![]() |
الفصل الاول والتاني بقلم رضوي جاويش
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات
١-القربان
وقفت العربة رباعية الدفع السوداء امام البناية المقصودة ليطل منها هو ناظرا لها بتردد و أخيرا تنهد و اسند جبينه على عصاه في قلة حيلة يتساءل هل ما سيقدم عليه الان صحيح .. ام لا ..!؟.. دوما ما كان يحكم الشرع و الأصول و الأعراف في كل ما يقوم به من أفعال .. لكن ما يهم بفعله الان لا يجد له تصنيفا في ايهم .. لكنه رغم عن ذلك هو مضطر لفعله ..
همس سائقه و كاتم أسراره مناع بصوت هادئ و هو مدرك تماما لتلك العاصفة العاتية التي تجتاح نفس سيده وولى نعمته :- مش هتنزل يا عفيف بيه ..!؟.. العمارة بتاعت الباشمهندس اهى ..
رفع عفيف جبينه من فوق كفيه المتشابكتين فوق الرأس المعقوف لعصاه هامساً بما يعتمل بصدره لمناع :- و الله ما اني عارف يا مناع اللى هنعِمله دِه صح .. و لا عملة شينة هنتعيروا عليها العمر كله ..!؟
همس مناع بدوره :- يا عفيف بيه .. ما اللي حُصل برضك مش هين .. و انت باللي بتعمله بتمنع المصيبة الكَبيرة واللى بچد ممكن نتعيروا بسببها العمر بطوله و تطول عيال عيالنا كمان يا بيه ..
هز عفيف رأسه متفهماً و مدركاً لصدق حديث مناع و حقيقة ما همس به ..
تنهد من جديد و قد استقر به الامر ليندفع خارج السيارة و خلفه مناع لداخل البناية و التى جاءا خصيصا اليها ليمنعوا ما لا يمكن منعه او الوقوف امام طوفانه ..
**********************
وقفت في حيرة امام خزانة ملابسها لا تعرف ما عليها انتقائه لتضعه في تلك الحقيبة المشرعة أمامها على طول الفراش
كل ما يدور برأسها الان هو انها لن تستطيع وداع اخيها الوحيد قبل سفرها المحدد له بعد الغد صباحا .. فها هي تجد نفسها مضطرة للسفر بديلا عن احدى زميلاتها الطبيبات لذاك المؤتمر بالخارج نظرا لظروف ألمت بها .. و ها هي متحيرة في كم الملابس و نوعها و المفترض وضعها في حقيبتها حتى يتنسنى لها الاهتمام بالامور الأخرى الخاصة بشقتهما .. تلك الشقة هى ميراثهما الوحيد من والديهما الراحلين و التي سكنتها معهما و أخيرا مع اخيها الذى يعمل الان مهندسا للرى معين حديثا بإحدى مدن الصعيد ..
تنهدت وهي تندفع خارج الغرفة باتجاه المطبخ لتصنع لنفسها كوبا من الشاي الساخن لعله يمنحها بعض الدفء وتساءلت ماذا ستفعل في تلك البلاد الباردة التي هى في سبيل السفر اليها عما قريب وهي لا تحتمل البرد بهذا الشكل و ابتسمت و هي تحتضن كوب الشاي الذي صنعته على عجالة متخيلة نفسها أشبه بتلك الدجاجة التي تحتفظ بها في المبرد و هي وسط ذاك الثلج الذى يحيطها من كل جانب في تلك البلد الاروبية الباردة..
جلست تضع شالها الصوفي يضم كتفيها والذي كان يوما ما لأمها و فتحت التلفاز لعلها تأنس بما يصرف عنها ذاك الشعور القاتل بالوحدة ..
و لكن لم يفلح اي من تلك المشاهد المعروضة على الشاشة في جذب انتباهها لتسرح كعادتها في ذكريات الماضى الذى تزخر به أركان تلك الشقة العتيقة ..
رحل والداها تباعا لتصبح هي المسؤولة عن اخيها الذى لا تكبره الا ببضع سنوات .. أصبحت الام و الأب له في مرحلة خطيرة من حياته .. لكنه لم يخيب ظنها وكان دوما نعم الأخ العاقل المستقيم أخلاقيا و دينيا والذي كانت تفخر به دوما في كل محفل مؤكدة على الرغم من فارق العمر البسيط بينهما انه ابنها و ليس اخيها ..
لكم تفتقده ..!؟..
يغيب كثيرا منذ جاء تعيينه في تلك البلدة البعيدة فلا تره الا عدة ايّام كل شهر او ربما اكثر .. وخاصة في الآونة الأخيرة اصبح يمر اكثر من شهر و نصف الشهر حتى ينعم عليها بزيارة لا تستغرق يومين لا تسمن و لا تغنى من جوع .. اه لو يعلم مقدار اشتياقها لمحياه و مجلسه الذى لا يخلو من المزاح و المحبة!؟..
تنهدت و هي تتذكر عتاب احدى صديقاتها
"... لما لا تتزوجي ..!؟.. هل عدم الرجال أنظارهم ..!؟.."..
و كم ظلمت الرجال ..!! .. فالعيب فيها لا في الرجال .. فهى لم تعدم إطلاقا وجودهم بحياتها .. و كم تقدم لها الطالب تلو الاخر يتمنى الاقتران بها لكن هى من كانت ترفضهم بحجج مختلفة كان أولها اخيها و دراسته و انها كرست حياتها لخدمته حتى يقف على قدميه ويشق طريقا لمستقبله .. و ها قد فعل ..!؟.. فما حجتها الان ..!؟..
الجميع يعلم انها على مشارف الثلاثين .. و انها بحكم عادة المجتمع الغبية هي الان على وشك الحصول على كلمة عانس و الدخول الى نادى العنوسة المجتمعي بجدارة .. فلا امل قريب في الاقتران بمن تراه مناسب قبل بلوغ هذه السن المخيفة ..
ابتسمت في حسرة و هي تهمهم .. ان لا احد يدرك .. و لن يدرك بطبيعة الحال ان السبب الحقيقى في عزوفها عن الزواج هو رغبتها الدفينة و التي تحتفظ بها في أعماق قلبها .. انها تتمنى لو تتزوج عن قصة حب عميقة و رائعة كتلك التي عاشها أبواها ..
ذاك السر الذى لم تطلع عليه حتى اقرب صديقاتها زينب وظلت تحتفظ به داخلها تغذيه يوما بعد يوم بأحلام وردية و حكايات من نسج خيالها عن فارس أحلامها .. كانت تشعر انها ستنال التقريع الشديد من صديقاتها ان أخبرتهم بذلك .. و تحاشت ان يتهموها بأنها لازالت ترفل في أحلام المراهقة و ان ذاك ليس تفكير طبيبة تعيش فى مطلع التسعينيات من القرن العشرين بل انها احلام فتاة من مطلع القرن الماضي .. و ان عليها النظر حولها للواقع الذى ينتظرها وليس الأحلام التى تُغرق صاحبها في التعاسة عندما يتأكد من صعوبة تحقيقها و يصطدم بالواقع ومجرياته ..
تنبهت ان كوب الشاي بين كفيها قد برد وهى لم تتناول نصفه تقريبا .. همت بالنهوض الى المطبخ مجددا الا ان جرس الباب علا رنينه لتستدير عائدة لتفتحه و هي تلتقط حجابها من على المقعد المجاور لباب الشقة .. رفعت قامَتَها القصيرة نسبيا لتنظر من تلك العين السحرية التى اصر نديم اخيها على تركيبها بالباب منذ امد بعيد حتى يصمئن بأنها لن تفتح الباب لغيره عندما لا يكون بالمنزل وخاصة عندما كان ينسى مفتاحه كعادته ..
تطلعت عدة مرات في حيرة من تلك العين فلم تر بوضوح من يكون بالخارج ..
هتفت بخوف من خلف الباب :- مين بره .!؟
تكلم عفيف بلهجة هادئة لا تعكس مطلقا خبايا نفسه :- سلام عليكم .. افتحي يا داكتورة عايزينك ف كلمتين ..
هتفت بنبرة ترتعش خوفا :- إنتوا مين ..!؟ و كلمتين ايه اللى إنتوا عايزيني فيهم ..!؟..
هتف عفيف من جديد :- عايزينك بخصوص الباشمهندس نديم ..
كان ذكر اسم اخيها هو كلمة السرالتي جعلتها تنتفض في ذعر لتفتح الباب بلا وعي و خاصة عندما ادركت انهم من الصعيد حيث يعمل اخوها وهتفت في قلق بالغ و هي تشرع الباب :- ماله نديم!؟.. هو بخير ..!؟.. أوعى يكون حصله حاجة!؟..
تطلع اليها عفيف للحظة قبل ان يحيد بناظريه عنها تأدبا و هو يهتف :- متجلجيش يا داكتورة .. هاتعرفى كل حاچة .. بس مينفعش ع الباب كِده ..
تنبهت انها لاتزال على عتبة الباب واقفة في ذعر و هو يقف في هدوء بجلبابه و عمامته وعصاه التي تسبق موضع قدماه بخطوة و خلفه يقف احد مرافقيه كأنه ظل له ..
ترددت هل تسمح لهما بالدخول ام لا .. و خاصة انها بمفردها بالشقة و حتى خادمتها التى تعينها بأعمال المنزل من وقت لأخر ليست هنا ..
ادرك هو ما يعتمل بنفسها من صراع ليهتف مؤكدا :- انا مش هاخد من وجتك كَتير يا داكتورة و مناع .. و أشار لمرافقه .. هيدخل معاي .. وهجولك المفيد و نتوكلوا ع الله ..
كان فضولها و رغبتها في معرفة كل ما يخص اخيها اكبر من اي قلق او صوت تحذيري همس داخلها يردعها ..
تنحت جانبا مفسحة لهم الطريق في محاولة لوأد التحذيرات التى تصدح عاليا بجنبات صدرها و تركت الباب مفتوح و الذى وقف مناع على عتباته كحارس لن يتزحزح عن موضعه حتى يأذن سيده بذلك.. عادت ادراجها للداخل حيث وجدت عفيف يقف في منتصف الردهة لا يحرك ساكنا ..
همست محاولة تلطيف الأجواء :- اتفضل .. تحب تشرب ايه ..!؟..
هتف عفيف بلهجة محايدة :- احنا مش چايين نضايفوا يا داكتورة ..!؟ فين اخوكِ الباشمهندس نديم ..!؟..
هتفت بذعر :- نديم ..!؟.. ليه ..؟!!. هو مش المفروض عندكم ف الصعيد ..!؟.. مش إنتوا برضو من البلد اللى اتعين فيها بقاله سنة ..!؟..
أومأ عفيف برأسه مجيبا :- ايوه .. هو كان متعين في بلدنا مهندس ري لحد امبارح …
هتفت في ذعر :- يعنى ايه ..!؟.. راح فين وعملتوا فيه ايه ..!؟..
هتف عفيف بلهجة باردة :- انتِ اللى هتجوليلنا راح فين يا داكتورة دلال .. مش دلال برضك ..!؟..
اومأت برأسها إيجابا و هي تهتف في تعجب:- أدلك ازاى على مكانه و انا معرفش هو فين أصلا ..!؟.. و بعدين انت عايزه ليه من أساسه!؟.. اخويا عمل ايه عشان تيجى تدور عليه بالشكل ده ..!؟..و انت مين م الأساس ..!؟..
جلس عفيف في نزق هاتفا :- ان كان على انا مين ..!؟.. فأنا عفيف النعماني .. كبير نچع النعمانية اللي اخوكِ شغال فيه .. و ليه بدور عليه!؟.. عشان المصيبة الكَبيرة اللى عملها و اللي لو ملحجنهاش هتضيع فيها رجاب و أولهم رجبة المحروس اخوكِ..
شهقت دلال في رعب و لم تعلق للحظات محاولة استيعاب الامر برمته ..الا ان عفيف لم يمهلها لتستفيق حتى من صدمتها بل اندفع باتجاه الردهة الداخلية التى تشمل غرف المنزل ..
هتفت هي في تعجب :- انت رايح فين .. !؟،..هي وكالة من غير بواب ..!؟..
لم يستمع لندائها او اعتراضها بل اندفع يفتح جميع الغرف في ثورة عارمة حتى وصل أخيرا لغرفتها ليطالع الحقيبة المفتوحة على الفراش مؤكدة ان احدهم كان في سبيله للرحيل بدوره .. لمعت في رأسه الفكرة ليجز على أسنانه في غيظ هاتفا بصوت كالفحيح من بين شفتيه المطبقتين تقريبا و هو يستدير ليطالع دلال التى كانت في أعقابه تحاول منعه من اقتحام حرمة منزلها بهذا الشكل السافر :- جلك اهُربى جبل ما نوصلولك .. مش كِده ..!؟..
تراجعت خطوة للخلف في هلع من مرأى الغضب الكامن في حدقتيه الفحميتين ..
وردت في حروف متقطعة :- اهرب ايه .!؟ و اهرب ليه من أساسه ..!؟..
هتف عفيف بصوت كالرعد :- تهربي عشان تداري ع المصيبة اللى اخوكِ وجع فيها حاله .. و هيوچعنا كلنا وياه .. هو مش عارف هو هيچر علينا ايه باللى عِمله دِه ..!!
تجرأت و سألت في تردد:- معلش بس هو اخويا عمل ايه لكل ده ..!؟. اعرف بس ..
همس بنبرة مشتعلة بالقهر :- اخوكِ يا داكتورة هرب وَيَا اختي الصغيرة .. و الله و اعلم ايه اللى حصل دلوجت ..
شهقت دلال من جديد هامسة :- نديم مش ممكن يعمل كده ..
هتف في غضب :- لااه .. عِمل .. وهي اللى چالت الكلام دِه بنفسها .
واخرج من جيب جلبابه ورقة مطوية ألقاها باتجاه دلال التى تلقتها في عجالة و فضتها لتقرأ اعتراف المغفلة الصغيرة اخته بالحب..
انها تحب نديم وقررت الهرب معه بعيدا رغبة في الحفاظ على ما بقي من حقها في اختيار شريك حياتها و حتى لا تُغصب على الزواج من احد أبناء عمومتها حتى ولو لم يكن مناسبا لها او لا تحبه ..
أغلقت دلال الخطاب و نظرت الى ذاك الواقف كالطود بحجرتها لتشعر فجأة ان ابعاد الغرفة نفسها قد تغيرت و تبدلت بشكل عجيب ..
همس ساخرا :- هااا.. صدجتى يا داكتورة ..ايه رأيك في عمايل اخوكِ ..!؟..
هتفت مدافعة :- اخويا متربى و مش ممكن يعمل كده ..!؟.. ده تربيتى .. نديم لا يمكن يعمل كده ..
انفجر عفيف ضاحكا بسخرية :- تربيتك ..!؟ و الله وتربيتك زينة يا داكتورة ..عرفتى تربي صحيح ..
لتهتف هي بغضب كان المرة الأولى الذى يظهر جليا بصوتها منذ قدومه :- اعتقد تربيتى لأخويا اللي مش عجباك متفرقش كتير عن تربية اختك اللى هربت معاه..
ساد الصمت للحظات كانت نظرات كل منهما للاخر كفيلة بقتله حيّا .. وأخيرا قطع عفيف ذاك الصمت مندفعا باتجاه الحقيبة التى كانت ممتلئة لمنتصفها تقريبا بالملابس من كافة الأنواع و الأشكال ليغلقها بعنف هاتفا :- هما دجيجتين تچهزي فيهم حالك و تلبسي و أهي شنطنتك چاهزة ..
اندفعت هاتفة بحنق :- اروح فين!؟..واجهز ايه ..!؟.. انت اكيد جاى تهزر!؟.. انا مسافرة مؤتمر طبى مهم جدا بكرة ..
هتف بلهجة جزلة :- مؤتمر مهم !؟ اكيد مش اهم من حياة اخوكِ و اللي ممكن يحصل له بعد العملة السودة اللى عِملها ..
تنهدت و قد ادركت انه يعلم تماما نقطة ضعفها فهمست بقلة حيلة :- يعنى انت عايز ايه دلوقت ..!؟.. اخويا و انا معرفش مكانه و معتقدش انه عمل اللى انت و اختك بتقولوه ده .. مش يمكن بترمي بلاها عليه !؟ ..
جز على اسنانه غاضبا :- و الله لو راچل اللى جال الكلمتين دوول لكان زمانه مدفون بمطرحه .. اما مكان اخوكِ .. سواء عرفاه ولا لاااه .. لما يعرف انك عندينا هايجي زاحف.. وساعتها هعرف مكان اختى .. و الحساب يچمع ..
قال كلمته الأخيرة في لهجة جعلت البرودة تسري بأوصالها ويرتعش لها بدنها كله ..
وأخيرا اندفع خارج الغرفة وهو يهتف في لهجة امرة :- هستناكِ بره يا داكتورة .. شهلى لسه الطريج طويل و ماجدمناش النهار بطوله..
عاد لموضعه الأول مع مرافقه الذي لم يبرح مكانه في الردهة الخارجية بينما أغلقت هي باب حجرتها لا تعرف ما عليها فعله و لا كيف يمكنها التصرف ..
نظرت للحقيبة المغلقة أمامها على الفراش و هي تشعر انها كالدنيا التي أغلقت أمامها في تلك اللحظة المصيرية أبواب الخلاص ..
فهل هناك من منجى ..!؟..
***********************
قررت انها لن تستسلم لذاك المتسلط الذي جاء لبابها يرهبها و يثير فيها رغبة الحماية لأخيها لترحل معه بهذا الشكل .. انها لن تبرح مكانها حتى تدرك مكان اخيها لعلها تستطيع ان تنقذ ما يمكن انقاذه و خاصة ان ذاك الرجل لا يعلم لغة للتفاهم غير العنف و ما يمكن ان يتبعه من مصائب هى فى غنى عنها .. انها متأكدة ان اخيها لا يمكن ان يقوم بتلك الفعلة المشؤومة .. لا يمكن ان يضع نفسه فى مأذق كهذا ابدااا ولو بدافع الحب ..
عزمت ان تضع قرارها موضع التنفيذ و تسللت بخفة من حجرتها حتى المطبخ و فتحت بابه الذي يطل على سلم الحريق كما هو الحال فى معظم البنايات القديمة ..
وما ان هبطت السلم حتى اصبحت خلف بنايتها فاندفعت تشير بلهفة لأحدى سيارات الأجرة التى توقفت بجوارها لتصعدها على عجالة امرة السائق بالاندفاع مبتعدا فى أقصى سرعة ..
طال انتظاره لها و شعر ان الامر اصبح غير عادي بالمرة .. توقف على اعتاب الردهة مناديا :- يا داكتورة .. متهئ لي طولتى جووى كِده ..
لم يسمع ردا .. فشعر بالقلق يعربد بصدره فاقترب من باب الغرفة فإذا به مشرعا و هى ليست بالداخل .. اندفع باتجاه المطبخ و صدق حدسه عندما رأى ان هناك باب اخر للخروج غير باب الشقة الأصلي و انها هربت ..
صرخ لاعنا مما استرعي انتباه مناع خفيره ليلحق به للداخل هاتفا فى اضطراب :- چرى ايه يا عفيف بيه !؟..
هتف عفيف بغيظ :- هربت .. هنعملوا ايه دلوجت !؟.. جلت هتاچي معانا .. چوم اخوها يظهر و نلموا الموضوع بدل الفضيحة ما تفوح ريحتها و تبجى سيرة النعمانية على كل لسان .. و الله ساعتها ما هيكفيني الا اني اشرب من دمهم الچوز..
هتف مناع محاولا امتصاص غضب سيده :- هتداوى يا عفيف بيه .. ربك هيدبرها ..
اندفع عفيف خارج الشقة و تبعه مناع بدوره و اغلق خلفه بابها و هو يشفق فى قرارة نفسه على حال سيده الذى وضعته اخته الصغري فى مأذق كهذا … كانت مدللته و اخته الوحيدة التى لم يكن يرفض لها طلبا و لو كان فى اقاصى الارض .. كيف تفعل به ذلك !؟.. كيف تضع رأسه في الطين و تجعل ذكره العطر مضغة فى افواه أسافل البشر ..
اندفع عفيف لداخل السيارة وتبعه مناع امام مقودها وهمس فى حذّر متقيا نوبة غضب سيده :- هنطلعوا على فين دلوجت يا عفيف بيه !؟.. ع النچع ..!؟
هتف عفيف فى اصرار :- لاااه .. مش راچع الا و معايا حد فيهم .. يا الباشمهندس و اختي .. ياخته الداكتورة عشان تبجى الطعم اللي يچيبه .. مش هعتب النچع الا و حد فيهم بيدي .. اطلع ع الفندج اللي بيتنا فيه عشية .. و ترچع انت على هنا تاني تجعد جدام العمارة .. و لو لمحت الداكتورة رچعت تكلمني ف ساعتها ..
هتف مناع مؤيدا :- حاضر يا عفيف بيه .. مش هايغمض لى چفن لحد ما ربنا يسهلها و ترچع ..
هتف عفيف و مناع يدير السيارة مبتعدا :- هترچع .. يعنى هتروح فين !؟.. و خصوصى انها جالت لى انها مسافرة بكرة و كانت محضرة شنطتها .. يعنى غصبا عنها هترچع ان مكنش عشان السفر ..هترچع عشان اخوها..
ابتسم ابتسامة صفراء عندما استشعر انه على حق .. و انها لامحالة عائدة من جديد الى شقتها و لن تستطيع ان تبتعد مهما حاولت ..
***************
بكت دلال بدموع ساخنة و صديقتها زينب تقدم لها مشروبا ساخنا فى محاولة لتهدئة أعصابها المحترقة لوعة على اخيها الأصغر ..
هتفت دلال من بين دموعها :- مش عارفة اعمل ايه !؟.. قوليلى يا زينب .. اعمل ايه !؟.. بقى بزمتك نديم ممكن يعمل اللى بيقول عليه الراجل العجيب ده !؟.. انت تصدقى الكلام الأهبل ده على نديم!؟..
هزت زينب رأسها نفيا مؤكدة بثقة:- طبعا مش ممكن .. نديم ميعملش كده .. لا تربيته و لا اخلاقه تسمح له بانه يعمل الكلام المريب اللى قاله الراجل المجنون ده .. اهدى بس انت يا دلال و اكيد نديم هيظهر بين لحظة و التانية و نفهم منه ايه الحكاية ..
انتفضت دلال صارخة :- نفهم ايه يا زينب !؟.. هو الراجل ده هيسيبه اصلا لو ظهر !؟.. ده مش بعيد يقتله حتى من قبل ما يتكلم معاه و يعرف فين الحقيقة .. دوول شكلهم ناس مش بيتعاملوا الا بالسلاح .. و الدم أرخص حاجة عندهم .. يا حبيبى يا نديم .. يا ريتنى ما وافقت تتعين بعيد كده .. انا ايه اللى خلاني سبيتك تبعد عني !؟… اعمل ايه يا رب !؟.. اعمل ايه ..!؟.
لم تنطق زينب بحرف فلم يكن لديها ما تواس به صديقتها فقد كانت على حق بكل كلمة نطقتها و ما من هناك لحل لتلك المعضلة ..
مرت لحظات من الصمت لم يقطعها الا شهقات متقطعة صادرة من دلال على حال اخيها الذى لا تعلم مصيره حتى اللحظة الآنية ..
و اخيرا هتفت فى حزم :- انا هروح مع الراجل ده و اللى يحصل يحصل ..
انتفضت زينب مذعورة :- انتِ اتجننتى يا دلال !!.. تروحى فين!؟.. تروحى بلاد بعيدة مع حد ما نعرف ان كان صالح و لا طالح!؟..او حتى ممكن يتعامل معاكى ازاى !؟ .. و لا يعمل فيكِ ايه !؟..ده جنان رسمى ..
هتفت دلال بقلة حيلة :- امال اعمل ايه !؟.. اسيبه لحد ما يوصل لنديم و يعمل فيه حاجة !؟.. اهو لو رحت معاه أكون موجودة لو حصل حاجة يمكن اقدر انقذ الموقف .. اهو أكون قريبة منه و اعرف اذا كان نديم وقع ف ايده و لا لأ .. يمكن ساعتها اقدر اتصرف .. اعمل اى حاجة يا زينب بدل ما اقعد كده حاطة أيدي على خدي مستنية خبر اخويا يجيلي ..
ربتت زينب على كتفها متعاطفة و هتفت فى إشفاق :- و الله ما عارفة اقولك ايه !؟.. ربنا معاكِ .. و ينتهي الموضوع ده على خير ..
انتفضت دلال فى اتجاه باب الشقة راحلة لتهتف زينب متعجبة :- على فين دلوقتى !؟.. استنى طب خدى نفسك .. انت ملحقتيش تستريحي م المشوار ..
هتفت دلال و قد كانت بالفعل تقف على اعتاب الشقة الخارجية :- مفيش وقت يا زينب .. لازم ارجع و حالا .. انا متأكدة ان اللى اسمه عفيف ده مستنيني .. لازم أخليه يرتاح انى بقيت ف ايده قبل ما نديم هو اللى يقع ف ايده و ساعتها معرفش ايه اللى ممكن يحصل .. دعواتك ..
هتفت زينب خلفها بعد ان اندفعت مبتعدة :- ربنا معاكِ .. و لو احتجتى اى حاجة اتصلى بيا .. و متقلقيش هبلغ اعتذارك حالا عن السفرية .. ربنا يسهل لك الحال ..
هتفت دلال مؤمنة :- اللهم امين ..
اشارت لأحدى عربات الأجرة لتستقلها عائدة الى حيث ذاك الذى تعلم تمام العلم انه بانتظار ظهورها.. و هاهى قادمة لتقدم له نفسها قربانا على طبق من فضة فداء لأخيها .. و ليكن ما يكون ..
*******************
كان القطار يتهادى مبتعدا عن محطة قنا وامامه اكثر من ثلاث عشرة ساعة سيقضيها يمخر عباب الطريق من قلب الصعيد حتى القاهرة و منها للأسكندرية .. كانت عيناه فى سبيلها للنعاس الذى جافاه بعد كل ما حدث عندما استيقظ بكامل وعيه مع صوت رئيس القطار مناديا رغبة فى الاطلاع على التذاكر ..
مد كفه بداخل سترته الثقيلة و أخرجهما ليهز رئيس القطار رأسه فى استحسان و يندفع متجها لأحد المقاعد الأخرى .. لاحت منه نظرة جانبية على محياها .. كانت قد راحت فى النوم منذ مدة قصيرة فقد جافاها النعاس بدورها .. فما حدث خلال الساعات الماضية يشيب له الوليد .. اشفق على حالها و هو يراها تضم ذراعيها حول جسدها رغبة فى بعض الدفء ..
نهض و خلع عنه سترته ووضعها برفق عليها و رغم انه حاول الا يوقظها بفعلته الا انها انتفضت فى ذعر متطلعة اليه فى شرود لدقيقة و اخيرا تذكرت ما حدث فدفعت سترته بعيدا فى رفق و بدأت الدموع تترقرق بمآقيها و استدارت تولي وجهها لنافذة القطار الزجاجية التى لمح دموعها الصامتة منعكسة على صفحتها .. تنهد فى قلة حيلة و ادار ظهره لها بدوره و هو يتساءل فى اضطراب و تيه .. هل ما فعله كان صحيحا !؟.. و هل كان عليه الهرب برفقتها !؟.. لم يجد نديم ما يجيب به على تساؤلاته التى شعر انها متأخرة بعض الشئ عن موعدها الطبيعى و المنطقى اناذاك غير زفرة قوية خرجت لاأراديا من اعماق صدره مؤكدة على كم المعاناة التى يرفل فيها عقله و مدى التيه الذى يسربل قلبه …
********************
ما ان هم عفيف بوضع عصاه جانبا و شرع فى خلع عمامته حتى سمع رنين هاتف يلح فى طلبه .. اندفع ملبيا ليؤكد عليه عامل الفندق انها مكالمة لأجله .. جاءه صوت مناع هاتفا فى لهفة :- رچعت يا عفيف بيه .. الداكتورة اخت الباشمهندس توك راچعة ..
هتف عفيف فى عجالة :- طب خليك مطرحك .. و راجب مدخل العمارة و كمان خلى عينك على السلم الورانى اللى هربت منيه .. و انا چاى مسافة السكة .. سلام ..
اغلق عفيف الهاتف و اندفع يضع عمامته على عجالة و يجذب عصاه مندفعا للخارج ليلحق بها ..
لم يمر بعض الوقت الا و كان عفيف امام البناية من جديد .. اندفع باتجاه مناع متسائلا :- هااا .. خرچت و لا لساتها فوج !؟..
اكد مناع :- لاااه .. تخرچ فين و انا چاعد من ساعتها كيف الصجر !؟.. لساتها چوه ..
هتف عفيف امرا :- طب تعال وراي ..
اندفع عفيف بداخل البناية و خلفه مناع في عقبه كظله .. ما ان هم بطرق باب شقتها حتى وجدها تفتح فى هدوء و بجوارها حقيبة ملابسها التى كانت مشرعة منذ ساعات قليلة على فراشها و هى تقف فى ثبات هاتفة بنبرة حازمة :- انا جاهزة يا عفيف بيه ..
هتف و على شفتيه ابتسامة صفراء كرهتها من فورها :- كنت عارف انك هترچعي .. اتفضلى يا داكتورة..
مد مناع كفه متناولا حقيبتها حاملا إياها وهبط الدرج فى صمت لتغلق هى باب شقتها خلفها .. ليهبط عفيف الدرج بدوره و هى خلفه تتبعه فى هدوء ..
ما ان وصلا حتى العربة السوداء الفارهة حتى توقفت للحظة و عفيف يفتح بابها الخلفى هاتفا :- اتفضلي..
وقفت فى تيه للحظات لا تعلم هل ما تفعل فى صالح نديم !؟.. هل ذهابها سيكون رمانة الميزان التي ستحفظ التوازن عندما تحل الكارثة و يجده ذاك الرجل !؟.. ام انها تقدم نفسها الان كبلهاء على طبق من فضة كطعم لاصطياد اخيها ليقع بين براثن ذاك العفيف!؟..
تاهت فى خواطرها و نزاعات نفسها و لم تستفق الا على طلب عفيف هاتفا :- اتفضلي يا داكتورة اركبى !؟.. و لا غيرتي رأيك !؟..
كان ردها هو اندفاعها داخل العربة و قد سلمت امرها لله و استودعته نفسها و أخيها .. و ليقض الله امرا كان مفعولا .. مرت لحظات حتى انتفض قلبها بين صدرها و ازداد وجيبه عندما بدأت السيارة فى المسير لتبدأ رحلتها الى ارض لم تطأها اقدامها من قبل .. رحلة لا تعلم مداها و لا ما يخبئه لها القدر خلالها .. ألتقطت انفاسها فى عمق و تطلعت من النافذة فى اتجاه المجهول ..
*******************
٢- الكابوس
جلست باعتدال في المقعد الخلفي واختارت ان تجلس خلف مناع مباشرة اعتقادا منها انها بهذا الوضع ستكون ابعد له من كونها تجلس خلفه مباشرة لكنها لامت نفسها لانها ادركت انها أصبحت الأقرب اليه فى تلك اللحظة ..
هتف بهدوء و بنبرة واثقة من مقعده جوار مناع وهو يتحاشى النظر اليها و لم يستدر حتى برأسه الذي تعلوه عمامته الناصعة البياض و ذؤابتها التي تتدلى على كتفه تمنحه مظهرا أشبه بفرسان العرب قديما مؤكدا ومخرجا إياها من ذاك الخاطر العجيب الذى شوش مخيلتها للحظات لتنتبه لصوته الأجش :- يا داكتورة .. دلوجت محدش يعرف اى حاچة عن الموضوع بتاع اخوكِ دِه غير اتنين .. مناع و الحاچة وسيلة .. و دى هتجبليها لما نوصلوا بالسلامة .. و
هتفت بتعجل :- يا عفيف بيه .. مفكرتش للحظة انا هيبقى صفتى ايه هناك ..!؟.. انا هكون موجودة ف البلد قدام الناس على اي أساس!؟..
تجاهل عفيف الاستدارة لمواجهتها مجددا هاتفا فى هدوء :- لو صبر الجاتل ع المجتول يا داكتورة ..
هتفت بضيق :- قصدك ايه ..!؟..
هتف عفيف من جديد بهدوءه الذى يوترها و تجاهله لمواجهتها :- انا كنت لسه هسألك .. تخصص حضرتك ايه ..!؟..
هتفت و كأنه سأل بالفعل :- أمراض نسا و توليد ..
هتف في ثقة و كأنه يحدث زجاج السيارة الامامى المقابل له :- عز الطلب .. تاهت و لجيناها .. النچع محتاج داكتورة للحريم عشان انتِ اكيد عارفة الرچالة هناك مش بيرضوا يودوا حريمهم لداكتور راچل .. و انتِ چتيهم نچدة من السما ..
هتف مناع مؤكدا و هو ينظر لعفيف نظرة ذات مغزى:- كنها چت بوجتها يا بيه ..
استدارت دلال لحقيبتها الطبية التي تشاطرها المقعد الخلفى من السيارة و تنهدت براحة انها استمعت لندائها الداخلي و هي تهم بمغادرة الشقة لتتناولها معها وهي مغادرة للمجهول الذى لا تعرف ما يمكن ان يطالها من مواجهته و هتفت مستفسرة :- انتوا تقصدوا ايه !؟...
هتف عفيف و هو لايزل يتجاهل الاستدارة لموضعها :- اصلك انا كنت ناوي اني اچيب داكتورة للحريم ف النچع و اهااا كنها اتحلت على يدك يا داكتورة و دِه اللي هنجوله لأهل البلد .. انك الداكتورة اللي اتفجت معاها تاجي عشان الحريم و طبعا مفيش مكان ينفع للضيافة ف النچع كله اكتر من بيت النعماني الكَبير .. و دِه هايبجي سبب كافي عشان تشرفينا من غير ما اهل النچع يشوفوا وچودك ف البيت الكبير غريب .. حضرتك عارفة طبعا نظرة الناس ف البلاد دي بتبجى كيف !؟..
اومأت برأسها دون ان تجيب و اخيرا هتفت عندما ادركت انه لا ينظر اليها :- اه طبعا يا عفيف بيه .
ابتسم مناع ابتسامة واسعة و هو يهتف موجها حديثه لها :- انى مرتي حبلى .. و البركة فيكِ بجى يا داكتورة تتابعيها ..دى هاتبجى اول اللي هياجوكي ..
ثم استطرد متوسلا عندما لم يعقب عفيف بأى تعليق بل ألتزم الصمت المريب الذى يجيده و لا يتحدث الا للضرورة :- اه والله يا داكتورة .. دِه حضرتك ربنا بعتك ليها دي كانت هتموت النوبة اللى فاتت لولا ربنا نچاها ..
واستطرد في أمل :- و اهااا يمكن ربنا يكتب على يدك مچية الواد ..
هتفت مستفسرة بتعجب :- واد ..!؟.
فسر مناع :- اه .. نفسى ربنا يرزجني بواد .. اصلك أني عِندي بتين ..
صمتت و لم تعقب .. و تعجبت انه لازال ذاك الفكر العقيم يسيطر على الرؤوس هناك في تلك البلاد البعيدة التي حكى لها اخيها بعض من عاداتهم و تقاليدهم و نحن على مشارف الألفية الثانية .. و تعجبت اكثر ان اخيها لم يذكر و لو لمرة واحدة اسم عفيف بيه او اخته .. هى على يقين انه لم يفعل و لم يذكرهما في حديثه و لو مرة .. و الأعجب من ذلك انه قد تورط معهم بهذا الشكل .. لازالت لا تصدق انه فعلها .. لكن هناك هاتف داخلها يخبرها ان ما قرأته بخطاب ناهد أخت عفيف حقيقي و لا يمت للعبث بصلة .. و ان اخيها متورط معهم حتى النخاع و هذا ما دفعها للانصياع لمطالب عفيف بلا قيد او شرط تاركة حياتها و كل ما يخصها خلف ظهرها مخافة ظهور اخيها في اى لحظة و حدوث ما لا يحمد عقباه .. عادت بنظرها لعفيف .. ألقت عليه نظرة خاطفة و اعادت نظرها مرة أخرى للنافذة جوارها و هي تشعر ان هؤلاء لا يمكن العبث معهم فيما يخص الكرامة و الشرف .. عندها ازدردت ريقها في صعوبة و سرحت بناظريها بعيدا حيث ذاك الجبل الغربي على مرمى البصر يحتل امتداد الطريق يقترب تارة و يبتعد أخرى .. و لأول مرة شعرت بالخوف يزلزل أركان نفسها و هي تتجه لعالم اخر ابعد من مخيلتها .. لكن كل شيء يهون لأجل خاطر اخيها وسلامته ..
***************************
توقفت العربة بعد بضع ساعات امام احدى الاستراحات المنتشرة على الطريق .. هتف عفيف و هو يغض الطرف عنها متنحنحا فى ادب :- انزلي با داكتورة حركي رچلك شوية ..و تعالي نشربوا حاچة .. لساتها السكة طويلة ..
اكدت فى هدوء :- انا مش تعبانة يا عفيف بيه .. ولو كمت وقفت عشان خاطري انا كويسة .. يا ريت نمشي عشان زي ما بتقول حضرتك السكة لسه طويلة و ده معناه ان الليل هيدخل علينا و احنا ع الطريق ..
تنهد عفيف و ترجل من السيارة هاتفا :- براحتك يا داكتورة .. اني عن نفسي نازل …
ابتعد خطوات فى اتجاه الاستراحة و جلس على احدى الموائد الخشبية تحت مظلة ما عاد فى حاجة اليها و الوقت قارب على الغروب ..
شعرت انه كان على حق بعدما احست بتيبس في عضلات كتفيها و ظهرها .. كان عليها ان تستمع لنصيحته و تنزل عن السيارة قليلا.. مرت دقائق اخذت تنازع فيها تلك الرغبة .. و اخيرا دفعت باب السيارة و ترجلت منها في اتجاه طاولته .. ابتسم في هدوء عندما رأها قادمة تجاهه وتعمد ان لا يشعرها بالحرج .. جلست على مائدته ولم يعقب هو بحرف .. لحظات و جاء النادل بكوب من الشاي .. ليهمس عفيف مخاطبا إياها :- تطلبى ايه يا داكتورة !؟..
تطلعت للنادل هاتفة متجاهلة اياه :- عايزة شاي بالنعناع لو سمحت ..
زفر عفيف فى ضيق و تطلع في الاتجاه المعاكس في حنق .. و ما ان ابتعد النادل حتى هتف معاتبا فى لهجة حاول ان يسيطر فيها على انفعاله :- يا داكتورة .. لما يبجى معاكِ راچل جاعد .. جوليله اللي انتِ عوزاه و هو يطلبهولك .. مش تكلمي انت الچرسون و لا كني ليا لازمة ف الچاعدة دي ..
هتفت بحنق :- يا عفيف بيه الكلام ده تقوله لواحدة تخصك .. لكن انا واحدة غريبة عنك لا اعرف عاداتكم و لا تقاليدكم و لا ايه المفروض او مش المفروض بالنسبة لك .. و لا يهمنى اعرفه بالمناسبة لأني هنا ف مهمة محددة و باذن الله تخلص على خير.. مش موجودة عشان تعلمني ايه اللى يصح او ميصحش من وجهة نظر سيادتك .. عن اذنك ..
و اندفعت فى اتجاه العربة و فتحت بابها و دلفت اليها و اغلقته خلفها فى عنف ..
لحظات و تبعها عفيف و تبعه مناع.. كانت هى تتطلع من النافذة لا تريد ان تلق بالا لمن دخل او خرج من السيارة كأن الامر لا يعنيها..
لحظات و خرجت العربة للطريق مرة اخرى .. تنحنح عفيف و هو يمد كفه ببعض الاكياس و كوبا كرتونيا من الشاي ..
هتف فى هدوء :- شايك اللى طلبتيه يا داكتورة .. و معاه شوية سندوتشات .. احنا مكلناش لجمة م الصبح .. اتفضلي ..
مدت كفها تتناول كوب الشاي و الاكياس هامسة فى تحذير للسانها ان يلزم الصمت و لا يسبق عقلها في العمل كعادته .. لأنها بالفعل تتضور جوعا وذاك الطعام جاء بالوقت المناسب و كوب الشاي ذاك هو الأثمن على الإطلاق لعله يهدئ و لو قليلا من ذاك الصداع الذى اكتنف رأسها ولا سبيل لعلاجه ..
تنبهت انه يتناول طعامه بالمثل و كذا مناع .. همست بنفسها .. جيد انه لم ينس سائقه .. هناك بعض من رحمة في قلب ذاك الرجل ..
مر بعض الوقت .. و الصمت هو اللغة السائدة داخل السيارة .. شعرت بالضجر يكاد يقتلها و الطريق حولها قد تحول للون قاتم جراء زحف الليل لتصبح العربة و كأنها تسير فى طريق من رماد لا نهاية له ..
تنبهت ان عفيف كان يسند رأسه للخلف مستندا على ظهر مقعده .. يبدو ان رأسه يمور بالأفكار كرأسها .. و ذاك الصمت يعد تربة خصبة للكثير من الخواطر و الشجون .. لكن اعتقادها كان خاطئا فما ان ترجرجت السيارة قليلا بفعل احد مطبات الطريق .. حتى انحرف وجهه باتجاهها لتدرك انه يغط فى نوم عميق ..
لا تعلم ما دهاها حتى تتفرس فى ملامح الرجل بهذا الشكل !؟.. جبهة عريضة تغطي الجزء الأكبر منها تلك العمامة لتنحدرعيناها الى حاجبين كقوسين فحميين يظللان عيون صارمة خبرت نظراتهما عدة مرات اليوم و كانت كافية و زيادة لتدرك ان تلك العيون هى عيون نظراتها امرة لا تقبل الا الطاعة .. انف شامخ .. ينحدر قليلا عند ارنبته ليظهر منخاران متوسطى الاتساع تشعر بأنفاسه من خلالهما عميقة قوية .. و دافئة ..يظهر اسفل منها شارب كث متناسق و مهذب يحتل منطقة ما فوق الشفاه العليا و يغطيها تماما .. و اخيرا فم واسع بعض الشئ .. و شفاه مكتنزة .. كان باختصار مثال حي لرجولة خشنة و ملامح لا تعرف اللين ..
ظلت على تأملها له للحظات اخرى وفجأة انتفضت موضعها عندما فتح عينيه بغتة متطلعا حوله فى تيه ..
أبعدت ناظريها عن محياه و حمدت ربها فى نفسها انه لم يدرك انها كانت تتأمله ..
سأل عفيف مناع بصوت متحشرج لايزل يغلب عليه النعاس مما جعلها تشعر فجأة بعدم الارتياح لذاك الشعور الذى استبد بها ما ان وصل لاسماعها :- لسه كَتير يا مناع ..!؟.
اكد مناع :- لاااه .. خلاص يا عفيف بيه .. جربنا ..
ادار وجهه مواجها لها هاتفا :- تلاجيكِ تعبتي يا داكتورة !؟.. معلش .. بلادنا بَعيدة ..
همست و هى تحاول ان لا تتقابل نظراتهما فهى لم تجمع أشتات نفسها بعد الذعر الذى سببه لها استيقاظه المفاجئ ذاك :- لا ابدا .. انا كويسة الحمد لله .. و بعدين دلوقتى نوصل و نستريح..
قالت كلماتها الاخيرة و هى لا تع هل حقا ستستريح ما ان تطأ اقدامها تلك الارض ام انها ستكون بداية المعاناة الحقيقة !؟.. ظل السؤال حائرا بلا اجابة و مناع يؤكد على وصولهم لحدود نجع النعماني .. ليبدأ قلبها فى الوجيب توترا و قلقا..
********************
اطلق مناع نفير العربة عدة مرات و هو يمر من خلال بوابة قصيرة نسبيا من الحديد المفرغ كانت مفتوحة على مصرعيها .. سارت العربة صاعدة منحدر طويل ينتهى قرب باب خشبى ضخم اشبه بأبواب القلاع القديمة .. راحت تتطلع لما حولها فى تيه و هى غير قادرة على تبين ملامح المكان حولها في ذاك الظلام الذى يسربلهم وتنبهت من شرودها و عفيف يستدير ليفتح لها باب السيارة هاتفا في هدوء اعتادته :- اتفضلي يا داكتورة ..
خطت خارج العربة في وجل تشعر انها تخط أولى خطواتها تجاه مجهول لا تدرك كيف يمكنه التأثير على مجريات حياتها التي اعتقدت انها ستسير دوما في وتيرة واحدة ما بين عملها و بيتها و اخيها و لكن هاهى تكتشف الان ان الأمور لم تسر على ذاك النحو السلسل الذي كانت تتوقعه فما بين طرفة عين و انتباهتها وجدت نفسها في بلاد غريبة مع شخصيات اغرب لهم عادات و تقاليد لا تستوعبها و حياة اخيها الوحيد في خطر من جراء معاداتهم ..
انتقضت عندما وصل لمسامعها هتاف عفيف ربما للمرة الثالثة داعيا إياها لمغادرة السيارة ..
بالفعل ترجلت منها في بطء عجيب و كأنها تنوى التراجع و العودة من حيث أتت و لكن هل هذا ممكن ..!؟ ترى أين هو نديم اخوها في تلك اللحظة ..!؟.. و هل ناهد اخت عفيف بالفعل معه ..!؟..
وقفت في تردد تتطلع حولها بقلق و وقعت عيناها على ذاك البيت الذي يقف شامخا قبالتها .. لم يكن من الصعب حتى في ذاك الظلام تبينه كان بيت من البيوت القديمة يعلو لثلاث طوابق يغلب عليه الطابع الحجرى فله بعض الأيقونات و النقوش على بعض افاريز النوافذ و الشرفات جعله أشبه بقلعة قديمة من قلاع القرون الوسطى .. أين هي!؟.. تسألت في دهشة و هي تجول بناظريها حولها من جديد ..
كان عفيف مدركا تماما لحيرتها و توجسها لذا تركها و تمهلها قليلا حتى استعادت ناظريها ووجهتهما اليه من جديد ليهتف في هدوء مريب :- مرحب بيكِ يا داكتورة ف النعمانية .. اتفضلي ..
تقدمها خطوات لتتبعه و يتبعهما مناع حاملا حقيبتها الوحيدة التي استطاعت المجئ بها ..
دخلت خلفه لبهو الدار لتجده واسع رحب يحمل الكثير من المقاعد و الأرائك المريحة موزعة بشكل منسق على جميع الجوانب و في احد الجوانب يطل درج لابد و انه يقود للطابق الثانى ..
هل يعتقد انها ستبقى معه بنفس المنزل ..!؟
هل هذا من الجائز ..!؟.. انها لن تسمح بذلك... و ليكن ما يكون ..هو نفسه اشار لما يمكن ان يكون رد فعل اهل النجع من وجودهما معا تحت سقف بيت واحد ..
قطع استرسال افكارها دخول احدى النساء التي كانت تتلفح بالسواد من احد الأبواب الجانبية هاتفة في سعادة :- حمدالله بالسلامة يا ولدي .
اتجه اليها عفيف في تقدير يقبل هامتها القصيرة مقارنة ببنيته السامقة هاتفا :- كيفك يا خالة وسيلة!؟..
تسألت في نفسها :- خالة ..!؟.. كانت تعتقدها امه من حفاوة الترحيب ..و للمرة الأولى ترى ذاك النزق ينحني لأى من كان و هو يقبل رأس تلك العجوز في محبة و تقدير زاد من تعجبها ..
هتف بها عفيف بصوته الاجش الذى يثير رعبها لا تعرف لما و خاصة انها تحاول ابعاد ناظريها عن تفاحة أدم التي تعلو و تهبط عند تحدثه في منتصف رقبته :- دى بچى يا داكتورة الخالة وسيلة .. دى في مجام امى الله يرحمها .. هي اللى ربتنى انا و ناهد .. و غلاوتها من غلاوة امى بالمظبوط ..
ربتت الخالة وسيلة على كتفه بكفها المتغضن هاتفة في فخر :- ان شاء الله تعيش و تسلم يا ولدي .. زينة الشباب و نوارتهم .. و حمدالله بسلامتك يا داكتورة .. نورتينا ..
هتفت دلال بعفوية للمرأة العجوز الطيبة :- ده نورك يا خالة وسيلة ..
هتف عفيف من جديد و العجيب انه ابتسم هذه المرة و هو يسأل الخالة وسيلة :- ها محضرالنا ايه ع العشا يا خالة ..!؟.. مش عايزين الداكتورة تجول علينا بُخلة ..
شهقت المرأة العجوز هاتفة :- بيت الحچ النعمانى بُخلة !!... دِه بيت الكرم و الچود كله .. هي ترتاح بس و هتشوف احلى اكل داجته ف حياتها من يدي ..
ابتسمت دلال في سعادة و قد ارتاحت لإستقبال المرأة العجوز و كرمها :- تسلمي و تعيشي يا خالة .. هنتعبك ..
هتفت الحاجة وسيلة و هي تستدير عائدة من نفس الباب الجانبى :- تعبك راحة يا بتي ..اروح اشوف اللي ع النار ..
عادت دلال لنفس الأفكار عن محل أقامتها و ما ان همت بمناقشة ذلك معه حتى رأته يعود ادراجه للخارج هاتفا و هو يتوجه يساراً و كأنه قرأ خواطرها مشيرا لها لتتبعه ..
سارا خطوات خارج باب الدار ليستديرا بعد خطوتين بالضبط و يتوقف فجأة امام باب اصغر حجما من باب الدار الواسعة المنقوشة بنقوش خشبية بارزة .. فتحه وأخذ جانبا ليدعوها للدخول في تأدب ..
ترددت قليلا و أخيرا دلفت للداخل تقف على بعد خطوتين من المدخل لتدع له الفرصة ليمر و يدوس احد الأزرار الموجودة على احد جانبي الباب ليسطع الضوء في المكان منيراً عتمته ..لتدرك ان حقيبتها وضعت هاهنا .. لابد و ان مناع يعرف أين سيكون موضعها بالضبط ليدرك أين يضع حقيبتها دون ان يدله احد ..
اندفع يضئ كل انوار الردهة في سرعة و يده تحفظ أماكن مكابس الإضاءة في مهارة لتتحول القاعة الداخلية التي تراها الان بعين خيالها قاعة بهو معد لحفل راقص من شدة الإضاءة مما دفعها لتجول بناظريها في ارجاء المكان بعين حالمة تشع رقة ..
هم بالحديث اليها لينتبه لشرودها و لتلك النظرة التي كللت عينيها ليلتقط أنفاسه في عمق متعجبا من تبدل نظراتها للنقيض بهذا الشكل .. منذ لحظات كانت نظرات تحفز و استعداد لقتال و الان نظرات حالمة تفيض رقة لمجرد رؤيتها لبهو ساطع بالإنوار ..
نفض تلك الأفكار المتمركزة حولها ليندفع هاتفا و هو يشير لبعض الأبواب المغلقة و الرواق الجانبي الطويل :- هنا هتلاجى المطبخ و الحمام بتاع الضيوف .. اصلك دي استراحة الضيوف اللي بناها الحاچ النعمانى الكبير عشان يبجوا براحتهم بعيد عن الدار و اللى فيه .. انت يمكن متعرفيش لسه عوايدنا .. على كد ما بنكرموا الضيف .. على كد ما الضيف له مكانه بعيد عن الدار و حريمه اللي مبينكشفوش على غريب ..
وتنحنح وهي تومئ برأسها متفهمة ليشير لباب اخر هاتفا:- دِه باب المجعد .. أوضة كبيرة فيها كراسي ممكن نفضوها و نجلبها أوضة للكشف .. و خصوصي ان ليها باب بيتفتح من بره و دِه هيسهل انها تبجى لحالها بعيد عن المضيفة و محدش يدخلها غيرك يا داكتورة ..
وأخيرا قال في تردد بعد ان عم الصمت للحظات :- اني عارف يا داكتورة ان اللي بيحصل دِه مش على هواكِ .. و صدجينى مهواش على هوايا .. لكن ما باليد حيلة ..
غير الموضوع فجأة ليهتف :- اي حاچة انتِ محتچاها عشان الكشوفات جولي عليها و انا اجيبهالك على طوول ..
تحرك في هدوء ووقف على عتبة الباب من جديد مستعدا للرحيل وهمس بصوت أجش :- اتفضلي يا داكتورة …
نظرت الى كفه الممدودة لها بمفتاح المضيفة متعجبة وهتفت بسخرية :- هتديني المفتاح .!؟.. مش خايف اهرب ..!؟..
نظر لها بثقة اغاظتها :- احنا مش خاطفينك يا داكتورة عشان تُهربي .. انتِ جيتى معايا بخُطرك .. و اكيد مش هتهربي لأنكِ هنا ف الأساس عشان خايفة على اخوكِ منينا .. يعنى انا لو جلت لك دلوجت امشي .. انتِ اللي هتجولي لاااه .. اما اطمن على اخويا هتعملوا معاه ايه ..
لم تعلق بحرف و ماذا يمكنها ان تقول و قد قال الحقيقة و أصاب كبدها بمجمل كلماته التي وصفت الحال التي هي عليها بالفعل ..
غير راغبة في البقاء ولا قدرة لديها على الرحيل..
مدت يدها لتتناول المفتاح من كفه الممدودة و تلك النظرة الواثقة مازالت تكلل عينيه و التي جعلتها تود لو تحيد عنها ناظريها و لكنها ابت حتى لا يستشعر ضعفها ..
تمنت لو انه يكف عنها و خاصة لانها توترها و تدفعها لتشعر بمزيد من الغيظ و القهر ..
خرج في هدوء و أغلق الباب خلفه لتندفع هي في سرعة لتغلق الباب بالمفتاح عدة مرات سمعها و هو يغادر لتضيق عيناه على تلك النظرة التي تمقتها ويبتسم وهو يلقي بنظرة أخيرة الى باب المضيفة و يغادر..
اما هي فقد أسندت ظهرها على الباب الذى أغلقته للتو وهي تلتقط أنفاسها في تسارع من شدة توترها .. فهى ستكون وحيدة في هذا المكان مع أناس لا تعرفهم و لا تدرك كيفية التعامل معهم .. تطلعت من جديد حولها لذاك البهو الواسع الأنيق رغم قدم الأثاث المستخدم الا انه لا يخل من ذوق و فخامة و طالعها ذاك الدرج في اخر الرواق لتدرك ان غرف النوم بالأعلى .. فلابد ان تلك المضيفة مقامة على نفس طراز الدار الأساسية الملحقة به ..
حملت حقيبتها التي لم تكن بالثقيلة على الإطلاق .. و صعدت الدرج في تمهل تنظر بترقب للأعلى و هي تصعد الدرجات في حرص حتى وصلت لرواق طويل يبدو انه يحوى عدة غرف لم تتبين في الظلام عدد الأبواب التي تراها على جانبيه ..
لم تكن تملك الترف في تلك اللحظة و قد وصل بها الإنهاك و التعب لمبلغ شَديد ان تبحث في الغرف عن أجملها او أفضلها لذا فتحت اول الأبواب التي طالعتها و دخلت تتحسس الجدار حتى تجد زر الإضاءة الذى لمسته أخيرا لتسطع الغرفة لتدخل و تفتح النوافذ و تلك الشرفة الوحيدة بها ليطالعها منظرا جانبيا للحديقة الخلفية المحيطة بالدار وعلى مدد البصر لم تتبين الا بعض أعمدة الإنارة المتفرقة هنا و هناك ..لا تعرف كم ظلت تقف تتطلع الى الظلام و تخيلت مصابيح الإنارة البعيدة ترقص جعلها ذاك الخاطر ترتجف و هي تتخيلها رؤوس اشباح تطل على القرية الناعسة التي تعمها العتمة في تلك اللحظة مما جعلها تنتفض و تدخل إلي الغرفة مغلقة الشرفة بإحكام ..
هي تدرك ان لياليها في تلك المضيفة لن تمر بسلام .. بل ستكون أطول مما تتخيل ..
لقد كانت تموت رعبا و هي وحيدة في شقتها عندما غادر اخوها لعمله هنا .. و كم ظلت مستيقظة الليل بطوله حتى اعتادت أخيرا على عدم وجوده و استطاعت التكيف مع شقتها ووحدتها فيها ..
الان كيف يمكنها التكيف على العيش و المبيت في مثل تلك المضيفة الواسعة وحيدة ..!؟..
ان الأيام و الليالي القادمة لن تكون من السهولة ابدا بأى حال من الأحوال ..
و همست و هي تحتضن جسدها بكفيها في محاولة لبث الطمأنينة داخلها لعلها تهدأ:- يا ترى انت فين يا نديم ..!؟.. سؤال ما كان له اجابة تريح اوجاع روحها ..
******************
دس صديق نديم مفتاح شقته بكفه و هما واقفين بالقرب من ناهد التي كانت تنتظره تحت ظل احدى الأشجار على مقربة منهما ..
تطلع صديق نديم لها ببعض النظرات المتفحصة التي دفعت نديم للغضب هاتفا فيه بحزم :- سمير .. ركز معايا هنا ..
هتف سمير باستحسان :- مكنتش اعرف ان ذوقك عالي كده .. طلعت..
قاطعه نديم هاتفا بغضب حقيقي و هو يدفع بسمير مبتعدا عن مجال ناهد حتى لا يصلها صوتهما .. و هتف و هو يجز على اسنانه في غيظ :- انت فاكر ايه ..!؟.. دى مراتى يا بنى آدم ..
هتف سمير مندهشا :- مراتك ..!؟.. انا أسف يا نديم ..مقلتش ليه كده من الأول !!..
ثم استطرد متصنعا الحزن :- و بعدين تعال هنا.. اتجوزت امتى و ازاى و انا معرفش و لا تعزمنى كأنى مش صاحبك ..!!..
تنهد نديم في ضيق :- و الله الموضوع جه بسرعة يا سمير و فيه شوية أمور كده ملخبطة .. المهم .. انت هتحتاج الشقة امتى !!.
صمت سمير للحظة مفكرا ثم هتف:- يعنى مش قبل أسبوعين .. انت عارف احنا شتا دلوقتى و الشقة ف إسكندرية ملهاش مطلب الا ف الصيف .. بس ربنا يهدي ابويا عشان ده من عشاق إسكندرية ف الشتا .. ربنا يجعل كلامنا خفيف عليه ..
ابتسم نديم و هو يدس المفتاح في جيب بنطاله هاتفا و هو يمد يده مودعا سمير :- متشكر يا سمير .. ربنا يقدرنى على رد جمايلك ..
هتف سمير موبخا :- جمايل ايه يا راجل ..!؟.. هو في بين الأخوات جمايل .. ياللاه روح لعروستك شكلها زهقت من الوقفة و الدنيا برد الصراحة ..
ألقى نديم نظرة عابرة على ناهد فتيقن من صدق سمير ليودعه و يلتفت متوجها اليها حاملا حقيبتهما..
همس بصوت رتيب :- أسف اتاخرت عليكِ .. اتفضلي .. الشقة مفتاحها معايا .. ياللاه بينا ..
اومأت ناهد برأسها إيجابا و سارت خلفه دون ان تعقب بكلمة و كل ما برأسها هو اخوها عفيف .. كيف استقبل خبر هروبها بهذا الشكل..!؟.. و كيف تصرف حيال ذلك ..!؟.. أغمضت عينيها رعبا و هي تتخيل مجرد تخيل ما سيكون عليه حاله ما ان يعلم بالأمر .. فكيف سيكون حالها و هي تقف أمامه مذنبة و متسربلة في خطيئتها ما ان يجدهما .. فهل تراه يفعل و يعثر عليهما ..!؟.. انتفضت عندما وصل بها الامر لهذا المنحى .. و استفاقت على صوت نديم هاتفا :- اتفضلي .. وصلنا ..
خطت اعتاب البناية الشاهقة المقابلة للبحر و الهادئة في تلك الفترة من العام حتى تظن انه لا يسكنها مخلوق .. و ارتعشت عندما أدار نديم المفتاح في موضعه ليهمس لها مشيرا لداخل شقة سمير :- اتفضلي..
دخلت بأرجل مرتجفة و هي لا تعلم الى اى شاطئ مجهول سيرسو بها قارب أيامها...
*********************
كان التعب قد بلغ منها مبلغا عظيما و هي تضع جسدها على طرف الفراش راغبة ف البقاء ممددة قليلا لعلها تُهدئ من ألام ظهرها التي انتابتها جراء ذاك السفر الطويل بالسيارة على الطريق الذي كان في في بعض الأوقات غير ممهد ..
لكنها لم تشعر الا و هي تنتفض غارقة في هزيانها .. تلفتت حولها لتتأكد ان ما رأته ما هو الا حلم او بالأحرى كابوس وولى هاربا ما ان فتحت عيونها بانتفاضة .. و ها هي تنتفض من جديد عندما طالعها ذاك الشبح الأسود قادما اليها من الباب و الذى اخيراً تبينته لتستكين روحها متنهدة .. لكن ضربات قلبها التي كانت تصم آذانها في تلك اللحظة لازالت على علوها فزعا ..
دخلت الخالة وسيلة بردائها الأسود الذى ارعبها بعد ذاك الكابوس العجيب لتهتف وهي تتطلع حولها في اضطراب :- يا بتي ..!؟.. ايه اللي دخلك الأوضة دي !؟... ما الأوض عِندك كَتير ..
تطلعت اليها دلال في تعجب متسائلة :- ليه يا خالة ..!؟.. هي الاوضة دي فيها ايه ..!؟..
تنبهت الخالة وسيلة أنها افضت بأزيد من المفترض فهتفت متعجلة بصدمة :- مفيهاش يا بتي ..هيكون فيها ايه يعني ..!؟.. هي بس ريحها تجيل .. و مش هاترتاحي فيها ..
و مدت كفها لملاءات السرير النظيفة التي كانت قد احضرتها معها و وضعتها جانبا ما ان دخلت الغرفة لتهتف بدلال متعجلة :- جومي يا داكتورة اختارلكِ أوضة تريحك .. تعالي معاي ..
مدت دلال كفها لحقيبتها تحملها في استكانة طائعة لاوامر المرأة العجوز لتخرج من الغرفة لتضغط المرأة ذر إطفاء النور على عجل و تغلق الباب خلفها وهي تتمتم ببعض الكلمات التي لم تتناهى كاملة الي مسامع دلال و لم تستوضح حروفها للأسف ..
توقفت المرأة العجوز عند اخر حجرة في الرواق لتفتحها متنهدة في راحة هاتفة :- الأوضة دى هتعچبك و هتستريحي فيها و كمان طالة على الدار كله .. و الباب اللي جارها دِه باب مكتب عفيف بيه ..
هتفت دلال بتعجب :- مكتب .. !؟..
اكدت الخالة وسيلة في حماس :- اه ..معلوم مكتب .. بياجيه الناس اللي عيشتغل معاهم و يجابلهم فيه ..و بيدخلوا من هنا .. هو عمره مدخل حد غريب البيت الكَبير .. الأغراب دايما بيچبهم على هنا طوالي و أكلهم و نومتهم هنا و لما يحب يجابلهم و يتحدتوا ف اشغالهم بيجوه ع المكتب من الباب دِه ..
اصلك النعمانى الكبير كان عايش ف المندرة دي جبل ما يبني البيت الكَبير و لما بناه عِمل بابين مفتوحين على المُندرة باب المكتب دِه والباب التانى باب المطبخ تحت .. يعنى ف اى وجت عايزة تاجينى سهلة اهااا ..
ابتسمت دلال للمرأة الطيبة التي استشعرت معها حنان امومي افتقدته منذ رحلت أمها عند دنيانا .
تذكرت المرأة لما جاءت من الأساس لتهتف و هي تضرب كفا بكف :- واااه يا وسيلة كنك كبرتي و خرفتي يا حزينة .. متأخذنيش يا بتى .. اني چاية أجولك عفيف بيه مستنيكِ ع العشا وجالى اجولك اتفضلي ..
همست دلال و هي تتثاءب في كسل و إرهاق واضح :- اشكريه يا خالة .. بس بجد انا مش قادرة انا بس عايزة انام و مليش نفس اكل ..
هتفت وسيلة في تعجب :- كيف دِه.!؟.. تنامي كيف من غير عشا ف البرد !؟ .. الچوع يجرصك ف الليل ماتعرفيش تنامى و لا تدفي .. جومى يا بتى ياللاه ..هِمي ..
تنهدت دلال و هي على يقين انها لن تستطع إقناع الحاجة وسيلة بما ترغب و لن تثنها عن تنفيذ أوامر عفيف بيه في الإتيان بها و لو محمولة على الأعناق من اجل العشاء المقدس في حضرته ..
******************
تعليقات
إرسال تعليق