رواية عيون الريان (النسخة المعدلة)
بقلم (نيللي العطار)
(الفصل الثاني والتالت والرابع والخامس)
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات
🌹🌹🌹🌹🌹
أمشي بروحٍ حالم مُتَوَهِّجٍ في ظُلمة الآلامِ والأدواءِ ...النّور في قلبِي وبينَ جوانحي فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ
إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي أنغامُهُ ما دامَ في الأحياءِ ... لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ وأَرتوي منْ مَنْهَلِ الأضواء
(أبو القاسم الشابي)
**************
البشر يصفون الحياة وكأنها جنة عندما يتحدثون عنها وبمجرد إختبار بسيط لتقلبات القدر تتحول إلى كابوس مرعب والقليل منهم يصبر ويحتسب عند الله محسنين الظن بأن الأدب في البلاء عبادة راقية والرضا يعقبه فرح جميل .. هكذا كانت هي راضية.. متقبلة لظروفها..ممتنة لمن حولها..شاكرة لكل من حاول تخفيف ألمها ..مبتسمة رغم مابها..تحاول إقناع الجميع بأنها قوية.. صامدة.. منتصبة كجذع شجرة مر عليها سبعون خريفاً ولم تسقط .. عالمها صغير جداً ومحدود لايتواجد في محيطها الكثير ، فمن سيرغب في التقرب من تلك اليتيمة الضريرة التي تستند علي كف مربيتها وتصطحبها صديقتها الوحيدة للذهاب إلى دروس البيانو التي تعطيها للأطفال داخل دار الرعاية المقيمة بها وبالرغم من قلة حيلتها وظروفها القاسية إلا انها تعتبر نفسها محظوظة للغاية فهي تمتلك مكان يأويها ومربية تحبها كثيراً وترعاها ولديها صديقة وفية لاتستطيع الاستغناء عنها .... إنها " مريم إبنة ال 21 ربيعاً .. الطفلة المدللة لدار وسيلة علوي لرعاية الأيتام .. أكثر الناس محبة لمن حولها.. تؤمن بمبدأ واحد ألا وهو ( من دون الحب.. كل الموسيقى ضجيج.. وكل الرقص جنون.. وكل العبادات عبأ) .. لم تكن على علم بما حدث لها في طفولتها وأفقدها بصرها لكنها تشعر دوماً بعدم حاجتها للرؤية .. تعيش بقلب لم يجزع يوماً من عجزها ولاتدري أن هذا سر تسلل النور لباطنها.. تضحك عندما تخبرها مربيتها عن جمالها وتصفها ب "الأوڤر " والحقيقة أن المربية لم تكذب عليها أبداً فوجهها لوحة فنية بارعة الجمال سبحان من أبدع في تصويرها .. ملامحها ملائكية تفسر آية الرحمن (سيماهم في وجوههم) ..وعينيها المكفوفتين جرم صغير فيهما ينطوي العالم الأكبر.. يتجسد حُسنها في القول السائد (عيونها جنة وباقي تفاصيلها نعيم).. خصلاتها الكستنائية اللامعة الطويلة تنسدل خلفها وتنحدر كالندى المبلل بماء الورد وحينما تجمعه بملاقطها الوردية تصبح كزهرة أوركيد تفتحت تحت قطرات طَلّ كاريبي النسائم .. والمليحة عطرها يفوح من هدوء طباعها وأخلاقها .. يتيمة الأبوين أنبتها الله نباتاً حسناً رغم قسوة عالمها.. قام عمها بتسليمها للدار في الثالثة من عمرها بعد وفاة والديها ثم إنقطعت أخباره تماماً عنها.. هذا كل ماقصته عليها مربيتها صباح التي تولت رعايتها منذ نعومة أظافرها حتى تعلقت بها كثيراً وإعتبرتها كأمها التي حُرِمَت منها .. مرت السنة تلو الأخرى و أصبحت مريم فتاة بالغة حرة التصرف بحياتها وإختارت الإستمرار في الدار مقابل تعليم بعض الأطفال من النزلاء دروساً موسيقية خاصةً أنها تمتلك صوتاً عذباً أَهّلَها لإتمام دراستها بالمعهد العالي للموسيقى بمساعدة "ريهام "صديقتها وتوأم روحها ورفيقة اليتم وشريكتها في الغرفة والتي تعمل مدربة لياقة داخل الدار وأحيانا بالخارج لكنها فضلت البقاء بجوارها بدلاً عن الأستقلال بحياتها الخاصة
**********
في دار وسيلة علوي لرعاية الأيتام /
كانت التجهيزات للحفل السنوي تسير علي قدمٍ وساق .. الجميع منهمكون في آداء مهامهم تحت إشراف السيدة "وسيلة علوي " تلك السيدة الأربعينية الوقورة التي كرست حياتها لخدمة الأيتام خاصةً أنها لم تنعم بالأمومة ودائماً ترى عوض الله الغالي في أبناءها من النزلاء والنزيلات وأثناء مكوثها داخل مكتبها منشغلة في متابعة بعض الأوراق المتعلقة بالعمل قاطعها صوت طرقات خفيفة علي الباب ...
أجابت وسيلة بنبرة مرتفعة قليلاً (إدخل )
دلفت مريم إلى المكتب تستند بيديها على الحوائط وألقت التحية بصوتها الهادئ (السلام عليكم ياماما)
إبتسمت وسيلة تلقائياً عند رؤيتها قائلة بحنان (وعليكم السلام يامريم .. تعالي ياحبيبتي اقعدي)
جلست مريم على الكرسي المقابل لها تنظر للفراغ أمامها يعينيها المنطفئتين قائلة (أستاذ علي قاللي إن حضرتك عايزاني)
تأملتها وسيلة بحب ممزوج بإشفاق على جمالها المدفون خلف كف بصرها المؤلم وأردفت (أستاذ علي بلغني إنك هتقودِ الكورال فالحفلة وهتغني سولو لوحدك)
أومأت مريم إيجاباً قائلة بتأكيد ( ده حقيقي فعلاً أنا حابة الحفلة المرة دي تكون مميزة)
سألتها وسيلة بقلق ( إنتِ جاهزة للخطوة دي يامريم؟ )
أجابتها مريم وإبتسامة عذبة تزين ثغرها (طبعاً ولا حضرتك مش واثقة فيا؟ )
ربتت وسيلة على كفها قائلة (أنا واثقة فيكِ ياحبيبتي بس خايفة عليكِ )
وضعت مريم يدها على كف وسيلة تتشبث به للحظات قائلة بإصرار ( ماتخافيش عليا أنا محتاجة أعمل حاجة جديدة )
تمسكت وسيلة أكثر براحة مريم المستقرة فوق كفها داعية لها بقلب صادق (ربنا يوفقك يابنتي .. انا متاكدة إنك هتكونِ عند حسن ظني)
ردت عليها مريم بإمتنان ( ربنا يحفظك ياماما .. أنا مهما أعمل مش هاقدر أرد جزء من جمايلك )
عاتبتها وسيلة على حديثها بلطف (عيب تقولِ كده .. هو فيه بين الأم وبنتها جمايل؟)
أسبلت مريم جفنيها تقول بخجل (ربنا مايحرمني منك أبداً )
نظرت إليها وسيلة بحنو بالغ .. تشق شفتيها إبتسامة فخر بتلك الصغيرة التي زادت طولاً وجمالاً ومازالت تحتفظ ببرائتها وبشاشة وجهها ثم تابعت حديثها بتشجيع ( أنا عايزاكِ تستعدِ كويس وتشرفِ الدار )
حركت مريم رأسها بثقة (أكيد طبعاً .. أستأذن حضرتك عشان الولاد مستنيين ف أوضة الموسيقى )
إنتبهت وسيلة لوجود مريم بمفردها فتسائلت بتعجب (إنتِ جاية لوحدك ليه ؟ فين صباح؟ )
أرجعت مريم خصلة من شعرها خلف أذنها قائلة بهدوءها المعتاد (دادا صباح واخدة إذن ساعتين عندها مشوار هتخلصه وتيجي )
إندهشت وسيلة كثيراً متسائلة بنبرة قلقة ( ازاي جيتِ هنا من غيرها؟ )
أجابتها مريم مبتسمة برضا ينبع من داخلها غير متأسية أبداً من ظروفها (انا حافظة الدار شبر شبر وأقدر أروح أي مكان فيه لوحدي وبعدين اللي زيي ربنا بيديله سمع كويس اوي )
تنهدت وسيلة بحزن حاولت إخفائه ( ومالهم اللي زيك ياحبيبتي؟ .. ده إنتِ ست البنات كفاية أخلاقك وجمالك )
إبتسمت مريم قائلة ( ربنا يخليكِ ليا ....عن إذن حضرتك لازم أروح أتابع تجهيزات الحفلة )
أذنت لها وسيلة بالإنصراف ( اتفضلِ ولو إحتاجتِ أي حاجة بلغيني )
خرجت مريم من المكتب مستندة بيديها على الجدار حتى تتمكن من الوصول إلي غرفة الموسيقى لتتابع تدريبات الكورال .. رافضة مساعدة أحد المارة الذي كان يسير بالقرب منها في الرواق .. فهي كما اعتادت تفضل السير متتبعة الأصوات التي تصدر من وقع خطواتها .. تميز الأماكن من صوت إرتطام حذائها بالأرض .. تحمل في قلبها إمتناناً لهذا المكان الذي إحتواها وإحتضن عجزها وقلة حيلتها لسنوات طويلة..وإعتبرته منزلها ومأواها ولم تتذوق كلمة أمي سوى بداخله.. وبرغم كل الغصص التي تواريها عن أنظار المقربين منها خلف قناع ابتسامتها الهادئة إلا أنها تشعر بسعادة حقيقية لكونها جزء منه.. فخورة بإنتمائها له كواحدة من أبناء وسيلة علوي...
**********
في فيلا سعد زين الدين /
كان الخدم يعملون على أشدهم لتجهيز عشاء الليلة وكعادة سيدة المنزل الغاضبة دائماً ظلت تصرخ بهم حتي يسرعوا في تحضير المكان لاستقبال الضيوف ..
هتفت رويدا عالياً على نجاة بضجر ( نجاة.... إنتِ يانجاة )
خرجت نجاة من المطبخ ركضاً تجيبها بخوف (أفندم يارويدا هانم)
رمقتها رويدا من أسفل لأعلى بتعالي مستهزئة بها ( إنتِ نايمة على ودانك؟.. مابترديش بسرعة ليه؟)
أطرقت نجاة رأسها لأسفل ترتعد اوصالها من هدر سيدتها قائلة بخفوت (آسفة والله ياهانم كنت......)
قاطعتها رويدا بسخرية متعمدة توبيخها (خلاص ماترغيش كتير.. عايزاكِ تجهزي ال roof عشان چيسي هانم ونهى هانم علي وصول.. وبلغِ الزفت اللي عالبوابة يوصلهم لحد هنا..... مفهوم؟ )
أجابتها نجاة بوجه لا يحمل أي تعابير رغم ضيقها من المعاملة الجافة التي تتلقاها من هذه السيدة المتعجرفة (أمرك ياهانم )
أشاحت رويدا بوجهها تستدير لتصعد الدرج قائلة بتحذير ( أول ماييجوا تطلعيهم على طول ويلا روحي شوفي اللي فالمطبخ خلصوا الأكل ولا لسه)
رمقتها نجاة بغيظ من خلف ظهرها قائلة بصوت تحاول أن تظهر به الإحترام (حاضر ياهانم)
بعد مرور نصف ساعة تقريباً وقفت سيارة فارهة أمام الڤيلا ..أسرع الحارس بفتح البوابة الألكترونية ليسمح لها بالدخول إلى الجراچ مهرولاً بجوارها حتي يوصلها كما أمرت رويدا الخادمة أن تخبره.. صُفَتْ السيارة ونزلت منها فتاة بارعة الجمال ترتدي نظارة شمسية باهظة الثمن .. جسدها الممشوق يظهر مرسوماً بوضوح سافر داخل فستانها الضيق الذي يبرز منحنياتها بإغراء تتعمده كلما أتت لهذا المكان على أمل أن يلتفت إليها ريان .. خصلاتها المصبوغة بأحدث ألوان صالونات التجميل تصل لمنتصف ظهرها بعناية.. تتهادى في مشيتها بدلال مائع ضاربة الأرض بحذائها ذو الكعب العالي بصلف شديد.. توزع نظراتها المُتَكَبِرة على كل ما تنظر إليه عينيها الملونة بعدسات لاصقة رمادية .. تسير بجانبها سيدة يبدو على معالمها الثراء تشبه رويدا كثيراً في ملامحها وغرورها.. يعتلي وجهها كبرياء يميز تلك العائلة الأرستقراطية بشكل يثير النفور ... إستقبلتهما الخادمة بترحيب شديد وقامت بتوصليهما حيث أمرتها سيدتها التي قابلتهما بإبتسامة منمقة قائلة بسعادة ( كل ده عشان تيجوا انا مستنياكم من بدري )
مدت چيسي يدها لتصافح خالتها (وحشتيني موت يا أنطي)
إقتربت نهى من أختها تهديها عناقاً متملقاً قائلة بتعالي لايختلف عن التي تتميز به رويدا (سوري يارودي ..چيسي لازم تقف بالساعات قدام المرايا عشان تلبس)
بادلتها رويدا تحيتها بمجاملة (طبعاً لازم تلبس وتتشيك إنتِ ناسية هي بنت مين ؟وهتبقى مرات مين؟ )
رفعت چيسي حاجبها بتكبر ثم اتجهت نحو المقعد لتجلس واضعة ساق فوق الأخرى قائلة بثقة زائدة (قريب أوي هابقى العروسة المنتظرة)
نظرت نهى لإبنتها بإبتسامة فخورة قائلة بمزاح ( شوفي البنت مش مكسوفة خالص .. آه منهم بنات اليومين دول )
ضحكت رويدا مؤكدة على كلام إبنة أختها (وتتكسف ليه؟.. الكل عارف إن چيسي ل ريان وريان ل چيسي)
إتسعت إبتسامة نهى هاتفة بسعادة (إحنا عايزين نحدد ميعاد الفرح عشان نلحق نجهز نفسنا بسرعة)
رمقتها رويدا بعيون يلتمع بها الكبر وأردفت (أكيد طبعاً لازم نتفق علي كل حاجة)
تلفتت نهى حولها بترقب متسائلة ( فين ريان؟ هو مش عارف إننا جايين انهاردة عالعشا؟)
نظرت رويدا لساعة يدها ثم قالت بإرتباك خوفاً من عدم مجيئه لكنها تظاهرت بالثبات (زمانه على وصول ..إنتِ عارفة يا نانا هو بيحب شغله إزاي ومايقدرش يغيب عن الشركة ولا يوم )
تحدثت چيسي بإهمال وهي تتفحص مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاتفها الأيفون (أنا مش عارفة إيه التخلف اللي هو فيه ده؟ .. واحد زيه عنده الملايين دي كلها يروح الشغل ليه أصلاً؟ بجد يا أنطي إبنك غاوي وجع دماغ)
أرجعت رويدا ظهرها للخلف تقول بحزن مصطنع (أنا نفسي يستمتع بشبابه ويعيش حياته بس مش قادرة عليه.. راسه ناشفة وهمه كله عالشغل حتي مالوش أصحاب غير كريم )
إستغلت نهى الموقف لتفتح موضوع زواج إبنتها من ريان قائلة بمزاح سخيف ( بكرة لما يتجوز چيسي هتخليه فرفوش زيها ويتمتعوا سوا بفلوس أبهاتهم)
نظرت رويدا لچيسي مبتسمة (أكيد چيسي هاتعوده على طبعها وتعلمه اللي ماعرفتش أعلمه له طول حياتي)
جاوبتها چيسي بإبتسامة متعالية ( it's sure يا أنطي .. أنا چيسي الصراف ملكة الحفلات والإنبساط كله ومش معقول جوزي يبقى مقفل بالشكل ده)
بادلتها رويدا إبتسامتها بأخرى أكثر غروراً قائلة (طبعاً ياروحي.. إنتِ هتعرفِ تسيطرِ عليه)
إعتدلت چيسي في جلستها ترجع ظهرها للخلف قائلة بنفس تعاليها ( ميرسي يا أنطي)
نهضت رويدا من مقعدها مستأذنة منهما بأرستقراطية (عن إذنكم هاروح أتصل بسعد وريان عشان العشا)..
إنصرفت متجهة داخل الفيلا لتتصل هاتفياً بريان متحدثة بحنق شديد (ألو.....إنت فين ياريان؟)
أجابها ريان بضيق واضح (أفندم ياماما)
هدرت به عالياً كنوع من التوبيخ على تعمده التأخر في تنفيذ أمرها (إتأخرت كدة ليه؟ )
تنهد ريان بنفاذ صبر من لهجتها المستفزة (كان عندي إجتماع فالنادي مع عملا مهمين)
تسائلت رويدا بغضب (فاضلك كتير؟)
تعالت نبرة صوته بعصبية رغماً عنه (مش عارف والله لما أخلص هاجي)
ردت عليه رويدا بعصبية مماثلة ( يعني إيه؟ ..هو أنا مش مكلماك وقايلالك ان خالتك وچيسي معزومين عالعشا انهاردة؟)
حاول ريان تمالك أعصابه قائلاً بلهجة أخف حدة (حاضر ياماما هاحاول آجي بدري سيبيني أخلص بقا )
لم تفقد رويدا نبرتها المحذرة قائلة بنفس حدتها (نص ساعة بالكتير وتكون هنا)
لم تمهله فرصة للرد وأغلقت الخط بتعنت ورسمت إبتسامة زائفة علي وجهها ثم دخلت حيث تجلس چيسي ووالدتها متشدقة بأسف مصطنع (سوري يابنات ريان كان عنده إجتماع مهم)
بعد وقت ليس بقليل وصل سعد إلى الڤيلا و سأل نجاة عن رويدا فأخبرته أنها برفقة ضيفاتها الغير مرغوب بوجودهن.. صعد إليهن يحاول التظاهر بالترحيب حيث أنه لايحب أخت زوجته وإبنتها ويتأفف كثيراً من تكرار زيارتهن لأنه على علم بغضب ريان من تعمد والدته وضع چيسي أمامه طوال الوقت.. إتجه نحوهن راسماً إبتسامة سخيفة على شفتيه مرحباً بهن بمجاملة زائفة (أهلاً وسهلاً بيكم يامدام نهى البيت نور بوجودكم)
صافحته نهى بإبتسامة آنفة ( ميرسي كتير )
وجه سعد حديثه لچيسي محاولاً اخفاء غضبه من جلستها الغير مهذبة وعدم مراعاتها لوجوده ( إزيك ياچيسي؟ )
رفعت چيسي عينيها إليه بإهمال قائلة ( I'm fine يا أنكل إنت أخبارك ايه؟ )
نظر لها شزراً من طريقتها الوقحة ثم أجابها بملامح ممتعضة (كويس الحمدلله)
وجهت رويدا حديثها لزوجها متسائلة (ريان ماجاش معاك ليه؟)
رد عليها بعدم إكتراث (إن شاء الله على وصول .. نخلي نجاة تحضر العشا عشان الضيوف؟)
نظرت له چيسي بدلال مصطنع قائلة (لا لما ريان ييجي )
إلتوت شفتي سعد بإبتسامة حانقة ( مفيش مشكلة خدوا راحتكم البيت بيتكم)
*********
علي صعيد آخر /
أنهى ريان مقابلة العمل وأستقل سيارته مع كريم وبعد دقائق من إتمام مهمة توصيل رفيقه لمنزله وصل إلى الڤيلا .. زفر بضيق عندما وجد سيارة چيسي مصفوفة في الجراچ لاعناً الحظ الذي أوقع هذه المصيبة على رأسه وإضطر أن يدخل من الباب الخلفي تجنباً للقائها .. تسلل بحذر نحو المطبخ ليرى مربيته ويداعبها كالمعتاد ..سار بخطوات هادئة حتى لا تنتبه لوجوده واقترب منها يهمس خلف أذنها بمرح ( نوجا حبيبتي )
شهقت نجاة بفزع واضعة كفها على صدرها ( بسم اللّه الرحمن الرحيم )
عبس ريان متصنعاً الحزن ثم تحدث بطفولة محببة إليها (إيه ياست إنتِ شوفتِ عفريت؟ )
إحتوت نجاة وجهه بين كفيها قائلة بحنان (يقطعني ياحبة عيني والله ما أقصد)
دغدغها بأنامله قائلاً بمزاح (أنا هاعرف آخد حقي إزاي )
قهقهت بشدة تقول من وسط ضحكاتها (بس ياواد بغير قلبي هيقف من الضحك)
أمسك ريان كفيها يقبلهما بحب قائلاً (سلامة قلبك.. بعد الشر عليكِ)
مسحت على وجنته تنظر له بحنو بالغ (تسلملي ياحبيبي وما اشوفش فيك حاجة وحشة ابداً )
سألها غامزاً بعبث ( طابخة إيه لحبيبك انهاردة من إيديكِ الحلوين؟)
مطت شفتيها بضيق ملوحة بحركة من كفيها حول وجهها تعبيراً عن إستيائها (الست رويدا هانم موصياني أعمل أصناف شرقي وغربي علي شرف عروسة الهنا)
إختفت إبتسامة ريان قائلاً بضيق حقيقي هذه المرة (ليه السيرة دي ماحنا كنا ماشيين كويس)
إقتربت منه قائلة بخفوت (البت دي ماتنفعكش ياريان ..ماتتخيرش عن الست والدتك ف رخامتها ومناخيرها المرفوعة.. حاجة كده حلاوة صناعي وانت ياحبيبي تستاهل الجمال الرباني اللي من برا و جوه)
ضيق نظراته يمازحها بخبث ( قصدك انها نافخة من جوه ولا إيه؟ )
ضحكت نجاة قائلة (مش بعيد والله تلاقي كل حاجة فيها تركيب )
احاط كتفها بذراعه يبادلها ضحكاتها ( إنتِ مش خايفة أمي تسمعك؟)
وضعت يدها على صدره قائلة ببشاشتها التي تهون عليه معاناته داخل هذا المكان (ماتسمع انا بقول الحق و رزقي على الله )
أجابها ريان بمرح ( أحبك أنا يابو قلب جامد... المهم بقا هتأكليني إيه انهاردة؟ )
همست نجاة مبتسمة بحب ( عاملالك مسقعة باللحمة المفرومة)
قلدها ريان هامساً بنفس طريقتها (مشطشطة؟ )
حركت حاجبيها لأعلى هبوطاً ونزولاً قائلة ( مولعة وهتاكل صوابعك وراها )
داعب وجنتيها بأنامله قائلاً ( أنا هاطلع أوضتي بشويش وهاتيلي المسقعة فوق من غير ماحد من الهكسوس ياخد باله)
إتجهت نجاة نحو الأواني الموضوعة فوق الموقد لتبدأ في تجهيز طعامه قائلة (من عينيا بس يارب مانتقفش)
ضحك ريان على طريقتها ثم قال وهو يتحرك للخارج ( بسرعة أنا واقع من الجوع )
تركها وصعد لغرفته وبعد دقائق قليلة لحقت به تحمل صينية معدة له خصيصاً لأنه لا يحب الأطعمة الغريبة التي تضعها والدته في قائمة الطعام كل يوم .. وما أن رآها حتى أسرع في تناولها منها ووضعها علي المنضدة المقابلة للفراش وأصر ان تجلس بجواره ليتجاذب معها أطراف الحديث
شرع في الأكل قائلاً بتلذذ (تسلم إيدك يانوجا المسقعة تحفة )
نظرت له نجاة قائلة بإبتسامتها المحببة لديه ( ألف هنا على قلبك ياحبيبي )
بادلها إبتسامتها بأخرى قائلاً وهو يلوك قطعة الخبز في فمه (صحيح جوزك عامل ايه؟)
حركت نجاة فمها يميناً ويساراً دليلاً على إستيائها (قطع وقطعت سيرته اهه متلقح فالبيت لاشغلة ولا مشغلة)
نفض يده من أثر الطعام قائلاً بصوت يبدو عليه التأثر ( لا حول ولا قوة إلا بالله.. ماتزعليش ياحبيبتي مفيش حد بياخد اكتر من نصيبه)
تنهدت نجاة بقلة حيلة (أنا بحمد ربنا إني ماخلفتش منه كان زماني متشحططة وهو عامل زي راس الكرنبة مفيش منه فايدة)
انفجر ضاحكاً على كلماتها ثم قال (يخرب عقلك إنتِ بتجيبِ الكلام العسل ده منين؟)
تبادلت معه الضحكات قائلة بكلمات دائماً ما تدلله بها (والنبي انت اللي عسل )
تحولت ضحكته إلى ابتسامة رقيقة قائلاً بإمتنان لها على رعايتها التي تحيطه بها منذ صغره (ربنا يخليكِ ليا أنا بحس معاكِ اللي مابحسوش مع أمي والغريبة انها عايزة تبليني بواحدة زيها)
خبطت على صدرها شاهقة بفزع (تف من بوقك إن شالله تغور ولا تلاقيلها حد تاني ترمي بلاها عليه )
ضحك ريان على طريقتها المحببة إلي قلبه رافعاً ذراعيه لأعلى يؤمن على دعائها (اللهم آمين )
إقتربت منه غامزة بعبث ثم سألته (يعني مفيش فالقلب حاجة كده ولا كده؟ )
أجابها مازحاً (والحاجة اللي بتيجي ف القلب دي هاتجيلي منين؟.. أنا من البيت للشغل ومن الشغل للبيت)
فاجأته نجاة بسؤالها مجدداً ( إنت عايز عروستك تبقى عاملة ازاي؟)
إبتسم ريان ثم تحدث بنظرات ساهمة (بتمنى واحدة مختلفة .. فيها حاجة مش في حد وتكون عارفة ربنا وأخلاقها كويسة ..عايزها جميلة أوي وماحدش يشوف جمالها غيري.. تبقى بتاعتي ليا أنا وبس وتحبني عشاني مش عشان فلوس ابويا)
ربتت نجاة على وجنته داعية له بصدق ( ربنا يرزقك باللي ف بالك )
نظر إليها قائلاً بحب (أنا متأكد إني هالاقيها طول ماانتِ بتدعيلي)
نهضت نجاة من مكانها مبتسمة ثم أردفت (بدعيلك ياحبيبي ف كل صلاة .. المهم دلوقتي خلص أكلك بسرعة قبل ما المفتش كرومبو يطب عليك )
حرك ريان رأسه قائلاً وهو يضحك ( مش عارف ليه حاسس إنك هتتقفشي قريب)
رفعت كفيها أمام وجهها داعية بمزاح (ربنا يجعل كلامنا خفيف عليها )
نهض ريان ايضاً من مكانه قائلاً (الحمدلله شبعت تسلم إيدك )
حملت نجاة صينية الطعام متجهة خارج الغرفة قائلة (تسلملي ياضنايا)
اتجه ريان نحو خزانته يفتحها قائلاً ( هاغير هدومي بسرعة وأروح أسلم عليهم.. بس بقولك إيه أنا لا شفتك ولا إنتِ شفتيني )
غمزت له ثم تحركت نحو الباب قائلة بمرح ( ولا أعرفك ياحضرة الظابط )
راقب خروجها بابتسامة على حركاتها التي تهون عليه الكثير مما يعانيه في هذا المكان الذي يضيق به يوماً تلو الآخر.. أخذ منشفته ثم دلف إلى الحمام ليغتسل ويبدل ملابس العمل بأخرى أكثر راحة وما ان هم بالخروج من الغرفة حتى تفاجأ بطرقات على الباب .. فتح ليجد والدته تقف أمامه يعتلي وجهها معالم الدهشة والإستياء في آنٍ واحد .. سألته رويدا بنظرات حادة (إنت جيت إمتى وطلعت أوضتك ازاي من غير مانحس بيك؟)
أجاب سؤالها بسؤال متعجباً (حضرتك عرفتِ منين إني هنا ؟)
ردت عليه بملامح ممتعضة (شوفت عربيتك تحت .. وبعدين إيه اللي خلاك تتسحب من غير ما تسلم على خالتك وبنتها؟)
تنهد ريان ثم مرر أصابعه بين خصلاته الناعمة قائلاً بنفاذ صبر (طلعت أغير هدومي عشان أعرف أرحب بضيوفك الكرام )
رمقته بغيظ من طريقته وتحركت نحو الدرج قائلة بلهجة آمرة ( يلا العشا جاهز وكلنا مستنيينك)
سألها قبل أن يسير خلفها (بابا موجود ولا هتاكلوا من غيره؟)
إلتفتت إليه رافعة حاجبها بضيق (آه موجود ويلا بقا مش هنقضي اليوم كله هنا)
همس ريان في نفسه (ياريت والله نقضيه هنا وتحلوا عن دماغي)
سألته بتحذير لتتأكد مما وصل إلى مسامعها (بتقول حاجة؟)
أشار بيده أمامه قائلاً بسخرية (بقول يلا ننزل قبل ما الأكل يبرد )
سار ريان ورائها بجزع شديد .. يشعر بحجر ثقيل يطبق على أنفاسه في كل مرة تجبره والدته على التعامل مع أشخاص لا يرغب في رؤيتهم من الأساس وأكثر مايجرح كرامته أن يُرْغَم على فعل شئ دون إرادته..وصل إلى غرفة الطعام بملامح جامدة وما أن رأته چيسي حتى شهقت راكضة لترتمي بين أحضانه وتقبله من وجنتيه بتحية يغضب منها كثيراً لكنه إبتعد سريعاً يحدجها بنظرات تحذيرية .. شعرت بالإحراج من ردة فعله ثم سألته بميوعة لزجة (فيه إيه ياريونتي؟.. هو انا مش وحشاك زي ما إنت واحشني ؟)
أجابها بتعابير تعكس مايدور بداخله (انتِ عارفة اني مابحبش الطريقة دي)
رمقته بتعجب قائلة (إنت إبن خالتي وقريب اوي هاتبقى جوزي)
صك أسنانه بغضب شديد هامساً ( أستغفر الله العظيم... )
سألته بنظرات متفحصة (مابتردش ليه؟.. مش ده اللي هيحصل ؟ )
تهرب ريان من أسئلتها متوجهاً بالحديث إلى نهى التي كانت تراقب مايحدث بملامح واجمة من معاملته السيئة لإبنتها ومد يده ليصافحها (إزيك ياخالتو؟.. عاملة إيه؟)
بادلته نهى مصافحته هازئة ( ازيك ياريان ياحبيبي .. هاتبوسني ولا هاتبعد عني أنا كمان؟)
شعر بحرج شديد من كلماتها المبطنة بسخرية واضحة واضطر ان يميل عليها ليقبلها من وجنتيها قائلاً بهدوء زائف (لا طبعاً .. إنتِ خالتي وينفع أبوسك وأحضنك)
إنفعلت چيسي من تلميحاته قائلة بغضب (فيه إيه ياريان ماتطردني أحسن )
تجاهلها متجهاً نحو والده الذي يجلس بضيق شديد مما يحدث وإنحنى على يده ورأسه يقبلهما قائلاً بإبتسامه عذبة (حمدالله عالسلامة يا بابا)
تحدثت نهى بنبرة ساخرة (إيه الحركات ال local دي هو فيه حد لسه بيبوس إيد باباه ياريان؟)
رمقها سعد بغضب ثم أجابها (دي إسمها تربية وإحترام يا مدام نهى ..وإن شاءالله إبني يربي ولاده زي ما جده وجدته ربوه )
أحست نهى بإحراج بالغ وكأنه سكب فوق رأسها دلواً من الماء البارد فتنحنحت تداري موقفها (سوري.. ماقصدش)
نظرت رويدا إلى زوجها بحنق شديد وحاولت تهدئة الأجواء قائلة (اتفضلوا ياجماعة العشا جاهز )
بدء الجميع بتناول الطعام وسط أجواء مشحونة بالتوتر.. ماعدا ريان الذي بدى عليه الشبع وأنه يجلس معهم كنوع من المجاملة..يتحدث هو ووالده حول أوضاع الشركة وما أنجزه على صعيد العمل .. نظر كلاً من نهى وچيسي إلى رويدا ففهمت أنهما ترغبان في تغيير مسار هذه الجلسة المملة
وجهت رويدا الحديث إلى زوجها بإستياء (إيه ياسعد إحنا هنقضي القعدة كلام في الشغل ولا إيه؟)
أجابها سعد وهو ينظر لولده بفخر شديد (أصل ريان أنجز صفقة مهمة جداً انهاردة)
تحدث ريان مبتسماً (فعلاً ياماما إنهاردة مضينا عقود صفقة هتنقل الشركة نقلة تانية خالص)
ردت عليه بعدم إهتمام (whatever خلونا نتكلم فأي حاجة تانية غير الكلام الممل ده)
حدجها سعد بغضب (مستقبلنا ومستقبل شركتنا كلام ممل؟)
حركت رأسها مستنكرة ثم أردفت ( لا ماقصدش بس يعني حاولوا تفكوا من جو الشغل شوية)
تدخلت چيسي موجهة الحديث لريان (إنت ماجربتش تسافر تتفسح فأي مكان تغير جو؟)
جاوبها ريان بثبات إنفعالي زائف ( سافرت مع تيتا وجدو إسكندرية)
إمتقع وجهها بتقزز (إسكندرية؟!.. دي local اوي أنا أقصد مكان بره مصر.. يعني مثلاً Europe او USA )
نظر إليها شزراً (لا والله ماحصليش الشرف)
مطت شفتيها بدلع يثير إشمئزازه ( أكيد هانبقى نروح مع بعض ف ال honeymoon بتاعنا )
أشاح بأنظاره بعيداً عنها طاحناً أسنانه غيظاً بسبب حديثها المستفز ولم يرد حتى لا يتهور ويمرغ وجهها في طبق الحساء الموضوع أمامها..لاحظت رويدا معاملة إبنها الجافة لها فحاولت تلطيف الأجواء قائلة (سوري يا حبيبتي أصل ريان مالوش في جو السفر والفسح .. حياته كلها شغل في شغل )
نقلت چيسي عينيها نحو خالتها ثم قالت بغرور (لازم يغير جو ويعمل refresh لنفسه كل فترة..مش معقول الخنقة والكبت ده علي طول)
رمقها ريان بغيظ شديد وقرر أن يخرج عن صمته قائلاً ( أنا مش مخنوق ولا مكبوت بالعكس مبسوط جداً في شغلي ده لو مايضايقش روح إبن بطوطة اللي جواكِ)
ربت سعد على كفه بفخر ( ماهو ده كله مالك ياحبيبي.. وهاييجي يوم تستلم الليلة دي من بعدي )
ابتسم ريان بحب ( بعد الشر عنك يا بابا ..ربنا يجعل يومي قبل يومك )
فزع سعد من كلام ابنه يحذره بخوف (إوعى تقول كده تاني ربنا يفرحك بشبابك ويفرحني بيك وبولادك )
تدخلت نهى في الحديث بخبث (أكيد طبعاً يابشمهندس هنفرح بالولاد قريب)
تجاهل ريان حديث خالته ووجه الكلام لوالده مجدداً (صحيح يا بابا كان فيه دعوة لحفلة بتاعت دار أيتام لاقيتها وسط الجوابات الصبح.. كنت بستأذن حضرتك أحضرها بنفسي)
أجابه سعد بحماس (وماله ياحبيبي ده حاجة عظيمة جداً .. ربنا يجعله في ميزان حسناتك)
نظرت رويدا إلى ريان بغيظ ثم قالت (احنا بنقولك تغير جو تقوم تحضر حفلة فدار ايتام؟!)
سألها ريان بتعجب (وفيها إيه يعني؟!)
ردت عليه بتحذير ( أنا كان عندي إقتراح أحسن .. ماتاخد چيسي وتروحوا تتعشوا في مكان رومانسي )
تهللت أسارير چيسي هاتفة بفرح (فكرة حلوة أوي يا أنطي.. أنا أعرف مطعم هايل فيه ديسكو تحفة)
رمقها ريان قائلاً بضيق (أنا بكرة هاحضر الحفلة بتاعت دار الأيتام)
قاطعته نهى قائلة بلؤم (خلاص خد چيسي معاك )
نظرت چيسي إلى والدتها متعجبة من اقتراحها ثم قالت بامتعاض شديد (أنا أحضر حفلة ف دار أيتام؟!..مستحيل طبعاً)
لم يعقب ريان على حديثها الذي أثبت وجهة نظره فيها موجهاً الحديث إلى والده (بعد إذن حضرتك يا بابا هاخد كريم معايا )
أجابه سعد بهدوء (ماشي ياحبيبي إعمل اللي يريحك)
تدخلت رويدا في الحديث قائلة بحماس( خلاص يبقى بعد بكرة نقضي اليوم فالنادي مع بعض)
زفر ريان بغضب وهم بترك المائدة قائلاً (عن إذنكم )
أمسك سعد بكفه متسائلاً (رايح فين؟!.. كمل أكلك)
تحدث ريان بضيق لم يفلح في إخفائه (شبعت)
حدجته رويدا بأعين مشتعلة من الغيظ.. فهي تعلم أنه لا يحب هذه التجمعات لذا قررت وضعه أمام الأمر الواقع وحددت ذلك اليوم لتجمع فيه الأسرتين وتقوم بتلطيف الأجواء بين الجميع بينما إستأذن سعد أيضاً بالإنصراف قائلاً بمجاملة (عن إذنكم ياجماعة خدوا راحتكم البيت بيتكم طبعاً) .. ثم وجه أنظاره إلى ريان قائلاً (تعالى ياريان نكمل كلامنا فالمكتب)
تأكدت نهى من إبتعادهما وانفجرت في اختها بعصبية شديدة (إيه يارودي إبنك مش طايق البنت كده ليه؟!)
أجابتها رويدا بتوتر ( مين قال كده بالعكس ده كل شوية يكلمني عشان يحدد الفرح)
نظرت چيسي إلى خالتها قائلة بحنق بالغ (مش باين يا انطي ده مختلف معايا ف كل حاجة)
أمسكتها رويدا من ذراعها برفق تحاول تهدئتها (ماتزعليش ياحبيبتي هو بس راجع من الشغل مرهق)
تصنعت چيسي البكاء قائلة بدموع كاذبة (بجد ماقدرش أستحمل ابداً الطريقة دي.. أنا كل ليلة في party عند حد من الشلة وبحب السهر وواضح إنه مالوش فالجو بتاعي)
مسحت رويدا على وجنتها لتهدئها قائلة (البركة فيكِ إنتِ تعلميه)
مدت چيسي اطراف أصابعها لتمسح دموعها الزائفة متحدثة بلؤم (خلاص هاصبر لحد مانتجوز وبعدها كلمتي أنا اللي هتمشي)
شجعتها والدتها قائلة بحماس (أيوه كده هي دي چيسي حبيبة مامي)
قاطعتهما رويدا بمهادنة (سيبوا كل حاجة لوقتها المهم الولاد ياخدوا على بعض في فترة الخطوبة)
أرجعت چيسي خصلة من شعرها خلف أذنها قائلة بعدم إكتراث ( مش مهم ناخد على بعض دلوقتي.. لأنه بعد الجواز هو اللي هيتعود على نظام حياتي )
أومأت رويدا برأسها إيجاباً (أكيد ياحبيبتي طبعاً )
وبعد مداولات ومشاورات بين ثلاثتهن لم تستغرق الكثير من الوقت إستأذنت نهى بالإنصراف برفقة إبنتها وودعتهما رويدا علي أمل اللقاء في النادي غداً ..تأكدت من إنصرافهن وإندفعت إلى الداخل وهي في قمة الغضب مما حدث من إبنها تجاههما .. إقتحمت غرفة المكتب تهتف عالياً (إيه اللي هببته ده يازفت إنت؟)
أجفل ريان من صدحها به بهذا الشكل ثم سألها بتعجب (مالك ياماما سايبة خالتي وجاية تتخانقِ معايا ليه؟)
تعالت نبرتها أكثر (خالتك خدت بنتها ومشيت زعلانة من المعاملة الهباب اللي عاملتهم بيها)
أجابها ريان بغضب (إنتِ عارفة إني مش طايقها)
أمسكته من ذراعه قائلة بعصبية مفرطة (إنت ولد ماتعرفش مصلحتك فين )
جذب ريان ذراعه بعنف ورغماً عنه إنفلتت أعصابه هادراً بنبرة عالية (إرحميني بقا أنا مش عيل صغير عشان تغصبِ عليا أعمل حاجة مش عايزها )
صرخت به والشرر يتطاير من عينيها (لا إنت عيل صغير وهتتجوز جيسي غصب عنك)
لم يتمالك نفسه أكثر من ذلك ورد عليها بنبرة يملؤها التحدي (چيسي دي لو آخر بنت فالدنيا مش هاتجوزها)
أنهى حديثه وإنصرف غاضباً من تصرفات والدته التي جعلته يتمنى أن يرحل من هذا البيت للأبد وسط أنظار والده الذي وقف مذهولاً مما يحدث وما أن تأكد من صعوده إلى غرفته حتى هدر بزوجته عالياً ( حرام عليكِ يا شيخة إنتِ مابتحسيش؟)
أشارت رويدا إلى نفسها قائلة بلهجة معاتبة لتستميل عطفه نحوها (أنا برضه بدل ماتقف جنبي وتعقل إبنك؟!)
خبط سعد بكفه علي المكتب صارخاً بها (هي كلمة واحدة تشيلِ موضوع چيسي ده من دماغك وإلا مش هايحصل كويس)
إختفت نظرة الإستعطاف الزائفة من على وجهها ليحل محلها غضباً واضحاً و سألته بلهجة متحدية ( هاتعمل إيه يعني؟)
حدجها سعد بنظرات نارية قبل أن يجيبها محذراً (هاطلقك!) ... صمت لثواني يستجمع أعصابه المنفلتة ثم تابع بلهجة خطرة (أنا فاهم سبب إصرارك على جوازة البت دي من ريان ..طبعاً أبوها مليونير وعايزة تلمِ فلوس العيلتين مع بعض ..مخطط قذر عاملاه مع أختك وبتستغلوا الولد فيه .. بس مش هيحصل ولو سمعتك بتتكلمِ مع ريان فالموضوع ده تاني هارمي عليكِ يمين الطلاق فاهمة ولا لا؟ )
*******************
ماساتي الحبيبات صباح الورد الجوري على عيونكم
🌹🌹🌹🌹🌹🌹
رواية (عيون الريان).. (النسخة المعدلة
بقلم (نيللي العطار)
(الفصل الثالث)
🌹🌹🌹🌹🌹🌹
عند اللقاء الأول
لا تستمع لأي أغنية
ولا تضع أي عطر
وإياك أن تحب المكان كثيراً
ولا تسأل عن السبب
(نزار قباني)
****************
مر الليل على ريان ثقيلاً .. طويلاً .. يشعر بأن المكان يضيق به كثيراً لدرجة لا تسمح بمرور تنهيدة تعبر رئتيه المتعبتين ..الضربات التي يتلقاها من والدته تسقط فوق قلبه وتشل حبه الغريزي لها دون أي إنتباه منها للآلام النفسية التي تسببها له ومن الواضح انها لن تستسلم بسهولة حتي يخضع لرغبتها بشتى الوسائل و مهما سلكت من طرق غير مكترثة لما يريد ولن تكلف نفسها عناء التفكير في رغباته وكأنها لا ترى في هذا العالم شخص يدعى ريان لديه رغبات وأحلام في شريكة حياته .. وبعد عناء طويل مع أفكاره التي أرقت نومه إستيقظ لينهي روتينه الصباحي سريعاً وتعمد التسلل خارج الڤيلا بهدوء حتى يتجنب الصدام معها مجدداً..إستقل سيارته متجهاً لإصطحاب كريم ثم إنطلقا سوياً نحو عملهما ولم يخفي على الأخير ملامح الحزن التي تكسو وجه صديقه فسأله (مالك يا ريان شكلك متضايق كده ليه؟)
أجابه ريان باقتضاب (مفيش حاجة)
تسائل كريم مرة أخرى بقلق من ملامحه الواجمة (مفيش ازاي؟ شكلك باين عليه أوي... إوعى تكون إتخانقت مع چيسي إمبارح )
زفر ريان بضيق بالغ وخرجت الكلمات من فمه مطعونة بسهام ملتهبة ( أنا تعبت ياكريم وإتخنقت من الحصار اللي حواليا.. ومش قادر أتقبل وجود واحدة زي چيسي ف حياتي)
إستفهم كريم عن الأمر أكثر (إنت مش قولت إنك هتديها فرصة وتقرب منها؟ )
ثبت ريان أنظاره على الطريق أمامه ثم أردف (أنا فعلاً كنت ناوي أعمل كده بس الجواب باين من عنوانه )
حاول كريم التفكير معه في حل لتلك المعضلة متسائلاً (وهتعمل إيه فالمشكلة دي؟)
رد عليه ريان بقلة حيلة ( مش عارف ومش قادر أفكر ف أي حاجة )
تحدث كريم بحماس محاولاً التخفيف عنه (تعالى أقعد عندي يومين تغير جو وتريح أعصابك )
تنهد ريان بعمق شديد (بفكر أروح عند جدي لحد مالأمور تهدى )
ضحك كريم بسخرية ( إنت عايز تفتح على نفسك نار جهنم؟ .. الست والدتك هاتقيم عليك الحد لو عملتها )
زفر ريان بعصبية مفرطة ( تعمل اللي تعمله أنا خلاص جبت آخري )
أشفق كريم عليه كثيراً مما يتعرض له من ضغوطات نفسية وربت على كتفه بحب يواسيه (إهدى بس وأنا هاروق عليك بالليل )
تذكر ريان أمر حفلة دار الأيتام قائلاً (صحيح فكرتني أنا رايح حفلة بالليل وعايزك تيجي معايا )
فرك كريم كفيه ببعضهما سريعاً بمزاح (أوبا.... حفلة مرة واحدة... أيوه كده يامعلم عايزين نظبط الدنيا )
نظر ريان إليه باستغراب ( إنت دماغك راحت فين؟.. دي حفلة عاملاها دار وسيلة للأيتام قولت لبابا إني عايز أحضرها وهاخدك معايا )
رفع كريم حاجبه متزامناً مع شفته العليا مستنكراً (أيتام ؟ وأنا اللي كنت مفكرك هتاخدني حفلة لكايروكي ولا شارموفرز )
خبطه ريان على مؤخرة رأسه (هتفضل طول عمرك تافه )
حك كريم مكان الخبطة متأوهاً بألم زائف ( تافه بس بعرف أتبسط وأروش نفسي )
ضحك ريان على حركاته (طب إعمل حسابك إنك هاتيجي معايا ياعم الروش )
مط كريم شفتيه باستسلام (خلاص هاجي معاك و أمري لله.. بس الحفلة دي يتلبسلها ايه؟ )
أجابه ريان ساخراً (أي حاجة كلاسيك إنت مش رايح عيد ميلاد إبن أخوك )
إبتسم كريم على دعابته (ماشي ياخفيف.. واهه تبقى تجربة جديدة)
************
في فيلا سعد زين الدين /
لم تستطع رويدا النوم طوال الليل بسبب ماحدث مع إبنها وزوجها .. تفكر في حل لإتمام هذا الزواج بأي طريقة مهما كلفها الأمر.. لم تتقبل تحدي ريان الصريح لها ولرغباتها .. شخصيتها العنيدة المتسلطة لاتستوعب معارضته لقراراتها ... فكيف له أن يجرؤ على الوقوف أمامها برفض صارخ لما تفرضه عليه وكأنه طفل صغير يحتاج إلى توجيه مشاعره نحو ما تأمره به دون إرادته.. تمارس عليه فروض أمومتها التي تخلت عنها منذ تركته يعيش في كنف جدته .. لا تدرك أنه تخطى مرحلة الطفولة وأصبح شاب يحتاج إلى مساحة حرة بعيداً عن الأسوار التي تبنيها حوله.. لكنها غير منتبهة أن تلك الاسوار ماهي إلا حواجز تعلو بينه وبينها يوماً عقب الآخر حتى جعلت منها شبح أم لا تعني له شيئاً سوى ضغوطاً ستولد إنفجار حتمي إذا لم ترخي تلك الحبال اللعينة التي تقيد علاقته بها.. وماجعل الدماء تغلي في عروقها مساندة زوجها لقراره وتهديده لها بالطلاق إذا فتحت الموضوع ثانية.. كشفه لكل أوراقها التي تلعب بها من وراء ظهورهم ومواجهته معها بما تحيكه من مخطط لزيادة ثروات العائلتين جعلها عارية التفكير أمامه .. ومن ناحية أخرى تفكر كيف ستتصرف مع أختها وإبنتها بعد إعطائهما الأمل في إتمام الزواج كما تخطط له ... هي تعلم جيداً أن چيسي غير مناسبة لريان ومدركة للفروق الكثيرة بين نمطي حياتهما بالإضافة إلى عدم وجود إنجذاب عاطفي بينهما وخاصة من ناحية إبنها.. لكن العواطف ستتبخر أمام الثروة والنفوذ فالحقيقة وراء رغبتها الملحة في هذا الأمر هو الإستفادة من أذرع زوج أختها الطائلة داخل الأوساط المخملية بصفته واحداً من أكبر رجال الأعمال الذين يمتلكون القوة والسلطة .. هكذا كانت تفكر غير عابئة بشئ سوى ماتراه صحيحاً من وجهة نظرها ضيقة الأفق.. متمادية في أخطائها داعسة على مشاعر أقرب الناس إليها تحت حذائها ذو الماركة العالمية ولن تستفيق إلا بعد وقوعها في شرك سيُجْهِز على ماتبقى من إحترامه لها إلى الأبد ..وبعد وقت طويل إستغرقته في التفكير لم يسعفها عقلها لإيجاد حل لتلك المشكلة فإضطرت أن تهاتف أختها وشريكتها في جميع خططها لتقابلها بالنادي حيث تقام هناك إجتماعاتهما السرية حتى تتدبر الأمر بمساعدتها .. وبالفعل أنهت روتينها الصباحي وفي غضون النصف ساعة تقريباً كانت تدخل من البوابة الرئيسية بخيلاء كعادتها.. تنظر بتكبر لكل من يمر أمامها حتى إستقرت أنظارها فوق الطاولة الجالسة عليها نهى.. اندفعت نحوها سريعاً بملامح واجمة يبدو عليها القلق والتوتر.. تخفي عينيها المتعبتين من قلة النوم وراء نظارتها القاتمة.. ألقت التحية بنبرة لا تبشر بخير وجلست بضيق بالغ على الكرسي المقابل لها ..
ردت نهى تحيتها بتوجس (أهلاً رودي أنا مستنياكِ من بدري)
رفعت رويدا النظارة السوداء على مقدمة رأسها متعللة (سوري الطريق كان زحمة)
سألتها نهى بتوتر عندما لاحظت شحوب وجهها وتورم الجيوب أسفل عينيها (طمنيني في إيه؟؟ )
دلكت رويدا مقدمة رأسها بأطراف أصابعها ثم أجابتها بتعب (مش خير أبداً .. ريان مش عايز يتجوز چيسي )
شهقت نهى بصدمة (إيه؟ .. إنتِ مش قولتِ إنك بتحاولِ تضغطِ عليه؟)
تنهدت رويدا بيأس ( مش قادرة ومابقيتش عارفة أتصرف )
تسائلت نهى مرة أخرى بخوف ( وبعدين هانعمل ايه؟ )
ردت عليها رويدا بقلة حيلة (المشكلة دلوقتي مابقيتش ف ريان لوحده .. سعد إمبارح اتخانق معايا وهددني بالطلاق لو فتحت موضوع الجواز ده تاني )
وضعت نهى كفها على فمها شاهقة (ياخبر.. دي بقيت فعلاً مشكلة)
مالت رويدا بجذعها إلى الأمام مستندة بمرفقيها على الطاولة ثم قالت بتركيز (عايزين نفكر هانحلها إزاي)
إقتربت منها نهى بحركة مماثلة قائلة (مش عارفة يا رودي ومش ضامنة رد فعل چيسي لو عرفت الكلام ده )
إلتمعت عيني رويدا بوميض خبيث متحدثة بثقة (أنا عندي فكرة لو اتنفذت صح ريان هايبقى ف جيبنا)
سألتها نهى بتحفز (هي إيه؟)
رفعت رويدا حاجبها الرفيع قائلة بتأكيد ( نضغط عليه بطريقة تانية)
تسائلت نهى بنفاذ صبر ( إزاي فهميني؟)
أجابتها رويدا ضاغطة على كل حرف تتفوه به (چيسي ترسم عليه إنها إتغيرت .. يعني تجيب شوية هدوم مقفلة و تحاول تشوف هو بيحب إيه وتعمل نفسها مهتمة بيه)
نظرت نهى إليها بعدم إقتناع (وتفتكرِ ريان هايصدق إنها إتغيرت فجأة؟)
أرجعت رويدا ظهرها تستند على ظهر كرسيها قائلة (والله إحنا نحاول معاه)
تحدثت نهى مرة أخرى بتوتر (ولو حتى ريان إقتنع ..أنا هاقنع چيسي تعمل كده إزاي؟ )
لوحت رويدا بيدها قائلة بغيظ من طريقة أختها الضعيفة (اتصرفي يانهى وإقنعيها لحد ماتجيب رجله فالجوازة وبعدين تبقى تعمل اللي هي عايزاه )
أجابتها نهى بموافقة (أوك هاحاول هاقنعها)
إرتسمت ابتسامة غير مريحة على وجه رويدا (أيوه كده شغلي دماغك معايا خلينا نلم فلوس العيلتين مع بعض)
بادلتها نهى إبتسامتها بأخرى مجاملة (هاعمل اللي أقدر عليه)
***************
على صعيد آخر /
حاول ريان إنجاز عمله مبكراً حتى يستطيع اللحاق بموعد الحفل.. لا يعلم السر وراء حماسه للحضور .. لأول مرة في حياته يتحفز لشئ بهذا الشغف والأمر إستحوذ على جزء كبير من تفكيره وباءت محاولاته في إقناع نفسه بأنه مجرد حفل مقام بدار أيتام أقصى ماسيميزه وجود عدد كبير من الأطفال بالفشل .. لكن صوت قلبه يتردد صداه داخله أن يسرع حتى يقطع الشكوك التي تدور برأسه وأثناء جلوسه الهادئ في مكتبه إنتبه لرنين الهاتف باتصال من والده يطلبه حتى يجلب له بعض ملفات العمل.. إمتثل لأمره وإتجه إليه بما يريده.. دلف إلى الداخل بعد أن أذن له سعد ملقياً التحية (السلام عليكم)
رد عليه والده تحيته مبتسماً (وعليكم السلام .. تعالى يا ريان أقعد)
ناوله الملفات التي طلبها متحدثاً بملامح مكفهرة (إتفضل الملفات اللي حضرتك طلبتها كلها جاهزة وواقفة على التوقيع)
إنتبه سعد لوجوم وجهه فسأله بقلق (مالك ياحبيبي؟.. شكلك متضايق كده ليه؟)
زفر ريان بتعب (مخنوق يا بابا ومش قادر أتحمل ضغط ماما عليا بالشكل ده)
ربت سعد على كفه بحنان (ماتقلقش أنا إتكلمت معاها وحذرتها إنها ماتفتحش معاك سيرة الجواز دي تاني)
سأله ريان بنبرة فَرِحَة (بجد؟)
أجابه سعد بابتسامته الحنونة (طبعاً بجد .. أنا مش هاسمح لحد يخليك تعمل حاجة غصب عنك خصوصاً إني مابحبش البنت دي ومش شايف فيها خير ليك)
نهض ريان من مكانه يقبل رأس والده وكفيه قائلاً بامتنان (ربنا يخليك ليا )
مسح سعد على وجنته بحب شديد (ويخليك إنت كمان ليا.. سعادتك أهم حاجة فالدنيا عندي )
تحدث ريان مازحاً بشقاوة محببة لأبيه ( بمناسبة الحب الأبوي الجميل ده ينفع أتقل على حضرتك إنهاردة؟)
ضحك سعد على طريقته التي تثلج صدره ( محتاج فلوس ولا إيه؟ )
رد عليه بخجل (الحمدلله معايا..أنا كنت عايز أمشي بدري إنهاردة مع كريم عشان نستعد لحفلة دار وسيلة )
أومأ له سعد إيجاباً (مفيش مشكلة بس إستنى أكتبلهم مبلغ )
نظر ريان إليه برجاء (من فضلك يا بابا خليني آخد الثواب المرة دي)
أمسك سعد بدفتر الشيكات قائلاً بمزاح (ياطماع عايز تكسب الثواب لوحدك؟)
إبتسم ريان على دعابته (مش قصدي والله )
مد سعد يده إليه ليعطيه الشيك يعاتبه بلطف ( ده واجبنا وكله من فضل ربنا)
تناوله ريان منه قائلاً وهو ينهض (ربنا يتقبل مننا ان شاء الله.. أستأذن عشان ألحق أوصل كريم)
ودعه سعد داعياً ( في حفظ الله ورعايته )
خرج ريان من مكتب والده يختلج صدره مشاعر غريبة..يحاول تجاوز تحفزه الغير منطقي لشئ عادي فالكثير من دور الأيتام يقومون بحفلات خيرية من حين لآخر.. الأمر طبيعي ويحدث كل يوم بأماكن متفرقة بالإضافة إلى أنه ليس مراهق ليتحمس بهذا الشكل للحضور لكنه أرجأ مايراوده من أحاسيس لكثرة الضغوطات التي يمر بها فعلى مايبدو أنه أصبح أكثر بؤساً ليعتقد أن ذلك الحفل سيخرجه ولو قليلاً من بين فكي اليأس الذي يمضغه ويدهسه على قارعة طريق الإحباط.. وصل إلي الڤيلا بعدما قام بتوصيل كريم إلي منزله على وعد باللقاء مرة أخرى لينطلقا سوياً ثم صعد إلى غرفته سريعاً لينهي إستعدادته .. أخرج طقماً كلاسيكياً من خزانته وأخذ منشفته ودلف إلى الحمام ليغتسل وبعد دقائق خرج يلف خصره بمنشفة ويجفف شعره بأخرى..وقف أمام المرآة يتأمل قطرات المياه المتساقطة من شعره فوق جسده بشرود وكأنه يحل معضلة الجاذبية الأرضية .. يتسائل في نفسه لماذا يشعر أن اليوم سيكون فارقاً بالنسبة له؟.. ولماذا يرى الأمل يطل من بطاقة الدعوى التي أتت لأوراق عمله بالخطأ؟.. إبتسم على سيل التساؤلات الذي لا يتوقف بذهنه وبالرغم من عدم تأكده من صدق إحساسه إلا أنه كان متفائلاً .. حريصاً على الذهاب في الموعد بكامل أناقته وكأن هذا الحفل سيقام علي شرف حضوره..إنتهى من إرتدء ملابسه ثم نظر إلى ساعة يده وجد الوقت ينفذ.. خرج من غرفته يهبط الدرج بخطوات مسرعة يتأهب للإتصال هاتفياً بكريم وما أن رأته نجاة حتى أخذت تتمتم وتقرأ ماتيسر لها من آيات التحصين حتى يحفظه الله ويبعد عنه العين والحسد فهو كما وصفته كالبدر يوم التمام....
إقترب منها مبتسماً فإحتضنته داعية (ربنا يحميك ياحبيبي زي القمر )
مسح على ظهرها يمازحها بشقاوته المعهودة (أنا كده هتغر في نفسي)
إبتعدت عنه تحتوي وجهه بين راحتيها بحنان (ربنا يرزقك ببنت الحلال اللي تستاهلك)
أمسك كفيها يقبل ظاهرهما مؤمناً على دعائها (اللهم آمين... إدعيلي كتير يانوجا)
مسدت نجاة على رأسه قائلة (بدعيلك في كل صلاة ياقلب نوجا)
أهداها إبتسامة تقطُر عسلاً يقول بإمتنان (تسلميلي ويسلم قلبك يارب)
رفعت سبابتها تحذره بحب ( ماتاكلش بعقلي حلاوة وإعمل حسابك عشان هتتعشى معايا)
ضحك على طريقتها الطريفة (إحتمال أتعشى برا مع كريم )
زمت شفتيها بحنق طفولي (خلاص ملحوقة في وقت تاني )
طبع قبلة عميقة فوق وجنتها مودعاً ( ماشي ياحبيبتي إن شاء الله )
أنهى حديثه معها بنظرة حانية ثم إندفع نحو الخارج مسرعاً يرفع هاتفه على أذنه ليكمل إتصاله بكريم بينما هي وقفت تتابعه بأعين داعية وقلب يتمنى له السلامة والخير في كل خطوة تخطوها قدميه.. ولم تمضِ سوى دقائق قليلة حتى وصل أمام منزل صديقه الذي أطلق صافرات إعجاب ممزوج بالدهشة عندما رآه قائلاً (إيه الحلاوة دي يابشمهندس ريكو؟)
عَدَّل ريان ياقة سترته مازحاً بثقة (دي أقل حاجة عندي )
تخصر كريم في وقفته يرمقه بنظرات ضيقة (اللي يشوفك يقول رايح تخطب ولا تقابل الجو )
رفع ريان ذقنه بتعالٍ زائف (أنا طول عمري شيك أصلاً )
مرر كريم سبابته اسفل أنفه قائلاً بشك (طول عمرك شيك بس الشياكة زايدة إنهاردة حبتين )
أخرج ريان رأسه من السيارة يضحك قائلاً (هولع مكاني من عينك الصفرا يابومة)
مط كريم شفتيه بتهديد (بقى كدة؟!.. خلاص شوف مين اللي هاييجي معاك؟!)
تعالت ضحكات ريان بتوسل ( لا لا لا إركب وهاظبطك فالطريق)
غمز له كريم بشقاوة (هاتشغلي الأغنية اللي بحبها؟!)
أومأ له ريان بنفاذ صبر (هاشغلهالك بس إنجز بقا)
تهلل كريم كثيراً واستقل السيارة بجواره يشغل الكاسيت على توشيح أندلسي دائماً يسمعه مع ريان الذي يفضل هذا النوع من الفن.. صدح صوت موشحين الفرقة بكلمات دغدغت مشاعرهما وجعلتهما يرددا معهم بانتشاء شديد (ظبي من الترك له ... قيودنا مسلّمة
ناديته فقال لي ... برقة چوق سيْلمه
غمزته بناظري ... ولم أفُهْ بكلمة
أجابني حاجبه ... لكن بنون العظمة
وفر مني نافراً ... وراح يرقى سلما
فطار قلبي معه ... لكنّ ربي سلما
إذا تواعد الشجي ... نفّذ فيّ أسهما
وهو إذا وعدته ... أكذب من مسيلمة)
*************
في دار وسيلة علوي /
كان الجميع في حالة تأهب وإستعداد لإقامة الحفل السنوي بمناسبة مرور خمس وعشرون عاماً على إقامته.. وظلت مريم بغرفة الموسيقى تراجع بروڤات الأطفال قبل صعودهم خشبة المسرح وإنتهت من التدريب الأخير تصفق بيديها موجهة حديثها لهم بتشجيع ( يلا ياحبايبي كل واحد يروح يجهز نفسه).. هلل الأطفال فرحين وإنصرفوا إلى غرف تبديل ملابسهم بينما هي مكثت مكانها تتعقب خروجهم بأسماعها لكنها إنتبهت لصباح تمسك بذراعها قائلة بحنان (يلا إنتِ كمان عشان تجهزِ يامريم )
فركت مريم أصابعها بتوتر (أنا خايفة أوي من الحفلة المرة دي)
حاولت صباح طمأنتها (إن شاءالله كل حاجة هتبقى تمام وهتشرفِ الدار كالعادة)
إبتسمت مريم تسألها بمرح (قوليلي بقى هتلبسيني إيه؟)
مسحت صباح على خصلات شعرها الحريرية ثم أجابتها (أحلى فستان لأجمل بنوتة ف الدنيا كلها)
نهضت مريم من مقعدها تتمسك بكف مربيتها متسائلة بفضول وكأنها ستفهم عندما تصلها الإجابة (لونه إيه؟)
ردت عليها صباح بحزن حاولت إخفائه (أبيض زي قلبك ياحبيبتي)
شعرت مريم بحزن صباح الذي لا تفلح دائماً في مواراته خلف قناعها المرح ثم ضحكت لتخفف عنها (أبيض! شكلك عايزة تعمليني عروسة انهاردة )
أجابتها صباح بنبرة حانية متضرعة إلى الله (يارب أشوفك أحلى عروسة فالدنيا.. أنا عارفة هم الشباب عيونهم راحت فين؟)
تعالت ضحكات مريم قائلة (الشباب عيونهم موجودة أنا اللي عيوني راحت ياصبوحة)
تنهدت صباح بألم من كلمات صغيرتها الموجعة بالرغم من أنها لم تظهر جزعاً او ضيقاً من حالها وربتت على كفها بحنوها المعتاد (والله إنتِ ست البنات كلها وبكرة تلاقي الراجل اللي يستاهلك ياروح قلبي)
مالت مريم برأسها على كتف صباح قائلة بهدوء (إن شاء الله .. ممكن بقا نروح أوضتي عشان ألحق أجهز )
طبعت صباح قبلة رقيقة فوق وجنتها قائلة (من عينيا ياعروسة الليلة)
ضحكت مريم ( يلا يا أم العروسة هنتأخر على رفع الستارة)
*************
وبعد وقت ليس بقليل إنتهت صباح من وضع لمساتها الأخيرة على إطلالة مريم ووقفت تطالعها بإنشداه وأعين مغتبطة لمنظرها المبهج بفستانها الأبيض الرقيق والذي كان عبارة عن رداء حريري طويل ذو فتحة صدر مثلثة وأكمام شفافة مغطاة بزهور بيضاء لامعة .. يتوسطه حزام ناعم يحدد خصرها بأنشوطة أنيقة لينسدل كأمواج البحر الهادئة.. مُثَبَت على كتفيها وشاح طويل مزين بنفس الزهرات المنتشرة فوق كُميها.. أما عن شعرها فتركته يختال منحدراً خلفها كذوائب فرسٍ ملكية حديثة المولد.. ووجهها يضاهي البدر المنير في إكتماله مُضَرَّجة الوجنتين بحمرة الورد الجوري تشبه كل الجمال الذي يلون الأرض.. مبهرة كالأحلام ، نقية كالرؤى الخالية من نزغ الشيطان ..
أمسكت صباح ذراعها تتمتم بنظرات حانية (الله أكبر عليكِ ياحبيبتي منظرك يشرح القلب)
إنفرج ثغر مريم بإبتسامة مشرقة ( ربنا يخليكِ ليا يا دادا )
إحتضنتها صباح تدعو بقلب أم فخورة بصغيرتها التي أينعت وأصبحت شابة جميلة تخشى العين النظر إليها (ويحفظك ليا يانور عيني وأفرح بيكِ )
إبتعدت مريم عنها برفق تستند على كفها قائلة (يلا بينا فاضل ربع ساعة على رفع الستارة)
**********
خلف الستار الخاص بالمسرح /
جلست مريم وراء البيانو إستعداداً لإنطلاق أولى فقرات الحفل بينما إصطف الأطفال جنباً إلى جنب في الجهة المقابلة .. صعدت السيدة وسيلة خشبة المسرح تلقي خطاباً أثنت فيه على الحضور مقدمة الشكر لكل من قام بتلبية دعوة الدار .. وأخيراً أعلنت عن إزاحة الستار وبدء فعاليات الليلة.. صفق الجميع عندما أضاءت الأنوار ليظهر الفريق واقفاً بتنظيم رائع لكن الضوء لم يكن مسلطاً بالكامل على البيانو مما جعل مريم غير مرئية .. أعطت الإشارة للأطفال ليبدأوا الغناء متزامنين مع عزفها .. إنتبه ريان لهذا الصوت الأنثوي الهادئ القادم من خلف البيانو ويردد الأطفال ورائه في تناغم تلك الكلمات
(النور مكانه فالقلوب ..
أحضن خيوط شمس الغروب
ياتكون قد الحياة ..
ياتعيش وحيد وسط الدروب)
شعر ريان برجفة تسري في بدنه عندما صدح صوتها بالمقطع التالي للأغنية حيث تقول
(اليأس ضعف وخوف جبان ..
لكن الأمل يفتح بيبان
ياتكون قد الحياة...
ياتعيش وحيد وسط الدروب
إلمس خضار الشجر ..
حس بضياء القمر
أنقش قلوب عالحجر ..
علي شيء ماتندمشي
يمك قوام عديه...
إمشي الطريق إمشيه
العمر إيه يرويه
غير قلب مايخافشي )
بينما كرر الأطفال المقطع الأول مرة أخرى
(النور مكانه فالقلوب ..
أحضن خيوط شمس الغروب
ياتكون قد الحياة ..
ياتعيش وحيد وسط الدروب )
إزدادت الرجفة في قلب ريان حينما بدأت تلك الفتاة في غناء المقطع الأخير
(فيه ناس كتير ترضى المصير..
وناس تشوف بضمير ضرير
ياتكون قد الحياة ..
ياتعيش وحيد وسط الدروب
حلي مرار الأيام ..
لسه الحياة قدام
قوم لون الأحلام ..
وإياك ماتضحكشي
جسدك في قلبه الروح ..
تداوي كل جروح
بالسر إوعى تبوح ..
وإياك ماتحلمشي )
وما أن إنتهت مريم من المقطع الأخير حتى شعر ريان بإرتعاشة أصابت كيانه وكأنها أشعلت شمعة الأمل داخل صدره ليصحو وجدانه وتحتضن مسامعه بصوتها العذب وتعانق روحه بكلمات الأغنية التي حملت معاني جميلة تسللت خلسة لتضئ أروقة فؤاده المظلمة وتنثر على حدائقه المقفرة بعضاً من نسمات فَرِحَة وسعادة يفتقدها منذ زمن بعيد .. أفاق من شروده على إسدال الستار وصوت السيدة وسيلة وسط تصفيق الحضور الحاد معلنة عن أخذ الفرقة فاصلاً قصيراً حتى يتم الإستعداد لتقديم الجزء الثاني .. وإنتبه لكريم يحدثه بإنبهار (ما شاء الله.. إيه الجمال ده؟!)
نظر إليه يجيبه بعدم تركيز (ها..بتقول حاجة؟)
سأله كريم بإستغراب من منظره الساهم (إنت روحت فين؟)
رد عليه ريان بتلعثم (معاك بس سرحت شوية )
ضحك كريم مازحاً (اللي واخد عقلك يطفحه يارب )
لكزه ريان في كتفه بحنق (يخرب بيت فصلانك.. خرجتني من المود يا أخي )
تأوه كريم من ضربته وحاول تصنع الجدية (بصراحة البنت اللي كانت بتغني صوتها حلو أوي)
أشاح ريان بعينيه محدقاً في الفراغ يقول بخفوت (أحلى صوت سمعته في حياتي)
تعجب كريم لحالة الشرود التي أصابته مفرقعاً أصابعه أمام وجهه يهتف بصوت عالي (ريان)
رمقه ريان صاكاً أسنانه بغيظ (عايز إيه يابوز الإخص؟)
ضحك كريم يخبط كفيه ببعضهما متسائلاً (إنت مالك عامل زي اللي متنوم تنويم مغناطيسي كدة ليه؟!)
حاول ريان الخروج من أسر مشاعره قائلاً بإقتضاب (مفيش حاجة)
نهض كريم من مقعده يقول مستغرباً (أنا هاروح أجيب حاجة نشربها لحد مايبدأوا تاني) .. صمت للحظات ثم خبطه على مؤخرة رأسه (وإنت فوق كده ماتبقاش دماغك خفيفة)
دفعه ريان متأففاً من مزاحه (إمشي ياكريم وإرحمني من غتاتك)
*******************
على صعيد آخر /
كانت مريم تقف خلف الكواليس تتنفس الصعداء بعد إنتهاء فقرتها الأولى مترقبة لردود الأفعال الإيجابية .. سعيدة بإشادة الجميع وإطرائهم على آداء الفرقة المتميز وصوتها الرائع وبينما هي على تلك الحالة دخلت السيدة وسيلة عليها والفخر يملأها بصغيرة الدار التي جعلت القاعة تضج بتصفيق حار .. اقتربت منها لتحتضنها تهتف بسعادة بالغة (مبروك يامريم ياحبيبتي الناس مبسوطين أوي من الحفلة)
إبتعدت مريم عنها برفق تفرك أصابع يدها بتوتر (الله يبارك فيكِ ياماما بس لسه التحدي الجاي أصعب)
أمسكت وسيلة كفيها الباردين لتشجعها (أنا متأكدة إنك قده)
إبتلعت مريم ريقها بصعوبة من شدة إرتباكها حيث أن الفقرة التالية عبارة عن رقصة ستقوم بآدائها إلى جانب الغناء وهي تقف في منتصف المسرح يحيط بها الأطفال بشكل دائري يؤدون جميعاً حركات إستعراضية تدربوا عليها بعناية .. وبالرغم من كف بصرها إلا أنها إستطاعت حفظ الحركات جيداً بمساعدة صديقتها ريهام التي كانت تقف خلفها تحمسها (يلا يامريم فاضل خمس دقايق على رفع الستارة)
أجابتها مريم بخوف (أنا خايفة اوي وحاسة إني مش هاقدر أواجه الجمهور ده كله)
ربتت ريهام على كتفها ثبث في روحها الشجاعة (ماتقوليش كده إنتِ هتقدرِ..إستعدِ يابطلة)
إكتفت مريم بإيماءة صامتة غير قادرة على النطق وفجأة سمعت صوت السيدة وسيلة تعلن عن بدء الفقرة التالية .. خرجت تستند على كف صديقتها بأنفاس متسارعة .. تذوب من الخجل والخوف.. تركتها ريهام في منتصف بؤرة الضوء وبدأت بتنظيم الدائرة حولها ليقف كل ولد بجوار بنت وهكذا حتى إكتملت الإستعدادات وتمت إزاحة الستار
وإستقبل الحضور ظهور الفرقة الثاني بتصفيق حار وصيحات عالية لإنكشاف النقاب عن وجه حسناء البيانو التي بدأت في الغناء مع تأدية حركات راقصة تناسب نغمات أغنية رقيقة مثل إطلالتها .. شدت مريم بتلك الكلمات التي تحمل ترحيباً لطيفاً بالمدعوين
(قلتلّي جاي زيارة
حطّيت الركوة عالنار
ونطرتك حتى الجارة
عرفت شو عندي أسرار
بردت قهوتنا وناموا
أهل الحي ونام الليل
فوق مخدات نجومه
وعيوني تتخيل خيل
تحملّي منك أخبار
.......................
ما جاني منك مرسال
يسأل عني بهاك البرد
يطّمن كيف الأحوال
كيف الشتوية بها الجرد
حتى لمّا داب التلج
رجّعت الركوة عالنار
قلتلّي جاي زيارة
حطّيت الركوة عالنار
ونطرتك حتى الجارة
عرفت شو عندي أسرار
...........................
عصفور الصحو الأزرق
خلّاني أسبق حالي
نزلت نطرتك عالمفرق
وصار يضيّعني خيالي
حتى نجوم اللى بالعالي
رميولي القمر زنّار
قلتلّي جاي زيارة
حطّيت الركوة عالنار ..
ونطرتك حتى الجارة
عرفت شو عندي أسرار)
إستمع ريان إليها بكل حواسه فاغراً شفتيه بذهول يحاول إستيعاب مايراه .. روحه تتأرجح فوق وشاحها الذي يتطاير بفعل ذراعيها المرفوعين في الهواء ورغم إجادتها لتأدية الحركات إلا أن نظراته إلتقطت توترها فابتسم يقول في نفسه (لاترتبكي يارداء القمر ودعي الأرض تبعثر خطواتك الحُلوة كما بعثرتِ خفقات قلبي بعينيكِ).. ومع كل حركة وكلمة تشدو بها تلك الحورية يشعر بأسوار عقله تنفتح أمامها كالجيش الذي يسمح للمحتل بالتسلل لموطنه مُرَّحِباً وكان من دواعي سروره أن يستقبل الحياة من بين أحبالها الصوتية وكأنها تمنحه قطعة منها تخصه بها وحده وأحس حين أطال تأملها أن بصدره شيئاً يعرفها ورأى داخل عينيها سهام موجهة نحو هذا الشئ لتصيبه في غفلة تعمدها قاصداً .. مناجياً روحها بالسؤال إن كانت رؤيتها من على بُعد راحة فكيف سيكون العناق؟..ففيها يُقال النظر إليها نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله كثيراً .. تفاجأ ريان بإنسدال الستار وشعر بقبضة عنيفة تقتلع أنفاسه وكأن الأكسچين إنسحب من الهواء حوله بإختفائها وللحظة ظن أنه فقد وعيه وبدون تردد هب واقفاً وطلب من كريم المكوث مكانه حتى يعود متحججاً بالذهاب إلى دورة المياه.. إندفع خارج القاعة ودقات قلبه تتسارع بهدر لم يختبره طيلة حياته إلا هذا المساء..يتابع المارة بحثاً عن حوريته لعله يجدها بينهم .. وبالصدفة إنتبه للسيدة وسيلة متجهة نحو الداخل .. إستوقفها متسائلاً عن باب الكواليس فأرشدته متعجبة من مظهره المرتبك لكنها كانت مشغولة بمتابعة أحداث الحفل الذي خرج في أبهى صورة وأجمل مما كانت تريد وكل الفضل يعود إلى مريم التي لم تخذلها كما وعدتها
***************
دخل ريان الكواليس باحثاً بعينيه في أرجاء المكان عنها وظل على تلك الحالة حتى وجد أحد الأطفال المشاركين في الحفل .. سار نحوه بخطوات مسرعة يناديه (ممكن ياحبيبي كلمة من فضلك؟)
أشار الولد بسباته لنفسه يسأله بأدب (حضرتك بتنده عليا؟)
إنحنى ريان ليصل إلى مستوى طوله قائلاً بنبرة لطيفة (ممكن أسألك على حاجة؟)
زم الولد شفتيه عابساً بطفولة (تسألني؟..أنا كنت مفكر إني بقيت مشهور وجاي تباركلي على الحفلة)
إبتسم ريان من تلقائية الولد قائلاً
(أكيد جاي أباركلك براڤو عليك كنت هايل )
إنفرجت أسارير الولد فرحاً بكلمات ريان هاتفاً (بجد يا أنكل؟)
مسح ريان على وجنة الطفل بحنان قائلاً (طبعاً ياحبيب أنكل ..المهم بقى ممكن أسألك على حاجة؟ )
هلل الولد بسعادة (إتفضل إحنا خلاص بقينا أصحاب)
سأله ريان بفضول (كنت عايز أسألك عن البنت اللي كانت بتغني معاكم.. تعرف هي راحت فين؟)
عقد الولد حاجبيه يفكر بحيرة (أي واحدة فيهم؟)
رد عليه ريان بنفاذ صبر (البنت اللي لابسة فستان أبيض طويل وكانت واقفة ف النص )
انفرجت شفتي الولد بفرحة (ميس مريم؟) .. لكنه لم يكمل حديثه عندما قاطعهما صوت يأتي من بعيد يناديه بحدة.. أسرع ناحية ريهام التي عاتبته لتحدثه مع الغرباء فأخبرها أن هذا الشاب يسأله عن مريم ..تعجبت كثيراً وتوجهت إليه لتستكشف هويته وتفهم لماذا يسأل عن صديقتها المقربة
وقفت ريهام أمام ريان تكتف ذراعيها أمام صدرها متحدثة بإقتضاب (ممكن أعرف مين حضرتك وواقف مع الولد ليه؟)
شعر ريان بإحراج شديد وأدرك أنه تسرع في مجيئه إلى هذا المكان بدون تفكير .. حاول إستجماع عقله حتى يخرج من الموقف ثم أجابها بتوتر (كنت بسأل عن الآنسة مريم )
إزدادت نظراتها حدة وسألته بأسلوب عنيف بعض الشئ (إنت تعرفها؟)
تلعثم ريان من طريقتها الفظة وبأول حجة حمقاء طرأت في ذهنه جاوبها (كنت عايزها في موضوع شخصي)
سألته مرة أخرى بملامح مجعدة لتتأكد مما سمعته (نعم؟ .. موضوع شخصي؟ )
حاول ريان السيطرة على إرتباكه قائلاً ( آه يافندم )
إستغربت ريهام كثيراً من ذلك الشاب الغريب الذي يدعي معرفته بصديقتها وأن بينهما أموراً شخصية فهي تعلم جيداً أن مريم ليس لها علاقة مع أحد أياً كان وأنه يكذب ..ضيقت نظراتها وحدجته بشرر يتطاير من أعينها توبخه بكلمات إنطلقت كالسهام بوجهه (إنت إنسان وقح ولو مامشيتش من هنا حالاً انا هنادي علي الأمن يرميك برا )
تفاجأ ريان من ردة فعلها الغير لائقة و هدر بها عالياً (نعم؟ ..إنتِ ازاي تكلميني كده يا ... )
لم تعطه فرصة لرد الإهانة التي قذفتها على مسامعه وولته ظهرها وهي ترغي وتزبد قائلة في نفسها (إيه المجنون ده؟!.. آل موضوع شخصي آل ..ومع مين؟ مع مريم؟ )
هتف عليها بذهول ( إنتِ يا آنسة ) .. وأثناء مشادته الكلامية مع تلك الفتاة غريبة الأطوار لمح مريم متجهة نحو مدخل المسرح فإندفع إليها يناديها (آنسة مريم)
إنتبهت مريم للنداء وسألت صباح ( مين اللي بينده عليا ده يا دادا؟ )
نظرت صباح ناحيته بعدم فهم قائلة (ده واحد جاي من بعيد علينا.. إستني أما أشوف عايز إيه )
تركتها صباح وإستوقفته متسائلة (خير يا افندم في حاجة؟)
أجابها ريان متعجباً من هذا الحصار البشري المُشدد حولها (أنا بنده على الآنسة مريم )
سألته صباح مجدداً بنبرة حادة (عايزها ف إيه؟ )
رد عليها بحرج من الموقف الذي وضع نفسه به (كنت عايز أباركلها علي نجاح الحفلة و.......)
سمعت مريم الحديث الدائر بين مربيتها وأحد الأشخاص فتوجهت إليهما بخطوات حذرة خوفاً من تعثرها في فستانها الطويل لكنها تعثرت بالفعل حتى كادت أن تنكفأ على وجهها .. أسرع إليها ريان يمسك ذراعها ليسندها حتى إعتدلت في وقفتها لكنه لاحظ شرود عينيها وكأنها تنظر إلى الفراغ .. إندهش كثيراً من ثبات مقلتيها نحو البعيد وقال لها (خدِ بالك وانتِ ماشية)
إبتسمت مريم قائلة بألم (آسفة.. أنا مابشوفش)
لم يصدق ريان ما سمعه يقول باعتذار
(ماتزعليش والله أنا قصدي تركزِ بس عشان ماتقعيش)
ردت مريم عليه بنبرة حزينة (وأنا مش زعلانة لأني فعلاً كفيفة مش بشوف)
نزلت كلماتها فوق رأسه كالصاعقة يحدث نفسه بصدمة (إيه !..مستحيل )
قاطعتهما صباح تجذب ذراع مريم برفق موجهة نظراتها الحانقة له معاتبة إياه على جرحها بهذه الطريقة ثم إستأذنت منه (عن إذنك يا افندم... يلا بينا يامريم) .. بينما وقف ريان مكانه كالصنم مشدوهاً مما سمعه يتابع تحركها الضعيف برفقة تلك السيدة التي تسندها.. يشعر بغصة متورمة عبأت حلقه بمرارة مؤلمة عندما لاحظ زوغ عيونها الذي أكد ما أخبرته به.. وبعد دقائق حاول فيها إستجماع شتات نفسه خرج شارداً من الكواليس يبدو على وجهه الصدمة .. وجد كريم في إنتظاره أمام باب القاعة يهتف عليه فاقترب منه قائلاً بملامح واجمة (يلا بينا)
اندهش كريم من علامات الضيق الواضحة على وجه رفيقه وسأله (في إيه مالك؟)
أجابه ريان بإقتضاب (مفيش )
سأله كريم مجدداً بقلق (مفيش إزاي ده إنت وشك جايب ألوان؟! )
رد عليه بعصبية لم يعتادها منه (قولتلك مفيش حاجة وخد مفاتيح العربية سوق إنت)
توجس كريم كثيراً فهو لأول مرة يراه على تلك الحالة لكنه إضطر أن يطيعه وتولى قيادة السيارة بدلاً عنه حتى يفهم ما حدث لينقلب حاله بهذا الشكل الغريب .. إستقل ريان الكرسي المجاور له صامتاً..شارد الذهن يفكر في من عصفت بروحه بطرف عينيها المنطفئة.. حاول كريم تلطيف الجو وقام بتشغيل الكاسيت على أغنية من الطراز الذي يفضله ريان لعله يستطيع سبر أغوار عقله أو تعديل مزاجه ولو قليلاً .. تعالى صوت (ريبال الخضري) بكلمات أندلسية لعبت على وتر خافقه الهادر
(رمانى بسهم هواه رشا
قريب المزار بعيد الوصال
شبيه الغزال إذا ما مشى
تميل إليه قلوب الرجال
دعوه يذيب مهجتي والحشا
فإني رضيت بعشق الجمال
لعلِّي بصبري أنال ما أشا )
أرجع ريان رأسه للخلف يستند على ظهر المقعد مطبقاً جفنيه .. يستشعر كلمات الأغنية بجوارحه وكأنها تصف حالته بدقة.. بينما كان كريم يوزع نظراته بين الطريق وبينه وساد صمت متداعي لدقائق قطعه مستفهماً (يابني فيه إيه؟.. إنت كنت كويس )
فتح ريان عينيه يجيبه بنبرة عالية (مفيش ياكريم .. أقولك على حاجة أحسن نزلني هنا أنا محتاج أتمشى لوحدي فالهوا شوية)
رمقه كريم مستنكراً (تنزل فين يامجنون ؟! ..أنا هاوصلك البيت الأول مش هاينفع أسيبك فالحالة دي)
خبط ريان على جانب السيارة بعصبية مفرطة (بقولك نزلني..وقف الزفتة دي)
حاول كريم إستدراك الموقف عندما خرج الأمر عن سيطرته (حاضر هاقف بس إهدى) ... وبالفعل إضطر لإيقاف السيارة بعدم إتزان ليترجل ريان منها صافعاً الباب خلفه بقوة مندفعاً نحو اللاشئ
************
ماساتي الحبيبات وحشتوني اوي وعارفة إنى إتأخرت عليكم بس الفصل طويل وإحتاج مراجعة كتير ماتزعلوش بقا وإنچوي جداً وهاستنى رأيكم بفارغ الصبر
🌹🌹🌹🌹🌹
رواية (عيون الريان)
(النسخة المعدلة)
بقلم (نيللي العطار)
(الفصل الرابع) (الجزء الأول)
🌹🌹🌹🌹🌹
إذا كنت تبحث عن الكمال فأنت لا تبحث عن الحب لأن معجزة الحب تكمن في عشق العيوب
(شمس الدين التبريزي)
**************
إندفع ريان عكس سير السيارة دون وجهة محددة .. يشعر وكأنه يركض مغمض العينين داخل ممر لا نهاية له وأن تلك الفتاة إنتزعت جزء من روحه بكف بصرها العبثي لدرجة حبست أنفاسه .. يكاد يختنق حباً وخوفاً وحزناً.. لا يدرك أيهم الأصح .. وإن كان حباً فكيف وهو لم يعرفها إلا هذا المساء؟ .. أيعقل أن يقع في حبها من النظرة الأولى؟.. وعلى من سيلقي اللوم؟ ومن المذنب إن أحبها حقاً؟ عينيها المنطفأتين أم قلبه المتهور؟ أما إذا كان خوفاً فلماذا وعَلامَ وممن؟ حيرة شديدة تملكت منه وشئ بداخله يتسائل عن سبب الحزن الذي إحتل قلبه تجاه فتاة لم يلتقيها سوى بضع دقائق.. غصة مريرة شقت جوفه كنصل سكين حاد عندما تخيلها تتخبط في ظلام دنياها المتمثل بضُرِّ عيونها الساحرتين .. لايستوعب كيف لعيون تمتلك كل هذا السحر ألاترى و عقله يسحقه ويحطم أفكاره لشظايا ويكاد يجزم أنها جزء مفقود منه إنشطر عنه وتجسد في هيئتها .. ظل يسير هائماً بخطوات مرتبكة تشبه مشاعره الغير مفهومة.. ينفث رذاذ الشتاء من فمه وكأن سحابة همومه تطلب الإذن بالهطول لتهدأ إرتجافة أنفاسه ولم يحسب الوقت الذي قضاه على تلك الحالة المضطربة حتى قطع شروده رنين الهاتف .. تفحصه وجد إسم والدته يضئ بإلحاح لكنه لم يكن مستعد للدخول في شجار معها لذا قرر رفض إتصالها ولتفعل ماتشاء .. أكمل سيره واضعاً كفيه الباردين بجيوب سترته ليدفأهما فالبرد جعل أعصابه أكثر هشاشة من ضباب الغيوم وتعجب كثيراً من حنينه الذي قاده نحو منزل جده رغم عدم وضوح معالم الطريق الذي يحفظه عن ظهر قلب.. مرر أصابعه بين خصلاته الناعمة يفكر في مبرر مقنع ليفسر به وجوده هنا في هذا الوقت المتأخر وللحظة فكر أن يغادر ويذهب إلى الڤيلا حتى لايثير قلق جده وجدته لكنه كان متعب ولن يقوى على قطع هذه المسافة الطويلة مرة أخرى... نظر ريان إلى البيت الكبير الذي شهد الكثير من الذكريات الجميلة المحفورة بذهنه وإن غادره مُجبراً بجسده فقلبه مازال متعلق بكل شبر خطت أقدامه عليه .. ينتمي إليه أكثر من إنتمائه لأمه وكأنه وُلِد من رحم جدرانه الحبيبة..أطبق جفنيه بشدة ليخفف ضغط أمنياته المؤلمة بالعودة ليعيش فيه كما كان.. يستدعي أغاني الشيخ (فؤاد عبد المجيد) التي تربى على سماعها لتمر لحظاته الفَرِحة أمام ناظريه .. إبتسم تلقائياً عندما تخيل صوت آلة القانون التي يقتنيها الحاج زين الدين وهو يلعب على أوتارها ويشدو بصوته العذب أجمل التواشيح الأندلسية.. هذا العجوز العظيم علمه وشَكَّل معتقداته ومبادئه .. يحب كل شئ يشير إليه ويثق في آرائه ولا يستمع لصوت أحد إلا هو حتى إهتماماته الفنية وشغفه بالفن الصوفي وَرَّثَهما له..من يراهما سيدرك بسهولة أن ريان إنعكاس صريح لإنسانية جده وإقتباس واضح لطيبة قلبه .. أما عن الجدة فاطمة حبيبة روحه ومغذية قلبه وجسده.. حضنه الدافئ الذي يغمره مهما كَبُر وشب طوله وأصبح أطول منها .. ذراعيها والنوم بين ركبتيها ملاذه ومأمنه من أي خوف.. يشتاق إلى سهرها بجواره وهدهدتها التي كانت ترسله إلى النعاس بأريحية .. طيبة كفيها عالقة فوق رأسه ووجنتيه.. ربتاتها الحنونة وتمسيدات يدها الطيبة مازالت تطمئنه وتشد أزره وكم يعشق تقبيل تجاعيد بشرتها البيضاء اللذيذة كملمس الأطفال .. فاطمة أو (بطة) كما تحب أن يناديها تمتلك حنان لو وزعته على أحفاد العالم أجمع سيكفي ويفيض.. تنهد بألم عندما تذكر اليوم الذي إضطر صاغراً على تركهما تنفيذاً لأمر والدته والإنتقال ليعيش في ڤيلا خالية من معالم حياة يفتقد إليها حتى تحول كل شئ بعينيه لألوان باهتة قابضة للنفس .. لا يمر عليه صباح بدون صراخ وتقريع وفي الليل مقابلات وأحاديث تطبق على صدره كالجاثوم.. كبح غلالة دموع وخزت مقلتيه رثاءً لسعادته المفقودة وبعد تفكير طويل قرر أن يدخل ليلقي بثقل همومه بين أحضان جدته لعله يجد ذيل ثوبها ويتشبث به ليخرجه من ظلمة ليله الحالكة التي تخنقه كل يوم أكثر من ذي قبل ... مد طرف سبابته يقرع الجرس بخفة كي لايزعج الجيران وإنتظر بضع دقائق ليتلقى إجابة .. تعالت خفقات ريان عندما إنفتح الباب ليطل من دفتيه عجوز بشوش الوجه ذو خصلات فضية تعطيه هيبة محببة.. ملامحه العذبة التي نحتها الزمن لم تخفي قرب الشبه بينه وبين حفيده الغالي ..تهللت أسارير الجد زين عندما رآه يقف أمامه بابتسامته المليحة التي كانت ومازالت تثلج صدره.. فتح ذراعيه على إتساعهما ليضمه بحنان بالغ وصوته الرخيم ممتلئ بالشوق لعزيز العين والروح (حبيبي يابني وحشتني أوي)
إبتعد ريان عنه ينحني ليقبل كفيه بحب شديد قائلاً (أنا لما لقيت نفسي مش قادر جيت عشان أشوفكم)
إحتوى الجد زين وجهه بين راحتيه متحدثاً بسعادة (إدخل ياريان دي بطة هتطير من الفرحة لما تعرف إنك هنا)
أطاعه ولمحة حزن تعتلي ملامحه متسائلاً (هي فين؟ )
أجابه الجد زين مبتسماً ( في الزاوية بتصلي )
دلف ريان إلى زاوية الصلاة الخاصة بجدته وخلع حذائه ثم جلس يراقب إبتهالاتها ودعواتها له رغم فراقه عنها وعينيه غائمتين بعبرات حب وحنين وإشتياق لرائحتها وتفاصيل رسمتها بيديها على أوراق طفولته وشبابه .. أما هي إنهمرت دموعها عندما أحست بهدر أنفاسه المتلاحقة خلف ظهرها .. وشهقاتها تعلو من أثر البكاء وما أن فرغت من صلاتها حتى إستدارت تضمه إلى أحضانها بشدة مبعثرة قبلاتها على وجهه وجسده .. تتحسسه وكأنها تتأكد من وجوده وتعبأ رئتيها بعطره الذي إفتقدته منذ رحيله
خبطته الجدة فاطمة بخفة على كتفه تعاتبه (بقى كده كل الغيبة دي؟.. هونت عليك ياريان؟)
طبع قبلة رقيقة على رأسها يجيبها برجاء (سامحيني يابطة والله غصب عني )
إحتضنته جدته مرة أخرى بحب (مش مهم.. المهم إني شوفتك بخير)
نظر إليهما الجد زين بابتسامة مشتاقة لجمعتهم الطيبة (تعالوا نطلع نقعد بره)
خرج ثلاثتهم من الزاوية ليجلسوا مثل السابق في بهو المنزل الواسع على أريكة كبيرة مقابلة لردهة طويلة في نهايتها درج مؤدي إلى طابق آخر حيث توجد غرف عديدة من ضمنها غرفة ريان التي إحتوته طيلة ثلاثة وعشرون سنة قبل أن يستقر والديه في البلاد وينتقل للإقامة معهما .. إستشعر الجد زين وجود خطب ما وراء مجيئ حفيده في هذا الوقت المتأخر لكنه حاول إخفاء مايفكر به قائلاً (وحشتنا ووحشت بيتك ياريان)
طاف ريان بأنظاره أرجاء المكان وتنهيدة متوجعة أفلتت من بين شفتيه ( البيت ده هايفضل أحب مكان على قلبي.. كل حاجة فيه مريحة وبتحسسني اني بني آدم بجد )
توجس جده أكثر من نظراته الحزينة مؤثراً الصمت ليعطيه حرية الإفصاح عما يتعبه ثم قال بصوته الهادئ (أوضتك لسه زي ماهي.. بطة بتنضفها بإستمرار على أمل إنك تيجي تبات معانا ولا حاجة)
رد عليه ريان بنبرة مرتجفة (أنا تقريباً مابقيتش أعرف أنام وأرتاح زي ماكنت بنام هنا ف اوضتي القديمة)
ربت الجد زين على كفه قائلاً بحزن تسرب إليه من منظر حبيبه الغالي ( إطلع غير هدومك على ما جدتك تحضرلك العشا )
أومأ برأسه نفياً ( لا مش جعان)
رسم الجد زين إبتسامة مشجعة فوق ملامحه ليحثه على تناول الطعام ( أنا هاخليها تعملك البيض بالبسطرمة اللي بتحبه )
بادله ريان إبتسامته بأخرى جاهد لتظهر طبيعية (معلش ياجدو ماليش نفس للأكل )
زمت الجدة فاطمة شفتيها بحزن مصطنع (بقى كدة يا ريان ماوحشكش أكل بطة؟)
رفع ريان كف جدته إلى شفتيه يقبله بحنان (أنا مفيش حاجة وحشاني زي أكلك.. بس بجد مش عايز آكل دلوقتي)
جذبت الجدة كفها بإعتراض طفولي (إنت شكلك إتعودت عالأكل الأفرنجي اللي أمك بتعمله )
مازحها ريان بيأس (إطمني يابطة.. رويدا هانم مابتدخلش المطبخ غير عشان تزعق للشغالين)
سألته جدته بقلق (أمال بتاكل ازاي ياحبيبي؟)
أجابها ريان بتعود (نجاة هي اللي متكفلة بأي حاجة تخصني تقدري تقولي كده انها متبنياني).. صمت لثواني ثم أردف بملامح مرهقة (وجودها بيهون عليا كتير ف المكان ده)
مسدت الجدة على شعره متحدثة بحزن على حاله (عارفة يابني الله يكون في عونك)
قاطعهما الجد زين موجهاً الحديث إلى زوجته (بقولك إيه يابطة ماتعملي لنا كوبايتين شاي من إيديكِ الحلوين )
نهضت الجدة من مقعدها لتلبي طلب زوجها (حاضر ياحاج من عينيا)
تفحص الجد ملامح حفيده المكفهرة وكعادته لم يخفي عليه أنه ليس بخير وسأله بتوجس (مالك ياريان؟ فيك إيه؟ )
تداعت نظرات ريان بعض الشئ محاولاً إخفاء مايعتمل في صدره وإبتسم متهرباً من سؤاله المفاجئ بتوتر (مفيش حاجة..أنا كويس ياجدو ماتقلقش)
رمقه جده بنظرة معاتبة ثم أردف (لا مش كويس.. ولا مفكرني نسيت عيونك لما بتكون مهموم عشان بعدت عني؟)
أجابه ريان بصوت مختنق (ممكن أكون تعبان من الشغل)
تسائل الجد زين مرة أخرى بلهجة محذرة (إوعى يكون موضوع أمك هو اللي عامل فيك كده؟)
إندهش من علم جده بأمر إصرار والدته على تزويجه من إبنة أختها وأجاب السؤال بسؤال آخر (حضرتك عرفت منين؟)
جاوبه الجد زين (أبوك حكالي كل حاجة وزعلان أوي من تصرفاتها معاك ) سكت الجد زين يتفرس وجه ريان بقلق ثم تحدث ناصحاً (عايزك تنشف وتعرفهم انك راجل حر وماتسمحش لحد يمشيك من دماغه.. الجواز ده يابني رحلة عمر لازم تكون الصحبة فيه على هواك وإلا مش هاتقدر تكمل وهاتنزل ف نص الطريق)
حرك رأسه مؤكداً على حديث جده (كلام حضرتك صح وأنا مستحيل أقبل حاجة حد عايز يفرضها عليا بالعافية ويوم ما هافكر اتجوز لازم أكون مقتنع بالانسانة اللي هاتشيل إسمي )
مسح جده على وجنته داعياً (ربنا يبارك لي فيك ويرزقك بواحدة بنت حلال تستاهلك)
تنهد ريان والحزن يقطُر من كلماته (اللهم آمين)
تأمل الجد زين ملامح عزيزه الغالي قليلاً ثم سأله بحيرة (مالك ياريان؟ .. فيك ايه ياحبيبي؟)
رد عليه بابتسامة باهتة (هاحكيلك كل حاجة بس أنا محتاج أنام دلوقتي)
أومأ له جده قائلاً بموافقة (قوم إستريح فأوضتك والصبح نتكلم)
إمتثل ريان لطلب جده ونهض بتعب متجهاً نحو غرفته الموجودة في الأعلى ليأخذ قسطاً من راحة يحتاج إليها بشدة بعد تلك الليلة التي أرهقت ذهنه وبعد دقائق قليلة أتت الجدة فاطمة تحمل كوبين من الشاي فوق صينية صغيرة لكنها لم تجده في مكانه كما تركته فسألت الجد زين متعجبة (أمال ريان فين؟)
أجابها الجد بملامح واجمة أثراً للقلق الذي إحتل قلبه على حفيده (طلع يرتاح في أوضته )
تسائلت الجدة فاطمة مرة أخرى (مش هايشرب الشاي؟)
إستند الجد زين بكفيه على الأريكة لينهض قائلاً بمراوغة (مش مهم يابطة الولد شكله تعبان سيبيه يرتاح دلوقتي وتعالي احنا كمان نطلع ننام )
بينما ولج ريان غرفته محملاً بهموم لا يعلم متى وجدت مكانها فوق أكتافه ..أضاء مفتاح الإنارة ووقف يتأمل تفاصيل إشتاق لينصهر بها وتحتويه كما كان في السابق.. إبتسم عندما وجد كل شيء في مكانه لم يتغير .. جدته الحبيبة لا تحرك أغراضه من مكانها معتنية بأشيائه في ترتيب ونظافة فائقة..أخذ نفساً عميقاً وزفره دفعة واحدة في الهواء ثم سحب كرسي مكتبه وجلس ليستعيد ذكرياته الغالية داخل هذا المكان .. يشعر وكأنه يهبط بعقله درج يتكون من ثلاثة وعشرون عاماً كل عام حفر بقلبه آثار لا يمكن محوها ولن يستطيع أحد التغلب على ذلك الجزء المضئ بصدره.. إتسعت إبتسامته عندما وقعت عينيه على لعبته القديمة موضوعة أمام مجموعة من الكتب والدفاتر التي تخصه منذ أيام دراسته بالجامعة.. مد يده ليمسك بها والحنين يتملك من كل خلية بروحه.. رفعها إلى أنفه يستنشق رائحتها التي لم تتغير .. أغمض عينيه يعبأ رئتيه بعبق الذكرى الطيبة.. تلك القطعة البلاستيكية العتيقة تفوح منها رائحة الخبز الطازج الذي كانت تعده جدته يومياً حتى أنه يشعر بسخونته مازالت عالقة بأطرافها.. وبعد دقائق أنزلها ليلتقط مجموعة دفاتره التي ظهر عليها آثار السنوات.. فتحها يتصفحها ورقة ورقة.. ببطأ شديد كأنه يطوي سنوات عمره الماضية بالقرب منها.. تعمد العد لثلاثة وعشرون ثم قطع الثلاث ورقات التالية وأخذ قلم رصاص من حافظة الأقلام وقام بترقيمهم حتى وصل للرقم ستة وعشرون .. ترك الأوراق ورغماً عنه ضحك بوجع لم يختبره إلا بعد رحيله من هذا الببت وكأنه يرى تعاسته تخط نفسها بنفسها عليها.. صورة والدته ترتسم بوضوح أمامه مختلطة بملامح چيسي والڤيلا والسيارات الفارهة والأنوف المرتفعة تظهر بالخلفية وضحكته تقوم بدور موسيقى تصويرية لفيلم هزلي رخيص يودون منه لعب بطولته مجبراً .. أمسك بالثلاث ورقات المقطوعة مجدداً وقام بتشكيلهم على هيئة مراكب غير مستوية وظل يضحك بشدة حتى شعر بالنعاس سيغلبه فنهض من مكانه بتثاقل متجهاً نحو الخزانة ليخرج بعض الملابس التي تعمد تركها على أمل أن يعود يوماً ما لكنه أحس برغبة في الصلاة.. دخل الحمام ليبدل ملابسه عاقداً النية على الوضوء وبعد دقائق فرش سجادته ووقف طويلاً بين يدي الله خاشعاً ..يستجدي سكينة من سجوده وتضرع قلبه وجريان الدعاء على لسانه..دوماً يجد مقصده وملاذه في حضرة رب العالمين و تلك المرة كان طيف مريم يجاوره ولم يدري لماذا تسابقت الأمنيات والدعوات بقلبه لها قبل أن يدعوها لنفسه .. يرجو أن تلف العناية الإلهية المشددة حولها وعليها وعلى عيونها البعيدة عنه أمان الله وسلامه.. إستقام ريان في جلسته يرفع كفيه مناجياً رحمات خالقه ألا يخيب أمله ولا يخذل أحلامه التي وعدها أن تتحقق وأن يكون كما يريد ويتمنى.. وكما يستحق.. فرغ من صلاته وإحساس بالهدوء والراحة تسربا إليه ثم إستلقى فوق فراشه وبأقل من الثانية كان يغط في نوم عميق لم يذق طعمه منذ إستبدله بذلك البارد الموجود بالجحيم المسمى بالڤيلا
**************
في صباح اليوم التالي /
إستيقظ الجد زين مبكراً كعادته لكنه لم يجد زوجته بجواره .. ابتسم عندما تذكر أن عزيزه الحبيب نائماً بغرفته كما كان في سابق عهده حينها تأكد من وجود الجدة فاطمة في المطبخ لتعد أشهى الطعام وأجمله إحتفالاً بقدوم غاليها الصغير فاليوم عيد ومجيئه أدخل البهجة على قلبيهما الحنون وأرادت إستعادة بعض ذكرياتها معه علَّها تؤنس وحشتها عندما يذهب ويغيب عنها مرة أخرى وبينما هي علي تلك الحالة دخل عليها زوجها متعجباً من النشاط الذي أصابها يمازحها بمرح (سيدي ياسيدي عالنشاط )
انتبهت الجدة فاطمة لوجوده فنظرت إليه تهديه إبتسامة مشرقة ثم أشارت للطعام الموضوع فوق الموقد (تعالى ياحاج شوف عملت ايه عشان ريان )
بادلها إبتسامتها الحنونة يداعبها بمشاكسة محببة لقلبها (طبعاً ياستي مين قدك حبيبك نايم فوق وانا خلاص راحت عليا )
ضحكت الجدة على دعابته (بذمتك انت مش فرحان أكتر مني عشان ريان هنا؟)
سحب الجد زين كرسياً خشبياً ليجلس بجوارها متحدثاً بفرحة (إلا فرحان ده أنا الفرحة مش سيعاني يابطة)
أردفت الجدة فاطمة بأسارير مبتهجة (أنا حاسة إن جدران البيت وكل ركن كان بيلعب فيه بيضحك)
أجابها الجد والإبتسامة مازالت تزين وجهه (ريان طول عمره فرحة البيت وبهجته.. ربنا يحميه من كل شر).. صمت للحظات ثم نهض من مقعده قائلاً(هاقوم أصحيه عشان نفطر سوا )
وبالفعل خرج الجد زين من المطبخ بملامح قلقة حاول إخفائها أمام زوجته حتى لا يثير إنتباهها لما يفكر به.. لم يغمض جفنيه طوال الليل خوفاً على أغلى مايملك في هذه الدنيا فريان بالنسبة له أكثر من حفيد والمثل الشعبي القائل (أعز من الوِلد وِلد الوِلد ) ينطبق عليه بكل مايعني من معزة وحب .. صعد الدرج بخطوات واسعة حتى وصل غرفة غاليه ليوقظه وطرق الباب بخفة منتظراً إجابة وبعد ثواني قليلة فتح ريان وإستقبله بابتسامة تثلج الصدر وملامح يبدو عليها الإستيقاظ منذ فترة ..
دلف الجد زين إلى الغرفة ينظر إليه قائلاً (شكلك صاحي من بدري.. ولا ماعرفتش تنام ؟!)
أجابه ريان بنبرة هادئة (بالعكس نمت كويس جداً )
جلس الجد زين على الأريكة المقابلة للفراش يتأمله بأعين تملؤها التساؤلات فأدرك ريان مايرمي إليه جده بنظراته وجذب كرسي ليجلس بالقرب منه قائلاً (أنا عارف حضرتك بتبصلي كده ليه )
تفرس الجد زين في ملامحه التي تحمل الكثير ثم قال بقلق (شكلك مش طبيعي ياريان )
رد عليه ريان بإقرار (هاحكيلك كل حاجة) صمت لثواني يستجمع شتات أفكاره ثم أخذ نفساً عميقاً وبدء في سرد أحداث الليلة الماضية كاملة على مسامع جده الذي لم يخفي تعجبه من حال حفيده الذي إنقلب رأساً على عقب بسرعة غريبة لكنه انتظر حتى إنتهى ريان من حديثه ثم نظر إليه باندهاش قائلاً (طول عمري بسمع عن الحب من أول نظرة لكن ماجربتوش)
سأله ريان بعيون زائغة (هو اللي انا فيه ده حب ولا إحساس بالشفقة؟)
أجابه الجد محاولاً تفسير مايحدث معه (يمكن زعل على ظروفها اللي ممكن تمنع انه يكون بينكم حاجة)
أطرق ريان رأسه لأسفل مشبكاً أصابعه بحزن (إحساسي عامل زي تايه لقى طريقه اللي هيمشيه وفجأة الدنيا لفت بيه ورجعته لنقطة الصفر )
ربت الجد على كتفه قائلاً بحكمة ( أو جايز اللي حصل إشارة خضرا إن ده الطريق الصح)
نظر إليه ريان متسائلاً بإهتمام ( يعني إيه؟ )
تحدث جده بصوت متزن (فيه بيت شعر مشهور لإيليا أبو ماضي بيقول " ليس الكفيف الذي أمسى بلا بصر .. إنى أرى من ذوي الأبصار عميانا" ..صدقني يابني النقص بيبقى في عجز الضمير والعمى عمى القلب ..النور مش إنك تلاقي الرؤية واضحة قصاد عينيك .. النور موجود في قلبك والبنت الكفيفة دي ممكن تكون بتشوف أحسن مني ومنك.. فهمتني؟)
رد عليه ريان بحيرة شديدة (حضرتك رأيك إني أتقبل ظروفها وأشوف إذا كان هاينفع أستحمل التجربة ولا لا؟ )
حاول الجد زين تحديد أفكاره تجاه الأمر (لو حبيتها هتلاقي روحك بتعذبك وقلبك بيوجعك عشان تروح تلمح طيفها ومش هايفرق معاك ظروفها أياً كانت هي إيه)
شعر ريان بالغصة تتورم في حلقه من جديد قائلاً بنبرة يملؤها الألم (قلبي وجعني أوي لما عرفت انها مابتشوفش)
وضع الجد زين كفه على صدر حفيده من الجهة اليسرى قائلاً (طالما إتوجعت يبقى حبيت )
رفع ريان أنظاره لتتلاقى مع عيني جده المتعلقة بوجهه (بالسرعة دي؟)
مسد الجد زين على خصلات شعره المسترسلة وأجابه بابتسامة تقطر حباً (عيونك بتلمع.. سلم نفسك لقلبك وسيب روحك تجري عالمكان اللي لقيت راحتها فيه)
بادله ريان ابتسامته قائلاً بمرح (وعلى رأيك يا زيزو الروح تدب مكان ماتحب)
مسح جده على وجنته داعياً (ربنا يريح روحك ويكتبلك الخير ).. صمت للحظات يتأمل فيها ملامح صغيره الغالي الذي تربى على يديه وكَبُر أمام ناظريه حتى أصبح شاباً تخشى العين النظر إليه من جماله وبالتأكيد لم تخب شكوكه عندما لمح طيف الحب يطل من بؤبؤ عينيه ولطالما كانت عيون ريان مرآة قلبه ومن الواضح أنها مازالت كما يعهدها ولم يغيرها الحزن الذي يسكنها منذ رحيله من بيته.. أهداه الجد زين إبتسامة مُطَمئنة ثم نهض من مقعده قائلاً (يلا بينا ننزل نفطر .. زمان بطة مستنياك)
إمتثل ريان لطلب جده و إتجه برفقته نحو حديقة المنزل .. تلك المساحة الخضراء المتسعة دائماً لتجمعاتهم وطعامهم .. ذكرياتهم الجميلة مخطوطة بين شجيراتها الصغيرة والمزروعات العشبية العطرة الخاصة بالجدة فاطمة التي تضفي جواً من الريحان والنعناع المنعش أثناء جلسات السمر وحفلات القانون الخاصة بالجد زين.. فغر ريان شفتيه عندما رأى الطاولة الممتلئة بكل مايشتهي من الأصناف اللذيذة وإنحنى علي يد جدته يقبلها قائلاً (صباح الخير يابطة..كده تعبتِ نفسك؟)
مسحت جدته على رأسه ثم أجابته بحنان (هو أنا هاتعب لأعز منك ياحبيبي؟ )
قاطعهما الجد زين مازحاً (جدتك قايمة من بدري عشانك انما أنا الظاهر راحت عليا)
(شكلك شايل في قلبك كتير يازيزو) قالها ريان غامزاً لجده بمرح يداعب جدته التي كانت تنظر لكليهما بضيق مصطنع لكنها في أسعد لحظات حياتها بوجود حبيبها المدلل يمازحها ويشاكسها بشقاوته المحببة إليها..
أجاب الجد زين على ريان بحزن زائف (هاقولك إيه ولا إيه سيبني ساكت أحسن )
إقترب ريان من جدته يقبل وجنتيها بخفة (دلعي الراجل شوية يابطة ده حتى البيت فاضي عليكم )
لكزته الجدة فاطمة في كتفه متحدثة بحنق طفولي لذيذ (بقا كده يا واد إنت هتعوم على عومه؟)
أحاط ريان كتفها قائلاً بمرح (أنا بوعيكِ أحسن يبص بره)
ضحك الجد زين على دعابته قائلاً (وشهد شاهد من أهلها)
نظرت الجدة فاطمة إليه بلوم ( كده يازيزو تهون عليك بطتك؟)
بادلها الجد زين نظراتها مبتسماً ثم قال (ولا ألف بطة تملى عيني غيرك يا بطتي.. ده أنتِ اللي فالقلب ياغزال)
تنحنح ريان مازحاً ( نحن هنا ياجماعة ولا أنا شفاف مش باين؟)
رمقه جده بغيظ زائف (يابني سيبني أقول الكلمتين انت هتأر علينا)
ضحك ريان ثم رفع كفيه مستسلماً ولم يرد بينما أجابت الجدة فاطمة على زوجها بخجل (ياساتر عليكم لما تتلموا على بعض..مش هانخلص منكم )
وجه الجد زين حديثه إلى حفيده (القعدة دي كانت عايزة أبوك ياريان)
إلتوت زاوية فم ريان بشبح إبتسامة قائلاً بنبرة يائسة (آه والله بس زمان الشاويش رويدا مكدراه)
ربتت جدته على كفه تواسيه (ماتزعلش ياحبيبي ربنا قادر يهديها ليكم)
بينما هم على حالتهم تلك انتبهوا لصوت جرس الباب معلناً عن قدوم زائر عزيز سينضم لجلستهم اللطيفة ..نهض ريان ليرى من الطارق الداعي وجد والده أمامه ينظر إليه بعتاب (يعني لو جدك ماتصلش بيا بالليل ماكنتش عرفت مكانك؟ )
أجابه ريان بأسف ( أنا آسف يا بابا كنت مخنوق وماقدرتش أروح الڤيلا)
ابتسم سعد رغم القلق الذي يساوره تجاهه ثم قال (مفيش مشكلة ياحبيبي أهم حاجة انك بخير)
سأله ريان بتوجس (هي ماما عرفت اني هنا؟)
رد عليه والده باستسلام (إضطريت أقولها لأنها كانت قلقانة عليك)
زفر ريان بضيق (ربنا يستر )
سأله سعد وهو يلج إلى الداخل (جدك وجدتك فين؟)
جاوبه ريان مبتسماً (فالجنينة..هاتفطر معانا؟)
ضحك سعد قائلاً ( أكيد طبعاً ده زمان بطة عاملة احتفال)
أشار له والإبتسامة مازالت تزين وجهه (ادخل شوف بنفسك)
إنفرجت أسارير الجد والجدة عندما إنتبهوا لوجود سعد يدخل عليهم برفقة ولده ومازحته والدته بمرح (جيبنا سيرة القط جه ينط)
إقترب منها طابعاً قبلة رقيقة على رأسها ثم قال ضاحكاً ( وحشتيني يابطة) .. بينما إبتسم له والده بسعادة (إنت إبن حلال كنا لسه بنقول اللمة الحلوة دي عايزاك)
إنحنى سعد على كف أبيه يقبله بحب قائلاً (ربنا يديم علينا لمتنا وانت وسطنا ياحاج).. إستقام في وقفته ثم مد يده يتناول بعض من الطعام الذي أعدته الجدة قائلاً (إيه الحاجات الحلوة دي يابطة؟)
غمز له الجد زين بمرح (كله على شرف ريان أفندي)
عبست الجدة بضيق مصطنع (انتم هتحسدونا ولا إيه أنا والواد الحيلة؟)
إحتضنها ريان رافعاً كفاً مفروداً أمام جده ووالده يقول بدلال(خمسة وخميسة علينا يابطوط)
ضحك سعد على طريقته قائلاً بتقريع (هزر ياخويا براحتك كله هايطلع عليك فالبيت)
توجه الجد زين بالسؤال إلى ولده (إنت قولتلها؟)
رد عليه سعد بغيظ من تصرفات زوجته الخانقة (قولتلها ومانامتش طول الليل )
تحدث الجد بملامح واجمة ( أنا مستغرب والله هي بتكرهنا كده ليه دي ماشافتش مننا غير كل خير )
ربت سعد على كف أبيه قائلاً (ماتزعلش نفسك يابابا رويدا طول عمرها مغرورة وشايفة كل الناس أقل منها)
تنهد الجد باستسلام (أهم حاجة ماتخليهاش تضغط على ريان)
تأمل سعد ولده مبتسماً بفخر (ريان راجل و عمره ماهيعمل حاجة هو مش عايزها)
بادله ريان ابتسامته (ربنا يخليك ليا يا بابا )
أجابه سعد بنبرة حنونة (انا كل اللي يهمني سعادتك ياحبيبي ونفسي أشوفك مبسوط)
قاطعهما الجد زين مبتسماً (ربنا مايحرمكم من بعض ودايماً قلبك على قلب أبوك يا ريان )
رد ريان على جده بتأكيد (طبعاً ياجدو أنا ماليش حد فالدنيا غير بابا)
زمت الجدة فاطمة شفتيها بحنقها اللذيذ (واحنا روحنا فين ياسي ريان؟)
داعب ريان وجنتيها (انتِ هتغيرِ يابطوط ولا إيه؟ .. وبعدين هو انا ليا بركة إلا انتم برضه؟)
خبطته على كتفه بخفة قائلة (أيوه ياواد كل بعقلي حلاوة)
أمسك ريان كفيها يقبل ظاهرهما ثم قال بمرح (يابطة دول كلمتين بظبط بيهم الحاج أبو ريان عشان أكمل باقي اليوم معاكم)
ضحك سعد على حديث إبنه قائلاً ( تصدق انك عيل بتاع مصلحتك .. عالعموم انا هاطلع أحسن منك وهاعفيك انهاردة من الشغل )
تهللت أسارير الجدة كثيراً هاتفة بفرحة (أيوه كده ياولاد خلوا الفرحة تدخل بيتنا تاني )
***************
على صعيد آخر /
كانت الأجواء في الڤيلا مشتعلة ورويدا تستشيط غضباً بسبب بقاء ريان في بيت جده ضارباً بتحذيراتها من الذهاب هناك عرض الحائط بالإضافة لإغلاقه المتعمد لهاتفه مما جعل الدماء تغلي في عروقها ..لاعنة تحت أنفاسها فشلها في قطع علاقته بأهل والده ولطالما حاولت بشتى الطرق كي تخرجهما من حياته ولم تستطع لشدة تعلقه بهما..غيرتها العمياء منهما تأكل قلبها وكرهها الغير مبرر لهما يجعله دائماً نافراً منها ويتمنى العودة لحياته في بيتهما كمان كان سابقاً ..وبينما هي على تلك الحالة المزرية من الغيظ لاحت لها فكرة خبيثة فقامت بإجراء إتصال هاتفي بأختها تطلب منها الحضور مع إبنتها لتنفيذ ما طرأ بذهنها لإيقاع ريان في شركهن ..
وضعت رويدا الهاتف على أذنها منتظرة الرد حتى وصلها صوت شقيقتها تقول بهدوء إستفزها ( رودي حبيبتي إزيك؟)
صكت رويدا أسنانها متحدثة بإنفعال (إسمعيني كويس وإعملي اللي هاقولك عليه بالظبط)
إبتلعت نهى ريقها بخوف ثم سألتها ( فيه إيه يارويدا؟.. صوتك عامل كده ليه؟)
ردت عليها بضيق شديد (عايزاكِ تيجي انتِ وچيسي ومعاكم شنطة فيها هدوم ليها عشان هتقعد معانا كام يوم)
تسائلت نهى مرة أخرى (حصل حاجة ولا إيه؟ )
أجابتها رويدا بنبرة عالية (لما تيجوا هافهمكم)
لم تعطها فرصة للرد وأغلقت الخط في وجهها ترغي وتزبد من فرط عصبيتها...وبعد قرابة النصف ساعة أبلغتها الخادمة بوصولهما .. أمرتها أن تدخلهما غرفة الصالون ولم تمر دقائق حتى لحقت بهما.. أوصدت الباب جيداً خلفها متحدثة بملامح واجمة (كويس إنكم ماتأخرتوش )
توجست نهى من ملامح شقيقتها الغاضبة وسألتها بقلق (فيه إيه يارودي قلقتيني؟ )
تسائلت چيسي أيضاً بترقب (مالك يا أنطي؟..وإيه موضوع قعادي عندكم ده؟ )
جلست رويدا بالقرب منهما واضعة ساق فوق الأخرى بصلف شديد ثم قالت (بصوا بقى وإسمعوني كويس)
**************
عودة إلى منزل الجد زين /
لاحظ سعد تغييراً واضحاً على ريان رغم محاولاته في إدعاء الهدوء إلا أن لمعان عيونه يفضح ستر مشاعره وأحياناً يخونه شرود عقله للحظات فيصمت ويتحدث البريق بمقلتيه التائهتين مما دفع سعد إلى سؤاله بقلق (ريان إنت فيك حاجة؟)
توتر ريان من سؤال والده المفاجئ لكنه حاول تدارك الأمر قائلاً بثبات زائف (يعني هيكون فيه إيه ما انا عادي اهه )
إرتاب سعد من الإرتباك البادي على نبرة صوته رغم تظاهره بالاتزان وتسائل مرة أخرى (لا مش عادي... عيونك بتقول إن فيه حاجة جواك وبعدين إنت كنت إمبارح فالحفلة مع كريم سيبته ليه وجيت هنا؟)
أجابه باقتضاب (جدو وتيتا وحشوني وجيت أشوفهم )
قاطعهما الجد زين موجهاً حديثه إلى ريان (قوم ياريان شوف بطة خلصت الشاي ولا لسه وبالمرة هات القانون معاك)
إبتهج ريان كثيراً ونهض يهتف بسعادة (ثواني ويكون التخت جاهز)
ضحك جده على دعابته قائلاً بغمزة عابثة ( يلا بسرعة قبل ما الوحي يروح)
وبالفعل أطاعه ريان ودلف إلى الداخل بينما ظل الجد زين يراقب خطواته المسرعة وما أن تأكد من إبتعاده عنهما حتى هدر في إبنه بقوة (جرا إيه ياسعد إنت بتحقق مع الولد كده ليه؟)
أجفل سعد من صوت والده الجهوري ثم أجابه باحترام (مش تحقيق والله يابابا بس أنا ملاحظ انه مش بطبيعته وخايف يكون حصل حاجة فالحفلة امبارح)
تظاهر الجد زين بعدم معرفة الأمر متسائلاً باتزان مصطنع (حفلة ايه؟ ومن إمتى ريان بيروح حفلات؟)
رد سعد عليه موضحاً (دي حفلة خاصة بدار أيتام طلب مني إنه يحضرها بنفسه)
رفع الجد زين سبابته أمام وجه ولده مستمراً في تقريعه ( برضه خف عليه شوية ده شاب وله حياته الخاصة.. ريان عاقل ومؤدب سيب الدنيا تعلمه وماتقلقش عليه)
نظر سعد إلى والده متحدثاً بنبرة قلقة (حضرتك عارف أنا بحبه إزاي ونفسي أعوضه عن السنين اللي بعدتها عنه خصوصاً إن أمه معاملتها وحشة معاه ومش عايزه يكون زعلان من حاجة )
ربت الجد زين على كف إبنه (ربنا يباركلك فيه وتفرح بيه وبولاده )
أَمَّنَ سعد على دعاء والده مبتسماً (اللهم آمين.. بس هي فين دي اللي تملى عين الجميل؟)
تحدث الجد زين بلهجة مطمئنة (أكيد موجودة ..أنا واثق من إختياره)
إنتبه الجد زين لقدوم ريان يحمل آلة القانون الخاصة به مما دفعه لتغيير مسار الحديث وبعد دقائق لحقت به الجدة فاطمة ومعها أكواب الشاي المُعَدَّة خصيصاً لجلستهم المبهجة.. جلس الجميع ملتفين حول الطاولة ينتظرون ماسيتحفهم به الحاج زين الدين عاشق التواشيح الأندلسية ومقامات الراست وقبل أن يبدأ العزف نظر إلى غاليه الصغير نظرات ذات معنى لا يفهمه سواهما ثم تنحنح شادياً
(فـُـتِنَ الذي
فَــتَنَ القلوبَ بِحُسنِهِ
فإذا الجَمِيلُ بِليْلِهِ
يَشْكُو صَبَابةِ حُبِهِ
ظَبيٌ رَمَى عَنْ قَوْسِه
دَقَ الدُفُوفَ بِخَطْوِهِ
فإذا بِهِ سِهْمُ الهَوْىَ
قد استدار لِقَلبِهِ)
أغمض ريان عينيه منتشياً بصوت جده العذب الذي إخترق حواسه بكل كلمة يتغنى بها وكأنها فراشات ملونة تطير بداخله.. إستطاع هذا العجوز الحالم أن يرسل إليه معاني لمست قلبه واصفاً حالته كما لو كان مكانه.. والآن يجب عليه الإعتراف والإقرار بأنه فُتِنَ من رأسه حتى إخمص قدميه.. تلك الغزالة الكفيفة أصابته بسهم في منتصف روحه وكبلت نبضاته بأهداب منطفئة فماباله لو كانت مُبصَرَة..وياويله من عشقٍ قيده منذ الوهلة الأولى وياوَلَهِهِ في فاتنة أسرته بهدوءٍ مغوي.. أفاق من شروده على تصفيق والده يعلن إنتهاء وصلة الطرب الممتعة هاتفاً بإعجاب (مايفسده العالم يصلحه الشيخ فؤاد عبد المجيد)
رد عليه ريان بمرح (قصدك مايفسده العالم يصلحه صوت الحاج زين الدين)
ضحك الجد على دعابته قائلاً (ياه ياولاد بقالي زمان ما حسيتش بلمتكم حواليا)
ابتسم إليه ريان بحب (ربنا يحفظك لينا ويخلي حسك فالدنيا)
نظر سعد في ساعة يده قائلاً (الوقت سرقنا أوي).. ثم وجه الحديث إلى ريان (يلا عشان مانتأخرش أكتر من كده)
أومأ ريان بموافقة يقول وهو ينهض من مقعده ( ثواني هاغير هدومي ونمشي على طول)...أمسكت الجدة فاطمة بكفه قائلة ( إستنى خدني معاك ألحق صلاة العشا)
*************
إنتهى ريان من تبديل ملابسه وإتجه نحو غرفة جدته ليراها قبل أن يغادر وجدها تجلس بمفردها وعلامات الحزن بادية على ملامحها.. إقترب منها بابتسامته التي تُذْهِب همها قائلاً (إنتِ قاعدة هنا لوحدك يابطة وسايبانا.. إحنا خلاص ماشيين )
نظرت إليه جدته بحزن (مالحقتش أشبع منك)
أمسك كفيها يقبل ظاهرهما ثم قال (هاجيلك تاني قريب ماتقلقيش) ... رفع عينيه إلى وجهها لكنه لاحظ تجمع العبرات بمقلتيها مما أثار خوفه عليها فسألها بقلق (مالك يابطة؟ إيه الدموع اللي ف عنيكِ دي؟)
نظرت الجدة فاطمة لصورة موضوعة على حجرها لإمرأة شابة تقف بجوار زوجها ومعهما طفلة صغيرة تشبهها كثيراً ولم تتمالك نفسها من البكاء.. تناول ريان الصورة من يدها يتفحصها بحزن مماثل لحزن جدته (الله يرحمهم)
أجابته جدته من وسط بكائها ( ليلى وحشتني أوي)
شعر ريان بالدموع تتجمع بعينيه لكنه حاول التماسك قائلاً (الله يرحمها )
مسحت الجدة فاطمة على وجنته قائلة بابتسامة من بين دموعها (عارف يا ريان لو بنتها موجودة كان زمانها بقيت في سن الجواز دلوقتي)
سألها ريان بأسف (هي ماتت معاها؟)
ردت عليه جدته بنشيج مرير (والله يابني كل اللي نعرفه ان البنت ماكانتش معاهم فالحادثة ولما سألنا عليها قالولنا عندها دور سخونية جامد ومارضيوش يخلونا نشوفها وبعدها بلغونا انها ماستحملتوش وماتت) .. صمتت الجدة لثواني تستجمع نفسها لكنها إنخرطت في البكاء مجدداً قائلة بألم شديد ( ربنا حرمني من بنتي ومن ريحتها حتى يوسف إبن عبد الرحمن جوزها سمية خالته منعتنا نشوفه ومانعرفش عنه أي حاجة من يوم وفاة أبوه وعمتك)
إحتضنها ريان مواسياً (ده قضاء ربنا وقدره.. إدعيلهم بالرحمة وهم أكيد في مكان أحسن بكتير من هنا )
شددت جدته عناقه تقول بنبرة مهتزة ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهم لا إعتراض على قضائك)
إبتعد عنها ريان برفق طابعاً قبلة عميقة على جبهتها يمازحها ليخفف عنها قليلاً (ينفع تخليني أمشي وأنا قلقان عليكِ كده؟)
ربتت الجدة على وجنته (ماتخافش ياحبيبي أنا كويسة بس ماتطولش الغيبة عليا وتعالى تاني قريب)
نهض ريان من مكانه مبتسماً ثم قال ( حاضر والله هاجي المهم خدي بالك من نفسك لحد ما أشوفك تاني)
بادلته الجدة ابتسامته قائلة (تروح وتجيلي بالسلامة)
*************
في دار وسيلة لرعاية الأيتام /
تلقت إدارة الدار التهنئات والمباركات تباعاً للنجاح الذي حققه الحفل وأشاد الجميع بآداء مريم بلا إستثناء وبدورها قررت السيدة وسيلة مكافأتها على مجهودها المتميز في جعل مؤسستهم الخيرية محط إعجاب وإنبهار خاصة أنه كان بين الحضور وفداً من وزارة التضامن الاجتماعي والذي قرر منحهم درع التميز ... وأثناء تواجدها المعتاد في غرفتها منشغلة بقراءة أحد كتبها المكتوبة بطريقة برايل للمكفوفين إنتبهت مريم لطرقات خفيفة على الباب نهضت من مكانها تتحسس الأثاث والحوائط حتى وصلت إلى المقبض لتفتحه بينما إستأذنتها وسيلة بالدخول تعلمها بوجودها (ممكن أدخل يامريومة؟ )
إبتسمت مريم وهي تنظر للفراغ أمامها متحدثة بهدوءها العذب (طبعاً اتفضلي ياماما)
أمسكت وسيلة كفها الرقيق برفق ودخلت معها قائلة (مبروك ياحبيبتي الحفلة كسرت الدنيا وانتِ كنتِ زي الملايكة الله أكبر عليكِ ) ..
أسبلت مريم جفنيها تجيبها بابتسامة تشرح الصدر ( الله يبارك فيكِ )
أحاطت وسيلة كتف مريم بذراعها تهتف بسعادة (بصي بقا يا ستي الدار صرفتلك مكافأة إتحطت في حسابك خلاص )
توردت وجنة مريم من الخجل ثم قالت (ماكانش له داعي أبداً انا متربية في الدار وده جزء من أفضال حضرتك عليا )
مسدت وسيلة على شعرها بحنان (ياحبيبتي انتِ تعبتِ ولازم نقدر مجهودك.. وبعدين فيه مفاجأة تانية بس يارب تعجب القمر بتاعنا)
ابتسمت مريم قائلة (كده كتير عليا والله ياماما)
إحتضنتها وسيلة قائلة بحب ( مفيش حاجة كتير عليكِ ياقلب ماما).. ظلت وسيلة تشدد عناق صغيرتها ثم أبعدتها ووضعت شيئاً بكفيها تتابع حديثها بتركيز (ده موبيل معمول مخصوص بطريقة برايل عشان تعرفِ تستخدميه بسهولة)
فغرت مريم شفتيها بذهول (بس ده غالي أوي )
مسحت وسيلة على وجنتها برفق ثم قالت (ده أقل حاجة ممكن أعملها عشانك) ... صمتت لثواني تسألها بإستغراب لوجودها في الغرفة بمفردها (هي صباح فين؟)
أجابتها مريم بنبرة هادئة (راحت تشوف سلمى عشان مش بترضى تسكت غير معاها)
تحدثت وسيلة بتشجيع (تحبِ نتمشى شوية؟)
أومأت مريم قائلة بموافقة (أنا كنت رايحة أوضة الموسيقى)
تأبطت وسيلة ذراعها حتى لا تشعر بالحرج وأنها تحتاج كفها لتستند عليه قائلة وهي تخرج معها (تعالي أوصلك فطريقي للمكتب عشان ماتزهقيش من المشي لوحدك) .. أهدتها مريم إبتسامة مشرقة وإمتثلت لطلبها وبعد عدة خطوات إنتبهت لصوت ريهام تناديها فتوقفت حتى تلحق بها .. إتجهت ريهام نحوهما سريعاً ثم ألقت عليهما التحية وإستأذنت وسيلة بالإنصراف بعد إطمئنانها لوجود مريم برفقة صديقتها ..
أحاطت ريهام كتفها تسألها بمرح (إزيك يامريومة؟ )
أجابتها مريم مبتسمة كعادتها (أنا كويسة الحمدلله .. إنتِ كنتِ فين من الصبح؟)
ردت عليها ريهام بإرهاق (كنت فالچيم عشان زميلتي إستأذنت تاخد شيفت بالليل مكاني )
حاولت مريم التخفيف عنها تقول وهي تمد يدها بالهاتف أمامها بسعادة (شوفتِ ماما وسيلة جابتلي ايه؟ )
تفحصت ريهام الهاتف قائلة بفرحة (الله ده تحفة يامريم وغالي أوي )
ابتسمت مريم مردفة بمرح (الدار كمان صرفت ليا مكافأة حطوها في حساب خاص بيا فالبنك)
إحتضنتها ريهام بحب (مبروك ياقلبي إنتِ تستاهلِ أكتر من كده).. إبتعدت عنها برفق ثم أمسكت كفها قائلة بترقب (كنت عايزة أقولك على حاجة غريبة أوي حصلت إمبارح فالكواليس)
تسائلت مريم بتعجب (خير ياحبيبتي إيه اللي حصل؟)
جاوبتها ريهام بحيرة شديدة مما حدث (فيه واحد سأل عليكِ ولما سألته عايزها ليه قاللي موضوع شخصي)
زاد تعجب مريم من الأمر وتسائلت مرة أخرى (موضوع شخصي؟!..وماعرفتيش يطلع مين ده؟)
ردت عليها ريهام بقلة حيلة (للأسف ماعرفتش بس أنا سكيته على دماغه وكنت هاطلبله الأمن)
ضحكت مريم قائلة (كل ده عشان سأل عليا بس؟..أمال لو كلمني كنتِ عملتِ فيه إيه؟)
أحاطت ريهام كتفها مجدداً تقول بحب ممزوج بالخوف (أنا بخاف عليكِ أوي يامريم خصوصاً إنك زي القمر )
ردت مريم عليها بسخرية (أمر بالستر ياختي وبعدين الشاب ده هيعمل بيا إيه؟)
شهقت ريهام بإندهاش من كلامها ( يابنتي إنتِ حتة بسكوتة ماينفعش حد يقرب منك أصلاً ) .. ثم صمتت تحاول إخفاء حزنها على حال رفيقة دربها الغالية وأردفت بمرح كي لاتنتبه لتأثرها ( بس بيني وبينك الواد اللي سأل عليكِ إمبارح ده زي القمر )
انفجرت مريم ضاحكة على طريقتها قائلة (كل ده وطردتيه؟.. أمال لو كان وحش كنتِ قتلتيه مثلاً؟)
أجابتها ريهام بأسف مصطنع (والله طردته على عينيا أصله بصراحة كده حاجة مش موجودة فالوجود )
سألتها مريم بفضول (واللي مش موجود فالوجود ده عايز مني إيه؟)
جاوبتها ريهام بعدم فهم (مش عارفة.. بس ماتقلقيش صورته إتحفرت في دماغي ولو شوفته تاني هاجيبه من قفاه وأعرف كان بيسأل عليكِ ليه)
إبتسمت مريم قائلة ( خلاص أوصفيهولي عشان أعرف أضربه لما تمسكيه من قفاه)
وقفت ريهام أمامها تلوح بيدها في الهواء وكأنها ستراها قائلة بهُيام (أوصفلك إيه ولا إيه ولا إيه؟)
حثتها مريم على الحديث بنفاذ صبر (ياستي إوصفي اللي شوفتيه)
ضحكت ريهام على طريقتها ثم أردفت ( بصي ياستي مبدأياً كده لابس بدلة شيك أوي وجسمه مفرود طول بعرض إسم الله عليه)
رفعت مريم زاوية شفتها العليا قائلة بتذمر (وبعدين ياست المسهوكة)
إستكملت ريهام وصفها لريان بحماس (أبيضاني وشعره فاتح زي لون شعرك )
همست مريم في نفسها ( آل يعني أنا عارفة لون شعري)
سألتها ريهام بتعجب (بتقولِ إيه؟)
صكت مريم أسنانها بغيظ (ولا حاجة كملي يا آخر صبري)
تابعت ريهام حديثها بتنهيدة (شعره سايح ونايح كده ولاعيونه يامريم يخربيت جمال عيونه واسعين ومرسومين ولونهم نفس لون عنيكِ بالظبط )
اندهشت مريم كثيراً من وصفها وسألتها (نعم؟! .. هو نفس حاجاتي ليه؟)
إقتربت ريهام منها تسند رأسها على كتفها قائلة بنبرة والهة (ولا شفايفه يامريم فراولة يا أوختي ومناخيره صغنونة زي مناخيرك)
لم تستطع مريم التحكم في نفسها فضحكت متسائلة (حتى دي كمان؟)
تبادلت ريهام معها الضحكات قائلة (آه والله الواد عسل أوي)
توقفت مريم عن الضحك بشق الأنفس ثم قالت (كفاية زمانه ولع من عينك الصفرا)
تأبطت ريهام ذراعها مرة أخرى (ده أنا تتقلع عيني يوم ما أحسده)
تحدثت مريم ساخرة كعادتها من ظروفها ( لا كله إلا كده كفاية أنا ..صباح مش هاتعرف تمسكنا إحنا الإتنين)
تألمت ريهام من سخرية مريم الدائمة على حالها لكنها حاولت إخفاء مايعتمل في صدرها (هو انا أطول ابقي زيك يا ست البنات؟)
إبتسمت مريم بامتنان (ربنا مايحرمني منك أبداً يا حبيبتي)
نظرت إليها ريهام بحب ثم قالت (اللهم آمين ويحفظ قلبك الطيب من كل شر)
****************
ماساتي الحبيبات صباح الورد الجوري على عيونكم
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹
رواية (عيون الريان)..(النسخة المعدلة)
بقلم (نيللي العطار)
(الفصل الخامس)
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹
أعرف هذه الرؤيا وأعرف أنني أمضي إلى مالست أعرف .. ربما مازلت حياً وأؤمن بأني سأجد الطريق يوماً ما إلى ذاتي .. إلى حلمي.. إلى ما أريد
(محمود درويش)
****************
ساد صمت بينهما مشحون بالتفكير وبعد دقائق فرقع كريم بأصبعيه قائلاً بحماس (بس لقيتها)
إنتبه إليه ريان يسأله بتحفز (هي إيه دي اللي لقيتها؟ )
أجابه كريم مبتسماً بثقة (ركز واسمعني كويس)
كتف ريان ذراعيه أمام صدره قائلاً بقلة حيلة (ماشي بس يارب تقول حاجة مفيدة)
إستند كريم بمرفقيه على الطاولة متحدثاً بإهتمام (انت هتروح مقر الدار وهتطلب تقابل المسئول على إنك متبرع بس مش هاتتبرع بفلوس)
رمقه ريان بعدم فهم ثم أجابه ساخراً (أمال هروح اتبرعلهم بكليتي مثلاً؟)
ضحك كريم على مزحته (يابني مش انت صاحب شركة عقارات؟)
رد ريان بنفاذ صبر (إنجز ياكريم انا مش فاهم حاجة)
تحدث كريم بنبرة واثقة (قصدي إنك تشوف لو محتاجين إصلاحات ف المباني وبكده هاتقدر تعاين الدار كلها.. ماتفتح مخك معايا بلاش غباوة بقى)
رمقه ريان باستنكار مصطنع (شوف يا أخي الزمن خلاني أقعد مع واحد حمار زيك يفكر في حل لمشكلتي)
خبط كريم كفيه ببعضهما (والله أنا غلطان عشان بفكر معاك ياجلَّاب المصايب ياخرابة انت)
ضحك ريان على طريقته قائلاً (معلش خدني على قد عقلي)
رفع كريم حاجبه متحدثاً بنبرة مشجعة (يبقى تصحصح معايا كده وتفكر فاللي قولتلك عليه)
أمسك ريان فنجان قهوته يشرب منه ثم قال بهدوء (مش هانكر إنها فكرة كويسة بس برضه محتاج سبب مقنع يخليني أقرب من مريم )
إرتشف كريم بعضاً من كوب الشاي خاصته قائلاً (حط رجلك الأول ف الدار وإتأكد إنها مقيمة هناك وبعدين يحلها الحلَّال)
وضع ريان فنجان القهوة مكانه قائلاً باستهزاء (نسيت أقولك صحيح... مش چيسي هتقعد معانا)
سأله كريم بتعجب (نعم؟! ...ليه وازاي؟)
أجابه ريان بملامح ممتعضة (وقعت من على سلم الڤيلا عندنا والدكتور كتبلها راحة إسبوعين)
تحدث كريم بسخرية (وطبعاً مش هاترتاح الا جنب حبيب القلب؟)
زفر ريان بضيق (هو فيه فرصة احسن من كده؟)
شعر كريم بالشفقة عليه من الأوضاع التي ترهق أعصابه لكنه أخفاها في سره قائلاً بقلق (خد بالك من نفسك)
إبتسم ريان قائلاً بنبرة مُتْعَبَة ( ربنا يستر)
****************
في ڤيلا سعد زين الدين/
أنهى ريان مقابلته مع كريم ثم أوصله لمنزله وإنطلق إلى الڤيلا مترقباً لِمَ سيحدث في وجود چيسي.. يشعر بغرابة تجاه الأمر وتتصاعد بداخله الشكوك أنها حيلة مُدَّبرة للتقريب بينهما.. مجرد التفكير في مكوثهما بمكان واحد جعله يختنق فماذا لو أطاع والدته وتزوجها؟.. ولماذا تفرض نفسها عليه وهو لم يعطها أي وعد بالإرتباط من قبل؟.. وكيف يوضح ويشرح عدم إنجذابه لها؟.. بكل بساطة لا يحبها.. هل يوجد مبرر أقوى؟ .. وهل الرفض يحتاج لذلك التعقيد السخيف؟.. يريد الوقوف أمام الجميع ويعلنها بملأ فمه وإرادته (لا أحب.. لا أنتمي ولا أريد).. كلمات سهلة يستطيع طفل في الرابعة من عمره أن يصف بها تلاشي رغبته نحو وجبة طعام أو لعبة يكرهها ومن المؤسف أن ينقلب الوضع في حياة شاب بالغ يودون سلب أقل حقوقه.. وأثناء دخوله من الباب الرئيسي للڤيلا تفاجئ بصوت والدته تهتف بحنق (طبعاً هاتطلع أوضتك بسرعة عشان ماتسلمش على بنت خالتك)
أجفل ريان بشدة من ظهورها أمامه كالشبح ثم وضع كفه فوق صدره ينظم تنفسه قائلاً (خضتيني ياماما!)
رفعت رويدا حاجبها مبتسمة بإستهزاء (ماهو لو أنا عارفة إنك هاتيجي تسلم على چيسي من نفسك ماكنتش إضطريت أمسكك هنا)
أجابها ريان مستنكراً (إنتِ ماسكة حرامي؟! ..ده بيتي لو مش واخدة بالك)
كتفت رويدا ذراعيها تقول بتعابير مستفزة (إتفضل يابشمهندس يامحترم رحب بالضيوف الموجودين في بيتك)
مسح ريان وجهه وخصلاته براحتيه قائلاً بنفاذ صبر (أستغفر الله العظيم).. صمت لثواني يحاول تهدئة أعصابه ثم أردف بقلة حيلة (حاضر ياماما)
إستدارت رويدا بصلف شديد رافعة ذقنها والغرور يتقافز حولها بينما هو تبعها نحو الحديقة حيث تجلس چيسي والضيق يعتلي ملامحه .. إقترب منها وصدره يموج من الغضب عندما لاحظ إرتداءها لملابس لاتليق بخروجها من غرفة نومها.. غير مراعية لبقائها بمنزل غريب عنها ولا لوجوده وكأنها متعمدة إغراءه بتلك الأفعال الرخيصة.. إضطر للترحيب بها فهي في كل الأحوال ضيفة .. (ثقيلة وغير مرغوب بها).. لكنها ضيفة وحتماً ستغادر آجلاً أم عاجلاً .. مد يده يصافحها قائلاً بإبتسامة سخيفة (إزيك ياچيسي؟)
بادلته چيسي إبتسامته بأخرى مائعة تقول بوهن مصطنع ( بحاول أكون كويسة بس رجلي لسه بتوجعني أوي)
رد عليها ريان ضاغطاً على إنفعالاته ألا يلكمها في فكها لعدم اقتناعه بتمثيلها (ألف سلامة عليكِ)
مطت چيسي شفتيها تقول بغنج مُتَعَمد (ميرسي)
قاطعتهما رويدا بحماس ظناً منها بأن خطتها تسير على مايرام (هاخليهم يحضروا الغدا أصل چيسي مستنياك عشان تاكل معاك)
كتم ريان زفرة مختنقة حتى لا يصرخ بهما قائلاً بثبات زائف (شكراً .. اتغديت برا مع كريم )
رمقته رويدا بغيظ بينما غمزت لها چيسي أن تلتزم الصمت وقالت بحزن إعتقدت أنها نجحت في تمثيله (مفيش مشكلة براحتك يابيبي)
أشاح ريان بعينيه بعيداً عنهما يقول بضيق يجاهد على إخفائه (أنا تعبان أوي ومحتاج أنام.. عن إذنكم) .. وقبل أن ينصرف تفاجئ بچيسي تمسك معصمه بضعف ممزوج بدلعها السخيف (ممكن توصلني أوضتي؟)
شعر ريان بإحراج بالغ ولأول مرة يجد نفسه غير قادر على التصرف وإضطر أن يوافقها على مضض مكتفياً بإيماءة صامتة حتى لا يصبح قليل الذوق كما تنعته والدته حينما ينسحب في مثل هذه المواقف .. وبعد ثواني إستغرقها بالتفكير مد كفه نحوها كي تستند عليه وما أن إستقامت واقفة حتى تظاهرت بالتعب الشديد ورغماً عنه أحاط خصرها كرد فعل طبيعي ليساعدها على المشي..سارت معه بضع خطوات متعمدة الإلتصاق به ولم تكتفي بهذا القدر من التمثيل تقول بإستعطاف (بليز ياريان شيلني مش قادرة أمشي أكتر من كده)
إندهش ريان من طلبها الغريب ثم سألها بتعجب ليتأكد مما وصل إلى مسامعه (بتقولِ إيه؟!.. أشيلك إزاي؟)
إصطنعت چيسي البكاء قائلة (رجلي بتوجعني أوي)
ظل ريان يحدق فيها كالصنم ولسانه معقود عن الكلام..يخيم على عقله سحابة سوداء من التشتت والشرود المصحوب بغباء ليس من صفاته حتى أفاق على ذراعيها يطوقان رقبته هامسة بنبرة ضعيفة تعمدت إصباغها بالإغراء ( مش عارفة أدوس عليها خالص)..
إبتلع ريان ريقه بصعوبة ولم يجد مفر سوى تنفيذ طلبها حتى يتخلص من إقترابها المزعج وإنحنى بجسده قليلاً يضع ذراعاً حول خصرها والأخرى أسفل ركبتيها ثم حملها بخفة وداخله يشتعل ناراً ولو كان الأمر بيده لألقاها خارج الڤيلا تماماً أما هي فإستندت برأسها على صدره متمادية في تمثيليتها الحقيرة وبالطبع لم تغفل عن عيني خالتها التي تراقب مايحدث والسعادة تغمرها معتقدة أن چيسي تسلك درباً أصح وأقصر من الذي رسمته .. وبعد لحظات وصل بها ريان أمام باب غرفتها .. أدار المقبض بشق الأنفس ولم ينتبه لأصابعها التي تفك أزرار قميصه مستغلة محاولاته في إضاءة المصباح لكنه لم يستطع فمدت ذراعها من خلفه وقامت بتشغيله ضاحكة بميوعة تعمدتها قاصدة إغوائه لتصبح بين أحضانه رسمياً .. فغر شفتيه بصدمة عندما إنتبه لقميصه المفتوح وأصابعها تعبث بعضلات صدره ونظراتها تأكل شفتيه تدعوه لتقبيلها بوقاحة وقلة حياء لم يتخيل يوماً أن تصل إليها فمن المفترض أنها إبنة خالته ولولا أفكارها المريضة لوضعها بمكانة أخته الصغرى .. حاول إنزالها على السرير لكنها تشبثت بياقة القميص المفتوح أكثر مما جعله يجثو فوقها غصباً عنه .. نظر إليها مصعوقاً من جرأتها فبادلته نظرته بجرأة أكبر وعينيها تتفحص عضلاته البارزة بطريقة أخجلته كثيراً .. نهض سريعاً من فوقها يحدجها بإحتقار ولم يجد كلمة تصف شعوره فآثر الصمت ثم إتجه نحو غرفته في أعلى درجات الغضب لتصرفاتها التي تخطت كل الحدود الحمراء وبعد دقائق من خروجه صعدت إليها رويدا بتوجس لتطمئن على سير مخططها.. قصت چيسي ماحدث على مسامع خالتها بفخر شديد تظن أنه إرتبك ووصل لذروته تأثراً بفعلتها .. لا تعلم أن الذروة الوحيدة التي وصل لقمتها هي ذروة الإحتقار والبغض.. تهللت أسارير رويدا كثيراً فمخيلتها الضيقة جعلتها تقتنع بتفسير إبنة شقيقتها الحمقاء وهتفت بإعجاب مبالغ فيه (براڤو عليكِ هو ده اللعب الصح ياحبيبة أنطي)
إبتسمت چيسي بغرور ثم قالت (أراهنك إنه مش هايستحمل فإيدي إسبوع)
ضحكت رويدا قائلة ( كتري بقا من الحركات دي طالما جابت نتيجة عايزاه يجيلي مستوي عالآخر)
*****************
في غرفة ريان /
ذرع ريان أرضية غرفته ذهاباً وإياباً بتوتر شديد لا يصدق أنه تعرض للتحرش على يد تلك البغيضة التي إزداد كرهاً لها وكلما تذكر لمساتها ونظراتها الوقحة يجتاحه شعوراً قوياً بالتقزز.. يقاوم رغبة عارمة بالتقيؤ وبدون مقدمات خلع قميصه المُدنس بأصابع الغانية عاقداً النية على إلقائه في سلة القمامة ثم دلف إلى الحمام ليتخلص من آثارها على جسده.. وقف تحت المياه علَّها تهدئ من إشتعال غضبه.. يفكر كيف سيواجه والدته ويعلنها صراحةً أمام الجميع أنه لا يحب چيسي ولن يجازف ويتجاهل مشاعر عدم الإرتياح بداخله.. متأكد من صدق حدسه وغرائزه تخبره بوجود خطأ ما فالله لم يخلق شيئاً عبثاً ولغة جسده النافر لا تخطئ أبداً .. وبعد وقت طويل أنهى حمامه وخرج مرتدياً ملابسه وللأسف مازال مختنق وأحس بأن جدران الغرفة تطبق على صدره لدرجة جعلت أنفاسه ثقيلة وحاجة رئتيه للهواء أصبحت ملحة.. فتح الشرفة ينشد الهدوء لكن هيهات والضجيج يحتدم بدواخله وكأن في رأسه مقبرة يستيقظ موتاها ليلاً .. سحب نفساً عميقاً ثم زفره على مهل مطبقاً جفنيه.. يناجي ربه ويسأله دليلاً على الطريق الصحيح .. فالله هو المنطقة الآمنة الوحيدة لشخص دائم الخوف مثله.. فتح ريان عينيه يتأمل السماء بنجومها وقمرها المكتمل الذي يتوسط جوفها بمنظر لا يتكرر كثيراً ولا يعلم من أين ظهر وجه مريم ليرتسم فوق بدر التم وإبتسامتها الهادئة تخرج من وراء الغيوم لتنير ظلام العالم.. وأخيراً تسربت إليه بعض الراحة فمجرد تجسد طيفها أمام ناظريه أثلج صدره حتى روحه همست بتنهيدة مشتاقة (أصابتني بسهم عينيها في منتصف الجبهة وقل لن يصيبنا إلاما كتب الله لنا) ولم يحسب الدقائق التي أمضاها على تلك الحالة حتى غلبه النعاس.. تثائب بتثاقل ثم خرج من الشرفة ليغلقها جيداً وخفف الإضاءة إستعداداً للنوم.. إستلقى فوق الفراش وظل يحدق في السقف أعلاه ومتاريس التفكير تطحن عقله ليجد طريقة تمكنه من الوصول لمريمته وفجأة طرأت بذهنه فكرة فأمسك هاتفه يتصل بكريم حتى يخبره بها .. رد كريم عليه بصوت ناعس بينما سأله ريان بحماس (إنت نايم ولا إيه؟)
حاول كريم الإستفاقة قائلاً بلسان ثقيل (كنت لسه هاروح فالنوم دلوقتي)
إعتدل ريان في جلسته يحثه على التركيز (فوق كده وإسمعني كويس)
دلك كريم عينيه متسائلاً بقلق (فيه إيه يابني حصل حاجة بعد ماسيبتني؟!)
تنهد ريان بإرتياح وإبتسامة جميلة تزين وجهه المليح (أنا جاتني فكرة حلوة أوي هتخليني أدخل الدار وأدور علي مريم براحتي)
نفض كريم الغطاء عنه صاكاً أسنانه (إنت مصحيني عشان ست مريم بتاعتك؟)
إتسعت إبتسامة ريان أكثر والكلمة التي ضمت إسم مريم لخاصته ترن في آذانه كنغمة هاربة من وتر كمان قائلاً بتأكيد (آه عشان ست مريم بتاعتي)
زفر كريم بغيظ (إنجز يا روميو وقول فكرت فإيه)
أجابه ريان محاولاً ترتيب أفكاره (بص ياسيدي انا هاروح الدار وهاقابل المسئول على أساس اني عايز أبني مبنى جديد هناك)
سأله كريم بتعجب (إنت عارف الموضوع ده هايتكلف كام؟)
إستلقى ريان مرة أخرى قائلاً بثقة (يتكلف زي مايتكلف المهم أشوفها)
إستند كريم بمرفقه على الوسادة واضعاً قبضته أسفل خده يسأله بقلة حيلة (وهاتقول إيه لأبوك؟)
جاوبه ريان متثائباً (ابويا مش هيرفض حاجة زي كده)
مسح كريم وجهه بنفاذ صبر (وافرض ماعندهمش أرض تبني عليها؟)
إنقلب ريان على جانبه يقاوم النعاس بأعجوبة (الأول هاقولهم اني عايز اتفرج عالدار عشان أجدد المباني القديمة وبعدين اقترح عليهم موضوع المبني الجديد)
حك كريم رأسه قائلاً (والله الفكرة مقنعة جداً)
تحدث ريان بنبرة متخدرة أثراً للنوم الذي يداهم جفنيه (ادعيلي اشوفها لما أروح)
جذب كريم الغطاء عليه مجدداً داعياً (يارب تشوفها وترتاح يامجنون يا ابن المجنونة)
ضحك ريان بخفة (إتخمد ياحيوان)
بادله كريم ضحكاته قبل أن يغلق الخط (سلام يا آخر صبري)
****************
في صباح اليوم التالي /
تعمد ريان الإستيقاظ مبكراً عن موعده ليتسلل بهدوء من الڤيلا تجنباً لمواجهة والدته ورؤية چيسي التي ترقد في الغرفة المجاورة لغرفته حتى يذهب لعمله بكامل تركيزه دون مضايقات ومشاحنات سخيفة خاصةً أن عقله منشغل بما سيقدم على تنفيذه وفكرة الذهاب لدار وسيلة بحجة إقامة مبنى جديد لم تغيب عن باله وصورة مريم تراوده كلما أغمض عينيه ويكاد يجزم أنها زارته في منامه لتحثه على القدوم فهي تنتظره كما يطوق هو لرؤيتها.. وصل إلى الشركة وإتجه نحو مكتبه يطلب من سكرتيرته رقم دار وسيلة علوي فوراً ثم دلف إلى الداخل وبمجرد جلوسه على كرسيه وجدها تتبعه وبيدها بطاقة مدون بها هاتف وعنوان الدار أخذها منها يشكرها مبتسماً بينما هي سألته إذا كان سيكلفها بشئ آخر فأجابها (لو عندك أي حاجة مهمة بلغيني بيها بسرعة)
أومأت رانيا إيجاباً ثم قالت بإحترام (حاضر يافندم.. أي أوامر تانية؟)
أشار لها أن تنصرف قائلاً (متشكر أوي بس ياريت لما بابا ييجي عرفيني ضروري)
إنصرفت رانيا إلى مكتبها لتتابع أعمالها وبمجرد إغلاقها الباب وراءها أمسك الهاتف و إتصل فوراً بالرقم المكتوب بالبطاقة وبعد رنات متتالية أتاه الرد مباشرة من مكتب وسيلة علوي وإستطاع تحديد موعداً مع سكرتيرتها لمقابلتها في تمام السادسة مساءً .. أغلق الخط مبتسماً بشرود لبضع دقائق حتى أفاق على رنين الهاتف فأجاب ليصله صوت رانيا تبلغه بوصول والده ..أنهى المكالمة ونهض مسرعاً ليخبره بما يدور في رأسه.. طرق بخفة على الباب ثم دخل يلقي التحية بإبتسامة مشرقة يعلم جيداً أنها محببة إليه (صباح الخير )
بادله سعد إبتسامته بأخرى أكثر إتساعاً (صباح النور ياحبيبي.. رانيا قالتلي إنك عايزني)
جلس ريان على الكرسي المقابل للمكتب يمازحه (وحشتني شوية قولت أصبح عليك يا ابو ريان ياغالي)
فهم سعد أن إبنه يريد شيئاً وضحك على دعابته قائلاً (عايز ايه ياريان؟)
أشار ريان إلى نفسه ببراءة مصطنعة (كده تجرح مشاعري؟ .. فعلاً الواحد ماينفعش يقول كلمتين حلوين لأبوه ف الزمن ده)
ضيق سعد نظراته يجيبه بمرح (ياواد يابكاش.. هات ماعندك)
إبتسم ريان قائلاً (طالما حضرتك فاهمني يبقى هادخل فالموضوع على طول .. فاكر دار وسيلة علوي؟)
رد عليه سعد بتأكيد (آه طبعاً فاكرها)
إستجمع ريان شجاعته محاولاً إخفاء التوتر المتملك منه قائلاً بنبرة ثابتة ظاهرياً (أنا أخدت منهم معاد انهاردة وهاروح اشوف المباني اللي محتاجة تصليحات وهاقترح عليهم إن شركتنا تتكفل بتجهيز مبنى جديد كتوسعة للدار لو عندهم أرض صالحة للإنشاء)
تحمس سعد كثيراً للأمر قائلاً بإعجاب (عظيم جداً.. والله فكرة هايلة وبره الصندوق)
سأله ريان بفرحة لم يستطع مداراتها (بجد يابابا حضرتك موافق؟)
أجابه سعد بتأكيد (طبعاً موافق وهاخصص ميزانية ليهم ومش بس كده ده احنا كمان هنغير الفرش والديكورات كلها)
تهللت أسارير ريان كثيراً يقول بإمتنان لوالده (حضرتك أحسن أب ف الدنيا كلها ويارب يقدرك دايماً على فعل الخير)
ربت سعد على كف ولده داعياً بحنو بالغ (ويحفظك ليا ومايحرمنيش منك أبداً ياحبيبي)
صمت ريان لثواني ثم سأله بترقب (ممكن طلب أخير؟)
جاوبه سعد مازحاً (طلباتك كترت ياسي ريان )
أطرق ريان رأسه لأسفل بحزن مصطنع (من عشمي فيك يا ابو ريان)
ضحك سعد على طريقته اللطيفة (عايز ايه تاني؟)
أعاد ريان أنظاره نحو والده قائلاً بتوجس (عايز أشتغل بنفسي فالموضوع ده)
رد عليه سعد بجدية (ممكن نعين لجنة وهم يقوموا باللازم وزيادة وبعدين أنا مابستغناش عن وجودك فالشركة)
تحولت نظرة ريان إلى الرجاء قائلاً (عشان خاطري يا بابا)
بادله سعد نظراته بأخرى حانية ثم قال (وحشك الشغل بإيدك يابشمهندس؟)
أجابه ريان ضاحكاً (حاجة زي كده.. وإذا كان عالشركة كريم موجود يسد مكاني)
تنهد سعد بقلة حيلة ( إنت عارف اني مش هاقدر أردلك طلب بس على شرط تعدي كل يومين تتابع شغل الشركة مع كريم)
نهض ريان من مكانه قائلاً بسعادة بالغة (حاضر والله ماتقلقلش كل حاجة هاتبقى تمام)
أنهى حديثه وإبتسامته لا تفارق ثغره ثم إستأذن بالإنصراف ليتابع أعماله وينجزها في وقت قياسي ليذهب لرؤية مريمته الغامضة .. يشعر وكأن قلبه سبقه حيث تمكث المليحة التي سرقت لُبَّه وجعلته يتصرف كالصبيان ليلمح طرف لحظيها ..مرت ساعة كاملة ووصل كريم إلى الشركة بعد إستلام سيارته من التوكيل وإتجه نحو مكتب صديقه بتحفز ليطمئن على أخباره..طرق الباب بخفة ثم دخل يلقي التحية بمرحه المعتاد (ياصباح الخيرات)
سأله ريان بضيق مصطنع (إنت فين يا بيه من الصبح؟)
جلس كريم قبالته واضعاً ساق فوق الأخرى (كنت بستلم العربية من الصيانة)
رفع ريان حاجبه قائلاً بتقريع (ربنا يستر وماتخبطهاش تاني)
خبط كريم بكفه على سطح المكتب قائلاً (سيبك مني دلوقتي وطمني عملت ايه فموضوعك؟)
أرجع ريان ظهره للوراء يبتسم قائلاً (إتصلت بالدار وخدت منهم معاد الساعة 6 وكلمت ابويا ووافق على الفكرة)
تحدث كريم بحماس لفرحة صديقه البادية على ملامحه (حلو أوي كده مش باقي غير إنك تدور على ست الحسن والجمال بتاعتك)
شبك ريان كفيه بحركة علم منها كريم أنه ينوي توريطه في أمرٍ ما فمط شفتيه بقلة حيلة (شِلّني يلا وقولي هاتدبسني فإيه)
ضحك ريان قائلاً (كل ماهنالك اني هاشتغل فالدار بنفسي وحضرتك هتقوم بشغلي هنا لحد ما أخلص)
عقد كريم ذراعيه أمام صدره قائلاً بمراوغة (والله لو مرتبي هيزيد انا مستعد اقوم بشغل بشمهندس سعد شخصياً)
رمقه ريان بإستنكار ( آه يا مادي ياحقير بدل ماتشيل أخوك لحد ماتجوزه وتسَتّره)
لوح كريم بكفه في الهواء معترضاً بمزاح (وربنا ماحد عايز يتسَتّر غيري ده انا قربت أتكاثر ذاتياً)
تعالت ضحكات ريان على دعابته بينما تابع هو بابتسامة لطيفة (عامةً يعني أنا موافق)
نظر إليه ريان قائلاً بحب (ربنا يخليك ليا ياكيمو ويديم المحبة مابينا يارب)
نهض كريم مؤمناً على دعائه (اللهم آمين.. هاسيبك تخلص اللي وراك وهاروح أشوف شغلي)
أومأ ريان موافقاً (وانا الساعة 5 هامشي عشان الحق معادي مع وسيلة)
****************
مرت الساعات على قلب ريان بطيئة لا يعلم إذا كان إحساسه يغالب ثوانيها أم أن تلك المشاغبة تعانده قاصدة لكنه متيقناً بالوصول في موعده وبالفعل أنجز أعماله بوقت قياسي وإنصرف متجهاً حيث تسكن (ست الحسن والجمال خاصته) كما نعتها رفيقه وتمنى أن يصبح هذا النعت حقيقة يلمسها بكفيه ويراها رؤيا العين.. وصل أخيراً أمام الدار وقام بصف سيارته ثم ترجل ليطلب من حارس الأمن الذي يقف على البوابة إبلاغ مكتب المديرة بأنه ينتظر الإذن بمقابلتها وفي غضون دقائق إستقبلته السيدة وسيلة بحفاوة شديدة تصافحه بترحيب (أهلاً بيك يابشمهندس..الدار نورت)
صافحها ريان مبتسماً بإحترام (منورة بوجودك ياافندم)
أشارت له وسيلة أن يجلس على الكرسي المقابل لمكتبها ثم جلست هي خلفه قائلة (إتفضل إستريح.. قهوتك إيه؟)
أطاعها ريان قائلاً بآلية تامة (مظبوطة)
طلبت وسيلة من السكرتيرة إحضار قهوة ضيفها عبر الهاتف وأردفت مبتسمة برسمية (طبعاً أنا إتشرفت بزيارتك بس حابة أعرف السبب)
أجابها ريان بثبات رغم تحفزه للقادم (حضرتك أكيد عارفة إننا شركة عقارات وإنشاءات معمارية .. شركتنا فكرت في تقديم تبرعات للدار بس بطريقة مختلفة شوية بمعنى إن الإدارة هاتخصص لجنة فنية لمعاينة المباني وتحديد الإصلاحات اللازمة وهانجدد المكان كله)
إتسعت إبتسامة وسيلة قائلة بفرحة لم تستطع التحكم بها (بس اللي بتقوله ده تكلفته كبيرة جداً)
بادلها ريان إبتسامتها قائلاً (ده واجبنا ياافندم بالذات إن دار وسيلة مكان متميز ويستحق) .. قاطعهما دخول السكرتيرة بفنجان القهوة لكنه تابع بحماس متمنياً أن يحقق الله غايته (كنت عايز اسأل حضرتك إذا كان فيه أرض قريبة من هنا صالحة للإنشاء عشان الشركة هاتعمل مبنى جديد كتوسعة للدار)
تهللت وسيلة كثيراً قائلة بأسارير مبتهجة (إحنا عندنا أرض مساحتها كبيرة جداً مش عارفين نبنيها بسبب تعطيل التراخيص والدار محتاجة مدرسة للولاد اللي مالهمش شهادات ميلاد لأن المدارس الحكومية مابتقبلش تاخدهم وللأسف مابيقدروش يتعلموا .. حقيقي انت ربنا بعتك عشان تحل لينا المشكلة دي)
شعر ريان بسعادة عارمة قائلاً (السركة هاتخلص التراخيص اللازمة إن شاء الله سواء كانت تراخيص الإنشاء او تراخيص المدرسة)
ردت وسيلة عليه ببنبرة ممتنة (أنا مش عارفة أشكرك ازاي.. ياريت كل رجال الأعمال فالبلد زيكم)
رفع ريان فنجان القهوة ليرتشف منه ثم قال مترقباً (بعد إذن حضرتك كنت محتاج أعاين المباني لأني هاشرف على الشغل بنفسي)
أومأت وسيلة بموافقة (مفيش مشكلة الدار كلها تحت أمرك )
وضع ريان الفنجان فوق الطاولة ونهض سريعا قائلاً بحماس (ياريت دلوقتي لو سمحتِ)
تبعته وسيلة بتعجب من حماس هذا الشاب الوسيم وللحظة أحست بأنها رأته من قبل لكنها لاتتذكر متى وأين ثم أشارت نحو الباب قائلة (تمام يلا بينا)
***************
خرج ريان برفقة السيدة وسيلة لبدء جولة تفقدية حول الدار الذي كان يحتوي على ثلاث مباني.. كل مبنى له وظيفة معينة ومشرفات ومربيات حسب أعمار النزلاء وحالاتهم.. فالمبنى الأول كان للأطفال تحت سن خمس سنوات وذوي الإحتياجات الخاصة والثاني للأولاد الأكبر سناً والمراهقين.. مقسم داخلياً لغرف عديدة تم تصنيفها حسب العمر والجنس بالإضافة لمكان مجهز لتعليمهم بعض المهارات والحرف البسيطة كنوع من تنيمة مواهبهم أما المبنى الثالث فكان للمعلمات والمربيات واللاتي معظمهن مقيمات داخل الدار بصفة دائمة أو مغتربات في حاجة لمكان آمن للمبيت ملحق به صالة كبيرة تنقسم لجزأين متصلين.. جزء يخص مريم حيث تقوم بتعليم الأطفال العزف على البيانو والآخر لريهام مُزَوَد ببعض الأجهزة الرياضية التي تناسب طبيعة عملها كمدربة لياقة.. قام ريان بتفقد المبنى الأول والثاني ورغم إحباطه لعدم وجود مريم في أحدهما إلا أنه كان منبهراً مما يراه.. المكان منظم ونظيف وكل شئ يسير بترتيب والرعاية الفائقة تنعكس على وجوه الأطفال وضحكاتهم وأكثر ما أعجبه هو إهتمام الدار بتعليم نزلاءها كافة المجالات وأيضاً لطف المربيات ومعاملتهن الطيبة للأيتام فمن الواضح أن السيدة وسيلة أحسنت إختيارهن لتأدية تلك المهمة التي تحتاج لقلوب رحيمة وأيادي حانية لتعوض هؤلاء الصغار عما فقدوه..وأثناء سيره في رواق مؤدي للمبنى الأخير إنتبه لسيدة في منتصف الأربعينات تحمل طفلة لا تكف عن البكاء والصراخ ..إتجهت نحو وسيلة بملامح حزينة لعدم قدرتها على إسكاتها وعندما دقق النظر في وجهها تذكرها.. إنها نفس السيدة التي كانت ترافق مريم .. تملك التوتر منه وتمنى ألا تعرفه تجنباً لحدوث مشكلة بسبب تهوره حينها.. إقتربت صباح منهما تقول لوسيلة بقلة حيلة (إنتِ فين يا أستاذة انا بدور عليكِ من بدري؟)
توجست وسيلة من منظر صباح المهموم وسألتها بقلق (خير ياصباح فيه إيه؟)
أجابتها صباح وهي تهدهد الطفلة (سلمى بقالها أكتر من ساعتين بتصرخ وخايفة تتعب ولا يجرالها حاجة)
تنهدت وسيلة ثم تناولت الصغيرة بين ذراعيها تمسد شعرها (ربنا يهديكِ يابنتي)
نظر ريان لسلمي بحزن قائلاً (هي بتعيط كده ليه؟)
ردت عليه وسيلة بتأثر (سلمى بنت يتيمة باباها ومامتها أنبوبة الغاز إنفجرت فيهم وتوفوا الاتنين مع بعض ولحسن حظها إنها كانت عند جدتها وربنا نجاها بس مفيش حد من أهلها قدر يشيل مسئوليتها وسلموها للدار من حوالي شهر ونص )
شعر ريان بقبضة قوية إعتصرت قلبه شفقة على تلك الصغيرة التي لاحول لها ولا قوة وللأسف تخلى عنها ذويها لتواجه مرارة اليُتم بمفردها دون أدنى رحمة لظروفها القاسية.. إرتعشت شفتيه بإبتسامة حزينة وإستأذن أن يحملها..ضمها إليه حتى إستكانت وهدأت تماماً وسط أنظار وسيلة وصباح المتعجبة وعندما حاولت صباح أخذها رفضت وتشبثت به أكثر تردد بتلعثم طفولي كلمة " بابا " .. إبتسم ريان بحنان وأبعدها قليلاً عن أحضانه يمسح دموعها قائلاً (سيبيها معايا شوية)
تدخلت وسيلة قائلة بحرج بالغ (مش عايزين نتعبك يابشمهندس)
أحاط ريان سلمى بذراعيه يحتضنها قائلاً (بالعكس أنا مبسوط جداً .. ممكن ناخدها معانا واحنا بنعاين المبنى الأخير؟)
أومأت وسيلة مبتسمة بموافقة (مفيش مشكلة) .. وبالفعل سار برفقة وسيلة ليتفقد المبنى الأخير حاملاً سلمى بين ذراعيه بحنان أبوي لم يختبره من قبل وكأن الله أراد تعويض تلك الصغيرة ولو لبضع دقائق عن حضن والدها المفقود بينما وقفت صباح تراقبهما بدهشة تحاول إستجماع الصور بعقلها لتتذكر أين ومتى قابلت هذا الشاب .. لاحظت وسيلة سكون سلمى وإنتظام أنفاسها في النوم فإبتسمت قائلة لريان (أول مرة تنام بهدوء من يوم ما إستلمناها)
مسح ريان على ظهر الصغيرة يقول بحزن (أنا مش عارف ازاي أهلها يتخلوا عنها بسهولة كده؟)
تحدثت وسيلة بوجع يعكس تأثرها بحالة الأولاد التي تتكفل برعايتهم (مفيش حد هايتحمل مسئولية طفل فالسن ده وبالذات لما الأب والأم بيتوفوا)
رد ريان عليها بإعجاب شديد بعملها وأمومتها الفطرية نحو هؤلاء الصغار الضعاف (لحسن حظ سلمى إن أهلها سلموها ليكم.. بجد مش مجاملة المكان هنا جميل وكل الناس طيبين ويستاهلوا كل خير)
شكرته وسيلة بإمتنان لرأيه في مؤسستها الداعمة لحقوق الطفل (كلك ذوق يابشمهندس ..تعبناك معانا انهاردة)
إبتسم ريان قائلاً (بالعكس أنا اتبسطت جداً معاكم)
أشارت وسيلة أمامها قائلة (إحنا وصلنا لآخر مبنى) .. لم يعلم ريان سر الرجفة التي أصابت قلبه عندما توقفت وسيلة لتشرح له تفاصيل هذا الجزء من الدار.. يشعر بنسمات عليلة تمر على وجهه راسمة أثراً فوق ملامحه كالذي تركته مريم بصدره وأصبح شبه متأكد من وجودها في مكان ما حوله.. لا يدري أين لكنها موجودة وقاب قوسين أو أدنى من رؤيتها وبعد دقائق لم يحسبها أفاق من شروده على صوت وسيلة تشير بحماس نحو غرفة الموسيقى (هنا بقى أكتر مكان بيحبوه الولاد والمسئول عنه أحسن ثنائي عندنا مريم وريهام)
إنتبهت حواس ريان بأكملها ولم تلتقط آذانه سوى إسمها متسائلاً بتوتر (مريم دي البنت اللي كانت بتغني فالحفلة؟)
أومأت وسيلة إيجاباً ثم قالت بحزن ( آه هي.. كلنا هنا بنحبها أوي وبنحافظ على شعورها وده طبعاً عشان ظروفها)
حاول ريان إخفاء توتره مدعياً عدم الفهم (ظروف ايه؟)
أردفت وسيلة وهي تشعر بمرارة تعبأ حلقها (مريم كفيفة ..عمها الله لايسامحه سلمها للدار وهي عندها 3 سنين بعد ماضيع نظرها) صمتت لثواني تقاوم غلالة دموع وخزت جفنيها ثم تابعت بألم (مريم كانت طفلة طبيعية لحد ما في يوم باباها ومامتها سافروا العمرة وللأسف أتوبيس الرحلة إتقلب بيهم وماتوا واللي تولى رعايتها عمها وبعد فترة طويلة جابها هنا ومعاه تقارير تثبت انها إتولدت كفيفة ولما دكتور الدار فحص عينيها إكتشفنا ان البنت اتعرضت لضربة قوية جداً على راسها عملتلها خلل في مركز الإبصار والتقارير اللي قدمها عمها كلها مزورة والاصابة حصلت أثناء إقامتها معاه)
حاول ريان تمالك نفسه وعبراته تتلألأ داخل محجريه قائلاً بصوت مختنق (ليه مابلغتوش عنه؟.. أكيد كان هايتحاسب لأن الإصابة اتسببت بعاهة مستديمة)
أجابته وسيلة بقلة حيلة (إختفى تماماً كأنه فص ملح وداب ده غير إن العنوان المكتوب في شهادة ميلادها طلع مزيف وماعرفناش نوصله)
إبتلع ريان غصة مسننة شقت جوفه ثم سألها بثبات زائف (مفيش دكتور تاني كشف عليها؟)
ردت وسيلة بتنهيدة مرتجفة (كل الدكاترة اللي شافوها أكدوا إنها محتاجة عملية كبيرة ولازم تسافر بره مصر عشان نسبة النجاح تكون مضمونة وللأسف تكلفتها عالية جداً)
إلتمعت عيني ريان ببريق رجاء في شفائها قائلاً (الحمدلله طالما فيه أمل إن ربنا يشفيها)
إبتسمت وسيلة قائلة بتمني (إن شاء الله).. سكتت وسيلة لبرهة تتأمل حالة التأثر البادية على وجهه ثم أشارت لإحدي المربيات التي كانت تمر بالقرب منهما أن تأخذ سلمى لتضعها في فراشها ووجهت الحديث إليه بتوجس (تعالى نعاين أوضة الموسيقي) .. لم يستطع ريان النطق من شدة توتره وإكتفى بإيماءة صامتة يخفي وراءها صوت خفقاته المتسارعة بينما فتحت وسيلة الباب بهدوء .. تبعها بخطوات مرتجفة ووقف مشدوهاً عندما رآها تجلس خلف البيانو وإبتسامة ملائكية تزين مبسمها .. تعزف لحناً رقيقاً بأنامل تشبه حبات لؤلؤ متناثر فوق جدول مياه شفاف يجري من تحتها كنهر منبعه الفردوس الأعلى .. وخصلاتها تنسدل وراء ظهرها بتناسق مبهج فأسرته مرة أخرى خلف قضبانها .. هام ريان بنظراته وروحه تلقي التحية بهمس يدغدغ مشاعره ولا يسمعه سواه (وعليكم الحب ورحمة الله على قلوبنا وبركاتٌ منه على هذا الوجه ثم لكم السلام فيما أبقيتم لنا).. ولم يكن مايختلج صدره شعوراً وحسب بل كان قلبه يهرول نحوها وهو ثابت بمكانه يركز أنظاره على عينيها ليصدق إنطفائهما حتى أفاق على لسانه يعد رموشها حينها تأكد أنه إبتلى بها لكنها أجمل بلاء قد يصيب مؤمناً والصدفة التي أحدثت الضجيج بداخله نعمة وهي أكبر دليل سيهتدى به لدربه.. ولما أطال النظر فيها قرأها كقصيدة نزارية وأيقن أن حضورها إكتفائه من العالم وفي تلك اللحظة عقله يتسائل بذهول كيف لها أن تحمل قداسة العفيفين (البتول ويوسف الصديق) بين تفاصيلها.. مرة في إسمها ومرة في شطر الجمال الذي تبقى من بهاء يوسف وإحتفظت به لملامحها .. أي عبث هذا الذي يقول أنها لا ترى فما كف بصرها إلا كذب وإفتراء على مليحة العينين وبينما هو يقف مأخوذاً بما يراه قطع حبل أفكاره نداء السيدة وسيلة التي تعجبت كثيراً من حالته فإبتسمت متسائلة (روحت فين يابشمهندس؟)
حاول ريان السيطرة على مشاعره يجيبها بتلعثم (معاكِ حضرتك)
تصلبت أنظار وسيلة على وجهه وكأنها تقرأ أفكاره ثم قالت (تحب تتعرف على ريهام و...مريم؟).. تعمدت وسيلة الضغط على حروف إسم مريم لتراقب تعابيره التي لم يستطع التحكم بها ولاحظت إتساع حدقتيه بعدم تصديق وشرد للحظات فقاطعت هذا الشرود مجدداً بإشارتها لريهام أن تأتي بمريم وتقترب منهما .. فغرت ريهام شفتيها بصدمة وركضت مسرعة نحو مريم تهمس في أذنها (إلحقي يامريم المُز هنا)
سألتها مريم بعدم فهم (قصدك مين؟)
أجابتها ريهام بنفس رد الفعل (الواد اللي سأل عليكِ يوم الحفلة)
شهقت مريم بخضة (وده بيعمل إيه فأوضة الموسيقى؟)
ردت ريهام بتوجس (مش عارفة بس باين عليه حد مهم لأن أستاذة وسيلة بتنادي عليا وبتشاورلي أخدك عندهم)
أمسكت مريم بذراعها تستند لتنهض معها قائلة بتوتر (ربنا يستر ومايكونش بيشتكي منك بسبب تهزيقك ليه فالكواليس)
داعبت ريهام وجنتها بكفها الحر مازحة (أو مثلاً جاي يتقدملك وعايز يخطفك مني؟)
لكزتها مريم في كتفها بنفاذ صبر (إنتِ عبيطة يابنتي يتقدم لمين هو يعرفني أصلاً؟)
تأوهت ريهام ضاحكة (أنا شايفاه مانزلش عينه من عليكِ)
تأففت مريم بتذمر من حديث صديقتها ( شيلي الخزعبلات دي من دماغك وتعالي نشوفهم عايزين ايه بدل ما أستاذة وسيلة تعلقنا)
أطاعتها ريهام بصمت لكن حدسها ينبأها بوجود خطب ما وراء مجيئ هذا الشاب وإصراره على التقرب من مريم وأخذت يدها ثم إتجهت بها نحوهما بينما كان ريان يجاهد على الوقوف ثابتاً ويدعو الله في قلبه أن يعطيه القوة لتحمل إقترابها منه .. أخرجه صوت ريهام من دوامة أفكاره وهي تحدث وسيلة (خير يا أستاذة تحت أمر حضرتك)
أجابتها وسيلة بإبتسامة هادئة (كل خير ان شاء الله).. صمتت لثواني ثم تابعت وهي تنظر لريان الذي كان مسلطاً عينيه على مريم (دي ريهام يابشمهندس مدربة اللياقة ورفيقة مريم فالأوضة)
نقل ريان أنظاره نحو ريهام يرمقها بضيق ومد يده يصافحها قائلاً (أهلاً وسهلاً)
صافحته ريهام بإبتسامة سخيفة وسألت وسيلة (ويطلع مين الأستاذ؟)
إندهشت وسيلة من حالة الحنق التي تسيطر على كلاهما ثم أجابتها (ده المهندس ريان زين الدين صاحب شركة الريان للإنشاءات المعمارية)
عقدت ريهام ذراعيها أمام صدرها قائلة بإقتضاب (تشرفنا) .. بينما أمسكت وسيلة بكف مريم لتضعه في كف ريان قائلة بحب (سَلِّمي يامريم على بشمهندس ريان) وكان لوقع إسمه أثراً طيباً على مسامعها فلأول مرة بحياتها تقابل شخصاً يحمل إسماً مميزاً كهذا وللحظة أحست بأنه سيحدث خطب ما من وراء صاحبه أما هو فكان ضائعاً بجمالها.. يطيل النظر في وجهها كمن يعيد مطالعة كتابه المفضل مراراً بنفس الشغف ولا يفقد شيئاً من روعته.. ورجفت جميع حواسه كأنه يتذوق ملمس راحتها العالقة بين خاصته ويشعر بها تتسرب في مسامات جلده كقطرة ندى إنسكبت من حدائق عينيها
وأخيراً تحدثت مريم بصوت أعذب من عزف أصابع البيانو (ريان؟!.. إسمك حلو اوي أول مرة أسمعه)
لم يدري ريان أي ردة فعل صحيحة يجب أن يعطيها في هذا الموقف الذي لا يُحسد عليه وكيف أضاءت حروف إسمه الأربعة بين شفتيها وخرجت بترتيل شجي كأعظم سيمفونية ألفها عازف عتيق صُمَّت أذنيه.. كل مايرجوه الآن أن تلف عناية الله المشددة حول قلبه وتدركه رحمته فالحب يركبه مركباً صعباً لا قِبَلَ له به .. رد عليها وعينيه معلقة بورديتين سلبته لُبّه وصوته يحفر في ذهنها ذاكرة جديدة (أنا اللي أول مرة أعرف إن إسمي حلو أوي كده)
قاطعتهما ريهام وهي تمسك كف مريم الذي مازال يحتويه ريان بخاصته متسائلة بملامح ممتعضة (والبشمهندس ريان منورنا ليه؟)
أحس ريان بحرج شديد من طريقتها وآثر الصمت فأجابتها وسيلة موضحة (بشمهندس ريان كان بيعاين مباني الدار عشان شركته هاتتكفل بتجديدها وكمان هايتبرعوا يبنوا الأرض اللي جنبنا وهايخلصوا كل تراخيصها وأخيراً هنقدر نشغلها كمدرسة للولاد الساقطين من القيد الحكومي)
تهللت أسارير مريم بشدة قائلة (ربنا يجازيكم خير حضرتك أنقذت الدار من مشكلة كبيرة جداً) بينما تداعت نظرات ريهام قائلة بخجل من تصرفاتها الفظة تجاهه (شكراً يابشمهندس بجد موضوع المدرسة ده هايفرق معانا كتير)
رمقها ريان بغيظ قائلاً (يارب نكون نولنا شرف إعجاب سيادتك) .. فهمت ريهام مايرمي إليه بكلامه وإبتسمت ببلاهة غير قادرة على الرد فبادلها إبتسامتها بأخرى واثقة ونظر لمريم يراقب تعابيرها الحُلوة بأعين والهة ولم يستطع الحديث في حضرة سلطان فتنتها على قلبه.. وظلت وسيلة تتابع مايحدث ملتزمة الصمت لبضع ثواني ثم مدت يدها لتصافحه قائلة بنبرة ممتنة (إحنا اتشرفنا بزيارتك يابشمهندس وشكراً ليك إنك فكرت فالدار)
صافحها ريان قائلاً بإحترام (الشرف ليا ياافندم وان شاءالله من بكرة هاكون موجود ومعايا لجنة مكلفة من الشركة عشان نبدء الشغل فوراً) .. أنهى حديثه بآلية تامة لا تعكس مايدور بداخله وإستأذن بالإنصراف تاركاً فِكره حيث تسكن مريمته على وعدٍ بلقاء أطول غداً .. أما هي فوقفت تتبع سير خطواته بمسامعها .. تشعر بأن روحها ركضت خلفه ولا تفسر السر وراء إنقباضة قلبها عندما تلاشى وقع أقدامه من حولها .. أفاقت من شرودها على صوت ريهام تدعوها للعودة لمكانها لكنها طلبت منها أن تأخذ قسطاً من الراحة متعللة بشعورها المفاجئ بالإرهاق .. إمتثلت صديقتها لرغبتها وإصطحبتها لغرفتها وتركتها برفقة مربيتها الغالية التي لاحظت شرودها و زوغ عيونها متوهمة بأنها تنظر لشئ في الفراغ .. أحاطت صباح كتف مريم بذراعها متسائلة (سرحانة فإيه يامريومة؟)
إستندت مريم برأسها على صدر صباح ثم أجابتها بخفوت (عايزة أنام في حضنك زي زمان)
إحتضنتها صباح تسألها بقلق (مالك ياحبيبتي فيكِ إيه؟)
أغمضت مريم عينيها قائلة ( محتاجة حضنك دلوقتي ياصباح.. ماتسبينيش عشان خاطري)
مسدت صباح شعرها تقول بحنو بالغ (أنا جنبك يانور عين صباح ماتخافيش)
رفعت مريم ساقيها لتستلقي على فراشها بينما تمددت صباح جانبها.. تضمها وتهدهدها حتى إستسلمت للنوم كلياً وكأنها تهرب من هذا الشعور الذي يتملك منها رغماً عنها....
*****************
على صعيد آخر /
وصل ريان بسيارته أمام الڤيلا لكنه ظل جالساً لبعض الوقت وصورة مريم ترتسم في خياله يكاد يجزم أن صدى صوتها مازال يتردد بآذانه حتى رائحة كفها عالقة بكفه تداعب أنفه بعبير أسر عقله وكأنها نبتة ريحان تمتد جذورها لحدائق الجنة الغنَّاء .. وللأسف لم يُكتَب لتلك الحالة الحالمة أن تدوم وأفاق من شروده على رنين الهاتف بإتصال وارد من والدته قرر تجاهله ليدخل سريعاً ويستقبل وصلة التقريع الروتينية وأثناء سيره بالقرب من الحديقة وصله صوتها وهي تتحدث مع أختها (شكله هيتأخر انهاردة)
ردت عليها نهى ضاحكة (أحسن عشان نبقى على راحتنا أكتر)
بادلتها رويدا الضحك قائلة بسعادة (آه لو تشوفيه وهو متلخبط الولد كان على آخره خالص يانانا)
نظرت نهى لإبنتها تقول بنبرة فخورة (هو فيه حد عاقل يقدر يمسك نفسه قصاد الجمال ده كله؟)
إبتسمت چيسي لوالدتها قائلة بثقة زائدة (أنا متأكدة إنه مش هايقدر يمسك نفسه المرة الجاية)
تعالت ضحكات رويدا قائلة (ياريت عشان يبقى جواز على طول)
شعر ريان بالدماء تغلي في عروقه وإنقلبت الفراشات التي كانت ترفرف حوله لأشباح سوداء خيمت بظلامها على صدره .. وقرر وضع حد لتلك المهزلة لتتوقف المؤامرات والحيل التي تحاك ضده بواسطة أناس من المفترض أنهم أهله فأي وضاعة سمحت لهن بالتفكير في أمر بهذا الرخص؟..أيعقل أن تخطط والدته لإيقاعه في محظور وذنب سيحرقه ويفقده آخرته قبل دنياه؟ .. حقاً إكتفى وطفح كيله ولابد من المواجهة بشجاعة وإما أن يعيش بشرف أو يموت صامداً أمام هجمات الحياة المؤذية.. وبعد دقائق إستغرقها في إستجماع قوته دخل عليهن وملامحه لا تبشر بخير فبادرت نهى بالسؤال (مالك يا ريان شكلك متضايق كده ليه؟)
رمقها ريان بغضب ثم قال (كويس إنك هنا عشان تسمعِ اللي هاقوله)
سألته رويدا بقلق من منظر وجهه المحتقن (فيه إيه؟)
نقل ريان أنظاره المشتعلة نحو چيسي قائلاً باحتقار (فيه إن أنا مش هاتجوز چيسي ومش عارف مين اللي قالها اصلاً اني عايز اتجوزها؟)
فغرت چيسي شفتيها بصدمة (يعني إيه؟)
هدر ريان بها وجميع عروقه تنتفض من فرط عصبيته (يعني أنا عمري ماوعدتك بحاجة ولا عشمتك بجواز ولا حاسس ناحيتك بأي مشاعر غير انك بنت خالتي وبس)
تعالت نبرة چيسي أمامه (أمال أنطي بتقول انك عايز تتجوزني على أساس إيه؟)
رد عليها ريان بسخرية (والله انا مش مسئول عن كلام حد ياريت بقى تحاسبيها هي لأنها ضحكت عليكِ)
قاطعته رويدا صارخة بوجهه (إخرس ياحيوان)
وقف ريان أمامها قائلاً بصوت جهوري (لا مش هاخرس وهاقول الحقيقة اللي انتِ مخبياها عليهم .. جواز من چيسي مش هايحصل وأظن كده كل حاجة بقيت واضحة ولو عندكم شوية كرامة تقفلوا الكلام فالموضوع ده لأنه أبعد من خيالكم)
أمسكت نهى بحقيبة يدها تقول لشقيقتها بغيظ (متهيألي يارويدا إن مابقاش لينا قعاد هنا ثانية واحدة بعد اللي قاله إبنك)
إقتربت چيسي منه والشرر يتطاير من عينيها قائلة بصوت أشبه بفحيح الأفاعي (هتدفع تمن اللي عملته غالي اوي ياريان وهاعرفك إزاي ترفض چيسي الصراف)
عقد ريان ذراعيه أمام صدره قائلاً بتحدي (أعلى مافي خيلك إركبيه) ..
ظلت چيسي واقفة قبالته لبضع ثواني تحدجه بنظرات نارية ثم اندفعت مع والدتها خارج الڤيلا متناسية تمثيلتها بأن قدمها تؤلمها
لاحظ ريان سيرها بشكل طبيعي وقال لوالدته بتهكم (ماهي ماشية على رجليها زي القرد إيه لازمتها بقى التمثيلية العبيطة اللي عملتوها دي؟)
أمسكته رويدا من ياقة سترته بعنف وصوتها يصم آذانه من علوه (ورحمة أبويا لو ماصلحت اللي هببته لأوريك الوش التاني ياريان وأول اللي هايدفعك تمن عملتك السودة دي هايكون أنا)
أزاح ريان قبضتها من فوق ملابسه قائلاً بهدوء إستفزه (أنا راجع تعبان وعايز أنام .. عن إذنك)
جذبته مرة أخرى تصرخ بغضب عارم (إطلع بره وإرجع الزريبة اللي كنت عايش فيها)
لم يتحمل ريان ضغطها على أعصابه أكثر من ذلك ورد على حديثها بتهديد (البيت ده مش بيتك عشان تطرديني منه وأقسم بالله كلمة زيادة لاقول لبابا عاللي حصل ولو ما اتصرفش معاكِ هيكون ليا رد فعل هيزعلك اوي مني يا.. ماما)
هوت رويدا على وجهه بصفعة قوية جعلته يرتد خلفاً تقول والشياطين تتراقص حولها (إنت بتهددني ياقليل الأدب)
تفاجأ ريان بتلك الصفعة التي سقطت على قلبه قبل أن تستقبلها وجنته.. فأغمض عينيه يقاوم البكاء أمامها وبداخله يتجمع يُتم العالم كله وفي نفس التوقيت دخل سعد يهدر بزوجته عالياً (رويدا...... )
*********************
يتبع.