول ما تتمناه، ثم وبكل وحشية، جذبها لتسقط في بئر سحيق داخل باطن الأرض تتجرع ألم المهانة منه وعدم الإكتراث لها ولمشاعرها.

حتى أنه تركها غير عابئ بحمايتها وما قد يحدث لفتاة مثلها في هذا الوقت المتأخر من الليل، لتخرج الاَن وحيدة يقتلها إحساس الخوف من العودة ليلًا لمنزلهم ، وما قد تلاقيه في طريقها من مخاطر .

- يا اَنسة غادة، ثواني حضرتك. 

التفت رأسها نحو مصدر الصوت لتجد الحارس الشخصي لهذا الكريه المدعو رعد، توقف بخطواته فور أن وصل إليها ،  تخصرت رغم انهيارها لتساله بشراسة :

- نعم ! عايز ايه انت كمان؟


❈-❈-❈ 


بعد انتهاء العشاء ومع توديع اَخر المدعوين لهذا المأدبة التي فعلها خصيصًا لكشف الحقائق وفضح الوجوه الخائنة، صعد إليها وقد سبقته في الذهاب إلى غرفتها، ولج ليقترب منها وهي جالسة على طرف التخت شاردة ليُقابلها على الكرسي الذي أمامها ويتفحصها بنظراته، فهو لم يغفل عن رد فعلها وهذه النظرة المعاتبة التي رمقته بها وقت خروج ميري وميرفت من المنزل، وسألها مباشرةً:

- إيه بقى؟ ممكن اعرف سبب الزعل اللي باين على ملامحك ده؟

تنهدت تجيبه مستندة بوجنتها على قبضتها:

- اخاف اقولك تزعل يا جاسر. 

ضيق ما بين حاجبيه بشدة ليسألها باستغراب:

- وأيه اللي هيخليني ازعل بقى؟ معقول يكون قصدك ع اللي حصل النهاردة ؟

رمقته بنظرة معبرة أنباته بصدق تخمينه فسألها بانفعال ونبرة محتدة:

- ممكن تقولي وتوضحي على طول يا زهرة، عشان بجد انا عايز اعرف حالا منك اللي مش عاجبك ده.

اجابته على الفور دون مواربة رغم انتباهها لتحفزه:

- انا قولتلك من الأول ما تزعلش، عشان بصراحة معجبنيش انك تفضحها كدة قدام الناس اللي يعرفوها، حتى لو كانت هي تستاهل، برضوا كنت قدرت انها ست واكتفي بأخذ حقك بعد ما تبلغ عنها زي ما عملت......

قاطعها ضاحكًا بصخب لمدة ليست قليلة حتى أدمعت عيناه أمام نظراتها المندهشة قبل أن يجيبها:

- إنتِ بريئة وطيبة قوي لدرجة تغيظ بصراحة. 

- أنا غيظاك يا جاسر؟

قالتها بخضة وعدم استيعاب، فقال مضيفًا:

- اه طبعًا تغيظي، عشان الست دي اللي صعب عليكِ منظرها النهاردة، من فترة قليلة ما تعديش الشهر كانت هتسبب لك انتِ في فضيحة بعد ما دخلت الشيطان وزرعت الشك ما بيني وما بينك ولا إنتِ نسيتي؟

وكيف لها ان تنسى اصعب اللحظات التي مرت عليها؟ شعورها بالظلم لتُحاسب على ذنب لم ترتكبه، وفرحتها بحمل طفلها التي خبئت من بدايتها ولم تشعر بوقع الجملة المحببة إلى قلبها من الفتاة الممرضة حينما بشرتها بإيجابية النتائج 

اومأت برأسها دون صوت فقال متابعًا لها :

- حاجة تانية لازم تعرفيها يا زهرة، إيه اللي زي ميرفت عقابها الحقيقي هو كشفها قدام الناس اللي تعرفها ، دا  الحل الوحيد ليها، عشان البلاغات اللي انت بتقولي عنها، انا متأكد انها بأساليبها الملتوية وبمساعدة اي محامي فاسد هتخرج بأقل الخسائر رغم كل الدلايل المتقدمة ضدها.

صمتت لتبدوا وكأنها اقتنعت قبل أن تباغته بسؤالها:

- طب ممكن تقولي عن موضوع الخناقة اللي حصلت مابينكم وخلتها تكرهك بالشكل ده

بدا على وجهه المفاجأة وعدم توقعه لسؤالها فرد بلهجة جعلها عادية وهو ينهض من أمامها يدعي تبديل ملابسه:

- ااا عادي يعني، بصراحة أنا مش فاكر السبب كان إيه بالظبط؟ بس اظن انها كانت حاجة كبيرة.

- كنتوا على علاقة مع بعض؟

اوقف ما يفعله ليسألها مندهشًا لما توصل إليه عقلها:

- ليه بتقولي كدة يا زهرة؟ 

تابعت لتزيد من ذهوله:

- مش محتاجة تفكير يا جاسر، الأحساس دا وصلني من طريقة كلامكم واللي اظهر الخلاف اللي ما بينكم وكأنه سر، ما ينفعش حد يتكلم عنه.

وأكيد كمان إن الإحساس دا ما وصلنيش انا لوحدي.

قطب يستوعب ما تفوهت به، لقد غاب عنه ولم يصل في حسابه أن يأتي هذا الخاطر لها أو لأي فرد اَخر من الحضور، تمعن النظر إليها وإلى ملامح وجهها التي اظهرت المعاناة، معاناة امرأة يساورها الشك في علاقة لزوجها من امرأة أخرى جعلت الانتقام منها كوسيلة لرد اعتبارها، تنهد مطولاً بتعب، وقد أرهقه ظنها بالفعل مع إشفاقه على حالتها، فعاد إليها ليضمها بذراعه من كتفهيا ، واليد الأخرى تولت رفع وجهها إليه لترى الصدق في عينيه وبقوة:

- اقسملك بالله يا زهرة، إن الست دي عمرها ما هزت فيا شعرة واحدة ولا شوفتها أكتر من صديقة لمراتي السابقة، عشان يبقالي علاقة بيها من أي نوع.

- بس هي كانت بتحبك يا جاسر.

قالتها ببساطة أجفلته من فراسة تتمتع بها رغم برأئتها الشديدة، وتابعت:

- على فكرة دي مش أول مرة يجيني الشك ده، انا ست وافهم نظرة الست اللي زيي كويس قوي، خصوصُا لو كانت بتحب. 

ازداد اتساع ابتسامته وقد اكتنفه شعور بالفخر امتزج بفرحه فقال بصوت مُتخم بعاطفته نحوها:

- حتى لو كان كدة زي ما بتقولي، المهم انا بحب مين؟

ردت بابتسامة زينت ثغرها الجميل وكأنها تُجيبه على معرفة بثقة لمقصده، ليؤكد هو بالفعل فتناول شفتيها بقبلة نهمة، وذراعه تشتد بضمها، متخللة انامله خطوط رأسها في الخلف بيده الأخرى، فيزيد ولا يرتوي أبدًا من شهد شفتيها، طالت القبلة حتى مال بها على الفراش خلفهم ولكنها استدركت سريعًا فور تذكرها قبل أن يغمرها في بحر عشقه، لتنزع نفسها عنه لاهثة تخاطبه:

- ثواني يا جاسر انا كنت عايزة اطلب منك طلب.

سألها بنزق وانفاس متهدجة:

- عايزة إيه دلوقتي يا زهرة بس؟

ردت وهي تربت بكفها على ساعده بقصد تهدئته:

- كنت عايزة اللحق اروح لستي بكرة، قبل ما انشغل مع كاميليا في تجهيزها للخطوبة وكتب الكتاب.


❈-❈-❈ 


على كرسيه بجوار صديقه عبده كان يتناول وجبة عشائه والمكونة من من بعض الشطائر والمشروب الغازي، حينما جاءه الإتصال المنتظر:

- الوو يا غالي .......... اممم وأيه كمان؟.......... يعني وصلتها بنفسك ........... تُشكر يا حبيبي مش هنسالك انا جمايلك والله معايا........... طبعًا يا حبيبي ربنا يحفظلك ولاياك يارب ......... ماشي سلام يا غالي وروح شوف شغلك .

أنهى مكالمته يغمغم بالسباب والكلمات الوقحة بكثافة، حتى لفت أنتباه عبده بجواره، فقال يخاطبه ضاحكًا:

- صلي ع النبي يا إمام، ايه يا راجل كل الشتيمة دي بس؟ ومين المقصود بيها؟

زفر متأفافًا ينفض كفيه من الطعام وقال كازًا على أسنانه:

- ما فيش داعي اقول ولا احكي عن ناس وســ خة في هيئة بني اَدمين ولابسين نضيف، ياما نفسي افش غليلي فيهم. 

اطلق ضحكة مجلجلة عبده وهو يرفع الأوراق التي تناثرت عليها فضلات الطعام، ليُلقيها في سلة المهملات القريبة مردفًا وهو يبتعد:

- أنت كدة يا صاحبي، ايدك بتوزك دايمًا على الضرب .

سمع منه إمام ولم يستجب بابتسامة او حتى بالرد، فمزاجه المتعكر دائمًا بسيرة ما يسمعه عنها، يجعله يفكر فقط في ضربها بعصى غليظة لفترة طويلة من الزمن حتى يخرج من راسها الشياطين التي تسكن بداخلها، وبعدها تعتدل إلى الطريق المستقيم.

فغمغم بصوت حانق يستغل انشغال صاحبه عنه:

- روحي يا غادة يا بت أم غادة، إللهي يارب يدوسك قطر ولا تغبطك عربية بسواق أعمى، او حتى تنشفي بماس كهربائي بسلكة عــ ريانة في بيتكم لو ما اتعدلتي وعرفتِ إن الله حق.


❈-❈-❈ 


عاد من سهرته في وقت متأخر من الليل بعد أن استطاع تعويضها مع فتاة أخرى اكثر جمالًا ومرونة، فلم تكلفه سوى بعض الكلمات وزجاجة باهظة الثمن من الخــ مر، ليكمل معها السهرة بمنزلها ويلعن الوقت الذي ضيعه في الصبر على هذه المعتوهة، فقد جذبه الشراسة بها كنوع جديد لم يجربه قبل ذلك، وهو رجل دائم التجديد. 

دلف يترنح بخطواته بفضل المجهود وتعب السهر، بداخل المنزل الساكن بظلامه الاَن في هذا الوقت المتأخر، ارتد منتفصًا فور أن تفاجأ بشبحها في إلاضاءة الخافتة من الردهة جالسة متكتفة الذراعين بجسدها النحيل، 

ثم تمالك بإدراك ليردف بإسمها مندهشًا:

- إيه دا ميرفت؟ أيه اللي مقعدك هنا في الضلمة؟

رمقته بعيناها صامتة بعد إشعاله الأضاءة بشكل اظهر ملامحها البائسة:

فخطا ليجلس مقابلها وقد اقلقه هيئتها الغريبة:

- إيه اللي حصل معاكِ وقلبك بالشكل ده؟ حد زعلك في العزومة؟

تبسمت ساخرة من سؤاله العفوي، فشقيقها لا يدري ان ابن الريان جعلها ضيفة الشرف لهذا الحفل ، كي يُهينها ويخبر الحميع عما فعلته، فتشوهت صورتها ألامعة، لتتلقى نظرات الاحتقار والشماتة بها.

عاد بترديد سؤاله علّه يجد الإجابة:

- يا بنتي ساكتة ليه ما ترودي؟ وإيه سر الإبتسامة الغريبة دي؟

تجاهلت عن عمد حتى لا تزيد على نفسها باالحديث المرهق لكرامتها والقــ اتل لكبريائها ، وقالت:

- ما تشغلش نفسك. دي حالة من الخنقة كدة بتجيني من غير أسباب.

- من غير أسباب؟

ردد خلفها بعدم تصديق، وتابعت هي:

- أيوة كدة زي ما بقولك، المهم بقى ما قولتليش، اخبار البت غادة معاك إيه؟

تغضن وجهه فور سماعه بالأسم حتى نسي استفساره عن حال شقيقته، وقال بضيق:

- ما تجبيليش سيرة البنت دي، دي غبية وكانت هتفضحني النهاردة بأسلويها البيئة ده، انا انفصلت عنها خلاص بقى بلا قرف.

التفت إليه منتبهه تسأله باستغراب:

- قرف ليه؟ مش كنت بتقول انها عاجباك؟ ايه اللي حصل بقى؟

أجابها متأفافًا:

- هي فعلا كانت عجباني بدليل اني صبرت عليها كمان، لكن بقى تشرشحلي بعد ما عرضت عليها فرصة عمرها بجوازة بورقتين وقرشين حلوين كمان، اعمل لها إيه تاني بقى؟ هي كانت تحلم أصلاً.

اعتدلت بجلستها لتسريح بجسدها للخلف، وقد عادت إليها روحها الخبيثة والتفكير الشيطاني. 

- انا ممكن اقولك تعمل إيه؟ لو البنت دي لساها عجباك. 

اهتزت رأسه باستفسار يسألها

- اعمل إيه؟


❈-❈-❈ 


بوسط الصالة المكان الأصلي لرقية جلس على كرسيه،

مندهشًا أو مأخوذًا كطفل صغير تائه في مكان لأول مرة تطئه قدميه، لا يصدق ما يراه ولا يستوعب أن هذا المكان الاَيل للسقوط ولا يصلح للسكن الاَدمي حسب ما يرى بوجهة نظره، كان هو المقر الأصلي والذي تربت وعاشت فيه زهرته القابعة بحضن جدتها الاَن يناظرنه بتسلية وتفكه:

- عجبك المكان يا جاسر صح؟

هتفت بها رقية لتخرجه من شروده بمشاكسة أحرجته فهز محركًا رأسه بالكذب يجيبها:

- اا طبعًا أكيد، دا جميل .

- جا أيه؟

قالتها لتـنــ فجر ضاحكة مخاطبة حفيدتها:

- جوزك يا عيني وشه مخطوف ومش مصدق إللي شايفه، واحنا مقعدينه في أنضف حتة اللي هي الصالة، امال لو شاف الحمام هيعمل إيه؟ ههههه.

حاولت زهرة السيطرة على ضحكاتها حتى لا تغضب جاسر والذي كان يبدوا خائفًا بالفعل، فقالت ملطفة:

- ما تزعلش منها يا جاسر،  بس انت عارف رقية بقى وعارف هزارها.

رد متبسمًا بود لمزاح رقية:

- وانا مش زعلان طبعًا،  دي هزارها على قلبي زي العسل .

ردت رقية مهللة بمرح:

- يا خويا دا انت اللي عسل وسكر كمان، إيه يا واد الحلاوة دي؟ وانا اقول المنيلة لحقت تتعلق بيك ازاي؟

- يا ستي بقى.

هتفت بها بحرج وبنظرة محذرة لرقية التي واصلت بضحكاتها ومناغشتها للأثنان، حتى أتت سمية وشقيقات زهرة ليندمج معهن في حديث دافئ ومرح لهذه الأسرة المتكاتفة رغم شرود كبيرها وهو الأب الفاسد الأناني، ولكن بفضل رقية رغم ضعفها وخالد الذي يشمل الجميع برعايته دون استثناء. 


بعد قليل

كان قد أخذ على الجو قليلًا وخف توتره، لتعرفه على باقي المنزل، حتى وصلت لغرفتها،  والتي تفاجأ بزوقها الجميل والمختلف عن باقي الغرف،  فقد كانت الحوائط المطلية بالون الوردي مزينة بالأشياء الأنثوية للفتيات،  تختها مرتب ونظيف يغريه للإستلقاء عليه رغم صغر حجمه، صور عديدة معلقة على الجدار لأفراد الأسرة في مراحل عمرية مختلفة، رقية وخالد وزهرة ووالدتها أيضًا، التي تصادف ورأى صورتها قبل ذلك،

- مريحة وشكلها حلو أوي .

غمغم بها بصوت واضح وعينيه مازالت تطوف على انحائها، فتحمست لتسأله:

- عجبتك بجد يا جاسر ولا انت بتجاملني؟

أجابها بصدق:

- من غير مجاملة الأوضة فعلا جميلة، وخصوصًا اللون الوردي واضح اوي في كل ركن فيها ، بس انا حاسه بزيادة أوي ولا دي عشان أول مرة ادخل فيها أوضة لبنت؟

- لا هو فعلا بزيادة ومقصودة كمان يا جاسر .

قالتها وتنهدت مطولا قبل أن تكمل:

- خالي كان قاصد كدة عشان خوفي من الضلمة، ما انت عارف بقى .

صمت جاسر بتأثر وقد ذكرته بعقدتها وحادثها الماَساوي مع والدتها، فقال ليلهي عقلها عن الخوض في ذكراها:

- بقولك إيه، انا عاجبني السرير دا قوي. 

قالها وجلس ليربت على فراشه متابعًا كلماته بمغزى تفهمه:

- السرير دا يتحمل صح؟ 

ردت مستفسرة ضاحكة:

- يتحمل إيه؟

تناول كفها يردف ببرائة وهو يحاول بجذبها:

- ما يبقاش نيتك وحشة، انا قصدي نريح شوية، تعالي بقى. 

تخشبت محلها وتشبثت أقدامها باعتراض ضاحكة:

- لأ طبعًا ماينفعش، هنسيب الناس برا وننام ههههه سيب يا جاسر .

- وطي صوتك يا زهرة واسمعي الكلام، هنجرب بس دقيقتين .

قالها بصوت ادعى به الحزم قبل أن يجفل على صوت حمحمة قريبة، انتفضت زهرة تنزع كفها بخجل وهي ترى خالد الذي دلف إليهم عائدًا بملابس العمل يلوح بكفيه بحركات غير مفهومة قبل يتفوه بقوله:

- إيه الحكاية انا جيت في وقت غير مناسب ولا إيه؟ 

وقف جاسر ليتلقفه مرحبًا:

- عم خالد، ازيك يا باشا منور بيتك .

قهقه الاَخر ليرد عليها بمزاح قبل أن يرحب بزهرة التي كادت تموت من الحرج، وخرجت على الفور هاربة تتحجج بالاتصال على كاميليا 


❈-❈-❈ 


خرجت من المصعد بخطواتها السريعة والهاتف بيدها وهي تتحدث:

- ايوة يازهرة انا معاكِ والله بس خرجت دلوقتِ في مشوار مهم ........... ملف لصفقة مهمة نسيت ما اراجعه ولا ابعته لطارق.......... ربنا يستر بقى انا جيت هنا والمكان فاضي زي ما انتِ عارفة عشان أجازة، قولت أجهزه واحاول اتصرف بقى وابعتهولوا...

قطعت وصوت لاهاثها ظهر بوضوح مع قرب اقترابها من غرفتها ، وتابعت قبل أن تنهي الإتصال :

- تمام يا قلبي هخلص ونتقابل في البيوتي سنتر بقى ان شاء الله. 


أنهت المكالمة وهمت بوضع المفتاح في كالون الباب، إلا أنها وجدته يُفتح وحده دون مجهود، دفعته قليلًا بتوجس خيفة من وجود لص ما او شئ اخر ، ولكنها تفاجأت به على مكتبها جالس وأمام إحدى الإطارات الصغيرة للصور، تركزت عينيه على واحدة تخصها بملابس التخرج وهي تضحك بملأ فمها والسعادة تشرق من عينيها الساحرتين، فبادرها بقوله دون أن يرفع أنظاره إليها:

- حلوة اوي الصورة دي، بتضحكِ فيها كدة من قلبك، واحدة دايسة في الدنيا ومافيش حاجة تهمها، ولا شايلة هم لبكرة ولا عاملة اعتبارات لأي حد.

ختم جملته لتلتقي عينيه بخاصتيها ولون قهوتها المتوهج بحذر أمامه فقالت بصوت حاولت تغليفه بالحزم وقد اجلته قليلًا من توترٍ اكتنفه بمجرد رؤيته:

- إيه اللي جابك هنا يا طارق؟ انا مش نبهت عليك قبل كدة، إنك ما تدخلش المكتب في غيابي ولا تقتحم خصوصياتي؟

صمت مدة من الوقت يرمقها بنظراته الثاقبة ليزيد بداخلها الاضطراب قبل أن يُجيبها بكل هدوء وتمهل بكلماته:

- نفس اللي جابني هو اللي جابك يا كاميليا.... مش انتِ جيتي عشان الملف اللي في إيدي ده؟

قالها بإشارة إلى ما يحمله أمامها، اومأت برأسها تزدرد ريقها بقلق :

- ايوة بس انا كنت جاية اخلصه ع السريع وبعدها ابعته مع اي حد يسلمهولك، يعني مكانش في داعي انك تيجي هنا من غير ما تبلغني. 

شبك كفيه أمامها على سطح المكتب يرد بنفس الرتابة:

- العميل نفسه اتصل بيا يا كاميليا، وأنا زي ما انتِ عارفة بقى بطلت اتصل بيكِ ولا ازعجك، دا غير ان حضرتك مش فاضية حسب ما اسمع، مش بيقولوا برضوا ان كتب كتابك النهاردة؟

أطرقت برأسها غير قادرة على مواجهته، حتى أغمضت جفنيها تتنهد بصمت، وأفعاله معها تزلزل كيانها بغير رأفة ولا رحمة، تمالكت لتخاطبه بعملية تتجاهل بها الرد على سؤاله:

- معلش يا طارق، انا كنت عايزة القي نظرة سريعة على الملف اللي معاك.

اومأ له بذقنه نحو سطح المكتب:

- الملف قدامك اهو.

جسرت نفسها لتقترب وتناولته لترى ما دون به من بنود واتفاقات، تدعي التركيز، وسهام انظاره تزيدها تشتتًا حتى أصبحت لا تعي أي حرف تقرأه، فتركته فجأة تلقيه بعنف تبتغي الهروب:

- خلاص مش مهم، انا عندي ثقة فيك....

- بجد والله!

صاح بها مقاطعًا أجفلها، ونهض فجأة ليعترض طريقها مردف ساخرًا بضحكة تقطر بالمرارة:

- تصدقي حقيقي فرحتيني، اصل الموضوع دا كان تعبني قوي الايام اللي فاتت، إن يبقى عندك ثقة فيا دي حاجة كبيرة اوي ولا في أحلامي حتى تخيلتها يا كاميليا 

ترقرقت مقلتيها بالدموع أمامه ولم تعد به طاقة لما يفعله معها، يكفيها ما تعانيه بداخلها، فقالت تُخاطبه برجاء:

- إنت ليه بتصعبها عليا وعليك يا طارق؟ ما تسيبني بقى امشي في حالي، وعيش انت حياتك 

مال برأسه نحوها يقترب أكثر بوجهه منها ليرد بشبه ابتسامة ليس لها معنى:

- حياة ايه اللي عايزانى اعيشها يا كاميليا؟ ما انا حياتي باظت خلاص من ساعة ما شوفتك، لا انا عارف ارجع طارق بتاع زمان، ولا قادر حتى اكون إنسان طبيعي وانسى، أنا مش عارف انساكي يا كاميليا  .

إلا هنا وانهار كل تماسكها فلم تدري بنفسها وهي ترتد بأقدامها للخلف لتُغلق بكفها على فمها تكتم شهقات بكاءها التي ازداد فجأة بحرقة اوجعة قلبه حتى زادته تشتتًا ليهدر صارخًا بغير سيطرة على انفعاله:

- إنتِ عايزة تجننيني معاكِ يا كاميليا؟ بتعيطي ليه وانت اللي اخترتي بنفسك وفضلتيه عليا؟ هو انت حد غصبك عليه؟

نفت برأسها دون صوت مع بكاءها الذي لا يتوقف،  فتابع بحيرة كادت ان تشطر رأسه نصفين وصرخ يجذب شعر رأسه بيديه:

- ولما هو كدة بتعذبي نفسك وتعذبيني معاكِ ليه؟ إنت إيه حكايتك بالظبط؟

أوقفت تتطلع إليه بعجز صامتة، وهو كالغريق يترقب ردًا ولو بكلمة واحدة تُطفئ نيرانه او على الأقل ترحمه من عواصف تدور برأسه بحثًا عن حل لهذه العنيدة التي بعثرت كيانه بعد أن امتلكت وحدها زمام هذا القلب الذي يتنفس برؤياها وتُضخ الدماء به ليحيا من أجلها، هي فقط. 

تصلبت ملامحها فجأة وذهب هذا الضعف الذي صدر منها منذ قليل ليفاجئ بملامحها التي ارتسم عليها التصميم، وكأنها قد أخذت القرار، فمسحت بيداها لتجفف سريعًا أثر دموعها، وعدلت من نفسها لتتركه وتتخطاه مغادرة دون كلمة واحدة،  نظر في أثرها كالعاجز، وقد زادته بفعلها تخبطًا وحيرة فلم يجد أمامه سوى طاولة صغيرة يضع همه في تكسيرها بصراخه الذي ضج في قلب المكان حتى وصلها في المصعد؛ الذي وصلت إليه راكضة هربًا منه.

هو يدفعه ألم قلبه، وهي يدفعها الخوف من مجهول تترقبه، ولا تريد وضعه في الإختبار الصعب! 


❈-❈-❈ 


في المساء 

وداخل القاعة التي ضمت بداخلها لحفل عقد القران، رجال أعمال واستاذة جامعات ورتب مهمة من رجال الأمن من عائلة العريس الذي تأنق بحلة أتت خصيصيًا له من أرقى بيوت الأزياء الرجالية في باريس، وعروسه التي فاقت بجمالها الأميرات، كان يراقصها على نغم شهير لإحدى الأغاني الرومانسية، بين ذراعيه ولا يحيد بانظارها ولو قليلًا عن جمالها المبهر.

- جميلة اوي يا كاميليا، مش لاقي وصف اوصفك بيه.

همس بكلماته بجانب أذنها، فتطلعت إليه بثبات تحسد عليه بعد وصلة بكاؤها وانهياره قبل الحفل، وقد تجاوزتهم بصعوبة وإصرار على تنفيذ قرارها وردت بابتسامة مغتصــ بة

- وانت كمان جميل يا كارم، جميل ووسيم .

صمت قليلًا يأسرها بأنظاره الثاقبة وذراعيه تشتد عليها بضمها ثم قال:

- أمال ليه حاسس عيونك دبلانة، ما فيهاش التمرد اللي بعشقه دايمًا فيهم؟

اسبلت أهدابها عنه قليلًا قبل أن ترفعهم، تقول بمرح زائف:

- شئ طبيعي طبعًا، مش اَخيرًا سلمت حصوني بعد ما كنت مُصرة اني اكمل الطريق واحارب في الحياة دي لوحدي، انا رفعتلك الراية البيضا يا كارم. 

- وانا عمري ما هخليكي تندمي .

هتف بها قبل أن يباغتها برفعها بين ذراعيه ليدور بها وسط اصوات التصفيق والتهليل من الشباب والفتيات الذين التفوا حولهم على ساحة الرقص بوسط القاعة.


وهناك وعلى طاولة لهم وحدهم، كانت تراقب وتنظر بأعين حزينة نحو صديقتها التي لم ترى بعيناها أثر فرح لعروس في يوم كهذا، وبداخلها تزداد الحيرة من فعلها، كم ودت ولو في مرة واحدة تفتح قلبها لتخبرها عما يتعبها وما تشعر به، طوال عمرها تحترم هذا التكتم الذي فرضته كاميليا على تفاصيل حياتها معهن، رغم حنانها الذي يفيض للجميع، ولكن وبما تراه الاًن تتمنى لو استطاعت هزها بعنف حتى تخرج لها بما تحمله بداخل هذا العقل اليابس. 

- وبعدين بقى، ما ترد يا أخي. 

استفافت من شرودها لتلتف على غمغمة جاسر الذي لا يتوقف بالاتصال على البائس الاَخر دون فائدة من إجابته:

- لسة برضوا مردش عليك؟

نفى برأسه يجيبها:

- بقالي ساعتين بتصل بيه، عايز اعرف مكانه فين او حاله إيه دلوقتِ، والزفت ولا معبرني مرة واحدة في الرد .

أومأت برأسها ترد بتأثر لحالة المذكور:

- معلش تلاقيه عايز يقعد مع نفسه شوية ، الله يكون في عونه .


❈-❈-❈ 


في داخل سيارته 

كان مستندًا برأسه على عجلة القيادة وقد ارهقه الحزن والسير في شوارع العاصمة دون وجهة يقصدها، حتى استُنفذ ولم يعد به طاقة لفعل أي شئ، حتى الرد على هاتفه الملقي بجواره او طمأنة جاسر وهو الأعلم بقلقله عليه الاَن

لو لم يرى دموعها التي هطلت في الصباح أمامه حين واجهها، لو لم يعلم تمام العلم انه تحبه كما يحبها، لو لم يسمع بنفسه نداء قلبها باسمه ورجاء عينيها في كل نظرة منه إليه؟ ما كان حزن كل هذا الحزن.

تنهد بعمق ما يحمله بقلبه نحوها وعقله الساخن بأفكاره لا يهدأ ولا يكف عن السؤال، لماذا كل هذا العند والإصرار على عذابها وعذابه معها؟

عاد برأسه يتطلع لأضاءة هاتفه في عتمة الظلام داخل السيارة بفضل الإتصالات المتكررة عليه، فاستدرك فجأة ليتناوله ويتصل بالرقم الذي حفظه بعقله رغم مرور مدة طويلة على معرفته

ضغط بالاتصال بعد أن دون الرقم وانتظر حتى أتاه الرد :

- الوو مين معايا؟

أجابها على الفور ودون تعريف:

- انا اللي ظلمتيه بظلمها، انا ضحيتك زيها بالظبط..... انا مش مسامحك. 

ردت المرأة من جانبها وجاء صوتها بحيرة :

- مين اللي بيكلمني؟ إنت مين يا جدع انت ؟

استمر على حديثه المبهم ليخرج ما يحمله بقلبه من غضب وحقد نحوها:

- وعايزة تسألي ولا تعرفي ليه؟ ما انا قولتلك اني ضحيتك زيها، انتِ السبب في كل اللي بيحصل دلوقت؟ انت السبب في العذاب اللي انا عايشه، إنت عملتي فيها إيه؟ خلتيها تكره نفسها وتكرهني........

- إنت طارق؟!

باغتته مقاطعة بلفظ اسمه لينتبه صائحًا يسألها:

- إنت عرفتي ازاي؟... مين قالك على إسمي؟ ما تردي عليا وجاوبيني. 

وصله صوت أنفاسٍ لم يعرف لها تفسير، وهي صامتة لا تجيبه عن سؤاله الذي كرره عليها، وكأنها تداركت خطئها بعد لفظ الأسم ، حتى أغلقت الهاتف لتزيده تخبطًا وحيرة:

- هو إيه اللي بيحصل بالظبظ؟ ودي عرفت صوتي ازاي؟ ولا هي حكيالي عني؟

زاد بضرب كفيه على عجلة القيادة يردف بتشتت:

- مخبية عني إيه تاني يا كاميليا؟ وحكيتي لوالدتك عني إيه بالظبط؟


- تفتكروا صراع الثلاثي كاميليا وطارق وكارم هينتهي على إيه؟

الفصل التاسع والأربعون 


دلفت تسبق والدتها في الدخول إلى المنزل، لترتمي سريعًا على اقرب مقعد وجدته أمامها ، ورمت حقيبتها على المقعد الاَخر، لتستند بوجنتها على قبضة يدها، زامة شفتيها بوجه واجم ومتجهم، انتبهت عليها إحسان وهي تتأنى بخطواتها الثقيلة بجسدها البدين لداخل المنزل :

- يا مشاءالله ع السنيورة، قالبة وشك ليه يا بت؟

زفرت غادة بقوة تحدجها وهي تتاَكل من الغيظ بداخلها، فالمرأة لم تكف على معايرتها من وقت أن غادرن حفل عقد قران كاميليا، التي ارتطبت بهذا المدعو كارم وعائلته الممتلئة بالرتب العالية من رجال الأمن بالإضافة إلى رجال الأعمال والأستاذة، بالإضافة لرؤية زهرة وهذا التغير طرأ عليها لتبدوا في ملابسها والهيئة الجديدة لها بجوار عامر الريان وزوجته الهانم وقد تصالحا وأصبحت زوجة ابنهم في العلن وتجلس بحوارهم الاَن وكأنها واحدة منهن، 

- أفندم يا ست غادة بتبصيلي كدة واكنك هتاكليني في إيه يا بت؟

هتفت بها إحسان فور أن جلست على الكنبة ألمقابلة لها، لتخرج الأخرى عن صمتها وتصيح بوجهها:

- كل ده ولسة بتسألي ياما؟ دا انت بوقك مقفلش من ساعة ما خرجنا من القاعة، إيشي مرة ع الست كاميليا وايشى مرة ع البرنسيسة التانية بنت اخوكي اللي وصلوا والدنيا ضحكت لهم ، وانا بس اللي فضلت محلي مع خيبتي، ها يا ست ماما، لسة عندك كلام تاني تسممي بدني بيه؟

لوكت بفمها تمصمص بشفتيها لترد وهي تلوح يكفيها بعدم رضا:

- شوف يا خويا البت وعمايلها، هو انا جيبت حاجة من عندي يا بت؟ وليكونش بفتري ولا بقول حاجة مش شايفاها انتي بنفسك؟ جوز المصايب مسكوا أيد بعض وطلعوا لوحدهم  لفوق، وسابوكي انتي لوحدك ، واخدة بالك يا غندورة 

أغمضت عينيها بعدم احتمال فكلمات والدتها تلسع كالسياط لتصيبها في كرامتها المهدورة بيد هذا الملعون الذي أشعرها بالرخص، وحظها الذي تشعر بانتقاصه

دائمًا وقد تأخرت بالفعل عن اللحاق بركب الملعونتين زهرة وكامليا ، التي تصالحت معها بعد اَخر شجار بينهم ثم دعتها بمودة لحضور هذا الحفل، بقصد علمته هي جيدًا الاَن بعد أن رأت بنفسها هذه الفخامة المبالغ فيها لحفل عقد قران والخطوبة، وهذا الكارم لم تتصور ولو في أقصى خيالها أن يكون بهذه الهيئة الراقية ليجعل كاميليا كالأميرات في الحفل، لتزداد الحسرة بقلبها وتأتي والدتها لتذكرها الاَن بخيبتها ضاعطة بعنف على جرحها الغائر، خرج صوتها بعتاب نحو والدتها:

- ما شي يا ست الكل، انا اللي فضلت لوحدي واضحك عليا من الاتنين، استريحتي كدة بقى؟

شهقت إحسان فاغرة فاهاها لتردف برفع شفتها :

- وارتاح ليه بقى يا اختي؟ كنت شوفتيني عدوتك ولا عدوتك يا بت؟ دا انا امك اللي باكية على مصلحتك، ونفسي بقى تقبي زي الناس دي، ولا هي جات عندك انتي ووقفت يعني

همت غادة لترد فسبق أبيها ليتدخل بقوله الساخر، بعد أن استمع لحديثهن:

- يا فرحتي بيكم وانتوا بتتخانقوا كدة، طول الوقت تخطيط وتظبيط ومصاريف ع الفاضي وفي الاَخر ، تمسكوا في بعض.

زجرته إحسان بنظرة محذرة لتصرفه بغضب:

- بقولك إيه يا شعبان، انا العفاريت بتنطط في وشي والنعمة الشريفة لو ما اتزحزحت دلوقت من قدامي لكون سايبة البت وماسكة في خناقك انت.

انتفض الرجل ليرتد بأقدامه للعودة نحو باب المنزل الخارجي ليتفادي الشجار فصحته لا تقوى على مجابهة غضب زوجته المدمر، وتمتم ذاهبًا:

- وانا ومالي ومالكم يا عم، هو انتي لما تغلبي في الحمار تقومي تتشطري ع البردعة، دا إيه النيلة دي .

ختم بصفقه الباب بقوة ، تارك المجال لزوجته التي التفت لابنتها على الفور سائلة بقلق:

- بت يا غادة، هو البيه اخو صاحبتك لساتوا برضوا مافتحكيش ولا قالك حاجة عن جوازك بيه؟

أجفلتها بالسؤال الذي كانت تخشاه، فااخر ما ينقصها الاَن هو اخبار والدتها بنية هذا المدعو ماهر وما عرضه عليها من عرض دنئ لا يصلح سوى لامرأة تبيع نفسها وهي ليست كذلك.

انتفضت بدفاعيه تهتف بوجه المذكورة:

- تاني بتسأليني وتحققي معايا ياما ، مش ناوية بقى تسيبني وتفرجي عني في الليلة المهببة دي، دا إيه الغلب دا بس يا ربي، انا سايبهالك وقايمة عشان تستريحي، يا ساتر يا رب. 

قالتها وخطت سريعًا نحو غرفتها لتهرب من نقاش والدتها المرهق، حتى إذا أغلقت باب الغرفة عاليًا، تركت العنان لهذه الدمعات الحبيسة وتبكي بحرقة الله، حتى رفعت رأسها على صوت الهاتف الذي دوى بجانبها فتبينت هويته، صرخت تلعن الساعة التي رأته بها وهي تدفع الهاتف بعيدًا عنها بعنف.


❈-❈-❈ 

بعد ساعات من البحث والاتصالات المتكررة بدون فائدة حتى قارب على اليأس وغلبه الخوف والقلق 

من أن يحدث أو يضر نفسه بشئ ما، يتفاجأ برؤيته الاَن هنا وعلى مدخل المنزل جالسًا على الدرجات الرخامية بصورة مزرية، ليُخفي حزنه بصعوبة حينما اقترب منه عامر الريان وزوجته الذين سبقا جاسر وزهرة إليه:

- إيه يا بني، قاعد كدة ع السلم ليه ومدخلتش الفيلا على طول، هو انت غريب يا طارق؟

بابتسامة مغتصبة رد وهو ينفض ملابسه في النهوض لمصافحة الزوجين بمرح مزيف :

- معلش يا عمي بقى، راسي تقيلة ومقدرتش اروح ولا استنى في البيت لوحدي، قولت انتظر جاسر هنا اسهل،

قالت لمياء باستغراب لحالته:

- قصدك إن انت شارب يعني؟ بس مش باين عليك إنك ســ كران يا طارق ، هو انت مجيتش ليه صحيح خطوبة كاميليا؟ مش هي شريكتك برضوا في الشغل 

أجفلته لمياء بأسئلتها المتتالية المباغتة، فافتر فاهه يفكر ليأتي لها بحجة كاذبة ولكن جاسر لحق به لينقذه سريعًا بترحيبه بعد أن وصل إليه:

- إنت موجود هنا يا مجنون انت وانا بدور عليك، عن إذنك يا ماما عن إذنك يا بابا، اصل عايز انفرد بيه لوحدي .

قالها ليسحبه سريعًا إمام أنظارهم المندهشة، حتى التفوا إلى زهرة بتساؤل والتي قد وصلت إليهم متأخرة، بعد أن سبقها زوجها للحاق بصديقه للأنفراد به، حركت كتفيها ومطت بشفتيها تدعي عدم المعرفة قائلة ببرائة:

- معرفش


❈-❈-❈ 


وفي الداخل وفور ان اختلى بصديقه بالغرفة التي اغلقها عليهما وحدهم هتف يود لكمه على فكه بعد ساعات من القلق كادت أن تقضي عليه مع تعمد الاَخر لعدم الإجابة عن اتصالاته المتكررة للاطمئنان عليه:

- كدة برضوا يا زفت انت، تسيبني هموت من القلق والخوف وانت زي الطور مستني هنا على سلم البيت .

تجاهل طارق صياحه ليرتمي على الاَريكة التي وجدها أمامه ليستلقي عليها بظهره، ورد بلهجة ميتة:

- معلش يا جاسر، بس انا بصراحة مكنتش قادر اتكلم ولا ارد على أي حد .

تنهد جاسر بعمق وعيناه اتجهت للسماء فهذا المتعوس أرهق قلبه بالحزن على حالته التي لا يجد لها حل ولا يعلم أين تكمن العقدة بالظبط؟

خطا ليجلس على الكرسي المجاور له وربت بكفه القوي على ركبته يقول بتحفيز 

- اصحي وفوق كدة، الزعل ما فيش منه نتيجة، غير انه بيحيب التعب والمرض لصاحبه، فوق ياللا وارجعلي طارق بتاع زمان .

تبسم بجانبية ليرد ساخرًا دون أن يلتف نحوه :

- طارق بتاع زمان! يا سلام يا جاسر دا انا كنت ضاربها جزمة وكل يوم مع واحدة شكل ولا اعرف هم ولا زعل حتى، كانت ايام بقى .

صمت جاسر فقد الجمته مرارة الحديث ولم يعد به قدرة على مجارته فتابع الاَخر يفاجئه بطلبه:

- على فكرة يا جاسر، انا كنت جايلك النهاردة مخصوص عشان ابلغك بقراري.

- قرار إيه؟

سأله جاسر مستفسرًا فالتف الاَخر يعتدل إليه بجسده على جنبه يخبره:

- أنا قررت اسيب الشغل عندك وارجع لكندا اكمل فيها هناك مع أهلي .

- نعم !

هتف بها جاسر ليتبع قوله بلكزه بقبضته ناهرًا بحزم:

- انت اتجننت ولا عقلك طار منك ، ولا يكونش فاكرني هسمحلك، اقسم بالله ما هسمحلك يا طارق .

هم الاَخر ليجادله ولكن اوقفه صوت طرق على باب الغرفة الذي دلفت منه زهرة بعد ذلك بصنية عليها كوبين كبيرين من مشروب الليمون، تلقفها جاسر قائلًا بغضب لها:

- وانتي كمان شايلة الصنية بنفسك ليه؟ ما فيش خدامين يجيبوا بدالك؟

- الخدامين نايمين وانا صعب عليا بصراحة اصحيهم.

تمتمت بها وهي تخطوا لداخل الغرفة خلفه حتى إذا وصلت إلى طارق سألته بقلق :

- عامل إيه دلوقتِ كويس؟

أجابها بهز رأسه وابتسامة ليس لها معني لا تصل إلى عيناه قبل أن  يعتدل بجذعه ويتناول كوب العصير الكبير من جاسر ليرتشف منه، فقال الاَخير :

- تعالي وشوفي المجنون دا اللي عايز يسيب البلد ويهاجر لكن وربنا ما هسمحله .

توجهت إليه تسأله بخضة:

- دا بجد يا طارق ؟

اومأ لها دون صوت فردت بانفعال اختلط بغضبها وهي تجلس لتنضم معهما :

- ما تزعلش مني بس انت كدة بقى هتبقى جبان وهربت وسيبتهالوا .

أصابت الصدمة جاسر قبله فقال ملطفًا رغم نظراته المحذرة إليها :

- زهرة حبيبتي اهدي شوية وخلي بالك من كلامك، كذا مرة اقولك حاولي ما تظهريش اللي جواك.

تجاهلت تحذيره المبطن والتفت لطارق تكمل بتأكيد:

- زي ما بقولك كدة طارق، اوعى تسافر وتستلم، كاميليا بتكابر وهي بتتقطع من جواها، وأكيد الوضع دا مش هيستمر معاها كتير .

نبت بقلبه الأمل ولكن رفض أن يحارب طواحين الهواء دون فائدة بيأسه، فقال يذكرها:

- عايز افكرك ان اللي بتتكلمي عليها دي كتبت كتابها، يعني الموضوع خلص. 

- لا مخلصش. 

قالتها بعند اثار استغراب زوجها الذي تمتم غير مستوعب:

انت جايبة الثقة دي منين بس؟ بلاش خيالك البريئ ده يا زهرة في حاجة كبيرة زي دي وغير مضمونة كمان.

سمعت منه لتكمل لطارق غير مكترثة:

- اسمعها مني يا طارق، حتى لو كان كلامي خيال زي ما بيقول صاحبنا ده، انا مبقولكش انك تفرق ما بينهم ولا تعمل لها مصايب، يكفي انك تفضل قاعد قدامها وقصادها، انا مش طالبة منك حاجة تاني .

حديثها العفوي جعله يعيد التفكير بجدية حتى أنه عاد بجلسته للخلف وبدت ملامح وجهه تتغير باهتمام، ورغم أن بداخله لا يريد الإنتظار لشئ قد لا يتحقق مع 

رفض كرامته أن يأخذ مكان الإحتياط في حياة المرأة الوحيدة التي أحبها وسلم إليها قلبه، ولكن وما الضرر في الإنتظار، هو بالفعل يحترق بداخله، كما انه لن يجد الراحة أبدًا في البعد عنها، والأهم أنه يعلم تمام العلم بعشقها له ولكن تظل هذه الألغاز التي تحاوط بها نفسها 

هي ما يقلق راحته، إذن فاليظل هنا وربما توصل لحلها في يوم ما .

قطع شروده ليلتف نحو زهرة يسألها عن هذا الشئ الخفي في حياة العنيدة محبوبته:

- زهرة معلش كنت عايز أسألك، تعرفي حاجة عن والدة كاميليا؟

بدا على جاسر الاستغراب كما قطبت للسؤال مفكرة قبل أن تجيبه :

- انا اللي اعرفه انها اتطلقت من والد كاميليا زمان، من ايام ما كانوا ساكنين جيرانا في الحتة، بصراحة الناس كلها استغربوا ازاي واحدة تسيب طفلها ميدو اللي عمره وقتها كان يدوبك يجيب سنة، وتربيه بنتها، بس كمان كلنا خمنا إن أكيد خالتي نبيلة هترجع تاني لجوزها، بس اللي حصل انها مرجعتش ، وفضلت كاميليا تربي ميدو بمساعدة والدها 

تابع يسألها مرة أخرى:

- طب هي كاميليا كانت بتزورها؟

صمتت قليلًا زهرة بتفكير رغم اندهاشها الكبير من أسئلته ثم أجابته بتذكر؛

- بيتهيألي كانت بتروحلها وهي كبيرة كمان ، انا فاكرة في مرة اختفت يومين واما سألتها قالتلي انها كانت عند والدتها .

تمتم وقد ازداد اندهاشه:

- قعدت عند والدتها يومين طب ازاي؟

تدخل جاسر بقوله لهم:

- ما تفهموني انتو بتتكلموا عن إيه؟

أجابته زهرة بسجيتها:

- انا بجاوب على أسئلته لكن والله ما فاهمة.

ردد خلفها بعد أن لاحظ نظرات جاسر المستفهمة:

- وانا بسألها واقسم بالله برضوا ما فاهم حاجة.

تطلع إليها جاسر بازبهلال، بعد أن أثارو فضوله بأسئلتهم الغريبة، فقطع يسأله:

- طب انت قررت إيه دلوقت؟

ارتشف طارق من كوبه قليلًا بصمت وتفكير عميق قبل أن يجيبه:

- انا قررت اجازة دلوقت اريح فيها اعصابي واسافر اطمن على أهلي بالمرة، حتى عشان اخدها فرصة كمان  افكر بقى براحتي .

- حلو أوي ده

غمغمت بها زهرة ليحدجها جاسر بغيظ قبل أن يتابع بسؤاله:

- اه يعني كام المدة اللي هاتاخدها في اجازتك دي؟


❈-❈-❈ 


وفي الأعلى 

في غرفة عامر ولمياء التي بدلت ملابسها ثم جلست شاردة حتى انتبه لها زوجها الذي سألها بريبة:

- إيه يا لميا؟ شايفك سرحتي يعني وكأنك روحتي لدنيا تانية، غير اللي احنا فيها.

التفت إليه برأسها بوجه متسائل، فقالت بتردد:

- بصراحة خايفة اتكلم لا تزعل.

تبسم لها عامر وقد بدا أنه فهم ما يدور برأسها ، وقال يستحثُها على الكلام:

- لا قولي يا حبيبتي ومش هزعل، ما انا خلاص اتعودت بقى

رغم انتباهها لنبرته المتهكمة ولكنها لم تقوى على الكتمان لتردف سريعًا له :

- بصراحة بقى انا كنت هتجنن على حفل النهاردة، اللي كان يهوس، وكنت أتمنى من قلبي دا يبقى فرح ابني.

أصدر تنهيدة طويلة بقنوط، يتطلع ألى زوجته وطبعها الذي لن يتغير أبدًا، واستطردت هي مواصلة :

- بلاش البصة دي والنبي عشان عرفاها كويس، أنا أم وشئ طبيعي لما افكر كدة، دا ابني وحيدي يا عامر، وكان نفسي افرح بيه.

فاض بيه عامر ليرد وهو يضرب بكفه على ذراع المقعد الذي يجلس عليه:

- يا شيخة حرام عليكِ، دا انتِ عملتي ما بدالك في جوازته الأولى بميري بنت اختك، امال زهرة تعمل اللي ما تعملهاش نص اللي اتعمل لصاحبتها حتى، ودي جوازتها الأولى .

غمغمت باعتراض وصل إلى عامر وهي تشيح بوجهها عنه:

- ما هي اللي قبلت بالوصع معاها،  احنا مالنا؟ هي كانت تتطول أساسًا؟

- اللهم ما طولك ياروح .

هتف بها عامر بزفرة طويلة كي ترتجع  زوجته عما تفكر به، شعرت لمياء ببواد غضبه ففضلت ان تنهي حتى لا تزيد ويصل النقاش بينهم إلى خلاف، وقالت مغيرة :

- بس انا مكنتش اعرف ان كارم عيلته كلها رتب مهمة للدرجادي، دا انا جاني احساس اني في مقر أمني من كتر الرتب اللي شوفتها. 

اعتدل بجلسته ليندمج في حديثها مقدرًا تفهمها بتغير مجرى الحديث:

- بس انا عارف من الأول على فكرة ومستغربتش انه يعزمهم، والد كارم الله يرحمه كان اول واحد يدخل المجال الأمني منهم وبعدها ناس كتير من عيلته قلدوه عشان السطوة والهيبة، كارم نفسه كان من ضمنهم ، بس للأسف حصلت معاه مشكلة كبيرة أدت لفصله من السنة التالتة في الأكاديمية .

هتفت مندهشة بعدم تصديق:

- إيه؟ انفصل من سنة تالتة؟ ازاي يعني ينفصل ووالده رتبة مهمة في الدولة؟ هو عمل إيه بالظبط؟

بهزة بسيطة من كتفيه اجابها بعدم معرفة:

- بصراحة مش فاكر، اصل والده ساعتها حكالي الموضوع على عجالة من غير تفاصيل .


❈-❈-❈ 


- اه الحمد لله يا ربي، اَخيرًا شوفت اليوم ده.

هتفت بها المرأة فور دلوفها لمنزلهم بعد عودتها مع ابنها من حفل عقد قرانه والذي تقدم منها ليقبلها أعلى رأسها يخاطبها مبتسمًا:

- وانا مبسوط قوي لفرحتك يا ست الكل، ما قولتليش بقى ها عجبتك الحفلة؟

تبسمت الوالدة بغبطة جعلت دقات قلبها تخفق بتسارع مع حجم السعادة التي تشعر بها حتى اردفت له بفخر:

- كلمة عجبتني دي شوية يا كارم، الحفل بتاعك كان روعة يا حبيبي، أنا كل الناس كانت بتحسدني عليك النهاردة انت وعروستك، دي كمان كانت تجنن، لو هقولك اني خايفة قلبي يوقف من الفرحة يبقى لازم تصدقني على فكرة. 

- سلامة قلبك يا قمري، خليك جامدة لأنك لسة ما شوفتيش حاجة فكرة، دا انا ناوي اخلي حفل الزفاف اسطوري على حق ومصر كلها تحلف بيه؟

هللت بدخلها والدتها ولم تجد من الكلمات ما يوصف السعادة التي تشعر بها، فردت بقبلة كبيرة على وجنته قائلة:

- براحة عليا شوية بقى، خليني اتمتع بفرحة النهاردة عشان اقدر أستوعب اللي جاي، ربنا يزيد من فرحتك يا قلبي، انا هروح اريح وانام بقى عشان هلكت بجد. 

قالتها ليفك ذراعه عنها وتركها لتذهب نحو غرفتها، وخطا لداخل الصالة الفسيحة حتى وصل إلى الصورة المؤطرة والمعلقة على الحائط أمامه بالحجم الكبيرة، يتطلع إلى الرجل المهيب بالزي الرسمي لعمله، ثم القى نظرة على هذه الأوسمة والمادليات الذهبية والدروع الكثيرة التي تراصت في جانب وحدها فلا يستطيع احد ما من الاقتراب منها سوى لتنظيفها والذي لا تفعله سوى والدته، ليعود الى صاحب الصورة مرة أخرى يخاطبه:

- ازيك يا باشا النهاردة؟ أكيد مبسوط صح؟ ولا زعلان عشان ما شوفتش اليوم ده بعد ما خيبت أملك وقطعت حلمك، أديني اثبت نفسي في مجال الأعمال والفلوس، 

مع السلطة اللي وارثها منك 

اوقف يتنفس بعمق قبل أن يتابع حديثه للصورة التي أمامه؛

- ما كنتش عايزك تموت قبل ما تشوف نجاحي، بعد حصرتك عليا لما انفصلت عن الكلية بضغط من رؤساءك وقتها، بس بصراحة يا والدي انا مندمتش ع اللي عملته

قال الاَخيرة بابتسامة متوسعة ليكمل:

- اديني وصلت للي انا عايزة وفوزت باللي أحلى منها ومن غير أذية المرة دي!


❈-❈-❈ 


بفستان الخطبة الذي لم تبدله كانت مستلقية بظهرها على تختها تتطلع بسقف الغرفة، بعد انتهاء الحفل وانتهاء كل شيء لها، لقد تم ما أصرت عليه بعد اتخاذها القرار المصيري، لم يكن في نيتها الزواج ولكنها اضطرت لذلك، تعلم بخطورة ما ارتكبته في حق نفسها، وفي حقه هو الاَخر، ومع ذلك فهذا هو الأفضل له ولها، لقد رأت اللوم في نظرات زهرة وزوجها لها رغم ادعائهم العكس، ولكن من منهم يرى الصورة الكاملة ويعلم الحقيقة ليأخذوا الحق بلومها؟ حتى ميدو حبيبها الصغير لم ترى الفرحة بوجهه رغم كل محاولتها لاقناعه، رأسه الصلب يرفض التصديق، او القبول به زوجًا لشقيقته،

تنهدت بعمق ما يجيش بصــ درها ، ثم اعتدلت فجأة لتتناول الهاتف من فوق الكمود وتتصل بها، فجاءها الرد سريعًا:

- الوو يا كاميليا، اخيرا اتصلتي يا حبيبتي، إيه الأخبار ؟

- الحمد لله كويسة، انتِ بقى عاملة إيه؟

- تمام يا قلبي، المهم طمنيني انتِ .

- عندك وقت تسمعيني ولا اختصر لو هتنامي؟

- لا يا حبيبتي عندي كل الوقت، قولي براحتك واتكلمي.


❈-❈-❈ 


بعد مرور شهر 


بداخل منزلها كانت تصيح بصوتها الغاضب على محدثها في الهاتف:

- ازاي يعني مش لاقي صرفة؟ انت لازم تخلصني من الموضوع دا بقى في اقرب وقت عشان قرفت............

ماليش دعوة انا اتصرف مع الولد ده  واديلوا اللي هو عايزه خليني اخلص......... قصدك انه بيلاوعك عشان ياخد مبلغ كبير؟ ........... الكــ لب الحــ قير بيستغل الظرف.......... خلاص يا عابد اتصرف واقفل بقه بالفلوس اللي هو عايزها انا عارفاه طماع صحفي الغبرة دا كمان ........ بس خليك ناصح ومتخليهوش يشطح فيها ارسى معاه على مبلغ كويس وبلغني....... تمام 


أنهت المكالمة لتدفع بالهاتف غير اَبهة بكسره، وجلست  على كرسيها لتنفخ غيظها بسيجارة التقتها من علبتها، لتنفث دخان يخرج مع حريقها هي الأخرى بالداخل، فقد ارهقتها هذه القضايا التي ورطها بها جاسر الريان بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة التي تتكبدها في دفعها لإتعاب المحامي الفاسد ، وهذه الفتاة عاملة المشفى لتغلق فمها عن ذكر اسمها، ثم هذا الحــ قير فاضل الصحفي المستغل 

الذي يلاعبها بحنكة لينول اكبر قدر من الأموال حتى يوافق ويغير اقوال تدينها في قضية المطعم والتشهير بجاسر الريان 


رفعت رأسها نحو شقيقها بوجهه الوجم بعد أن هبط الدرج واستمع لصريخها في الهاتف فبادرته بقولها له :

- بتبصلي وانت ساكت ليه؟ اتكلم وخرج اللي جواك 

زفر قبل أن يجلس بجوارها ليخاطبها بلهجة لينة حتى يمتص غضبها:

- يعني عايزانى اقول إيه بس؟ القضايا دي اللي عليكِ وخروجك من مجموعة الريان دول كلهم عليهم علامة استفهام، بس انا ياقلبي ما ليش حق أحاسبك.

التفت إليه برأسها تنتظر البقية وقد اراحها منطقه في الحديث، واردف يكمل:

- انا بس عايزك تهدي شوية وتبطلي حرق في اعصابك كدة طول الوقت، دا غلط يا حبيبتي على صحتك.

تغيرت ملامحها وعاد الغضب يرتسم عليها بوضوح ، لتهتف كازة على أسنانها:

- عايزنى اهدى ازاي ؟ والزفت ده خسرني كل شئ دا غير مصالحي مع ناس وقفوا تعاملهم معايا عشان ما يطولهمش غضب بن الريان، دا غير سمعتي المهددة بالقضايا المرفوعة عليا لو اتحكم فيها ، وانت لسة بتقولي هدي أعصابك .

ندم على مشاركتها الحديث لينال منها هذه الحدة المبالغ بها بوجهه، فنهض مستئذنًا على تردد:

- طب اقوم أنا أشوف اللي ورايا عشان بصراحة عندي مشوار مهم.

اوقفته قبل أن يبتعد عنها بقولها:

- انت لسة برضوا مالقتش سكة مع البنت دي؟

سألها بعدم تركيز:

- تقصدي مين؟

نهضت لتصيح بانفعال وتعصب تجيبه:

- غادة يا ماهر ، لحقت تنسى اللي طلبتوا منك؟

افتر فاهه واغلقه على الفور فور تذكره ليمسح بأنامله على جبهته يرد بحرج :

- اَسف يا قلبي لو انشغلت عن طلبك بجد، بس انا بصراحة عملت اللي عليا واتصلت بيها كذا مرة وهي مردتش اعمل لها أيه تاتي دي بس؟

تصلبت محلها تهدر بأنفاسها، مضيقة عينيها بتفكير عميق قبل أن ترد :

-،تمام انا هتصرف والاقي طريقة حلوة معاها، ما انا مش هسكت من غير ما ارد.


❈-❈-❈ 


هتتأخري النهاردة في شغلك؟

سألها مخاطبًا لها بجواره وهو يقود سيارته ، واجابت بعملية وهي تراجع على بعض الأوراق سريعًا:

- أممم بصراحة مش عارفة هبقى اشوف .

- لأ هتشوفي دا إيه؟ انتِ لازم تفضي نفسك عشان مشوارنا. 

قالها بحزم اثار انتباهها لتترك ما كانت تتطلع به، وتسأله بنزق:

- ليه بقى لازم يا كارم؟ دا مشوار عائلي لمناسبة سعيدة في عيلتكم، وانا لسة ع البر يا كارم .

- لأ مش ع البر يا كاميليا.

هتف بها وهو يضغط بقوة ليوقف السيارة فجأة فجعلها تهتز بجسدها لأمام بعنف قبل أن ترتد سريعًا بفعل حزام الأمان، رفعت رأسها تواجهه مخضوضة:

- ليه كدة يا كارم؟ انت خضتني بجد على فكرة .

لانت لهجته ليرد باعتذار:

- انا اسف، بس انتِ اللي اضطرتيني لكدة.

- انا برضوا اللي اضطريتك لكدة؟ طب ازاي؟

هتفت بها بعدم استيعاب لتجده ينظر لها مؤكدًا بقوة:

- ايوة انتِ يا كاميليا، عشان الكلام ده في كل مرة بتقوليه اطلب منك ترافقيني في مشوار لعيلتي، انا مش فاهم ايه سر رفضك الدائم لكل خروجة اطلبك فيها؟

حاولت كبح غضبها لتجيبه بنبرة هادئة نسبيًا حتى لا تثير غضبه:

- بسببك يا كارم، وبسبب تدخلك حتى في اللي هلبسه، دا انت بتختار الفستان وتختار الكوافير اللي هروحله، دا غير طقم الألماظ اللي لازم البسه، وانا ما بحبش التكلف، انا واحدة بميل للبساطة.

سمع منها ليرد بعدم اكتراث:

- اه والبساطة دي هتنفعك بإيه بقى لما تظهري اقل من أي واحدة من بنات العيلة؟ الكلام اللي انت بتقوليه دا يا كاميليا خيالي اوي وملهوش دعوة أبدًا بالواقع اللي احنا عايشينه 

رددت وهي تُشير بسبابتها نحوها :

- انا كلامي خيالي يا كارم؟

اومأ بعيناه قبل أن يقول ملطفًا في محاولة لإقناعها:

- كاميليا عايزك تفهميني، انا فخور بيكِ وعايزة الدنيا كلها تشوف اختياري الصح، ست جميلة وناجحة في شغلها، يبقى فاضل بس انها تبقى سيدة مجتمع راقية وانت تصلحي للدور ده، حرام ترضيني فى حاجة زي دي.

صمتت بعدم رضا فلم يعجبها حديثه ولكنها فضلت عدم الاصطدام .

علم هو بما يدور برأسها فتناول كفها يقبلها ليقول برقة:

- حبيبتي انا ماليش غيرك، لا عندي اخوات بنات ولا ولاد، انتِ دنيتي كلها بعد أمي وانا مصدقت لاقيتك.


❈-❈-❈ 


وصلت لمقر عملها لتجد هذه الزحمة بالطابق الموجود به غرفة المكتب الخاص بها، عمال وموظفين لم تعتد رؤيتهم، أعدادهم تتزايد بكثرة كلما تقدمت بداخل الرواق حتى تفاجأت، بالتجمع الكبير أمام غرفته، وهو الغائب لأكثر من شهر في إجازة لم يحدد مدتها، إذن ايكون قد عاد من سفره؟ فقد اخبرتها زهرة بذهابه ألى عائلته بكندا، ام من الجائز أن يكون قد احتل غيره مكانه؟ او ربما استقال من منصبه بعد ماَساته معها ومعاناته التي شهدتها بنفسها، وأوجعت قلبها معه.

وصلت إلى التجمع امام الغرفة المذكورة، فانتبه الرجال متزحزحين عن أماكنهم كي يسمحوا لها بالدخول، لتدلها ضحكته المجلجلة عنه في قلب المساحة المزدحمة، 

بجسده الطويل يرتدي حلة سوداء فاخرة، يعطيها ظهره وهو يتحدث مع رئيس العمال الذين أتو لتحيته بعد رجوعه من غيبته ، في حدث لا يتكرر مع غيره وذلك لتقربه من الجميع وبساطته في الحديث مع كل العمال دون تفرقة .

ضخ قلبها بقوة ليصير نبضه قويًا وسريعًا دون هوادة، وكأنه في سباق للعدو، لقد اشتاقت له ولرؤيته ولصوته ومزاحه، ومشاكسته، حتى عتابه ولومه لها.

هذا شئ تأكدت منه جيدًا في الأيام التي قضتها في العمل بدونه.

- استاذة كاميليا وصلت اهي، تعالي احضرينا بقى يا ست.

هتف بها رئيس العمال فاستدار بجسده إليها لتشعر بتوقف قلبها عن النبض للوهلة الأولي قبل أن يستعيد توزانه وتتمالك نفسها وهو يقترب ليصافحها بنبره عادية:

- اهلا يا كاميليا عاملة إيه؟

ابتعلت لتجلي حلقها كي ترد:

- اهلآ بيك يا طارق، حمد لله ع السلامة، انت وصلت امتى؟

- انا وصلت من امبارح يا ستي. 

قالها والتف للعمال متجاهل النظر إليها وكأنه تركها بالأمس وليس ثلاثين يومًا، لم يشعر ولم يصيبه ألم الأشيتياق الذي مزق قلبها وجعلها الاَن تنسى نفسها مستغلة انشغاله بالتحدث مع العمال الذين يطالبون بمكافاة استثنائية فرحة رجوعه للعمل، وتتأمل ملامحه المشرقة بنهم، وقد زادت وسامة على وسامتت وعاد لمرحه القديم في حديثه معهم:

- سايبن شغلكم وعاملين مظاهرة. عشان لما افتن عليكم لجاسر الريان محدش فيكم يجي يشتكي ولا يزعل.

هتف بها فانطلقت الضحكات مع ردود افراد من العمال بتفكه من واقع عشمهم في كرمه وطبيعته السمحة ، حتى انتهى النقاش بصرف المكافأة التي أصروا عليها، لينصرفوا بعدها مهللين بانتصار، مع قول الدعوات له، 

فلم يتبقى سوى هو وهي التي عادت لعمليتها في مخاطبته :

- على فكرة انا منظمة وموثقة لكل حاجة اتعملت في غيابك، ومستعدة ابعتلك حالًا الملفات تراجع فيهم براحتك .

وعلى عكس ما كانت تفعل دائمًا، هذه المرة كانت تخرج الكلمات من فمها سريعة وبلهفة، وعينيها تتحاشى النظر إليه، ولا تعلم إن كان السبب هو هذا الخجل في مواجهته بعد الذي صار بينهم اَخر مرة، ام هو الخوف من أن ينتبه بعيناه الجريئة التي أذا أمعنت النظر بخاصتيها فسوف يرى هذا الشوق الذي يفضح ما بداخلها الاَن وبقوة.

- تمام يا كاميليا، ابعتيهم للسكرتيرة بتاعتي بقى واحنا نظبط. 

رفعت رأسها باستفهام، متعجبة لسماع الجملة، فرد هو بابتسامة متوسعة وقد قرأ استفسارها فهتف بالأسم:

- لينا تعالي سلمي على رئيستك الجديدة في الشغل .

التفت كاميليا لخلف ظهرها نحو الجهة التي كان يتحدث إليها طارق ، لتجد الفتاة خلفها بالقرب منها ، 

ضيقت عينيها وهي تتأمل بها جيدًا، بشعرها الأصفر والمسترسل بنعومة فائقة على جانبي وجهها الشديد البياض وعيناها ذات اللون الفيروزي الرائع، بجمال خلاب وملابس فوق ركبيتها اظهرت عن ساقيها الطويلة بسخاء ورائحتها التي كانت تزكم أنفا منذ فترة وهي التي تصورت بغبائها انها كانت عالقة بأحد العمال .

- اهلا وسهلا حضرتك تشرفنا .

قالتها الفتاة بابتسامة رائعة من ثغرها الجميل، تجاهلتها بعدم زوق لتتوجه بالسؤال إليه بلهجة جافة:

- ودي امتى لحقت توظفها وانت مسافر؟

أجابها واضعًا كفيه في جيبي بنطاله وابتسامة موجهة للفتاة:

- لينا مش محتاجة اختبار ، دا معرفة من زمان،  بس إيه لهلوبة 

- لهلوبة!

رددتها خلفه قبل أن تلتف إلى الفتاة ترمقها بنظرة من اعلى لأسفل بتفحص، ثم تابعت بازدراء:

- اه صحيح، واضح فعلا انها لهلوبة

الفصل الخمسون 


في انتظار خروج رئيسه من الشركة، كان واقفًا بعملية لتأدية مهامه في حمايته بحكم وظيفته في العمل، وقعت عينيه عليها، وهي تخرج من الباب الرئيسي ثم تقطع المسافة الفاصلة، حتى وصلت للذرج الرخامي؛ والذي هبطته بعد ذلك، يتابعها بدقة وتفحص، يبدوا أن بها شئ ما تغير ام أنه يتوهم ذلك براسه، بحماقة جديدة يقنع بها نفسه، بعد أن تعلق قلبه بها رغم كل ما علمه من عيوبها، مع نفورها الدائم منه وهذه النظرة المتعالية التي تحدجه بها دائمًا، ولكن يظل صوت برأسه دائمًا ما يهمس له، بأن هناك نقطة بيضاء تستحق التفتيش والبحث عنها، لربما وجدها وربما غلب الطبع السئ ليطمس بسواده ويمحو حتى هذه النقطة الخفية للخير، ارتفعت عينيها لتلتقي بخاصتيه بنظرة خاوية لا تحمل أي شئ من التعالي والعنجهية الكاذبة وهذا التمرد الذي يجذبه بها، مما جعله يتمنى لو استطاع ترك عمله واللحاق بها ، حتى لو اضطر لمشاكستها كالعادة 

ولينال سخطها بعد ذلك كما تريد، ومنذ متى هو اهتم لغضبها أو صياحها بوجهه وصراخها. 

اعتدل بوقفته على وضع الاستعداد كعادته فور أن رأى جاسر الريان من مسافة ليست بقريبة يعدو بخطواته السريعة للمغادرة .


أما هي وبعد أن تخطته لتقطع المسافة المؤدية إلى الرصيف الاَخر ، حتى تلحق بوسيلة للموصلات العامة ، 

بأقدام ثقيلة وشعور الإحباط أهبط كل عزيمة لها في القتال والمعافرة بشراسة لتنال حقها من الدنيا كما وعدت نفسها كثيرًا وفشلت، لقد صدقت والدتها حينما قالت، أن الجميع تقدموا للأمام ونالوا حظهم الجيد، وظلت هي وحدها في الخلف في بيتها مع والدتها وأبيها، تستقل الأتوبيس الحكومي او الميكروباص الشعبي، وغيرها يسكن القصور ويتحلى بالألماظ ويستقل السيارات ذوات الماركات الحديثة، رفاهية لطالما داعبت خيالها حتى شعرت انها تقترب منها وصعدت محلقة حتى كادت ان تصل إليها، قبل أن تُضرب على رأسها بقوة لتهبط إلى قاع الارض،

مع وجع الكرامة وهي تشعر بالدونية الآن، وقد ظنت نفسها أكبر من التفكير فيها بهذه الصورة .

انتفضت فجأة تقطع شرودها على الصوت المستفز لمكابح السيارة التي توقف عنوة بالقرب منها توقفها

قطبت بغضب وتحفز لسانها أن يمطر صاحب السيارة السباب بوصلة من السباب تخرج بها شحنة غضبها من الداخل، ولكن مع الرؤية الجيدة لمن يقود السيارة توقفت كلماتها على طرف لسانها، لتزم فمها بتنهيدة عالية أخرجتها وهي تُشيح بوجهها للناحيه الأخرى:

- بتبعدي وشك عني ليه؟ هو انا اللي زعلتك؟

هتفت بها ميرفت من داخل السيارة لتلف إليها غادة وترد بشراسة:

- مش انتي اللي عرفتيني بيه يا ست، الحلو المسبسب وفهمتيني انه عايزني في الحلال، اهو ظهر على أصله وعرفت غرضه كويس أوي دلوقت. 

مالت برأسها إليها من أمام المقود لترد بصوت هادئ:

- طب اركبي الأول، واحنا نشوف بعدها سبب الإشكال دا إيه؟

غلبها طبعًها غادة وردت بصوت أعلى من المعقول:

- إشكال وزفت إيه إللي هنتكلم فيه، الباشا اخوكي كان عايز يتجوزني بورقة يا ست الهوانم، ولا اكني واحدة من إياهم حتى، او بت هبلة هيضحك عليها بقرشين .

كظمت غيظها مرفت وتفادت الرد عن حماقة هذه المعتوهة التي تنتوي فضحها وأهلها بصوتها العالي في منتصف  الشارع العمومي، وردت كازة على أسنانها بحزم :

- طب اتدخلي اركبي معايا يا غادة، مينفعش الكلام في الشارع كدة، انا بقولك نتفاهم، هو انت شايفاني هكلك يعني؟

زفرت الأخرى قليلًا بتفكير قبل أن تحسم أمرها وتنضم إليها داخل السيارة


❈-❈-❈ 


منكفئة على الأوراق التي أمامها تدعي التركيز وهي لاتفقه مما تقرأه شيئًا على الإطلاق، لقد حاولت مرارًا وتكرارًا بالعودة عليهم ومراجعتهم ولكن لا فائدة، فمنذ رؤيتها له صباحًا وعقلها تشتت بصورة غريبة وغير معتادة، ولا تعلم، إن كان بسبب هذا الإشتياق الكبير الذي شعرت به وقت رؤيته المفاجأة، أم هي الحيرة التي انتابتها مع معاملته الباردة لها وكأنها امرأة عادية بالنسبة إليه، ولم يجمعهم هذا النزال الطويل قبل سفره مع إصرارها على تكملة الارتباط بكارم.

نفضت رأسها لتستجمع نفسها مع تذكرها لهذا الرجل الذي ارتبطت به وتم عقد قرانه عليه، فلا يصح التفكير في غيره، عادت بهز رأسها عدة مرات لتفرك بكفيها على شعرها في محاولة بائسة لتستفيق، دنت برأسها تقرأ البنود التي أمامها في المستند، فأتت على الفور صورة هذه الفتاة الجديدة، وهذه الهيئة المبالغ وكأنها إحدى عارضات الأزياء، ثم هذه الصفة التي أطلقها عليها :

- لهلوبة!

غمغمت بالأسم ثم انتبهت على صوت طرق على باب غرفتها، لتفاجأ بهذه الملعونة أمامها وكأنها أتت على النداء، مع ابتسامة ساحرة بثغرها الذي لونته باللون الوردي ليتناسب بشدة على بشرتها البيضاء وهي تخاطبها:

- هاي يا فندم ممكن أدخل .

كظمت غيظها الغير مبرر لترحب بها على مضض:

- اتفضلي يا....

- لينا يا فندم. 

قالتها على الفور لتكمل بتهذيب لا يناسب ما ترتديه من ملابس محكمة بشدة على قدها الممشوق، وهذه الجيبة التي لا تصل حتى لركبتيها لتُظهر عن ساقيها الرائعتين.

- استاذة كاميليا. 

اردفت بالأسم الفتاة لتلفت انتبهاهها، وقد بدا انها شردت في النظر إليها، استدركت كاميليا متحمحمة تظهر الجدية بقولها:

- نعم يا..لينا، كنتِ عايزة إيه بقى؟

ردت وهي تتقدم إليها تتهادى بخطواتها وبطرف كفها ازاحت شعرها الذهبي للخلف، وابتسامتها الرائعة لم تغادر ثغرها:

- كنت عايزة منك باقي المستندات والعقود يا فندم.

سألتها بجمود وهي تشير لها على الساعة الملتفة على رسخها :

- عايزهم ليه دلوقتي وميعاد الإنصراف من الشغل خلاص على وشك؟ ثم انت لحقتي تخلصي اللي فاتوا أصلًا؟

ردت لينا بابتسامة ازداد اتساعها:

- أنا فعلًا خلصتهم يا فندم ودلوقتي كنت عايزة الباقين عشان اخدهم معايا البيت واشتغل عليهم براحتي. 

صمتت كاميليا يكتنفها الذهول، بفعل هذه الفتاة وسرعتها في إنجاز عملها مع هذا الجمال المبهر الذي تتميز به، فقالت تشير لها بذقنها دون أن تكلف نفسها عناء رفعهم بيدها:

- اهم دول اللي قدامك، خديهم. 

دنت الفتاة تتناولهم فتساقط معها الشعر الحريري قبل أن ترفعم على الفور وتستقيم بظهرها مستئذنة لتخرج، وقد تركت خلفها رائحة عطرها القوية التي غمرت الغرفة، لتغمغم كاميليا بصدمة:

- يانهار اسود، ودي بيتعامل معاها طارق ازاي ؟

فركت على رأسها بيأس مقررة المغادرة وترك ما بيدها من عمل وقد ضاق بها وارهقها التفكير، لتفاجأ بدفع الباب فجأة قبل أن يلج منه خطيبها المزعوم، كارم .

تطلعت إليه قليلًا بدهشة لتسأله:

- إنت مخبطتش ليه يا كارم ع الباب قبل ما تدخل؟

أكمل بخطواته نحوها حتى أقترب يقبلها على وجنتها:

- وهاخبط ليه وانا داخل عند مراتي؟

قالها والتف بوجهه ينتوي تقيبلها في الأمام، فارتدت  سريعًا للخلف مبتعدة قائلة باعتراض:

- خلي بالك يا كارم احنا في المكتب. 

تقدم ليكرر المحاولة بجذبها من ذراعها يرد بثقة:

- وإيه يعني ما هو مكتبك يعني مش مكتب حد غريب؟

نزعت يده عنها بعنف قائلة بحدة:

- بلاش الأسلوب دا يا كارم معايا احسنلك .

توقف يضع كفيه في جيبي بنطاله، يتطلع إليها بغموض صامتًا، مما جعلها تتراجع عن حدتها :

- اَسفة لو اتعصبت عليك، بس معلش يعني ياريت متكررهاش تاني

رد بوجه جامد لا يظهر تقبله للإعتذار:

- ومكررش ليه هو انت مش مراتي برضوا؟

- مراتك ع الورق يا كارم، لسة مبقتش في بيتك.

هتفت بها بوجهه، ليقابل ردها بصمت مرة أخرى قبل أن يخاطبها بنبرة هادئة مريبة:

- أجهزي يا كاميليا عشان اروحك .

ابتعلت ريقها فهذا التحول الغريب بشخصيته دائمًا ما يثير بداخلها القلق، بالإضافة لإصراره في توصيلها في الذهاب والعودة ومحاصرته الدائمة لها باتصالته العديدة  طوال الوقت. 

أنهت سريعًا وخرجت خلفه من غرفتها لتصطدم عينيها على الفور، بهذه الفتاة وهي تخرج من الغرفة المقابلة ومعها طارق. 

- ودا امتى رجع ده؟

غمغم بالسؤال كارم ليفاجأ بالمذكور يبعت إليه التحية بابتسامة عريضة وهو يقطع الرواق مع هذه الفتاة التي تسير بجواره كطفلة فرحة مع والدها، ليسبقا باللحاق بالمصعد. 

تبسم كارم بجانبية ساخرة يقول لها عن قصد:

- مابيضعيش وقت.


❈-❈-❈ 


انت جيباني هنا ليه؟

هتفت بها غادة غاضبة نحو ميرفت التي ردت بهدوء تمتص غضبها:

- انا جيباكي هنا في بيتنا عشان نتفاهم يا غادة، ولا هي دي اول مرة تدخلي بيتنا .

حدجتها بنظرة ساخطة قبل أم تجيبها بنزق:

- لأ يا ستي دي مش أول ادخله، بس انا حكيالك اللي فيها وعن اللي اخوكي عمله معايا، يعني مينفعش أدخل لا يفتكرني وافقت ع اللي قالوا ولا بتمحك على جنابه وعايزه يصالحني.

أطفئت محرك السيارة ميرفت لترد بنبرتها الناعمة والتي دائمًا ما تنجح في إقناع الاَخرين 

- اسمعي مني يا غادة زي ما سمعت انا منك كل كلامك اللي فات، انا عارفة ليكِ حق، وانا بقى جيباك هنا بعيد عن عيون الناس عشان نتفاهم ونتكلم براحتنا .

صمتت غادة ترمقها بأعين متشككة فتابعت الأخرى:

- أوعدك يا قلبي إن مش هعمل إلا إللي يرضيكِ، انتِ صاحبتي ياغادة ولا لسة معرفتش الكلام ده .

رغم عدم شعورها بالأرتياح لمغزى هذه الزيارة معها لداخل بيت هذا الرجل الذي تركها في نصف الليل تعود وحدها لمنزلها بعد عرضه الدنئ لها، ولكن النفس الضعيفة بداخلها أبت ان تفوت ما تظنه فرصة للعودة وهذه الميرفت، تطمئنها بنظراتها التي ترسل لها مئات من الوعودًا والاَمال التي تود تحقيقها، حتى رضخت لتترجل وتدلف معها لداخل المنزل .


❈-❈-❈ 


- انا جيتلك اهو بسرعة ومتأخرتش عليكِ 

هتفت بها ميرفت وهي تتقدم إليها تحمل صنية من المشروب، لتضيفها بها، رد غادة وهي تهز بقدميها بالأسفل بعصبية مع جلوسها متكتفة الذراعين بتشنج، يكتنفها التوتر مع هذه الشعور المتزايد بالقلق بدون سبب:

- لو كنت اتأخرتي دقيقة تاني كنت هاسحب شنطتي وامشي على طول.

- ليه بقى وراكِ مشوار مهم؟

تفوه بها المدعو ماهر وهو يهبط الدرج بالقرب منها، انتبهت عليه غادة لتنهض على الفور ترد بعنف:

- لأ طبعًا، دا عشان مشوفش وشك. 

اوقفتها سريعًا ميرفت تجذبها من قماش سترتها، تخاطبها بمحايلة:

- اهدي عشان تتفاهموا يا غادة وبلاش شغل العيال الصغيرين ده.

هدرت بها بعنف:

- انا بعمل شغل عيال صغيرين؟

رد ماهر من الناحية الأخرى ببرود وهو يجلس مسترخيًا على اَريكته:

- طبعًا أكيد مدام بتشوفيني وتجري ولا اكني هكلك حتى.

غلت الدماء بعروقها لتنفض ذراع ميرفت عنها وتتجه إليه قائلة بعنف:

- وعايز رد فعلي يبقى إيه ان شاء الله معاك لما تعرض عليها اتجوزك بورقة وبعدها تسيبني ارجع في نص الليل من غير ما تفكر حتى في اللي ممكن يحصلي وانا راجعة لوحدي .

تدخلت ميرفت تدعي قول الحكمة في مخاطبة اخيها:

- لأ في دي عندها حق يا ماهر، إنت ازاي تعمل كدة بجد؟

رد الاَخير يجاري شقيفته في التمثيل:

- ما هي السبب يا ميرفت، زعقتلي وفضحتني قدام كل اصحابي اللي عرفوني، على الطلب اللي طلبته منها  في لحظة سكر، مكنتش فيها بوعيي .

صاحت عليه غادة بعدم تصديق:

- نعم مكنتش في وعيك ازاي بقى يا حبيبي، دا انت تبلع المحيط ولا يأثر فيك، إنت هتعملهم عليا؟

صك على فكه ماهر يكتم غضبه بمواجهة هذه المعتوهة ولسانها الذي يردف بالخطأ، وتمالك يشاهد شقيقته وهي تُهادنها بالكلمات الناعمة حتى أقنعتها بالجلوس:

- انا جيبتكم ياغادة عشان تتفاهموا، خدي اشربي العصير يا قلبي يهديك ويروق مزاجك شوية .

تناولت منها تجترع الكوب سريعًا لتهدئ قليلًا من ثورة غضبها، ولم تدري بهذه الابتسامات والنظرات التي يتبادلها الشقيقان. 


❈-❈-❈ 


على اَريكته الاَثيرة بوسط الصالة الكبيرة التي توسطت المنزل، كان مستلقيًا عليها بنصف نومة ونصف جلسة واضعا حاسوبه على أقدامه، يتابع اعماله واخبار البورصة من محله هنا بالمنزل بعدة أن حرم بأمر مباشر من الأطباء من الإجهاد في الذهاب إلى مقر اعماله وقد تولى ابنه المسؤلية عنه بالإضافة إلى شركائه الجدد من الشباب كمصطفى عزام، حتى رفع عن كاهله حملًا ثقيلًا، ولكنه عقله لا يهدأ عن المتابعة بنفسه، لقد تعود على ذلك، يعشق عمله ولا يستطيع التوقف عنه أبدًا. 

- يا عامر يا عامر .

التف برأسه للخلف نحو الدرج الذي كانت تهبط منه زوجته والتي واصلت بهتافها بعد أن استرعت انتابهه:

- إيه رأيك يا عامر؟ ده ولا ده ؟

أسقط نظارته على اعينه لينظر جيدًا لما تشير إليه، ليرى فستانين بعلقاتهم ممسكة بهم ترفعم امامه بمستوى نظره، حرك رأسه يخاطبها بعدم فهم :

- قصدك إيه مش فاهم؟

زمت فمها بعدم رضا، لتهبط الدرجات المتبقية وهي ترد مع اقترابها منه:

- بسألك يا عامر عن رأيك، تفتكر اي واحد فيهم هايلقلي أكتر من دول، دا اللي لونه ازرق ؟

قالتها وهي تشير بأحدهم قبل أن تبدل لتُشير بالاخر:

- ولا دا اللي لونه تركواز؟

تمعن النظر في الفستانين جيدًا قبل أن يجيبها:

- هما الاتنين حلوين يا لميا وانتِ أي حاجة بتليق عليكِ أصلًا، المهم بقى انتِ عايزة تلبسيهم في أيه؟

قضمت شفتيها السفلى لتقول بحرج قد كسا وجهها قبل ان تجيبه بتردد:

- ما هو دا اللي كنت جاية أكلمك فيه، بصراحة كدة بقى، النهاردة كتب ميري وهي اتصلت بيا عشان اروحلها واحضر معاها.

عقد حاجبيه وتجعد جبينه بشدة ليسألها بصدمة تعلو ملامحه:

بعد كل اللي حصل منها يا لميا في حقنا وحق ابنك، مع اللي اسمها ميرفت دي، وانت لسة برضوا على تواصل معاها؟ لأ وبيتعزمك كمان على فرحها؟

أخذت شهيقًا طويلًا تجسر نفسها قبل أن تجلس بجواره على ذراع الاَريكة لترد على قوله بالقرب منه:

- على فكرة يا عامر انا عارفة كل اللي بتقوله ده، واوعى تفتكر إني ناسية ولا سهيت عن اللي حصل، انا بقالي فترة طويلة لا بكلمها ولا برضى ارد عليها، بس بقى لما قابلتني من كام يوم في النادي، وكلمتني عن كتب كتابها وإن مالهاش حد تقريبًا يقف معاها في المناسبة دي، بصراحة صعبت عليا أوي..... انا عارفة انها مجنونة ومافيهاش عقل يميز الصح من الغلط .

هتفت بالاخيرة توقفه قبل أن يقاطعها، لتتابع بلهجة لينة:

- هي فعلا ملهاش حد غيري يا عامر، دا غير ان والدتها وصتني عليها قبل ما تموت .

صمت يتطلع إليها بوجه متجهم ثم ارتخي تشنجه قليلًا قبل أن يردف إليها عن اقتناع بضرورة فعل كل إنسان بأصله، حتى لو كان هذا المعروف لا يقدره الاَخرون:

- ماشي يا لميا روحي واعملي اللي عليك، مش همنعك.

سمعت منه لتهلل بمرح وهي تقبله على وجنته قائلة:

- ربنا يخليك ليا ولا يحرمني منك أبدًا يا احلى عامر انت.

استجاب لها بابتسامة صفراء حتى انتهت ونهضت من جواره ليغمغم من خلفها بصوت خفيض مستغلًا أنها ولت عنه بظهرها:

- على الله بس تعمر في الجوزاة دي، بعد ما لافت ع الواد الأجنبي الغلبان ده.


انتبه فجأة على أصوات الجلبة التي أصدرها جاسر بدلوفه للمنزل بصحبة زهرة بعد عودتهما من الطبيبة النسائية التي تتابع معها الحمل، تهلل وجه عامر وارتسم عليه السرور، فهتف بلهفة بعد أن ضاق من انتظاره لهما: 

- اَخيرًا وصلتوا، هو انتوا اتأخرتوا كدة ليه؟ 

توففت لمياء عن الذهاب هي الأخرى لتتابع رد جاسر وهو يقترب بزوجته من أبيه:

- ما تأخرناش ولا حاجة يا عم، دا بالعكس بقى، احنا دخلنا على طول، انت بس اللي معندكش صبر يا عامر باشا.

- ايوة يا اخويا معنديش ولو كان عاجبك. 

تفوه بها عامر نحو ابنه بامتعاض قبل أن يلتف لزهرة التي جلست بالقرب منه يخاطبها:

- وانتِ بقى يا قمر، قوليلي إيه الأخبار؟

تبسمت له زهرة بصمت لتخرج له من حقيبتها صور للجنين وقد اتم الاَن شهره الرابع، تناول منها عامر ليسأل بعدم تصديق:

- يا ولاد الأيه، دي صورة النونو صح؟

أومأ له الاثنان برؤسهم مع تبادلهم الابتسامات المرحة، فهتف عامر بفرحة تصدرت بقوة في نبرة صوته:

- يا حبيب قلب جدك انت، دا حلو أوي يا جاسر .

جلس جاسر بجوار زوجته يضمها من كتفها بذراعه، وهو يتابع الفرحة على وجه أبيه، غافلين عن لمياء التي اقتربت تشب بأقدمها من محلها، لترى الصورة التي يُقبلها زوجها، تدفعها الحاجة الشديدة لمشاركتهم اللهفة والفرح، ولكن يوقفها هذا الشئ بداخلها، فهي لا تريد اظهار ضعفًا ولا تنازل عن موقفها أمامهم، تحركت قدميها فوجدت نفسها تبادر بحديث مختلف عما يدور بداخلها:

- على فكرة يا جاسر، انا شوفت صاحبك النهاردة، هو رجع امتى من سفره؟

التف إليها جاسر يجاريها في الحديث رغم تركيزه لاتجاه ابصارها:

- قصدك طارق، ما هو فعلا رجع امبارح.

هتف عامر من بينهم:

- بس الواد صغير اوي، هو انتِ ما بتتغذيش كويس يا بنت انتِ ولا إيه؟

قالها لزهرة التي ضحكت تجيبه:

- لا والله يا عمي بتغذى كويس واسأل ابنك كمان، بس هو دا حجمه الطبيعي على فكرة، دا عمره اربع شهور.

- برضوا لازم تهتمي أكتر من كدة، انا عايزه ينزل للدنيا، حلو ومقلوظ كدة فاهمة ولا لأ؟

شدد على قوله بإصرار اثار مرحها لتومئ له برأسها تنفيذًا لمطلبه، وتابعت لمياء بالحديث المختلف، ويدها تتحرق لتتناول الصورة من عامر:

- دا حتى كان معاه لينا يا جاسر سكرتيرتك القديمة فاكرها؟

أجابها جاسر بتذكر:

- اه طبعًا فاكرها، دا انا حتى كنت ناوي ارجعها تاني تمسك بدال زهرة في شهور حملها، لكن عم طارق بقى سبق 

تدخل عامر وقد تذكر هو أيضًا:

- أوبا، انتو تقصدوا لينا أم عيون فيروزي؟ يا نهار أبيض دي صــ اروخ أرض جو يا جاسر .

التفت إلى زوجها زهرة بحدة، وملامح وجهها تحولت كطقة متوحشة تنتظر الهجوم لتنبش مخالبها به لتسأل بخطورة:

- هي مين دي اللي صــ اروخ أرض جو وكنت هاتجيبها مكاني يا جاسر؟

تحمحم الاَخير يحرك مقلتيه حولها بقلق حتى تنتبه لأبويه، ورد بلهجة جعلها رزينة حفاظًا على هيبته:

- انا كنت هجيبها عشان شطارتها مش لأنها صــ اروخ أرض جو زي ما بيقول والدي. 

رد عامر بنبرة خبيثة يدعي التغافل عن شرود لمياء بتركيز في صورة الجنين التي بيده:

- صدقيه يا زهرة، هي فعلآ بنت شاطرة وممتازة، دي لهلوبة.


❈-❈-❈ 


تنظر للأعلى نحو السقف بإعجاب وانبهار يكاد يخرج بعينيها التي توسعت بشدة:

- يا لهوي، دي النجفة بتاعتكوا كبيرة قوي قد الحيطة، واللمض اللي فيها كتيييير، مين اللي عملها؟

وجهت السؤال لهذا الذي يتطلع إليها بابتسامة تعلو فمه، قبل أن تصدمة بالسؤال التالي:

- لكن انتو عندكوا برص بيقف ع الحيطة زي اللي في بيتنا برضوا ؟

توقف قليلًا مضيقًا حاجبيه يستوعب السؤال قبل أن ينفي برأسه ضاحكًا:

- لأ معندناش، ابقى تجيبلنا من عندكم هههه

أومات تحرك رأسها بعدم فهم لتكمل في التجول على كل ركن بالمنزل بخطوات غير متزنة كانت تضطره في بعض الأوقات لمساندتها ، كي يستمع لما تلقيه إليه من  ملاحظات تزيد من مرحه، ليواصل بضحكاته حتى هتفت عليه شقيقته بعد أن ارتدت ملابسها سريعًا:

- طب انا همشي بقى يا ماهر 

ترك غادة ليقترب من الأخرى يسألها:

- انتِ هتمشي وتسبيني لوحدي معاها يا فيفي؟

القت عليها نظرة ساخرة قبل أن تعود إليه قائلة:

- وماتقعد معاها لوحدك يا سيدي هو انت هتخاف، دي حتى عاملة دماغ زي الفل وهتسليك. 

رد بابتسامة مضطربة رغم مرحه:

- تمام يا ستي انا موافقك والله، بس بصراحة بقى خايف لا يجي من وراها قلق .

ضحكت بقوة حتى مالت رأسها للخلف قبل أن تجيبه:

- يجي القلق ازاي بس ياقلبي؟ وهي داخلة برجليها بيتنا، يعني محدش ضربها على إيدها، وحتى لو حاولت زي انت ما بتقول، مش هتضر غير نفسها برضوا.

أومأ لها ماهر بابتسامة مقتنعة لتكمل هي:

- عيش انت بس اللحظة، وسجل عشان هو دا المهم ليا أنا.

اشار لها بسبابته على عينيه بمعنى الموافقة فتحركت للذهاب مردفة:

- تمام اوي، اروح انا اللحق كتب كتاب ميري، دي إكيد هتقتلني لو اتأخرت اكتر من كدة .

أنهت بقبلة تبادلتها معه في الهواء، قبل أن تغادر بخطواتها السريعة، لتتركها فريسة سهلة المنال مع شقيقها حتى تحقق بعد ذلك الهدف من وراء كل ذلك .

وصلت لتعتلي سيارتها وقادتها بسرعة تختفي بها نحو وجهتها.

لتثير الشك بقلب هذا الحارس الخاص لشقيقها المدعو رعد ، والذي تسمر محله ينتقل بعينيه كل ثانية نحو مدخل المنزل ينتظر خروج هذه الفتاة التي دلفت معها، منذ قليل، وقد بدأ يساوره القلق.


❈-❈-❈ 


أنهى مكالمة خاصة بعمله قبل أن يعود إليها يشاركها هذا الوقت القليل في مشاهدة التلفاز، قبل خروجه لحضور لقاء مهم مع أحد العملاء.

-خلصتي المسلسل بتاعك؟

اردف بها وهو يتكئ بجوارها على اَريكتها، لتتوقف الكلمات بحلقه، مع انتباهه لهذه النظرة الغريبة التي ترمقه بها:

- زهرة هو انتِ تعبانة ولا في حاجة مدايقاكي؟

ظلت على صمتها وهذه السكون يثير قلقه، فتابع بقوله:

- يا بنتي ما تردي عليا وانا بكلمك ، ساكتة ليه؟

تكتفت فجأة تأخذ وقتًا في التفكير بعمق قبل أن تسأله بصوتها الخفيض على تردد:

- هي اللي اسمها إيه دي... ام عيون فيروزي، حلوة قوي كدة زي ما بي بيوصفها عمي.

ارتفع حاجبيه وانخفضا سريعًا باستدراك، فتحمحم يحاول انتقاء الكلمات حتى لا يسهو بكلمة ويقع في الخطأ:

- حلوة ولا وحشة يا زهرة، دي في الأول والآخر كانت موظفة عندي، زيها زي أي واحدة بتشغل في المجموعة انا مليش دعوة بشكلها. 

كانت تستمع إليه فاغرة فاهاها بتحفز ، حتى إذا انتهى سألته على الفور:

- طب بصراحة كدة ومن غير زعل، هي البنت دي كانت من ضمن البنات اللي.. مشيت معاهم.

اعتدل بجلسته على الفور ينفي لها برأسه:

- لا يا زهرة لينا مش كدة خالص، دي بنت أصول أساسًا وهمها غير في شغلها وبس، دا غير انها في وقت ما كانت بتشتغل عندي، كانت لسة بتكمل تعليمها الجامعي، لينا محترمة وممتازة و....

- ولهلوبة. 

اردفت بها تضيف على قوله قبل أن تتغير ملامح وجهها  لتكمل هاتفه بغضب:

- دا انت ناقص تقول فيها شعر يا جاسر!

تلجم ينظر لها بازبهلال، يراجع بذاكرته إن كان أخطأ في قوله لها وتابعت هي بلوم :

- ما ترد يا جاسر على كلامي سكت ليه؟

تردد يبحث عن إجابة جيدة، وقد انتابته حيرة الاختيار لا هو بقادر على ذم الفتاة ولا المدح فيها، وطبع  زوجته المتغير هذه الأيام لا يسهو عن كلمة واحدة حتى، ارتفعت عينيه إليها فجأة ليجد هذا الترقب في خاصتيها ليــ نفجر ضاحكًا، مما زاد باشتعال غضبها وهي تهتف بالكلمات الحانقة عليه وعلى بروده، قبل أن يحاوطها بذراعيه مرددًا بين ضحكاته:

- يخرب بيت الهرمونات يا شيخة. 


❈-❈-❈ 


بفستان أبيض طويل انساب على جســ دها الرشيق بنعومة، مفتوح من الأمام اعلى الركبة ويغطي هذا الجزء المكشوف طبقة كبيرة من الشيفون المطرز بالورود، ومثله كان في أعلى الظهر من الخلف مع فتحة كبيرة في الأمام، بذراعين مكشوفين، التفت حول المراَة شاعرة بالزهو، فبرغم كل حذرها مع رائد ولكن غلبها طبعها لتختار هذا الفستان ضمن مجموعة راقية لأشهر المصممين في أروربا، لترى هيئتها الاَن وهي تشبه النجمات مع قصة شعرها الجديدة ومكياج كلفها الاف الجنيهات، شعور بالفرح يغمرها ليس له مثيل 

- ها إيه رأيك بقى يا خالتو؟

هتفت بها نحو لمياء التي تسمرت عينيها فوقها بإعجاب، وقد داعبت ميري بهيئتها هذه الجزء المتحكم بها دائمًا وهي المظاهر المبالغ فيها، تداركت الوضع الجديد معها فردت ببعض التكلف:

- جميل يا ميري ربنا يتمم بخير .

لم تعجبها المذكورة هذه الإجابة المقتضبة فهتف مرة أخرى تلتف إليها تتابع بقولها:

- جميل وبس يا خالتو، طب مقولتش يعني رأيك في التسريحة ولا المكياج simple مثلا ، طب خدتي بالك من العقد دا من الطقم الجديد اللي جبهولي رائد هدية.

أومأت لها لمياء تردد على مضض، وهي ترى فعل ميري للفت نظرها لهذه الأشياء غير مستحب:

- ما انا قولتلك يا ميري ربنا يوفقك يا حبيبتي .

تدخلت ميرفت متحدية لمياء التي تتعمد تجاهلها منذ أن أتت:

- إنتِ مش محتاجة شهادة يا ميري، انت كل حاجة فيكي روعة النهاردة .


التفت إليها ميري تقول بدلال مع هز أكتافها:

- مرسي يا قلبي، عقبالك يا ميرفت، ما هو زي ما انا ربنا عوض عليا بالجوازة اللي تجنن دي، أكيد انتِ كمان هتلاقي اللي يقدرك ويبوس التراب اللي بتمشي عليه.

سمعت منها الأخرى لتقترب وتبادلها قبلة لم تتطال وجنتها جيدًا من خفتها، لتردف لها :

- يا حبيبة قلبي انتِ، ما يحرمنيش منك يارب. 

أشاحت لمياء بوجهها عن ميوعة الاثنتان بالتمثيل الذي يصيبها بالتقزز، بعد أن شاركتهن غرفة واحدة مع تجهيز ميري، فقالت تقطع وصلة العواطف لهن:

- طب ممكن توقفوا شوية عشان نشوف العريس وأهله وصلوا ولا لسة ولا نعرف حتى ميعاد كتب الكتاب مع المأذون. 

همت ميري لتهتف على الخادمة ولكن ميرفت أوقفتها:

- انا هروح اشوف واطمن بنفسي، خليكي مكانك يا ميري .

- تمام ياقلبي .

قالتها ميري تبادلها ابتسامة فرحة، قبل أن تخرج الأخرى لتتابع من أعلى الدرج في الطابق الثاني، وصول الضيوف الذين أتو مع العريس وأبيه السفير، وبعض الرجال والنساء من أسرتهم، وأبيها الذي اتخذ مكانه بجوار المأذون، وبجواره بعض الرجال الذين تبقوا لمصلحتهم معه، وقد ذهبت عنه الوزارة وذهب الصخب وصيت اسمه الذي كان يملأ العالم.

ثم توقفت عينيها فجأة على أحد الاشخاص والذي جلس بزاوية وحده بعيدًا عن الجميع.. لتكتم شهقة مفاجأة تحولت بعد ذلك لضحكات خبيثة بعد أن تبينت بهوية الشاب رغم ارتدائه لحلة بعيدة عن مظهره في العادة، لتردد مندهشة بابتسامة متسلية:

- مارو ! ودا عرف يدخل هنا ازاي؟


تكملة الرواية من هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close