القائمة الرئيسية

الصفحات

منك واليك اهتديت الفصل الثالث والرابع والخامس بقلم زيزي محمد كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات


 منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 
بقلم زيزي محمد
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

بعد مرور يومين...


توقفت "فرح" قبل أن تدخل لـغرفة "ماجد" لدقائق حاولت فيهم تنظيم وتيرة أنفاسها المتسارعة من فرط حالتها المضطربة، حيث شعرت وكأنها تقف على أعتاب طريق وعر لا تجيد العودة وتخشى التقدم خطوة للأمام، ولكن أيًا يكن مقدار المعاناة النفسية التي ستشعر بها بعد أن تُقدم ما حصلت عليه لـ "ماجد" سيكون أهون من فضيحة  تلاحق شرفها وخاصةً مع اقتراب موعد زفافها.


أخرجت "هاتفها" من جيب سروالها ودققت النظر به، تمرر بأصابعها صور "مليكة" الخاصة والتي استطاعت الحصول عليها في سرية تامة.

للحظة انتابها الندم لِمَ ستفعله ولكنها تراجعت وفكرت بأنانية، لذا فعلت وضعية التسجيل ووضعت الهاتف بجيب سروالها مرة أخرى ودخلت للغرفة في ثبات تام.

                                 **

رفع "ماجد" أنظاره بعيدًا عن الأوراق التي كان يطالعها بتركيز، وما أن رأى "فرح" تدخل للغرفة بهدوء، تجهمت ملامحه ونهض واقفًا في غيظ:


-لسه بدري يا دكتورة.


رمشت بأهدابها للحظات وقد داهمها القلق من رد فعله الهجومي، فقالت بصوت حاولت إخراجه طبيعي بقدر الإمكان:


-لما طلبتني جيت على طول.


رفع أحد حاجبيه من نبرتها الباردة، فدق بأصابعه فوق مكتبه عدة مرات قبل أن يعود قائلاً بنبرة تحمل بين طياتها التهديد:


-منفذتيش اتفاقنا ليه يا فرح؟


هزت رأسها بإيجاب وتحركت للأمام خطوتين في ثقة، بينما رفعت أصابعها تشير لرقم اثنين وابتسامة نصر تحلق فوق شفتيها:


-نفذته من يومين.


لمع وميض الشر بعينيه وثبت بصره عليها يطالعها من أعلاها لأسفلها في استهزاء:


-ومجتيش اديتيني الصور ليه زي ما أنا طلبت منك يا حلوة.


-هنغير تغير بسيط في الاتفاق قبل ما تاخد الصور.


قالتها في هدوء بينما كان الضجيج يغزو عقله، فهتف ساخرًا:


-اتفاق! اتفاق إيه، أنا طلبت منك حاجة ونفذتيها مفيش اتفاقات ما بينا.


جزت فوق أسنانها قبل أن تجيب بنبرة حاسمة:


-لا فيه، هتاخد الصور بمقابل.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

عقد ذراعيه أمامه مستنكرًا قولها، ولكنه أشار إليها في استكمال حديثها، فاندفعت تتفوه بما تريده بكل جرأة:


-من بعد ما تاخد الصور متحاولش تقرب مني تاني أبدًا، وكمان تحولني أكون تحت إشراف دكتور تاني.


اقترب منها يختصر المسافة بينهما بغرور، تراجعت بخوف من لمساته التي باتت تتجرأ  بوقاحة فوق منحنيات جسدها، فهمست بصوت خافت ترجوه ألا يستكمل ما يفعله:


-أرجوك سيبني بقى في حالي أنا تعبت.


همس أمام وجهها والحقد يتقاذف من عينيه:


-تعبتي مني أنا، ما أنتي كنتي بتسكتي والموضوع كان عاجبك.


صرخت بصوت مكتوم خوفًا ألا يسمعها أحد خارج الغرفة:


-عمره ما كان عاجبني، كنت بسكت غصب عني، ارحمني وابعد عني.


تراجع خطوة للخلف ومد يده صفعها عدة صفعات خفيفة فوق وجنتها كنوع من التحذير والتهديد:


-حاسبي على كلامك معايا عشان متزعليش، وبعد كده اوعي تفكري تساوميني.


احتدت نظراتها وقد رأى العناد يطغى على ملامحها، فتراجع سريعًا يقول بلامبالاة:


-أنا اللي زهقت منك ومبقتش عايزك خلاص، عشان كده موافق على كلامك.


أغمضت عينيها في راحة لم تكن كاملة، بسبب صوته الذي اخترق كيانها وبث الرعب بقلبها:


-اخلصي هاتي الصور، ويا ويلك متكنش زي ما أنا عايز.


أخرجت هاتفها بحذر وبدأت في إرسال الصور عبر تطبيق" الواتساب" وحينما تفحصهم بكل تركيز ورأت لمعة السعادة الممزوجة بالشر تضيء عدستيه، أدركت أن "مليكة" ستكون ضحيته التالية.


أبعد "ماجد" بصره عن الصور بصعوبة وأرسل لها قبلة في الهواء متمتمًا بنبرة قاسية:


-بالسلامة أنتي يا فرح.


خرجت "فرح" فورًا من غرفته وبدأت دموعها تنهمر بغزارة وضميرها يطرق أبواقه العالية في بدأ تعذيبها عما فعلته، فاتجهت نحو إحدى الغرفة تسمح لنفسها بالانهيار بعيدًا عن مرمى بصر بعض الاطباء والممرضات.


لم تلاحظ دخول "مليكة" خلفها محاولة تهدئتها بشتى الطرق، ومع كل كلمة كانت تتفوه بها "مليكة" كانت تزيد الوضع سوءًا لديها، ورغم بساطة كلماتها ورقة صوتها إلا أنه كان كالوقود المسكوب فوق نيرانها المستعرة.


-خلاص يا فرح، مالك بس عمل فيكي الزفت ده.


حاولت اختلاق كذبة تخرجها من تلك الورطة ولكنها فشلت وخرجت كلماتها مبعثرة لم تفهم منها "مليكة" أي شيء:


-أنا...مبقت..مش عارفة..


-يا حبيبتي طيب اهدي، أروح اتخانق معاه الكلب ده على اللي عمله فيكي.


كانت تتحدث باندفاع وحماس وكأنها هي من تعرضت للأذى، فصاح ضمير "فرح" بصراخ عما فعلته بإنسانة تريد الدفاع عنها وفي المقابل هي كانت تسعى لأذيتها.


-طيب اهدي خالص هروح اجبلك ميه.


نهضت "مليكة" وتوجهت للخارج، تحت أنظار" فرح" المصعوقة من طيبتها، وبالمقابل تعاملت هي بكل وقاحة وأنانية، فاندفعت خلفها في لحظة حماسية كانت ستعترف بها بكل شيء وقبل أن تحرك مقبض الباب استمعت لصوت "مليكة" مع "كوثر":

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-سيبك منها يا ست البنات عصير إيه ده اللي اجيبه ليها، هي اللي رضيت بالمعاملة دي من الأول يبقى تشرب.


دافعت "مليكة" بقوة:


-لا يا كوثر متقوليش كده، فرح إنسانة محترمة و...


قاطعتها "كوثر" بسخرية:


-والله ما حد محترم إلا أنتي، ربنا يحفظك ويصونك يا حبيبتي، معلش أنا مش هتعاطف معاها أبدًا.


-ليه بس يا كوثر هزعل منك متتكلميش عليها كده.

زمت كوثر شفتيها وقالت بضيق:


-أحنا الممرضات بنشوف اللي محدش فيكوا انتوا الدكاترة بتشوفوه، وأنا كنت بشوفها بتهزر معاه وبيمسك إيدها، وحاجات تانية ربنا يستر على ولايانا.


للحظة سيطر الصمت على "مليكة" غير مصدقة حديث "كوثر" وبالأخص أن ميعاد زواجها اقترب فكيف لها أن تخون خطيبها وتسمح لنفسها بخوض أمور محرمة كهذه، انتشلتها من عمق تفكيرها حينما تابعت الأخرى حديثها:


-بلاش تتعاطفي معاها، وأحسنلك ابعدي عنها خالص.


بالداخل تيبست يد "فرح" فوق المقبض بكل عصبية وغضب وللحظات كانت ستخرج وتوبخ بها "كوثر" ولكنها تراجعت خوفًا من الفضيحة، والتزمت الصمت واستكمال نفس الطريق الذي خططت له لإبعاد تلك الشبهات عنها، فبالتأكيد ستكون "مليكة" هي حديث المشفى الفترة المقبلة بما سيفعله بها "ماجد" ولن تتعامل بعد الآن كالملكة المصون بل ستلوث بوحل لمسات "ماجد" مثلهن جميعًا.

                                    ***

تابعت "نهى" البخار المتصاعد من كوب القهوة الساخن الموضوع بين كفيها في حين كانت تستمع لأغاني رومانسية في أجواء هادئة لطيفة تبعث السكينة بقلبها، ابتسمت بدلال وهي تغلق عيناها تردد بعض المقاطع الواصفة لحالتها مع زيدان ومدى حبها له، كالعادة لم يتركها عقلها وعزز من حالة الحب المسيطرة عليها ببعض الصور لـزيدان التي حفظتها عن ظهر قلب.


لم تستمر تلك الأجواء كثيرًا، حيث ظهرت والدتها من العدم، بصوتها الغاضب من هيام ابنتها المفرط، فقامت بإغلاق التلفاز واندفعت بكلماتها الحادة توبخ بها نهى المفزوعة من غضبها غير المبرر:


-يا اختي فوقي حرام عليكي الوهم اللي أنتي فيه ده.


تركت "نهى" الكوب وهتفت بتوتر ظهر جليًا بنبرة صوتها:

-وهم إيه يا ماما؟


حركت "ميرفت" ثغرها يمينًا ويسارًا وبدأت في تلويح يدها بغيظ شديد:


-الأغاني اللي بتسمعيها يا اختي دي وهم.


زفرت" نهى" بحنق طفيف ولم تبدي أي اعتراض لوالدتها التي تحفز جسدها وكأنها على وشك العراك معها، فقررت الصمت تمامًا معها، على أملٍ أن تتركها كعادتها بعد كل وصلة توبيخ تصفها بها بالهائمة، الحمقاء، الخرقاء.


كانت في بادئ الأمر تشعر بالحزن الشديد لنعتها بمثل تلك الألقاب، إلا أنها الآن وتحديدًا بعد خطبتها من زيدان، شعرت بلامبالاة تجاه والدتها، حتى أن أي تصرف سيء يخرج من والدتها يُمحى في ذات اللحظة.


ولكن المفاجأة أن والدتها لم تتحرك ساكنًا بل ظلت واقفة، تتخصر رافعة أحد حاجبيها في تحدِ، فنهضت "نهى" وهي تنظر لها باستفهام صامت، ولم تدم نظراتها طويلاً حتى أجابت "ميرفت" بصوت غليظ مشحون بالغضب:


-كلمتي زيدان في قضية أبوكي وأخوكي.


زمت شفتيها بضيق وردت بنفي كانت على علم بإثارة الغضب أكثر لدى والدتها:


-لا..ومش هكلمه يا ماما.


جزت "ميرفت" فوق شفتيها وسألتها بنبرة حادة:


-وليه يا حبيبتي مش هتكلميه.


-زيدان هيرفض، وبعدين ممكن كلامي معاه يأثر على علاقتنا.


انفجرت "ميرڤت" ضاحكة، والسخرية لوحت لـ "نهى" من ملامحها القاسية، فلم تصمت عند هذا الحد بل اندفعت تلكزها بيدها في ذراعها بقسوة:


-خايفة يا بت يسيبك، مش قادرة تتكلمي معاه يا خايبة، بس أنا اللي غلطانة، بكلم مين واحدة معدومة الشخصية.


وضعت" نهى" يدها فوق ذراعها الأخر بألم، تحاول السيطرة على نفسها المنكسرة من البكاء، حيث شعرت مؤخرًا أن والدتها تسعد لإذلالها.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-خليكي ساكتة، بس أنا اللي هتصرف.


دفعتها والدتها بعنف، فوقعت فوق الأريكة خلفها، باكية، متخوفة من إفساد خطبتها بسبب تصرفات والدتها السيئة.

                                ***

خرج "زيدان" من الغرفة وهو يحمل هاتفه متذمرًا على المتصل، منتظرًا خروج شخص أخر من الغرفة، وحينما صدح صوته خلفه، التفت زيدان يأمره بصوت قوي:


-قفل المحضر وتعال ورايا وجيب معاك أبوه وعمه.


هز الضابط المسئول رأسه في صمت وعاد مرة أخرى للغرفة يستجوب المريض، بينما تحرك زيدان في الردهة خطوتين للأمام مستندًا على باب إحدى الغرف، وهو ينظر للهاتف المضيء أمامه باسم عمته وقد أعطاه الهاتف إشارة حول اتصال عمته ما يقرب للعشرين مرة، رفع حاجبه الأيسر بتحدٍ من إصرارها في الوصول إليه رغم رفضه للعديد من الاتصالات ولكنها لم تأبى وقد أعلنت ذلك بكثرة اتصالاتها فقرر أخيرًا الرد بنبرة حادة:


-في إيه، دي كلها اتصالات.


-وأنت لسه فاكر ترد.


قالتها بحنق شديد، فرد عليها ببرود قاصدًا إغاظتها:


-اه، وبعد كده لو مردتش متتصليش تاني.


-لا هتصل تاني وتالت، عملت إيه في موضوع عمك إبراهيم وسمير.


خرجت حروفها المندفعة بعناد متأصل بنبرتها، فرد عليها بضيق:


-معملتش ومش هعمل، حاجة متخصنيش.


شهقت باستنكار:


-وده إزاي، مش أخوك هو السبب في القضية دي.


-السبب إزاي يعني، هو اللي قالهم روحوا اشتروا دهب مسروق!


أجابت بتبجح ووقاحة:


-لا بس هو اللي بلغ عليهم.


-يشربوا، عشان يمشوا شمال تاني.


انفلت لجام هدوئه، فتابع حديثه بتهديد لاذع:


-متفتحيش معايا الموضوع ده تاني، وإلا....


قاطعته بصوت هادئ ينافي ذلك القوي الغليظ الذي كانت تلوح به بكل ثقة:


-وإلا إيه يا حبيب قلبي، هتكسر بقلب البت اللي حيلتي.

تمتم بصوت خافت لم يصل إليها:


-يارب يتكسر قلبك أنتي يا شيخة.


حمحم بعدها بقوة وقال بنفاذ صبر:


-أنا هقفل ورايا شغل، واللي قولتيه ميتكررش.

                                   ***

تحركت" مليكة" في ردهة المشفى بخطوات بطيئة، وهي تتحدث بالهاتف مع والدها السيد" مصطفى":


-حاضر يا بابا مش هتأخر، دعواتك يا حبيبي.


استمعت لصوته المردد ببعض الأدعية فابتسمت برضا وهي تكمل سيرها للأمام وعندما وصلت  للغرفة المنشودة توقفت على بعد خطوات بسيطة تغلق هاتفها وتضعه في جيب ثوبها الطبي، ومن بعدها استعادت شخصية الطبيبة الوقورة وعند هذا الحد كادت تنفجر ضاحكة على نفسها وعلى حماقتها التي تسيطر عليها حين تضطر للتعامل مع الغرباء في مواقف محرجة كهذه مثلاً:


-لو سمحت ممكن أعدي وأدخل الاوضة.


انتظرت ثوان كي يتحرك ولكنه يبدو أنه كان منشغلاً في أمر ما يجعله شاردًا لهذا الحد، فقررت أن تكرر جملتها بنبرة مرتفعة ولكنها باءت بالفشل، فاضطرت أن تستخدم القلم الخاص بها فوق كتف الشارد عله يستفق، وبالفعل التفت سريعًا بوجهه الجامد الخالي من أي مشاعر، وبطوله الفارع وعضلات جسده المتناسقة تمامًا مع طوله، أما عن ملامحه يا ليتها لم تراها، حتى أنها تمنت أن تنشق الأرض تبتلعها بعدما رأت من أرق العقل بالتفكير وعذب القلب بغيابه الطويل، وجمد المشاعر من أخر لقاء قيل فيه كلمة الوداع، ولكن لِمَ الآن تتحرك مشاعرها من معقلها وتذوب قطع الجليد في ظل انصهار عينيه بالسعادة وكأنه حصل أخيرًا على ترياق الحياة بعد رحلة طويلة وشاقة في غابة مظلمة.

 عاندتها ساقيها، حتى وجهها تخلى عن أوامرها ورسم بسمة صغيرة فوق محياها عبرت عن مدى اضطرابها في وجوده المفاجئ، آه كم اشتاقت لملامحه الجامدة ولصوته الناقم دومًا، اشتاقت لأبسط عيوبه قبل مميزاته، اشتاقت لمزاح تافه كان يدخلها في نوبة ضحك لساعات معه، تتوقت للحظات لم ولن تتكرر بعدما اتخذا كلاً منهما قراره في الابتعاد.

                                        ***

أخيرًا قررت الحياة مكافأته بعد أيام تعسه قضاها متعذبًا في غيابها،  ست سنوات غابت عن عينيه لم يراها ولو مرة واحدة، اختارت من البعاد طريقًا مريحًا لهما، أو لها بالأخص وتركته يصارع عناده وكبريائه وحده، لم تشفق عليه في مرة وتظهر أمامه يخطف منها نظرة أو بسمة تثلج صدره الملتاع بعد أخر لقاء بينهما، حتى منامه غابت عنه وكأنها تريد معاقبته! 

ولكن أي عقاب هذا وأنا لم اقترف أي خطأ في حقك، بل أنتِ من كنتي السبب في الهجر يا حبيبة استوطنت القلب كمحتل لعين رافضًا التخلي عنه حتى بعد تدميره!


لم يستطع السيطرة على مشاعره المتأججة وظهرت ابتسامته كوضوح الشمس، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة في أي وقت لذا عند رؤيتها قابلها بكل مشاعر صافية، عكسها هي تحركت من أمامه كالسراب، واختفت بين الأشخاص المتحركين في الردهة، فرك عينيه وقد ظن أنه وهم واختفى، تحرك سريعًا يبعد الأشخاص عنه طريقه حتى أخيرًا رآها تقف مع إحدى الطبيبات تتحدث معها، هنا شعر بحقيقة وجودها، فابتسم أكثر كالأحمق وهو يجلس على أحد المقاعد يتابعها في صمت وهي تباشر عملها، يدقق بأصغر تفصيلية بها، ما الجديد الذي طرق عليها؟ سوى أنها أصبحت أكثر أنوثة وجمالاً ورقة داعبت قلبه في حنين لذكريات ماضية تمسك بها رافضًا دفنها في بئر النسيان كمعظم ذكرياته.

فمرت ذكرى لقائهما الأول في ومضة سريعة جذبته لأفضل أيام حياته...

                      ***

هبطت"مليكة" من سيارة الأجرة وهي تحمل كتب كثيرة وكبيرة بين كفيها، إلى جانب حملها لحقيبة فوق ظهرها، فبدت وكأنها تحمل ثقلاً لا يناسب حجمها ووزنها.

تحركت بخطوات ثابتة رغم الهواء المشتد من حولها، فصارعته وهي تتجاهل نظرات أفراد الأمن لها، حيث تمركز العساكر بطول سور الجامعة، بينما بجانب البوابة الكبيرة يجلس دومًا ضابط وسيم كلما يراها يرسل لها بسمة صغيرة تربكها، حتى عند مرورها بالحاجز الأمني يركز ببصره عليها فيصيبها بالتوتر الشديد وأحيانًا تصبح كالخرقاء أمامه.

اشتد الهواء ورفع تنورتها الواسعة قليلاً، فهبطت بجذعها العلوي تعدل من وضعية تنورتها للأسفل، والحرج يكسو ملامحها، فتلونت وجنتيها بحمرة طفيفة وهي تخرج كلماتها الحانقة:

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-ما تتعدلي بقى، ده أنتي جيبة كلبة بصحيح.


أخيرًا اعتدلت التنورة، فرفعت نفسها للأعلى بسرعة كبيرة كادت تفقد بها توازنها بسبب رؤيته أمامها مباشرةً، واقف كالجبل شامخ الرأس، يطالعها بصمت وملامح وجهه جامدة، يمرر بصره فوق ملامحها بحرية، مما جعلها تهمس بصوت قلق:


-في إيه؟


استمرت نظراته لها وشعرت وكأنه يستكشف أمرًا ما من خلال ملامحها، ولوهلة شكت أنها مجرمة وقد أمسك بها في الجرم المشهود، فهمست مجددًا:


-نعم؟


-بطاقتك.


كلمة واحدة خرجت من فمه بجدية صارمة، فأشارت نحو نفسها بتوتر جلي:


-بطاقتي أنا.


هز رأسه في صمت وتركها تلفتت حول نفسها، حتى عادت تنظر له في صمت، ومن بعدها أشارت بالكتب نحوه، فخصها بتساؤل ممزوج بالتعجب:


-نعم أعمل إيه؟!


أجابت بخجل:


-شيلهم عشان أطلع البطاقة.


تناول منها الكتب بعد ثوان من التحديق بها، والدهشة تغزو عينيه من بساطتها معه، أخرجت بطاقتها أخيرًا بعد عناء مع حقيبتها الكبيرة، ومدت يدها له، فالتقطها ينظر بها في صمت مريب، تركت حينها لعينيها حرية التجول فوق ملامحه لمراقبة ردود أفعاله علها تستشف أمر طلبه هذا، فشلت في إيجاد إجابة تريح بها عقلها المضطرب، فسألته  بنبرة متلعثمة خفيفة:


-في حاجة حضرتك؟


-إجراءات أمنية.


أجابها ببساطة، فاستدارت يمينًا ويسارًا تتابع دخول زملائها بكل يسر عدا هي تقف أمامه كالمذنبة:


-إجراءات أمنية عليا أنا بس؟


رمقها بنظرة خبيثة ساءت من حالتها المضطربة ورد بنبرة ذات مغزى:


-عشان أكيد أنتي حد مش عادي.


-نعم، مفهمتش!


ضيق عينيه وهو يتجاهل حديثها، مردفًا بنبرة لاذعة:


-مشكوك في أمرك.


فسر لها ببساطة جعلت من وتيرة الخوف لديها تتسارع، فسألته بصوت متهدج:


-مشكوك في أمري ليه؟


-من امتى الشعب بيسأل الشرطة عادي كده.


رفعت أنفها وردت بثقة:


-هي الشرطة مش في خدمة الشعب بردو.


ابتسم ساخرًا وهو يقول:


-شكلك بتتفرجي على أفلام كتير.


أجابت بثقة وحدة من سخريته:


-حضرتك أنا الوحيدة اللي واقفه بتشوف بطاقتها.


-انت شكلك متوترة، اوعي تكوني...


ضيق عينيه وهو ينظر داخل عينيها فارتبكت وهي تردف:


-لا لغاية واوعي تكوني وتقف، أنا طالبة جامعية لا بيا ولا عليا..

بترت حديثها وهي تمد يدها نحوه في جدية، نظر لها لثوان بسيطة ومن بعدها مد يده هو الأخر وصافحها ببسمة واسعة، سحقت الدهشة من خلالها ملامحها واحمرت وجنتيها لملمس كفه القابض فوق كفها بقوة وكأن الفرصة أتت على طبق من ذهب، حاولت سحب يدها ولكنه أبى وتمسك بها أكثر، فقالت بنبرة يخالطها الخجل:


-انت بتعمل إيه؟


-بسلم عليكي.


قالها ببراءة زائفة زحفت لعدستيه المضيئة بلمعة غامضة، فهتفت باستنكار:


-هو أنت ابن خالتي وراجع من الحج، ايدي لو سمحت.


ترك يدها على مضض وحمحم بصوت عالي، عادت  كالبلهاء تضع يدها أمامه، مما جعله يضحك بخفة:

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-هنسلم تاني.


وقبل أن يمد يده أبعدت يدها وأردفت بغيظ:


-عايزة البطاقة حضرتك.


-بطاقة إيه؟


خرجت حروفه في ذهول مصطنع، فردت بضيق:


-بطاقتي حضرتك اللي بين ايديك دي.


صاح متذكرًا وهو يشير بها أمامه في ذات الوقت مبتسمًا:


-اه بطاقتك.


وقبل أن يكمل حديثه، سألها بعبوس استطاع رسمه ببراعة فوق وجهه: 


- استني يعني ده كله مكنتيش بتسلمي عليا.


-لا خالص تصور، كنت عايزة البطاقة.


استنكرت حديثه بنبرتها المتعجبة الحانقة، وراقبته وهو يضع بطاقتها في جيب سرواله بكل استفزاز، ملوحًا لها بيده الأخرى:


-بكرة ابقي خديها لما أكشف عليكي الأول.


-بس أنا مش تعبانة؟


سيطر المزاح الساخر على كلماتها، فنهرها بصوت قوي ثقيل:


-أحنا هنهزر ولا إيه، يلا يا أنسة على محاضراتك.


تركها وعاد لموقعه مرة أخرى وسط زملائه محاولاً كتم ابتسامته وسعادته بالحديث معها، أما هي ظلت واقفة مكانها كالحمقاء تتعجب من موقفه، واستحواذه على بطاقتها بكل سهولة.

                                   *** 

عاد من شروده على صوت رجولي قطع عليه أفضل ذكرياته والذي إن استمر في تكرار استرجاعها لن يصيبه الملل إطلاقًا:


-يلا يا زيدان باشا على القسم.


رمقه "زيدان" بنصف عين وتحرك خلفه بصعوبة حيث رفضت ساقيه التحرك، وتمنى في الاستمرار مكانه يراقبها ليعوض قلبه عن أعوام مضت حاوطه الجفاء بسبب ابتعادهما مما جعله متعطشًا كمحارب ضل طريقه في صحراء جدباء.

وقبل أن يخرج نهائيًا من المشفى عاد مرة أخرى بعد أن ترك زميله وتحجج بإنهاء بعض الأمور، مقررًا العودة لها والتحدث معها، ربما كان خطئًا منذ البداية بتركها، بحث عنها بلهفة شقت قلبه لرؤيتها مرة أخرى وحين وجدها تقف بجانب نافذة ما تراقب شيء، اختصر المسافة بينهما بسرعة وعندما اقترب استعاد شخصيته الحازمة وتوقف خلفها يناديها بصوت حاول أن يكون ثابتًا ورغم عنه خالطت نبرته رجفة قوية عندما نطق لسانه مرة أخرى أسمها بعد غياب طال لست سنوات:


-مليكة.


راقب أصابع يدها وهي تقبض فوق حديد النافذة وكأنها تجاهد مقابلته، يبدو أن مشاعرهما متبادلة ولا زال الحب مرتبط بأوتار قلبيهما، وبعد فترة من الصمت التفتت ببطء تنظر له بعيون صرخت بالحنين.


-عاملة إيه؟


أخيرًا قررت الأفراج عن صوتها الأسير بين حلقها وخرجت نبرتها مهتزة ضعيفة:


-الحمد لله بخير.


توقف الزمن من حولهما بعدما استمع لصوتها الذي جذبه لذكريات دافئة أيقظت مشاعر الحب والغرام بصدره وذلك بعد هجره، لم يبعد بصره بل ثبته عليها يحاول استكشاف هل جديد طرق عليها في غيابه، هل يوجد حلقة تتوسط إصبعها؟، لِمَ تخفيه بين كفها، هل تريد عذابه أكثر، ألم يكفي ما مر به بعد فراقهما؟ وللعجيب أن لسانه لم يتجرأ في التحدث معها، يخشى أن يتفوه بكلمة تدمر لحظتهما رغم الارتباك المسيطر عليهما.

انسلت من أمامه في لمح البصر، فرفع صوته يسألها والحزن يتوغل صوته:


-ماشيه ليه؟


لم تلتفت، ردت دون أن تنظر له وهذا أكثر ما أوجعه:


-ورايا شغل عن أذنك.


لقد اشتكت عيناه من مراقبتها السريعة، ورفع قلبه صياحه عاليًا يتمنى بقائها، لِمَ تزيد من أوجاعه، وتضغط فوق ندباته رغم مرور كل هذا الزمن. 

                                      ***

بعيدًا عن مصر وتحديدًا في الولايات المتحدة الامريكية، خرج سليم من المطبخ الصغير يحمل أكواب العصير متجهًا إلى صالة صغيرة تجلس بها شمس وطفله أنس، وقد قرر المكوث في شقة صغيرة لمدة ثلاثة أشهر على الأقل حتى يطمئن على "شمس" وإنجاب طفلهما في سلامة، فلن يترك نفسه للأحاديث القلقة وخاصة بعدما جرب معها قبل ذلك فقدان جنينهما في الشهر الخامس، ومر حينها بحالة نفسية حزينة، قضى الحزن بها على سعادتهما، والسبب في ذلك حالة شمس المرضية والتي تفاجأ بها بعد وفاة الجنين في بطنها، لن ينسى قط مشاعرها الحزينة وعيناها الباكية الرافضة للتخلي عن طفليهما، حيث لم تصدق الاطباء وقد شعرت بالخزي من نفسها حين قررت التمسك بالعناد والعمل بالمحل والمنزل معًا وكان ذلك إجهادًا كبيرًا عليها رغم تحذيرات الاطباء وزوجها.

حارب "سليم" معها الأيام وبث السعادة لقلبها بشتى الطرق، ولكنها كانت دومًا تشعر بالندم، فقررت أن تكافئه بطفل أخر رغم تحذيرات الاطباء، وقد سعت لذلك كثيرًا، حتى أتمت مرادها بعد خمسة أشهر فقط من فقدانها لجنينها في رحمها، وها هي الآن في الشهر الثامن تنتظر قدوم طفلتهما على أحر من الجمر، على عكس "سليم" الذي كان يعيش قلقًا جعله غير قادر على التركيز مع أي شيء سواها.

بعد جلوسه بجانبها، مد لها كوب العصير في صمت، فأخذته منه وقبلت كفه في حب وامتنان على كل لحظة أثبت بها مقدار حبه لها.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-تسلم إيدك.


ربت فوق يدها بحنو وخصها بنظرة حنونه، قبل أن تتجه عيناه على أنس الغارق في حاسوبه لمدة ساعة كاملة، يلعب بها بعد أن سمح له "سليم" بذلك.


-أنا شايفة أن الساعة عدت يا سليم.


عقد "سليم" ما بين حاجبيه متسائلاً بذهول زائف:


-بجد، امال أنا حاسس ليه عدى نص ساعة بس.


زمت شفتيها بضيق وهتفت بإصرار على اتفاقهما:


-سليم احنا اتفاقنا على إيه؟


-وترجعي تزعلي، لما اخليه يعمل كل اللي نفسه فيه من وراكي.


أردف كلماته في عدم رضا جعلها تندهش منه فارتفع صوتها رغمًا عنها:


-ودي حاجة صح؟


مرر بصره عليها لثوان واندفع بعدها يقول في أمر:


-متعليش صوتك عشان متتعبيش.


-أيوا يعني خايف عليا، ولا مضايق مني عشان صوتي العالي.


-وهتفرق في إيه؟


سألها متوجسًا، فقالت بحنق يحمل التهديد:


-هتفرق طبعًا، عشان لو خايف هسكت وهحبك، لكن بقى لو مضايق مني هتخانق معاك.


حمحم بصوت قوي قبل أن يختصر المسافة بينهما، محتضنًا إياها بقوة، هامسًا بجانب أذنها في حب:


-أكيد عشان خايف عليكي طبعًا.


ابتسمت في دلال ورفعت وجهها تطالعه بحب وهيام بعد تغيره الجذري معها، فأكمل حديثه بنبرة قوية رغم ابتسامته المحلقة فوق شفتيه:


-متعليش صوتك تاني عليا، عشان مزعلش يا حبيبتي وأنتي عارفة زعلي وحش ازاي.


اختفت البسمة من فوق ثغرها وضمته في ضيق بينما توهجت عيناها بوميض العراك معه، فقاطعه وهو يرفع يديه لأعلى:


-أنا قولت حبيبتي.


عارضت بصوت متذمر:


- بعد إيه...


التفت بوجه نحو "أنس" يأمره بجدية:

-على اوضتك يلا بسرعة، معاد الشاور بتاعك.

نهض سليم يحمله، تاركًا إياها تنظر في أثره بصدمة حيث تجاهلها وكأنها لم تكن على مشارف الحديث معه.

                                  ***

                                  

مساءًا...

جلس زيدان برفقة يزن ووالدته أمام التلفاز بعد أن أنهستوا اتصالاً ممتلئ بالعاطفة والحنين لسليم وعائلته الصغيرة..

انتهى الاتصال بالعديد من الأدعية لشمس الحامل في شهرها الثامن حيث لا زالت تعاني من بعض المضعفات الشديدة، وقد توقع بعض الأطباء سوء حالتها أكثر بسبب إجهاد الرحم  الذي يهدد بحدوث نزيف حاد أثناء ولادتها، لذا قرر سليم السفر بها إلى الولايات المتحدة بعد اختياره لطبيب مختص في حالتها، ورغم رفضها الشديد  لقراره إلا أنه أصر وسافر بها هي وأنس خوفًا عليها من أقل الإصابات.

ورغم أنهما تركا البيت لمدة شهر إلا أنه مر بطيئًا ممل عليهم جميعًا.

ارتفع رنين هاتف والدة زيدان باتصال من "ميرڤت" تحفز جسدها وتجهمت ملامحها مردفة:


-وهي العقربة دي عايزة مني إيه!


رفع يزن عينيه متسائلاً:


-مين دي؟


-عمتك الحرباية.


قالتها بغيظ وانفعال شق قلب زيدان وأصابه بهلع رغم مقدرته في إظهار عكس ذلك، تابع يد والدته وهي تضغط على زر الرد وأصبح متمنيًا من عدم ردها فقال بلهفة:


-مترديش عليها أفضل.


-ده من وقت وفاة ابوك متصلتش، ردي شوفي عايزة إيه.

ود أن يصرخ بوجه يزن وإسكاته بعد أن لمح التحفز يرتسم فوق ملامح والدته التي قالت:


-لا هرد هتفتكر ان خايفة ارد عليها.


جف حلقه وهو يفكر في سبب اتصال "ميرڤت" المفاجئ وراح عقله ينير له سوء نيتها، والإشارة في ذلك هو صوت والدته الحانق:


-خير إيه يا حبيبتي اللي متصلة عليا فيه، هو أنتي بيجي منك الخير أصلاً.


أغمض جفونه في قلق وتخيل رد فعل عائلته على خطبته السرية، حتمًا ستصيبهم صاعقة من فرط حماقته.

____________

الفصل الرابع...


جف حلق "زيدان " مفكرًا في سبب اتصال "ميرڤت" المفاجئ وراح عقله ينير له سوء نيتها، والإشارة في ذلك هو صوت والدته الحانق:


-خير إيه يا حبيبتي اللي متصلة عليا فيه، هو أنتي هيجي منك خير أصلاً.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

أغمض جفونه في قلق وتخيل رد فعل عائلته على خطبته السرية، حتمًا ستصيبهم صاعقة من فرط حماقته.


-صوتك عمره كان خير يا ميرڤت.


قالتها "منال" في عصبية، بينما تحفز جسد يزن وهو يتابع والدته الغاضبة من عمته، التي بالتأكيد لم تصمت حتى الآن وما زالت تبث سمومها لوالدته، فأشار إليها بإغلاق الهاتف ولكنها أبت واستكملت الاتصال وهي تتوهج بشرارة الغضب والكرة:


-لا متتصليش ولا تسألي اللي كان رابطنا بيكي مات خلاص.


نهض "زيدان" حينها وجذب الهاتف من يدها القابضة عليه، وأغلق الاتصال فصاحت والدته بضيق عارم:


-كنت سيبني أربي الحربا.ية دي.


وضع الهاتف وهو يتمتم بضيق مماثل:


-مالوش لزمة يا ماما خلاص، احنا قطعنا معاها من زمان.


أكد "يزن" على حديثه بجدية:


-صح، وبعدين تلاقيها هتموت من اللي عملوا فيها سليم بس.


عادت البسمة تحلق فوق شفتيها وردت في فخر وانتصار:


-والله ما حد ريحني إلا هو، زمانها محروقة منه، هو طول عمره سليم ابني مجننها.


انسحب "زيدان" من محادثتهما ودخل غرفته ينفث عن غضبه الشديد من ضغط "ميرڤت" عليه  في مساعدته لحل قضية زوجها وابنها وهذا بالطبع لن يحدث أبدًا، ولن يخون مهنته حتى لو كان أخر نفس لديه، فليذهبا إلى الجحيم وعلى رأسهم رأس الأفعى المدمر لحياته عمته، أما نهى فلا ذنب لها في كل ذلك، سوى أن العاطفة لغت عقلها.

دفع نفسه نحو فراشه، يتوسط الوسائد المرصوصة، يدفن وجهه بها متنهدًا بقلة حيلة بعدما فشل في الافلات من عقبة نهى وأصبح متورطًا بشكل أثر على حياته بطريقة سلبية.

حاول نفض الافكار السلبية بعيدًا عنه، والعودة حيث الصباح حين التقى بحب حياته بعد غياب لسنوات أرهقت بها عقله من كثرة التفكير بها وأشعلت نيران الاشتياق بقلبه الطالب بعودتها.

قضى الليل بأكمله في التفكير بها وتذكر لحظة لقائهما، وبالطبع لن ينسى صورهما معًا التي احتفظ بها في حاسوبه في سرية تامة، كلما شعر بالاشتياق يعود إليها كالشريد. 

                                                ***

صباحًا بشقة "خالد"

فرق" خالد" جفنيه بصعوبة باحثًا عن أي ذرة نشاط للقيام بمهامه قبل الذهاب لعمله، ولكن لا زالت أثار النوم متعلقة بعينيه، وجسده يقاوم الاستيقاظ متشبثًا بفراشه لأخذ قسط أخر لعله يفيده لو بقليل.

أخيرًا نفض الكسل عنه ونهض بوجوم يتحرك بصعوبة نحو المرحاض لأخذ حمامًا باردًا ينعش به جسده قبل انطلاق معركة التنظيف اليومية.

وبالفعل بعد مرور عدة دقائق خرج من المرحاض متوجهًا نحو المطبخ يلملم قطع الثياب الملقاة أرضًا ويضعها في آلة التنظيف، ومن بعدها اتجه نحو إبريق الشاي يصنع له كوب شاي ساخن يهدأ به نفسه الثائرة والطالبة بقتل خاله وابنه على قلة نظافتهما.


التقطت أذنيه صوت" سمير" الخامل:


-اعملي كوباية شاي معاك يا خالد.


ومن بعدها دخل المرحاض دون أن ينتظر رده وكأنه أصبح مجبرًا على القيام بأمورٍ ليست من اختصاصه والغريب أن ذلك المستفز يطلبها بكل وقاحة، فتمتم بكره:


-تنزل في زورك تحرقك وتموت فيها...


لم يكمل جملته بسبب صوت صياح عال انطلق من الصالة ليخترق أذنيه وكان واضحًا فيه كالعادة شجار خاله مع زوجته:


-يعني إيه يا ميرڤت البت مش راضية تطلب منه امال هي مخطوبة له ليه.


تحرك "إبراهيم" نحو المطبخ وهو يزفر ويطلق الألفاظ البذيئة لابنته  ومن بعدها قال:


-هدديها لو مطلبتش منه كده وهو ساعدها هنفسخ الخطوبة واسيبها تموت بحرقتها.


توسعت أعين خالد من وقاحة خاله، ولكنه التزم الصمت في حين خرج "سمير" من المرحاض يقول في حدة ونبرة عالية كي تصل لوالدته:


-خليها تنجز، احنا مش عارفين ننزل مصر.


أغلق" إبراهيم" الهاتف وهو يزفر بحنق شديد متمتمًا بضيق:

-بت خايبة مفيش منها فايدة.


تشجع "خالد" بحماس وتدخل قائلاً:


-يا خالي لو محتاج تنزلوا مصر أنا عندي استعداد اخلص الاجراءات كلها متقلقش، ومش هدفعك أي فلوس.


رفع"سمير" عينيه ساخرًا:


-ننزل بس ازاي يا عم واحنا علينا قضية في مصر.


ترسب الذهول لجزء كبير من ملامح" خالد" وحول بصره نحو خاله الذي كذب عليه من قبل واختلق حجة حول سبب تركه لمصر وهو شغفه في إقامة عدة مشاريع في قطر لكسب الكثير من المال وهو صدقه بالفعل حين صدق على كلامه بخسارته لأمواله لذل لجأ إليه للمكوث في شقته.

تدارك "إبراهيم" الوضع سريعًا بعد أن خص ابنه بنظرة حادة متوعدة بعد زلة لسانه تلك، وسارع في التحدث مبررًا:


-مكناش نعرف، عرفنا بعد ما سافرنا ان في قضية علينا، ربنا يجازيه اللي كان السبب فيها، احنا ممظلومي يا بني والله.


 بدأ "سمير" في مساندة والده بنبرة ظهر بها التوتر:


-وعشان كده كنا بنطلب من نهى انها تكلم ابن خالي زيدان يشوفلنا حل.


فابتسم "إبراهيم" بتوتر هو الأخر وأكمل:


-أصل نهى اتخطبت لزيدان، مش عارف فاكره أنت ولا لا.


حرك رأسه بإيجاب والتزم الصمت، بينما تحركت عدستيه يشملهما في نظرات قوية، محاولاً استكشاف سرهما، فواصل "إبراهيم" في قلق من رد فعل:


-شوفت خالك المصايب نازلة ترف عليه ازاي.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

أخيرًا خرج صوته متسائلاً بنبرة غامضة أقلقت كليهما:


-هي مراتك يا خالي مبتشوفش محامي ليه، ولو أنتوا مظلومين أكيد هتطلعوا براءة بسرعة.


-بـ... بتشوف يا ابني بس الفلوس مقصرة امال أنا مخبي عليها ليه إننا قاعدين عندك.


وقبل أن يرد، جاءه صوت "سمير" الحانق الساخر:


-دي تقيم علينا الحد ولو عرفت اننا خسرنا أخر فلوس معانا.


لم يعجب الوضع "خالد" وأحس بالارتياب من وجودهما، ولكنه لم يمتلك قدرة على طردهما لذا قرر الصمت لفترة قبل أن يفتح خاله في عدم قدرته على تحمل ذلك الوضع.

خرج "إبراهيم" وهو يطرق كف على الأخر بغضب وفي ذات الوقت صوته الغاضب يملئ المكان:


-حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا نهى.


انتظر خروج خاله ودخوله غرفته فاقترب من سمير في مكر واستغل حالة التيه التي تلبسته وسأله بنبرة عادية:


-وهي نهى رافضة تقول لخطيبها ليه؟


-أصلها خايفة تخسره، بت خايبة دماغها لسعت من كتر حبها فيه، أنت عارف عملت إيه أصلاً عشان الخطوبة دي تتم.


سأله بعينيه في صمت فاقترب"سمير" بعد إشارة الفضول التي غزت عيون "خالد" ومال بجسده نحو أذنه هامسًا بكلمة واحدة، فجرت الصدمة على وجه "خالد" غير مصدقٍ جرأة ابنة خاله، وتخليها عن كرامتها، تابع "سمير" حديثه وكأن صنبور حياتهم كسر وصب ما داخله في حذر على هيئة ثرثرة  ببعض الأمور الخاصة بهم وبـ نهى تحديدًا، فكانت تلك هي أول مرة يصيبه الفضول حولهم، واستمع باهتمام وتركيز حتى انتهى "سمير" قائلاً بحقد:


-وبس سليم ابن خالي هو اللي عمل فينا كده، الله يجحمه..أنا رايح اغير هدومي.


غادر "سمير" تحت نظرات الاستياء المنبثقة من عدستي "خالد" فقال بصوت خافت يشوبه الامتعاض:


-الله يجحمكوا أنتوا يا ولاد*****، إيه العيلة دي.

                                    ***

 بمعرض السيارات الخاص بـ يزن..

دخل "زيدان" في خطوات بطيئة يراقب أولاً الوضع بمكتب أخيه قبل الدخول، ولأول مرة لم يجد فتاة معه، فهمس بتعجب:


-معقولة!


 دخل" زيدان" غرفة المكتب فوجده ينظر في هاتفه والضيق يرسم إماراته على وجهه، تحرك "زيدان" أكثر ناحيته ونظر في هاتفه، وجد مقطع مصور عادي لبعض الفتيات يتفاعلن مع مغنى شهير في أغنية حزينة، لم يستطع الصمت كثيرًا وسأل أخيه بقلق:


-مالك يا يزن، مضايق ليه كدا.


-مش عارف ولاد الكلب بيعملوا ليه كدا في نعمة ربنا، دي كلها بنات حلوة معقدة.


قالها يزن في سخط شديد، فرفع زيدان يده وحثه شعور قوي بضرب أخيه كي يستفيق ولكنه تراجع وسأله باستنكار:


-أنت زعلان بجد عشان كدا.


أغلق الهاتف وهو يؤكد بإصرار:


-طبعًا يا ابني دول نعمة ربنا، ينفع نزعلهم بذمتك.


رسم "زيدان" علامات البرود على وجهه ووافق على حديث أخيه:


-تصدق فعلاً، أكتر حاجة بتعجبني فيك إنك مقدر النعمة.

-أبقى غبي لو مقدرتهاش.


تحرك "زيدان" نحو الكرسي المقابل للمكتب وجلس عليه بينما خرج صوته يتساءل في خبث:


- أنا حابب أستفيد من خبرتك بتعمل إيه مع واحدة مزنقة معاك؟


-بزنق عليها أنا.


-ازاي؟


سأله زيدان بفضول وحماس، فأشار يزن نحو الباب وهمس بمزاح:


-بزنقها ورا الباب ده وببوسها.


كان حديثه يغلب عليه المزاح لعلمه أن عائلته لن تراه سوى الفاشل حبيب الفتيات، فإن كانت سمعته سيئة سيجعلها أكثر سوءًا وقد ظهر ذلك جليًا على "زيدان" المصدوم والذي قال بصرامة مفرطة:


-تصدق بالله أنا هبيتك في القسم النهاردا.


حرك "يزن" يده بلامبالاة وأردف:


-خلاص يا عم أنت زعلان من خبراتي مش هقولك حاجة تاني.


-دي خبرات وقحة، اخلص يا عم قول بتعمل إيه مع واحدة معصلجة معاك.


-غير إن أنا ببوسها.


أمسك "زيدان" مجموعة أقلام ودفعها بوجهه مرة واحدة والامتعاض يخالط نبرته:


- تصدق أنا راجل مهزأ عشان أجي وأسالك على حاجة.


نهض على الفور وكاد أن يخرج تحت نظرات "يزن" المتعجبة من عصبيته، فسأل بصوت عالي جعله يقف على أعتاب الباب في حرج:


-مش عيب على طولك وهيبتك لما في واحدة تعصلج معاك.


التفت "زيدان" يرمقه بنصف عين قبل أن يقول ببرود:


-لا طبعًا أنا مفيش واحدة تقدر تقولي لا.


فضحك" يزن" وتحرك بكرسيه في فخر:


-لو عايز أي مساعدة قولي مين هي وأنا هخلص الموضوع في ثواني.


تمتم "زيدان" بسخرية بصوت لم يصل لأخيه:


-دا أنا أبقى راجل عبيط لو عملت كدا.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

أكمل خطواته للخارج وترك يزن ينظر في أثره بتسلية والابتسامة على ثغره:


-شكل الجلنف بيحب.

                               ***

أشارت" مليكة " لأتوبيس" النقل العام كي يقف، واستطاعت الجلوس أخيرًا في أخر مقعد بعد عناء في الصعود والابتعاد عن الزحام، وبذلك أمنت لنفسها طريق سهل وادخرت مالاً يكفيها لغد، حيث قررت ألا تزيد عبء فوق زوج والدتها السيد" مصطفى" فيكفي شهامته حتى الآن معها، ومشاعره الصافية النبيلة، وكرمه اللامتناهي عليها خصيصًا، لن تنسى قط مشاعرها حين توفت والدتها واستمعت لبعض الجيران يسألونه بفضول حول وضعها معه، وتذكرت جيدًا كيف رفض حديثهم، وصاح مستنكرًا لجحود قلوبهم، فكيف يطالبونه بتركها وحدها تصارع الحياة دون مأوى، دون سند يحميها إلى جانب مشاعر الأبوة التي تملكت منه وعززها بفرض حماية خاصة حولها، فارضًا أسواره العالية عليها في ظل أوقات كانت كالهرة الأليفة تخشى الناس والعالم بأجمعه.

تنهدت" مليكة" بحزن وعادت ذكرياتها الأليمة تتربع عرش ذاكرتها، فحاولت الفرار منها قبل أن تسلم نفسها وتنهار باكية وسط الركاب تتلقى الشفقة من نظراتهم.


فتحت حقيبتها بتروٍ، تخرج خبز شهي، أصر السيد" مصطفى" على تجهيزه ووضعه بحقيبتها كي تستكمل طعامها بوسيلة النقل، رفعته لثغرها وقضمت قطعة صغيرة تأكلها في صمت، تتابع الطرق بفقدان شغف أصابها في تلك اللحظة، ولكنه لم يدم طويلاً بسبب رؤيتها لبعض سيارات الشرطة الواقفة في أحد جوانب الطريق، تذكرت على الفور "زيدان" وتوردت وجنتيها خجلاً واشتاقت لرؤيته مرة ثانية، حيث كان لقائها به من الاحلام التي كانت تهاجمهما من حين لآخر، تشعل قلبها الغض بنيران فراقه، وتوحش صدرها بظلمة بعد أن انفصلا في لحظة عصبية لم تتوقع تركه لها بهذه السهولة.

زفرت بهدوء وهي تريح رأسها على المقعد الأمامي، وتوجه بصرها نحو الزجاج المطل على الطرق المليئة بسيارات الشرطة، يبدو أنه لا فرار من ذكرياتهما معًا ومن أهم ذكرى لها مرت في ومضة سريعة حين قابلته للمرة الثانية...

                                          **

تحركت "مليكة" بخطوات واسعة نحو بوابة الأمن وتحديدًا نحو الضابط الذي أصر على احتفاظه ببطاقتها مبررًا لها بأنها ليست سوى إجراءات أمنية فقط.

توقفت على بُعد منه هو وزملائه وأشارت بيدها في خفه تنتظر قدومه، في البداية تجاهلها ورسم اللامبالاة فوق ملامحه، فاستفزها وعادت تشير مرة أخرى والحدة تقسو ملامحها.

نهض" زيدان" بتكاسل شديد، وتوجه نحوها في خطوات بطيئة جعلتها ترفع أحد حاجبيها لأسلوبه وكأنها تسعى للقائه، توقف بمقابلها مثبتًا عينيه عليها وهو يقول في برود مصطنع:


-نعم؟ عايزاني أنا.


ظهرت البلاهة على وجهها بسبب حديثه البارد وكأنه لا يعرفها، ولكنها ردت بعفوية:


-حضرتك أنا اللي أخدت منها البطاقة امبارح.


-مش فاكر.


رد ببساطة، جعلت من عينيها تتوسع بشكل كبير غير مصدقة ما يقوله فقالت سريعًا:


-لحقت تنسى دا كان امبارح، بإمارة ما كنت الوحيدة اللي أخدت منها البطاقة.


ضيق عينيه محاولاً التذكر وقد بدا لها ذلك أمر غريب:


-كمان الوحيدة، دا أنتي شكلك حد خطير جدًا.


تمتمت بالاستغفار وهي تحاول كظم غيظها كي لا تنفجر في وجهه، فعادت تخرج نبرتها هادئة تخفي خلفها غضب يهدد بالانفجار:


-لو سمحت هات البطاقة.


ما زالت نبرة البرود تسيطر على صوته فأغاظها كثيرًا وهو يضع يده في جيبه يخرج عدة بطاقات:


-اسمك إيه؟


-يفرق في إيه اسمي والجثة موجودة قدامك.


قالتها في حنق شديد ظهر جليًا لزيدان الذي رفع عينيه المستنكرة مزاحها الشرس:


-ما هو أوقات الشكل اللي في الحقيقة غير اللي في البطاقة، يعني مثلاً يا مليكة عينك في البطاقة لونها أسود...


صمت لبرهة قبل أن تتحول نبرته الجامدة لأخرى عابثة تصاحبها نظرة إعجاب فجرت الخجل بوجنتيها:


-واللي قدامي دي عيون غزال.


جذبت البطاقة من بين أصابعه بعدما غرق كالأحمق في شهد العسل النابع من عينيها، فقد كان يقسم على أنهما يمتلكان سحر خاص يأسر الناظر بهما للأبد.

انتبه على اقترابه منه حيث مالت  برأسها لأمام قليلاً وهتفت بنبرة يغزوها الشر:


-طب حاسب أحسن أصل الغزال أوقات بيبقى خطر.


أنهت حديثها وتحركت نحو البوابة قبل أن يتحدث فتحرك خلفها ورمى بكلماته قبل أن تدخل وسط تجمع الطلاب: 


-غزال اه بس شرس.


كتمت ابتسامتها في ظل التأمين وبعدما خطت لداخل الجامعة، سمحت لبسمة تحتل محياها إعجاب بشخصيته الغريبة، وفكرت أن سبب استحواذه على بطاقتها هو لغرض خاص به، وحين آل عقلها لذلك ابتسمت بخجل وإعجاب لم يدم طويلاً حيث نهرت نفسها موبخه:


-اتلمي يا مليكة عيب.


تحرت خطوة لأمام ولكنها توقفت عندما صدح صوت داخلها يعرض لعبة سخيفة وبذات الوقت أعجبتها، ان استدارت ورأته ينظر لها بالفعل يصدق حدسها وأن كان غير متواجد ستكون مجرد تهيئات ساذجة، شجعت نفسها قائلة بهمس:


-وماله ما جرب.


جذبت نفس طويل تهدأ به نفسها  قبل أن تلتفت وحركت جسدها ببطء وكأنها عروس خشبي تتحرك بحذر، بالفعل وجدته يقف على بُعد مسافة يراقبها باهتمام، فتقابلت أعينهما في لحظة جعلت كلاً منهما يبتسم للأخر، وتلك كانت شرارة حبهما، رغم سذاجة الوضع بينهما.

                                         **

عادت "مليكة" من شرودها على صوت السائق ينادي بصوت عال باسم المحطة، لملمت أشيائها سريعًا وتركت مشاعرها المبعثرة لوقت أخر، فكانت تعلم جيدًا أن عادت ذكرياتهما معًا لن تعود لطبيعتها أبدًا.

سارت في طريق قصير تختصر المسافة كي تصل للمشفى، تستقبل يوم جديد مليء بالأحداث التي حتمًا ستكون لها أثر كبير في نسيانه وعودتها لِمَ أقلمت نفسها عليها لأعوام.

يبدو أن قلبها أعلن عصيانه وتشبث بالنور الذي ظهر بعد لقائه في المشفى، لذا خيل لها صوت بجانبها فضحكت بحماقة على نفسها ولكن نفس الصوت تكرر بنبرة أقوى جعلتها تقف وتستدير ببطء، فرأته هو بكامل هيبته في سيارته الواقفة بجانبها يشير لها بالصعود:

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-مليكة، تعالي اركبي.


ابتلعت لعابها عندما اصطدمت بواقع وجوده بالفعل، وهتفت في نبرة مرتجفة:


-لا مش هركب معاك.


أوقف السيارة نهائيًا وهبط منها سريعًا قبل أن تهرب منه، فقال وهو يقف أمامها مباشرةً:


-ليه ما أنتي كنتي بتركبي معايا زمان.


ظهر الندم في كلماتها الخافتة:


-غلطة ومش هكررها تاني.


ضاقت عيناه باستنكار، فخرجت حروفه تحوي على غلظة:


-أنتي ليه محسساني إن أنا اللي غدرت بيكي، مع إنك أنتي اللي سيبتيني.


رمشت بأهدابها تحافظ على وجود دموعها داخل مقلتيها الحزينة:


-بلاش تفتح في الماضي يا زيدان، عشان لو النقاش ده اتفتح هتطلع أنت الوحيد الخسران فيه.


فتح فمه وكاد يفتح في جراحٍ حاولت هي معالجتها بمرور الزمن، فرفضت بإصرار:


-قولتلك بلاش.


تركته وأكملت خطاها للأمام في خطوات سريعة متمنية ألا يلاحقها.

وهو بالفعل لن يلاحقها خاصةً بعد حزن عينيها، فقرر ترك مساحة كافية تستعيد بها رابطة جأشها قبل أن يعود لها غدًا ويحاول معها من جديد.

                        ***

مسحت "مليكة" دموعها قبل أن تدخل للمشفى وارتدت قناع الهدوء رغم غليان مشاعرها بسبب جراح حفرت بروحها المنكسرة.

استمعت لصوت إحدى الممرضات   تركض نحوها وهي تردف:


-دكتورة مليكة، دكتور ماجد عايزك.


ظهر الاشمئزاز بكلماتها وهي تقول:


-قوليله مش فاضية.


ومن بعدها تحركت صوب غرفة تبديل الثياب، دخلت وهي تزفر بحنق وتمتم ببعض الكلمات النارية:


-هو يوم أسود، إيه القرف ده.


ألقت الحقيبة بكل قوة فوق المكتب، ولكنها صاحت بفزع عندما استمعت لصوت"ماجد" من خلفها:


-اهدي بس يا دكتورة متعصبة ليه.


انتفضت بغضب وصاحت به في صوت عالي حيث تخطى جميع حدوده ولن تصمت على أفعاله بعد ذلك:


-انت ازاي تدخل هنا، إيه الجنان دا، اتفضل اطلع برة.


عقد ذراعيه وبسمة شيطانية ارتفعت لشفتيه:


-وان مطلعتش هتعملي إيه؟


-أنا هعملك فضيحة فوق في الإدارة.


تركته وحده بالغرفة وخرجت وقبل أن تغلق الباب قال بنبرة ساخرة يخالطها التشفي:


-بصي بس الاول على الواتس بتاعك، عشان الفضيحة مش هتكون لوحدي.


تركت الباب مواربًا ورفعت هاتفها في قلق من نظرة التهديد الملوحة لها، فتحت التطبيق ويا ليتها لم تفتحه، أي كارثة تراها الآن، أي مصيبة ستلاحق شرفها وسمعتها حتى الممات، هوى قلبها لسابع أرض، وتحطمت بعد أن رأت صور مفبركة لمحادثات لها معه بكلام بذيء والاقوى أن المحادثات تحوي على بعض الصور لها بشعرها ولكنه على جسد امرأة أخرى شبة عارية.

تسربت الدماء من جسدها وترنح عقلها يمينًا ويسارًا وهي ترى فضيحتها أمامها، رفعت عينيها تنظر له في صدمة لم تتوقع وقاحته لهذا الحد، وقد ضاق بها المكان حيث شعرت وكأنه جدرانه تنطبق عليها تزهق روحها بعد أن زُجت في وحل دائرته في لحظة لم ولن تتوقعها.

___________________ 

الفصل الخامس...


لقد سُحب البساط من أسفلها وبقيت في الهواء بلا أمان، هوت كطير شل جناحيه فجأة، وفقد القدرة على التحليق، اصطدمت بواقع مرير لم تكن تتوقعه حتى في أحلامها، لم تتخيل قط أن هناك نفوس بهذا الشر والبغض، سرت رجفة قوية في جسدها فحاولت أن تتمسك بالحائط على أمل بأن تستمد القوة في مواجهة هذا الخناس الذي تجرد من كل معاني الرحمة.

دارت عيناها هنا وهناك بضياع أهلك عقلها في التفكير لقد كان كل شيء حقيقي ابتسامتها، نظراتها، ملامحها الصافية حتى خصلات شعرها بلونها الأسود، عدا ذلك الجسد العاري لم يكن لجسدها ولكن من سيصدق؟!

 غلى شعور بالانتقام داخلها في تلك اللحظة وحثتها أفكارها المضطربة على قتله والتخلص منه قبل أن تظهر تلك الفضائح علنًا وتصبح علكة في أفواه الأخرين.

حولت "مليكة " بصرها نحوه والشر يتطاير من مقلتيها رغم الضعف المتوغل لروحها، إلا أنها استطاعت إظهار قوتها حتى لو كانت مصطنعة ستحاول أن تتشبث بها في سبيل الخلاص منه.

فتحت الباب على مصراعيه وانطلقت في لحظة نحوه تمسك بمقدمة قميصه بعنف، ورغم أنها كانت ليست سوى شراسة أنثوية ضعيفة إلا أنها أصابته بالتوتر وذلك بعد أن همست بصوت خافت:


-أنا هقتلك وأشرب من دمك يا ماجد، فاهم هقتلك.


ورغم زعزعة الثقة لديه أمام القسوة المتأصلة بحروفها، إلا أنه رد بكل ثبات ممزوج بالسخرية:


-وهتقتليني بالسكينة ولا بالمسدس، عشان أجهز نفسي بس للموت.


اشتدت قبضتيها فوق قميصه حتى  أنها كادت تقطعه من ضراوة مشاعرها، فبدأت في هزه بعنف وهي تردف بصوت مبحوح اثر صدمتها:


-أنت إيه مبتحسش، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.


حاول إبعاد يدها عن ثيابه ولكنها أبت وتمسكت به في ظل انهيارها العصبي، فقرر رفض هجومها فارضًا طغيانه عليها وابتعد خطوة يهندم ثيابه والسخط ينزلق من كلماته:


-اهدي بس يا دكتورة، أصل الحكاية لو اتنشرت محدش هيخسر غيرك صدقيني، أنا مظبطها على مقاسك.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

أغمضت جفونها وقد ظهر الضعف على ملامحها بعد تهديده المبطن، فاستغل ذلك وواصل ما يقوله بنبرة فاح منها الخبث والكره:


-أنتي فاكرة أن بحبك، لا خالص..


فتحت عيناها وظهر بها التيه من واقع كلماته الغريب، فما الفائدة من فعلته الوقحة طالما لم يكن الحب؟!


-أنتي مجرد جسم عاجبني، وشكل جديد عليا مجربتوش، واللي عاجبني فيكي  شراستك، زهقت من الصنف العادي، نجرب الجديد.


شملها بنظرات عابثة وركز ببصره فوق مناطق معينة، فشعرت وكأنه جردها من ثيابها، مدت يدها تلقائيًا تشد فوق ثيابها، والامتعاض يقسو فوق ملامحها وهي تقابل نظراته باشمئزاز من وقاحة خصاله، فاندفعت كلماتها بصوت متقطع: 


-أنت إيه معندكش أم أو أخت، ازاي قادر تعيش بالوقاحة دي.

-قادر ومستمتع كمان.


قالها ببسمة تعلو فوق شفتيه الغليظة قاصدًا إرباكها، فاستكمل بثقة وهو يسألها بنبرة عادية وكأنه يسألها على طقس اليوم:


-إيه هتيجي امتى الشقة، ولو مكسوفة ممكن نقضيها فوق الاوضة.


أمسكت قطعة حديدية صغيرة ودفعتها نحوه بكل قسوة، فلم تصيب سوى يده بعدما تصدى لها، وارتفعت نبرتها بصوت أشبه للصراخ:


-أنت واحد قليل الأدب وعايز تتربي.


وضع القطعة مكانها واستعد للخروج خوفًا أن يأتي أحدهم ويراها على تلك الهيئة المزرية، فاللعبة لا زالت في بدايتها ونهايتها لم تأتي بعد:


-أنا همشي قبل ما حد يجي والفضيحة لو حصلت هتزعلي أوي، قدامك خيارين يا تسمعي كلامي وتكوني ذكية وصدقيني هتتبسطي، يا أما هتطلعي من هنا بفضيحة وفي الأخر هتبقى غبية.


تسربت كلماته البشعة لها فبدا وكأنه شيطان متجسد في صورة إنسان، ألم تصيب الرحمة قلبه من قبل، ألا يخشى الله من أفعاله المتجردة من الدين والأصول، لم تتوقع أن تتلطخ بسواد مستنقعه حتى لو من بعيد، لن تسمح له باستغلالها لمجرد تهديدات دنيئة يتلاعب بها تحت مسمى الحفاظ على سمعتها.

غادر دون أن يرمش له جفن من صوتها الباكي، واغلق الباب خلفه معطيًا لها المساحة الكاملة في التفكير الذي أصبح شبه متأكدًا أنه سيصب في صالحه الآن، تركها وحدها  تصارع قسوة الحاضر بكل ما يحمله من مفاجآت مدوية، فما حدث أشبه بانفجار قنبلة موقوتة، وأثارها طالت روحها الصافية.

خارت قواها فألقيت بجسدها فوق المقعد تبكي على قلة حيلتها في إيجاد حل لإبعاد تلك المصيبة عنها دون أن تتنازل لذلك الوقح، لن تسمح بلمساته ولن تصمت على تماديه، ولكن كيف وأين السبيل للخروج من ذلك المأزق؟ لا تعلم كل ما تعلمه هو أنها لو بقيت في المشفى دقيقة واحدة ستقطعه إربًا وتظهر في الساحة برأسه في يدها، حتمًا حينها ستكون سعيدة بجريمتها. 


                               ***

                                                 

قاد "زيدان" سيارته متجهًا صوب عمله، استقبل الهواء بصدر رحب والابتسامة تزين وجهه، بينما تصدح الأغاني الهادئة من المذياع، كانت أفضل لحظات حياته لذا قرر عدم الرد على نهى مطلقًا اليوم، لن يعكر صفو مزاجه بخطأ ارتكبه في لحظة ضعف.

دندن مع الكلمات حتى أنه على صوته والابتسامة تزداد اتساعًا أكثر وأكثر وكأن مليكة تجلس بجانبه، تدفقت الذكريات الجميلة وانتفض قلبه صارخًا بحب لن ينتهى إلا بمماته.

على صوت رنين الهاتف مجددًا، فمد يده بتلقائية كي ينهي الاتصال ولكنه لمح أسم والدته، فرد على الفور واستمع لصياح والدته، أوقف السيارة سريعًا وهتف بنبرة قلقة:


-في إيه يا أمي.


-شوفت الكلبة ميرفت بتقولي إيه.


اختفى خفق قلبه، وحبست أنفاسه رهن كلمات والدته التي توقفت فجأة، حتى أنه لم يتجرأ ويسألها، اكتفى بالصمت الذي لم تتحمله والدته كثيرًا، وأخرجت ما في جعبتها بعصبية:


-بتدعي على سليم ابني.


زفر مرتاحًا وسألها بنبرة مثقلة:


-هي متصلة ليه تاني؟


-عشان تتضايقني وتحرق دمي.


أجابته بغضب عارم، فرد بهدوء محاولاً امتصاص غضبها:


-متقدرش تحرق دمك.


-لا حرقته لما دعت على سليم وهو في غربة.


أجهشت في البكاء واندفعت الأدعية من فمها لحفظ ابنها، فقال ساخرًا من قلق والدته:


-هي شيخة اوي عشان ربنا يتقبل منها.


-بس دعت على أخوك المجرمة، والله لو فكرت تتصل تاني لأروحلها بيتها وابهدلها.


زم "زيدان" شفتيه بضيق وقد تمادى الوضع من يديه وأصبح غير مسيطر بالمرة لا على والدته ولا على عمته التي أصبحت تضغط عليه في الآونة الأخيرة بتهديدات أحيانًا مبطنة وأخرى صريحة.

أغلق الاتصال مع والدته بعد أن استطاع تهدئتها واقناعها أنه لن يصيب "سليم" شيء.

عاد تشغيل سيارته مغيرًا وجهته صوب منزل عمته، مقررًا مواجهتها وتأديبها والحد من تصرفاتها التي أصبحت تفوق قدرته، فكان دائمًا صبور معها لأجل نهى فقط.

                                        ***   

وصل "زيدان" أمام شقة عمته، وبدأ في طرق الباب بقوة وعنف، بينما توهجت عيناه بنيران الغضب، وظهر ذلك حين فتحت الخادمة الباب وابتسامتها المهتزة   تعبر عن فرط توترها من وجوده بهذا الشكل الغاضب:


-أهلاً يا زيدان بيه نورت.


تخطاها وهو يبحث عن عمته في أروقة الشقة، وصوته الجهور يصدح في أرجاء المكان بغلظة:


-ميرڤت أنتي فين؟


خرجت "ميرفت" بعد دقيقة تضع يدها في خصرها والحدة تغزو عيناها:


-ميرڤت كده من غير عمتك يا زيدان يا متربي.

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

صاح مستنكرًا في وجهها:


-متنسيش أنتي بتتكلمي مين؟


ابتسمت بسخرية وعقدت ذراعيها أمامه تسأله:


-هتهددني امال يا سيادة الظابط.


-ظابط غصب عنك وتحترميني، وكلمة زيادة مش هعمل حساب لأي حاجة فاهمة ولا لأ.


اندفعت كلماته في قساوة شديدة وعروق وجهه تنتفض غضبًا منها، فتراجعت عن سخريتها وأخفضت بصرها أرضًا تستجمع تركيزها بعد أن فقدت خيوط اللعبة منها، لانت ملامحها وهي ترمقه بنظرات ضعيفة أدهشت بها "زيدان" وخاصةً من تحولها السريع، فالأمر أشبه بمسرح أشعل فيه الضوء الأخضر وانطلقت هي تؤدي دورها بكل حرافية:


-طبعًا يا حبيبي غصب عني وعن أي حد، أنا بس صعبان عليا انك بتهددني.


-لا تعودي على كدا.


قالها في تحدٍ فجر الغيظ على ملامحها فسألته بنبرة غامضة:


-يعني إيه؟


-يعني من هنا ورايح لو اتصلتي على أمي أو حاولتي تجيبي سيرة سليم بحرف واحد، أو تفكري انك تتصلي تجبيلي سيرة ابنك وجوزك هتلاقي مني تصرف مش هيعجبك.


-هتلغي خطوبتك بنهى؟


سألته بعد ثوان من التفكير، فرد بما فاق توقعها:


-دي حاجة بسيطة من اللي هعملها، محلات الدهب وهقفلها و...


قاطعته وهي تشير بيدها محاولة إثارة الشفقة لديه:


-محدش حاسس بيا أبدًا، حتى أنت اللي مفروض جوز بنتي بتهددني..


صاح متذمرًا والاعتراض يلوح من عينيه:


-حاسبي جواز إيه، اللي بيني وبين بنتك لعبة وأنتي السبب فيها، فاهدي كده وبطلي تمثيل.


-أنا بمثل؟


أشارت نحو نفسها والصدمة ترسم إمارات زائفة فوق ملامحها، فهز رأسه بإيجاب مبتسمًا بتهكم على تحولها السريع.


-المرة الجاية صدقيني لو جيت مش هيعجبك اللي هيحصل.


انطلق مغادرًا وقد تحلى بالصبر معها لأجل "نهى" فقط، هبط درجات السلم  ومن سوء حظه قابلها، وحين رأته انطلقت تتأسف بندم:


-أسفة يا حبيبي متزعلش عشان خرجت من غير اذنك.


لم يكن في حالة تسمح له باستكمال الحديث معها، فوجد نفسه يقول بضيق:


-طيب يا نهى.


أمسكت بيده قبل أن يغادر والحزن يطفو فوق ملامحها:


- لا أنت زعلان مني، حقك عليا..


بتر حديثها بعصبية مفرطة وأبعد يدها بعنف:


-ابعدي عني بقا.


نزل الدرج تاركًا إياها في صدمة من تصرفه العدائي رغم أنها لم تخطأ في شيء وأبدت ندمها على تصرفها الذي كان من وجهة نظرها خطأ.

صعدت الدرج سريعًا وقابلت والدتها تتحرك في الصالة ذهابًا وإيابًا والسخط يسيطر على كلماتها، فاتجهت صوبها تسألها بقلق:


-ماما أنتي زعلتي زيدان ولا إيه؟


التفتت والدتها فجأة وهبطت بكفها فوق وجنتها في قسوة، فارتدت نهى للخلف خطوة بسبب صفعة غليظة كان أثرها النفسي أكبر من أثرها الجسدي.

رفعت عيناها الباكية لوالدتها بضعف تشكو من سوء معاملتها وقسوتها غير المبررة لمجرد سؤالاً عابرًا خرج منها.

لم تكتفي والدتها عند هذا الحد بل ثارت بهجوم شرس:


-اللي همك هو زيدان الزفت وبس، غير كده لا، فوقي واصحي من الوهم ده.


بكت "نهى" بانهيار وقالت من بين شهقاتها:


-وهم إيه؟ كفاية كلامك ليا، أنتي مبتزهقيش.


اندفعت "ميرفت " نحوها فركضت لغرفتها قبل أن تهبط صفعة أخرى أو يمتد الأمر لضربٍ في مفترق جسدها، أغلقت الباب خلفها وهي تستمع لصوت صراخ والدتها من الخارج: 


-الكلام ده ليا يا بت يا ضايعة، أنتي يا اختي مزهقتيش منه، ده يا بت بيـمـ...

وضعت الخادمة يدها فوق فمها وقد تجرأت لأول مرة في حياتها على أخذ خطوة كهذه وتحديدًا أن كانت مع شخصية عدائية مثل ميرفت، وبدأت في التوسل قبل أن تفقد الأخرى أعصابها:


-ابوس ايدك يا هانم بلاش، كفاية اللي حصلها المرة اللي فاتت.


رفعت ميرفت حاجبيها من جرأتها فأخفضت الخادمة يدها ووضعتها فوق صدرها في توسل أكبر:


-المرة دي مش هتعدي على خير عليها.


بصقت نحو غرفة ابنتها وارتفع صوتها في غيظ:


-خليها تشرب بس متجيش تعيط من معاملته، طول ما هي غبية كده.


هزت الخادمة رأسها كناية عن موافقتها، وفي الواقع هي كانت تمتص شرارة الغضب لأجل نهى الهائمة في حبٍ يعلم الله وحده أنه الملاذ الأخير للخروج من هذا البيت على خير.

                                 ***

استمعت "نهى" لحديث والدتها الذي فجر ينابيع البكاء من مقلتيها، أخفت صوت شهقاتها بيدها كي لا تبدو البلهاء الحمقاء وتستمر والدتها في ايذائها أكثر، فضغطت باليد الأخرى فوق صدرها تحاول تجحيم الانكسار الذي طال روحها المصابة بالإحباط والخذلان.

جلست أرضًا تضم ركبتيها لصدرها، وغاصت في محاكاة مشاعرها تحاول إيجاد سبب لنعتها بالهائمة، ما نفع العين بلا بصر؟، هل جرَّبتَ الحياة بلا تنفس؟، أجل لقد جربت كل هذا بدون زيدان عاشت في تلك العتمة الكاحلة التي حاوطتها في بيتها من قِبل عائلتها الغير سوية والغير إنسانية على الإطلاق لقد فقدت رئتيها عقب تأكدها من خسارتها لزيدان فحاولت إنهاء تلك الحياة البائسة في لحظة فقدت فيها العقل كذلك، فقدت قدرتها على التركيز وأغلقت عيناها الباكية لثوان تحاول فيها معالجة جروح عادت تنزف من جديد  وكأن ذلك اليوم يفرض هيمنته عليها يذكرها كم ذاقت ويلات من الخذلان على يد والدتها حينما ركضت باكية ترتمي داخل أحضانها تستنجد بها ولكنها وجدت....

                                 **

صعدت "نهى" السلم بإنهاك طال جسدها وكأنها فقدت قوتها إثر ضربة قوية، حتى أنفاسها باتت ضعيفة والرؤية أمامها مشوشة لم تعرف من أثر الصدمة التي تلقتها على يد زيدان حينما اعترفت بحبها له وقابلها هو بكلماته القاسية ولم يراعي مشاعرها المنكسرة، فالأمر أشبه بحيوان أليف يركض باحثًا عن الأمان وفجأة جاءت سيارة مسرعة ودهسته بلا رحمة، انسابت دموعها بغزارة فوق صفحات وجهها وأصبحت الحياة بلا مذاق وكأنه أُلقى فوقها غلالة سوداء.

لم تعد قادرة على معالجة جراحها، وشعرت بحاجتها الشديدة لوالدتها، ولكن هل يحق لها طلب الحنان والاحتواء؟ أم أنها ستقابل عراك كالعادة سيزيد من جراحها؟!

دفعها شعور قوي بإلقاء نفسها تحت أقدام والدتها، تُلقي ما في داخلها دفعة واحدة دون انقطاع، تسعى لشعور دافئ يحتويها بعدما فقدت روحها وضاعت في فلك حب هائم على حد قوله.

فأكثر ما أوجعها هو عدم تقديره للحب الكامن داخلها، وكأن فؤادها لعبة واعتادت على الكسر!

 دخلت من باب شقتها والدموع تعيق حركاتها، رأت والدتها تجلس فوق مقعدها المفضل والهاتف في يدها، اتجهت نحوها دون تفكير، فقط انساقت خلف ذلك الشعور، وتركت كل مخاوفها جانبًا..

ارتمت بجسدها أسفل قدم والدتها واضعة رأسها فوق ساقيها وأطلقت العنان لنفسها في البكاء، كان أحيانًا بكاء صامت وأحيانًا أخرى يصاحبه ما قاله زيدان، لم تجد يد والدتها تربت عليها كما اعتقدت، حتى أن صوتها اختفى فجأة، وقد أصيبت حينها بالهذيان من فرط اضطرابها، لِمَ كل شيء يخالف آمالها البسيطة.

رفعت رأسها ببطء وقابلت نفس نظرة السخرية من والدتها، رباه كانت تخشى تلك النظرة تحديدًا، تخبطت بين جنبات عقلها وسألت نفسها بتيه هل بالفعل هي ابنة والدتها أم أنها ابنة بالتبني؟، لقد داهمها الشك بسبب جسور الجفاء المقيمة بينهما.

أغمضت جفونها تحتفظ بنظرة التهكم المطلة من والدتها، واعتقدت أن الأمر سيصبح الآن سوء، ولم يدم توقعها كثيرًا حيث اندفعت والدتها بكل قساوة تردف:

منك واليك اهتديت
الفصل الثالث والرابع والخامس 

-له حق يا حبيبتي يعمل فيكي أكتر من كدا.


ابتعدت بجسدها ولكنها ما زالت فوق الأرضية تنظر لوالدتها بنظرات زائغة فبدت كجارية تتلقى التوبيخ من ملكة فظة قررت معاقبتها بأسوأ الألفاظ، حتى أنها تمادت في إهانتها:


-حب إيه يا موكوسة اللي بتتكلمي عنه، هو الحب ده بيأكل عيش في الزمن دا.


اكتفت بالصمت وتابعت حديثها بضعف في ظل اندفاع ميرفت بحدة:


-طول عمرك خايبة وفاشلة ومتبصيش الا لزيدان وبس، أهو قالك مش بيحبك والصراحة عنده حق، في واحد يحب واحدة  معندهاش كرامة.


ربما كانت "ميرفت" تقصد إفاقتها ولكنها اختارت طريق القسوة والجفاء ولم تراعي مشاعر ابنتها التي كانت تبحث عن الرفق ليس إلا وقد ظهر ذلك في صراخ "نهى" تزامنًا مع إشارتها بيدها:


-بس كفاية حرام عليكي، كفاية.


نهضت عقب حديثها وركضت صوب غرفتها وقبل أن تدخل تلقت ضربة حذاء من قبل والدتها  التي عقبت فيما بعد بسخط عارم:


-ادخلي يا بت اوضتك وعيطي من هنا لبكرة وفي الأخر محدش هيعبرك.


دخلت غرفتها تجر أذيال الخيبة خلفها، أغلقت الباب خلفها بإحكام ومن بعدها توقفت في منتصف الغرفة تنظر يمنيًا  تارة ويسارًا تارة أخرى، زحف الاكتئاب فوق ملامحها وأصبحت كعجوز فقدت معاني الحياة وزهق جسدها بسبب المرض، فقررت إنهاء حياتها كي تتخلص من كل العناء المتربص بها، هي أيضًا لقد تعب جسدها من الضرب والصفعات القاسية، وأرهقت نفسيتها من الإهانة المتلاصقة بها دومًا، حتى قلبها بات كالنبتة الضعيفة التي أصابها الجفاف، لقد زهدت الحياة بعينيها بعد فظاظة والدتها ونفور زيدان منها.

تحركت بخطوات ثقيلة للغاية، نحو مكتبة صغيرة وسحبت منها أقراص طبية كثيرة بدأت في تناولها واحد تلو الأخر دون انقطاع والدموع تتسابق فوق وجنتيها وكأنها هي الأخرى تودع الحياة.

فقد أدركت أن الانتحار أسهل من الانغماس في دروب الهوى!

                                      **

فتحت عينيها بعد أن رفعت رايتها البيضاء لذكرى مهما حاولت الفرار منها تجذبها لأسفل القاع، للحظة الضعف التي باتت تركها حينما قررت إنهاء حياتها في سبيل التخلص من كل ما يؤرقها، ولكنها كانت خاطئة ساذجة، حينها فقط ستكون الخاسرة الوحيدة بعد أن علمت بحب زيدان لها وأن ما قاله ليس سوى كلمات خرجت دون إرادة منه كي يمنعها من الارتباط به خوفًا على مستقبلها فيما بعد بسبب مهنته الشاقة، وتعرضه للموت في كل لحظة، ولكنه لم يدرك أن الموت هو سبيلها الوحيد بعد تركه لها.

                                     ***

في شقة "سليم"

جلس فوق الأرضية الصلبة بعد يوم طويل ومرهق مع شمس وأنس، ارتدى نظارته الطبية وتابع قراءة الأوراق ومتابعة أخر مجريات المحلات من خلال حاسوبه، غاص في التركيز لدقائق كثيرة وعادت جديته المفرطة تحتل خصاله بعد أن تخلص من دلاله لشمس ومرافقة أنس في كل ألعابه.

وبعد أن وضع قائمة ينظم بها أولوياته وأعماله واعتقد حينها أنه قادرً على إنجازها وفقًا لقواعده، فشل بجدارة بسبب تقلب مزاج شمس وطلبات أنس الكثيرة، أحيانًا يظهر التذمر داخل مقلتيه لكليهما ولكنه يخفيه سريعًا خوفًا أن يحزنا ويبدأ كلاً منهما في إقامة مناحة يصفانه بها بالأب القاسي.

حينها ترك الورقة والقلم وأشار على نفسه ساخرًا:


-دا أنا أب تافه على كدا.


قالها بحنق من تصرفاتهما المتقلبة  فأصبح كالمجنون بينهما، رفع يداه لأعلى وأردف بصوت عال:


-يا رب أنا زهقت.


غرقت عيناه في الملل وعاد مجددًا لقراءة الأوراق ولكن قاطعه اتصال هاتفي من قبل يزن فأجاب على الفور:


-خير.


-أهلاً يا أخويا يا حبيبي.


زفر متذمرًا:


-اخلص.


-إيه يا عم الكلام ده، هو أنا كنت نايم في حضنك.


صاح "سليم" موبخًا:


-اتلم يا يزن واعرف انت بتكلم مين؟


-يا سليم ليه بتعاملني كأني حرامي وسارق حاجة منك، فين الحنان فين الأخوة.


صمت سليم برهة يخفي بسمته التي نبتت فوق شفتيه اشتياقًا له ولمزاحه وكعادته رد باستهجان:


-يزن بيطلب الحنان، أنا كده بدأت اقلق عليك.


-لا يا عم أنت فهمت إيه، الحنان إياه أنا غرقان فيه واحتمال أعمل سد أخزن لسنين جاية، أما الحنان الأخوي فـ حقيقي أنت واحشني وغيابك فارق معانا.


ضحك سليم بخفة ورد بعفوية:


-يلا عشان تعرفوا قيمتي لما أموت.


استمع لصوت بكاء انبعث من جانب يزن ويبدو أنها كانت والدته فسارع يزن بالحديث لها موضحًا:


-بيهزر يا ماما بيهزر اهدي، خد يا عم كلمها.


جذب "سليم" أنفاسه واستجمع هدوئه بعدما أحس بخوفها عليه لمجرد كلمات عادية قالها في لحظة مزاح، لن ينكر بالطبع سعادته لبكائها وقد ظهر مدى اشتياقه لأبسط الأمور من قبل والدته، فلا زالت ندوبه تحتاج لمعالجة خاصة تركها هو للزمن رغم مرارة وجودها بعد كل هذه التغيرات:


-خلاص اهدي يا أمي، أنا كنت بهزر.


-بعد الشر عنك يا حبيبي، يجعل يومي قبل يومك.

نال التعجب من ملامحه بسبب قدرة والدته على التعبير تجاهه تحديدًا، وكأن القيود المفروضة عليها ذابت بعد أخر مواجهة بينهما وأصبحت أكثر سلسة رغم عدم تقبله للوضع، لذا استغفر بخفوت وصاح بعدها بحدة:


-أنا مش عايز كلام زي ده وأنا مش موجود معاكوا، انتوا متصلين تعكننوا عليا.


-حقك عليا يا حبيبي، خد زيدان معاك اهو.


رفع سليم رأسه وزفر بقوة من كم الضغط الواقع فوق رأسه، متمنيًا ألا يحزنه زيدان، فبالرغم من اختلافهما إلا أنهما يمتلكان نفس الحدة وبشاعة الكلمات والردود.


-الحمد لله يا زيدان، أنت أخبارك إيه؟


-زي الفل محتاجينك وسطنا.


هل تغيرت عائلته عندما غاب عن أعينهم، ولأول مرة شعر بفائدة ابتعاده، لقد اشتعلت شرارة الاشتياق بينهما ولن تنطفئ إلا بلقائهم الذي أصبح باغضًا له بعد أن تلقى منهم كل هذا الحب والاحتواء!


-سليـــم.


انتبه على صوت شمس المنادي له فزفر بضيق وأبعد الاوراق عنه بتذمر متمتمًا:


-هو باين من الاول مفيش شغل.

__________________


تكملة الرواية من هنا

تعليقات

التنقل السريع
    close