![]() |
رواية لخبايا القلوب حكايا
من الفصل الأول حتى الرابع ❤️⬇️
بقلم رحمه سيد
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات
الفصل الأول :
ليلًا.. في احدى المناطق الراقية، تحديدًا بجوار احد اكبر شركات "المقاولات" في القاهرة، كان " فارس ابو الدهب " يغادر شركته بعد انتهاء فترة عمله، ركب سيارته وسار بها مسافة قليلة جدًا في اتجاهه لمنزله، ولكن صوت صراخ قريب أوقفه، ترجل من سيارته وهو يرهف السمع، ثم سار بخفة صوب الاتجاه الذي يأتي منه الصراخ، اصبح في الحديقة القريبة من الشركة، فرأى فتاة ذات خصلات برتقالية قصيرة، تقاوم بينما احدهم يبدو من مظهرهما أنه يحاول التعدي عليها.
دون أن يفكر مرتان كان ينقض على ذلك الرجل ساحبًا إياه بعيدًا عنها ثم لكمه بقوة وهو يصيح:
-سيبها يا زبالة.
تأوه الاخر متألمًا ثم حرر نفسه بسرعة وصعوبة من بين يدي "فارس" وفر راكضًا من المكان، فيما كانت الاخرى تذرف الدموع وهي تضم جسدها الرفيع لها بقوة، فاقترب منها فارس قائلًا بخفوت بعد أن تنحنح:
-اهدي يا أنسة.
رفعت وجهها له فتراءت له عيناها الفيروزية اللامعة كنجمة بهية في جوف السماء ليلًا، وملامح وجهها التي تحمل "نمش" بدا له مميزًا، ثم همست بصوت رقيق مبحوح بعض الشيء:
-شكرًا يا باشمهندس.
لم يستطع كبت الدهشة التي لاحت من ملامحه وهو يسألها:
-أنتي تعرفيني؟
اومأت مؤكدة برأسها:
-أيوه طبعًا، أنا موظفة في شركة حضرتك.
هز "فارس" رأسه وتابع متسائلًا:
-وإيه اللي أخرك كل دا في الشركة؟
ردت:
-كان في شغل متراكم عليا بخلصه.
توالت استفساراته:
-أنتي شغالة إيه؟
وظلت تجيبه رغم التوتر الذي يلفح كلماتها:
-مهندسة برمجيات.
هز رأسه وهو يضم شفتاه بأسف مما حدث، ثم أردف بهدوء:
-طب تعالي أوصلك.
هزت رأسها نافية بشبح ابتسامة ممتنة وهي تمسح دموعها:
-لأ شكرًا لحضرتك مفيش داعي أنا هركب أي تاكسي، أنا مش ساكنة بعيد أوي.
فخالط الإصرار حروفه وهو يكمل:
-لأ طبعًا، تعالي أنا هوصلك في طريقي يلا.
نظرت حولها والتردد ينضح من نظراتها، ثم تمتمت في استسلام:
-تمام.
وبالفعل ركبا معًا السيارة، نظر فارس نحوها وهي تضع حزام الأمان، فوقعت عيناه على جرح صغير بجانب شفتيها يقطر دمًا، مد يده وتناول "محرمة ورقية" ثم مدها نحوها بهدوء بالقرب من وجهها وهو يقول ببحة رجولية هادئة :
-امسحي في دم هنا.
قالها وهو يشير لها عند طرف شفتاها، فالتقطت منه المحرمة وبدأت تمسحها بالفعل وقد بدأ التوتر يبلغ أقصاها حين شعرت بنظراته المتفحصة مُسلطة عليها، بينما هو يشعر وكأن ذلك النمش في وجهها الأبيض يجبره جبرًا على التحديق به، كم هو مميز وكم لاق بفيروزتيها وخصلاتها البرتقالية... وكأنها لوحة بريشة فنان مبدع!
تنحنح متدراكًا لمنحنى افكاره، ونظر للجهة الاخرى، هو ليس بغر او مراهق حتى يحدق بها وكأنه يرى امرأة للمرة الأولى، لقد رأى فاتنات بعدد لا يُحصى، ولكن هذه مختلفة.. مميزة!
أغمض عيناه بقوة متنهدًا، فهاهو يتطرق لمدحها من جديد، فتح عيناه وقرر خلق أي حديث لقطع ذلك الصمت الذي يوحي بأفكار غريبة:
-أسمك إيه؟
أجابته بنبرة ناعمة بالفطرة:
-فيروز.
ربااه لمَ كل شيء متعلق بها مميز ! حتى أسمها وكأنه خُلق ليليق بفيروزتيها اللامعتين.
-ساكنة فين يا فيروز ؟
سألها بجدية، فأجابته هي بعنوانها، ثم عقبت:
-بس مايصحش حضرتك توصلني لحد البيت، لحد *** كفاية وأنا هكمل.
اومأ برأسه موافقًا دون رد، ثم مد يده وشغل الراديو ونظر لطريقه مرة اخرى، فيما كانت هي تسحب شهيقًا عميقًا وتزفره على مهل في محاولة منها لطرد التوتر عن رحابها، فها هي على مشارف انتهاء ما أرادت!
وصلا للمنطقة التي تقطن بها فيروز، كانت منطقة عشوائية بعض الشيء، فأوقف فارس السيارة، نظرت فيروز نحوه وهي تتمتم شاكرة بابتسامة حلوة تليق بتميز ملامحها رغم الإنهاك النفسي الذي استقر فوقها:
-شكرًا جدًا يا باشمهندس.
بادلها ابتسامة خفيفة:
-العفوا يا باشمهندسة.
ثم تشدق بجدية:
-بس ابقي خدي بالك متطوليش في الشركة لوقت متأخر بعد كدا عشان اللي حصلك دا ميتكررش تاني.
أطرقت رأسها أرضًا في إنكسار لاق بروحها المهشمة في تلك اللحظات وهي تضم ملابسها لها بقوة.
ثم ترجلت من السيارة تحت انظاره، وتوجهت نحو احد الشوارع لتغيب عن انظاره فهمس فارس ضاحكًا دون وعي لما تسرب من لسانه:
-برتقانة.
ثم انتبه لنفسه فعادت قسمات وجهه للجدية، لا يجب أن يعطي الموضوع أكبر من حجمه، مجرد صدفة وانتهت!
**
بينما بالنسبة "فيروز" لم تكن كذلك اطلاقًا، فقد كانت تنظر نحو سيارته التي غادرت وابتسامة تفوح بالنصر والمكر تزين ملامحها، لقد تخطت عتبة البداية في طريقها،
استدارت لـ " زياد " الذي ربت على كتفها والذي أنقذها منه "فارس" وما أن رأته حتى بدأت الابتسامة تتشعب في ثغرها، ثم لكزته في كتفه وهي تهتف بينما تتحسس الجرح الصغير عند طرف شفتيها:
-يخربيتك إيدك تقلت بجد يا زياد ولا كأنك كنت بتضربني بجد.
ضحك "زياد" قائلًا:
-معلش أصلي اندمجت شوية.
ثم اُزيحت الضحكة عن فمه حين سألها بجدية متوجسًا:
-المهم طمنيني عملتي إيه؟
هزت رأسها وهي تتابع بزهو لاوية شفتاها:
-أنت تتوقع عملت إيه؟
زجرها بخشونة مصطنعة:
-ما تنجزي يا فيروز، إنطقي عملتي إيه؟ صدق الحوار اللي حصل؟
اومأت برأسها مؤكدة:
-أيوه طبعًا يابني، دا أنت عورتني بجد، وإيه أصلًا اللي هيخليه يشك؟!
أجاب وهو يتنهد بشيء من القلق:
-مش عارف، بس ربنا يستر أنا مقلق من الموضوع كله يا فيروز وخايف عليكي لو اتكشفتي.
هزت رأسها نافية وراحت تطمئنه بابتسامة هادئة:
-متخافش عليا يا زيزو أنا ادخل في الحديد، وبعدين دا لسة بدري على الخوف دا هو أنا لحقت أعمل حاجة، دي البداية بس.
-ماشي ياستي، تعالي بقا نجيب فول ونتعشا سوا.
أضاف بابتسامة صغيرة مشابهه لخاصتها، وما أن كادت تجيب لمحت صديقتهما الثالثة "كارما" وهي تتقدم نحوهما مسرعة، ثم هدرت بوجه فيروز موبخة:
-مابترديش على تليفونك ليه يا مهزقة؟ طمنيني بسرعة عملتوا إيه؟
فهزت فيروز رأسها نافية وهي تخبرها:
-لأ زياد يحكيلك بقا، أنا اتأخرت والست الوالدة هتعمل حفلة على شرفي النهارده يسمعها الجيران كلهم لو اتأخرت اكتر، يلا هبقى اكلمكوا.
-ماشي يلا سلام.
صعدت "فيروز" البناية التي يسكنوا بها هي ووالدتها وشقيقتها حيث توفي والدها منذ كانت في عمر الأربع سنوات، طرقت باب المنزل وهي تتنظر، ففتحت لها شقيقتها الصغرى الباب بوجهٍ عابس، ثم دلفت لغرفتهما مرة اخرى دون كلام على غير عادتها، عقدت "فيروز" ما بين حاجبيها وهي تسير خلفها متساءلة :
-مالك يا زينة؟
ردت بملامح متكدرة:
-مفيش.
جلست جوارها على الفراش وهي تعاود سؤالها بإلحاح:
-عليا برضو ؟! لا مالك بجد؟
غمغمت زينة بتبرم :
-اتخانقت مع ماما، قولتلها نجيب كفته ومرضتش أتعشا جبنة زهقت منها، عملتهالي عريضة وفضلت تزعق وطلعتني معنديش قناعة ورضا وكلام من اللي قلبك يحبه.
ربتت فيروز على كتفها وهي تواسيها مختلقة العذر لوالدتها:
-معلش يا زينة غصب عنها اكيد الفلوس مقصرة معاها الفترة دي، وأنتي عرفاها بتتضايق وتتخنق لما واحدة مننا تطلب منها فلوس وميبقاش معاها.
اومأت "زينة" برأسها في صمتٍ ولم تعلق، فيما نهضت فيروز من مكانها وهي تخلع ملابسها بملامح مشدودة اشتدت وطأة القهر عليها وطاف التوعد عينيها وهي تقسم... لن تتراجع عما بدأته.
****
على الجهة الاخرى، صعدت "كارما" بعد قليل لمنزلهم، فتحت الباب بالمفتاح بحرص شديد وبطء، ثم دلفت على أطراف أصابعها وهي تتفحص الشقة بعينيها البُنية بحثًا عن "زوج والدتها" ولكن لم تجده، زفرت بصوت مسموع وهي تتمتم:
-الحمدلله إنه لسه مجاش.
فهي لم تكن ترغب إطلاقًا بوصلة توبيخ لن تنتهي سريعًا، بل لن تنتهي قبل أن يتأكد أنها خرت باكية من فرط التعنيف وكأنه يتلذذ بذلك!
توجهت لغرفتها مسرعة وهي تلقي نظرة سريعة على والدتها التي كانت بالمطبخ، فقالت برجاء شابه التحذير:
-اوعي تقوليله إني نزلت يا ماما، أنا يادوب كنت بشوف فيروز وطلعت.
ضيقت والدتها عيناها معلقة:
-فيروز بس؟
نفخت كارما بصوت مسموع في الهواء وهي تستطرد:
-فيروز وزياد يا ماما، أنتي عارفة إنهم صحابي من الطفولة ومش هقطع علاقتي بيهم عشان أي حد، وخصوصًا زياد.
اقتربت والدتها منها، واسترسلت محاولة اقناعها:
-أنتي عارفة إنه خايف عليكي يا كارما من كلام الناس وأنتي كبرتي مبقتيش صغيرة، حتى لو جارك ومن الطفولة زي ما بتقولي.
رفعت كارما حاجبيها معًا وصفحة وجهها تصرخ بعدم الاقتناع والتهكم مصحوب بالاستنكار لما تقوله خاصةً وهي تعلم أن والدتها شخصيًا غير مقتنعة بما تردده نوعًا ما !
اومأت والدتها بعدها موافقة على مضض رغم عدم الرضا الذي بدد ثنايا وجهها:
-حاضر يا كارما مش هقوله.
دلفت كارما لغرفتها، ومدت يدها ببطء وإنهاك وخلعت "سماعة اذنها" التي تضعها معظم الوقت، فهي تعاني من ضعف في السمع تضطر بسببه لاستخدام تلك السماعة.
جلست على فراشها تقرأ احد الكتب وهي ممدة على بطنها، فالقراءة هي المأوى الوحيد الذي تجد نفسها به، بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي.
ثم نهضت بعد فترة ووضعت سماعتها، ثم توجهت لخارج الغرفة، فتفاجئت بجرس الباب الذي يرن، ركضت وفتحت الباب فوجدت زوج والدتها الذي سرعان ما زمجر في وجهها بغضبٍ دون داعٍ:
-إيييه كل دا عشان تفتحي، أنتي طرشة ولا إيه!؟
ثم إلتوت شفتاه بابتسامة ساخرة قاسية وهو يلفظ جملته التالية الأشد قسوة:
-اااه، ما أنتي طرشة فعلًا، ولا صحيح اللي يخليكي أختك تولع وتموت جمبك وماتحسيش بيها ولا تسمعيها، يخليكي ماتفتحيليش الباب.
استشعرت "كارما" مرارة الكلمات التي كانت كالعلقم مرر جوفها وسَمَّ باطنها بضراوة ودون شفقة.
في نفس اللحظة التي ظهرت فيها والدتها ترتدي اسدال الصلاة ويبدو أنها أنهت صلاتها للتو، وكل ما فعلته أنها رمقته بنظرة معاتبة متألمة للذكرى.. فقط!
ولكن هذه النظرة المعاتبة لم تكن مشبعة ابدًا لجوع كارما للاحتواء واليُتم الذي يلتهم فتات روحها !
كادت تركض محتمية بغرفتها، ولكن أوقفها صوته الغليظ :
-استني هنا أنا لسه مخلصتش كلامي.
استدارت له مرددة بحدة:
-نعم؟
-عيسى خطيبك هيطلع يقعد معاكي علشان تحددوا ميعاد كتب الكتاب قريب، اعملي حسابك وافردي وشك قدامه.
صاحت مستنكرة بشدة:
-إيه! خطيبي!! خطيب مين أنا مش مخطوبة وقولتلكم إني مش عايزه أتجوز.
واصل نثر غلاظة حروفه وصرامته المعهودة:
-لأ ماهو مش بمزاجك يا حيلة ماما، اللي أقوله يتنفذ، الواد مايترفضش ومتعيبهوش حاجة.
-خلاص روح اتجوزه أنت.
هدرت كارما في غل من تحكمه المقيت في حياتها، فإتسعت عينا الاخر ونهض ينوي الانقضاض عليها لولا والدتها التي سارعت بالوقوف امامه فتابع صياحه وقد تلبسه الغضب:
-أنتي مش سامعة بتقول إيه.
-ماتقصدش ياخويا والله هدي نفسك بس.
غمغمت مبررة بسرعة، ثم نظرت تجاه كارما وتشدقت بحزم:
-ادخلي جوه يا كارما.
دخلت كارما غرفتها بالفعل لاعنة زوج والدتها وحياتها والأيام التي فرضته عليها حاكم.
ثم فاضت عيناها دمعًا وتلك الجمرة في قلبها قد ازداد اتقادها بسبب كلماته الضارية، فهي لم تنطفئ ابدًا بل كانت دومًا تحرقها معذبة اياها وكأنها ذكرى ملعونة ستصاحبها حتى الممات!
فبدأت تتذكر رغمًا عنها ذلك اليوم الذي توفت فيه شقيقتها الصغرى...
**
منذ ثلاث سنوات..
كانت مازالت طالبة تدرس في كلية الهندسة، خلعت سماعتها التي تؤلم اذنها احيانًا، وبدأت تستذكر دروسها بانسجام، بينما شقيقتها كانت في المرحاض تستحم، مر الوقت وفجأة في ظل اندماجها وجدت باب الغرفة يُفتح عليها واحد الجيران يسحبها من ذراعها بعنف غير مقصود للخارج وهو يردد:
-قومي بسرعة.
فالتقطت معها سماعتها بسرعة وهي تغمغم بخوف:
-في إيه!
وما أن خرجت معه من الغرفة حتى شهقت بسبب المظهر المريع حيث النيران تلتهم المطبخ والمرحاض، وبدأت في التهام ما تبقى من الشقة، بينما والدتها تصرخ وتنوح بأسم شقيقتها والناس يحاولون اخراجها من الشقة بسرعة، فأدركت حينها أن شقيقتها في الداخل وقد ماتت بين ألسنة النيران!
ماتت وهي تستنجد بالطبع، ولكنها لم تسمعها.. كانت تلك المرة الأولى التي تعلن فيها كافة مقتها وعدم رضاها لابتلاء ضعف السمع لديها، ربما لو كانت سليمة لكانت استطاعت انقاذ شقيقتها..
ولكن ذبحها صراخ والدتها فتمنت في نفس اللحظة لو كانت فقدته تمامًا فلا تسمع ذلك الصراخ الذي أحسته وكأنه يخبرها أنها السبب جالدًا إياها بأسواط تأنيب الضمير !!
لم تكن تلك النيران تشتعل في الشقة، بل في منتصف قلبها تمامًا، ظلت ذكرى تغلي وتغلي كالمرجل على مدار الثلاث سنوات السابقة، ولم تستطع اطفاءها اطلاقًا، فأصبح ذلك الحريق جزءًا لا يتجزء منها.
**
عادت من براثن ذكرياتها وهي تمسح دموعها التي فرت من بين جفنيها، وتنهدت مغمضة العينين تحاول تهدئة نفسها..
ثم انتبهت لصوت حركة في "البلكون" خلفها، ابتلعت ريقها بشيء من القلق وبدأت تقترب منها رويدًا رويدًا، وفجأة وجدت باب "البلكون" يُفتح و"عيسى" جارها الذي يود زوج والدتها تزويجها به يدخل، وبسرعة البرق كان يكمم فاهها بيده بقوة..
وقف أمامها مباشرةً لا يفصلهما سوى إنش واحد، وأنفاسه الساخنة القريبة تهب على ملامحها مبعثرة ثباتها، مد يده برقة مزيحًا خصلات شعرها الشاردة عند اذنيها، متلمسًا اذنها بإصبعه ببطء يتأكد من وجود سماعتها، اقشعر جسدها من لمسته وثقلت أنفاسها والتوتر يجتاح خلاياها، وفي نفس الوقت أحست بفعلته كقبضة مميتة تعتصر قلبها الملكوم بجرحه النازف فتزيده نزيفًا، والخوف بدأ يحتل قمم عينيها وهي تحاول تحرير فمها من قبضته، همس بصوت يكاد يُسمع:
-هشيل ايدي وماتطلعيش صوت.
وبالفعل ازاح كف يده ببطء، فهدرت فيه بحدة منخفضة النبرة:
-أنت عايز مني إيه؟!
هز كتفاه ببساطة استفزتها:
-مش عايز منك حاجة.
رمقته بنظراتٍ متعجبة، ثم استدارت مسرعة تركض نحو الباب، لحق بها "عيسى" مسرعًا فحُشرت تلقائيًا بين جسده من خلفها والباب أمامها، عَلى صوت تنفسها وهي تشعر بانهيار ثباتها الوشيك، ولكن ليس خوف.. لا بل ذلك الاعجاب الذي اقتنصه "عيسى" دون شعور منها، ثم أتى الان وبدأ يُداعب باقترابه نبتة الاعجاب التي حاولت كارما اقتلاعها، مثيرًا فيها مشاعر لحظية غير مرحب بها اطلاقًا.
راح يُكمل جوار اذنها بنبرة خشنة لها رنين مثير لقلبها:
-متخافيش مني يا كارما.
استدارت ببطء بعد أن ابتلعت ريقها تحاول بث الشجاعة في نفسها، فتشدق بـ:
-وأسمعي اللي هقوله كويس.
أنصتت له في ترقب وقلبها ينبئها أن القادم لن يعجبها على الاطلاق...
**
صباح اليوم التالي..
كان "عيسى" يقف في المتجر الخاص به صباحًا، ظهر أمامه "جاد" زوج والدة كارما الذي اقترب منه حتى صغرت المسافة بينهما، وهتف بصوت خفيض:
-ها إيه الأخبار طمني؟
هز عيسى رأسه بثقة وعينين لامعتين بالمكر والدهاء:
-كله تمام متقلقش، عملت اللي أتفقنا عليه، وهنكتب الكتاب قريب.
برقت عينا الاخر دهشة وفرح في آنٍ واحد وهو يسأله مستنكرًا:
-بجد؟ أنت متأكد يا عيسى؟
-هو أنا ههزر في حاجة زي دي برضو يا حاج جاد.
واصل عيسى معاتبًا والزهو يرج أركان ملامحه ونظراته، فحذره "جاد" :
-الموضوع ميتحملش أي احتمالات غير تنفيذ اللي أحنا عايزينه يا عيسى، الشيلة المرادي تقيلة وغير أي مرة.
ربت عيسى على كتفه وأضاف بجدية يطمئنه:
-عارف، بس أنت عارف برضو إن مفيش عملية بدخل فيها وبتفشل، أنا عيسى الشاذلي!
انطلقت الابتسامة من بواطن قلب "جاد" التي كانت مُلبدة بالقلق والتوجس، وراح يردد:
-عفارم عليك يا عيسى، كنت عارف إن مفيش حد هيخلص الموضوع دا غيرك.
****
يتبع.
الفصل الثاني :
صباحًا، كان فارس يتناول افطاره كعادته في احدى الكافيهات القريبة من النيل، والتي تطل على مظهر يجعل قلبه ينشرح وتغدقه شمس الأمل والتفاؤل والراحة النفسية.
انتهى ونهض يضع بعض الاموال على الطاولة، وكاد يتحرك ولكن أوقفه لوهله ظهور اخر شخص تمنى رؤيته، حيث " نغم" طليقته السابقة، كانت بالقرب منه ويبدو أنها رأته قبل أن يراها، أحس أن كل الراحة النفسية التي كان يلتمسها فرت ادراج الرياح لمجرد رؤية تلك النغم!
تحرك بعد أن رمقها بنظرات تصرخ بمقته واشمئزازه، ولكنها سارعت بالاقتراب منه وهي تناديه:
-فارس استنى.
إلتفت لها ولم تتبدل نظراته بل ازداد اتساع قاعها المليء بالنفور، فوقفت هي امامه وهتفت بنبرة بدت له لزجة:
-إيه مالك مشيت بسرعة أول ما شوفتني وكأنك شوفت عفريت ليه؟
-دا العفريت أرحم.
بصق الرد التلقائي بوجهها فاتسعت عيناها ذهولًا من اعلانه لنفوره وحقده بهذه الطريقة، فقد عرفته دومًا على أنه شخص لبق لطيف وهذا ما جذبها له في البداية.
عقدت ما بين حاجبيها وهي تعاتبه ببجاحة لم يفطن مصدرها:
-مش فاهمة أنت بقيت بتحقد عليا ومش طايقني كدا ليه، مع إن اللي عملته عادي، وطبيعي أي واحدة مكاني تقرر هتقدر تتنازل عن الأمومة او لأ، وأنا دي بالذات مش هقدر عليها سوري يا فارس.
ضغطت وبقسوة على جرح قلبه ورجولته النازف، فـ خر ذلك النزف على حروفه الهوجاء وهو يزمجر فيها:
-مش طايقك علشان واحدة قليلة الأصل ومادية وحقيرة، كنت بتجاهل كل عيوبك وجشعك ولو كان العيب عندك كمان كنت هستحمل ونحاول عشان أنا أصيل.
رفعت كتفاها معًا ببرود تحاول به مداواة كبريائها الذي جُرح للتو:
-بس الحمدلله العيب مش عندي، أنا من حقي أبقى أم وأعيش حياة طبيعية من غير نقص.
أردف فارس من بين أسنانه بلهجة غليظة:
-عمرك ما هتعيشي من غير نقص، لأن النقص أصلًا جواكي.
ثم غادر المكان تاركًا إياها خلفه تكز على أسنانها بحقدٍ دفين، وكأن عاصفة هوجاء مرت مبعثرة خلفها ذرات الهواء حتى.
ركب سيارته وهو يتنفس بصوت مسموع، بدا وكأنه يحاول نفث نيران الغضب التي إلتهمت دواخله، فبعدما جاهد ليلملم رماد كرامته وكبريائه جاءت هي برياحها العاتية وهبت ناثرة كل ما لملمه لتتركه يشعر بالخواء فقط...!
ضرب على المقود عدة مرات وهو يصرخ بجنون طالقًا تلك الآهه المتحشرجة التي علقت بجوفه ممزقة إياه.
****
بعد قليل..
استطاع فارس استعادة ولو قليل من ثباته الذي أفقدته إياه، وتوجه نحو شركته كالمعتاد، اتجه للمصعد مباشرةً، وقبل أن يُغلق باب المصعد كان احد الرجال الاداريين في الشركة، يقف بسرعة على أعتابه حتى لا يُغلق، وينظر لـ "فيروز" هاتفًا يحثها على القدوم:
-يلا يا فيروز أطلعي طلعي الورق زي ما قولتلك.
هزت فيروز رأسها نافية وهي تنظر للمصعد بخوف وكأنه وحش كاسر سينقض عليها في التو !
وتمتمت بحروف زهقها الارتياع:
-لا بخاف والله يا استاذ دياب.
زجرها الاخر مشددًا على حروفه في صرامة:
-مينفعش الورق يتأخر دقيقة كمان يا فيروز، وأكيد مش لسه هتطلعي 10 ادوار بالسلم، يلا اتحركي بسرعة بلاش دلع بقا.
حينها تدخل فارس الذي كانت الشياطين تتقافز أمام عينيه، وكأن الدنيا من أمامه أصبحت باللون الأحمر، هادرًا فيها بحدة:
-هنقعد نتحايل على حضرتك اليوم كله ولا إيه يا أنسة! دا مش أسانسير للموظفين أصلًا دا للإداريين بس، وأنا ساكت احترامًا لوجود استاذ دياب، فياريت بلاش عطلة.
انتفخت اوداج فيروز بالغيظ وتلبسها مارد العناد فتحركت بلحظة لتصبح داخل المصعد، فلوى فارس شفتاه متمتمًا دون صوت:
-دلع ماسخ!
اُغلق الباب وبدأ المصعد يتحرك بالفعل، ثقلت أنفاس فيروز وبدأت تشعر أن جدران صدرها تضييق حتى لم يعد هناك مجال للتنفس، دون وعي وضعت يدها على ساعد "فارس" الذي انتبه لتوه لحالتها متفاجئًا من الاعياء الذي فرش بساطه محتلًا ساحة وجهها، وانطفاء الحياة في عينيها الفيروزية وتصاعد بدلًا منها دخان الهلع.
أمسك ذراعها وكأنه يثبتها حتى لا تخر ساقطة ارضًا، وسألها بصوت بدأ الندم يلفحه:
-أنتي كويسة؟ أنا فكرت إنه خوف عادي ودلع.
-فوبيا، عندي فوبيا، خرجني.
غمغمت بها بحروف متقطعة وكأنها تجاهد لإخراجهم، فأحاط فارس ذراعيها معًا بحركة مباغتة لم تمر على عقله الصلد، وبدأ يمسد على ذراعيها برفق وبشيء من الحنو يهدهدها وكأنها طفلته الصغيرة:
-اهدي واتنفسي، أحنا خلاص وصلنا دي دقيقة وأقل من الدقيقة كمان.
وبالفعل فُتح باب المصعد، فبدأت تتنفس الصعداء مغمضة عيناها، تشدق فارس يناكفها:
-أنتي إيه حكايتك كل شوية ألحقك من حاجة، حد قالك إني السوبر هيرو بتاع الشركة دي؟
ضيقت عيناها وهي ترمقه باستنكار مُبطن، ثم تابعت في حنق:
-وهو مين السبب؟ لو ماكنتش.....
وبقيت جملتها معلقة كالتي استوعبت للتو أنه "مديرها" في العمل وليس صديق طفولتها زياد!
عضت على شفتيها في غيظ ونظرت للاتجاه الاخر، فتدلت الابتسامة على ثغر فارس الذي استطرد مشاكسًا:
-وإيه كمان ؟ كملي كملي ماتكتميش في قلبك ليجرالك حاجة.
نظرت فيروز ارضًا، ثم رفعت رأسها ببطء بعد ثوانٍ وقد تخضبت قسماتها بالمسكنة وهي تتشدق:
-أنا أسفة يا باشمهندس دا بس من ضغط الموقف اللي اتعرضتله دلوقتي.
أوشكت الاجابة على تخطي شفتاه، ولكن نظرة احد الموظفين له وهو يقف ليدردش مع مجرد موظفة عادية في الشركة، وعلى غير طبعه!
جعلت الاجابة تتراجع لمسكنها من جديد، وتنحنح قائلًا بصوت أجش آمر:
-اتفضلي روحي على شغلك.
ثم تحرك مغادرًا المكان تاركًا إياها رافعة حاجبيها بغيظٍ ملحوظ من التحول الذي أصابه، فقد كانت تحاول شغل تفكيره بردود أفعالها المباغتة باختلافها، ولكن اتضح أنه هو الذي فعل وباغتها.
**
توجهت بعدها لاحد المكاتب حيث يعمل "دياب" الذي ساعدها منذ قليل، وما أن دخلت وأغلقت الباب خلفها، أردفت متأففة:
-هو مفيش أي حل اتنقل اشتغل فوق معاه؟ كدا مش هينفع.
هز رأسه نافيًا وهو يرسخ اقدام العقبة التي تمنت فيروز ازالتها:
-منا قولتلك يا فيروز من الأول إن الموضوع صعب وإن فارس ابو الدهب مش شخص عادي.
بلحن صوت قانط أكملت:
-بس أنا كدا محتاجالي سنتين تلاتة عشان أعمل اللي أنا عايزاه.
رفع الاخر كتفاه معًا وهو يؤكد:
-أنتي مضطرة تستحملي للأسف، قوانين الشركة هنا صعبة ومفيهاش وسطات.
بدأت تبوح بمخاوفها، متذكرة اصطناعها الرعب والتظاهر أنها لديها فوبيا !
وكيف كانت كانت دقات قلبها مهتاجة وفي حالة رثة من الهلع، ولكن ليس بسبب المصعد، بل خشية ازاحة ستار الخداع عن عيني "فارس" واكتشافه لكذبها..
-أنا خايفة يبتدي يشك إن أنا بعمل المواقف دي عن قصد، دا لاحظ إنه أنقذني كذا مرة!
صمت "دياب" ولم ينطق، وارتسم الخوف على بقاع معالمه، فأدركت هي مغزى ذلك الخوف، ربتت على يده متمتمة:
-متقلقش كل حاجة هتكون كويسة.
-فيروز أنتي لازم بعد كدا تظهري قدام فارس بطريقة غير مباشرة ومش مقصودة ولازم تاخدي بالك إن فارس ذكي جدًا.
حذرها بشيء من الحزم، فهزت رأسها موافقة وهي تسير مغادرة، تحاول تبديد ذلك الشعور بأن الطريق طويل وصعب امامها، بل ومليء بالأشواك.
****
في المنطقة التي تقطن بها "كارما" ، تحديدًا أسفل البناية التي يسكنوا بها، كانت كارما ووالدتها تنتظرا قدوم "عيسى" حتى يذهبوا لشراء الذهب ويقوموا بتأيجر الفستان الذي ترتديه كارما في حفل عقد القران الصغير، ولكن لم يطول تأخره حيث أتى معتذرًا بلباقة:
-معلش غصب عني التأخير.
هزت حماته رأسها نافية بابتسامة:
-ولا يهمك يا حبيبي عادي بتحصل.
فيما ألقى "عيسى" نظرة تجاه كارما التي تنظر في الجهة المقابلة بعيدًا عنه، وكأنها ترفض حتى مجرد النظر، ولكن ليس نفور كما فسره عيسى، بل توجس.. وكأن بمجرد أن تداعب صورته عدستيها ستخونها مشاعر الاعجاب داخلها وتثمر عن اخرى اشد لوعة وتطلب!
اوقف سيارة اجرة وهو يشير لكارما بالدخول، فركبت دون كلام، ثم اشار نحو حماته متابعًا:
-اتفضلي يا حماتي.
هزت رأسها نافية بإصرار قائلة:
-لا لا أنا هركب قدام مبحبش أركب ورا أصلًا، أركب أنت جمب كارما.
هز عيسى رأسه نافيًا وكاد يعترض، ولكنها مزقت اعتراضه بحدة حروفها الظاهرية:
-خلاص بقا يا عيسى الراجل مش هيفضل مستنينا كتير، اركب جمب كارما يلا الله يرضى عنك.
هز عيسى رأسه موافقًا على مضض، وبالفعل ركب جوار "كارما" التي إنكمشت على نفسها، تلعن إصرار والدتها التي تعتقد أنها هكذا تضمن لها بناء عشًا من السعادة، ولا تدري أنها تدفعها نحو هاوية اللاعودة... هاوية العشق!
سيطر الصمت على الدقائق التالية، حتى بدأ النوم يشن حصاره على جفون "كارما" فأغلقت عيناها ببطء رغمًا عنها، ومالت رقبتها بتلقائية مستندة على كتف "عيسى" الذي كانت الذبذبة العاطفية من نصيبه هذه المرة، ذبذبة قوية لمكنونات أحاسيسه تسببت بإزالة قشرة اللامبالاة والثبات الاولى، ونقلته إلى مرحلة اخرى.. ونظرة جديدة.. وشعور مختلف!
لم يشأ أن ييقظها، وفضل استكشاف تلك المرحلة الشعورية الجديدة التي زجه بها القدر، كطفل يخطو خطواته الاولى عابثًا بكل ما حوله ليستكشفه، فرفع إصبعه ببطء يزيح تلك الخصلة عن وجهها... متأملًا ملامحها الصغيرة التي تحمل قدرًا ملحوظًا من الطيبة والبراءة معًا.
لم تتركه كثيرًا في غمرة احساسه الجديد الذي يعيشه، وفتحت عيناها حين اهتزت السيارة، لتجد نفسها وقد مالت رأسها على كتفه، تجمدت للحظات ببلاهه تسأل نفسها تراه ماذا يكون رد فعلها ؟!
ثم غمغمت بلهجة أشد بلاهه:
-إيه اللي أنت عملته دا ؟
رفع حاجبه الأيسر متمتمًا والتهكم يسطو على حروفه:
-والله؟
ثم قرر العبث معها قليلًا، فمال نحوها بالقرب من اذنها، مستمتعًا برؤية تلك الانتفاضة العاطفية في عينيها، وخرج همسه التالي برنين رجولي مميز يخصه وحده:
-فعلًا تقتلي القتيل وتمشي في جنازته، تتحرشي بيا وتحضنيني وتمسكي فيا وبعدين تقوليلي إيه اللي أنت عملته دا !
إتسعت عيناها حرجًا وتدرجت الحمرة لوجنتيها ببطء:
-يا راجل، أنا عملت كدا؟ مستحيل.
اومأ مؤكدًا برأسه، مضيقًا بين حاجبيه ببراءة لم تتناسب كليًا مع العبث والمشاكسة التي سادت كلماته:
-أيوه أنتي، خدشتي حيائي وأنا اللي عمر ما واحدة استجرأت تمسك فيا المسكة دي وتنام على كتفي.
جزت على أسنانها في حنق وهي تستدير بوجهها للجهة الاخرى وقد استفزها أن تكون تسليته، بينما هو ابتسامة توسطتها أنياب المكر اعتلت ثغره وقد راقه العبث معها ومشاكستها كثيرًا.
بعد أن انتهوا من شراء الذهب الذي يتم شراءه لكل عروس كهدية من عريسها، توجهوا نحو احدى المتاجر لشراء او تأجير فستان عقد القران..
وصلا بعد فترة ليست بكبيرة للمتجر، وبدأت كارما بالفعل ترتدي وتجرب بعض الفساتين تحت إصرار من والدتها التي أرادتها أن تعيش كل شيء كأي عروس رغم أنها لن تقيم زفاف.
وبينما كانت "كارما" تقوم بقياس احد الفساتين، وينتظرها في الخارج عيسى ووالدتها، سمعوا صوت مشاجرة نسائية عنيفة بالخارج وتقريبًا أمام المتجر، استعرت انتباه كافة الموجودين ومن بينهم العاملات بالمتجر فخرجوا جميعهم ووالدتها ايضًا ليروا ما سر تلك المشاجرة..
بينما عيسى لم يتقدم كثيرًا كونها مشاجرة نسائية واكتفى بالوقوف على عتبة المتجر، وفجأة سمع صرخة قصيرة انطلقت من جوف "كارما" والتي لم ينتبه لها سواه تقريبًا لأنه كان الوحيد الذي لم يخرج من المتجر فعليًا، فركض دون تفكير تجاه المكان الذي تقيس به كارما، فوجدها تتشبث بفستانها بقوة وكأنه سيحميها، وتردد بذعر:
-بورص، في بورص بص فوق اهوه.
رفع موسى عيناه له ثم أنزلها ببرود وكأن الصدمة أثلجت القلق الطبيعي الذي استدرجه لهنا راكضًا، وعلق ساخرًا:
-أنتي صرختي عشان شوفتي بورص؟
-على أساس إنه ابن خالتي يعني! دا أول مرة أشوفه وبعدين أفرض وقع عليا؟
صاحت به في تذمر بينما عيناها تتكلف بمهمة مراقبة ذلك البرص الذي كان بالنسبة لها وحش دموي!
تجاهل عيسى ما تقول، وسألها:
-أنتي قيستيه خلاص؟
اومأت برأسها وهي تعود للنظر للفستان مؤكدة:
-ايوه قيسته، جميل.
بدا عيسى وكأنه انتبه للفستان في تلك اللحظات، فتأمله وتأمل رقته التي لاقت كثيرًا بها، وهمس مبديًا إعجابه بالفستان صراحةً بينما يقترب ببطء تلقائيًا:
-جميل فعلًا.
بمجرد أن اقترب منها انتفضت دقات قلبها العذري من جديد في ثورة عاطفية صارت تتردد بين أنحاء صدرها مؤخرًا بعد أن قمعتها طويلًا !
وما أن أصبح أمامها حتى صرحت مزمجرة:
-لأ، أنا مش هكمل مش هتجوز.
لا يمكنها.. ظنت أنه مجرد اعجاب ستجيد التحكم بخيوطه، ولكن مع الوقت وكلما كانت بالقرب من عيسى تكتشف أنها هشة اكثر من أن تفعل ذلك، ولن تستطع المغامرة بهكذا شيء والعدو فيما يحدث وكأنها لا تنتبه لتطور تلك اللعنة المسماه بإعجاب!
بينما عيسى قست معالمه وهو يواصل مستنكرًا وقد لامست الحدة أطراف حروفه:
-يعني إيه، هو لعب عيال ولا إيه؟ أنتي ناسية اللي قولناه ولا إيه؟!
هزت رأسها نافية وهي تعترف بصدق:
-لأ مش ناسية، بس مش هقدر، مش هقدر فعلًا.
جذبها عيسى فجأة من خصرها بقوة نحوه حتى اصطدم جسدها الغض به، ضغط على خصرها برفق وراح يسترسل فيما كانت عيناه تبرق بصلابة وإصرار أخافها بعض الشيء:
-إنسي، مش بمزاجك، أحنا مش بنلعب! الجوازة دي هتتم.
حاولت كارما تحرير نفسها من بين ذراعيه، ولكنه شدد على خصرها مرة اخرى مستعيرًا نظراتها من جديد وأضاف بنبرة قاسية تطوف على السطح لأول مرة:
-أنتي مفكره إنك لو روحتي قولتي لجوز أمك أنا خلاص غيرت رأيي ومش هتجوز هيقولك طبعًا حاضر يا حبيبتي!
صمت برهه يهز رأسه نافيًا وواصل:
-تبقي ساذجة لو فكرتي كدا، وأنا مكنتش مفكرك ساذجة يا كارما.
أحست كارما أن كلماته الصلدة ما هي إلا صفعات الحقيقة التي تجاهلتها معلنة تراجعها في بداية ذلك الطريق المُعتم.
دفعته بعنف بعيدًا عنها وهي تهدر فيه:
-أطلع برا.
لم يضغط عليها عيسى أكثر وإنسحب وهو يزفر بصوتٍ عالٍ، لم يكن يرغب أن يصل معها لهذه النقطة، ولكنها مَن أرغمته على ذلك، فهو لن يسمح لها بالتراجع، سيكتمل ما يريد حدوثه!
****
اليوم التالي صباحًا في شركة المقاولات..
كان "فارس" في الأسفل حيث البهو الواسع للشركة في وجهة باب الدخول، ينتظر وصول شريكه الذي يأتي من سفر دام شهران تقريبًا، فهذه طبيعته يسافر لدبي متابعًا فرع الشركة الاخر هناك ويظل شهران او اكثر، ثم يعود مصر شهر وهكذا..
وبالفعل وصل شريكه بعد قليل، فرحب به فارس متلقفًا اياه بين أحضانه وبعد ترحاب ومودة خلقتها العشرة بين الطرفين، بدآ يسيرا معًا لداخل الشركة، بينما فارس يسأله:
-إيه اخبار فرع دبي؟ ماشي الدنيا تمام؟
فأكد الاخر بثقة:
-زي الفل يا ابو الفوارس، متقلقش.
في نفس الوقت وعلى بُعد خطوات ليست بعيدة كثيرًا، كانت فيروز تسير حاملة بين يديها كوب القهوة الذي أعدته لنفسها لتعالج الصداع النصفي الذي يكاد يفتك برأسها، ولكن فجأة تصنمت مكانها لثوانٍ معدودة ما أن رأت شريك فارس، والذي كان أخر شخص تمنت رؤيته على الأقل حاليًا.
ركضت دون انتظار لحظة اخرى مسرعة تختفي عن عينيهم، ولكنها لم تنتبه لتلك النظرات الصقرية التي كانت تتابع هروبها........
****
يتبع
الفصل الثالث :
تحركت "فيروز" بأقدام مترددة نحو مكتب "فارس" الذي استدعاها على عجالة ما أن فارقه شريكه "خالد" فبدا وكأنه يدب في قلبها سكين بارد السن، يُعذبها قبل أن يمزق قلبها.
وقفت للحظات أمام السكرتارية الخاصة بمكتبه، تود لو تسألها عن وجود شريكه "خالد" او عدمه، فلابد ألا يراها او يعلم بوجودها بالشركة ابدًا، بالاضافة لكونها لا تتمنى ابدًا لمح طيفه الأسود ولو على بُعد، فهي لم تنسى ما فعله معها بعد..!
نفضت أطراف ذلك السؤال المُلح على لسانها، وتمتمت بصوت حاولت جعله هادئ:
-فارس بيه طلبني.
اومأت الاخرى مؤكدة بجدية:
-ايوه فعلًا مستنيكي، اتفضلي.
دلفت لمكتبه وهي تأخذ شهيقًا ثم زفرته على مهل، طاردة معه رذاذ قلق أمطرها به عقلها المُلبد بالمخاوف، وقفت أمامه بثبات تُحسد عليه، وسألته مباشرةً:
-حضرتك طلبتني يا باشمهندس، في حاجة؟
للحظات لم يرفع رأسه عن الأوراق أمامه، فأحست وكأنه مديرها في المدرسة الذي سيُعاقبها على قلة تهذيبها !
رفع عيناه ببطء لها ولمحت فيهما الاستنكار لسؤالها، ثم ترجم ذلك السؤال لسانه حين سألها:
-أنتي شايفة إنك معملتيش حاجة؟
هزت رأسها نافية وهي ترفع كتفاها معًا:
-لأ مش عارفة، ياريت حضرتك تعرفني.
-أنتي ازاي يا باشمهندسة يا عاقلة يا رزينة تدلقي القهوة في نص الشركة وتجري زي الأطفال من غير حتى ما تنادي حد من الاوفيس يمسح اللي عملتيه.
جاءتها حروفه شديدة اللهجة موبخة، تبًا لقد ظنت أن لم ينتبه لها أحد، ولكن كالعادة حظها التعس يفرض رسمه المُذل لها ضاربًا بكل ظنونها عرض الحائط.
لم تجد ثغرة في ذلك الموقف تستطع العبور بها من اسفل حجر الصرامة الشديد الذي وضعه بكلماته، سوى أن تتعمد الظهور كبلهاء غاضة البصر عن كبريائها قليلًا..
لذا بررت بابتسامة قطرت بما شابه بلاهة الأطفال:
-معلش يا باشمهندس أصلي كنت عايزه أدخل الحمام بسرعة.
ازداد الاستنكار تجمهرًا وسط حروفه وهو يردد خلفها:
-الحمام !
صمت لحظة ثم واصل بنفس الصرامة والشدة:
-مينفعش يصدر منك فعل زي دا، أنتي كدا مستهينة بمكانة الشركة اللي أنتي شغالة فيها، دي مش سوق الجمعه.
بملامح متجهمة اومأت برأسها موافقة:
-تمام، عن اذنك عشان ورايا شغل.
ثم استدارت نفس اللحظة وغادرت مسرعة وكأنها تهرب من بين فكي الأسد الذي لا يكف عن الضغط عليها بأنياب صرامته وشراسته.
بينما فارس يراقبها بعينين شاردتين غير مقروء ما يعم سطريهما، ويده تتلاعب بالقلم بين أصابعه قبل أن يثبته متنهدًا.
****
دخل "عيسى" منزله الذي يقيم فيه مع شقيقه "حازم"صاحب العشرون عامًا، ووضع بعض المشتريات جانبًا على المنضدة وبدأ يبحث بعينيه عن شقيقه، لم يطول بحثه كثيرًا إذ اخترق الصورة شقيقه الذي خرج من غرفته، فقال عيسى بابتسامة هادئة:
-أي خدعة يا عم جبتلك كل اللي أنت عايزه.
تفحص الأشياء التي جلبها عيسى ثم هتف بشيء من العتاب:
-كويس إنك فاكر إني عايش معاك.
استنكر عيسى بشدة جملته:
-كويس إني فاكر !! هو أنا ليا مين غيرك أصلًا يا حازم عشان مافتكركش؟
هز حازم رأسه نافيًا وقد قرر مصارحته:
-أنا مبقتش في حياتك تقريبًا يا عيسى.
رفع عيسى حاجباه معًا مدهوشًا:
-ليه بتقول كدا ؟!
-مش عارف بقول كدا ليه؟ ولا عامل نفسك مش عارف؟
باغته حازم لأول مرة بنبرة بها هجوم جعل عيسى مأخوذًا بوقعه، فأجابه بصدق:
-لأ مش واخد بالي فعلًا يا حازم.
أعترف حازم شاعرًا بكل الأسف:
-أنت بعدت عني خالص يا عيسى، أنت كنت بتحكيلي على كل حاجة في حياتك، لكن دلوقتي أنا اتفاجأت زيي زي الناس الغريبة إن أنت هتتجوز، وكمان مش هتعمل فرح.
لم تمر تلك النقطة على بصر عيسى الذي إلتهى عقله تمامًا وأصبح ما يفكر به ويخطط له حاجز أمام عيناه..
لذا تنحنح وهو يسحب حازم معه نحو الأريكة برفق:
-تعالى بس يا حازم وهفهمك كل حاجة.
جلسا معًا على الأريكة، فواصل عيسى نافضًا عنه غبار الاتهام الذي ألقاه عليه:
-كل الحكاية إني قررت أتجوز وأستقر، الموضوع مفيهوش قصة يعني، وموضوع الفرح دا بسبب ظروفها أنت عارف يعني الناس مش بتسيب حد في حاله، وكمان عندهم حالة وفاة.
رفع الاخر حاجبه الأيسر في استهجان واضح وردد:
-عايز تقنعني إن عيسى اللي ماكنش بيفضل مع واحدة أسبوع، قرر فجأة يتجوز ويستقر !!
ضرب عيسى كفًا على كفٍ نافيًا إصرار حازم على حقيقة يحاول دفنها داخله حتى لا يعرض شقيقه لأي سوء او يُدخله في اعماله.
ثم أردف في حنق اجاد رسمه:
-ما يمكن ربنا هداني يابني، وقررت استقر وافتح بيت، إيه المشكلة! دا أنت غريب أوي يا حازم.
استدار بجسده نحوه وأمسك بمؤخرة رأسه يقربه منه وهو يؤكد عليه في حزم حاني:
-يا عبيط أنت اخويا، يعني أبعد أي حد عني إلا أنت، دا أنت كل اللي فاضلي في الدنيا دي ياض.
بدأت الابتسامة تتلمس أطراف ثغر حازم وهو يهز رأسه مؤكدًا قول شقيقه الذي يعلم دومًا كيف يحتويه مبددًا ما يعتريه من تراهات.
****
بعد يومان تقريبًا..
كانت "كارما" تتظاهر بوضع الملابس المبللة على الحبال حتى تجف، بينما هي في الأساس تتعمد الابطاء في ذلك حتى تتسنى لها الفرصة الوقوف في الشرفة التي تعشق الوقوف بها والشرود في ملكوت الخالق، ولكن دومًا تصبح قرارات واوامر زوج والدتها المقص الذي يقص شريط أمنياتها وأحلامها.
انتبهت عيناها لاحدى الفتيات من اللاتي يسكنَّ في الحارة جوارهم، وهي تتجه صوب المتجر الخاص بـ عيسى، ولكن لم تعر الأمر كافة الاهتمام، وأكملت ما تفعل، او هكذا تظاهرت..
بينما في الأسفل، اعتلت ثغر "عيسى" ابتسامة تعج بالعبث ما أن لمح قدوم "داليا" جارتهم التي يعلم كل العلم أنها تأتي المتجر من أجله وليس من أجل الشراء كما تَدعي، ولكن ببساطة... يعجبه ذلك، بل ويغذي غروره الذكوري!
اقتربت منه ببطء تتسكع في خطواتها فخورة بملابسها الضيقة التي تبرز مفاتن جسدها الانثوي، ثم بادرته بشيء من الغنج:
-ازيك يا عيسى، عاش من شافك مختفي ليه الفترة دي؟
هز رأسه مجيبًا بابتسامة فاترة:
-الحمدلله بخير، معلش في كام حاجة شاغلة دماغي الفترة دي أخلص منها.. وأفوق لكل حبايبي.
أنهى كلمته الأخيرة بلمعة شقية زينت سوداوتاه، فاتسعت ابتسامة الاخرى وهي تلتقط بعض الاشياء متمتمة برقة مبالغ فيها:
-ربنا معاك، ماتطولش الغيبة علينا بقا، أنت عارف أنت غالي علينا قد إيه.
هز رأسه مؤكدًا وذات اللمعة المصاحبة لعينيه تبرق بشقاوة محببة للجنس الاخر:
-عارف طبعًا يا قمر، ربنا يديم الود اللي بينا.
في نفس الوقت كانت "كارما" تكاد تقفز من الشرفة، وكادت عيناها تخرج من مجحريها وهي تحاول تدقيق النظر فيما يحدث، وقد استعرت وعَلت شراهة الانثى داخلها، تراهم ما الذي يثرثرون به كل هذه الدقائق، أيعجبه تملق تلك الشمطاء الملونة ؟!
رأتها وهي توشك على الخروج من المتجر، فقفزت لعقلها فكرة شياطنية ترضي شره وكيد الانثى داخلها فأمسكت بوعاء الملابس البلاستيكي والذي كان به مياه متبقية من الملابس المبللة، وما إن خرجت "داليا" من المتجر حتى سكبت عليها المياه، فشهقت الاخرى فزعة وقد فسد مظهرها وخصلاتها وكل شيء، بينما كارما تراقبها بتشفي وابتسامة راضية كامل الرضا عما فعلت، وظلت ثابتة بوقفتها حين رفعت الاخرى رأسها ترمقها بنظراتٍ مشتعلة حاقدة، ثم ركضت تختبئ عن أعين الناس بمظهرها الذي أصبح رث، فيما نظر عيسى لكارما بحنق ظاهري ولكنه في داخله يحاول بكل القوة التي يمتلكها كبت ضحكته حتى لا تنفجر مبددة عبوس وجهه الزائف، فتوعدته كارما بعينيها وأشارت له بيدها وهي تردد بصوت حرصت أن يسمعه وألا يكن صارخ في نفس الوقت:
-استنى نازلالك.
للحظة أحس عيسى أنه طفل مشاغب ووالدته قادمة لمعاقبته، تنحنح وهو يعود لوقفته الجادة مرة اخرى، متأهبًا لهجومها في اي لحظة، فهو كان يعلم أنها ستُخرج حتمًا الغضب الكامن داخلها منذ اخر مرة بسبب ما قاله.
وبالفعل دقائق معدودة وكانت أمامه، تهدر فيه كما توقع:
-إيه المسخرة اللي كانت حاصله دي؟ الناس كلها عارفة إن كتب كتابنا بعد أقل من شهر، أنت لازم تحترم وجودي، وإلا لو هتفضل تتعامل بالطريقة دي يبقى نفضها سيرة.
اخشوشنت نبرته وهو يحذرها لاجمًا شراستها اللحظية التي اشتدت وطئتها:
-هي لبانة في بُقك ولا إيه كل شوية تهدديني!! لا اصحي أنا محدش يهددني أنا عيسى الشاذلي.
غمغمت بتلقائية بنبرة خفيضة لم يسمعها:
-حصلنا القرف.
فأرهف عيسى السمع مضيقًا عينيه:
-بتقولي إيه؟
هزت رأسها وهي تشير لنفسها ببراءة تناقض الشراسة السابقة التي نفذ مخزونها الان:
-أنا ؟ خالص مبقولش.
تأكدت شكوك عيسى وزاد إصراره:
-لأ قولتي، متبقيش جبانة وعَلي صوتك، أنا حاسس كدا وكأنك بتشتميني؟
هزت رأسها نافية بعينين متسعتين وكأنه ألقى على عاتقها تهمة شنيعة:
-أنا مبعرفش أقول الحاجات دي.
إلتوت شفتاه بابتسامة صارخة بالتهكم وهو يردد:
-يااااه على البراءة.
تابعت بزهو :
-طبعًا أمال أنت فاكر إيه؟ المهم خلينا في موضوعنا عشان احنا الاتنين نكون متفقين، لازم تحترم وجودي زي منا محترمة وجودك.
كان الغرور الذكوري البحت من نصيب حروفه وملامحه التي انفرجت بغرور مستفز للواقفة أمامه وهو يقول بقلة حيلة مصطنعة:
-طب أعمل إيه في وسامتي اللي بتشدهم ليا وتخليهم يموتوا فيا؟! مش ذنبي يا كارما، القبول دا بتاع ربنا، اعترضي على قضاءه بقا.
استرسلت ساخرة:
-لا طبعًا أعترض ازاي، ربنا يقوي إيمانك يا شيخ عيسى.
-وإيمانك يا أخت كارما.
تمتم بها ببرود وابتسامة سمجة، ثم أردف:
-وبعدين أنتي نازلة تتكلمي كدا ليه دي زبونة وواقفة عادي بتشتري!
-وقفتكم مش وقفة عادية، وقفة حاجة تانية، وياريتها تستاهل دي حتى فِيك!
أضافت بجدية وهي تتذكر تلك المقيتة، فردد عيسى مستنكرًا:
-فِيك ؟
أكدت ترسم الشفقة الزائفة:
-والله أنا بدعي ربنا يبعد الغشاوة اللي على عنيك، أصل أنت باين عليك أعمى البصر.
تجاهل ما قالته وعاد ذلك الصبي الشقي للظهور حين استطرد بنبرة رجولية ماكرة عابثة:
-هي فِيك، وأنت بقا الطبيعي الأصلي يا جميل؟!
لُجم لسانها كالعادة وهي تفر هاربة كما توقع بعد أن احتل الخجل قسماتها، فابتسم عيسى يعترف داخله أن العبث معها يروق له جدًا، وأنها نوع جديد من النساء لم يتعرف عليه بعد!
****
في الشركة..
كانت "فيروز" تعمل مع احد الزملاء لها في العمل، والذي كان شخص عابث تمقته ولكنها لا تملك حق التقرير بإمكانية العمل معه او لا..
وبينما كانت تقف امام المكتب وتنظر للجهاز اللوحي على المكتب بتركيز في عملها، كان الاخر يقف جوارها متصنعًا التركيز في العمل، ولكنه في الحقيقة كان منشغلًا بالتركيز في جمالها الذي سلب منه نظراته عنوة، بل وكالعادة اشتعل داخله العبث الذي يصاحبه معظم الوقت، وخاصةً أنها لا تعطيه أي تركيز او اهتمام، فقرر مداعبتها بخفة وعبث طفيف ليرى رد فعلها ثم ربما بعدها يعجبه الأمر وتزداد جرعة العبث!
اعتلت الابتسامة الماكرة ثغره، ثم مد أصابعه وببطء كان يلامس فستانها حريص على ألا يمس جسدها فعليًا فربما تهتاج فرائصها مفتعلة مشكلة.
وبالفعل تصنمت فيروز مكانها للحظات تستوعب ما يحدث، وما أن تأكدت من تعمده فعل ذلك حتى زمجرت فيه باهتياج:
-أنت بتمد إيدك على جسمي يا حيوان يا زبالة.
إتسعت عينا الاخر نافيًا بشدة وهو ينظر حوله خشية سماع اي شخص وتدخله:
-أنا ! كدابة محصلش، أنا ملمستكيش.
عَلى صراخها اكثر وهي تدفعه بعنف حتى ارتد للخلف عدة خطوات:
-ما أنت كنت خلاص هتعمل يا رمرام يا قذر.
بادلها هو الاخر الصراخ ببجاحة مذهلة وكأنه على حق:
-احترمي نفسك أنا مش قذر أنا محترم غصب عنك وعن عين أهلك.
هزت فيروز رأسها ساخرة وبنبرة فجة تابعت:
-محترم اه منا واخدة بالي، دا أنت متحرش يالا! أهلي دول أنضف من عشرة زيك يا متحرش.
-بطلي ترمي بلاكي عليا، أنتي عشان حلوة شوية خلاص مفكرة كل الناس هتموت وتتلزق فيكي، لا فوقي يا ماما أنا مهندس محترم قد الدنيا.
تشدق الاخر بتعنت وتعالي لا يليق بحقارته السابقة، فناطحته فيروز بحروفها المشتعلة غضبًا:
-أنت متسواش ربع جنية في سوق الرجالة يا زبالة ياللي معدتش عليك تربية.
تجمع باقي الموظفين حولهما وبدأوا يحاولون فض ذلك الشجار العنيف، بينما فيروز لا تستطع السيطرة على وحش الغضب الذي اهتاج داخلها كما لم يهتاج من قبل، مُصرًا على إلتهام ذلك الحقير المقيت أمامها، فهو لم يكتفِ بالحقارة التي فعلها، بل وينفيها عن نفسه راميًا بثقلها فوق رأس فيروز !
بعد قليل جاءهم شخص أعلى منهما في العمل، وقال بنبرة حازمة:
-انتوا الاتنين اتفضلوا على مكتب فارس بيه حالاً.
تحرك الاخر دون كلام، تتبعه هي بنظراتها المحتقرة، وبالفعل وصلا مكتب "فارس" الذي كان ينتظرهما في تأهب..
وما إن دخلا حتى هبت عليهما وصلة التوبيخ المرتقبة:
-إيه اللي أنا سمعته دا يا باشمهندسين، دا أحنا لو في حضانة مش هيحصل كدا.
ثم ضرب على المكتب بخفة واسترسل بنفس الصرامة:
-أحنا في شركة راقية محترمة، المفروض نتعامل برقي يليق بيها وبينا، مش نتخانق ونفرج علينا الناس كلها بالطريقة دي !
صمت برهه ثم أضاف محذرًا:
-أتمنى اللي حصل دا مايتكررش منكم تاني، لأن ساعتها رد فعلي هيبقى مختلف، اتفضلوا على شغلكم.
إنصرف الاخر الذي تراشقت به نظرات فيروز المشمئزة، بينما فيروز لم تتحرك مكانها بل ظلت محافظة على وقفتها في جمود وإصرار.
رفع فارس حاجباه معًا وهو يسألها مستنكرًا:
-انتي مستنية عندك بتعملي إيه؟
أجابته بنبرة جامدة تحلت بالجراءة:
-حضرتك هزقتني معاه من غير ما تعرف سبب الخناقة إيه.
فأكد على حديثه السابق بنفس التبلد والصلابة:
-أيًا كان سبب الخناقة أحنا مش ف الشارع عشان تمسكوا في بعض كدا.
تمردت طباع شخصيتها الحقيقية منتفضة بعد أن حُبست أسفل لوحة الشخصية التي رسمتها بريشة مخططاتها، وصاحت بانفعال:
-دا أنا لو في مكتب رئيس الجمهورية هقلع الجزمة واديه على دماغه.
بقليلٍ من الانفعال وبخها فارس محذرًا:
-أنتي في شركة محترمة ياريت تختاري طريقة كلامك.
صمتت لدقيقة تقريبًا محاولة تنظيم أنفاسها وتحجيم وابل الغضب الذي تدلى منها:
-طالما حضرتك مش عايز تعرف السبب اللي يخليني اتخانق معاه، لو سمحت أنا مش عايزة اشتغل في نفس المكان معاه.
اعترض بنفس التبلد والجدية:
-دا مش حسب رغبة الموظفين، الشركة ماشية بقوانين.
عادت للاهتياج من جديد بعد أن استفزها بتبلده المستمر:
-منا مش هعرف أشتغل مع حد مد ايده عليا.
استفسر بتركيز:
-مد إيده عليكي ازاي؟
-تقدر حضرتك تشوف الكاميرات وهتعرف.
استطردت بغلاظة تنم من حنقها، فهز فارس رأسه موافقًا وبالفعل اطلع على المقطع في الكاميرات، ثم هز رأسه قائلًا:
-تمام تقدر تتفضلي على شغلك وأنا هيبقالي تصرف معاه متقلقيش.
-بس كدا ؟!!
غمغمت بها ذاهلة، لا تستوعب كم البساطة المحدجة من بين حروفه، فأومأ برأسه مؤكدًا:
-أيوه، اتفضلي عشان جايلي ضيوف دلوقتي.
بقيت دقيقة تحدق به بعدستيها اللاتي تشعان غيظًا وغضبًا، ثم أجبرت قدماها على التحرك، مذكرة نفسها أنها لا يجب أن تتمادى لدرجة أن تفقد عملها، ولكن ستصل حتمًا لمبتغاها حتى وإن سلكت طريق اخر ملاوع دونًا عن ذلك الطريق المُربض بالعقبات.
****
بعد يومين تقريبًا...
كان "فارس" في مكتبه يهتم بعمله بإتقان وتركيز، حين طُرق الباب فأذن للطارق بالدخول، أتاه "دياب" الذي تربض التوتر بين معالمه، فنظر له فارس وعيناه تسأل السؤال الذي لم ينطقه لسانه بعد..
تنحنح دياب قبل أن يقطع الصمت قائلًا:
-فارس بيه كنت عايز أقول لحضرتك حاجة مهمة.
-اتفضل.
تمتم بها فارس بهدوء يحثه على البوح، فجلس دياب على الكرسي أمام المكتب، وأضاف بحروف بها تلجلج حاول تحجيمه:
-حاجة بخصوص فيروز.
ازدادت جرعة الانتباه حقنًا بدماء فارس حين ذُكر اسم تلك الفيروز، فهو لم يتقابل معها اليومان الماضيان، لا يدري أ هو من حسن حظه ام من سوءه!؟
-قول يا استاذ دياب أنا سامعك.
قالها فارس يحثه على الإسراع، بينما كان التردد في النطق من نصيب دياب، ولكنه عزم على النطق مستجمعًا ثباته و.....
****
يتبع.
الفصل الرابـع :
رص "دياب" حروفه بتركيز وجدية انتهجتها حروفه:
-فيروز كل شوية تفتح معايا الموضوع ومش عايزه تشتغل معاه خالص.
همهم فارس كعلامة على إنصاته، فتابع دياب:
-الوضع بينهم محتد جدًا، والقسم كله مشدود ليهم.
سأله مستنكرًا:
-يعني إيه؟
فسر له دياب محاولًا نقل الصورة كاملة له:
-كله بيتابعهم وابتدا يكون في تقصير في الشغل، وبصراحة لو عايز رأيي أنا شايف إننا نفصلهم عن بعض طالما دا متاح بالنسبالنا.
وعندما لم يستشعر نبض الاعتراض في معالمه المستكينة، أكمل:
-حسين باشمهندس شاطر جدًا، وفيروز كمان طاقتها حلوة ونشيطة وهتفيد الشركة جدًا فـ مينفعش برضو نستغنى عنها.
اومأ فارس برأسه يؤيد شهادته في حقيهما، ثم سأله يحاول الوصول لبذرة الموضوع في عقله:
-أنت شايف إيه الحل يعني؟ او المكان المناسب ليها؟
هز دياب كتفاه كنايةً عن الحيرة التي تعتريه، ثم استرسل بينما يتظاهر بالتفكير:
-والله يا فندم أنا نفسي مش عارف ومفيش مكان شاغر لفيروز، وحسين هو اللي ماسك المشروع وهو الأقدم، فـ أنا عندي اقتراح بس مش عارف حضرتك هتوافق عليه ولا لأ.
حثه فارس على المتابعة:
-اقتراح إيه قول؟
بدأ يخبره على مهل ما حفظه في باطن عقله:
-أنا عرفت من سكرتارية المكتب بتاعت حضرتك إنهم محتاجين حد يمسك شغل حضرتك المتعلق بالكمبيوتر، فممكن نطلع فيروز؟
صمت فارس دقيقة تقريبًا مستسلمًا لأفكاره المشوشة التي انتدبها شعور غير مُفسر أنه يرغب بالموافقة.
وبالفعل، قطع الصمت معلنًا وصول دياب لنهاية مسيرة ما خطط له:
-طب تمام يا استاذ دياب، فعلًا اقتراحك كويس، خلاص بلغهم بالكلام دا في السكرتارية.
اومأ دياب موافقًا في طاعة وبابتسامة هادئة:
-تمام يا فندم.
ثم انصرف بهدوء، تاركًا فارس الذي إنشغل لجزء من الثانية بتفسير ذلك الشعور الذي ينتابه للمرة الأولى.
****
بعد قليل...
كانت "فيروز" تنقل اشيائها من المكتب الذي كانت تعمل به، غافلة عن عينين مستذئبتين تتابعها وبسمة شامتة تلوح في أفق وجهه، عاد "حسين" بالكرسي للخلف وهو يضع قدم فوق الاخرى، معتقدًا أنها تحزم اشيائها لتغادر الشركة بعد العراك الذي أفتعلته لمجرد لمسة عابثة منه.
انتبه لرنين هاتفه فأخرجه مجيبًا، ثم تجهمت ملامحه وهو يومئ برأسه:
-تمام.
تحرك مغادرًا المكان متوجهًا صوب مكتب فارس كما اخبروه، دلف ليجد فارس يقف أمامه، ملامحه الصارمة تنذر بشرٍ قد اقترب.
وقبل أن ينطق حسين كان فارس يُطلق حروفه التي شابهت الصواريخ في سرعتها وقساوتها:
-أنا شوفت اللي أنت عملته يا باشمهندس يا محترم، الحركات دي لو هتعملها يبقى مش في مكان محترم زي هنا ومش في مكان أكل عيشك، لو مش عارف تحط حدود لنفسك يبقى أحنا مش عايزينك معانا تاني، دا أول وأخر تحذير ليك.
كاد حسين ينفجر صارخًا بوجهه نافضًا ثوب الاهانة المهترئ عن كرامته، ولكن.. لا يضمن أن يجد وظيفة مناسبة بمكان مناسب وراتب مناسب ايضًا، لا يضمن ألا يضعه فارس برأسه فيضع في سجله العملي وصمة سوداء بكونه متحرش فيقضي باقي عمره دون أن يجد عمل في مجاله!
لذا اضطر أن يخنع هازًا رأسه يبتلع تلك الاهانة على مضض، ثم انصرف..
وفي نفس الوقت كانت قد انتهت فيروز من لملمة ما يخصها، وتوجهت نحو المكتب الجديد الذي ستعمل به والذي كان في الأعلى، وقريب نوعًا ما من مكتب فارس، وحين كانت تمر من أمام مكتب فارس رأت "حسين" يخرج من مكتب فارس بملامح يبدو عليها عبث شياطين الغضب بها، تخطاها دون أن ينطق بكلمة وهو يرميها بنظرة مشحونة، اقتربت كارما من السكرتارية الخاصة بـ فارس وسألتها:
-في إيه ماله دا ؟!
برمت الاخرى شفتاها، قبل أن تجيبها بصوت مكتوم ونبرة ذات مغزى:
-شكل باشمهندش فارس عنفه بالكلام شوية.
رفعت حاجبها الأيسر غير مصدقة، والخبر كالمفرقعات نفخ صدرها بشعور النصر والانتشاء.
ثم هزت رأسها وتحركت من أمامها متوجهه لمكان عملها الجديد.
****
بعد اسبوعين...
تم عقد القران وكانت "كارما" تتلقى التهنئة من أقرب الأقربين الذين حضروا حفلة عقد القران الصغيرة بدلًا من حفل الزفاف، وقفت كارما مع "فيروز" أمام باب منزل عيسى الذي ستستقر به معه، احتضنتها فيروز بود حقيقي وهي تهمس لها:
-ربنا يسعدك يا كارما، أنتي طيبة وتستاهلي كل خير.
إلتوى ثغر كارما بابتسامة مهتزة دمر ثباتها التوتر الذي كان يلفح بها، وتمتمت بحروف تلاقت بصعوبة:
-يارب يا فيروز، ربنا يسترها.
ضغطت فيروز على كف يدها برفق حازم تمدها بالدعم اللازم لتتخطى خيالات مُرعبة مرسومة لها على خط البداية:
-متقلقيش، أنتي قدها.
اقتربت منها والدتها مقبلة وجنتاها وهي تهتف بصوت يغدقه الحنان:
-ربنا يسعدك يا روح قلب ماما.
هكذا استمرت الدقائق التي تسبق دخولها لعرين تخيلاتها المرعب، حيث عيسى الذي كان يرتدي حلة سوداء أنيقة زادته جاذبية فوق جاذبيته، وخصلاته السوداء مصففة بعناية لتبرز حلاوة ملامحه الرجولية، سالبة الانبهار من بين أروقة قلبها الأبي.
دلفا كلاهما بعد قليل، فسارت هي دون أن تنتظره وجلست على الأريكة في الصالون، منقبضة الوجه متصنمة الجسد تحرك قدميها دون توقف في حركة بكماء كانت حاملة عنوان التوتر الواضح.
فاقترب منها عيسى بهدوء، وجلس جوارها ثم تنحنح متسائلًا:
-مالك ؟
ابتعدت خطوة في جلستها عنه وهي تغمغم:
-مفيش مفيش بس متقربش مني.
ارتفعت رايات الذهول على معالم وجهه، وردد مستنكرًا فعلتها وقولها اللذان أشعراه أنها في حرب نفسية خفية لا يعلم عنها شيء:
-هو أنا عملت حاجة! دا أحنا لسه داخلين.
ضغطت على قماش فستانها الأبيض الرقيق بعنف لا يليق برقته، ولم تتوقف حركة قدميها بينما عيناها تنظر بالأسفل لنقطة لا يراها !
غرق في تحليل ردود أفعالها، وبدأ يعدد سمات شخصيتها بدءًا من كونها غير جريئة وانتهاءًا بنيل التوتر منها دون عناء وحركات جسدها المتشنجة..
ولا يدري كنه الشيء الذي يجذبه لأسفل كالرمال المتحركة ويجعل قدماه تُغرس أكثر في ذاك التحليل، فهو كعيسى لم يكن يسرق نظراته للمرأة سوى جمالها، ولكنها ربما يكمن جمالها في روحها البريئة وشخصيتها المختلفة التي تجذبه كالمغناطيس ليكتشفها.
قطع الصمت حين استعار نظراتها بقوله الذي أثار حفيظتها:
-انتي ليه متوترة كأنك قاعدة مع متحرش؟! أنا عمري ما هبصلك.
حاول التملص من تهمة رآها مُنصبة له في عينيها، فاصطدم بالإشارات الحمراء لأي فتاة وخاصةً هي، أشعلت كلماته لهيب بدأ يحرق روحها الملتهبة اصلًا بشعور النقص.
فحاولت رد الصاع صاعين له بقولها الغليظ:
-والله سبب توتري واضح وبعدين أنت سمعتك سبقاك.
رفع حاجباه معًا وهو يستنكر مرددًا بشيء من التهكم:
-سمعتي سبقاني! مالها سمعتي أنا سمعتي زي الجنية الدهب.
هزت رأسها مؤكدة بسخرية بحتة:
-اه طبعًا طبعًا.
ثم حولت نظراتها للمنزل من حولها وهي تسأله منهية ذلك الحوار السخيف:
-فين شنطي؟
رد بهدوء:
-في الاوضة.
توجهت نحو الغرفة المنشودة دون أن تتفوه بالمزيد، وبعد قليل تفاجئ عيسى أنها أغلقت الباب خلفها وكأنها تطرده دون مقدمات خارج الغرفة ليظل في الصالون، لأن الشقة بها غرفة وحيدة.
تحرك نحو الغرفة وفتح الباب فجأة، ففزعت كارما التي كانت تقف شاردة أمام الشرفة تسترجي التوتر أن يترحل عن رحابها، وهدرت فيه في نزق:
-مش تخبط قبل ما تدخل!!
تصنم عيسى مكانه للحظات، وداخله يجهر للمرة الأولى أنها جميلة، رغم بساطة ملامحها ولكن كأن وهج روحها اصطبغت به ملامحها فأعطتها بريقًا قادر على مزع قوانين الجمال التي كانت تحكم رؤياه، وبسط قوانين جديدة كلها تُشكلها هي والبراءة الساطعة في عينيها وملامحها..
بينما هي كان صدرها يعلو ويهبط وقد زاد ثقل التوتر اطنان، فاقترب منها عيسى ببطء، ولا يدري لما سألها بنبرة خافتة وهو يتفحص ذلك الفستان الأبيض الرقيق الذي كان دون أكمام وهي ترتدي وشاح عليه، تجذبه كل دقيقة بكفيها الصغرين محاولة تغطية جسدها الغض:
-دا الفستان اللي انا شوفته عليكي؟
فكرت داخلها متفاجئة، أيُعقل أنه يهتم بتفاصيلها، ام هي تخيلات سخيفة أنتجتها رغبتها المُلحة في مبادلته إياها إعجاب قهري فرضه عليها..!
ولكن في الحقيقة هو شخصية تولي تركيزها لكل شيء وأصغر شيء من حوله، وربما ليس شيء خاص بها..
هزت رأسها نافية وهي تنطق مجيبة سؤاله بعد صمتٍ طال:
-لأ مش هو.
-غيرتيه ليه؟
لعنته داخلها ألف مرة، فهو يتعمد جعلها تذوب في حضرته دون عناء، بنبرة الرجولية الهادئة المثيرة، وقربه المُربك، تنحنحت محاولة استجماع رباطة جأشها:
-غيرته كدا عادي.
-مع إنه كان حلو؟!
ضمت شفتاها معًا بقوة ضاغطة عليهم تجاهد حتى لا تصرخ بوجهه أن يدعها وشأنها بينما هو تلقائيًا وبغريزة ذكورية لمعت عيناه وهي تراقب ضغطة اسنانها اللؤلؤية على شفتيها الممتلئة..
ثم اقترب منها ببطء يسألها هامسًا قاصدًا التلاعب بأعصابها وعيناه تأبى التزحزح عن مرمى شفتاها عمدًا:
-مالك متوترة وخايفة مني ليه يا كارما؟ مش قولتلك متخافيش مني.
إنحبست أنفاسها وقد تسارعت دقاتها اللعينة مستجيبة لعبثه في صخب وتوتر مفرط..
وظلت تفتح فمها وتغلقه أكثر من مرة وشفتاها تفتش عن كلمات مناسبة، حتى وجدتها أخيرًا فرصتها في تلعثم:
-على فكره أنا مش خايفة خالص.
أمال عيسى رأسه موازيًا وجهها ثم همس بخشونة واثقة ماكرة:
-خالص خالص؟
ثم وبنفس الهدوء والبطء المدروس الماكر، كان يزيح خصلة شعرها التي كانت تحتل جانب وجهها، وعمدًا أصابعه الخشنة تحتك بوجنتها الناعمة لتصدر الاحتكاكة شرارة عاطفية خفية نشبت في طرف قلبها العذري الذي يخضع لعبث أصابعه الخبيثة لأول مرة، ثم تشدق بهمس رجولي خشن به لمسة من التهكم:
-امال العرق دا إيه؟ شبورة معديه على وشك؟!
ابتعدت خطوتان للخلف، ثم زمجرت فيه بعصبية تأبى أن يتلاعب بها بهذه الطريقة:
-بطل طريقتك دي معايا، وياريت تلتزم باللي احنا متفقين عليه.
-أنا ملتزم هو أنا عملت حاجة ؟! أنتي اللي عامله زي الريشة أي نسمة هوا بتهزها.
هتف ببراءة مستفزة لا تليق بمكره وعبث الشهير، وقد استفزها من جديد، ولكنها فضلت إنهاء تلك المشاجرة فأضافت من بين أسنانها:
-اطلع برا.
وضع يداه معًا في جيب بنطاله، وأجاب بنبرة فاترة:
-مفيش غير اوضة واحدة، مضطرين ننام فيها احنا الاتنين، لو مش هتقدري مفيش مشكلة تقدري تنامي على الكنبة برا.
إتسعت عيناها صدمةً من وقاحته وبروده، ثم وبعناد مدت يدها تجذب حقيبتها وتغادر الغرفة تحت أنظاره..
***
بعد قليل، كانت كارما لازالت تتلوى على الأريكة وكأنها أصبحت جمرات من الغيظ أسفلها، وبدأت تستعيد كلماته المستفزة لتنهض جازة على أسنانه تنوي الثأر منه، وكأنها قد استفاقت من الغيبوبة العاطفية المُسكرة التي زجها بها، وما إن اقتربت من باب الغرفة وقبل أن تطرقه سمعته يقول بصوت منخفض ولكن ليس كليًا:
-يابني أنت صدقت إني ممكن أبص لواحدة زي دي! من قلة البنات يعني؟ دي ساذجة.
تجمدت مكانها وتجمد مكنون إحساسها في تلك اللحظات، وبدت كمن فقدت القدرة على الاستيعاب..!!
****
في الشركة...
كانت "فيروز" جوار السكرتارية الخاصة بـ فارس، والتي كانت تجري بعض اتصالاتها، بينما كارما تنظر لمكتب فارس الفارغ في يوم فريد، فهو لا يتغيب عن العمل إلا في الظروف الطارئة جدًا..
نظرت للسكرتيرة قاطعة الصمت بسؤالها:
-يعني أنتي هتعملي إيه دلوقتي؟
سألتها قاصدة كيفية إيصال لمنزل فارس الجهاز اللوحي الخاص به والذي يعمل عليه، لأنه كما استشفت من حديثها مريض بحساسية الصدر ولا ينبغي أن يقم بأي مجهود، ولكن المشروع الذي يعمل عليه حاليًا معها.. لا يحتمل أي تعطيل اخر...
وكم كانت ممتنة لذلك المشروع الذي قربها من فارس أكثر ومن هدفها أكثر وأكثر..
انتبهت لاجابة الاخرى وهي تترك الهاتف متأففة:
-بحاول أشوف أي حد يوديهوله البيت، بس معرفش إيه الحظ دا.
استغرقت فيروز دقيقة تقريبًا وعقلها ينسج خلف ستاره فكرة جديدة ستصبح وسيلة أسرع ستقربها من فارس، والتي كشفت الستار عنها حين أردفت مصطنعة اللامبالاة:
-أنا ممكن أوديهوله أنا، كدا كدا عايزه أتناقش معاه في كام نقطة في البروچيكت، وكنت خارجة بعد شوية.
برقت عيناها بالارتياح وهي تسألها مؤكدة:
-بجد يا فيروز؟ مش هعطلك عن حاجة او هتبقى حركة سخيفة؟
هزت رأسها نافية ببساطة:
-لأ خالص مفيهاش حاجة ياستي الناس لبعضيها، وربنا يشفيه ويعافيه.
-امين يارب، خلاص هروح اجبهولك على طول عشان مأخركيش.
تمتمت بها وهي تتحرك بالفعل نحو مكتب فارس لتحضر الجهاز اللوحي، بينما فيروز تخبر نفسها أنه شيء عادي لجأت له بعد أن قدم لها الحظ فرصة على طبق من ذهب للمرة الاولى، وبالنهاية هو لا يعيش بمفرده بل كما علمت أنه يعيش مع جدته، فلن تصبح على إنفراد معه.
وبالفعل بعد قليل كانت قد أخذت الجهاز اللوحي منها وغادرت الشركة متوجهة نحو منزله، ووصلت امام المنزل فلم تجده كبير ينم عن ثراء صاحبه، بل وجدته منزل بسيط واسع بعض الشيء وله حديقة صغيرة في خلفيته، فنالت ذائقته استحسانها.. فليست البيوت مَن تعبر عنا، بل نحن مَن نعبر عنها !
فتح لها باب المنزل، فوجدت ملامحه مُرهقة ذابلة بعض الشيء وقد إنسلتت منها الصلابة والصرامة اللذان ظنتهما جزءًا لا يتجزء منها، ولكنه رغم ذلك لم يفقد أناقته الرجولية المميزة بالملابس البيتية التي تراها به للمرة الاولى..
تنحنحت وهي تهتف بهدوء:
-ألف سلامة على حضرتك يا باشمهندس.
اومأ لها برأسه مصطحبًا نفس الهدوء بحروفه:
-الله يسلمك يا فيروز، اتفضلي، تعالي نشرب قهوة في الجنينة الهوا فيها حلو.
اومأت برأسها موافقة وبدأت تتقدم خلفه نحو الحديقة، وجدت على المنضدة متوسطة الحجم طعام يبدو أنه لم ينهه بعد، وانتبهت له حين قال بابتسامة خفيفة:
-اقعدي بقا افطري معايا كنت لسه بفطر.
لم تستطع السيطرة على التعجب الذي أعلن نفسه الراعي الرسمي لملامحها وهي تتابع مشيرة للطعام:
-بتفطر فول بالبيض وطعميه وبصل ؟!
اومأ برأسه مؤكدًا ببساطة وهو يهز كتفاه معًا:
-اه إيه المشكلة؟
تنحنحت بعدها مفسرة:
-مفيش مشكلة طبعًا، بس متوقعتش بصراحة تكون بتفطر الفطار الشعبي فول وطعميه وكدا، توقعت ألاقيك عامل فطار إتيكيت وكدا.
ضحك فارس وراح يضيف مشاكسًا وهو يقلدها:
-إتيكيت بتسلم عليكي وبتقولك أحنا مش في مسلسل تركي وكدا.
ها هي ترى خصلة جديدة من شخصيته المُغلفة بالصرامة والجدية، البساطة التي لا يتمتع بها كل ذوي الثراء الفاحش، ونكهة خفيفة من المرح الذي امتزج بكلامه.
ابتسمت هي الاخرى ابتسامة حقيقية غير مصطنعة هذه المرة، ومن ثم أشارت له:
-طب خلاص إتفضل حضرتك خلص فطارك وأنا مستنية عشان في كام نقطة كنت عايزه أناقشهم مع حضرتك.
هز رأسه نافيًا بجدية:
-لا لا أنا اصلًا كنت خلصت خلاص، ثواني هشيل الأكل وهكون معاكي.
اومأت برأسها وجلست على احد الكراسي تنتظره وهي تتأمل الحديقة بورودها الرقيقة الرائعة، رأت احدى الوردات شبه ذابلة، وخرطوم المياه مرمي أرضًا جوارها، فنهضت لتمسك به، ثم فتحت صنبور المياه تنوي ريها، ولكن فجأة إنفجرت المياه بوجهها وقد إتضح أن الخرطوم به تمزق، ولولا سرعتها في إبعاده لكانت بللت ملابسها كلها وليس وجهها وخصلاتها فقط.
غمغمت بذهول تكاد تبكي من حظها التعس حتى عندما نوت أن تفعل شيء جيد واخذت تتحسس خصلاتها المبللة ووجهها:
-يا نهار اسود يا نهار اسود.
جاء فارس في تلك اللحظة ليتفاجئ بها على تلك الحالة الرثة، فاتسعت عيناه وهو يردد مصدومًا:
-إيه دا أنتي إتغرقتي!؟
لوت شفتاها بابتسامة خرقاء غلب عليها القهر وردت بتلقائية نابعة من حنقها:
-لأ ابدًا، لاقيت نفسي ماستحمتش بقالي كام يوم فقولت أقوم أخد شاور سريع عقبال ما تيجي.
إنطلقت ضحكات فارس للمرة الأولى في حضرتها ولم يستطع كبتها متخيلًا مظهرها الفكاهي، فاعترفت فيروز داخلها وهي تحدق به أن حتى ضحكته الرجولية التي تراها للمرة الأولى مميزة فابتسمت تلقائيًا ببطء رغم بشاعة الموقف!
تمالك فارس نفسه وهو يشير لها وبقايا الابتسامة عالقة بفمه:
-استني هروح أجبلك فوطة وجاي.
اومأت برأسها وهي تعقد ذراعيها معًا في انتظاره، جاء بعد قليل وأحضر منشفة، تناولتها منه وبدأت تجفف خصلاتها البرتقالية، غير منتبهة لعينينه التي توهجت بالإعجاب الخفي والتي تستبيح النظر لها ولجمال ملامحها وهي تنحني قليلًا لتستطع تجفيف شعرها.. فبدت له برتقالة نضجة تغوي القديس لنكهتها المذهلة!
استقامت في وقفتها بعد أن انتهت، ومدت يدها له بالمنشفة شاكرة:
-شكرًا جدًا.
ابتلع ريقه وهو يتناول المنشفة منها، وعيناه تأبى التزحزح عن قطرات بسيطة لم تزول سقطت على رقبتها البيضاء الناعمة، ورغبة خبيثة داخله تلح عليه أن يمد يده متلمسًا طراوة جلدها ...
رفع يده مستسلمًا لتلك الانتفاضة العاطفية الغريبة المتأهبة داخله، ولكن في اللحظة الأخيرة أحكم السيطرة عليها فمد يده مسرعًا على ورود خلفها مباشرةً وهو يقول بسرعة متدراكًا نفسه بعد أن لمح التعجب يسود معالمها:
-كان في حشرة وراكي هتقرصك.
ثم ابتعد مسرعًا لاعنًا ومصدومًا من أفكار المراهقين الغريبة التي تيقظت وأيقظت غريزته الرجولية دون مقدمات في حضرتها !!
-هروح أودي الفوطة.
غمغم بها وقد تحرك بالفعل، يترك لنفسه المساحة والوقت لاستعادة رباطة جأشه بعد أن بعثرتها دون أي مجهود....
****
بعد فترة...
كانت فيروز قد إنتهت من تبديل ملابسها بعد عودتها من منزل فارس، مصفقة لنفسها أنها نجحت في أخذ خطوة جديدة وكبيرة في طريقها بالتقرب منه كصديقة بعيدًا عن الشركة..
سمعت طرقات تصدح على الباب فنهضت مجيبة:
-أيوه جايه.
فتحت الباب لتتصنم مكانها وهي ترى اخر شخص توقعته، حيث "شريك فارس" الذي كان تحاول التخفي عن عينيه الخبيثة المقيتة..
ها هو أمامها بذات العينين التي لم تكره قدرها، ويقول ببجاحة عهدتها منه:
-إيه يا فيروز مش هتقولي لخالك اتفضل ولا إيه؟!
****
يارب الفصل يعجبكم يا حبايبي 😍❤
تعليقات
إرسال تعليق