القائمة الرئيسية

الصفحات

لعنة_الطاغي الفصل الاول حتي الفصل الخامس بقلم الكاتبه الكبيرة منى_أحمد_حافظ كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات

 

لعنة_الطاغي

الفصل الاول حتي الفصل الخامس 

بقلم الكاتبه الكبيرة منى_أحمد_حافظ

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

غادري أفكاري، فلا مكان لكِ بين أضلعي، ولا مبيت لكِ بقلبي، اتركيني وارحلي، وخُذي معكِ كل أثر لكِ ألتصق بي، فأنا ومنذ دهرٍ مر، ما عُدت ءُأمن بالحب.


لعنة_الطاغي

(1) غادري أفكاري.

-------------------------


بدت حديقة القصر كخلية نحل، حركة دؤوب في كل مكان، لا راحة لا سكون، يسودهم جو من التوتر، خاصة بعد خضوعهم لتفتيش دقيق، من قِبل رجال الأمن، والتحقيق مع كل فرد منهم على حدا، ليبدوا الأمر من الوهلة الأولى، وكأنه حفل رئاسي ضخم، وكيف لا! وذاك الحفل يُعد من أهم حفلات العام، بل هي الأهم على الإطلاق.


وفي مكانه الذي رُتب ليكون به، وقف يُلاحقها ببصره وهي تؤدي عملها، لا يدر لما استحوذت على عينيه، فأحس وكأنه سقط في شباكها، كطير مجهول الهوية تمتصه خيوط العنكبوت، لا يعلم لما منذ أصطدم بها وكاد يُسقطها أرضًا، وتشبثت به أحسها لصقت به، لا بل هي تسربت لداخله، لتُلهِيه عن نفسه، نهر نفسه بقوة وكاد يصفع وجهه لخطئه ذاك، الذي قد يعرض الجميع للخطر، فلم يجد أمامه غير تصرفه الغريب الذي فعله، ليبتعد عن خطرها الذي يهدد أمنه وسلامه وسلامة الجميع.


--------------------------


زفرت بحنق لإحساسها بالإهانة، بسبب تفتيش ذاك الرجل لها، لعنته ببعض الكلمات النابية، وهي تُبدل ثوبها وترتدي زي العمل الخاص، وغادرت الغرفة المُعدة لهم، لتصطدم بإحدى الفتيات التي بادلتها الابتسامة، وعقبت على عبوسها قائلة:

- أول مرة ليكِ هنا، ولا جيتي اشتغلتي قبل كدا.


زمت ذكرى شفتيها وأجابت بصوتٍ حانق:

- مش أول مرة بس هتبقى آخر مرة، بصراحة الوضع بقى لا يطاق ولا يُحتمل، أنا مش فاهمة على إيه كل دا، تفتيش وتحقيق كأني داخلة القصر الرئاسي، وكله كوم والراجل السمج اللي واقف على البوابة الإلكترونية كوم، قال لازم يفتشني بالجهاز اليدوي، علشان يتأكد أن مش معايا أي حاجة مخالفة، كأني مثلًا هاجي شغلي لفة حولين وسطي حزام ناسف.


ربتت الفتاة فوق كتفها وأردفت:

- متزعليش هما عملوا معانا كلنا كدا، بس بصراحة حركة الأمن دي لأ، كان في بنت هي اللي كملت تفتيش البنات، بصي أنتِ شوفي أي حد من الإدارة، وبلغيه على اللي عمله بتاع الأمن، علشان ميطاولش عليكِ أكتر من كده.


شكرتها ذكرى وقبل مغادرتها، مدت يدها وصافحت الفتاة وأردفت:

- على فكرة أنا متعرفتش بيكِ، أنا ذكرى من ضمن فريق الفندق، وأنتِ؟


صافحتها الفتاة وأجابتها:

- أنا دنيا من ضمن الفريق اللي خطط لتنظيم الحفلة، بس تقدري تقولي كدا الفريق التاني، اللي مكتوب عليه يشتغل، وغيره اللي يقف فالصدارة.


لوت ذكرى شفتيها، وهمست ببعض الكلمات الساخطة، ثم هتفت بصوتٍ عال نِسْبِيًّا: -

والله يا دنيا كلنا فالهوا سوا، بنشتغل وبنبذل أقصى ما في وسعنا، وبنراعي ربنا وللآسف فالأخر حقنا مهضوم، يعني أنا مَثَلًا مفروض ضمن الأشراف زي البشمهندس سراج، لكن من أسبوع جت واحدة كدا ومعاها توصية، وعلشان ميزعلوش الاسم المكتوب فالكارت، قالوا يزعلوني أنا مش مهم، وأخدوا مني مكاني للهانم التانية، ونزلت أنا من الأشراف للتقديم، يلا الحمد لله على كل حال.


ابتسمت دنيا بتهكم وعقبت بقولها:

- هو تقريبًا محدش بيشتغل بشهادته حَالِيًّا، وبما أن في كساد وبطالة، فأنا وأنتِ وغيرنا ملايين، علينا نرضى بالشغل المتاح لحد ما تظهر حاجة مناسبة.


أومأت ذكرى وتطلعت لملامحها بالمرآة:

- على ما أظن أن مظهري كدا مناسب، أقوالك سر أصل أنا غيرت شوية فالموديل، يعني طولت الفستان شوية، وقفلت فتحة الصدر بتاعته، وعملت الاسكرف بالشكل دا علشان يداري ومحدش يلاحظ.


أمعنت دنيا النظر بمظهر ذكرى، وأفصحت عن رأيها قائلة:

- بصراحة التتش اللي زودتيه، أدى المظهر احترام وجمال، ومأظنش أن حد هيعقب عليه، علشان في واحدة قصرت الطول ومحدش أتكلم معاها.


أرسلت ذكرى قبلة عبر الهواء لدنيا، وقالت وهي تتحرك لتغادر:

- هروح أشوف البشمهندس سراج، علشان أبلغه باللي عمله الأمن معايا، وبعدها هشوف هستلم شغلي فأنهي قسم، سلام يا دودو.


---------------------------


هرولت ذكرى وغادرت المكان، وما أن خطت إلى الحديقة، حتى سمعت صوت أحدهم يقول:

- ما لسه بدري يا آنسة ذكرى، ممكن أعرف سيادتك جاية متأخر ساعة ونص ليه.


عقدت ذكرى حاجبيها وزفرت بضيق وأجابته:

- على فكرة أنا متأخرتش يا بشمهندس سراج، أنا جيت فميعادي، والأستاذ اللي واقف على البوابة هو اللي عطلني، بعدما صمم أنه يفتشني بالجهاز مرة وبايده مرة، ولما اعترضت قالي دي أوامر ماشية على الكل، ومكنش عايز يدخلني.


لم ترى ذكرى ذاك الذي وقف بشرفة غرفته، المحاطة بزجاج مصفح قاتم اللون، يتابع مهندسي الديكور، يشرفون على أدق التفاصيل، وتابعيهم ينفذون كل أمر بنظرة عين، يحول نظراته إليها ما أن سمع صوتها الغاضب، فأمعن النظر نحوها وأصغى إلى كلماتها، وراقب حركات يدها، وهي تُشير نحو أحد رجال الأمن خاصته، فعقد حاجبيه ومد يده إلى جيب بنطاله وسحب هاتفه، وضغط على أحد أزراره، وقال فور سماعه صوت مُحدثه بلهجة جليدية حازمة:

- عايز كل تسجيلات كاميرات المراقبة للبوابة حالًا.


انتفض تيسير وازدرد لعابه وتلفت حوله، وسارع إلى جهاز الكمبيوتر اللوحي، وضغط بضعة أزرار وقال بصوت متردد:

- وصلت لحضرتك يا داوود باشا، حضرتك تأمر بحاجة تانية.


لم يهتم بالرد عليه، فعيناه تابعت تسجيلات الكاميرا بدقة، وازداد وجهه تجهمًا ما أن رأها تُجادل أحد أفراد الأمن، وأكمل مشاهدة التسجيل، ليرى بنفسه تجاوزات رجل الأمن خاصته، فغادر غرفته على عُجالة، مقطب الجبين مكفهر الوجه متجهًا صوبه.

بينما تابعت ذكرى سيل كلماتها وشكواها، وكتمت غيظها حين صرفها سراج بوقاحة، فابتعدت عنه واتخذت خطواتها نحو القسم الخاص بها داخل القصر.


بحث داوود عنها سريعًا بعيناه، فلم يجد لها أثر فازدادت تقطيبته حدة، وقبيل وصوله لبوابة قصره توقفت قدماه بغته، وأرتد إلى الخلفمجفلًا من نفسه، فأغمض عيناه لبُرهة وتساءل، لما هو هنا؟ ومن أجل من؟ أيعقل أن يقلل من مكانته، ويذهب بنفسه إلى ذاك الرجل!


صعق داوود من تصرفه، وهاجمه عقله بلا هوادة، يعنفه لسهوه الغير مغفور ذاك، فتلك هي المرة الأولى التي يتناسى فيها مكانته، ويسمح لعواطفه بالتحكم به، فاستدار وهو يأمر ذهنه بصرف تلك الفتاة عن تفكيره، وولج لداخل قصره لتصطدم عيناه برؤيته لها، تقف بإحدى الزوايا تكفكف دموعها، فضغط بقوة على فكه وكور قبضته، وصاح بصوتٍ زلزل أرجاء المكان:

- تيسير.


جعلها ندائه تنتفض من مكانها برعب، فتجمدت بمكانها، وحبست أنفاسها خوفًا منه، وبدت عينيها المتسعة، تحدق به تارة وتتهرب منه تارة أخرى، وخلال ثوان تبدل الحال حولها، فقد ظهر من العدم حارسان نبتا بجواره، ولمحت أحدهم يهرول ويتوقف أمامه، فازدردت لعابها وأدركت أنها كتمت أنفاسها لثوانٍ عديدة، فتلقفتها بشهيق رهبة، ليختلس إليها نظرة واحدة، كانت كفيلة بجعلها ترتعب وابيض وجهها، فتراجعت ذكرى إلى الخلفبضع خطوات، وخفضت رأسها أرضًا، فلم ترى أشار داوود إليها ولا التفاته الحارسان نحوها، وبصوتٍ خفيض هم تيسير:

- حالًا يا داوود باشا هنتصرف الموضوع دا، وهنحاسب كل واحد قصر فشغله.


وكما ظهروا تبخروا، فرفعت ذكرى عينيها لتلتقي بنظراته الواجمة، وقبل أن يُشيح داوود بصره عنها، أخبرها بترفع قائلًا: -

أنتِ يا، أعمليلي فنجان قهوة مظبوط، وهاتيه على مكتبي.


القى أمره واختفى داخل مكتبه، وتابعته ذكرى بعينيها وعقدت حاجبيها وزفرت بحنق قائلة:

- والله عال من مُهندسة كمبيوتر، لمُشرفة حفلات، لخدامه وعاملة قهوة، يا فرحة كارلوس فيكِ يا ذكرى.


عثرت ذكرى على المطبخ بسهولة، وتوقفت أمام بابه تحدق في اتساعه، لتنتبه إحدى الفتيات إليها، فاستدارت نحوها وحدجتها بنظرة شاملة متفحصة، واقتربت منها وسالتها:

- أفندم حضرتك عايزة حاجة من المطبخ.


ارتبكت ذكرى واستدارت بعينيها للخلف، وأشارت باتجاه المكتب وقالت باضطراب:

- عايزة فنجان قهوة مظبوط لو سمحتِ.


اعتذرت منها الفتاة وأجابتها قائلة:

- بصي في برا ركن زي الكانتين كدا متخصص ليكم، أنا بعتذر منك مش هقدر أعمالك قهوة و.


قاطعتها ذكرى بهزة ذعر برأسها وأعقبتها بقولها:

- لأ دي دي مش ليا، أنا أنا مش بشربها أساسًا، بس هو قصدي الأستاذ اللي كان واقف من شوية برا، هو اللي طلبها قبل ما يدخل المكتب اللي هناك دا.


اعتدلت الفتاة فورًا، ورفعت عينيها بتلقائية تحدق بكاميرا المراقبة فوقها، وقالت مُسرعة:

- تمام دقيقة وتكون القهوة معاكِ، بصي تعالي اقعدي جوا لحد ما القهوة تجهز، وخديها وديها لداوود بيه.


حاولت ذكرى الاعتراض والتهرب بقولها:

- بس أنا مش بشتغل هنا، أنا من ضمن الفريق اللي هيقدم بالليل فالحفلة و.


قاطعتها الفتاة دون أن تستدير إليها، وقالت بصوت فاتر:

- طالما الباشا طلبها منك، يبقى كان عليكِ من الأساس أنك تعمليها، وأنا علشان عارفة أنك ممكن تبوظيها، عملتها مكانك بس أنتِ اللي هتوديها.


زمت ذكرى شفتيها بضيق، وجلست فوق أحد المقاعد، وجالت بعينيها في أرجاء المكان، لتلتقط عينيها إحدى الكاميرات، ففركت كفيها وخفضت بصرها، وما هي إلا دقائق وتوقفت الفتاة أمامها وقالت:

- خدي القهوة أنا جهزتها، يلا روحي وصليها لداوود باشا، وخلي بالك وأنتِ ماشية أحسن الوش يروح، وقتها متلوميش إلا نفسك.


-----------------------------


ليتها لم تحذرها، فها هي تسير باتجاه المكتب، تشعر بأنها ستتعثر حتمًا وستثكبها فوقه، كتمت ذكرى أنفاسها ووقفت حائرة أمام الباب الموصد، وتلفتت حولها تبحث عمن يفتح لها الباب، لتتفاجأ به يُفتح من الداخل، وسمعت صوته الرخيم يقول:

- واقفة عندك ليه، هاتي القهوة اللي بردت دي.


اضطرب جسدها أكثر مع كل خطوة تُدنيها من مكانه، بينما كان داوود يتطلع إليها دون أن تُدرك ذكرى، وأخيرًا وضعت فنجان القهوة أمامه بسلام، فسمحت لأنفاسها بالتحرر من داخلها، حينها رفع داوود بصره نحوها يحدق بها بتمعن، وما أن استدارت لتغادر حتى أوقفها صوته يقول:

- على فكرة أنا مش بدي فرصة تانية لأي حد، بس علشان اللي حصل معاكِ من ساعة، مش هعلق على أن القهوة عملتها أماني، أتمنى المرة الجاية لما أطلب منك حاجة، تعمليها بنفسك وتجيبيها بنفسك.


تصلب جسدها وتسلل تمردها إليها، ليزداد ثورانه بداخلها، وهي تستمع إلى كلماته، فالتفتت تحدق به بحدة، وضيقت عينيها وتناست مكانها ومع من تقف، وأطلقت العنان للسانها يُفصح عما أَحْتَبِس بداخلها قائلة:

- أنا لا هعمل ولا هجيب ولا عايزة فرصة تانية، أنا أساسًا مش بشتغل عندك، أنا هنا ضمن فريق الشركة المنظمة، اللي لولا الكوسة والوسايط، كان زماني واقفة زي بشمهندس سراج، بنظم وبشرف على غيري، مش بخدم وبجيب قهوة.


ارتشف داوود القليل من قهوته، ثم قال بصوتٍ فاتر:

- Close. 


لم تهتم ذكرى في الوهلة الأولى لكلماته، ولكن حين فشلت بفتح باب المكتب، التفتت تحدق به بعصبية واضحة، في حين تابع داوود بهدوء ارتشاف قهوته، فزفرت بحنق وقالت:

- لو سمحت افتح الباب خليني أروح اشوف شغلي.


نظر إليها ووضع الفنجان من يده، وترك مقعده مُلْتَفًّا حول مكتبه، واستند إلى حافته وهو يواصل النظر إليها، فاشتعل غضب ذكرى بتجاهله إياها، فاقتربت منه وأردفت:

- ممكن أفهم حضرتك مخليني هنا أعمل إيه.


أشار إليها أن تجلس على المقعد أمامه، فانصاعت بتلقائية وجلست، واتجه داوود وجلس بمواجهتها، وأردف بصوت هادئ رغم غضبه من نفسه، لخضوعه لتهوره ذاك:

- قبل أي حاجة، أولًا أنا هعتبر نفسي مسمعتش الكلام الفارغ اللي قولتيه، ودا لمصلحتك، ثانيًا لازم تفهمي إنك طالما دخلتي مملكة داوود سليمان، بقيتي ضمن اللي شغالين عندي، وأي أمر أو طلب عليكِ أنك تنفذيه.


تبدل صوت داوود فجأة ليصل إلى سمعها قاس وصارم وهو يُضيف:

- ومش من حقك أبدًا أنك تعترضي أو ترفضي، زي ما قولت تنفذي من سُكات.


انتفخت اوادجها وثار غضبها بسبب لهجته الآمرة، فعقدت حاجبيها وهبت واقفة وقالت باعتراض: -

ليه يعني مش من حقي أعترض أو أرفض، تكونش فاكر أنك اشتريتني وأنا مش عارفة، قال أنفذ الأوامر من سُكات ومعترضش، لأ أنا هعترض وهقول لأ.


أثارها بنظراته الحادة وحاجبه المرتفع، فعاندت صوت التحذير بداخلها وأضافت:

- دا أنا مش هقول لأ بس، دا أنا أساسًا مش هكمل شغل هنا وهمشي، ودلوقتي لو سمحت أفتح لي الباب خليني أخرج.


وقف على مضض، ولم تدر ذكرى لما ارتجفت وتملكها الخوف منه، فعلى الرغم من هدوءه، إلا أن خلف نظراته الباردة التي حدجها بها، رأت نارًا تسيل جعلتها تزدرد لعابها، وتتحرك بعيدًا عنه، لتزفر بارتياح حين سمعت صوته يقول بأمر:

- Open.


أسرعت باتجاه الباب ليجمدها صوته مردفًا:

- ياريت تبقي تكلفي نفسك، وتقري العقد اللي وقعتيه مع الشركة، لأني هلزمكبكل حرف فيه، وهحاسبك على كل كلمة قولتيها، خصوصًا ضربك لكلامي بعرض الحائط، ودلوقتي أتفضلي يا آنسة شوفي نفسك ناوية تعملي إيه.


توتر حاد أصابها وهي تُسرع بخطواتها نحو الخارج، عينيها تبحث عن سراج، في حين وقف داوود خلف زجاج نافذة مكتبه المعتم، يتابع سيرها المُتعثر فزفر بحنق وأردف:

- وبعدين يا داوود، من أمته وفي واحدة بتشغل تفكيرك؟


استدار مُشيحًا ببصره عنها وقطب جبينه وأضاف:

- خرجها من تفكيرك، وصفي ذهنك للي جاي، ولا أنت ناسي الجحيم اللي هتفتح أبوابه على الكل.


------------------------- 


وبمكتب الأمن الخاص، وقف محمود بوجه شاحب يكسيه التوتر، يستمع إلى تقريظ تيسير ويزدرد لعابه بين الحين والآخر، يلوم تلك الفتاة على ما يحدث معه، فها هو عمله سيودعه وهو لم يُكمل فيه الشهر، انتفض محمود حين ضرب تيسير بقوة فوق سطح مكتبه وارتفع صوته نَاهِرًا إياه بقوله:

- أنا عايز أفهم أنت إزاي تسمح لنفسك تعمل حاجة زي دي، عارف لو صحفي واحد شم خبر عن تحرشك بالبنت، هيحصل إيه لأسهم إمبراطورية سليمان الحاج، عارف أساسًا داوود باشا ممكن يعمل فيك إيه، أنت خلاص يا أفندي ودعت الشغل فأي مكان محترم، من اللحظة اللي شيطانك وزك تلمس البنت دي، ودلوقتي أتفضل سلم كل العهدة اللي عندك، وسلاحك والشارة الخاصة بأمن المكان وأمشي، وأحمد ربنا إن داوود باشا مجاش ليك بنفسه، لأن وقتها مكنتش هتخرج من هنا، إلا على قسم الشرطة.


اكفهر وجه محمود وأطرق برأسه هربًا من نظرات تيسير الحانقة وقال:

- أنا آسف على اللي حصل مني، بس أرجوك بلاش يتكتب عني حاجة فالتقرير، علشان أقدر الأقي شغل تاني، حضرتك عارف أي نقطة سودا فسجل الخدمة، مافيش أي شركة أمن هتقبل بيا.


زفر تيسير وعاد إلى مكانه ورمق محمود بنظرات آسفة وأردف:

- بص يا محمود أنا هكون صريح معاك، للأسف أنت مش هتقدر تكسب تعاطف أي حد، ودا مش بسبب كلام البنت لأنها أساسًا متكلمتش، إنما دا بسبب التسجيلات اللي وضحت الحقيقة، وأظن أنت أكتر واحد عارف هو عمل إيه كويس، وعلشان مظلمكش رغم أن أقل عقاب ليك، أني أحذر الكل منك، إلا أني هسيبلك الفرصة أنك تلاقي شغل فأي مكان تاني، لكن خلي بالك عيني هتبقى عليكِ، ومع أي تفكير فالغلط، صدقني وقتها هتتمنى إنك كنت تتسجن بدل اللي هيحصل لك، ودلوقتي أتفضل سلم الكارنيه والسلاح وأتفضل.


أومأ محمود وغادر سريعًا، وما أن تأكد تيسير من مغادرته حتى التقط هاتفه وأجرى اتصاله، وحين أجابه داوود سارع بقوله:

- كل حاجة مشيت زي ما حضرتك أمرت، محمود سلم العهدة ومشى.


أجابه داوود بصوتٍ حانق قائلًا:

- تمام أجمع لي كل أفراد الأمن، وهاتهم وتعالى مكتبي حالًا.


-------------------- 


وعلى صعيدٍ آخر بأحد الأماكن، جلس خلف شاشة حاسوبه يسجل البيانات ويحلل معظمها، ويبعد عينيه تارة عن الحاسوب، ويدون بعض الكلمات بأحد الدفاتر، صب اهتمامه الكامل على ما يدونه، وغفل عن ذاك الذي ولج إلى مكانه واتجه صوبه، وقبل أن يلمس كتفه، استدار وحدجه بنظراتٍ نارية وقال:

- ممكن أفهم إيه اللي أنت عملته النهاردة دا يا مينا، عايز أعرف من أمته سيادتك بتجود فشغلك، من أمته بتسمح لأي حاجة تخرجك عن تركيزك، أنت واعي إن اللي عملته النهاردة كان ممكن يخسرنا ملايين، وأنه مش هيعدي بالتساهل وهيبقى له عواقب، عمومًا دا مش وقت حساب، أنا مضطر أأجل أي حاجة لحد ما أشوف توابع اللي عملته النهاردة هيكون إيه، ولعلمك لو الشغل دا أتأثر أنا مش هعديهالك، ما هو يا مينا غلطة الشاطر بتبقى بالف، ودلوقتي أتفضل روح شوف وراك إيه هتعمله، وأنا هنتظر منك تقرير بكل شغلك.


زفر مينا أنفاسه بضيق، وعيناه تترقب نظرات خاطر، وحين ازداد وجهه عبوسًا، أدرك مينا أن عليه الانصياع التام، حتى لا يتعرض لتعنيف أكبر، فاستدار مغادرًا وهو يهمهم:

- هبعتلك التقرير أول ما أخلصه.


ولج مينا إلى غرفته، وارتمى بجسده فوق فراشه مُغْمِضًا عيناه، يُفكر بأمر تلك الفتاة التي رأها، لا يدر لما تشبث بها عقله، على الرغم من قراره بعدم الانخراط في أمور الحب، كي لا يظلم أخرى معه، كما فعل سابقًا، زفر بحنق وهب واقفًا وغادر غرفته متجهًا إلى غرفة خاطر، وولج وعلى وجهه إمارات السخط، فرمقه خاطر بنظرة خاوية أردف بعدها بقوله:

- قول اللي جواك وبعدها تروح تشوف وراك إيه، أحنا معندناش أي وقت نضيعه.


بادله مينا النظرات وأطرق برأسه بعد ثوان، فأدرك خاطر أن هناك خطب ما، فترك ما بيده واتجه صوبه وجلس إلى جواره، وربت فوق ظهره بهدوء وقال:


- مالك يا مينا إيه اللي حصل معاك وخلاك بالحالة دي، أنا ليا كتير مشوفتش نظرة التيه اللي فعينيك دي، يا ترى في حاجة جدت ولا.


قاطعه مينا بنفيه، فتطلع إليه خاطر بصمت، فزفر مينا بقوة وأرجف بصوت مهتز:

- أنا مش عارف إيه اللي جرى معايا، أنا كنت عادي ومش مهتم بأي حد، بس كل دا أتغير من أول ما بدأت الشغل الجديد، شوفتها مرتين وبقت مُحتلة تفكيري، مش عارف أنساها يا خاطر، ودا معصبني ومخليني حاسس بالخنقة، كاره نفسي أن في واحدة فرضت نفسها عليا وشغلت تفكيري، رغم إن مدرش بيني وبينها أي حوار، مجرد نظرة منها، عملت فيا كل دا.


ثار غضب مينا حين تجسدت أمام ناظريه، بابتسامتها الهادئة وعينيها اللامعة، فانتفض من مكانه وصاح بصوتٍ عال:

- أنا أتعمدت أجود النهاردة فالشغل، علشان اسيبه وأمشي، أنت مُتخيل يا خاطر معنى إن مينا بيشوي، اللي محدش قادر يمسك عليه غلطة يجود، ويعرض مجهود شهور يروح هدر، أنا مش قادر أسامح نفسي على الهفوة دي، ومش قابل أن عقلي يفكر فيها.


زم خاطر شفتيه، وهو يحدق بمينا، الذي أخذ يسير بلا هوادة أمامه، لا يدر من تلك الفتاة، التي استطاعت بمجرد نظرات، أن تُبدل حال مينا، وتجعله يترك مهمة كتلك دون أن يهتم للعواقب.


------------------- 


انهمكت ذكرى في ترتيب الطاولة أمامها، وابتعدت عنها بعد مرور بعض الوقت، وتطلعت إلى ما أنجزته وزفرت بارتياح، استدارت تجول بعينيها في المكان وهزت رأسها برضى، وغادرت غرفة الطعام الرئيسية، ووقفت تتأمل البهو بعدما أطلقت يديها في المكان، وغادرت إلى غرفة الملابس ووقفت تهندم هيئتها، وتنفست بقوة وهي تُفكر في كلمات سراج التي صفعها بها، رافضًا اعتذارها عن إكمال العمل، وأمرها بالعودة ونسيان أمر تلك الاستقالة، حتى تنتهي تلك الليلة على خير.


وفي تمام السادسة، صف سائق الليموزين سيارته، أمام بوابة القصر، وغادرتها كيندا كامل بِتَكَبُّر، والقت ببصرها إلى رجال الأمن الذين تأهبوا لاستقبالها، فرمقتهم بغرور وتجاوزتهم إلى الداخل، وقبل ولوجوها للبهو أوقفها رنين هاتفها، فزمت شفتيها وزفرت بسخط، وسحبته من حقيبتها واستقبلت الاتصال، واستمعت إلى صوت مُحدثها بجبين مقطب ووجه ازداد تجهمًا، وأنهت كيندا الاتصال دون أن تنبث بكلمة، واستكملت ولوجها إلى البهو بأعين متحفزة تبحث عن ضالتها بترقب، وأخيرًا لمحتها تتلمس حافة مقعد داوود، فعقدت حاجبيها وزفرت بقوة وأشاحت بوجهها عنها، وخطت باتجاه المكتب وطرقت بهدوء مُزيف، ليُجيبها صوت داوود الرخيم، فولجت كيندا وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة ثلجية، تبدلت لأخرى دافئة ما أن ضمها داوود بين ذراعيه وقبل وجنتيها، بعدها بدقائق كانت كيندا تتلمس جبينها وهي تغمض عينيها وهمست بصوت خافت:

- داوود ممكن تطلب لي فنجان قهوة، أحسن أنا حاسة بصداع رهيب، وياريت لو مع القهوة أي مُسكن.


أومأ داوود وابتعد عن مكتبه، وهو يبتسم بمرح، وما أن فتح باب مكتبه حتى طالعته هيئة ذكرى، بخصلات شعرها الأسود الغجري، وقد جمعته بذيل طويل خلف ظهرها، تاركة بعض الخُصل الشاردة فوق وجهها، فازدرد لعابه وهو يتقدم منها كفهد متحفز، وفاجأها داوود بصوتٍ خافت يقول:

- اعملي اتنين قهوة مظبوط يا ذكرى بنفسك، وهاتيهم المكتب ومعاهم أي مُسكن، وياريت متتأخريش زي المرة اللي فاتت.


انتفضت بعيدًا عنه، ورفعت كفها ووضعته فوق صدرها، بعدما أحست به يرجف بقوة، وأومأت بالموافقة مُتناسية قرارها بالتمرد، وسارعت بخطواتٍ مُتعثرة نحو المطبخ، تلوذ بالفرار بعيدًا عنه، في حين اتسعت ابتسامة داوود، لتأكده من تأثيره القوي بي، غافلًا عن عينا كيندا التي اشتعلت بلهيب حاقد.


وبعد أقل من عشر دقائق، ولجت ذكرى إلى مكتب داوود، ووضعت القهوة أمامه وغادرت سريعًا، لتبدأ بتولي مهام وظيفتها اَلْمَقِيتَة للنفس، بعدما توال توافد ضيوف الحفل، وبات الجميع يسعى لاتمام عمله، وتناست ذكرى أمر مخاوفها وضيقها، وصبت كامل اهتمامها بعملها ذاك.


في حين انشغل داوود كُلِّيًّا بضيوفه، ورافقته كيندا ملتصقة به كَظِلّ آخر له، تترقب بعينين كالحدأة تلك الفتاة وتتوعدها سرًا بالويل.

#لعنة_الطاغي

(2) خدعة أم خطأ جسيم. 

----------------------------------


بعد مرور ساعة من بدء الحفل، تملك الدوار من ذكرى، فزمت شفتيها لنسيانها أمر علاجها، فتلفتت حولها تبحث عن سراج، وزفرت بحنق لاختفائه تمامًا من أمامها، لتنتبه إلى صوت إحدى الفتيات تخبرها:

- محتاجين اتنين قهوة مظبوط، وواحد فرابتشينو، وواحد دوبيو، ووديهم القاعة الخارجية، ياريت متتأخريش، علشان في اجتماع، هيبدأ بعد عشر دقايق.


أغمضت ذكرى عينيها، بمحاولة بائسة منها لتستعيد تركيزها، فدوارها أشتد وباتت تشعر بغثيان يتصاعد بداخلها، ازدردت لعابها وأومأت بوهن، واتجهت صوب المنصة الخاصة، ووقفت تُعد ما طُلب منها، ازداد خفقان قلبها، وأدركت بحبيبات العرق تنساب فوق جبهتها، تمسكت بحافة الطاولة بيدٍ مرتجفة، وبالأخرى سكبت القهوة، أراقت البعض منها فوق غِطاء الطاولة، فلعنت حظها والتفتت تبحث عمن ينجدها، فهي تحتاج لدقيقة واحدة فقط لتأخذ جرعتها، وبدا وكأنه سمع توسلها الخافت، وقف خلفها يراقب ترنحها الخفيف، عاقدٍ لحاجبيه لظنه أنها ثملة، فاقترب منها غاضبًا، لا يدر لِما ثار حنقه منها، حينها التفتت ذكرى، ليضيق داوود عينيه، ويمعن النظر إليها، وما أن لاحظ شحوبها وتعرقها، حتى سارع بسحب الإناء من يدها، وأشار إلى أخر ليتولى عنها مهتمها، بينما وقفت ذكرى بعيون غشاها ضباب الدوار، ورفعت يدها تتحسس جبهتها، وارتعدت فجأة، لتسقط تاليًا بين ذراعي داوود، الذي حملها واتجه بها وسط نظرات الفضول والتساؤل، نحو مكتبه، يتبعه أحد أفراد أمنه، فأدار داوود رأسه وقال بصوتٍ أمر:

- عايز دكتور حالًا.


لبى النداء بثوان، فمن لا يُلبي لداوود أمر، وجثى أمام ذكرى الفاقدة لوعيها، وبعد فحص استمر لخمس دقيقة، أدار الطبيب رأسه وقال:

- واضح أنها مريضة سكر، والظاهر أنها نسيت تاخد جرعة الأنسولين، لو ممكن حد يشوف فين شنطتها، أكيد هيلاقي الجرعة بتاعتها.


أسرع سفيان حارس داوود الخاص للخارج، وبحث بثوان عن إحدى زميلاتها، حتى وقع بصره على فتاة ترتدي ثوب مماثل، فاتجه صوبها وسألها عن حقيبة ذكرى، فعقدت إسراء حاجبيها وسألته بحيرة:

- وحضرتك عايز شنطة ذكرى ليه، هي سرقت حاجة.


زم شفتيه وأخبرها بما حدث، لتُسرع إسراء من أمامه صوب حجرة ملابسهم، والتقطت حقيبة ذكرى، والتفتت لتصطدم بالحارس، فحدقت به بضيق وقالت:

- مكنش هيحصل حاجة، لو كنت استنيت برا، على فكرة ميصحش أنك تدخل هنا.


مال صوبها بعدما جذب من يدها الحقيقة وقال:

- سفيان محدش يقوله ميصحش.


ابتعد عنها فرفعت حاجبها بسخط، وتذمرت بقولها:

- يا سلام على غروره، قال سفيان محدش يقوله ميصحش، لأ دا ميحصش بالثُلث.


سلم سفيان الحقيبة إلى داوود، الذي بدوره فتحها، فوجد أمامه عُلبة التقطها وسلمها إلى الطبيب، ليزفر الأخير بارتياح ويقول:

- تمام كويس أنها محضرة الجرعات، أنا هديها الحقنة، وياريت لما تفوق، تاكل أي حاجة خفيفة، علشان تستعيد نشاطها.


حقنها سريعًا، ووقف يتطلع إلى وجه داوود الذي تجهم، فسارع بقوله:

- هتحتاج مني أي حاجة يا داوود باشا.


صرفه داوود، واتجه إلى مقعده، وجلس يتأمل صحوها، لمست جبهتها، فابتسم لتلك اللزمة لديها، بدأت ذكرى تستعيد وعيها وفتحت عينيها واعتدلت وهي تجول ببصرها في المكان، لتنتبه رويدًا إلى المحيط بها، ليقع بصرها في النهاية عليه، يجلس واضعًا ساقً فوق الأخرى، فهبت على قدميها، ليداهمها الدوار، فرفع حاجبه بسخط وهز رأسه وأردف موبخًا إياها:

- أقعدي يا ذكرى علشان الدوخة تروح.


ازدردت لعابها ورحبت بدعوته، وعادت إلى مكانها، وزفرت بقوة لتُجلي أفكارها، لتعي ما حدث بالخارج، فظهر القلق على ملامحها، وحدقت بوجهه بمحاولة ضعيفة منها، لتبين موقفه إزاء ما حدث معها، بينما كانت عينا داوود تتفحصها مليًا، يتابع بتسلية توترها الواضح، وأدرك أنه يؤثر بها كثيرًا.


------------------------------------


وبالخارج أخبرها أحدهم بما حدث، فاستشاطت غضبًا، وأدركت أن عليها التصرف وأنقاذ الموقف، قبل أن تتمادى تلك الفتاة، وتسلبها حقها، عقدت كيندا حاجبيها، وأطرقت تُفكر سريعًا بما عليها فعله، لتتسع ابتسامتها، فأخفت ما أضمرته بنفسها، وهي تتجه إلى الداخل، وعند زاوية تحفظها جيدًا، سارعت بأتخاذ أول خطوة لها، وأكملت سيرها تبتسم، حتى توقفت أمام باب مكتبه، وطرقت بابه بهدوء، ليأتيها صوته الرخيم يسمح لها بالدخول، فولجت وبادرته بقولها بصوتٍ هادئ:

- داوود أنت قاعد هنا، والناس بتسأل عليك برا، إيه معقول نسيت أن في اجتماع بعد خمس دقايــ.


تعمدت أن تبتر حديثها، ما أن وقعت عينيها على الفتاة، وأومأت لها بوجه مُبتسم، وأدارت وجهها ونظرت إلى داوود بارتباك وأردفت:

- أنا أسفة مكنتش عارفة أنك معاك حد، عمومًا أنا هخرج هروح أقعد مع الناس، على ما تخلص كلامك مع الأنسة.


ادارت كيندا بوجهها نحو ذكرى، وهي تُكمل استرسالها:

- بجد أسفة أني أقتحمت القعدة بينكم، بس هو أنا شوفتك قبل كدا.


تلبكت ذكرى وازدردت لعابها، وقبل أن تُجيب أتى صوت داوود يقول:

- ذكرى يا كيندا، بتشتغل معايا هنا، بس هي تعبت شوية، تقريبًا نسيت تاخد جرعة الأنسولين، عمومًا أنا هسيبها تستريح زي ما الدكتور أمر، وهاجي معاكِ.


تركت كيندا حقيبتها فوق المَقْعَد بشكل عفوي، وغادرت برفقة داوود وهي تحدثه بشأن الصفقة الأخيرة، في حين تهاوت ذكرى فوق مَقْعَدها، بجسد يرتجف، فاحتضنته بقوة لتوقف رجفته، تُفكر بما حدث، زفرت بقوة واستجمعت شتاتها، ووقفت فلمحت حقيبتها، فانتشلتها من فوق المَقْعَد، وغادرت لتعود إلى عملها من جديد.


---------------------------


مر الوقت عليها وهي منهكة، لم تتوقف لثوان بعد أن استعادت نشاطها، إلى أن أتت إليها دنيا، رحبت بها وسألتها عما يدور بالخارج، فجلست دنيا وهي تُمسد ساقيها بتعب، وأردفت بأجابتها:

- حاليًا أحنا أخدنا بريك، تقريبًا كدا الأجتماع اللي داير له أكتر من ساعتين بقى مُشتعل الأطراف.


عقدت ذكرى حاجبيها وسألتها:

- يعني إيه مُشتعل الأطراف دي يا دنيا.


رفعت دنيا حاجبها بدهشة وأردفت:

- معقول مش عارفة يعني إيه، عمومًا أنا هكسب فيكِ ثواب وأفهمك، مُشتعل دي يعني، الصوت بينهم بقى عالي، تقريبًا كانوا بيتخانقوا، والشروط اللي بيتناقشوا فيها، مش عجباهم، وطبعًا بسبب صوتهم العالي، وخوفهم أن أسرارهم تبقى على المشاع، الأمن قال لنا ناخد راحة نص ساعة، فقولت استغلها وأجي أشوفك بتعملي إيه.


أومأت ذكرى بتفهم، ولم تدر أنها شردت بفكرها بعيدًا عن دنيا، ليقتحم مُخيلتها وجه داوود، فازدردت لعابها بارتباك، تتساءل لما لم تستطع إبعاد أفكارها عنه؟ فهو بالنسبة إليها يُعد لغزً، بل هو النموذج المحقق، لمقولة الرجل الغامض.


---------------------------


وبالقاعة الخارجية، جلس داوود على رأس الطاولة، يحدق بوجوه الجميع باستهزاء، يُدرك أنه صفعهم جميعًا، ووجه ضربة قاتلة لحساباتهم الخاصة، ابتسم بمكر وهو يرى من يجفف وجهه، ويستمع لمن يهدد ويُندد، وبعد أن بدت الوجوه حوله مُحتقنة، تكاد تتميز من الغيظ والغضب، وقف داوود وضرب بقوة فوق سطح الطاولة، ليعم الصمت عليهم، وتطلعت العيون إليه بتخوف، فعقد حاجبيه وجال ببصره فوقهم، ثم ترك مكانه ليزدرد البعض لعابه، ليحسم داوود الأمر بعدما أيقن أنه نال مبتغاه، وصارت أعناقهم بين قبضتيه فأردف:

- على فكرة أنا مجمعكم النهاردة هنا، مش علشان أراضيكم، لأ أنا مجمعكم علشان أكشف حقيقتكم قصاد بعض، وأخليكم تخلعو قناع الزيف اللي لبسينه، للعلم أنا فاهم وعارف إن كل واحد فيكم، أول ما استلم دعوة الحفلة، فكر أنه بالشكل دا هيقدر يواصل كذبه على الطاغي، وللأسف غبائكم وطمعكم خلاكم تيجوا لحد هنا، وكل واحد عايز تطلع مني بمنفعه، تمام أنا مستعد أدي كل واحد فيكم اللي هو عايزه، ويمكن أكتر كمان، بس ياترى كل واحد فيكم، جاهز يدفع اللي عليه ويسد دينه، ولا أنتم فاكرين إن داوود الطاغي، قلب الأمبراطورية بتاعته لمؤسسة خيرية.


ابتسم لشحوب وجوههم، فأردف مستكملًا حديثه، بصوت أكثر صرامة وقوة:

- أظن بعد اللي عملتوه سابق، وأنا تقبلته منكم ومعقبتش عليه، الكل دلوقتي فهم هو مين داوود الطاغي.


ران صمتٍ مُهيب، حتى الأنفاس حُبست داخل الصدور، فشخصت أبصارهم على وجهه الصارم، وهو يتجه ليقف بينهم، بهيئته القاسية وعيناه الجليدية، منتظرًا ردة فعل كلٌ منهم على قوله، وتحدى عقله أنهم سيركعون قبل العدة الثالثة، وبدأ يُعدد بسرية تامة، واحد اثنان، ويقف أول الرجال عن مَقْعَده، فاتسعت ابتسامة داوود وازداد زهوه بنفسه، وهو يراه متجهًا إليه، ليحني رأسه ويمد يده مُلتقطًا يد داوود مُقبلًا إياها، حينها ربت داوود رأس الرجل بأنامل يده الحُرة، ليعتدل الرجل ويهتف ووجه لأسفل:

- أنا على أتم الأستعداد، أنفذ كل اللي تحكم بيه يا داوود باشا.


وما كاد الرجل يُنهي قوله، حتى تدافعوا يتسابقون إليه لينالوا رضاه ومبتغاهم، في حين وقفت كيندا تحدق به بزهو وتهمس مُهنأة نفسها:

- مش ممكن كل مرة، بتعرف تثبت للكل، أنك الامبراطور بلا منازع، برغم أنك أصغر سنًا يا داوود.


بدا وكأن صوت همسها السري وصل إليه، فالتفت إليها وحدق بها، وأشار إليها برأسه لتقترب منه، واستجابت كيندا له واتجهت صوبه كالمغيبة، ووجدت يده ممدوده إليها، فاتسعت ابتسامتها، وتشبثت بها بتملك، والتصقت بجسده، لتعطي انطباعًا للجميع، أن داوود سليمان يخُصها هي كيندا كامل.


----------------------

 

سجل كل كلمة تقال، وما يدور بينهم باهتمام، وبدا وكأنه اندمج مع جهازه اللوحي، ينقر فوق أزراره بسرعة لا تلحظها العين، يحلل كل كلمة، وفجأة ووسط غيمة الحروف والنقاط، اقتحمت صورتها تفكيره، تجمدت أنامله فوق لوحة الحروف، وشرد وقد خُيل إليه، أنها تحدثت بصوتها وتعتذر:

- أسفة الظاهر أني كنت سرحانه، ومأخدتش بالي إن حضرتك واقف.


ازدرد لعابه وتنفس بقوة وأغمض عينيه، ليتسلل عبيرها إلى دواخله، أحسها تضمه بأناملها الرقيقة، وتُضيء عَتَمَة ليله بابتسامتها الوضاحة، فهمس بتيه:

- شجن.


انتبه مينا لصوت صفير حاد، فنزع عن أذنيه سماعته، ولعن شروده فيها، وهب عن مكانه مبتعدًا، يهز رأسه رفضًا لما يحدث معه، التقط عُلبه سجائره وأشعل إحداها، وأخذ يمتصها بقوة، وعاد من جديد إلى مَقْعَده، وثبت سماعته يُصغي السمع ، وأنامله تُجاري الصوت وتكتب.


ومن خلف زجاج مكتبه راقبه خاطر، وهز رأسه بأسف، فرؤيته لمينا وهو بتلك الحالة تؤلمه، يتمنى لو كان بإمكانه مساعدته ليتجاوز الأمر ولكن كيف؟ زفر وهو يُفكر أيمكن له أن يستعين بأحد ليساعدا مينا سويًا على تقبل ما حدث معه، أيذهب ليبحث عن تلك الفتاة ويرجوها مساندته، فـمينا هو بمنزلة ابنه الذي لم ينجبه، لا؛ بل جميعهم أبناءه، فهو من كافح لينجو بهم ومعهم.


-----------------------------------


وفي الحفل الذي أوشك أن ينتهي، ملت شجن من البحث عنه، فهي لم تعُد تراه منذ صباح اليوم، خفضت رأسها وعادت تجُر أذيال الخيبة، وما أن ولجت إلى داخل المطبخ، حتى صرخت كريمة مديرة المنزل بوجهها قائلة:

- ممكن أعرف البرنسيسة شجن، سابت شغلها وراحت فين؟ 


احمر وجهها حرجاً للهجوم المباغت لها، وخفضت رأسها لا تدر بما تُخبرها، لتُردف كريمة مستكملة كلماتها الناقمة:

- أنا بجد مش عارفة أنتِ وغيرك، لو قاصدين تجيبوا لي أزمة قلبية، مكنتوش تسيبوا مكانكم وتروحوا تتفرجوا على الحفلة، الحفلة اللي لو داوود بيه لمح طرف واحدة منكم برا، هيبقى أخر يوم لوجودها هنا، علشان هو حذر كل البنات هنا من أنهم يخرجوا برا المطبخ، طول ما الحفلة شغالة، تقومي أنتِ وبمنتهى البساطة واخدة حالك وخارجة، ممكن بقى تفهميني، كنتِ بتعملي إيه برا فوقت زي دا يا شجن.


باتت محاصرة لا تعرف كيف ستخرج من هذا المأزق، لينقذها صوت ذكرى التي ولجت ولم ينتبه إليها أحد:

- بعتذر من حضرتك، بس الأنسة شجن كانت واقفة معايا لأني كنت تعبانة، أنا عارفة أن ممنوع العاملات اللي فالقصر تختلط بأفراد الشركة المنظمة، بس بصراحة هي أنقذتني، فكان واجب عليا أني أجي وأعتذر ليها ولحضرتك.


التفتت شجن بوجه مرتبك نحو ذكرى، لتقابلها الأخيرة بابتسامة مطمئنة، فأومأت كريمة برغم ريبتها، وتطلعت نحو ذكرى وسألتها:

- على ما أظن إنك البنت، اللي أتسببت بطرد فرد الأمن النهاردة، اللي تطاول عليكِ وأتحرش مش كدا.

 

بوغتت ذكرى بما تقوله تلك المرأة، وتغضنت جبهتها، فسألتها التوضيح، فرفعت كريمة حاجبها باستنكار وهتفت:

- أظن كلامي واضح، ولومحتاجة توضيح أكتر، تقدري تروحي تسألي داوود بيه نفسه، لأنه هو اللي أمر بطرد محمود.


ما أن تسلل اسمه إلى سمعها، حتى شهقت شجن بذعر، ورفعت يدها ووضعتها فوق شفتيها، ووغزها قلبها لا تصدق أن يقوم هو بمثل هذا الفعل المُشين، التفت كريمة إليها، تحدق بها بشك واقتربت منها وهي تتفرس بملامح وجهها الشاحبة، لتقف أمامها وهي تعقد حاجبيها وسألتها بريبة:

- مالك وشك اتخطف مرة واحدة، إيه هو أنتِ كنتِ تعرفي اللي اسمه محمود دا، وزعلانة أنه أنطرد، ما تتكلمي يا أستاذة شجن، زعلتي أن المتحرش دا انطرد.


صمتت كريمة لتواصل تطلعها بوجه شجن، الذي ازداد شحوبًا، لتهتف بصوتٍ حانق قائلة:

- قولتيلي بقى، يعني محمود دا هو اللي كنتِ كل شوية، تسيبي مكانك وتخرجي برا علشانه، والله عال يا ست شجن، عمومًا أنا هوصل لداوود بيه كل اللي حصل، وهو بقى يتصرف بمعرفته.


واستدارت لترمي ذكرى بنظراتٍ نارية وتُردف:

- وأنتِ يا أنسة أتفضلي أطلعي من هنا، روحي شوفي اللي وراكِ، ولا أنتِ مش عارفة أن القصر هنا له قوانين، واللي أهمها أن ممنوع على أي حد غريب عن القصر أنه يدخل المطبخ.


لون الحرج وجه ذكرى، وتطلعت بحيرة إلى وجه كريمة، لترفع الاخيرة حاجبها بسخط وهي تُشير نحو الخارج، فلم يكن أمام ذكرى غير الاعتذار والمغادرة السريعة، تلعن تعجرف تلك المرأة وبغضها.


وتزامن مغادرتها للمطبخ، مع ولوج كيندا وهي تلتصق بجسد داوود، ولم تدر ذكرى لما تملكها الغضب، فأشاحت بوجهها وابتعدت عن طريقهما، تتبعها عينا كيندا سرًا، ويتفرس في ملامحها المحتقة داوود، ليغيبا عن الأنظار بولوجهما إلى المكتب، وبعد لحظات تعالت صيحة استنكار من داخل المكتب، وصل صداها إلى الجميع.


وفجأة تبدل الحال وبدا القصر وكأنه تحول إلى قاعة عسكرية، فأحاط الحرس بداوود الذي غادر مكتبه، بينما وقفت كيندا إلى جواره وبين يداها حقيبتها، تنظر باتجاه ذكرى بغل، ليصدح في المكان صوت داوود يقول:

- للمرة الأولى فحياة عيلة سليمان، تحصل حالة سرقة، أنتم عارفين يعني أيه حد يتسرق منه حاجة، وهو ضيف فقصر داوود الطاغي.


اكتست الوجوه بالذعر، وأدرك الجميع أنهم باتوا متهمين، وبلحظات وقف بمنتصف القصر كل العاملين به، صفًا واحدًا نظمه الأمن بصرامة، وأمام كل منهم وضعت اشياؤه الخاصة، حينها ابتعد داوود عن كيندا التي تصاعد غضبها وتسارعت أنفاسها، واقترب من ذكرى، فأطاحت حركته تلك بتعقل كيندا تمامًا، فاندفعت كالعاصفة الهوجاء، وقبضت على خُصلات شعر ذكرى، وجذبتها بعنف ودفعتها، لتسقط أرضًا أمام الجميع، باغتته تمام بفعلتها تلك فتجمد بمكانه، يشعر بأن كيندا صفعته أمام موظفيه بفعلتها، فهو وبعدما أصبحت ذكرى أسفل قدميه، لن يستطيع أبدًا الأنحاء ومساعدتها، خاصة بعدما صرخت كيندا بوجهها وقالت:

- فين الخاتم الألماظ والأسورة يا حرامية، أنتِ الوحيدة اللي كنتِ فالمكتب، وأكيد سرقتيه من شنطتي، بعدما خرجت أنا وداوود، طلعي المجوهرات بالذوق بدل ما أبهدلك.


شحب وجهها ذكرى وهزت رأسها بالنفي، لتركلها كيندا بمقدمة حذائها بقوة، فصرخت ذكرى متألمة، بينما ازداد شحوب الجميع، بعدما امرهم الأمن بالتراجع للخلف بضع خطوات، وقبل أن تنقض كيندا على ذكرى مرة أخرى، كان داوود واقفًا أمامها كالسد المنيع، فنظرات ذكرى أخبرته أنها لم تسرق شيء.


وليته لم يعترض مسارها، فكيندا صرخت ومالت صوب حقيبة ذكرى، وألقت بها أمام أحد أفراد الأمن وصرخت:

- خد فتش الكيسة القذرة دي، وطلع لي خاتمي وأسورتي منها، اللي سرقتهم الحرامية.


رفع الرجل وجهه ونظر إلى عينا داوود، فأومأ له بتنفيذ أمر كيندا، وتراجع بعدما أشار لسفيان برأسه، ليتقدم الأخير ويميل فوق جسد ذكرى، وأوقفها على قدميها أمام داوود، الذي ابتسم ساخرًا والتفت إلى كيندا وقال:

- اهدي يا كيندا، هي مش هتمشي من هنا، إلا لما اللي راح يرجع، وزي ما الكل بيتفتش، هي كمان هتتفتش.


وأعقب داوود كلماته، بتنفيذ قوله فمد يده نحو ذكرى، التي تراجعت بعيدًا عن يداه، وهي ترتجف فرفع حاجبه باستخفاف، وجذبها بقبضة واحدة من بين يدا سفيان، وبالأخرى جال فوق جسدها، يتحسس منُحنياته متعمدًا التمهل، تجمدت ذكرى بين يداه تشعر بالمهانة والذِلة، وسالت دموعها لأحساسها بالرُخص هكذا، بينما تفجر غضب كيندا، واتسعت عيناها بصدمة، لرؤيتها لداوود وهو يضم تلك الفتاة إلى جسده، وازداد الموقف تأزمًا، حين أعلن رجل الأمن خلو حقيبة ذكرى من المسروقات، فصرخت كيندا فاستنكار، أجفل داوود وسبها بسخط، لتبديدها حالة السعادة التي غمرته لقرب ذكرى منه، فابتعد مُكرهًا عنها واستدار عنها، وأولى اهتمامه بكيندا وأردف:

- على فكرة يا كيندا الحاجة مش معاها، لا فشنتطتها ولا فجيوبها، فأحتمال وارد أنها متكونش هي اللي سرقتهم.


صاحت كيندا بغل، وهي تتوعد لذكرى بالويل:

- لأ يا داوود هي اللي سرقتهم، أنا متأكدة لأني مسبتش الشنطة بتاعتي من أيدي، إلا لما نسيتها فالمكتب عندك، وهي الوحيدة اللي كانت موجودة، وبعدين لو الحاجة مش معاها، فدا أدعى أنك تشك فيها أكتر، لإن أكيد هي ليها شريك موجود هنا، وهو اللي أخد منها مجوهراتي اللي سرقتها وخباها، علشان تبان ادامنا أنها بريئة.


غام وجهه واستدار بحدة يرمق ذكرى، لتتراجع بخوف بسبب نظراته القاتمة، ولكنه سرعان ما نفض عنه ذاك الهاجس، فهي لم تبتعد عن عيناه للحظة طوال الوقت، حتى وهو في قمة انشغالة، زفر بضيق فللمرة الأولى يشعر داوود بالندم، لسماحه لأحدٍ غيره بتولي زمام الأمور، فضيق عينيه ثم أعتدل وأشار بيده، ليسرع رجال أمنه بأبعاد الجميع، وبثوان خلا المكان إلا من ذكرى وكيندا، ليظهر سفيان إلى جوارها مرة أخرى ويخبرها بأن تتبعه، وتابعت كيندا ما يدور بسقم، وحين استدار داوود نحو مكتبه، تبعته وهي تغلي غضبًا وأعترضت على صرفه للجميع، ليزم داوود شفتيه ويقول:

- ممكن تهدي وأنا هجيب لك مجوهراتك، وبعدين حتى لو مظهرتش، فأنا هعوضك عنها متقلقيش.


ضربت كيندا الأرض بقدميها أعتراضًا على تساهل داوود، وزفرت بحنق لابتعاده عنها، وأن شغاله بمراجعة بعض الأوراق، فغادرت مكتبه ووقفت للحظات أمام بابه، لتلمع عينيها بعدما حسمت أمرها، رغم ادراكها مغبة تصرفها هذا وعواقبه، واتجهت صوب المطبخ، وما أن ولجت حتى صرخت بوجه سفيان وقالت:

- روح خلي الأمن يدور لي على المجوهرات فالجنينة، أحتمال يكونوا وقعوا هنا ولا هنا.


تردد سفيان للحظات، ولكنه نفذ حين رمقته كيندا بغضب، وتابعته حتى أختفى من أمامها، والتفتت تحدق بوجه ذكرى بحقد، واقتربت منها وصفعتها قائلة:

- مافيش غيرك اللي سرقني، ولعلمك لو الخاتم والأسورة مظهروش، أنا هسجنك.


ازدردت ذكرى لعابها، وحاولت تبرئة ساحتها، أمام أنظار الأستنكار التي أحاطتها، فخفضت عينيها أرضًا وقالت:

- بس أنا مسرقتش حاجة، وربنا عالم وشاهد، وبعدين ما أنا أتفتشت و.


قاطعتها كيندا، التي جلست فوق أحد المقاعد، ووضعت ساقً فوق الأخرى:

- وهتقلعي هدومك كلها هنا، وأدام الكل يا حرامية، علشان أنا عارفة ومتأكدة أنك سرقتي الحاجة وخبتيهم.


شهقت ذكرى ورفضت كليًا تنفيذ، لتُشير كيندا إلى كريمة التي ابتسمت بشر، واقتربت من ذكرى تجذبها بقسوة من ثوبها، لتمزق مقدمته، فصرخت ذكرى بألم، لتعمد كريمة خدشها، وبلحظات امدت بعض الأيدي تُساعد كريمة بتمزيق ثوب ذكرى بحجة تفتيشها، ليخلفن بجسدها خُدوشًا وجراحًا عديدة. 


وبعد بعض الوقت، غادرت كيندا المطبخ، وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة رضى، وولجت إلى مكتب داوود الذي أنشغل تمامًا بما بيده، وظن أن كيندا غادرت وعدلت عن متابعة أمر المجوهرات، رفع وجهه ليضيق عينياه فنظرات كيندا أثارت ريبته وظنونة، وما أن جلست أمامه حتى ألقت أمامه بقولها:

- على فكرة يا داوود، أنا أديت أمر للأمن يسلم البنت الحرامية للشرطة.


---------------------------------


وبقسم الشرطة، تفاجأ فريد باتصال كيندا، تُبلغة بسرقة مصاغها الذي أهداها إياه داوود، وأنها أرسلت له الفتاة التي سرقتها، وتوسلته أن يستعمل معها، كافة اساليبه كي يُعيد إليها ما يخُصها، وبعد مرور ساعات من الأهانة، التي وصلت إلى الضرب، وقفت ذكرى ترتجف أمام فريد، تلملم اطراف ثوبها الممزق بيد، وبالأخرى تكفكف دموعها وتقول:

- يا حضرة الظابط، أنا معرفش حاجة عن المسروقات، اللي سعادة البيه بيتكلم عليها.


تابع داوود تحديقه بها بصمت، عيناه تسجل كافة تفاصيلها، واهمل كليًا متابعة سير التحقيق، في حين انهمرت دموعها، ما أن سبها فريد وصاح بها معنفًا إياها:

- ما تنطقي وتعترفي وتخلصينا، وديتي المجوهرات فين.


أجابته بتلعثم وخوف:

- يا باشا والله أنا بريئة ومسرقتش حاجة، أنا اتظلمت واتبهدلت من البيه، اللي وقف فتشني أدام الناس، ومرعاش أني بنت، والمدام اللي كانت معاه، اخدتني المطبخ وخلت الخدامين يقـ.


لم تقوى على إكمال ما فعلوه بها وانهارت باكية، فتراجع عنها فريد، واستدار وتلاقت عيناه بعينا داوود، فأومأ برأسه بهزة خفيه، برغم يقينه ببرائتها ولكن عليه أن يتأكد، فعاد فريد وعقد حاجبيه وتطلع إلى الفتاة وقال:

- طالما مش عايزة تعترفي، يبقى متلوميش غير نفسك.


وصاح فريد بصوتٍ جهوري، وناد إلى أحد أمناء الشرطة وهتف قائلًا:

- خد البنت دي، كمل ترويقها لحد ما تعترف.


وصرخت ذكرى بذعر، وعقلها يُذكرها بما فعله بها ذاك الأمين، فأرتمت أمام مقعد داوود لتصدمه، وتشبثت بساقه وقالت، بصوت تملكت منه الرهبة والخوف، متنازلة عن كبريائها وكرامتها:

- أبوس رجلك يا داوود باشا، تقولهم أني مسرقتش حاجة، أرجوك خليهم يسيبوني، أنا والله بريئة ومعملتش حاجة، وبعدين لو حضرتك مش مصدقني، أسألهم عني فالشركة هيشهدوا إن عمري ما مديت إيدي وأخدت حاجة، صدقني والله أنا مشفتش حتى شنطتها، ومش عارفة ليه المدام اتهمتني ظلم، ارجوك ساعدني وأنا مستعدة أعمل أي حاجة، قصاد أني أثبت لك وللكل برائتي. 


أجهشت ذكرى بموجة بكاء مريرة، حين لزم الصمت، فادار داوود وجهه نحو فريد، وأشار إليه ليغادر، وما أن أصبح بمفرده معها، حتى وضع كفيه فوق كتفيها، واوقفها أمامه وحدق بعينيها وقال:

- بس يا ذكرى، حتى لو أنا مقتنع أنك مسرقتيش، كيندا مصممة أنك اللي سرقتيها، ولو أنا أدخلت وحاولت اخرجك، هيبقى موقفي محرج، يعني لأسباب كتير، منها أنك اشتغلتي فالقصر جوا، يعني كان سهل عليكِ تدخلي المكتب فأي وقت، أو زي ما كيندا قالت، أنك أخدتيهم وقت ما كنتِ فالمكتب، صدقيني يا ذكرى أنا نفسي أساعدك وأخرجك من هنا، زي ما عملت مع محمود اللي أتحرش بيكِ، بس مش عارف، أنا حقيقي حاسس أني متكتف.


ازداد نحيبها خاصة، بعدما جال بمخيلتها، ما قد يحدث لها على يد الأمناء والسجينات، بعد قول أمين الشرطة الذي تطاول عليها بالضرب، أن كيندا أوصت الجميع ألا يترأف بها، وبين تيهها وألمها النفسي والجسدي، تسللت برودة غريبة إليها، وأحست أنها لا تقوى على الوقوف، فرحبت بدعمه لها الغير متوقع، واستسلمت لضعفها واغمضت عينيها تدعو أن ينتهي كابوسها. 

أما داوود فقد تجمدت قسمات وجهه، ولم يدر أنه ضمها إلى صدره بتملك، إلا حين تسلل دفء جسدها إليه، وأحس بارتجافها بين ضلوعه، ثم استكانتها وتراخي جسدها، إثر فقدانها الوعي، فزفر بقوة وضرب بكل شيء عرض الحائط، وانحنى فجأة وحملها بين ذراعيه، وغادر مكتب فريد، وسط نظرات الصدمة التي ارتسمت فوق الوجوه، تلاحقه عدسات الصحافة.. 

#لعنة_الطاغي

(3) خلف الوجوه وجوه.

---------------------------


تم إبلاغه بما حدث معها، فأراح ظهره إلى الخلف، وابتسم بظفر والتفت إلى مُساعده وقال:

- لقد فعلتها، لا أصدق أنها اجتازت أول خطوة بنجاح، باتت بالداخل الآن ونحن كذلك.


سأله مُساعده بريبة شابها القلق:

- سيدي هل تأمن عليها معه، أعني الا تظن أن من المبكر التفكير بأنها نجحت، واجتازت الخطوة الأولى.


حده بنظرات نارية، وبدا وجهه كالجمر الملتهب، فهو يرتب للأمر منذ شهور عِدة، فكيف له أن يفشل بعد وضع اللبنة الأولى؟

وكيف لذاك الطاغي أن يُدرك ما يحاك على بعد أميال منه؟ أميال شعر في بعض الأوقات أنها تبدو كسنواتٍ ضوئية، تبعده عن هدفه الذي لوهلة ظنه على بعد خطوة.


ثارت حفيظته وود لو يصرخ، ليخبر مُساعده، أنه نال مبتغاه ومُراده أخيرًا، ولكن كيف؟ كيف وهو يشكك بما حدث؟

لم يتحمل البقاء ساكنًا، فترك مكانه ووقف يسير بلا هوادة، ويراقبه مُساعده بقلق، فهو يعلم جيدًا من هو الطاغي، وكيف يُفكر؟ بل يعلم أنه دومًا يرد الصاع بالف، وإن أكتشف ما يُحاك ضده، حتمًا سيعلنها حربًا ضَرُوس على الجميع، ولن يرأف بأحدٍ منهم أبدًا.


------------------ 


هب خاطر عن مقعده وتطلع بعيون متسعة بشاشة حاسوبه، لا يصدق ما كُتب عنها، صرخ ساخطًا وقبضته تُطيح حاسوبه أرضًا، وهوى بقبضته فوق سطح مكتبه، يُفرغ شحنات غضبه بضرباته، وتعال صوت صياحه المستنكر، وبخارج المكتب وقف مينا وإلى جواره ميسي، يتبادلان النظرات الحائرة، ويتساءلان عما حدث، ليثور خاطر غضبًا هكذا، لكز ميسي مينا وأشار إليه بصمت، أن يتقدم هو بمهمة الاستطلاع تلك، ويلج ليرى ما الأمر، فتجلت ملامح الاضطراب على وجه مينا، وهز رأسه بالنفي وقال بصوتٍ خافت:

- أنا مقدرش أدخل له يا ميسي وهو بالحالة دي، خصوصًا بعد العك اللي عكيته، مأظنش أبدًا هيكون حابب يشوف وشي، أنا بقول أدخل له أنت، وشوف في أيه حصل وبعدها نشوف حل.


تملك الذعر من ميسي، وازدرد لعابه وتراجع خطوة إلى الخلفوأردف:

- أنا وخاطر دونت ميكس يا مينا، دا لو شافني مش بعيد يرميني من الشباك، هو مش بيطيق يسمع صوتي أساسًا، أقوالك أحنا نستنى الحلويات بتاعتنا تيجي، وهي تدخل تشوف ماله، هي الوحيدة اللي بتقدر عليه، وهو بيقلب بطة بلدي معاها، ومبيقدرش يزعلها، حتى لو بوظت الدنيا حواليه.


زفر مينا بضيق، واستدار بوجهه يحدق بباب المكتب الموصد، وعاد لميسي وقال:

- شكلي كدا هغامر وأدخل اشوف ماله، ما هو مش معقول هنسيبه بالشكل دا لحد ما ترجع، عمومًا أنت تخليك هنا، ولو سمعتني بنادي عليكِ أدخل وأنجدني ماشي.


ارتبك ميسي، فرفع مينا حاجبه بسخط وزجره بقوله:

- ميسي مش هروب، عارف لو ناديت عليك وأنت طنشت ولا عملت زي كل مرة وهربت، صدقني مش هتفلت من تحت أيدي، وأبقى وريني مين اللي هيسهلك خروجاتك بعد كدا.


أيقن ميسي من صوت مينا أنه يعني ما قاله، فزم شفتيه وأومأ ثم أردف بقوله:

- خلاص يا مينا أنا هفضل واقف ومش همشي، يلا أدخل شوف خاطر ماله، قبل ما يتوحش أكتر من كدا، ومحدش يعرف يصده.


استجمع مينا شجاعته، والتقط بضع أنفاس بقوة، ووضع يده فوق مِقْبَض الباب، وما أن حاول فتحه، حتى أتى صراخ خاطر المفزع يقول:

- يعني أيه الكلام دا، أنا عايز أفهم مين اللي عمل معاها كدا، دي أول مرة تحصل أن حد يقول عليها كلام زي دا، فهمني أزاي غفلتم عنها وسيبتوها، وأحنا مرتبين كل حاجة، وليه الكاميرات مجبتش اللي حصل، أنا مش عارف هو أنا مشغل معايا هواه، ولا عيال بتلعب، أنا عايز أعرف مين اللي أخدهم، وليه والأهم مين اللي عطل الكاميرات، وعايز تسجيل بكل اللي دار فالاجتماع وبرا الاجتماع، أنا مش صارف كل الفلوس دي علشان فالأخر أقعد أندب حظي.


تجمدت أصابع مينا حول المِقْبَض والتفت بوجهه نحو ميسي وازدرد لعابه بتخوف، ينتفض كلاهما حين فتح خاطر الباب فجأة، ووقف يحدق بهما للحظات، ليفاجأ كلاهما بقبضه على تلابيب ملابسهما، وسحبهما إلى داخل غرفة مكتبه، ودفع بهما أمامه ووقف يتطلع إليهما بغضبٍ عارم، تجمد كلاهما ووقفا أمام خاطر، يتساءلان عما أثاره هكذا، ومع تقدم خاطر منهما، تراجعا بقلق إلى الخلف، ليسقط كلاهما على الأريكة، ومال خاطر نحوهما وهو يحدق بهما بحدة وقال بنبرات صوتٍ جليدية:

- أقدر أعرف البهوات كانوا بيعملو أيه طول اليوم النهاردة، خصوصًا البيه اللي راح جازف بشغل وترتيب سنة وساب شغله قبل ما يتمم كل اللي عليه.


تجهم وجه مينا وفتح شفتيه ليخبره بما فعل، ليوقفه خاطر بنظرة عين واحدة، فأحس وكأنه عاد طفلًا صغيرًا مرة أخرى وجب عليه العقاب، فخفض رأسه هربًا من نظرات اللوم تلك، في حين تابع ميسي وكاد أن يزفر بارتياح، ليدفعه خاطر بسبابته في صدره وهو يُردف:

- وسعادة الباشا، اللي مش بشوف وشه إلا كل فين وفين، أقدر أعرف سيادتك، عملت إيه النهاردة فموضوع التسجيلات، تممت على كل الأجهزة، وعملت لها اختبار، ولا جنابك مكنش فتفكيرك غير أنك تخلص، علشان تلحق تجري تروح تشوف، ست الحُسن والدلال بتاعتك.


زم ميسي شفتيه، وحاول أن يوضح ما فعله، ليمنعه خاطر بإشارة من يده، وابتعد عنهما ووقف أمامهما يحدق بهما بأسف، لينكس كلاهما رأسه بحرج، ليصفعهم خاطر بقوله بصوتٍ متهالك:

- الكاميرات مسجلتش أي حاجة، لا عن الاجتماع، ولا اللي كان بيدور فالقصر، وكل أجهزة الصوت اللي مفروض بتسجل، مسجلتش حرف واحد، عارفين معنى دا إيه.


استدار وزجرهما بنظراته النارية، وحدق بهما ساخرًا من صدمتهما، وأضاف:

- لو مش عارفين معنى اللي حصل إيه، أحب أقوالكم إن معناه الوحيد، أن الطاغي كشف الليلة كلها، وبسبب فشلكم لعب لعبته ووقع ذكرى، يا بيه أنت وهو ياللي دخلتم قصر الطاغي علشان نعرف نراقبه، أحب أقوالكم إنكم سلمتم بأيديكم، ذكرى لداوود الطاغي على طبق من دهب، بعد ما كيندا كامل اتهمتها، أنها سرقت مجوهراتها من شنطتها، وخلت الناس اللي شغالة تبعها فقصر الطاغي، تهينها وتبهدلها، وفالنهاية سلمتها لقسم الشرطة، وطبعًا كيندا كمال مسكتفتش بكدا، لا دي وصتهم عليها احتفلوا بيها، وفالأخر جه داوود الطاغي وأخدها ومشى، ومحدش عارف راح بيها فين، لأنه مرجعش على القصر بتاعه.


كانا يستمعان إلى كلمات خاطر، وعلى ملامحهما ارتسمت الصدمة، لا يصدقان أن داوود قلب الأدوار، ليصبح هو سيد اللعبة بلا منازع، ويسلبهم ذكرى بتلك السهولة، ودون أن يمنعه أحد.


--------------------- 


ولا تزل على غفوتها منذ عاد بها، لا يصدق أنه حملها بين ذراعيه، وغادر بها مُتحديًا فريد، وعدسات الصحافة التي لاحقته، حتى توارى خلف زجاج سيارته العاتم، وانطلق إلى وجهته بعدما ضلل الجميع، وعلى الرغم من إبلاغه، بما طاله على لسان الصحف الصفراء، فهو لم يبال، بل اتسعت ابتسامته، فللمرة الأولى يشعر بالحياة، وعليه أن يتمسك بذاك الشعور لأطول وقت ممكن، استدار داوود وتطلع إليها مرة أخرى، ليراها على سكونها، فاقترب منها ووقف على بعد خطوة من الفراش، والتقط أنفاسه يشتم عبيرها، رأها تتململ بنومها، وترفع كفيها نحو وجهها تفركه كطفلة صغيرة، فجلس بالقرب منها، يراقب صحوها يُريد أن يرى ردة فعلها الأولى لوجودها معه، وأن يرى تلك الشعلة، التي أشعلت رغبته، بأن هناك أخيرًا من يستحق أن يلعب معه تلك المباراة.


نبأها عقلها إلى رائحة عطر حادة، فامتعضت منه وعبست، وعادت وفركت أنفها تمنع عنها تلك الرائحة القوية، التي ذكرتها به، حينها بدأ عقلها يتنبه ويستعيد ما مرت به، فانتفضت مذعورة من مكانها، لترتطم رأسها بأنفه، فسب داوود وابتعد عنها وهو يتحسس أنفه، ووقف أمام الفراش يرمقها بنظراتٍ حادة، يستعيد توازنه، بينما ارتجفت ذكرى، وتشبثت بدثار الفراش كطوق نجاتها، تتساءل بخوف عن سبب وجوده معها؟ ولما هي بغرفة نوم وليست بقسم الشرطة؟


بتلقائية ابتسم، فأفكارها وتساؤلاتها تصرخ بصمتها، وتطل عليه من نظراتها المذعورة، شجاعتها الواهية فرت بعيدًا عنها، تركتها دون درع، ليبدو ضعفها واضحًا كالشمس، لم يدر لما أحب ذاك الضعف الكامن بعينيها، والذي يُدرك جيدًا أنها تحارب لإخفائه، ولكنه يريده أن يدوم، فهو يلامس شغاف قلبه، ويتسلل إلى داخله ويشعره بالحياة، ومع تحركها ابتعد ليترك لها مساحتها، ووقف يترقب نظراتها إليه، ليأتيه صوتها المهتز يقول:

- ممكن أعرف أنا فين، وحضرتك بتعمل معايا أيه، أنا أنا بصراحة مش فاكرة غير أننا كنا فالقسم و.


رغمًا عنها تذكرت إهانة أمين الشرطة، وكلماته الخبيثة بحقها، فطفرة عينيها بالدموع، وأشاحت بوجهها عنه، أدرك داوود أن دموعها ردة فعل طبيعية، فاقترب منها وحط كفه فوق كتفها، ولكنها انتفضت وابتعدت ليسقط كفه عنها، ونظرت إليه بريبة، لتتبدل بثوان كفكفت دموعها، وحدقت به بتحد وأردفت:

- على فكرة أنا منستش كلامك ليا فالقسم، حضرتك قولت أنك مش هتقدر تساعدني، بس واضح من المكان اللي أنا وأنت فيه، أننا مش فالقسم، فممكن تجاوبني وتقولي حضرتك أخدتني معاك إزاي وليه؟


تركها تمضي بعيدًا بخطواتها، فهو يعلم أنها في النهاية ستعود إليه طواعية، واتخذ مقعده وجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وأشعل لفافة التبغ وأخذ يتنفسها بقوة، ويتابع إمارات غضبها، التي لاحت فوق صفحة وجهها، يتماسك عنها بصعوبة، فبداخله نمت رغبة عارمة بجذبه إياها لتسقط بين ذراعيه و.

انتبه داوود لسيل أفكاره، واستعاد رباطة جأشه، وسيطرته على زمام نفسه، وجموحه غير المبرر وزفر بقوة، حينها توقفت خطوات ذكرى أمامه، وعادت تساله بسخط لصمته:

- هو حضرتك مش بتجاوبني ليه، ممكن أفهم في أيه بيحصل؟


أشار إليها لتجلس، وأردف بعدما أطفأ سيجارته:

- هفهمك كل حاجة يا ذكرى، وهقولك إيه اللي حصل، وأنتِ معايا فين، بس الأول عايز أعرف، مجوهرات كيندا أنتِ اللي سرقتيها؟


بدا سؤاله كالصفعة لخذلانه لها، فهي ظنته صدق براءتها، فتجمدت نظراتها عليه، وثار غضبها من ظلمه البين لها بسؤاله، فأجابته بصوتٍ حاد ساخط:

- ولما حضرتك مش مصدقني، وفاكر أني سرقت كيندا هانم، قاعد معايا ليه، وجيت القسم ليه من الأساس، وليه مسبتش الحكومة تشوف شغلها معايا، طالما أنا حرامية من وجهة نظرك.


رفع حاجبه باستنكار للهجتها معه، فهتف بها بحدة:

- ذكرى خلي بالك من طريقة كلامك معايا، وجاوبيني أنا لأخر مرة هسالك، أنتِ اللي سرقتي مجوهرات كيندا؟


تراجعت خطوة إلى الخلف، حين ترك مقعده ووقف، فازداد وجهه تجهمًا وهو يتجه نحوها، ازدردت ذكرى لعابها بخوف من هيئته القاتمة، فأسرعت وأجابت بصوت متضرع:

- مسرقتش أنا مسرقتش حاجة، ومعرفش هي ليه اتهمتني أنا بالذات، وبعدين أنا والله خرجت من مكتب حضرتك على طول، وطول الوقت كنت واقفة فمكاني متحركتش منه، ومشفتش لا شنطتها ولا حتى قربت منها.


تهدج صوتها وتوسطت غصتها حلقها، ولكنها أبت البكاء، فأضافت بصوتٍ مستنكر، لتذكرها ما فعله معها:

- غير كل دا حضرتك أهنتني وفتشتني، والهانم كملت وخلت الخدامين عندك يقتعوا فستاني ويبهدلوني، فقولي لو أنا كنت سرقتهم، كنت هخبيهم فين، تحت جلدي مثلًا.


أرفقت كلماتها الأخيرة، بتحسسها لساعدها، فزم داوود شفتيه وهز رأسه، وأشاح ببصره عنها وأردف بخفوت:

- كنت أتمنى وقتها أكون لوحدي معاكِ، علشان أفتش براحتي و.


زجر نفسه للمرة الالف لانحرافه، وذكر نفسه بمكانته وبهويته، ووقفت ذكرى تتابع ملامح وجهه الممتعضة، وزمت شفتيها لصمته الغريب، ولنظراته الأغرب إليها، ولم تجد أمامها غير الابتعاد، فاتجهت صوب باب الغرفة وفتحته، وسط نظراته التي لم تتزحزح عنها، ومع أولى خطواتها للخارج أتاها صوته يقول:

- على فكرة يا ذكرى أحنا كلامنا لسه منتهاش، ولو تفتكري أني طلبت منك تراجعي عقد الشغل اللي مضيتي عليه، علشان تعرفي أنتِ بتشتغلي عند مين.


لعنته لإتقانه اختيار اللحظات، التي يستطع تجميدها فيها، فها هي تقف لا تعرف أتُكمل خطواتها للخارج، أم تبقى لتستمع له، ليبادر داوود ويسحب منها اَلْبِسَاط بقوله:

- لو خرجتي يا ذكرى هرفع أيدي عنك، ووقتها مش هتبقى واقفة لوحدك فقسم الشرطة لا، أنتِ هتبقي واقفة لوحدك، وأنتِ بتواجهي كل وكالات الصحافة، اللي بدأو يدوروا وراكِ، علشان يعرفوا مين هي ذكرى؟ اللي داوود الطاغي خرج من القسم وهو شايلها بين أيديه، وطبعًا واحدة زيك، مُطلعة على كافة وسائل السوشيال ميديا، أكيد هتبقى عارفة هما كتبوا إيه عني وعنك.


سدد لها طعنة لم تكن في الحسبان، وقفت تتطلع إليه بلا ملامح، لا شيء استقر بداخلها، فكلماته تدور حولها في الفراغ، لا يسمح لها عقلها بالولوج إليه، كادت تطالبه بإعادة قوله، ولكنها هزت رأسها بالنفي، فقسمات وجهه وقتامة نظراته، أجابتها عما تُريد معرفته، وتثبت لها أنه لا يمزح معها ولا يكذب، استندت بجسدها لقائمة الباب، وهي على يقين من اكتشافه للأمر كاملًا، وأنه هو من بات يُلاعبها ويتلاعب بها، وعلمت أن أي محاولة لتزييف الحقيقة، لن تكون أبدًا لصالحها، عليها أن تقبل مبادرته، وتلعب معه وجهًا لوجه، وإلا ستكون هي الخاسرة الوحيدة بتلك اَللُّعْبَة، وقفت وبدت كمن ينتظر أمرًا ما، وللوهلة الأولى تاه داوود، فتحديقها به جعله يُأْسر داخل عينيها، وحين هزت رأسها، بإشارة منها إليه ليُكمل استرساله، قطب جبهته وزوى حاجبيه، ووقف عن مقعده، واتجه نحوها بعصبية واضحة، فباغتته بقولها الصادم:

- وأواجه لوحدي كل دول ليه، وداوود سليمان الطاغي معايا، داوود إمبراطور الصناعة الحديثة، وملك الحديد وحوت التصدير، اللي مافيش ذرة رملة واحدة، بتتحرك من مكانها إلا بإذنه، داوود حاكم القبايل في...


تعمدت ترك جملتها الأخيرة غير مكتملة، لتخبره أن كليهما يلعب بوجهه الحقيقي دون قناع، وأن عليه إن كان يرغب، أن يخطو الخطوة الأولى إليها، ولكن.

لكل قاعدة شواذها، وداوود مختلف كُلِّيًّا عن غيره، فهو الإعصار الكامن خلف قناع الهدوء، والموت المترصد بين حبات الرمال المتحركة، والقاتل الصامت حين تظن أنك بمأمن، هو الشبح بعالم كُتب عليه أن يكون سيده، وعلى السيد دومًا أن يسبق الجميع بخطوة، لا بل بخطواتٍ عدة.


--------------------   


حاولت كيندا التوصل لمكان داوود، ولكن قوبلت محاولاتها بالفشل، بدا وكأنه أختفى تمامًا بلا أثر، حتى مصادرها الخاصة فشلت في إيجاده، منعت نفسها قبل أن تقذف بهاتفها بعصبية، بعدما أخبرها أحد رجاله، بأن سفيان أمرهم بالعودة إلى القصر، قبيل مغادرة داوود قسم الشرطة، وبالتالي لا يعلم وجهته، ضربت الأرض بقدمها، وجلست فوق الأريكة، تتساءل إلى أين ذهب بتلك الفتاة؟ 


وفي خضم شرودها، ارتفع رنين هاتفها لثوان، فالقت نظرة خاطفة عليه، وعبست ما وجدت أشعارًا برسالة، من رقم غير مدرج لديها، علمت مُرسلها فورًا، فمدت يدها، واستجابت لنداء الأشعار، واستقبلته لتقرأ ما أُرسل إليها:

- لم يكن عليكِ إتهام تلك الفتاة، خاصة في الوقت الحالي، فنحن لم نرد أن تطأ أرض الطاغي بقدمها الأن، وأنتِ بفعلتك فتحتي لها الأبواب على مصراعيها، لقد اضعتي من بين يدك فرصة مثالية لنيل ما تطمحين إليه، خاصة بعد نجاح خطواتك السابقة جميعها، عدا الأخيرة منها والتي حتمًا ستكلفك الكثير، وأعلمي أنك إن حاولتي أصلاح ما أفسدته، لن تزيدي الأمر إلا سوءً، لذا عليكِ البقاء بعيدة ودعي الأصلاح لصاحب شأنه.


زمت شفتيها متذمرة لتدخلهم بشأنها، فهي أبدًا لن تستطيع الأبتعاد، فتلك الفتاة تسعى لسلبها ما صبت إليه نفسها طويلًا، فكيف بعدما باتت الأقرب إليه أن تبتعد عنه وتترك لغريمتها الساحة، ضيقت كيندا عينيها، وتطلعت للرسالة ساخرة، وضغط لتضعها بسلة المهملات، وهمست بصوتٍ حانق:

- أبعد واسيب لها الساحة، علشان تاخد داوود، اللي حاربت الكل علشانه، داوود ملكي أنا وبس، ومش من حق أي واحدة تاخده مني، وهو نفسه مش من حقه أنه يفكر فأي واحدة، ويوم ما يفكر يلعب معايا، يبقى هو اللي سعى لنهايته.


تنفست وهي تُفكر بأمر داوود ومكانه، وزفرت بقوة وهمهمت:

- هسيبك بمزاجي يا داوود، علشان أنا عرفاك كويس، أنت شوفتها حاجة جديدة ممرتش عليك قبل كدا، فقولت تجرب وأنا هسيبك تجرب، ولما تاخد اللي أنت عايزه منها، وترميها برا حياتك زي ما عملت مع غيرها، وقتها هترجع تاني لكيندا، وساعتها هتلاقيني، بس المرة دي هترجع ومش هسيبك تبعد تاني يا داوود.

#لعنة_الطاغي

(4)  أولى خطوات داوود.

----------------------------------


خلال ساعات قليلة، سادت حالة من الصمت، لا أحد يعلم كيف أو متى أختفى الخبر، وأين ذهبت الكلمات، التي كُتبت عن داوود وذكرى!

وكيف تلاشت صورتهما وهو يحملها تمامًا؟ حتى محضر السرقة لم يعد له أي أثر! 

بدا الأمر وكأنه لم يكن ولم يحدث، حتى الهمسات وئدت في الصدور، خوف يتخفى في العيون مجهول المصدر، هو الوحيد المتحكم بكل شيء، هكذا هو داوود حين يضرب، تكون ضربته بغفلة من الجميع، وفي مقتل.


أما كيندا فكادت تصاب بأزمة قلبية، حين أخبرتها مدبرة منزلها، أن سفيان حارس داوود الشخصي، يُريدها بأمر هام، اسرعت بخطاها إليه، ورحبت به على غير عادتها، تعجب سفيان لترحيبها الحار به، كونها دومًا تتعامل معه، ومع أقرانه ومن هم أقل شأنًا منها، وفق وجهة نظرها بكِبر وترَفُع، كاد يسألها عن سبب تغيرها، ولكنه منع نفسه، وحين أشارت له بالجلوس، اعتذر منها بلباقة، وراقبته كيندا وهي تحاول تمالك تهورها، وتكبح رغبتها لسؤاله عن مكان داوود، وحين مد يده إلى جيب حُلته، ضيقت كيندا عينيها، وترقبت خطوته التالية، وما أن أخرج علبه مخملية وقدمها إليها، حتى وقفت بحدة، وحدقت بيده الممدودة بالعُلبة باشمئزاز، ورمقته بنظراتٍ مستنكرة، لظنها بأنه يسعى لمحابتها، وتخيله أنها ستقبل منه تلك الهدية، ابتسمت باستخفاف، وشمخت برأسها وأخبرته بصوتٍ فاتر:

- هو أنت مُتخيل إن كيندا هانم، ممكن تقبل هدية من حارس أمن يا سفيان، معقول عقلك صورلك، إني علشان وافقت أنك تقف أدامي وتكلمني، إن ممكن أنزل لمستوى واحد بيشتغل عند داوود، شيل العلبة اللي أنت ماسكها يا سفيان، بدل ما أعتبرك جاي بيتي تقلل مني و...


رمقها بنظراتٍ نارية، وود لو يصفعها لغرورها وتعجرفها، ولكنه تمالك زمام نفسه، وأجبر نفسه على تحمل تواجده معها، وزفر بقوة مُتغاضيًا عن إهانتها له، وتقليلها من شأنه، وأخبرها بلهجة رسمية باردة:

- واضح إن في سوء فهم، حصل عندك يا كيندا هانم، العلبة دي من الباشا، هو طلب مني أني أوصلها لهنا بنفسي، ومعاها رسالته الشفهية لحضرتك.


تعمد سفيان وضع العُلبة فوق الطاولة بأهمال، واعتدل وهو مقطب الوجه، واستكمل حديثه قائلًا:

- الباشا بيبلغلك، إن العلبة دي فيها مجوهراتك، اللي اتهمتي الأنسة ذكرى بسرقتهم بالخطأ، وأنها كانت واقعة فحاجز الكرسي، اللي حضرتك كنتِ قاعدة عليه فمكتبه، وإنه لقائها بعد ما حضرتك خرجتي من عنده.


لمعت عينا سفيان، وهو يرى حالة الغضب المستتر داخل عينيها، وود لو ينفجر ضاحكًا، فوجهها بدى له كــ بالون أحمر اللون، منتفخ على وشك الانفجار، ولكنه تروى وأومأ برأسه، وأردف قبل أن يستدير:

- عن إذن حضرتك، أنا لازم أرجع القصر، لإن الباشا مكلفني بمهام تانية.


لم يستطع سفيان كبح لسانه من أضافة:

- قبل ما يرجع، وأتمنى أكون وضحت سوء الفهم، وإن العلبة مكنتش هدية مني، أصل أنا مش مجنون، علشان أعمل حاجة زي دي.


--------------------- 


وبغرفتها تبكي منذ أنذرتها كريمة، وهي لا تصدق أن هناك أحدًا بتلك البشاعة، فـكريمة تتصنع الطيبة والود أمام الجميع، ولكن بداخل أعماقها تحمل نفسًا كريهة بغيضة، لا ترحم ولا تشفق على أحد، خفضت شجن رأسها بخزي، أمام أيقونة العذراء التي تحتفظ بها، وانحنت بجلستها وتمسكت بصليبها بأنامل مرتجفة، سالت دموعها بغزارة كأنها لم تبكِ يومًا، وأخذت تدعو الله أن يغفر لها خطيئتها، فهي وللمرة الأولى ترحل ببصرها لغريب، سكنت الغصة حلق شجن، ما أن تذكرت محمود، لم تتخيل قط أن تكون أخلاقة دونية هكذا، وأنه أخطأ بحق ذكرى بفعلته المُشِينة، ضغطت شجن بألم فوق قلبها، فهي للآن لا تصدق أن قلبها أخطأ وأجرم بالتعلق بمن لا يصلح، توقفت أفكارها بغته، ليذكرها عقلها بكلمات كريمة، فهي لم تكتفي بالتنمر عليها أمام باقِ الفتيات، بل جذبتها من خُصلاتها ومدت يدها وسحبت قلادتها، وسخرت منها بقولها:

- ألا يا قديسة شجن، هو يا ترى يحق للبنات اللي اتربت فالدير، واللي بتعتزل في الآحاد في ركنها الخاص علشان تصلي، أنها تحب وتعشق وتعمل غراميات، وهل تفتكري لو الكنيسة، ولا حتى أهلها عرفوا، أنها راحت حبت وعشقت هيعملوا فيها إيه.


شحب وجه شجن، وأحست أنها على وشك فقدان الوعي، لتُجهز عليها كريمة بابتسامتها المتهكمة، وهي تدفعها عنها، وتمسح كفيها باشمئزاز وتُضيف:

- وخصوصًا بقى لو عرفوا، أن اللي راحت تحبه دا، مينفعش أنها تكون على صلة بيه من الأساس.


فهمت شجن مغزى كلمات كريمة، وتهديدها لها، فخفضت رأسها تشعر بالقهر، واستدارت لتُغادر، وسط ضحكات كريمة ورفيقاتها الساخرة، تبكي بألم وندم ما فعلته بحق نفسها وحق أسرتها، وها هي منذ عادت تتوسل بدعائها، ألا تُنفذ كريمة تهديدها، فهي تعلم جيدًا أن أسرتها، لن تتوانى عن قتلها، إن سمعوا عنها شيئًا كهذا، وأن مُعلمتها بالدير ستستنكر فعلتها تلك، وسيخيب أملها بتلميذتها، بسبب سلوكها المُشِين ذاك.

التقطت شجن بضع أنفاس، بعدما أحست باختناقها، وحاولت التفكير بمخرج، يحفظ ماء وجهها أمام الجميع، فهي باتت لا تدر كيف ستغدو أيامها القادمة، فحتمًا كريمة ستستغل ما حدث، لتنال منها وستُلاعبها، كما تفعل عادةً، ما أن تقع إحداهن بين يدها، كفكفت شجن دموعها، وتسطحت فوق فراشها، وحاولت طرد عينا محمود التي طاردتها، لتصرخ في نهاية الأمر بقلب متألم:

- أبعد عني بقى حرام عليك، سبني فحالي، وكفايا عليا كريمة واللي هتعمله فيا، ياريتني ما شوفتك ولا دورت عليك، ياريتني.


------------------------  


وعلى الجانب الآخر، وضع مينا يده فوق قلبه، وشهق بقوة ليلتقط أنفاسه كمن أصابته أزمة قلبية مباغتة، فانتفض خاطر وأسرع نحوه، وقد تناسى أمر غضبه منه ومن ميسي، وسأله بخوف:

- مالك يا مينا ماسك قلبك كدا ليه؟ طمني عليك وقولي حاسس بأيه، طيب بلاش تتكلم، وقوم معايا أفرد جسمك، على ما أطلب لك الدكتور، يجي يكشف عليك ويطمنا.


قبض مينا على ساعد خاطر، وهز رأسه بالنفي، وحاول تمالك دموعه، ولكنها فرت منه رغمًا عنه، فشحب وجه ميسي، وأدرك أن صديقه به خطبٌ ما؟ فغادر الغرفة على عُجالة، وأختطف جهاز الاستنشاق الخاص بصديقه، من فوق مكتبه وعاد مُهرولًا إلى غرفة خاطر، ووضعه فوق أنفه وحثه على التنفس، التقط مينا أنفاسه بصعوبة، وبعد دقائق مرت عليهم بمشقة، هدأت أنفاس مينا، فأبعد ميسي الجهاز عنه، وربت خاطر كتفه بحنو وسأله:

- حاسس أنك بقت أحسن.


أومأ مينا وحاول أن يعتدل، فمنعه خاطر وأردف:

- خليك زي ما أنت متتحركش، أنا معنديش أستعداد أخسر أتنين من ولادي.


جلس ميسي لجوار صديقه، وأمعن النظر بوجهه، فأغمض مينا عينيه وقال بصوتٍ حزين:

- صدقني لو قولت أنا معرفش مالي، فجأة حسيت أني مش قادر أخد نفسي، وقلبي بيوجعني زي ما يكون في أيد مسكاه وبتعصره، أول مرة أحس...


ابتلع مينا كلماته التالية، وأتسعت عينيه، فرفع ميسي حاجبه وحدق به مستفهمٍا، يخشى التلفظ بما يجول بخُلده، أن يتسبب في أثارة غضب خاطر منهم مرة آخرى، وأختطف نظرة سريعة نحو خاطر، ليُدرك أنه يتابع ما يدور بينهما بصمت، فزم شفتيه وحرك كتفيه دليل كشف أمره، حينها ادار مينا وجهه وحدق بوجه خاطر وأردف:

- عارف أنك هتقول عليا مجنون، وإني متهور وأني السبب الأساسي، اللي بوظ العملية كلها، بس حقيقي أنا مش قادر أمنع نفسي يا خاطر، عايز أرجع لهناك، عايز أشوفها وأكلمها وأفهمها كل حاجة، عايز أصارحها باللي حاسس بيه، وأشوف ردة فعلها حتى لو هترفضني، أرجوك يا خاطر خليني أكلمها ولو لمرة واحدة، أنا عايز اطمن عليها، قلبي بيقولي أن فيها حاجة، وأني السبب.


امتعضت ملامح خاطر، وتجهم وجهه، لا يدر ما أصاب ابناءه ليحدث بهم ما حدث، وبينما يتبادل الثلاث النظرات، ولجت سمرا بأنفاس متهدجة وأردفت:

- خاطر كل حاجة كانت منشورة عنهم اتمسحت، كل المواقع حذفت الخبر، والصورة أختفت ومبقاش ليها أي أثر، والغريبة أني لما حاولت أرفعها على جوجل، علشان أعمل عليها بحث، أترفضت، فقولت ابعت لزمايلي اللي شغالين فالجرنال، قالوا إن جت لهم تعليمات مشددة من جهات عُليا، بأن أي حد هيفكر ينزل حرف أو كلمة، عن داوود والبنت اللي معاه، هيتعرض للملاحقة القضائية، وهيشطب اسمه من النقابة.


على الرغم من سعادته، لحجب الخبر ومنع نشره، إلا أن الخوف بداخله ازداد عليها، فهي الأن باتت بين يداه وبمفردها، بعدما عزلهم داوود عن قصره، وهدم كافة الممرات التي حُفِرت لتصلهم به، فزفر بحزن وعقب قائلًا:

- كلامك يا سمرا أكد لي، إن داوود كشف كل حاجة من قبل ما تبدأ.


أعتدل مينا بجلسته، وحدق به بقلق وسأله:

- طيب وذكرى هنسيبها تحت رحمته!


رفع خاطر كفيه باستسلام واسقطهما وأردف:

- للأسف معدش فأيدي أي حاجة، ولو حاولت أدخل، هيبقى أعتراف صريح، أننا كنا بنتجسس عليه، ووقتها مش هتبقى ذكرى بس اللي تحت رحمته؛ لأ، دي رقبينا كلنا هتبقى فايده، فتفكر أني ممكن أجازف بحد تاني من فريقي يا مينا، لأي سببٍ كان.

 

ختم خاطر متعمدا قوله بتلك الكلمات، ليُبلغ مينا برسالته السرية، فخفض الأخير رأسه بخزي، وهز رأسه بالنفي، لعلمه بصحة قول خاطر، فجميعهم اتفقوا على أن لا عودة لأصلاح فشل، ولضمان سلامة الأخرين التنصل من الأمر كله، ولكن تلك القاعدة الأن ومع أختفاء ذكرى، ليس لها أي معنى، فوقف مترنحًا في بادىء الأمر، ورفض دعم ميسي له، وأردف بقوله بصوتٍ جاد:

- خليك فاكر يا خاطر، إن لكل قانون ثغراته، ومافيش على وجه الأرض حد مُحصن مية فالمية، وداوود الطاغي زيه زي أي إنسان، له نقاط ضعفه، اللي هسعى أني أكشفها، مهما حاول أنه يخفيها، وزي ما هو كشف خطتنا، وحرص أنه يبلغنا رسالته، فأنا على يقين أنه أكيد غفل عن كشف خطوتي البديلة، اللي قبل ما أنسحب من موقعي فعلتها، بدون ما أفهم أنا بفعلها ليه.


-------------------------- 


جلست أماه بغرفة مكتبه، تتابع ما يفعله بترقب، فهو وخلال لحظات كان قد انهى كل شيء، الخبر والصور حتى ملاحقتها، وبالرغم من معرفتها بشخصه وأفعاله، إلا أنها لم تستطع إنكار أعجابها به، وأشادت بموقفه معها، مع علمه بسبب تواجدها بقصره، لم تدر أنها شردت وعينيها تلاحق وجهه، وتُفكر بأمر عينيه ونظراته الغامضة إليها، لتنتبه سريعًا حين تبدلت كلماته، وتحدث بالفرنسية إلى أحدهم، لم تفهم في بادئ الأمر ما ينوي فعله، ولكن حين تسلل إلى سمعها اسم كارلوس حتى تحفزت، وعلِمت أنه استعان بخدمات، أخطر رجال الهكر على الإطلاق، فازدردت لعابها وأيقنت أن مهمتها، أضحت شبه مستحيلة، فحتمًا كارلوس سيعرف بصمتها الإلكترونية، إن هي تدخلت، وأن عليها الانسحاب، والتنحي ليتقدم بديلها وينفذ المطلوب، تجلت على ملامحها الخيبة والضيق، فتركت مكانها لإحساسها المُر بالفشل، اتجهت صوب الشرفة، وغادرت مكتبه منها، وخطت بضع خطوات، ووقفت تحدق بمياه البحر الصافية، وبتهور جلست على الشاطيء الرملي، لتلامسها الأمواج، اشتمت عبيره وأحست بتيار يمر بجوارها ما أن جلس، جعلها ترتجف، فرفعت ساعديها واحتضنت جسدها، وشكرته سرًا لعدم استراقه النظر إليها، وشرد كلاهما للحظات بالموج الهادىء، ليقطع داوود الصمت بقوله:

- ها عرفت أصحح الوضع، ولا فشلت زي ما كنتِ بتتمني.


ضمت ركبتيها نحوها، واسندت رأسها فوقهما، وتابعت تحديقها بالموج، وأجابته بصوتٍ خافت، فبدت وكأنها تخشى أن تتسبب، بأزعاج الطبيعة حولها:

- كنت متأكدة أنك هتقدر تعملها، ولعلمك أنا متمنتش أنك تفشل، لسبب بسيط.


رفعت رأسها وادارتها، وحدقت بوجهه، وأردفت بصوت مهتز:

- عارف ليه، علشان داوود الطاغي، مهما مسح وحذف وحجب وهدد، عمره ما هيقدر يمنع الناس، أنها تفكر وتألف قصص بينها وبين نفسها، ولو حتى قدرت تخرس كل الألسنة، مش هتقدر تخرس ظنونهم السيئة اللي هتطولني، عارف ليه؟ علشان أنت مش أله، وربنا عز وجل الوحيد هو اللي بايده الأمر، للأسف يا داوود باشا الوضع الغلط، مهما حاولت أنك تصلحه هيفضل غلط، وأنت بدأتها معايا غلط، ومش هقول أنك محسبتهاش صح، لإني عارفة أنك مخطط لكل حاجة، من أول ما رفضت توضح الحقيقة للكل، وتقول لهم أني مسرقتش، وتكشف اللي سرق، لحد من شوية لما حجبت الخبر، اللي أنت سعيت أنه يكون حقيقة، لما خرجت بيا من القسم شايلني.


لا ينُكر أنها تمتلك عقلًا يُجيد التفكير، فهي لملمت أطراف الأُحْجِيَّة، وعلمت ما فعل، نعم هو سعى ليضعها بتلك الزاوية، منذ اللحظة التي رأها تبعد غُرتها عن عينيها، ما أن خطت لداخل قصره، فلازمها بعينيه وتتبع خطاها، وحين أدرك لُعبة كيندا سايرها، لأنها بدت له الخطوة المثالية لينال مأربه، فكيف يرفض أن تصبح ذكرى له دون جهد يُذكر، فترك لكيندا حُرية التصرف، كي لا تشك بأنه اكتشف الأمر، ولكنه لم يضع بحسبانه أبدًا، تطاول كيندا عليها، وهو ما لن يغفره داوود لها، وسيحاسبها عنه حسابًا عسيرًا، حين يأتي أوانها.


التفت إليها وحدق بوجهها، وبثوان كان قد أحاط وجهها بكفيه، واقترب بوجهه منها، فتجمدت، علم أنها كتمت أنفاسها ترقبًا له، وأمام اضطرابها تمالك داوود نفسه، وكبح مشاعره وهمس، بأنه لم يحن بعد أوان ما يُريد، ولكنه أحب ذعرها وهي بين ذراعيه، ولم يكن حال ذكرى مثله، فهي تواجه للمرة الأولى قربًا بأخر، تختبر مشاعر لم تتخيل أن تمر بها يومًا، أنفاسه الدافئة التي تُلامسها، عينيه التي تحاول سبر أغوارها، كفيه المُحيطين بوجهها، وينشران بداخلها رجفة تتمنى لو تدوم، أشتعل وجهها لافكارها نحوه، وازدردت لعابها وأنتفضت كمن مستها النار، حين مرر داوود ابهامه بجوار أذنها، تنهدت رغمًا عنها، لتتسع عينيها بصدمة، لإفصاحه عن سبب فعلته الأخيرة بقوله:

- هجيبهالك من أقصر الطرق، علشان أنا مش حابب لا ألف ولا أدور حواليكِ، وأساسًا مش حابب أطول فترة السكوت ما بينا، لإني اكتفيت من الصمت، ومن الأخر يا ذكرى، أنا قصدت فعلًا أتصرف بالشكل دا، علشان الكل يفهم ويعرف، إن اللي ملك داوود الطاغي، ممنوع على أي عين تبص عليه، وأنتِ من اللحظة اللي دخلتي برجلك قصري، وعيني لمحتك بقيتي ملكي، وللأسف أنا بعترف أني استهونت بكيندا، بس صدقيني اللي عملته معاكِ، مش هيمر بالساهل، وهتدفع تمنه غالي، هي وكل واحدة لمستك، وفكرت تأذيكِ، أما فريد فلولا أني عارف ومتأكد، أنه مكنش يعرف أنك تخصيني، فأكيد كان زمانه دلوقتي، مشرف مع أمين الشرطة، اللي لمسك ونفذ طلب كيندا، واللي لحد اللحظة، أنا مانع نفسي عنه، علشان عارف أني أول ما هشوفه هقتله، لأفكاره اللي كانت باينة من نظراته ليكِ.


شهقت بخوف وارتجفت، فوقف داوود وجذبها لتقف أمامها، وحاوطها بساعده ليوقف رجيفها، وربت براحة يده وجنتها وأردف:

- مش عايزك تقلقي من حاجة، ومتخافيش مني، أنا مش هضغط عليكِ، وهسيب لك الوقت الكافي، علشان تتعودي على وجودك معايا، وعارف أنك دلوقتي تايهة ومتلغبطة، ومش فاهمة اللي بيحصل، فأجابتي ليكِ أنك تحاولي تستوعبي الموضوع واحدة واحدة، سيبي نفسك يا ذكرى، وعيشي حياتك معايا زي ما أنا مرتب، صدقيني مش هتندمي، ويمكن فالنهاية تلاقي نفسك حققتي، اللي مافيش واحدة قبلك قدرت تحققه.


وكالمغيبة سألته، وعينيها تغوص بعينيه:

- وهو إيه اللي مافيش واحدة قبلي، قدرت تحققه معاك.


رمى تحفظه معها أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وضمها إليه بقوة، وحين ازداد ارتجافها، مال بلمح البصر، وحملها بين ذراعيه، وهمس وهو يعود إلى الداخل:

- أنك سرقتي قلبي يا ذكرى، والظاهر أنك هتبقي لعنتي وضعفي.


بغرفتها التي ودعها أمام بابها، جلست فوق فراشها، لا تصدق ما أخبرها إياه، حاولت أن تُعيد ترتيب أفكارها، وتُذكر نفسها بما جاءت لتحققه، لتعود وتشرد بكلماته، وضربات قلبه القوية أسفل راحة يدها، هزت ذكرى رأسها بقوة، وزجرت قلبها واتهمته بالمراهق، ليرجف فجأة مُذكرًا إياها، أن من حقه أن ينال فرصته، ويترك مشاعره على سجيتها، لتنعم بما حُرم منه سابقًا، تذمرت لعناد قلبها، وصاحت مُتناسية مكانها تقول:

- مافيش حاجة اسمها حب فعالم الطاغي، في بس رغبة وفترة مؤقتة ووداع، ولا سيادتك مش عارف تاريخ الباشا، عيب عليك تضعف وتسلم، زي قلب بنت مراهقة، وتضيعنا بعد العمر دا، مش معقول بعد تماسك ستة وعشرين سنة، تقع في فخ ساذج وتصدق كلامه، دا الطاغي اللي دخل فـ علاقات بعدد شعر راسه، الطاغي اللي مفروض دلوقتي، بدل ما أنا قاعدة أقنعك أنك متحبوش، أفكرك أنه كان بايده ينهي مهزلة كيندا، بس سكت علشان ينول غرضه، تبقى كدا خلصت يا ذكرى، أنتِ لازم تطرديه من تفكيرك، وتعرفي أنك مهما خيالك راح لبعيد، عمرك ما هتكوني ألا فترة مؤقته فحياته، وبعدها هينساكِ ويدور على غيرك، و... 


فرت دموعها بحزن، يؤلمها قلبها لما انتهت إليه أفكارها، فمدت يدها وكفكفتها، ووبخت عقلها لتساهله ذاك، لا تصدق أنه سمح لداوود، أن يتمادى معها إلى الحد، لتصبح رفيقته بمكان مجهول، تركت فراشها وهي تلوم تهورها، ووقفت تحدق بمحتويات الغربة بتيه، وزفرت لاستسلامها بضعف، فزجرت نفسها قائلة:

- فوقي يا ذكرى، فوقي بدل ما تلاقي نفسك، مجرد ذكرى في سجل الطاغي.


أنهت قولها وسارعت بخطواتها، إلى المرحاض وتوضأت، وهمست وهي ترتدي حجابها:

- يارب قدرني أبعده عن طريقي، وقويني على ضعفي وضعف قلبي.


-----------------------   


بعدما سلم تيسير لسفيان، جميع تسجيلات كاميرات المراقبة، داخل وخارج القصر، جلس سفيان بمكتبه، يشاهد كافة التسجيلات، ليعقد حاجبيه إزاء ملاحظته، حديث كريمة الحاد لشجن، واستماعه لكلماتها الساخرة لذكرى، ثم ما فعلته بها، حين أشارت كيندا لها، ولكن ما جعل غضبه يتفجر، سماعه بوضوح، لتهديد كريمة المتواري خلف تهكمها لشجن، فالتقط هاتفه وأجرى اتصالا بداوود، وحين أجابه بصوتٍ ناعس، أعتذر سفيان وقال:

- بعتذر يا داوود باشا، بس في كذا حاجة لحظتها في التسجيلات، كان لازم ابلغ حضرتك بيها.


استعاد داوود انتباهه كُليًا، واستفسر عن تلك الملاحظات، ليخبره سفيان:

- واضح يا باشا إن مدام كريمة، على صلة بكيندا هانم، لأنها بإشارة هاجمت الأنسة ذكرى، دا غير معاملتها للبنات اللي تحت ايديها، كلامها للبعض منهم في تهديد غير مباشر، واللي وصل للتهديد بالقتل.


أسهب سفيان بشرح كل ما شاهده بالتسجيلات، وأخبر داوود بظنونه وملاحظاته، ليزيد من تأجج غضب داوود، مما جعله يُنهي الحديث بقوله:

- أبعت لك نسخة من كل التسجيلات يا سفيان، والتسجيلات المُشفرة للاجتماع، وكلم تيسير بلغه أن كريمة وموبايلها، لازم يكونوا تحت عينه وسمعه هو، هو يا سفيان مش أي حد تاني، وبالنسبة للبنت اللي كريمة هددتها، حاول توفر لها حماية، من غير ما أي حد يلاحظ حاجة، وأنا لما أرجع هبقى أشوف بنفسي، موضوع اللي اسمه محمود، ومتنساش يا سفيان، بكرة عايزك تستقبل الوفد مع مستر بكر، وتوفر لهم كل سبل الراحة، ومتقلقش أنا طلبت من سراج، أنه يخلي الطاقم اللي كان موجود بالحفلة، هو اللي يشرف على القصر، طول فترة إقامة الوفد فيه، ومش هوصيك كيندا تفضل بعيدة عنهم، ومتقابلش أي حد منهم، لحد ما يسافروا.


لم يدر سفيان لما رجف قلبه، ما أن علم أن تلك الفتاة سيراها من جديد، اتسعت ابتسامته، وهو يتذكر حواره السابق معها، ومشاكستها لها، ولكنه قطب جبينه، ما أن أدرك أن سراج سيرافقها، زفر ساخطًا وتوعد له أن أمسك به متلبسًا بالنظر إليها، سيــــ...


هز سفيان رأسه ومسح عليه بكفه وأردف:

- والله وشكلك طبيت يا سيفو، وبينها مش هتسمي عليك، بس على مين، طالما هي اللي القلب شاور عليها، يبقى هتبقى من نصيبه بعون الله، دا أنا سفيان، اللي محدش يقدر يقوله ميصحش .


------------------------


ترك داوود هاتفه فوق الطاولة بجواره، يود لو بإمكانه الذَّهاب لغرفتها ليطمأن عليها، فاستدار ليصطدم بانعكاسه في المرآة، وقف يحدق بصورته، وبدا كمن يرى نفسه للمرة الأولى، اقترب أكثر ليتجهم وجهه لرؤيته تلك الخطوط البيضاء التي غزت جانبي رأسه، وزم شفتيه وهتف:

- أول مرة تبص لنفسك في المراية يا داوود، كنت دايما مش بتهتم، لا بشعر أبيض ولا تعب وأرهاق، معقول ما بين يوم وليلة، تتغير بالشكل دا، معقول تسمح لواحدة، أنت عارف هي دخلت حياتك ليه، أنها تأثر فيك بالشكل دا، معقول تكون حبيتها.


لم تنل تلك الفكرة عقله، ووجده نفسه ينفي سقوطه بغرامها، وتعلل أن ما يمر به، هو مجرد حالة من الأعجاب لا أكثر، وحتمًا ستكون النهاية بينهما، كـ نهاية أي علاقة يخوضها، سيتفق معها وسيُرضيها بأكثر مما تحلم و...


أجبر داوود عقله على التوقف، لإحساسه بالضيق، وأدك حجم كذبته الواضحة، فزم شفتيه وزفر بقوة، وأشاح بوجهه عن صورته، واتجه صوب الطاولة، والتقط هاتفه وسماعة أذنه الخاصة، وبنظرة خاطفة أدرك أن سفيان أرسل كامل التسجيلات، فغادر غرفته وهبط درجاته بشرود، وولج إلى مكتبه وأوصد بابه، وتنفس بقوة عدة مرات ليبعد شبح ذكرى عنه، ويعود بكامل تركيزه إلى عمله، وأردف:

-  "firewall action" 


وبغمضة عين، تحركت مكتبة المكتب الضخمة عن مكانها، وكشفت عن غرفة سرية، جوانبها الأربع من الزجاج العازل، ولج إليها وجلس بأريحية، يستمع إلى التسجيلات، غافلًا كُليًأ عن رؤية ذكرى، التي توارت خلف الأريكة بوجه شاحب.

#لعنة_الطاغي

(5) ..بلا أجابة!

----------------------


تجمدت لا تدر ماذا ستفعل، إن قَبض عليها بالجرم المشهود، حتمًا سيُلقيها بطول ذراعه، وسيُعيدها إلى قسم الشرطة بيده، وحينها سينتهي أمرها، زفرت ولكنها سرعان ما وضعت يدها فوق شفتيها، وبخت نفسها لنسيانها، وأخرجت رأسها بحذر، واختطفت نَّظْرَة سريعة باتجاهه، فرأته منهمك بتحديقه بشاشة هاتفه، ألقت نَّظْرَة نحو الباب، فوجدته مغلق، وعادت إلى وضعها الأول واستكانت، يخبرها عقلها أن عليها التريث، كي لا يُفضح أمرها.


في حين اندمج داوود كُليًا، بمتابعة التسجيلات، تجهم وجهه وتوعد كريمة، بعقاب شديد، لما فعلته بذكرى، والرد على فِعلة كيندا الغير مبررة، ولكنه سيتمهل ليكشف الأمر كامِلًا، أطرق قليلًا يُفكر بأمر ذكرى وذاك الحارس، يشعر بأن ملامحه تلك مألوفة لديه، عيناه يوقن أنه رأها سابقًا، ولكن أين؟.


رفع داوود رأسه بغتة، وعقد حاجبيه ووقف يدور حول نفسه، يعلم بقرارة نفسه أن هناك أمرًا ما خطأ بوجه محمود، فعيناه سبق ورأها ولكن بملامح غير تلك.


أنفجر فجأة ضاحكًا وعاد لمقعده، وأجرى أتصالًا بسفيان، أملاه بما عليه فعله وأنهى أتصاله وأتكأ على مقعده وابتسم قائلًا:

- خاطر رشوان؛ والله زمان يا خاطر، وأخيرًا جيت لي برجليك، ياه دا اللعب كدا هيبقى على تقيل، وحشتني أيامك وشقاوة زمان.


أنهى داوود قوله، وأعاد تركيزه كامِلًا لمراجعة باقي التسجيلات، فعليه أن ينهي مراجعتها ليضع تقريره، فموعد تسليم الشحنات أقترب وعليه أن يسد كافة الثغرات، التي يُمكن استغلالها، للتسلل منها إليه، وألا يغفل عن الصغائر، سجل داوود بعض الكلمات بهاتفه، وأرسل العديد من الرسائل، وأعتدل بعدما أرسل أخر أشعار، ليأتيه الرد فابتسم، وأستقبل الاتصال المرئي قائلًا:

- مرحبًا عزيزي، كيف حالك الآن.


أخبره الأخر عابسًا:

- دعك من حالي داوود، فأنت تعلمه جيدًا، والآن أخبرني بما لديك، فأنا مقيد حتى اللحظة بمكاني رُغمًا عني، وكل هذا بسببك أنت.


اتسعت ابتسامة داوود، وأجابه بجدية:

- أخبرتك سابقًا يا صديقي أن عليك التمهل، فخطواتك كانت مكشوفة، ولولا تحذيري إياك، لكنت سقطت حتمًا بفخهم كالغِر، والآن دعني أأمن لك خُطة بديلة، لضمان رجوعك سالمًا، قبل أن يأتيك أحدهم.


أطرق الأخر برأسه، لعِلمه أنه ما عاد يملك من أمره شيئًا، وأنه لولا تدخل داوود لبات في عداد الأموات، أومأ له وأردف معقبًا:

- حسنًا داوود سأنتظر كما تريد، ولكن عجل صديقي، فأنا على أحر من الجمر للعودة، كي أخذ ثأري.


--------------------  


في صباح اليوم التالي، وقف كالصقر يُشرف على كل شيء بنفسه، أومأ لتيسير فرفع الأخير حاجبه بضجر، والتقط هاتفه وكتب سريعًا شيئًا ما وأرسله، ليحدق سفيان بهاتفه، واستدار يحدق بالزواية التي أشار إليها تيسير برسالته، فأكفهر وجهه وأتجه بخطواتٍ سريعة نحوهم، نصب عيناه عليها، فرأها تتنفس بقوة بوجه عابس، وما أن أصبح قاب قوسين منها أخترق سمعه كلماتها الحادة تقول:

- بص بقى يا بشمهندس سراج، لو فاكر أنك تقدر تلوي دراعي، فتبقى بتحلم، علشان أنا ممكن اقطع دراعي دا خالص، ولعلمك أنا هنا بس علشان أنت اللي أتمسكت بموضوع شهر الأنذار، رغم أني شايفة أنه كان هيبقى عادي لو قبلت الأستقالة، وأخر كلام عندي ليك، أنك تبعد عني خالص، وياريت خلال الشهر دا، متخلنيش أشوف وشك، بدل ما أطلع على مُدير الشركة، وأقدم فيك شكوى، وعلى فكرة أنا مش هخاف من تهديدك ليا زي ما عملت مع اللي قبلي، لأ دا أنا ممكن أخليك واقف كدا وسط كل الناس، وأديك فوق دماغك ومش هيتهز لي شعرة، عارف ليه علشان أنا صاحبة حق، وصاحب الحق عمره ما بيخاف، إلا من اللي خلقه، تمام كدا، ودلوقتي أنا هروح أشوف اللي مطلوب مني، وصدقني لو لمحتك، بتعمل أي حركة من حركاتك السابقة، أنا هـــ.


أبتلعت أسراء كلماتها الآخيرة، حين توقف سفيان أمامها، فزفرت بحنق وهمهمت بغضب:

- كملت ما هي كانت ناقصة.


غادرتهم ولم تهتم بنظرات سراج المتوعدة، وغفلت كُليًا عن رؤية عينا سفيان التي قتم لونهما، وقسمات وجهه التي سودها الغضب، لم تُبالي بهما سويًا، فكامل تركيزها منصب، على تلك التي تركتها خلفها، تُعاني المرض بمفردها.

ارتبكت ملامح سراج، وحاول أن يلطف الأجواء أمام سفيان، ولكن نظرات الأخير بدت غامضة، لتتبدل بثوان فأصابت الحيرة سراج وكاد يسأله، ليأتيه صوت سفيان يقول:

- كنت محتاج لك فموضوع كدا يا أستاذ سراج، بخصوص حديقة الزهور، أصل الباشا بعت عايز يعمل شوية ديكور فيها، فلو مش هعطلك، ممكن تيجي معايا تشوفها.


أومأ سراج بزهو وتبع خطوات سفيان، بينما وقف تيسير يراقب الوضع، وحين أختفى سفيان وسراج عن عيناه، تساءل:

- يا ترى ناوي على أيه يا سفيان، ملامحك متبشرش بالخير أبدًا، وبعدين هو أزاي اللي اسمه سراج، ماشي وراه عادي، دا المفروض ينفد بجلده، يلا مش خسارة فيه اللي هيصيبه. 


-----------------------


ومن مكانها، أرسلت كريمة تقريرها الموجز إلى كيندا، أخبرتها بما يدور بالقصر، ووضعت هاتفها بجيب ثوبها، قبل أن ينتبه إليها أحد، وعادت تتابع عملها، فلمحت شجن تقف إلى جوار إحدى الفتيات، فاتجهت محوها، وهتفت بصوت مستنكر:

- ممكن أعرف أنتِ سايبة شغلك، وواقفة هنا ليه يا شجن، هو أنتِ مسمعتيش الكلام اللي قالة الأستاذ سفيان، أن كل واحد يلتزم بمكان شغله، طول ما الوفد موجود هنا، وأكد أن ممنوع الأختلاط، بين موظفين القصر وموظفين الشركة.


تلون وجه دنيا واعتذرت منهما لتغادر، فأوقفتها كريمة بحدة قائلة:

- على فكرة يا أنسة، دي مش أول مرة ألمحك سايبة شغلك، وواقفة تتكلمي مع اللي شغالين فالقصر هنا، ولعلمك أنا هقدم فيكِ شكوى، طالما مش شايفة شغلك مظبوط، وأنتِ يا شجن دي أخر مرة أنذرك فيها، لو شوفتك برا المطبخ تاني، أنا هبعت للمكتب، وأقولهم أننا استغنينا عن خدماتك، ولعلمك أنا مش هخبي عنهم الأسباب، وأنتِ طبعًا فاهمة أنا بتكلم عن أيه.


شحب وجه شجن، وهزت رأسها بتوسل، فرمقتها كريمة بسخط وقالت:

- أتفضلي على مكانك، وإياكِ اشوفك برا المطبخ تاني.

 

اسرعت شجن تهرول باتجاه المطبخ، ومن مكانه قطب تيسير جبهته، ولعن تلك المرأة المتجبرة، فهي لم تتوان عن زجر كل من تستشعر ضعفه، كمن يستلذ بألم غيره، زفر بقوة وهو يتطلع إلى ساعة يده، يتابع خطوات كريمة عن كثب، بعدما استطاع وضعها تحت مراقبته اللصيقة.


بينما اتسعت ابتسامة كريمة، تشعر بالرضى بعدما رأت، نظرات الأذعان بعينا شجن، وبخبرتها علمت أنها، لن ترفض لها أمرًا بعد الأن، وأنها باتت كالأخريات ينصعن لها دون أعتراض.


-------------------  


تركه يتأمل ما حوله، وحاول أن يتراجع عما يدور بخلده، ولكنه لم يستطع، فكلمات إسراء لازالت تتردد بأذنه، واضحة لا تحتاج لشرح، فهم منها ما يفعله سراج بالأخريات، مستغلًا وضعه ومركزه الوظيفي، وقف سراج ظاهره يتابع ما يتطلبه عمله، أما باطنه فهو كان يتوعدها، لرفضها إياه، زم شفتيه حنقًا منها، وبدأ برسم خطواته القادمة لينال منها، أمام ثلاثون يومًا سيستغلها كاملة، ليكسر أنفها ويذلها بالقدر الكافي الذي يجعل منها مثالًا لما يمكن أن يفعله بمن ترفض مرافقته، زفر مبتسمًا وغفل عن رؤية نظرات الغضب التي أعتلت وجه سفيان، حينها استدار سراج وقال:

- تحب أبدأ أحط تصور مبــــ...


لم يمهله سفيان الفرصة ليُكمل، فهو أعطاه الوقت الكافي ليتأمل ما حوله، وانقض عليه كالفهد، قبض على عنقه فبدا بين يداه كالذبيحة، وحاول سراج التحدث معه، فمنعه سفيان حين شدد من ضغطه على عنقه، وبعد نحو دقيقة دفعه سفيان أرضًا بقوة، ومال نحوه فتراجع سراج بخوف، قتمت عينا سفيان وأظلمت، هو يخبره بصوتٍ جليدي:

- استقالتك تكون متقدمة من امبارح، بيتك وتكون معزل منه ومسافر لأبعد مكان عني، علشان أنا لو لمحتك فأي مكان من قريب، أو من بعيد حولين أي موظفة فالشركة، صدقني ساعتها هعمل منك عبرة، لكل واحد يفكر أنه علشان له منصب فشركة محترمة، يقدر يتجبر على غيره، لعلمك أنا متابعك من فترة، وقولت يمكن الشكوى كيدية وأديلك فرصة، لكن بعد تصرفاتك البيئة اللي عملتها مع إسراء، أنت كدا جبت أخرك معايا، ومضيت على استمارة ستة، وخلي بالك لو فكرت بس أنك تقرب من إسراء، فأنا وقتها همضيك أستمارة ستة من الدنيا كلها، علشان إسراء دي تخصني، عارف تبقى لي أيه، خطيبتي اللي حظك الأسود، خلاك تقع فطريقي، وأسمعها وهي بتحذرك تقرب منها، وعلى فكرة أنا كدا كرمتك، علشان أنا لو بلغت الباشا، أظنك عارف هيتعامل معاك أزاي.


زحف بعيدًا عنه كالجرذ، عيناه تدور بمحجرها ذعرًا، وسريعًا ما استند ووقفت مهتزًا، وهتف بصوتٍ مضطرب:

- أنا أنا مكنتش أعرف أنها خطيبتك، صدقني يا أستاذ سفيان أنا.


تقدم منه سفيان بغضب، فأسرع سراج وهرول بعيدًا عنه، وهو يهتف بذعر:

- أنا خلاص قدمت أستقالتي من أسبوع، مش من أمبارح زي ما طلبت.


لمحته يهرول بوجه شاحب، فعقدت حاجبيها، وتساءلت كيف يتركهم دون أشراف؟ وهو يعلم طبيعة عملهم، زمت شفتيها واتجهت صوب سفيان، وتوقفت على بعد خطواتٍ منه، وحمحمت لتلفت نظره إليها، التفت إليها وحدق بوجهها للحظات، ليعبس من جديد، بهتت ملامحها للحظات، لتعود لحالتها الأولى بلا تعبير، وسألته بحيرة:

- لو سمحت يا أستاذ سفيان، كنت عايزة أعرف هو البشمهندس سراج مشى ليه، هو مش عارف أن الوفد على وصول وأنه مفروض.


ود لو يجذبها بعيدًا، ليعلمها ألا تلفظ اسم رجلٌا أخر، ولكنه مقيد؛ لولا ذاك الوفد، والمسئولية الملقاه على عاتقه، لكان أختطفها وعاقبها، لتساهلها مع سراج وغيره، نفذ صبره منها، فقاطعها قائلًا بحزم:

- سراج قدم استقالته، ومعدش له أي صفة، ولو على الأشراف فأنا موجود، وأي حاجة تخص الوفد هبلغك بيها، علشان تنسقيها مع زميلاتك، أه وحاجة أخيرة، ياريت لو هتباشري أي شغل، ميكونش له أي صلة بأفراد الوفد.


تجهم وجهها وسألته بحيرة:

- مش فاهمة حضرتك تقصد إيه.


رفع حاجبه بضيق وهتف يخبرها بحدة:

- كلامي واضح يا أنسة، شغلك يبقى بعيد عن أي راجل، مش محتاجة ذكاء، يعني تبعدي عن طريقهم، وشغلك بأكمله هيبقى مباشر معايا أنا، بمعنى أوضح أعتبري نفسك وسيط بين زمايلك وبيني، أظن كدا كلامي أتفهم.


شيئًا ما بصوته جعلها تومأ برأسها، وازدردت لعابها رغمًا عنها، علم من ملامحها أن حديثه لم يرق لها، ولكنه لا يهتم، عليها أن تتعود على الأنصات والتنفيذ دون أعتراض، أومأ لها هو الأخر وأضاف:

- بما أننا أتفقنا، يبقى تعالي معايا، علشان أراجع معاكِ شوية حاجات، قبل ما مستر بكر يوصل.


وقفت تحدق بظهره بدهشة، لا تصدق أنها وللمرة الأولى، تبتلع لسانها وتلزم الصمت، وبداخلها شيء يحثها على الأنصات إليه، وتعجبت كونها دومًا تتمرد ولا تنصاع، لذا عليها أن تخبره بأكثر طريقة عملية، منذ البداية أنها ستنصاع له فيما يخص العمل فقط، كي لا تسيطر عليه أفكار آخرى، كما سيطرت على سراج من قبله.


-------------------  


وقف يحدق بشاشة هاتفه، وعلى وجهه إمارات الريبة، لمحه ميسي فاقترب منه بحذر، وسأله بصوتٍ خافت:

- مالك وشك قلب مرة واحدة، كأنك شوفت حاجة، استغفر الله العظيم كدا.


رمقه مينا باستنكار، وأجابه بضيق:

- وأنت مالك بتكلمني وموطي صوتك، زي ما نكون بنسرق، وبعدين هو أنت مش هتبطل، العادة الزفت اللي فيك دي، يا أخي بطل تتسحب زي القطط كدا.


ابتعد ميسي عنه، وزم شفتيه وهتف بحنق:

- أنا مبقتش عارف أتصرف معاكم أزاي، لو مشيت وعملت صوت تقولوا خف، ولو اتسحبت تقولوا قط، عمومًا يا مينا، المرة الجاية هجيلك طاير، يعجبك كدا.


كاد يلكمه فأبعد ميسي وجهه سريعًا عن قبضته، ليأتي صوت خاطر الغاضب يقول:

- بدل ما أنتم قاعدين تهزروا وتضربوا بعض، قولولي عملتم إيه فموضوع ذكرى.


التفت ميسي وحدق بوجه مينا العابس، وغمزه مستفزًا إياه، وابتعد ليبدو للعيان رجلًا أخر، وأجاب بجدية وهو يمعن النظر إلى خاطر قائلًا:

- ذكرى مع داوود ففيلا العالمين، الحراسة هناك ثكنة عسكرية، بس متلمحش ضل واحد فيهم، تقدر تقول أنهم أشباح محاوطة المكان، موبايلها خارج نطاق الخدمة، وأشارة الطوارئ ملهاش أي أثر.


اتسعت عينا مينا، وهو يستمع إلى تقرير ميسي بدهشة، أعترف بمهارة ميسي في تقصي الخبر دومًا، ولكنه لا يعلم كيف يصل هو دونًا عن غيره إلى المعلومات!، انتبه مينا لصوت خاطر يقول:

- ولما سيادتك وصلت للمعلومات دي، مجتش بلغتني ليه يا صلاح.


لوى ميسي شفتيه، ما أن نداه خاطر باسمه، وزفر بضيق وأجابه:

- على فكرة يا عمي، أنا جيت لك الصبح المكتب، بس أنت مكنتش موجود، ولما عرفت أنك خرجت، سبت لك المعلومات فملف على مكتبك، وبعت لك رسالة مفصلة على الرقم المتأمن، بس أنت تقريبًا كنت مشغول فمشوارك، ومأخدتش بالك من الموبايل. 


تعمد ميسي أن يصوغ كلماته، بذاك القالب، ليصل إلى هدفه، وحين هم خاطر بلكمه، أبتعد ميسي عنه، وأحتمى بجسد مينا النحيل وقال:

- مالك بس يا أبو الخواطر، عايز تضربني ليه، يعني الحق عليا، أني بأمنك وسط الأشباح.


التقط مينا ما يدور حوله، فابتعد عن كلاهما وتطلع إليهم وقال:

- حلو الشغل العالي دا، يعني أنتو الاتنين، كنتم عارفين ذكرى فين من الأول، وبتلعبوا على بعض.


زفر مينا بضيق حين رماه خاطر بنظراتٍ حادة، وبدا وكأنه يخبره أنه تناسى من هم، فهز رأسه بحنق مما يفعلونه معه، وبتلقائية وضع هاتفه نصب عين خاطر وقال:

- على كدا أنت على علم بالرسالة اللي اتبعتت لي، أنهم محتاجين خبير شبكات بصرية وبرمجة، يستلم شغل مؤقت، فقصر داوود الطاغي.


ضيق خاطر عيناه، وسحب الهاتف من بين أصابع مينا، وقرأها عدة مرات ليغمغم بحيرة:

- أول مرة معرفش حل اللغز، طب لما هو كشف كل حاجة، عايز يرجعك أنت بالذات للقصر ليه.


أطرق خاطر برأسه يُفكر، وهز رأسه دليل يأسه، لعدم فهمه غرض داوود، وغادر وهو يقول:

- جهز نفسك يا مهندس مينا، علشان تروح تستلم شغلك فقصر الطاغي الصبح.


حينها وكز ميسي مينا وغمزه مازحًا وقال:

- مضيعش الفرصة بقى المرة دي، ما هو مش كل يوم، هتروح لهم بوشك الحلو دا يا بشمهندس.


-----------------------  


تمطت بتكاسل، وتأوهت لإحساسها بألم بكتفها، فتحت عينيها على مضض، لتنتبه لمكانها، فانتفضت واعتدلت بجلستها، ووضعت يدها فوق قلبها الذي خفق بسرعة، تسللت برأسها تبحث عنه بأرجاء المكتب، وزفرت بارتياح ما أن أدركت عدم وجوده، استندت إلى الأريكة ووقفت، وتمطت بألم بمحاولة بائسة منها، لفقك تقلص عنقها، لينهرها عقلها ويحذرها من استمرار بقاءها بمكتبه، فأسرعت نحو بابه وفتحته بحرص، تختلس النظر لكل مكان، خيفة رؤيته لها، هرولت بهلع لأعلى وولجت إلى غرفتها، تشعر بقلبها يرجف وبأنفاسها تكاد تتوقف ذعرًا، واستندت إلى باب غرفتها تلتقط أنفاسها المسلوبة منها.


ثوان فاصلة هي التي منعته من اكتشاف أمرها، فما أن اغلق باب غرفتها حتى غادر داوود غرفته وتوقف أمام بابها وطرقه بتروي، وبالداخل انتفضت ذكرى وكادت تطلق صرخة ذعر، ولكنها كممت شفتيها بكفيها، وابتعدت سريعًا عن الباب، وارتمت فوق الفراش، واختفت أسفل دثاره، وعينيها تترقب الباب، حاولت تمالك أنفاسها التي كادت تفضحها، وأغمضت عينيها ليظنها داوود نائمة، وعادت وفتحت عينيها وهي تهمس بسخط:

- غبية وهو هيعرف منين أنك نايمة، قومي يا ذكرى قومي وبطلي سذاجة، داوود لو كان عارف أنك فمكتبه، مكنش هيسمي عليكِ.


أوقفت همساتها، حين نادها من خلف الباب:

- ذكرى لو صحيتي أنا منتظرك تحت، ياريت متتأخريش علشان نفطر سوا.


تنفست الصعداء، ابتسمت لخوفها وحاولت دفع الدثار عنها، ولكنه كبلها فصرخت دون وعي، لا تدري كيف تهرب من حصار الدثار، وبالخارج استدار ليهبط، ولكنه تجمد ما أن وصلت إليه صرختها، استل سلاحه واندفع لغرفتها، يتوعد سبب صرختها بالموت، ليعلو صوت صراخ ذكرى، لرؤيتها داوود عابس الوجه، يدور بعيناه بحذر بأرجاء الغرفة، يبحث عن مقتحمها، وقبل أن تغادر حلقها صرختها التالية، كان داوود قد نزعها من فوق الفراش، وحماها بجسده، وقفت ترتجف خلفه، تحدق بظهره الصُّلْب، تتساءل كيف تمكن من تحريرها من أسر الدثار، ازدردت لعابها وربتت كتفه بأنامل مرتعشة، فاستدار إليها وحدق بها بلهفة، يبحث عن أثر أذى أصابها بخوف، تعجبت من فحصه الغريب لها، فابتعدت خطوة وهتفت بتلعثم:

- أنــ ـت قـ ـصدي أن أنا بخير، حضرتك الغطا شبك معايا وكعبلني، فــ فصرخت غصب عني، وو.


فغر فمه ولاحقها ببصره، يتهمها بالجنون، احمر وجهها وخفضت بصرها واعتذرت، زفر داوود بحنق وجذبها بقوة نحوه، فاحتبست أنفاس ذكرى، وعينيها تحدق بوجه، تاه تمامًا معها، خبراته السابقة بكل تعاملاته مع النساء تبخرت، لا يدر لما ارتجف قلبه، واضطربت نفسه، ارتعاشها ضعفها نظراتها إليه، أنفاسها المتقطعة، لامسه فهُزم، أقر بها بأعماقه، أن ذكرى عزب الوحيدة التي سقط بغرامها، لا يدر متى أو كيف، ولكنه على يقين أنها استحوذت على قلبه، بشخصيتها الغامضة تلك.


انتشلت كتفيها منه، وابتعدت وحمحمت بخجل، لتفر من نظراته، وسألته بما تبادر إلى ذهنها أولًا:

- هو أحنا مش هنفطر.


رمش لبضع مرات، وانفجر ضاحكًا وهز رأسه، لا يصدق ردة فعلها الغير متوقعة، فهتفت وهو يوليها ظهره:

- شخصية مش معقولة، ملكيش كتالوج فعلًا.


سارعت بخطواتها تتبعه، وغادرت الشرفة ووقفت تحدق بالطاولة، التي وضعت فوق الرمال، وفوقها انتشرت المظلات، لتحجبهم عن الشمس، أشار إليها لتنضم إليه، وجلست فوق المَقْعَد الذي جذبه لها، وجالت بعينيها فوق أنواع الطعام المختلفة، التي وضعت بحِرافية فوق الطاولة، رفعت عينيها ونظرت إليه، وقد تبدلت ملامحها كُليًا، وصعقته بقولها:

- اللي حضرتك عامله دا، يقع تحت مسمى، إفراط وإسراف وتبذير وشطط، علشان لا أنا ولا حضرتك، هنقدر ناكل كل الحاجات الموجودة دي، ولعلمك معظم الأكل دا مش هنلمسه حتى، بجد أنا مش فاهمة، أيه المتعة أن يبقى في كذا صنف، فوقت في ناس كتير، بتعاني أنها مش لاقية حق رغيف العيش، وعلى فكرة في اصناف موجودة، تمنها يعدي مرتبات ناس فاتحة بيوت.


وقفت مرة أخرى، وهزت رأسها بحزن وأردفت مضيفة:

- أنا لحد دلوقتي، مش عارفة أبطل تفكير، بالأسراف والغلو اللي شوفته فالحلفة، واللي كان مبالغ فيه بطريقة غريبة، حضرتك كلفت حفلة بمبلغ وهمي، مبلغ يحل أزمات لناس عفيفة النفس.


لزمت الصمت احتزاءً به، وخفضت عينيها حرجًا، همت بالانصراف، ولكنه أعترض طريقها، ومنعها من المغادرة بقوله:

- مش شايفة أنك لو مقعدتيش تاكلي معايا، هتبقي شريكة ليا فالإسراف اللي حصل.


تنفس بقوة وهو يرجوها بعينيه، لترافقه بالجلوس، واستجابت ذكرى، بعدما أيدت قوله، ولكنها لن تدع الأمر يمر هكذا، فباغته بقولها:

- أنا لو مكانك، أحسب تمن الأكل اللي على الترابيزة دي، وأخرج ضعفه صدقه لله، تكفيرًا عن التبذير دا.


بعد مضي ساعات، قضتها ذكرى تتمتع بالجو الهادئ، الشمس المحتجبة، والهواء الخفيف، وصوت الأمواج الباعث على النوم، جعلها تغرق في النوم، تعوض ما فاتها من نوم سابق، استيقظت وتمطت بتكاسل، وأدارت وجهها فوجدته ممدد فوق المَقْعَد المجاور لها، مررت نظراتها فوق ملامحه، لتُقر بأنه فاق حد الجاذبية بكثير، زفرت بضيق فـ أعجابها به خطأ عليها تجنبه، وتركت مكانها عادت غلى غرفتها، واغتسلت لتُنعش جسدها، وغادرت مرتدية عباءتها وأدت صلاتها، ما أن أنهتها حتى جلست تُفكر بخُطوتها المؤجلة، توبخ نفسها تارَة وتتعلل تارَة أخرى، بأن عليها تقبل انعزالها معه، والتغاضي عن قربهما الذي يُسئ إليها، لتُنجز ما عليها، ففرصة كتلك لن تحظى بها أبدًا مرة أخرى، وجودها معه بأحد أماكنه السرية، أمر مستحيل ولكنه حدث، لذا عليها أن تتغافل عن أي شيء أخر، حتى عن نظرته الخاصة بها، فليظن بها ما يشاء، لن تهتم كونها في النهاية، ستحظى بما سعت إليه.


-------------------  


بغرفتهم الخاصة التي اعتادوا التجمع بها، جلسوا يترقبون مبادرة خاطر بالحديث، فعليهم جميعًا فهم ما حدث، ولما لزم الصمت عن وجود ذكرى بمنزل داوود، وهو الذي لم يطق ابتعادها عنه للحظة واحدة، ومن مكانها كانت ترمق خاطر بنظرات غاضبة، وبداخلها ملايين التساؤلات، لا تصدق أن يصل الأمر بخاطر إلى ذاك الحد، اكتفت سمرا من الصمت، فعليها أن تعلم، هل حقًا فعلها خاطر؟ أم لا؟!

زفرت بضيق وهبت عن مكانها، فتعلقت بها الأبصار، وفشل ميسي بمحاولته لمنعها، ولكن سمرا أهملت تحذيره الخفي، وأشاحت برأسها عن هزة رأس مينا بالنهي، ووجهت عينيها نحو خاطر، وسألته بكلمات لونتها بشكوكها:

- معلش يعني لو كلامي هيضايق حضرتك، بس أنا مش فاهمة لحد دلوقتي، أنت ليه سبت ذكرى مع داوود، وأنت عارف تاريخه كله، وعارف أن مافيش واحدة بيسيبها تفلت من تحت إيده، أنا أسفة أني بدخل، بس يعني دي أول مرة حضرتك، تغمض عينك عن حاجة زي كدا، وبعدين دي مش أي حاجة، ولا أي حد، دي ذكرى اللي ياما اتخانقت معاها، لما كانت بتتأخر برا، فأزاي قاعد هادي، زي ما تكون ولا على بالك حاجة، وكأن ذكرى قاعدة فالأوضة اللي جنبنا، مش قاعدة فبيت واحد مع داوود، بصراحة أمرك غريب، أنا من وقت ما عرفت، وأنا حاسة بغضب جوايا، وبسأل نفسي ليه ذكرى قاعدة وراضية، وليه عمو خاطر ساكت.


وضع ميسي يده فوق رأسه، فحتما لن ينل حديثها استحسان خاطر، وكزة مينا فالتفت إليه ونهره بصمت، فأشار مينا نحو خاطر الذي لزم الصمت، فحدق به بحيرة هو الأخر، وازدادت دهشته لعدم أجابته تساؤل سمرا، ترقبوا صمته، صمته الذي طال لدقائق، قطعها بوقوفه وغمغمته بقوله:

- الأجابة اللي عندي مش هترضيكم، علشان كدا أنا مش عايز اسمع أي كلام فالموضوع دا تاني، ودلوقتي كل واحد فيكم يقوم يشوف اللي وراه.


غادر خاطر بملامح غامضة جامدة، وخلف وراءه وجوه سكنتها الصدمة، وسؤال بلا أجابة، وضع العديد من التصورات والتخيلات بداخل كلًا منهم، لتبتسم سمرا بطريقة ساخرة قبل مغادرتها، ووقفت أمام الباب وقالت لتصفعهم بقسوة:

- عمومًا أحب أقولكم أن عمو خاطر، عكس الأتفاق اللي كان بينا وبين المؤسسة البلجيكية، واتفق مع الطاغي، أنه يغمض عينه عن اقتحمنا لقصرة وتجسسنا عليه، نظير تمن، هسيبكم تعرفوا لوحدكم، التمن دا كان أيه.

------------------------------- 

لعنة_الطاغي

منى_أحمد_حافظ

يتبع

تعليقات

التنقل السريع
    close